Tanzeeh al-Imam al-Shafi'i 'an Mata'in al-Kawthari - within 'Athar al-Mu'allimi
تنزيه الإمام الشافعي عن مطاعن الكوثري - ضمن «آثار المعلمي»
Bincike
علي بن محمد العمران
Mai Buga Littafi
دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٤٣٤ هـ
Nau'ikan
الرسالة الحادية عشرة
تنزيه الإمام الشافعي عن مطاعن الكوثري
15 / 285
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد، فإني لما وقفت على كتاب (تأنيب الخطيب) للأستاذ العلامة محمد زاهد الكوثري، ورأيته تعدّى ما يوافقه عليه أهلُ العلم؛ من توقير الإمام أبي حنيفة وحُسْن الذبّ عنه، إلى الطعن في غيره من أئمة الفقه والحديث= جمعتُ كتابًا في ردّ الباطل من مطاعن الكوثري سميته (التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل). ثم اقتضبتُ منه نموذجًا سمّيته (طليعة التنكيل)، وقد طُبعت الطليعة بمصر. والآن بدا لي أن أفرد ما يتعلّق برَدِّ مزاعم الكوثري التي حاول بها الغضّ من الإمام الشافعي، وهذا هو.
الإمام الشافعي هو [محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبديزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، القرشي المطَّلبي الشافعي أبو عبد الله] (^١).
_________
(^١) ترك المصنف بعد قوله: "الشافعي هو" بياضًا، فلعل هناك أوراقًا أراد المؤلف أن يلحقها بهذا الموضع لم تكن قد تحرّرت مادتها، أو ألحقها لكنها لم تبق في موضعها وضاعت ضمن ما ضاع (كما مرّ شرحه في المقدمة)؛ فأكملتُ اسمه وجرّ نسبه من "التنكيل": (رقم ١٨٩) وتركتُ باقي بحث المصنف مع الكوثري في محاولة طعنه في نَسَب الإمام الشافعي، فقد أطال فيه المصنف بما لا مزيد عليه هناك: (١/ ٦٨٨ - ٧٠٠).
15 / 287
[الجواب عن مطاعن الكوثري على الإمام الشافعي في اللغة]
[ص ١] قال الأستاذ (^١): "وقوله في تفسير الفِهْر في قول عمر: (كأنهم اليهود قد خرجوا من فِهْرهم): البيت المبني بالحجارة الكبار، مع أنه موضع عبادتهم أو اجتماعهم ودرسهم مطلقًا، سواء كان في بنيان أو صحراء".
أقول: عليه في هذا أمور:
الأول: لم يذكر ما يثبت التفسير المذكور عن الشافعي.
الثاني: أن الأثر منسوب إلى عليّ كما في "نهاية ابن الأثير" (^٢) لا إلى عمر، ولفظه في "النهاية": "خرجوا من فهورهم".
الثالث: قوله: "مطلقًا، سواء كان في بنيان (^٣) أو صحراء". لم أجدها في كتب اللغة ولا الغريب، ولا يلزم من إطلاقهم أن يكون مطلقًا في نفس الأمر. راجع "مفردات الراغب" يتبين لك كثرة الكلمات التي أطلقوها وحقّها أن تقيّد.
الرابع: قول الأثر نفسه: "خرجوا من فهورهم" ظاهر في التقييد.
_________
(^١) "تأنيب الخطيب" (ص ٤٩ - ط الكليات الأزهرية). وهذا سادس الكلمات التي ذكرها الكوثري في محاولته الطعن في فصاحة الشافعي، وليس في المخطوط الذي بين أيدينا الجواب عن المواضع الخمسة قبله وهي في "التنكيل": (١/ ٧٠١ - ٧٠٣). فلعلها سقطت من النسخة كما سقط ما يتعلّق بالنسب كما مرّ قريبًا.
(^٢) (٣/ ٤٨٢).
(^٣) الأصل: "بناء" سبق قلم، وقد سبق نقل الكلمة على الصواب من نصّ الكوثري في الصفحة السابقة.
15 / 288
الخامس: قد اختلفوا في تفسير الفهر، وفي "القاموس" (^١): "مدراس اليهود تجتمع إليه في عيدهم، أو هو يوم يأكلون فيه ويشربون"، فلماذا لا يجعل قول القائل: "البيت المبني بالحجارة الكبار" قولًا آخر ــ إن صحّ ــ عمن يُعتدّ به كالشافعي.
السادس: الكلمة نبطية أو عبرانية كما في "النهاية". والغلط في تفسير الكلمة الأعجمية لا ينافي فصاحة العربي، فقد قال قائلهم:
"لم تدر ما نسج اليَرَنْدَج قبلها" (^٢)
فزعم أن اليَرَنْدَج شيء يُنسج، وإنما هو الجلد الأسود.
وقال الآخر:
"ولم تذق من البقول الفستقا" (^٣)
فزعم أن الفستق بقلة. ولهذا نظائر معروفة، والله أعلم.
قال الأستاذ: "ووصف الماء بالمالح مع أن الماء لا يوصف به، وفي القرآن: ﴿مِلْحٌ أُجَاجٌ﴾ [الفرقان: ٥٣، فاطر: ١٢]، [ص ٢] وأما المالح فيوصف به نحو السمك".
_________
(^١) (ص ٥٨٩).
(^٢) صدر بيت عجزه:
* ودراس أعوص دارسٍ متجدّد*
لعمرو بن أحمر الباهلي. انظر "الشعر والشعراء" (١/ ٣٥٩) و"الجمهرة" (ص ١٣٢٨). وفي بعض المصادر: "متخدّد".
(^٣) عجز بيت صدره:
* برّيّة لم تأكل المرقَّقا *
لأبي نُخيلة الراجز. انظر "الشعر والشعراء": (٢/ ٦٠٢)، و"الجمهرة" (ص ١٣٢٩).
15 / 289
أقول: المعروف عن الأصمعي ومن تبعه أن لا يقال "مالح" لا في الماء ولا في السمك ونحوه. وذكر ابن السِّيد في "الاقتضاب" (ص ١١٦) ذلك، ثم نقضه بعدَّة حُجَج أثبت بها أنه يقال: "سمك مالح" و"شجر مالح"، ثمّ قال: "وحكى عليّ بن حمزة عن بعض اللغويين أنه يقال: ماء ملح، فإذا وصف الشيء بما فيه من الملوحة قلت: سمك مالح، وبقلة مالحة، قال: ولا يقال: ماء مالح؛ لأن الماء هو الملح بعينه. وهذا قول غير معروف، وهو مع ذلك مخالف للقياس؛ لأن صفة الماء بأنه مالح أقرب إلى القياس من وصف السمك؛ لأنهم قالوا: مَلُح الماءُ وأمْلَح، فأسندوا إليه الفعل كما يُسند إلى الفاعل، ولم يقل أحد: ملح السمك، إنما قالوا: ملَحْتُ السمكَ، إذا جعلتَ فيها الملح". ثم قال: "وأنشد أبو زياد الأعرابي قال: أنشدني أعرابيٌّ فصيح:
صَبَّحن قوًّا والحمامُ واقعُ ... وماءُ قوٍّ مالحٌ وناقع (^١) "
وفي "اللسان" (^٢) عن ابن الأعرابي: "ماء أجاج ... وهو الماء المالح". وعن الجوهري: "ولا يقال: مالح، قال أبو الدُّقَيش: ماء مالح ومِلْح". ثم قال: "قال ابن برّي: قد جاء المالح في أشعار الفصحاء ... وقال عمر بن أبي ربيعة:
ولو تَفَلت في البحر والبحرُ مالح ... لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
قال ابن برّي: وجدت هذا البيت المنسوب إلى عمر بن أبي ربيعة في شعر أبي عيينة محمد (^٣) ابن أبي صُفرة .... ".
_________
(^١) البيت في "مقاييس اللغة": (٥/ ٣٤٧)، و"اللسان": (٢/ ٥٩٩).
(^٢) (٢/ ٥٩٩).
(^٣) كذا في "اللسان" وصوابه: "أبي عيينة بن محمد". انظر التعليق على "التنكيل": (١/ ٦٨٥).
15 / 290
أقول: والحاصل أن قولهم: "ماء مالح" ثابت عن العرب الفصحاء نصًّا، وثابت قياسًا، لكن أكثر ما يقولون: "ملح"، ولما غلب على ألسنة الناس في عصر الشافعي "مالح" أتى بها الشافعيُّ في كتبه؛ لأنه كان يتحرَّى التقريب إلى فهم الناس كما يأتي عن الربيع (^١).
[ص ٣] قال الأستاذ: "وقوله: ثوب نسوي لفظة عامية".
أقول: هذا أيضًا لم يذكر ما يثبته عن الشافعي، ولم أجده في مظانه، ومع ذلك فإن كان نسبةً إلى (النساء) ففي "القاموس" و"شرحه" (^٢): "قال سيبويه في النسبة إلى نساء: نِسْوي". وإن كان نسبة إلى بلد (نسا) فقد قال ياقوت (^٣): "والنسبة الصحيحة إليها: نَسائي وقيل: نَسَويّ أيضًا، وكان من الواجب كسر النون". كذا قال، ونسويّ هو القياس كما لا يخفى.
قال الأستاذ: "وقوله: العَفْريت ــ بالفتح ــ مما لم يقله أحد".
أقول: ولا قاله الشافعي، ولو قاله لعددناها لغةً لبعض العرب.
قال: "وقوله: أشْلَيت الكلبَ، بمعنى زجرته، خطأ صوابه أن ذلك بمعنى أغريته كما قال ثعلب وغيره".
أقول: لم يكفِ هذا المعترض الأنْوَك (^٤) أنْ كذَب على الشافعي حتى كذَب على ثعلب وغيره أيضًا، والموجود في كتب الشافعي استعمال
_________
(^١) وانظر: "التنكيل": (١/ ٤٠٨).
(^٢) "تاج العروس": (٢٠/ ٢٣٨).
(^٣) "معجم البلدان": (٥/ ٢٨٢).
(^٤) أي: الأحمق.
15 / 291
الإشلاء بمعنى الإغراء، وثعلب إنما زعم أنه بمعنى أن تدعوه إليك، فأما الإغراء فإنما يقال: آسدته". وصحح غيرُه استعمال "أشليته" بمعنى أغريته وبمعنى دعوته.
أقول: وقد يكون أصله بمعنى الدعاء فيشمل ما إذا دَعَوتَه إليك وكان نائمًا مثلًا، وما إذا دَعَوتَه ليحمل على الصيد، فالأول هو الدعاء والثاني يتضمّن الإغراء والثالث يتضمّن الزجر، والقرينة تبيّن المراد. والذي في كلام الشافعي الإغراء كما في قول الشاعر:
قَصَدْنا أبا عمرو فأشلى كلابَه ... علينا فكِدْنا بين بيتيه نؤكل (^١)
قال (^٢) الأستاذ: "وقوله في (مختصر المزني): وليست الأذنان من الوجه فيغسلان والصواب: فيغسلا".
أقول: عليه في هذا أمور:
الأول: أن النصب في مثل هذا إما ممتنع وإما مرجوح، وفي "الهمع" (٢/ ١٢): "وإن تقدمت جملة اسمية نحو: ما زيد قادم فيحدثنا، فأكثر النحويين على أنه لا يجوز النصب؛ لأن الاسمية لا تدل على المصدر. وذهب طائفة إلى جوازه، وقال أبو حيان: الصحيح الجواز بشرط أن يقوم مقام الفعل ظرف أو مجرور .... ".
_________
(^١) البيت لزياد الأعجم. انظر "مقاييس اللغة": (٣/ ٢١٠)، و"الصحاح": (٦/ ٢٣٩٥).
(^٢) من هنا إلى قوله " ... يجزمون بها" كتبه المؤلف في ورقة مفردة لتلحق في مكانها، لكنها ضلَّت طريقها فوضعت في آخر النسخة، وجُلد المخطوط فاستقرت الورقة في المكان الخطأ!
15 / 292
فإن قيل: بأنّ "ليس" فعل. قلتُ: هي فعل جامد فلا دلالة فيها على المصدر، فأما دلالتها على النفي فهي كدلالة حرف النفي، بل قال جماعة: إن النصب بعد الفاء مطلقًا ليس بواجب.
وقال الرضي في "شرح الكافية" (٢/ ٢٤٥): "وقد يبقى ما بعد فاء السببية على رفعه قليلًا، كقوله تعالى: ﴿وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ﴾ [المرسلات: ٣٦]. وقوله (^١):
* ألم تسأل الرَّبْعَ القواء فينطق *
وقوله (^٢):
* لم تَدْرِ ما جزعٌ عليك فتجزعُ *
جاء جميع هذا على الأصل، ومعنى الرفع فيه كمعنى النصب لو نصب .... جاز لك أن لا تصرف في المواضع المذكورة إلى النصب اعتمادًا على ظهور المعنى ... ".
ومع هذا فقد جاء إهمال "أن" مضمرة وظاهرة، وعدّ ابنُ هشام (^٣) من الأوّل قول الله ﷿: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ﴾ [الزمر: ٦٤]، وقوله:
_________
(^١) صدر بيت عجزه:
* وهل تُخبرَنْك اليومَ بيداءُ سَلْمق *
انظر "اللسان": (١/ ٣٠٠)، و"خزانة الأدب": (٨/ ٥٢٧).
(^٢) عجز بيت صدره:
* فلقد تركتِ صغيرةً مرحومةً *
من قصيدة لمويلك المزموم. انظر "الحماسة": (١/ ٤٣٩) لأبي تمام.
(^٣) في "مغني اللبيب": (٢/ ٨٣٩ و١/ ٤٦).
15 / 293
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ﴾ [الروم: ٢٤]. ومن الثاني قراءة ابن محيصن: ﴿لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمُّ الرَّضَاعَةَ﴾ [البقرة: ٢٣٣].
وفي "الهمع" (٢/ ٣): "قال الرؤاسي من الكوفيين: فصحاء العرب ينصبون بـ"أنْ" وأخواتها الفعلَ، ودونهم قوم يرفعون بها، ودونهم قوم يجزمون بها".
[ص ٤] الثاني: أن المزني لم يسق عبارات الشافعي بنصها، فقد قال أول "المختصر" (^١): "اختصرت هذا الكتاب مِنْ عِلْم محمد بن إدريس الشافعي ﵀ ومن معنى قوله؛ لأقرّبه على من أراده". وربما صرح بنسبة بعض ما ينقله عن الشافعي إلى بعض كتب الشافعي المطبوعة في "الأم" فإذا قابلنا العبارتين وجدناهما مختلفتين. فقول المعترض: "وقوله ... " يعني الشافعي جهل أو مجازفة.
الثالث: أن النساخ لم يزالوا من قديم الزمان يخطئون ويزيدون وينقصون؛ فنسبة عدم حذف النون إلى المزني يتوقّف على وجودها في النسخة التي بخطه (^٢).
الرابع: قول المعترض: "يغسلا" لحن عند النحويين، والصواب "تغسلا"؛ لأن الأذن أنثى، وقد قالوا في قول الشاعر (^٣):
_________
(^١) (ص ١).
(^٢) زاد في التنكيل: "أو على نص ثقة سمع منه أنه قالها".
(^٣) هو عامر بن جُوين الطائي. وصدره:
* فلا مزنة ودَقَت وَدْقها *
والبيت في "الكامل" للمبرد: (٢/ ٨٤١)، وانظر هامشه.
15 / 294
* ولا أرضَ أبْقَلَ إبقالَها *
وقول الآخر (^١):
إن السماحة والشجاعة ضُمِّنا ... قبرًا بمرو على الطريق الواضح
إنه ضرورة شعرية مع تأويل الأرض بالمكان، والسماحة والشجاعة بالجود والبأس مثلًا، [ص ٥] ولا ضرورة في النثر، ولا يسوغ التأويل بعد النص على التأنيث في قوله: "ليست" وكذلك مع التصريح بالتأنيث لا يتّجه الحمل على مذهب الكوفيين من جواز نحو: الشمسُ غَرَب.
فإن زعم أنها كذلك في "مختصر المزني": "فيغسلان" وأن المعترض لم يخف عليه ما ذكرنا لكنه سامَحَ في ذلك لاحتمال أن يكون التصحيف من النسّاخ.
قلنا: فكذلك إثبات النون على فرض أنه لحن.
ثم قال الأستاذ: "ولفظ الشافعي إثبات النون، وحَذْفها من تصرّف الطابع، وأمانته في العلم كأمانته ... ".
أقول: قوله: "ولفظ الشافعي" مجازفة كما مرّ. وقوله: "وحذفها من تصرف الطابع" مجازفة من وجهين:
الأول: أن الأستاذ لم يراجع الأصول القَلَمية المطبوع عنها وإلا لصرّح بذلك، وهبه راجعها فقد يكون إسقاط النون من تصرّف ناسخ المسودة ولم
_________
(^١) هو زياد الأعجم من قصيدة في رثاء المغيرة بن المهلب. انظر "الأغاني": (١٥/ ٣٧١) و"الشعر والشعراء": (١/ ٤٣١).
15 / 295
يتضح ذلك عند المقابلة على الأصول، كما يقع مثل ذلك كثيرًا.
الوجه الثاني: أن الذي في خاتمة طبع "الأم" أن القائم بالتصحيح مصححو دار الطباعة: نصر (^١) بن محمد العادلي، ومحمد البلبيسي، ومحمود حسن زناتي. ولعل مع هؤلاء غيرهم. ولم يذكر لصاحب العزة أحمد بك الحسيني إلا أن الطبع على نفقته. ومع هذا كله فلم يزل المصححون للكتب ــ والأستاذ منهم ــ يصلحون ما يتبيّن لهم أنه خطأ في الإعراب، حملًا على أن ذلك من النسّاخ كما عُرِف من عادتهم حتى في كتاب الله ﷿.
وجرت عادة المصحّحين في مصر على مثل ذلك الإصلاح بدون تنبيه في الحواشي على ما كان في الأصل أو بعض الأصول، ولو تُتُبِّعتْ [ص ٦] الأصولُ القَلَمية التي طُبِعت عنها الكتب التي صَحّحها الأستاذ لوُجِد فيها من ذلك شيء كثير إن لم يوجد فيها ما يثبت المحذور حقًّا.
وأول ما نقله في "التأنيب" عن "تاريخ الخطيب" قوله ص ١٥: "رأى أبو حنيفة أنس بن مالك ... ". وكلمة "أبو حنيفة" ليست في التاريخ. ونقل ص ٣٧ عبارة عن التاريخ حذف منها كلمة "بن محمد" وزاد كلمة "قال". ونقل ص ٣٨ عن التاريخ عبارة فحذف منها كلمة "مؤمن". وليس مقصودي الاعتراض في هذه الأمثلة على الأستاذ؛ فإن هذه الأمور وأمثالها لا يسلم منها الإنسان، ولعله قد وقع لي أمثالها أو أشدّ منها!
على أنه قد وقع للأستاذ ما يمسّ الأمانة مسًّا واضحًا، ومرّ أمثلة من
_________
(^١) في "التنكيل": "نصري".
15 / 296
ذلك في "الطليعة" (^١)، ومع ذلك كابر في "الترحيب" (^٢) مكابرةً مكشوفة، كما ترى ذلك في مواضعه من هذا الكتاب (^٣).
واغتياظ الأستاذ من السيد الحسيني لطبعه بعض كتب الشافعية يُنبئ عن هوًى مُطْبق وغلوٍّ مفرط.
وقد وقفتُ على "مُنية الألمعي" للعلامة قاسم بن قُطلوبغا الحنفي ومقدمة الأستاذ عليها، وتصفّحت ما فصَّله قاسم من الأغلاط الكثيرة التي كانت في نسخة الزيلعي، ومع ذلك أصلحها أحباب الكوثري في الطبع بدون تنبيه، فاعتذر الأستاذ في المقدمة بقوله: "وفي عداد تعقبات العلامة الحافظ قاسم أمور قد ينتبه إليها الفَطِن بنفسه لظهور أنها من قبيل سَبْق القلم، فيوجد بعض ما هو من هذا القبيل على الصحة في النسخة المطبوعة؛ لأن الانتباه إلى الصواب مِن فضل الله سبحانه؛ وفضل الله لا يكون وقفًا على أحد".
فترى الأستاذ يناقش طابع كتاب الشافعي في حرف واحد، ويعدّ فعله خيانة، أما تصرّف أحباب الكوثري الكثير ... (^٤) في كتاب الزيلعي بدون تنبيه فيعدّه من فضل الله عليهم. ولا ريب أن الأستاذ يرى فضل الله ﷿ عليه أعظم من فضله على أولئك المتقدمين بدرجات كثيرة، فكم نراه يتصرّف في الكتب التي يطبعها مستندًا إلى أن ذلك من فضل الله ﷿ عليه!
_________
(^١) انظر (ص ٥ - وما بعدها).
(^٢) (ص ٣١٨ وما بعدها - مع التأنيب).
(^٣) يعني "التنكيل" وذلك باعتبار هذه الرسالة كانت جزءًا من التنكيل ثم أفردها المؤلف.
(^٤) كلمة غير واضحة.
15 / 297
قال الأستاذ (^١): "وقوله: الواو للترتيب، والباء للتبعيض، مما لا يعرفه أحد من أئمة اللسان، بل الأولى للجمع مطلقًا، والثانية للإلصاق".
أقول: هذه مجازفة قبيحة، أما في الواو فمن وجهين:
الأول: زعم أن الشافعي قال: "الواو للترتيب" ولم يقل الشافعيُّ هذا قطّ ولا ما يؤدّي معناه. فأما إيجابه ترتيب الوضوء فهذه عبارته كما في "الأم" (^٢): "قال الله ﷿: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة: ٦] قال: وتوضأ رسول الله ﵌ كما أمره الله ﷿، وبدأ بما بدأ الله تعالى به، قال: فأشبه ــ والله تعالى أعلم ــ أن يكون على المتوضئ شيئان: أن يبدأ بما بدأ الله ثم رسوله ﵊ منه ... فمن بدأ بيده قبل وجهه [ص ٧] ... كان عليه عندي أن يعيد ... وإنما قلت: يعيد، كما قلتُ وقال غيري في قول الله ﷿: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٥٨]، فبدأ رسول الله ﵌ بالصفا وقال: "نبدأ بما بدأ الله به" (^٣). ولم أعلم خلافًا أنه لو بدأ بالمروة ألغى طوافًا حتى يكون بدؤه بالصفا. وكما قلنا في الجمار: إن بدأ بالآخرة قبل الأولى أعاد حتى تكون بعدها، وإن بدأ بالطواف بالصفا والمروة قبل الطواف بالبيت أعاد، فكان الوضوء في هذا المعنى أوكد من بعضه عندي، والله أعلم".
_________
(^١) (ص ٥٠).
(^٢) (٢/ ٦٥).
(^٣) أخرجه مسلم (١٢١٨) بلفظ: "أبدأ بما ... ".
15 / 298
فلم يزعم الشافعي أن الواو للترتيب ولكنه نظر إلى قاعدة التقديم والتأخير وإلى البيان الفعلي من النبي ﵌ مع ... (^١) ظنية على ذلك، فقد تقرّر في علوم البلاغة أن تقديم ما لا يقتضي التركيب تقديمه يحتاج في الكلام البليغ إلى نكتة، والقرآن أبلغ الكلام، فتقديمه في آية الوضوء الوجهَ على ما عداه، واليدين على الباقي، والرأسَ على الرجلين لا بدّ له من نكتة.
ويرى الشافعي أنه إذا كان المجموع عبادة واحدة فأظهر النُّكت هي أنه ينبغي الترتيب كذلك، واحتج على هذا بحديث: "نبدأ بما بدأ الله به" ودلالته على ذلك ظاهرة، وعلى هذا فهذه هي النكتة الظاهرة في مثل هذا فلا يُعدَل عنها إلا بدليل.
الوجه الثاني: زَعْم المعترض أنه لا يعرف أحدٌ من أئمة اللسان أنَّ الواوَ للترتيب فيه مجازفة؛ فقد نُقِل القولُ بأنها للترتيب عن قُطْرب والربعي والفرّاء وثعلب وأبى عمر الزاهد (^٢) وهشام. ذكر ذلك ابنُ هشام في "المغني" (^٣) وذكر معهم الشافعي، فردّه الأمير بقوله "لا يكفي في [ص ٨] هذه النسبة مجرّد قوله بالترتيب في الوضوء لأن له دليلًا آخر".
وأقول: يمتنع أن يخفى على الأئمة المذكورين ما جاء في الكلام البليغ وفي كلام الفصحاء مما يبطل أن تكون الواو للترتيب بمنزلة (الفاء وثم)، فيظهر أنهم إنما أرادوا أن الظاهر معها في الكلام البليغ هو الترتيب، ومرجع
_________
(^١) كلمة غير محررة في الأصل.
(^٢) تحرف في "التنكيل" إلى "الزاهي".
(^٣) (ص ٤٦٤ - دار الفكر).
15 / 299
ذلك في التحقيق إلى قاعدة التقديم والتأخير كما مرّ إيضاحه، وعلى هذا فلا قائل بأنها للترتيب، ولا مُنكر من أئمة اللغة لقاعدة التقديم والتأخير. وبهذا يرتفع الخلاف البتة، والله الموفق.
وأما الباء فمن وجهين أيضًا:
الأول: زعم أن الشافعي قال: "الباء للتبعيض" ولم يقل الشافعي هذا، وهذه عبارته في "الأم" (١/ ٢٢) (^١): " ... كان معقولًا في الآية أن مَن مسح مِن رأسه شيئًا فقد مسح برأسه، ولم تحتمل الآية إلا هذا، وهذا أظهر معانيها، أو مسح الرأس كله، ودلّت السنةُ على أنه ليس على المرء مسح الرأس كله ... ".
وهذا قد يأتي على كون الباء للإلصاق، فقد مثّل له أهلُ العربية بقولهم: "أمسكت بزيد". ولا يخفى أن معناه إلصاق اليد ببعض بدنه.
لكن انظر إلى ما زعَمَه بعض الحنفية: أن التقدير "وامسحوا أيديكم برؤوسكم"، ففيه نظر من جهات: منها أن تقدير "أيديكم" لا حجة عليه، فلماذا لا يكون المقدَّر عامًّا، فيصدق بمسح أيِّ شيء كان بالرأس، ومن ذلك طرف الإصبع، وبذلك يتحقَّق قول الشافعي.
ومنها: أن الباء في "مسحت ذا بكذا" باء الآلة كما لا يخفى، وهي تعطي أن الآلة غير مقصودة لذاتها وإنما المقصود غيرها، وذلك كقولك: مسحتُ يدي بالمنديل، [ص ٩] فيلزم من ذلك أن يكون المقصود فيما لو كان التقدير: "وامسحوا أيديكم برؤوسكم"، هو تنشيف الأيدي؛ فعلى هذا يكون تنشيفها
_________
(^١) (٢/ ٥٦).
15 / 300
بعد غسلها فرضًا. غايةُ الأمر أن النصّ على الآلة الخاصة وهي الرأس يدلّ على تعيّنها فيدل أنها مقصودة أيضًا، وهذا لا ينفعهم؛ لأن الفرض حينئذٍ يكون هو تنشيف اليد بالرأس، فلا بد من تحقق ما يحصل به تنشيف اليد بالرأس. ثم إذا أمكن تنشيفها بقدر إصبع من الرأس كفى، كما لو نشّف يده بقَدْر إصبع من المنديل، بأن يمرّ بعض اليد على ذاك القدر ثم بعض آخر وهكذا.
وقد اضطرب الحنفيةُ في تطبيق مذهبهم على الآية اضطرابًا شديدًا راجع "روح المعاني" (٢/ ٢٥٧ - ٢٥٨).
الوجه الثاني: قول المعترض: إن القول بأن الباء قد تجيء للتبعيض لا يعرفه أحدٌ من أئمة العربية؛ مردود فقد قال ابن هشام في "المغني" (^١): "أثبت ذلك الأصمعي والفارسي والقتبي وابن مالك، قيل: والكوفيون".
فتدبّر ما تقدّم ثمّ فكِّر في سير هؤلاء القوم في الطعن في فصاحة الشافعي تجده من جهةٍ أحثّ سير وأنصبه وأتعبه، ومن جهةٍ أخرى كالإنسان الذي يقف في مكان لا يجاوزه ولكن يرفع رجليه ويضعهما كهيئة الماشي بأقصى ما يمكنه من السرعة، فينصب نفسَه (^٢) أشدّ النصب وهو لم يقطع من الأرض مقدار أصبع واحد!
وقدِّر ما يصيب هذا (^٣) الخائب من الحسرة إذا كان يتوهَّم أنه يسير ويقطع الأرض ينضو إلى مطلوبه، ثمّ لمّا بلغ به الإعياء كلّ مبلغ وخارت
_________
(^١) (ص ١٤٢).
(^٢) تكررت في الأصل.
(^٣) هذه الكلمات الثلاث غير محررة في الأصل، وهذا ما استظهرته.
15 / 301
قواه وسقط على الأرض سُئل عن حاله وتبيّن له أنه لم يقطع من الأرض مقدار أصبع! ! ثم انظر ألا يكون هذا أوضح حجة على فصاحة الشافعي؟
والعلماء يعرفون أن في لغة العرب اتساعًا تضيق عنه قواعد النحو أو تكاد، حتى إن في القرآن مواضع يصعب تطبيقها على تلك القواعد، كقوله تعالى: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [النساء: ١٦٢]، وقوله: ﴿إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ﴾ [طه: ٦٣]، وقوله: ﴿وَقِيلِهِ يَارَبِّ﴾ [الزخرف: ٨٨]، وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ﴾ [المائدة: ٦٩]، وقوله: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: ١٧٧] وغير هذا، حتى ألَّف بعض أهل العلم في مشكل إعراب القرآن خاصة. ولولا العلم اليقيني بأنه يستحيل أن يكون في القرآن لحن لَجَزم كثير من المتقيّدين بقواعد النّحاة بأن كثيرًا من تلك المواضع لحن.
بل قد روي عن بعض المتقدمين أنه زعم أن الكاتب أخطأ! وأُجيب عن ذلك بما هو معروف (^١). ومما يُجاب به عن ذلك: أن القائل بأنه خطأ غَفَل عن تقدير معنويّ يصحّ به ذلك اللفظ، أو جَهِل لغة قبيلة من العرب غير قبيلته، ثم ظن أن القائل له: "هي في المصحف كذا" إنما عنى مصحفًا خاصًّا لا المصحف الإمام، أو لم يكن قد بلغه العناية التي قِيمَ بها في المصحف الإمام. ولا مانع أن يخفى التواتر عن رجل، كما يقال: إنه خفي على ابن مسعود في شأن المعوّذتين (^٢).
_________
(^١) انظر "جامع البيان": (٧/ ٦٨٤ و١٧/ ٢٤٠) للطبري.
(^٢) أخرجه البخاري (٤٩٧٧)، وأحمد (٢١١٨١ و٢١١٨٦).
15 / 302
والمقصود هنا أن في القرآن مواضع كثيرة تشكل فصاحتها على كثير من الناس، فما الظنّ بعربيّ فصيح نُقِل عنه كلام كثير جدًّا؟! فإذا تدبّرت هذا ثم تدبّرت ما تقدّم وأنعمتَ النظر اتضح لك حالُ الشافعي في فصاحته.
ثم اسمع الآن بعض الثناء عليه بالفصاحة، فمما ذكره الحافظ ابن حجر في "توالي التأسيس" (^١) ــ ومن عادته أن لا يجزم إلا بما كان ثابتًا ــ: "قال زكريّا الساجي: حدثنا جعفر بن أحمد قال: قال أحمد بن حنبل: كلام الشافعي في اللغة حُجّة".
"قال داود بن عليّ إمام أهل الظاهر في "مناقب الشافعي" له: قال لي إسحاق بن راهويه: ذهبت أنا وأحمد بن حنبل إلى الشافعي بمكة فسألته عن أشياء، فوجدته فصيحًا حسن الأدب، فلما فارقناه أعلمني جماعة من أهل الفهم بالقرآن أنه كان أعلم الناس في زمانه بمعاني القرآن، وأنه قد أوتي فيه فهمًا ... " (^٢).
[ص ١٠] "وقال ابن أبي حاتم عن الربيع قال: قال ابن هشام (صاحب السيرة وهو من أهل العلم بالعربية): الشافعي ممن يؤخذ عنه اللغة. قال ابن أبي حاتم: وحُدِّثتُ عن أبي عبيد القاسم بن سلام نحوه. وقال أيضًا: سمعت الربيع يقول: كان الشافعي عربي النفس واللسان. قال: وكتب إليَّ عبد الله بن أحمد قال: قال أبي: كان الشافعي من أفصح الناس. وقال الساجي: سمعت
_________
(^١) كذا أثبت المؤلف اسم الكتاب كما هو في طبعته الأولى، وصواب اسمه "توالي التأنيس" بالنون كما نص عليه تلميذه السخاوي في "الجواهر والدرر": (٢/ ٦٨٢). والنص فيه (ص ٨٥ - ط. دار الكتب).
(^٢) انظر "توالي التأنيس" (ص ٩٠).
15 / 303
جعفر بن محمد الخوارزمي يحدِّث عن أبي عثمان المازني عن الأصمعي قال: قرأتُ شِعر الشَّنْفَرى على الشافعي بمكة. وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي: قلنا لعمّي: على مَن قرأت شعرَ هذيل؟ قال: على رجل من آل المطلب يقال له: محمد بن إدريس" (^١).
"وقال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي: تصفحنا أخبار الناس فلم نجد بعد الصدر الأول من هذه الأمة أوضح شأنًا، ولا أبين بيانًا، ولا أفصح لسانًا من الشافعي، مع قرابته من رسول الله ﵌" (^٢).
"وقال الحاكم: سمعت محمد بن عبد الله الفقيه: سألت أبا عمر غلام ثعلب عن حروف أُخِذَت على الشافعي، مثل قوله: "ماء مالح". ومثل قول: "انبغى أن يكون كذا وكذا"؟ فقال لي: كلام الشافعي صحيح. وقد سمعت أبا العباس ثعلبًا يقول: يأخذون على الشافعي، وهو من بيت اللغة يجب أن يؤخذ عنه" (^٣).
"وقال الآبري: أخبرنا أبو نعيم الإستراباذي: سمعت الربيع بن سليمان يقول مرارًا: لو رأيتَ الشافعيّ وحسن بيانه وفصاحته لعجبت منه، ولو أنه ألَّف هذه الكتب على عربيّته التي كان يتكلّم بها معنا في المناظرة لم يُقْدَر على قراءة كتبه لفصاحته وغرائب ألفاظه، غير أنه كان في تأليفه يجتهد أن يوضّح للعوام" (^٤).
_________
(^١) هذه الأخبار في "توالي التأنيس" (ص ٩٦ - ٩٧).
(^٢) المصدر السابق (ص ١٠١).
(^٣) المصدر السابق (ص ١٠٣).
(^٤) المصدر السابق (ص ١٥١).
15 / 304
[ص ١١] فصل
[زَعْم الكوثري: تتلمذ الشافعي على محمد بن الحسن]
يحاول الأستاذ أن يثبت أن الشافعي تلميذ محمد بن الحسن، ولا أرى حاجة إلى الكلام معه في كلِّ عبارة، ولكني ألخص هذا البحث فأقول:
ثبت بالروايات الجيّدة أن الشافعي شرع في طلب العلم وسِنّه نحو عشر سنين، وذلك نحو سنة ١٦٠، فأخذ عن علماء مكة والمدينة، وخرج مرة أو أكثر إلى اليمن، وأقام بالبادية مدّة، وكان فيمن أخذ عنه من الفقهاء بمكة مَن كان على طريقة أهل العراق كسعيد بن سالم القدّاح. وكان الشافعيّ يبحث مع مَن يقدم مكة من علماء الآفاق. وفي "توالي التأسيس" (ص ٥٨) (^١): "قال زكريا الساجي: حدثنا الزعفراني قال: حجّ بشر المريسي [الحنفي] سنة إلى مكة، ثم قدِم فقال: لقد رأيت بالحجاز رجلًا ما رأيت مثله سائلًا ولا مجيبًا ــ يعني الشافعي ــ. قال: فقدِم الشافعيُّ علينا بعد ذلك فاجتمع إليه الناس، فجئت إلى بِشر فسألته فقال: إنه قد تغيّر عما كان عليه ... ".
وفيها (ص ٥٦) (^٢) "وأخرج الآبري من طريق الزعفراني قال: كنا نحضر مجلس بشر المريسي فكنّا لا نقدر على مناظرته، فقدم الشافعي فأعطانا كتاب الشاهد واليمين، فدرسته في ليلتين، ثم تقدّمت إلى حَلْقة بشرٍ فناظرته فيه فقطعته، فقال: ليس هذا من كيسك، هذا من كلام رجل رأيته بمكة معه نصف عقل أهل الدنيا".
_________
(^١) (ص ٩١).
(^٢) (ص ٨١).
15 / 305