وكما إِن في الجدل ما هو قياس وما يظن به أنه قياس، وليس بقياس، وهو القياس السوفسطائي، كذلك في الأَقاويل المقنعة المستعملة في هذه الصناعة ما هو مقنع بالحقيقة، وما يظن به أنه مقنع من غير إِن يكون كذلك. لكن لما كان السوفسطائي ليس إِنما يكون سوفسطائيا من قبل القوة والملكة التي بها يفعل الأَقاويل السوفسطائية، بل إِنما هو سوفسطائي من قبل ما يقصد بتلك الأَقاويل من الكرامة والخيرات الخارجة، وذلك لإِيهامه أنه حكيم، وكان الجدلي إِنما هو جدلي بالملكة الحاصلة له عن الصناعة، فبالواجب لم تكن الأَقاويل السوفسطائية جزءًا من صناعة الجدل، أعني التي يظن بها أنها مقاييس جدلية من غير إِن تكون جدلية، إِذا استعملت نحو هذه الغاية، وأما إِذا استعملت على طريق الامتحان فهي جزء منها. وأما الخطيب فلما كان قد يكون خطيبا من أجل الأُمور التي من خارج مثل الكرامة وغير ذلك من سائر الخيرات، وقد يكون خطيبا من قبل ملكة هذه الصناعة، كانت الأَقاويل التي يظن بها أنها مقنعة وليست بمقنعة جزءًا من هذه الصناعة، لأَن المقصود بهذه الأَقاويل في هذه الصناعة قد يكون بعينه مقصود السوفسطائي. وِإنما كان ذلك كذلك لأَن المقصود بهذه الصناعة من الذي يراد إِقناعه إِنما هو الفعل أو الانفعال. فإِذا حصل ذلك منه، فلا فرق بين إِن يكون حصوله عن أقاويل هي مقنعة في الحقيقة أو عن أقاويل يظن بها أنها مقنعة، وليست بمقنعة. فإِن كان ذلك الفعل المقصود من المخاطب أو الانفعال خيرًا ما له، لا للخطيب، كانت الأَقاويل التي يظن بها أنها مقنعة وليست بمقنعة داخله في هذه الصناعة بالجهة التي دخلت في صناعة الجدل الأَقاويل التي يظن بها أنها جدلية وليست بجدلية، إِذا لم يقصد بها مقصد السفسطة. وإِن كان مقصود الخطيب خيرًا يناله من الخيرات التي يقصدها السوفسطائي، كان يقول الذي يظن به أنه مقنع وليس بمقنع من جهة ما هو سوفسطائي جزءًا من هذه الصناعة، إِذ قد يشارك الخطيب السوفسطائي في غايته، فلذلك قد تدخل الأَقاويل السوفسطائية في هذه الصناعة ولا تدخل في صناعة الجدل.
قال: فهذه الصناعة التي ذكرنا منافعها وأن كل مَنْ تكلم فيها لم يتكلم فيها بما هو كافٍ في أمرها التي قصدنا للكلام فيها من أول الأَمر، وذلك بأن نخبر من أي شيء تأْتلف هذه الصناعة، وكيف تأْتلف وما تكلمنا فيه قبل هذا فكأنه لم يكن لنا مقصودًا أولًا، ولذلك قد ينبغي إِن نستأْنف هاهنا القول فيها ونعود إِلى مقصودنا كأنا مبتدئون من هذا الموضع، فنبتدئئ أَولا ونحد هذه هذه الصناعة فنخبر ما هي ونحو ماذا، وذلك بأن نعرف جنسها القريب وفصلها الخاص بها، ثم نتطرق من ذلك إِلى إِحصاءِ أجزائها على جهة تحليل الحد.
قال: والخطابة هي قوة تتكلف الإِقناع الممكن في كل واحد من الأَشياءِ المفردة. ويعني بالقوة: الاصناعة التي تفعل في المتقابلين وليس يتبع غايتها فعلها ضرورة. ويَعني بتتكلف: إِن تبذل مجهودها في اسقصاءِ فعل الإِقناع الممكن. ويعني بالممكن: الإِقناع الممكن في ذلك الشيء الذي فيه القول، وذلك يكون بغاية ما يمكن فيه. ويعني بقوله في كل واحد من الأَشياءِ المفردة، أي في كل واحد من الأَشخاص الموجودة في مقولة مقولة من المقولات العشر.
وهذا هو الفصل الذي به تنفصل هذه الصناعة عن سائر الصنائع التي يظن بها أنها قد تقنع في الأُمور التي قد تنظر فيها. وذلك إِن كل صناعة إِنما هي معلمة، أي مبرهنة، ومقنعة، في الجنس الذي تنظر فيه، لا في جميع الأَجناس. مثال ذلك: إِن الطب إِنما يعلم على طريق البرهان ويقنع في الصحة والمرض وفي أنواعهما، وكذلك الهندسة إِنما تعلم على طريق البرهان وعلى طريق الإقناع في الأَعظام، والأَشكال التي توجد في الأَجسام.
وأما الخطابة فهي تتكلف الإِقناع في جميع الأَشياءِ: في أيّ مقولة كانت وأيّ جنس كان. ولذلك ليس تنسب إِلى جنس خاص.
فأما الأَشياءُ التي تفعل التصديقات في هذه الصناعة: فمنها ما هي صناعية وتلك هي التي وجودها إِلى اختيارنا ورويتنا ونحن الفاعلون لها، ومنها ما هي غير صناعية وهي التي ليس وجودها لاختيارنا ورويتنا، مثل الشهود والتعذيب والعقود وما أشبه ذلك مما سيذكر بعد.
1 / 6