قال: وأما النظر في وضع السنن والإِشارة بها فليس بيسير في أمر المدن. فإِن المدن إِنما تسلم ويلتئم وجودها بالسنن. ولذلك قد ينبغي لواضع السنن إِن يعرف كم أصناف السياسات وأي سُنة تنفع في سياسة وأي سُنة لا تنفع وأي ناس تصلح بهم سُنة سُنة وسياسة سياسة وأي ناس لا تصلح بهم، وأن يكون يعرف الأَشياءَ التي يخاف إِن يدخل منها الفساد على المدينة وذلك إِما من الأَضداد من خارج، وإِما من أهل المدينة. فإِن سائر المدن، ما عدا المدينة الفاضلة، قد تفسد من قبل السنن الموضوعة فيها، وذلك إِذا كانت السنة مفرطة الضغف واللين أو مفرطة الشدة وسواء كانت في رأْي أو في خلق أو في فعل. وذلك إِن السياسة التي تسمى الحرية قد يظهر من أمرها أنها تنتقل كثيرا من قبل هذا المعنى إِى رياسة الخسة، أعني رياسة الشهوات أو رياسة المال. والذي قاله ظاهر عندنا من أمر السياسات التي وصلتنا أخبارهم.
قال: وليس يؤول الأَمر في هذه السياسة، أعني سياسة الحرية، إِلى سياسة الأَخساء من قبل استرخاءِ السنن ولينها، وإِن كان ذلك هو الأَكثر، بل ومن قبل الإِفراط. فإِن كثيرا من الأَشياءِ إِذا أفرطت بطل وجودها، كما يبطل وجودها من قبل الضعف والتقصير. ومثال ذلك: إِن الفطس إِذا أفرط وتفاقم، كان قريبا من إِن يظن أنه ليس هنالك أنف. وإِذا كان غير مفرط، قرب من الاعتدال.
قال: ويحتاج مع ذلك إِن يعرف السنن التي وضعها كثير من الناس فانتفعوا بها في سياسة سياسة من السياسات المشهورة وفي أمة أمة ليستعمل منها النافع الذي يخصه والأُمة التي تخصه. ولذلك يتبين إِن معرفة واضع السنن بأمزجة الناس وأخلاقهم وعاداتهم مما ينتفع به في وضع السنن. فإِن من هاهنا يمكن إِن يضع السنن النافعة لجميع الأُمم المختلفة الطبائع. وأما الفساد الداخل على المدن من خارج، أعني من الأَعداءِ، فأمر ظاهر بنفسه، وقد كتب الناس في الأَوجه التي يتوقع منها غلبة الأَعداءِ، والأَوجه التي يتحرز بها منهم. ومن هذه الأَشياءِ يأخذ المقدمات التي يشير بها على أهل مدينته بالتحفظ من الأَعداءِ. وما قلنا في وضع السنن وما يحتاج إِليه واضعها هو من علم السياسة، لا من علم الخطابة. وإِنما يذكر منها هاهنا ما يكفي في هذه الصناعة.
قال: فهذه هي الأُمور العظمى التي بها يشير المشيرون على أهل المدن، وفيها دلالة على الأَشياءِ التي منها يشار على واحد واحد من الناس. ونحن قائلون الآن في الأَشياءِ التي منها يكون الإِذن والمنع لواحد واحد من الناس، ومبتدؤن أولا بالإِخبار عن الأَشياء التي من أجلها يشير المشيرون فيأذنون فيها أو يمنعون من أضدادها. ويشبه إِن يكون لكل واحد من الناس انفعال ما وتشوق بالطبع للخير الذي يتشوقه الكل لنفسه ويشير به على غيره من غير إِن يعرف واحد منهم ما هو ذلك الخير فيختارونه ويأثرونه على غيره، أو إِذا سئل عنه أجاب فيه بجواب منبئ عن طبيعته، بل إِنما عند كل واحد منهم وجوده فقط. وإِذا سئل واحد واحد منهم عما يدل عليه اسمه، أجاب فيه بجواب غير الجواب الذي يجيب فيه الآخر. وإِنما يؤثره الجميع لمكان هذا الانفعال الموجود له بالطبع عند الجميع. وهذا الخير في الجملة هو صلاح الحال وأجزاءُ صلاح الحال. ولذلك فقد ينبغي إِن نفضل أولًا ما هو صلاح الحال بقول عام، ثم نفصل أجزاءه ونخبر عن أضدادها وعن الأَشياءِ التي يكون فيها الإِذن والمنع وهي النافعة في صلاح الحال أو الأَنفع فيه، أو الضارة فيه أو الأَضر فيه. فإِن بهذا يتم لنا القول في الأَشياءِ التي منها تلتئم الأَقاويل المشورية المستعملة مع جميع الناس.
قال: والذين تكلموا في هذه الصناعة فلم يتكلموا من هذه الأَشياءِ إِلا فيما يجري مجرى الأُمور الكلية، مثل أنهم قالوا ينبغي للخطيب إِن يعظم الشيءَ الصغير إِذا أراد تفخيمه، ويصغر الشيءَ الكبير إِذا أراد تهوينه، وينبغي له إِن لا يأْذن في الأَشياءِ التي تفسد صلاح الحال ولا في الأَشياءِ التي تعوق عن صلاح الحال أو تتجاوز صلاح الحال إِلى ضده، ولم يقولوا ما هي الأَشياءُ التي بها يعظم الشيءُ أو يصغر، ولا ما هي الأَشياءُ التي توجب اختلال صلاح الحال أو تعوقه أو تتجاوزه إِلى ضده.
1 / 16