Sabunta Tunanin Larabawa
تجديد الفكر العربي
Nau'ikan
مهما يكن المصدر الأول الذي يستقي منه الإنسان مبادئ المعرفة والعلم، ثم يعود فيبني على تلك المبادئ سائر أحكامه وأفكاره ومعتقداته ومذاهبه، فقد يكون ذلك المصدر الأول وحيا من السماء، أو مشاهدات شاهدناها بحواسنا للأشياء من حولنا، أو لمعات حدسية اهتدت بها البصيرة إلى حقيقة العالم أو حقيقة الإنسان. أقول إن المصدر الأول لمبادئ المعرفة والعلم، قد يكون بابا من هذه الأبواب، ثم يسلط الإنسان على تلك «المبادئ» قوته الاستدلالية - وذلك هو «العقل» - ليستخرج كل ما يجد في وسعه أن يستخرجه من أحكام وأفكار. ومهما يكن ذلك المصدر الأول - وقد اختلف الفلاسفة في أيها تكون له الصدارة - فهنالك شرط لا بد من الوفاء به؛ لكي تستقيم لنا المعرفة الصحيحة بعد ذلك، وهو أن يمحو الإنسان أخطاءه التي كان قد زل فيها قبل أن يستقي العلم من مصدره المختار، وأن يسد الطريق على تلك الأخطاء حتى لا تعاوده من جديد، ما استطاع إلى ذلك سبيلا؛ إذ لا يجدي أن نملأ وعاء الحق في أذهاننا، حين يكون وعاء الباطل ما زال هنالك قائما إلى جواره، فالباطل - على مر الزمن - قمين أن يفسد الحق، كما تفسد الثمرة العطبة ما حولها من ثمرات صحاح، فإذا جاء الحق وظهر - بأية وسيلة من وسائله - وجب كذلك أن يزهق الباطل في اللحظة نفسها؛ فإقامة الصواب وتصحيح الخطأ جانبان لموقف واحد، هما الإيجاب والسلب يسيران معا، الأول يثبت ما يستحق الإثبات، والثاني يمحو ما لا بد أن يمحى.
وهذا بعينه هو ما حرص على فعله فلاسفة المنهج العلمي جميعا، على اختلاف أزمانهم وتباين مناهجهم؛ فهم - إذ يرسمون للناس طرائق الفكر السديد - يجمعون على إزالة الباطل وطمس مصادره؛ لتتم لهم إقامة الحق وتفجير منابعه، فذلك هو سقراط، حين أراد أن يقيم للفكر السليم منهجا جديدا يقاوم به ما ظنه باطلا عند جماعة السفسطائيين - فقد كان هؤلاء السفسطائيون يشيعون في الناس رأيا بأن الإنسان الفرد هو مقياس الحق لنفسه، فما تراه أنت حقا فهو حق بالنسبة إليك، وما أراه أنا حقا فهو كذلك حق بالنسبة إلي. وواضح أن مبدأ كهذا من شأنه أن يجعل لكل فرد من الناس معياره الخاص فيما هو صواب أو خطأ، وفيما هو فضيلة أو رذيلة - فأراد سقراط أن يقيم منهجا عقليا قويما، تقاس به الأفكار والأحكام؛ ليضع أمام الناس جميعا قاعدة واحدة مشتركة، بحيث لا يبقى بعد ذلك احتكام إلى نزعة فردية أو هوى.
لكنه قبل أن يقيم هذا الميزان العقلي - أو قل إنه بالعملية نفسها التي أراد بها أن يقيم هذا الميزان - أخذ في الوقت نفسه ينكت صدور الناس وأفئدتهم لعله يقع فيها على مصادر الخطأ والضلال فيزيلها، بل ربما كان أشد اهتماما بأن يبين للناس أين يخطئون، منه بأن يظهر لهم وجه الصواب في المسألة المعينة التي يحدث أن تكون مطروحة للحوار بينه وبينهم، إنه لم يزعم لنفسه قط معرفة يقينية بشيء، حتى لقد قال عنه أرسطو بعد ذلك: كان سقراط يثير المشكلات ثم لا يقدم لها الحلول. ولم يكن سقراط غافلا عن حقيقة موقفه السلبي هذا، لكنه أيقن أن رسالته الحقيقية هي في تطهير العقول أولا، لعلها بعد ذلك تتهيأ للوصول إلى الحق.
ومضى الزمان بعصوره التي توسطت بين قديم وحديث، ونهضت أوروبا نهضتها المعروفة، التي كان من نتائجها هذا التقدم العلمي العجيب، الذي ننعم اليوم بثمراته ونشقى، أفتدري ماذا كان المفتاح الذي أداره الناس فإذا الأرض غير الأرض والسماء غير السماء؟ هو أن استبدلوا منهجا بمنهج، وفي المنهج العلمي الجديد كمن السر كله والقوة كلها. كان الناس قبل ذلك ينهجون في تفكيرهم نهجا لا يصلح إلا في نطاقه الخاص، وهو أن تكون هنالك تركيبة لغوية فاستخرج منها تركيبة أخرى؛ ولذلك كاد «العلم» كله إبان القرون الوسطى - في شرق الدنيا وغربها على السواء - ينحصر في استخراج النتائج من نصوص يضعونها بين أيديها، ثم يعملون فيها مشارط التحليل، وقد يكون النص وحيا أوحي به أو تراثا قديما هبط إليهم من السلف، لكن الطريقة واحدة في كلتا الحالتين، أما وقد أراد الناس أن يلفتوا وجوههم لفتة جديدة، يطالعون بها الكون الفسيح بأفلاكه وبحاره وسهوله وجباله، فلم يعد يجدي أن ننظر في نص مكتوب أمامنا لنحلله ونشرحه ونستخرج ما خفي من معانيه، أو قل إن هذا النظر المنكب على الصحائف لم يعد يكفي، وكان لا بد من طريق جديد يسلكه الباحثون ليكشفوا الحجب عن سر «الطبيعة» التي تبدي أمام النواظر «ظواهرها» وتخفي وراء الظواهر «قوانينها»، فكيف السبيل أمام الإنسان ليكشف الغطاء عن تلك القوانين؛ لأنه إذا ما فعل، أمسك باللجام وامتطى وسار، بل غاص وطار، وطوى الطبيعة كلها في قبضة يده.
كان المنهج العلمي الجديد ذا وجهين، تولى كلا منهما رجل: أما أحد الرجلين فهو الفيلسوف الفرنسي ديكارت، الذي أراد أن يكون السير العلمي بادئا من فكرة داخلية نثق في صوابها، ثم نمضي خارجين منها إلى حيث العالم الطبيعي وما وراءه. وأما ثانيهما فهو الفيلسوف الإنجليزي بيكون، الذي رأى أن يكون طريق السير في الاتجاه المضاد، بادئا من الطبيعة الخارجية وما نشاهده في ظواهرها، ثم نمضي داخلين إلى فكرة عقلية نقيمها ونكون على يقين من صوابها.
ولكن ليختلفا كيف شاءا في اتجاه السير ماذا يكون؟ أنقطع الشوط من داخل نفوسنا إلى الواقع الخارجي، أم نقطعه من الواقع الخارجي إلى داخل نفوسنا؟ فالذي يهمنا من الرجلين في سياق حديثنا هذا، هو أن كليهما قد حرص أشد الحرص على محاربة الخطأ واقتلاع جذوره، حتى تبذر بذور المعرفة الصحيحة على أرض طيبة غير مشوبة بأخلاط الضلال.
فالرجلان معا يلتقيان في أن المعرفة الصحيحة كان ينبغي أن تكون هي الحالة الطبيعية للإنسان السوي، لولا أن اعترضتها العوارض فسدت عليها الطريق؛ عوارض من أوهام الإنسان ونزواته وميوله وأهوائه ورغباته وشهواته وما قد يصيبه من تعصب وتسرع، ومن خضوع سهل لذوي الشهرة والنفوذ من أقدمين ومحدثين ومعاصرين. لماذا يخطئ الإنسان طريق الحق ما دامت نفسه وما يجري فيها واضحة له إذا ما انطوى ببصره إليها، ليمعن فيها النظر (هذا ديكارت)، وما دامت الطبيعة منشورة الصفحات لمن يريد أن يقرأ قراءة الصادق الأمين (وهذا بيكون). لماذا يقع الإنسان في الخطأ، والباطن قائم أمام بصيرته والظاهر معلن أمام بصره؟ أليس الخطأ هو أن تضع في رأسك فكرة لا تصور ما هنالك؟ فلماذا تفعل، وما هنالك يكشف لك عن نفسه إذا سلكت إليه الطريق؟
لا بد أن تكون هنالك عثرات تحول دون ذلك السير المستقيم، كأن تكون رءوسنا قد ملئت - على غير وعي منا - بأفكار مسبقة، بثها فينا آخرون، حتى إذا ما شببنا ألفينا أنفسنا تحت سلطانها؛ ولهذا عني الرجلان - ديكارت وبيكون - أول ما عنيا بأن يدقا في الرءوس دقا عنيفا؛ لتنفض كل ما فيها، قبل أن نأمل في علم جديد نضعه بأنفسنا على أساس جديد. •••
وعقيدتي هي أن في تراثنا العربي - إلى جانب عوامل القوة التي سنذكرها في حينها - عوامل أخرى تعمل فينا كأبشع ما يستطيع فعله كل ما في الدنيا من أغلال وأصفاد، وأنه لمن العبث أن يرجو العرب المعاصرون لأنفسهم نهوضا أو ما يشبه النهوض قبل أن يفكوا عن عقولهم تلك القيود لتنطلق نشيطة حرة نحو ما هي ساعية إلى بلوغه؛ إنه لا بناء إلا بعد أن نزيل الأنقاض ونمهد الأرض ونحفر للأساس القوي المكين.
وسأكتفي من هذه العوامل المعوقة بثلاثة:
Shafi da ba'a sani ba