Sabunta Tunanin Larabawa
تجديد الفكر العربي
Nau'ikan
وسواء كان الذي بين أيدينا «حقائق» واقعة أو «فروضا» من عندنا، فهذه أو تلك بداية محتومة لأي تفكير. إنه ليستحيل على العملية الفكرية - كائنة ما كانت مادتها - أن تتحرك قيد شعرة إلا إذا كانت بين أيدينا «نقطة الابتداء» التي منها نسير، وقد تكون نقطة الابتداء هذه هي من «الحقائق»، وقد تكون من «الفروض»، فإن كانت الأولى كانت العملية الفكرية من الضرب السائد في علوم الطبيعة، وإن كانت الثانية كانت العملية الفكرية من الضرب السائد في علوم الرياضة، ولا ثالث لهذين الضربين في عمليات الفكر، فمهما تنوعت موضوعات البحث ألفيتها - بعد شيء من التحليل - إما منتمية إلى النوع الذي يبنى على الحقائق الواقعة، وإما منتمية إلى النوع الذي يبنى على الفروض. وقد تسمى هذه الفروض بأسماء أخرى كالبديهيات أو المسلمات أو غير ذلك، لكن ذلك لا ينفي عنها طبيعتها، وهي أنها فروض نفرضها لنستنبط منها، وكان في وسعنا أن نفرض سواها فتخرج لنا نتائج أخرى. •••
وكلمة «المبدأ» إنما تعني ما يدل عليه لفظها؛ إذ تعني النقطة التي «نبدأ» التفكير من عندها، غير أن نقطة البدء إذا كانت حقيقة واقعة من حقائق الطبيعة، فإنه لا يحسن تسميتها «بمبدأ»؛ لأنها عندئذ تكون مفروضة على الإنسان، ولا يكون الإنسان هو فارضها، فإذا كان من حقائق الطبيعة أن الضوء يسير بالسرعة الفلانية، ثم أقمنا على هذه الحقيقة بعض نتائجها، فإن اللغة عندئذ لا تسيغ أن يقول العالم إن «مبدئي» هو أن سرعة الضوء هي كذا، لكن الأمر على خلاف ذلك حين تكون نقطة البدء من اختيار الإنسان، اختارها حين أدرك أنها قد تعطيه من النتائج أكثر مما يعطيه سواها، وها هنا في وسعه - دون غضاضة - أن يقول إن «مبدئي» هو كذا، وقد يجيء إنسان آخر فيختار لنفسه في الموضوع نفسه مبدأ آخر، ولا يكون بين الرجلين تناقض، فكل منهما بمثابة من ابتنى لنفسه من مبدئه بيتا يئويه، ثم تجاور البيتان، لا ينقض وجود أحدهما وجود الآخر.
والأمثلة في دنيا الفكر كثيرة لا تحصى؛ فالفروض في الرياضة هي «مبادئ» مختارة، ليس فيها إلزام لأحد من غير أصحابها، فقد يفرض الرياضي أن المكان مستو ثم يبني النتائج على فرضه هذا، أو قد يفرض أن المكان كري ثم يستنبط، أو أن المكان أسطواني، وهكذا. وإنها لفروض ثلاثة تخرج لنا ثلاث هندسات مختلفة النتائج، لا تنقض واحدة منها واحدة، فكل مجموعة من النتائج تكون صوابا بالنسبة إلى فرضها الأول؛ أعني بالنسبة إلى «مبدئها». •••
والديانات المختلفة مثل آخر للنسقات الفكرية التي تنبني على «مبادئ»، كل منها يضع كتابه أمامه «مبدأ» يسير منه ويستنبط، وإنما تكون الأحكام الفقهية في كل دين صوابا بالنسبة إلى نص كتابها، ولا بد لي هنا أن ألفت الأنظار إلى نقطة هامة وخطيرة، وهي أن المنظومات الفكرية المختلفة، وإن تكن كل منها مستقلة عن الأخرى في صواب أحكامها أو خطأ تلك الأحكام، أعني أن كلا منها إذا استشهد على صواب حكم معين، فمرجعه هو مبدؤه، لا مبدأ المنظومة الأخرى، إلا أننا نستطيع المفاضلة بين هذه المنظومات الكثيرة المتجاورة، على أساس ما تؤديه كل منها للحياة الإنسانية من سعادة أو من تسام أو غير ذلك، فالأمر هنا شبيه بأن ترى بيوتا متجاورة، لكل منها أساسه الذي أقيم عليه، ولكل منها أجزاؤه الداخلية التي بنيت على ذلك الأساس، فلا يكون بيت منها حجة على بيت آخر، فقد يهوي أحدهما لضعف أساسه بينما يبقى الآخر بقوة أساسه، لكن استقلال هذه البيوت المتجاورة بعضها عن بعض لا يمنع من المفاضلة بينها من ناحية ما تؤديه في حياة ساكنيها. •••
على أن الجانب الذي يعنينا هنا هو جانب نظري بحت، فنحن نسوق الأمثلة على المنظومات الفكرية كيف تقام على «مبادئ» أي أن كلا منها يختار نقطة يبدأ من عندها السير، وقد ضربنا مثلين هما: مثل العلوم الرياضية، ومثل البناءات الدينية، ونستطيع أن نسوق مثلا ثالثا من الفكر السياسي، فها هنا كذلك تبدأ النظرية السياسية من «مبدأ» معين تقيم عليه بناءها كله. خذ مثلا فيلسوفين إنجليزيين من أصحاب النظريات السياسية المعروفة هما «هوبز» و«لوك». الأول يقيم نظريته السياسية على أساس أن الحق الحكم للأقوى، وأن هذا الأقوى إذا ظفر بالسلطان لم يعد من حق الشعب المحكوم أن يقيله أو أن يعترض عليه. وأما الثاني فيقيم نظريته السياسية على أساس أن حق الحكم لمن يختاره الشعب؛ وبذلك يكون للشعب حق إقالة الحاكم إذا انحرف عما أرادوه من أجله. من المبدأ الأول ننتهي إلى حكم الفرد المستبد، ومن المبدأ الثاني ننتهي إلى حكم الشعب لنفسه، وهكذا نجد أنفسنا أمام منظومتين فكريتين، كل منهما ترتكز على ركيزة، وكل منهما يحكم على نتائجها بالصواب أو بالخطأ بحسب طريقة استنباطها من مبدئها، فكيف نفاضل بينهما إذا أردنا أن نختار لأنفسنا إحداهما دون الأخرى؟
إننا لا نفاضل بينهما على أساس صواب إحداهما وخطأ الأخرى؛ لأن كلا منهما قد تكون صحيحة الأجزاء ما دامت هذه الأجزاء مستنبطة استنباطا سليما من المنبع، بعبارة أخرى قد تكون كلتا المنظومتين الفكريتين صوابا على ما بين تفصيلاتهما من اختلاف بعيد، لا، لسنا نفاضل بينهما على أساس الصواب والخطأ؛ لأن كلا منهما مبنية على «مبدأ»، والمبدأ «فرض»، والفرض لا يوصف بصواب أو خطأ، وإنما تكون المفاضلة بينهما على أساس النفع للإنسان في حياته، فقد تكون إحدى المجموعتين - برغم صواب الاستدلال فيها - قليلة النفع عند التطبيق في حياة الإنسان العملية، وقد تكون زميلتها غزيرة النفع عند التطبيق العملي؛ فعندئذ تكون هي أولى بالتفضيل والاختيار.
وأسوق مثلا رابعا لزيادة التوضيح، مثل النسقات الفلسفية، فلكل فيسوف شيء يسميه في فلسفته «بالمبدأ الأول» قاصدا بذلك الفكرة الأم في نسقه الذي يبنيه، وهي الفكرة التي يعتصر منها كل أجزاء بنائه الفلسفي، فيها يقيم البرهان على كل ما يزعمه بعدها، وأما هي فلا برهان عليها؛ إذ لو كان عليها برهان لكانت فكرة البرهان هي الأسبق في أولويات العقل، ولم يعد «المبدأ الأول» لا «مبدأ» ولا «أول»، فإذا جاء فيلسوف آخر، فالأغلب ألا يوجه نقده إلى الفيلسوف السالف من ناحية طرائقه في استدلال النتائج الفرعية من المبدأ الأول، بل يوجه نقده إلى «المبدأ لأول» نفسه، بأن يضع «مبدأ أول» آخر، فتختلف النتائج، ونصبح أمام بناء فلسفي جديد، والمفاضلة بين البناءين تكون على أساس مدى قدرة كل منهما على تفسير أكبر عدد ممكن من ظواهر الوجود، فالأقدر منهما على التفسير أولى بالتفضيل، فمثلا كان المبدأ الأول عند أفلاطون هو افتراضه وجود «المثل» التي على غرارها جاءت الطبيعة وكائناتها، ثم تبعه أرسطو ونقده، ثم وضع لنفسه مبدأ أول جديدا، هو فكرة «الصورة والهيولى» زاعما بالطبع أنها أقدر من فكرة المثل الأفلاطونية على تفسير الوجود.
من هذه الأمثلة كلها يتبين أن «المبادئ» في شتى البناءات الفكرية، ليست «حقائق» تفرض نفسها على الإنسان بحيث لا يكون له قبل على تغييرها وتبديلها، بل هي - بحكم طبيعتها - «فروض» يفرضها الإنسان لنفسه حرا مختارا، وهو يفرضها لتخدم أغراضه، فإن هي أفلحت في خدمة تلك الأغراض كان بها، وإلا فهو يبدلها بسواها حتى يقع على أنفع المبادئ لحياته العملية. •••
ثم ماذا؟ ماذا نستهدف بهذه النتيجة التي بلغناها؟ ها نحن أولاء قد رأينا وآمنا بأن «المبادئ» هي نقاط ابتداء لا بد منها لمسار الفكر، هي نقطة الصفر التي لولاها لما تسلسل العدد، هي خط جرينتش الذي بغيره لا نستطيع تحديد الزمن في أي جزء من أجزاء الكرة الأرضية، ثم ها نحن أولاء قد رأينا وآمنا بأن «المبادئ» هي بمثابة فروض يفرضها الإنسان لنفسه، وفي مكنته تغييرها ليضع فروضا أخرى. كان الإنسان ذات يوم - مثلا - يضع لنفسه مبدأ - أعني يفرض لنفسه فرضا - هو أن الناس حيث الحقوق والواجبات صنفان: أحرار وعبيد، ثم يرتب على هذه التثنية نتائج ونتائج في إقامة نظامه الاجتماعي، وعلى مر الزمن تغيرت دنياه، فاضطر إلى اصطناع مبدأ آخر، هو أن الناس من حيث الحقوق والواجبات صنف واحد: أحرار ولا عبيد، ولو كانت المبادئ من قبيل الحقائق لا الفروض لما أصابها التغيير على مر الزمن، لو كانت من قبيل قولنا إن الماء ينحل إلى نسبة معينة من الهيدروجين والأوكسجين لظلت على حالها إلى أبد الآبدين.
نعم، ها نحن أولا قد رأينا ذلك عن «المبادئ» وآمنا به، فماذا عندك بعد ذلك؟ عندي أن ما أسلفته هو التمهيد الضروري لما أردت أن أقوله؛ ذلك أني أردت أساسا أن أقول إن العرب في حاضرهم إذا أرادوا أن يكونوا استمرارا للعرب في ماضيهم، فلا يلزم عن ذلك أن ينقل الحاضرون عن الماضين كل ما اصطنعه هؤلاء الأسلاف من مبادئ، بل من حقهم أن يغيروا وأن يبدلوا كلمة رأوا الفروض النظرية التي افترضها أسلافهم لم تعد تثمر لهم في حياتهم الثمرة المرجوة، كانت مبادئهم فروضا فرضوها لأنفسهم لتصلح بها الحياة بظروفها الماضية، ثم تغيرت ظروف الحياة فلم يعد بد من تغير الفروض. كان الفرض - مثلا - أن المسافر في الصحراء لن يجد «فندقا» ولا «مطعما» يأوي إليه إذا جن الليل أو إذا ألم به الجوع؛ وإذن فلا بد - تأسيسا على هذا الفرض - أن يكون كل لكل فندقا ومطعما، وتغيرت ظروف الحياة بحيث أصبح مسافر الصحراء كمسافر الأرض المزروعة سواء بسواء، كلاهما يركب الطائرة من طرف إلى طرف، لا يعنيه ما تحته، أفلاة هو أم حقول؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلم يعد أمامنا محيص عن تغيير الفرض الأول بفرض جديد تنبثق منه أحكام الناس على سلوك الناس من فضيلة ورذيلة.
Shafi da ba'a sani ba