Sabunta Tunanin Larabawa
تجديد الفكر العربي
Nau'ikan
وكان لا بد أن يجيء من يختار لنفسه موقفا وسطا بين الطرفين، فكان هذا التوسط نصيب أبي الحسن الأشعري، الذي خشي أن يذهب دين الله وسنة رسوله ضحية الآراء المتطرفة من يمين أو يسار، فحاول أن يوفق بين هذه الآراء، وانتهى إلى ألا يجعل العقل كل شيء كما أراد المعتزلة، وألا يجعل الإيمان بالنص وحرفيته كل شيء كما أرد المتطرفون من أهل السنة وأتباع السلف ، فمن جهة، رأى أن العقل وحده لا يكفي لدعم الدين، كما ظن المعتزلة؛ إذ لو كان أمره كذلك فماذا تكون قيمة الإيمان بالله وبالكتاب المنزل؟ أليس الإيمان بالغيب مبدأ أساسيا في الحياة الدينية؟ لكن الغيب يتجاوز حدود البراهين العقلية؛ وإذن فالعقل وحده لا يكفي، فلماذا إذن لا نجعل المسائل مشاركة بين العقل والإيمان معا، فللعقل ما يستطيعه من تحليل وتفسير وتأويل، وللإيمان ما تقتضيه مبادئ الدين وأصوله، مما يجاوز حدود العقل؟ بهذا يكون لكل من العقل والإيمان ميدان، وينحسم كل خلاف. وكان للغزالي موقف شبيه بهذا في مدى ما يتركه العقل حيال النص القرآني؛ إذ يقول (ص53 من فضائح الباطنية): «إن لنا معيارا في التأويل، وهو أن ما دل نظر العقل ودليله على بطلان ظاهره، علمنا ضرورة أن المراد غير ذلك، بشرط أن يكون اللفظ مناسبا له بطريق التجوز والاستعارة.»
وهذا هو نفسه الموقف الذي نريد لأبناء عصرنا أن يستخلصوه من تراثهم - شكلا لا مضمونا - وهو ألا يجعلوا بين العقل والإيمان تعارضا بل أن يجعلوا بينهما تعاونا على الوصول إلى هدف واحد، فلكل من الأداتين قسطها من الفهم وتنظيم السلوك، وإذا كان الأولون قد جعلوا التعارض مقصورا على النص القرآني والأحاديث، هل يعملون فيها العقل بالتأويل، أو يقبلونها بظاهر لفظها، فنحن اليوم نجعل التعارض أو التعاون بينهما في ضدين آخرين، هما: الدين من ناحية والعلم من ناحية أخرى، فإذا شئنا أن يكون لنا موقف نستمده من تراثنا، فليكن هو موقف المعتزلة والأشاعرة معا، فمن المعتزلة نأخذ طريقتهم الفعلية ومن الأشاعرة نأخذ الوقوف بالعقل عند آخر حد نستطيع بلوغه؛ وبهذا نجعل الدين موكولا إلى الإيمان، ونجعل العلم موكولا إلى العقل، دون أن نحاول امتداد أي من الطرفين ليتدخل في شئون الآخر.
الفصل الخامس
صراع ثقافي قديم
سألت نفسي ذات لحظة متأملة: ترى ما الذي تميزت به الحياة الفكرية العربية في قرونها الأولى؟ وإلى أي حد تغيرت هذه الحياة الفكرية في عصرنا الراهن؟ وعلى أي صورة نتمنى لها أن تكون؟ ثم أجبت نفسي إجابات تنقصها دقة التحديد، كما هو الشأن في كل إجابة عامة مجردة، يجاب بها عن سؤال عام مجرد، لكنها كانت إجابات تصلح أن تكون فاتحة لطريق المحاولات، التي قد تثمر أو لا تثمر آخر الأمر.
فلعل أظهر ما تميزت به الحياة الفكرية العربية في قرونها الأولى، أنها كانت كالبحر، تنظر إلى سطحه فتراه على كثير من التجانس، فالماء قوامه أينما وجهت البصر في أرجائه، لكنك تغوص تحت السطح التماسا لضروب الحياة الكامنة فيه، فإذا هي على درجة من الصراع وشدة التباين، حتى لتعجب كيف تكون هذه الأحياء المتقاتلة المتعارضة مكنونات بحر واحد؟ وتمعن النظر في قليل من الدقة، فتستطيع عندئذ أن ترى الصراع ناشبا بين ثلاث مجموعات تشابكت بينها الروابط والصلات، لكنها مختلفة بعضها عن بعض اختلافا يبلغ حد الحرارة والعداوة. فأما نقطة الالتقاء الواحدة فهي الكتاب المنزل، وبعد ذلك يذهب كل في طريق: فهنالك من يقف عند التنزيل نصا، يدرسه من كل ناحية، يستخلص منه الأحكام، ويدرس حوله لغة وأدبا وتاريخا. وهنالك من ينظر إلى النص لا ليقف عنده، بل ليغوص فيما يظنه كامنا وراءه من أسرار يحاول كشفها ليصل إلى «الحقيقة» وصولا حدسيا مباشرا هو من قبيل الإلهام الصوفي. وأما الفريق الثالث فهو أولئك الذين لا هم يكتفون بظاهر الآيات ليستخلصوا منها «الشريعة» ولا هم يرضون بالوصول إلى «الحقيقة» المستترة وصولا وجدانيا مباشرا، بل يريدون أن يكون «العقل» أداتهم التي يعالجون بها الفهم والتأويل معا؛ وإذن فلا بد لهم من حجاج يقيمونه في كل مسألة على أسس المنطق الأرسطي الذي جاءهم منقولا من اليونان.
تلك صورة موجزة للمواقف الثلاثة التي لم تزل تقتتل، لا اقتتال المختلفين في الرأي، بل كان أقرب إلى مقاتلة أصحاب الديانات المختلفة بعضهم بعضا، يكفر بعضهم بعضا، وكل يريد أن يرد الضال إلى إيمانه الصحيح. ولقد يبدو الفارق بين تلك المواقف الثلاثة هينا، لكنه في الحقيقة كان في السعة والعمق، بحيث لا يجوز لنا - إلا مع التجوز الشديد - أن نتحدث عن حياة فكرية عربية أو إسلامية، وكأن ثمة حياة واحدة تتجانس في الأصول وتختلف في الفروع، وسوف نرى بعد قليل كيف كانت تلك التفرقة في وجهة النظر ذريعة يتذرع بها الناس ليرتد كل إلى جذور في حياته الخاصة أعمق جدا من السطح الطاهر الذي يلتقون عنده، فلياذ اللائذين بالمعاني المستورة الباطنة وراء النصوص، إن هو إلا ثغرة ينفذون منها إلى عقائد دينية أولى كانت لها السيادة بينهم قبل الإسلام، والمحتكمون إلى العقل - بتأييد من الفلسفة اليونانية والمنطق اليوناني - إنما هم في أعماقهم جماعة لا يقنعها أن «تؤمن» إيمانا ليس من طبيعته أن يسأل كيف؟ ولماذا؟ حتى لقد ذهبت الجرأة بأحدهم أن يقول: إنه إذا تبين أن ما نقبله على أساس الإيمان متفق مع ما يصل إليه العقل بمنطقه، فلماذا الإيمان إذن؟ وأما إذا تبين بينهما اختلاف، فلا يجوز أن نتنكر للنتائج العقلية حفاظا على الإيمان، والأمر لا يعدو أن يكون بين الإيمان والعقل اتفاق أو اختلاف، وفي كلتا الحالين حسبنا العقل ولا ضرورة توجب الإيمان.
فهذان فريقان: أحدهما يريد أن «يؤمن»، ولكنه إيمان بعقيدة مسبقة يظل يبحث عنها وراء النصوص حتى يجدها، والآخر لا يجد نفسه بحاجة إلى إيمان ما دام العقل يكفيه، وبين هذين فريق ثالث يلتمس لنفسه بر السلامة، فيستريح إلى شريعة يأخذها من ظاهر النصوص القرآنية والأحاديث، حتى ولو وجد في هذه النصوص متشابهات ومتناقضات. وأستطيع القول بصفة عامة: إن الفريق الأول كان هدفه السياسة من وراء الدين، وإن الفريق الثاني كان همه الثقافة، وأما الثالث فهو الذي أراد الدين لذاته ابتغاء الآخرة وجزائها. استطاع الطريق الأول أن يضيف إلى العقيدة الإسلامية أبعادا صوفية، واستطاع الفريق الثاني أن يضيف إليها أبعادا فلسفية، وأما الفريق الثالث فهو كمن يطيع القوانين طاعة لا ثورة فيها ولا تمرد ولا مراوغة ولا حفر وراء أعماق وأغوار.
وإنه ليلفت النظر - نظري على الأقل - ما بين الفريق الذي استبطن النصوص ليجد «الحقيقة» الروحية وراءها، وجمهور الناس في عصرنا الراهن من تجانس وثيق، فالروح واحدة، وإن اختلفت الأهداف. وإذا صح هذا الشبه بينهما جاز لنا القول عندئذ إن الجانب في حياتنا الفكرية الراهنة الذي يقابل جماعة الباطنية قديما، هم عامة الناس، فإنك لتلحظ الواحد من هؤلاء العامة كيف يسعده ويرضيه أن تكون وراء الظواهر حقائق روحانية تخفى على الأبصار، لكنها جلية أمام البصائر. وحين أقول «عامة» الناس، فإنما أدرج في هذه المجموعة طائفة كبيرة جدا من خاصة المثقفين، الذين لا يمنعهم علمهم من الاعتقاد بالخوارق التي تفعل فعلها في الخفاء، رضي العلم أو لم يرض. وإن الحديث ليستطرد بي إلى قصص طريفة، لو أردت أن أروي ما سمعته بأذني، لا أقول ما قرأته من علوم الفيزياء والكيمياء والرياضة والبيولوجيا، وفي الفلسفة ذاتها، من أحاديث يتحدثون بها وهم في نشوة الطمأنينة والرضا، ليزعموا لك كيف يسير «المؤمنون» على ماء البحر وكأنهم يسيرون على يابس، وكيف يخلق المعدمون منهم أكداسا من الطعام خلقا من عدم، وكيف تجري ألسنة الجهلاء المؤمنين بلغات لم يدرسوها، وهكذا وهكذا، فهؤلاء جميعا من عامة الناس في عصرنا، الذين أراهم يمثلون الفرقاء الثلاثة القديمة المتصارعة، مع فارق هام بين هذين الشبيهين لا بد من الإشارة إليه، وهو أنني أقصر وجه الشبه بينهما على عدم الاكتفاء بالظاهر، والبحث عن باطن يكمن وراءه، أما الأقدمون فكان مجال تطبيقهم لهذا الاتجاه هو نصوص التنزيل والأحاديث، وأما المحدثون من عامة الناس، فالأغلب أن يكون مجال التطبيق عندهم هو ظواهر الطبيعة. ونتج عن هذا الفارق نتيجة هامة، هي أن الأقدمين الباحثين عن الحقيقة الباطنة قد انتهوا في كثير من الحالات إلى بناءات فكرية لها قيمتها من الناحية النظرية، وأما المحدثون من عامة الناس، فإن اتجاههم هذا نحو باطن خفي وراء الظواهر، ينتهي بهم إلى خرافات كثيرا ما تفسد عليهم سلامة التفكير النظري إذا كانوا من أصحابه.
وأما أنصار العقل قديما وحديثا فهم جماعات المثقفين الذين يهتمون بالفكرة لذاتها، فهم لا يبدءون بفروض دينية - مثلا - ثم يحاولون أن يسلسلوا حجاجهم الفكري على طريقة تضمن لهم أن يصلوا إلى نتائج بعينها كانوا يريدون الوصول إليها منذ البداية، بل يبدءون ب «رغبة» في تحقيق طائفة من القيم، الحرية والمسئولية من أهمها، فكأنما هم يسألون أنفسهم: إذا أردنا للإنسان أن يكون حرا في إرادته وفي اختياره، فكيف نتصور هذا الموضوع أو ذلك، تصورا لا يؤدي إلى تقييد تلك الحرية التي نريدها له؟ ودور «العقل» عندهم هو في استنباط النتائج من تلك القيم الأولية المسلم بضرورتها. ويغلب على أنصار العقل هؤلاء أن يستمدوا أصولهم الثقافية من ينابيع الحضارة التي يكون لها الصدارة في العصر المعين. وكانت تلك الينابيع في العصر القديم هي اليونان وفارس والهند، وأما ينابيع عصرنا فهي أوروبا وأمريكا. وسنرى بعد قليل كيف تجيء الثقافات الوافدة في كلتا الحالتين - قديما وحديثا - فتصطدم بأفكار لا تتجانس معها، فينشق الناس عندئذ شقين: أحدهما يناصر الثقافة الوافدة لأنها منحدرة من حضارة لها صدارة، والآخر يتمسك بالأفكار المحلية السائدة رافضا ما يناقضها من ثقافات الآخرين.
Shafi da ba'a sani ba