63

Tajaribin Falsafa

تجارب فلسفية

Nau'ikan

5

وترجمت إلى كل اللغات الحية (ولها في الإنجليزية وحدها حتى الآن عشر ترجمات، فضلا عن ترجمتها أو ترجمة أجزاء منها إلى لغات قديمة - كالحيثية والحورية - تعد الآن من اللغات الميتة )، وأصبحت منبعا لا ينضب لإلهام المبدعين في الشعر والمسرح والقصة والموسيقى والباليه. ولا يتسع المقام لتتبع أصولها السومرية والشعبية الشفاهية، أو قصة تدوينها، واكتشاف شذراتها المختلفة، وحل رموزها ونشرها. ويكفي القول بأن هذا القصيد الشعري الكبير المكون من أحد عشر لوحا ملئت سطورها بالثغرات والفجوات بجانب لوح ملحق بها، ويشك في نسبته إليها، والذي اشتهر باسم ملحمة جلجاميش، أو بأول شطر في أول بيت فيه وهو «هو الذي رأى»؛ هو التشكيل الوحيد للأساطير وقصص المغامرات والحكايات الشعبية التي دارت حول شخصية جلجاميش، وتناقلتها الأفواه قبل تدوينها بمئات السنين، وأن جلجاميش نفسه - كما سبق القول - هو ملك مدينة أوروك السومرية (الوركاء) إلى الجنوب من بابل، وقد ذكره ثبت الملوك السومريين - المدون في بداية الألف الثانية قبل الميلاد - بوصفه الملك الخامس في ترتيب الملوك الذين حكموا هذه المدينة بعد الطوفان ، ونسب إليه بناء سورها العظيم الذي أشادت الملحمة بعظمته في بدايتها وخاتمتها، باعتباره أهم أمجاده التي كفلت له نوعا من الخلود المتاح للبشر بعد إخفاقه المأسوي في التوصل للخلود الذي تمناه وسعى إليه، واقتنع في النهاية بأن الآلهة قد استأثرت به دون البشر. ويضيق المجال عن الحديث عن الملحمة من ناحية تكوينها الفني، ومضامينها الفكرية، والدلالات التي يوحي بها شعرها وأحداثها وشخصياتها - وبخاصة شخصية جلجاميش نفسه - على مأساة الإنسان في وجوده القلق، وبحثه عن المعنى والمعرفة، وسؤاله عن سر الحياة والموت، وتصوره لدنياه وآخرته أو للعالم السفلي المخيف الذي لا رجاء فيه ولا رجعة منه، وسعيه الدائب لمعرفة نفسه وتحديد حدوده، وصراعه الأخلاقي مع الشر ومقاومته للموت، ورؤاه ومواقفه التي تتذبذب بين الاستغراق في نبع اللحظة الراهنة واغتراف كل ممكناتها (على نحو ما تمثلها شخصية «سيدوري» ساقية حانة الآلهة)، والتصميم على تحقيق حلم «يوتوبي» يعرف في النهاية أنه في حكم المستحيل، وكل هذا بجانب الشواهد العديدة على تفكير السومري والبابلي القديم، وأوضاعه التاريخية والثقافية والنفسية والاجتماعية، وتقاليده وحكمته وأحلامه ورؤاه التي تتنبأ بسلوكه وتوجهه، كما تكشف عن رعبه من أرض «اللاعودة» وأهوالها ، وحياته اليومية المنغصة بالقهر والسخرة والطاعة المطلقة للحاكم الإلهي أو المتأله، وللكهنوت ومجمع الآلهة الذي يحكم الكون والمدن، ويعين مندوبين عنه من صغار الآلهة للتوسط بينه وبين البشر، وعلاقاته السياسية والاقتصادية بجيرانه، وتمتعه بنوع من الديمقراطية البدائية التي تمثلت في وجود مجلسين للشورى من شيوخ أوروك وشبابها (الذين رجع إليهم جلجاميش، وسألهم الرأي والنصيحة أكثر من مرة)، وصلته بالآلهة الذين كان يخشى غضبهم وانتقامهم (مثل إنليل إله العواصف)، والآلهة الذين نعم بعطفهم وتعاطفهم (مثل إيا إله المياه الجوفية العذبة، وشمس إله الشمس والعدل)، وبدايات زحف الحضارة والمجتمع الحضري (ممثلة في جلجاميش وبغي المعبد)، على البداوة والمجتمع البدوي (ممثلين في إنكيد ووحش البرية)، بجانب لمحات قليلة عن علوم الحكمة العملية، كالسحر والتنبؤ وتفسير الأحلام وطقوس العبادة والتطهير من الأرواح الشريرة، وغير ذلك من الشواهد الدالة على تصور الرافدي القديم للعالم والبشر والقيم المختلفة.

ونأتي الآن إلى النبذة الموجزة عن الملحمة نفسها، مع التركيز على الأحداث والمواقف التي تلقي الضوء على طغيان بطلها، ثم تطهره المحتمل من الطغيان بعد ضياع نبتة الخلود من يديه. يبدأ العمود الأول من اللوح الأول بذكر مآثر جلجاميش، والإشادة بمعرفته وحكمته وإنجازاته في البناء والعمران؛ فهو الذي «رأى كل شيء في تخوم البلاد»، وعرف البحار، وأحاط علما بكل شيء، كما نفذ ببصره وبصيرته إلى أشد الأسرار غموضا. ولم يقتصر الأمر على امتلاك الحكمة والمعرفة بكل شيء، والاطلاع على المكنون، والكشف عن الخفايا، فقد قطع طريقا بعيدا، وجلب معه أخبار العهود السابقة عن الطوفان. ولما أصابه التعب ونال منه الإرهاق، نقش على نصب حجري كل ما خبره وعاناه.

6

وتعزف الملحمة من السطر التاسع حتى السطر التاسع عشر لحن الاستهلال الذي سيكون كذلك هو لحن الخاتمة، ألا وهو التغني بمنجزاته الحضارية والعمرانية التي خلدت اسمه في التاريخ، وفي مقدمتها سور أوروك المنيعة، ومعبد إنانا المقدس (وهي نفسها عشتار آلهة الحب والحرب عند البابليين): أمر ببناء سور أوروك المنيعة حول معبد إنانا المقدس وحرمها السني. انظر إلى جدار سوره الذي تتألق أفاريزه كأنما صنعت من نحاس. تأمل قاعدته، فليس لها في أعمال البشر شبيه، وتلمس العتبة الحجرية، الموجودة في مكانها من أقدم الأزمان. اقترب من إنانا، مقام عشتار، الذي لا يماثله عمل ملك لاحق ولا يدانيه عمل إنسان. واعتل كذلك سور أوروك. تمش عليه، اختبر أسسه، تفحص لبناته، أو لم تصنع من آجر مفخور، أو لم يضع الحكماء السبعة أسسه؟ (ل1، ع1، س9-19).

ويستطرد النص في الكلام عن جمال جلجاميش وقوته المخيفة. لقد أكمل الآلهة خلقه فأضفى عليه شمش إله الشمس والجمال، وحباه أدد إله الرعد والبطولة، حتى لقد بلغ طول قامته إحدى عشر ذراعا، وعرض صدره تسعة أشبار. وهنا نصل إلى السمة الأساسية التي يبدو أنها زينت له الطموح إلى الخلود الإلهي، والقدرة على تغيير المصير البشري المحتوم، كما بررت له قهر شعبه ليل نهار: «فثلثاه إلهي والثلث الباقي بشري، وهيئة جسمه شامخة، وخطاه مهيبة كالثور الوحشي. إنه يوقظ رعيته على دقات الطبول. لا يترك الابن لأبيه، ولا العذراء لحبيبها، ولا ابنة البطل ولا زوجة المحارب؛ ولذلك يثور أهل أوروك ساخطين، ويجأرون للآلهة بالشكوى والضراعة أن تخلق نظيرا له في البأس والقوة، فينشغلا عنهم بالصراع المستديم، وتستريح المدينة وتهنأ بالطمأنينة والسلام. والغريب أن هذه الشكوى تعبر في نفس واحد عن الخوف والإعجاب، ويمتزج فيها الحب والرعب، وكأن الضحية المغلوبة على أمرها لا تملك إلا أن تمجد الجلاد الغشوم؛ فهو راعيها، وهو مع ذلك قاهرها الظلوم» (ل1، ع2، س25). وتستجيب الآلهة لتضرعات شعب أوروك، فتأمر الربة آرورو، بأن تخلق ندا لجلجاميش ينافسه في الصراع لتستريح أوروك. وتخلق وحش البرية إنكيدو الذي يرعى الكلأ مع الغزلان، ويتزاحم على موارد الماء مع الحيوان، بشعر كثيف يكسو جسده كله، وشعر رأسه كشعر امرأة، وهو كذلك لا يعرف البلاد ولا يعرف الناس. وتصادف أن رآه صياد وهو يرد الماء مع الحيوان، فتجمد وجهه من الخوف، وشل لسانه، وذهب إلى أبيه، وقص عليه قصة الرجل الذي هبط من الجبال وقوته الجبارة تشبه قبضة آنو كبير الآلهة، وكيف حال بينه وبين صيده ، فردم الحفر التي حفرت، وقطع شباكي التي نصبت، «ونصحه أبوه أن يمضي إلى أوروك لينبئ جلجاميش «الذي لم يفقه أحد في قوته» بنبأ ذلك الرجل القوي الجبار، وليأمر له الملك بإحدى بغايا المعبد ليصحبها معه، فتغوي وحش البرية بفتنتها، وتتمكن منه بقوة المرآة التي تفوق قوة الرجل.»

وفعل الصياد ما أمره أبوه، وأعطاه جلجاميش البغي فرجع معها إلى البرية، وراحا يترصدان عند مورد الماء. ولما أن جاء إنكيدو مع رفاقه مع الظباء وحيوان البر كشفت له عن نهديها ومفاتن جسدها. وسرعان ما انجذب البطل الفطري إليها، وانغمس في التلذذ بمفاتنها ستة أيام وسبع ليال، واستطاعت البغي أن «تعلمه صنعة المرآة». وما إن شبع من التمتع بها، وتذكر المكان الذي ولد فيه بعدما أنسته المرآة إياه، حتى توجه إلى إلفه من حيوان البر ، فلاذت الظباء بالفرار عندما أبصرته، وأنكرته حيواناته التي تربت معه في البرية، كما سبق أن أخبر الصياد بذلك أبوه وجلجاميش. وأحس إنكيدو أن أشياء تغيرت فيه ولا يعرف كنهها بعد؛ إذ خذلته ركبتاه، وخارت قواه، ولم يعد قادرا على اللحاق بحيواناته المذعورة، فقفل راجعا وجلس عند قدمي البغي، وأخذ يتأمل وجهها ويصغي لكلامها. بدأت مسيرته إذن من الوحشية إلى الإنسانية، واكتسب الفهم وسعة الحس، واستجاب لدعوة البغي له بأن تأخذه معها إلى أوروك ذات الأسوار، حيث يعيش جلجاميش الكامل القوة والبأس، «الذي يجرب كالثور الوحشي قوته العاتية على الناس» (ل1، ع4، س39 وما بعدها)، بل لقد تعجلها الذهاب إلى هناك بعدما سمعه عن ظلم جلجاميش وعتوه، وأعلن أنه سيطلب منازلته ويعنفه في القول، وسيهتف مناديا في أوروك: «القوي هو أنا! متى دخلت مكانا غيرت فيه المصائر (أو النظم والقوانين)! إن المولود في البراري لذو قوة وبأس عظيم.» وكأنما تحاول الملحمة أن تقول إن قانون الفطرة النقي أقوى من عسف الحكام الطغاة، وإن عدل الطبيعة سيغلب ظلم المدينة. وأخذت بغي المعبد أو بالأحرى كاهنة الحب

7 «شمخات» بيد إنكيدو كما تأخذ الأم بيد طفلها، وعلمته السير على درب الإنسانية والتحضر. ولعلها أن تكون قد علقت عليه الآمال في الانتصار للمظلومين، وإنصاف شعبها وبنات جنسها من عسف الجبار الذي داس بقدميه كل القوانين والأعراف. أخذته معها إلى بيت الرعاة، وعلمته كيف يأكل الخبز ويشرب الشراب، وكيف يغتسل ويمسح جسده بالزيت ويتعطر بالطيب، ويرتدي ملابس البشر بدلا من جلود الأسود والحيوان، حتى لقد دفعه إحساسه بالتضامن معهم في الإنسانية إلى مطاردة الوحوش التي كانت تهدد حياة الرعاة، فاستطاعوا أن يخلدوا إلى الراحة والأمان.

وصل إنكيدو مع راعيته كاهنة الحب إلى أوروك، بعد أن سبقته إليها هواجس الإحساس بقدومه في حلمين رواهما جلجاميش على أمه نينسون الحكيمة العارفة بكل شيء، فطمأنته أن النجم والفأس المطروحة على طرقات أوروك - اللذين رآهما في منامه، وانحنى عليهما كما ينحني على امرأة، وتزاحم حولهما أهالي أوروك - هما الصديق الذي سيفرح به قلبه المضطرب الذي لم يذق طعم الصداقة، والرفيق الذي سينقذه في وقت الشدة. وأخذ إنسان البرية يتجول في سوق المدينة، فتجمع الناس حوله وراحوا يطيلون النظر إليه. رأوا فيه ند جلجاميش الذي تمنوه، وتوسموا فيه القوة والشجاعة لمنازلة الثور الناطح والبطل الجميل الحكيم، وهللوا مستبشرين بظهور البطل الذي سيشغله عنهم ويريحهم من بطشه. وتلاقى البطلان عندما كان جلجاميش يهم بدخول بيت آلهة الحب أشخارا (عشتار) للقيام بدور الزوج الإلهي في الزواج المقدس، الذي كان يحتفل به إيذانا بحلول الخصب والرخاء وإنبات الزرع. واعترض إنكيدو البطل ليمنعه من دخول المعبد، وغضب جلجاميش وهجم عليه، واشتبك الاثنان أمام الناس. سد إنكيدو الباب بقدمه، ومنع جلجاميش من الدخول. هناك أمسك كل منهما بالآخر وتصارعا كثورين. حطما عمود الباب وارتج الجدار، وعندما ثنى جلجاميش ركبته، وقدمه ثابتة في الأرض، انفثأت ثورة غضبه، وأدار صدره (ل2، س215-229)، وانتهى الصراع بغلبة جلجاميش واقتناعه في الوقت نفسه بقوة خصمه، وأراد أن ينصرف فكلمه إنكيدو، وأشاد بشدة بأسه وجدارته بالملك، وقبلا بعضهما، وعقدا أواصر صداقة يندر أن نجد لها مثيلا في الأدب العالمي.

وذات يوم كشف جلجاميش لصديقه إنكيدو عن رغبته في السفر إلى غابة الأرز؛ ليقطعا الشجر، ويقتلا المارد خمبابا الذي يحرسها من قبل إله العواصف الغضوب إنليل؛ وبذلك يستطيعان «أن يمحوا الشر من الأرض»، ويجلبا الخشب الذي كانت بلاده في حاجة إليه لإنجاز أعمال البناء والعمران. ويحذره إنكيدو - العليم بمسالك الغابة وأخطارها - من مغبة المغامرة بتلك الرحلة؛ حبا فيه، وصونا له من هول النزال مع خمبابا الذي يزأر وزئيره الطوفان، ونفسه الموت الزؤام، وفمه ينفث النار (ل2، س113-114). لكن جلجاميش أصر على المغامرة حتى ولو ذهب وحده، وأكد لصديقه ولأمه التي حذرته كذلك من عاقبة المخاطرة بنفسه أنه يريد أن يرفع اسمه، ولو سقط في النزال فسيقول عنه الناس: «لقد تجرأ جلجاميش على منازلة خمبابا الرهيب» (ل2، س149). وتمت الاستعدادات الواجبة للرحلة، وصنعت السيوف والدروع والفئوس، وذهب جلجاميش إلى مجلس شيوخ المدينة ليستأذنهم في السفر، ويخبرهم بعزمه على لقاء خمبابا الرهيب «الذي تردد الأفواه اسمه في البلاد»؛ لكي يصرعه، «ويسجل لنفسه اسما خالدا، ويثبت أن ابن أوروك قوي وشجاع» (ل2، س180-187). ويرفض الشيوخ أن يوافقوه على رأيه، ويحذرونه من الأخطار كما حذره صديقه وأمه، حتى إذا فشلوا أمام إصراره اضطروا لمباركة سفره والدعاء له بسلامة العودة، وأوصوا إنكيدو أن يسير في المقدمة ويحميه، ثم ذهب الصديقان إلى أم الملك الطموح، إلى المجد والشهرة وخلود الاسم، وباركته الأم الحكيمة، ودعت له الإله شمش الذي أعطاه قلبا مضطربا، وحثه على الرحيل في سفر بعيد، والدخول في معركة لا يعرف عواقبها لكي يمحو من البلاد كل شر يكرهه (ل3، ع2، س10-18). ثم أوصت به إنكيدو كما فعل الشيوخ، وقلدته عقدا من الجوهر النفيس ليكون موثقا منه وعهدا.

Shafi da ba'a sani ba