على مجالات شديدة التنوع كالأخلاق والقيم والمعرفة والاجتماع، كما طبقها على الأنثروبولوجيا والميتافيزيقا في فلسفته المتأخرة. وسنضرب الآن مثلين مختصرين على هذه الرؤية في المرحلة الوسطى من مراحل تفلسفه (وهي المرحلة التي أعقبت فصله من جامعة ميونيخ حوالي سنة 1910م، وقضائه ما يقرب من ثمانية أعوام من حياته كفيلسوف وكاتب حر، يعيش على كتاباته ومحاضراته العامة).
ونبدأ بتلخيص محاضرة ألقاها في برلين عن أشكال المعرفة والثقافة، ثم نقدم فكرة موجزة عن رؤيته للتاريخ، ومفهومه عن العوامل الواقعية والمثالية المحركة لأحداثه. يعتقد شيلر أن هناك ثلاثة أهداف عليا يمكن أن تحققها المعرفة، بل ينبغي عليها أن تحققها: الهدف الأول يتعلق بصيرورة أو بمستقبل الشخص العارف وازدهاره ونضجه، وتتكفل به المعرفة الثقافية. أما الهدف الثاني فينصب على معرفة مسيرة العالم أو صيرورته وأصله الأول أو علته الأولى؛ أي معرفة الله أو الموجود في ذاته، وهي المعرفة الدينية التي يصفها بأنها معرفة الخلاص أو النجاة. وأما الهدف الثالث فيتجه نحو السيطرة على العالم وتغييره لتحقيق المصالح والغايات البشرية، ويتجلى هذا في نمط المعرفة التي يسميها معرفة السيطرة أو الإنجاز العملي، التي يختص بها العلم الوضعي والمذهب النفعي، أو البراجماتية التي لا تضع نصب عينها هدفا غيره.
وإذا كانت ثنائية العقل من ناحية والحياة (أو الدوافع الحيوية) من ناحية أخرى، تسود فلسفة شيلر في آفاقها المختلفة، فإنها تثبت وجودها أيضا في هذه الأشكال الثلاثة للمعرفة والثقافة؛ فعلى الدوافع المتجهة إلى تحقيق القوة والهيمنة تبني المعرفة التي سميناها معرفة الإنجاز والسيطرة، وعلى أساس الشعور أو الإحساس القصدي والاندهاش أو التعجب تقوم المعرفة الثقافية، أما المعرفة بالخلاص والنجاة فتعتمد على الدافع الروحي لإنقاذ الوجود والمصير وضمان السعادة الأخروية. والمهم في هذا الهيكل المعماري كله أن الأنماط الثلاثة للمعرفة ترجع أصولها إلى الأنماط المختلفة للدوافع، وأن هذه الدوافع بدورها تتفاوت في مستوياتها؛ فمنها ما هو جسدي وبيولوجي، ومنها ما هو عقلي وروحي. والاندهاش أو التعجب الذي جعله شيلر أساس المعرفة الثقافية هو بالنسبة له، كما كان بالنسبة لأفلاطون، التعبير الانفعالي أو العاطفي عن هذا الأساس؛ ومن ثم فهو مبدأ التفلسف ومنبعه الأصيل. أضف إلى هذا أن شيلر لا يقصر مفهوم الدافع على التكوين الطبيعي والحيوي للإنسان، وإنما يرى على العكس من «أوجست كونت» أن أنماط المعرفة الثلاثة ليست مراحل متتالية في التاريخ البشري كما تصور فيلسوف الوضعية في نظريته أو قانونه الثلاثي المعروف (الأسطوري والديني، يتلوه الميتافيزيقي أو الفلسفي، ثم المرحلة الثالثة والأخيرة مع العلم الوضعي)، وإنما تنشأ نشأة مستقلة وأصيلة عن قوة دافعيتها الذاتية، ويمكن كذلك أن تتغير وتغير نفسها بحيث تكون طبقات ذات مستويات مختلفة من المعرفة الجماعية أو الاجتماعية. ويحاول شيلر أن يجيب على السؤال العريق : كيف نفهم التاريخ، وكيف نفسره عن طريق ما يسميه بالعوامل الفعالة التي تحرك مسيرته، وتتحكم في أحداثه؟ فهو يفرق بين «سوسيولوجيا» أو علم اجتماع حضاري أو ثقافي، وسوسيولوجيا أو علم اجتماع واقعي، وكلاهما يقع تحت مظلة ثنائيته الميتافيزيقية الأساسية التي سبقت الإشارة إليها؛ فالأول يقوم بالضرورة على نظرية عن العقل، والثاني عن نظرية عن الدوافع التي تحرك حياة الإنسان. والواقع أن شيلر يقترب في هذه الثنائية من المقولة الماركسية المعروفة عن البنية الفوقية والبنية التحتية، فيصبح علم الاجتماع الثقافي بمثابة البنية الفوقية، وعلم الاجتماع الواقعي ممثلا للبنية التحتية. ومع ذلك فليس للعوامل المثالية التي يتضمنها الأول ولا للعوامل الواقعية في الثاني، نفس القوة ولا نفس التأثير على مسار التاريخ الذي لا يستغني عن تفاعلهما معا. فالآفاق أو المجالات التي يمكن أن تنمو فيها العوامل المثالية هي التي تتيحها العوامل الواقعية؛ ولهذا كانت لها دلالتها ودورها السببي في تحديد مصير الواقع. وفي إطار تلك الأفاق والمجالات الواقعية يستطيع العقل أن يضع الأهداف والقيم، أما تحقيقها فهو أمر متروك للعوامل الواقعية. ولو حاول العقل أن يضع الأهداف والقيم خارج إطار المجال الواقعي لكان أشبه بمن بعض في الجرانيت أو يبدد قيمه وأهدافه في «يوتوبيا» وهمية. هكذا تتبين العلاقة الجدلية بين النوعين السابقين من العلاقات، ولا أمل في فهم مسار التاريخ العيني إلا إذا عرفنا ترتيب تلك العلاقات الواقعية والمثالية، وسياقاتها المختلفة، وتفاعلها المستمر؛ فالمجموعات الرئيسية للعلاقات الواقعية هي علاقات الدم، والقوة أو السلطة، والاقتصاد؛ وهي ليست علاقات ثابتة أو دائمة، وإنما هي متغيرات مستقلة يمكن فهمها وتقدير تأثيراتها خلال الحقب والمراحل التاريخية المتعاقبة.
هكذا ينظر شيلر إلى المفاهيم المختلفة للتاريخ والتأريخ نظرة نسبية؛ فلم تبدأ سيادة العوامل الاقتصادية على مجرى التاريخ إلا مع ارتفاع موجة العصر الرأسمالي المتأخر. ولا يعني هذا أنه يوافق على التفسير الماركسي، الذي يجعل العوامل الاقتصادية هي العوامل الأساسية والوحيدة التي تحرك مسار التاريخ؛ إذ يرى أن هذا التفسير الأحادي ينطوي على تعميم شديد، ولا يصدق إلا على العصر الرأسمالي. وأخيرا فقد وضع شيلر أسس فلسفته وطورها قبل نشوب الحرب العالمية الأولى وأثناءها، لكن محنة الحرب ألزمته بمواجهة التحدي بالمزيد من التطوير والنقد والمراجعة لتلك الفلسفة.
كانت السنوات الفارقة بين فصله من جامعة ميونيخ ونشوب الحرب العالمية الأولى ثم انتهائها، من أصعب السنوات في حياة شيلر، ومن أحفلها أيضا بالمشاركة والإنتاج الفلسفي والسياسي المتدفق. لم يكن من الممكن أن يقف فيلسوف التعاطف والمشاركة والناطق بلسان القيم موقف المتفرج من الانهيار الثقافي والحضاري، الذي سببته الحرب في ألمانيا وأوروبا بوجه عام، وأدى إلى تساقط القيم العليا التي نادى بها تحت سنابك «اللاقيم» النفعية والاستغلالية، التي ارتفعت أصواتها وأخطارها مع زحف الرأسمالية. حتمت عليه طبيعة المحارب الذي تجيش نفسه بالانفعالات المضطربة إلى حد التمزق، أن ينخرط بل أن يغوص بكل كيانه في محنة القيم التي تمر بها الحضارة والثقافة الأوروبية والمسيحية، وذلك عن طريق «المشاركة» التي تعبر عن أهم مبادئ فكره، وتمثل في وقت واحد سقف وجوده ودعامة حياته. وكان من الطبيعي أن يشارك زملاءه المتينين لفلسفة الظاهريات الجديدة في تحرير المجلة الناطقة باسمها والمروجة لأفكارها، منذ أن بدأت في الصدور سنة 1913م، وهي «حولية الفلسفة والبحث الفينومينولوجي»، لكن تدفق بحوثه وإلحاحه على نشرها بأكملها في المجلة (مثل تحليل التعاطف، وقيم الحياة ومكانها في ترتيب القيم، إلى جانب كتابه الأساسي الذي انتهى منه في تلك الفترة، وهو النزعة الشكلية في الأخلاق والأخلاق المادية) أوقع شيئا من الجفوة بينه وبين مؤسس الظاهريات، الذي لم يسمح له بنشر أكثر من مائة صفحة! وكشف عن الاختلاف الشديد بين طبيعتهما، وتراكم الثلوج على دروب العلاقة بينهما. أثبتت اهتمامات شيلر خلال محنة الحرب أن الفيلسوف الحقيقي لا يمكنه أن يعيش أو يفكر بعيدا عن أزمات عصره، وأن فيلسوف القيم لا يستطيع أن يقف مكتوف اليدين أمام تصاعد الفردية والأنانية والتدهور والانحلال الأخلاقي والروحي وانهيار القيم الحقيقية. وبدأت مواجهة المحنة، والدخول في الحوار النقدي معها بتطوعه للانخراط في السلاح الجوي، ثم رفض قبوله فيه بسبب إصابة عينيه بالانحراف البصري «الاستجماتيزم»، وضعفه الصحي العام. وكان أول كتبه المعبرة عن معاناته لمأساة الحرب هو كتابه «مارد الحرب»، الذي تعمد أن يوجهه للرأي العام، ويتجاوز فيه دائرة الفئات الثقافية والفلسفية المحدودة. وسرعان ما ارتفعت أصوات التأييد والمعارضة بعد صدور الكتاب بقليل؛ فقد أثار الغضب والاحتجاج لدى عدد من الأدباء والمفكرين اليهود، مثل ماكس برود وفرانز فيرفل وأرنولد تسفايج ومارتن بوبر، ولكن الأصوات المعارضة لم تمنعه من المثابرة على استخلاص عالم القيم السائد التي تكمن وراءها. والظاهر أنه استطاع بالرغم من بعده عن ميادين القتال، وانعزاله في ذلك الوقت بالقرب من بحيرة تيجر، أن يعبر عن آراء الكثيرين الذين انهالت عليه رسائلهم المؤيدة، والذين وقعوا مثله ضحية الوهم الحالم والمدمر بأن الحرب يمكن أن تطلق الطاقات الحيوية والإبداعية من أسر التحجر والجمود، بيد أن سحر الانجذاب والانبهار بنيران الحرب وضجيج المدافع والطائرات، سرعان ما ذبلت شعلته المتأججة التي جعلت الفيلسوف في الكتاب المذكور يرحب بالحرب، ويتصور أنها قوة قادرة على إنقاذ أوروبا من التخلف والتدهور الأخلاقي، الذي زحف عليها مع زحف الرأسمالية بقيمها وأشكالها الاجتماعية، كما توهم كذلك قدرتها على الكشف عن قوى أخلاقية جديدة في إطار حضاري جديد. وجاء كتابه التالي «الحرب والبناء» لينظر إلى «مذبحة الشعوب» وكأنها صيحة التجديد الكامل والثورة الشاملة للحياة الأوروبية بأسرها. ويعترف الفيلسوف بأن من الصعب وسط الفوضى السائدة أن يتعرف الإنسان على أي معنى سياسي أو اقتصادي للحرب، لكن المؤكد أن هذه الحرب تضع الأوروبيين تجاه واجباتهم ومسئوليتهم عن التطهر والندم والتوبة والإنابة إلى التجدد الروحي. هذه المسئولية تقع في رأيه على عاتق الكاثوليك الألمان، الذين يطالبهم بأن يضعوا أيديهم في أيدي الكاثوليك الأوروبيين لتحقيق البعث الأخلاقي والروحي الجديد. لا شك في أن هذه الأوهام الرومانسية القاتلة، وهذه النغمة الإيمانية الدافئة، تعبران عن عمق التجربة الدينية في المرحلة الكاثوليكية من حياة شيلر، وهي المرحلة التي بدأت منذ أن كان صبيا في المدرسة وتم تعميده، كما سبق القول سنة 1899م، في دير القديس أنطوان ، ثم بلغت ذروتها في تفانيه في تلك التجربة، وزياراته المتكررة للأديرة المختلفة، وإعلائه من شأن القيم الدينية العليا المتجسدة في القداسة والقديسين، إلى الحد الذي جعل الكنيسة نفسها تعتبره من أهم المفكرين الكاثوليكيين، وتكلفه مع بعض القوى السياسية والحزبية، بل وبدعوة صريحة من المسئولين في وزارة الخارجية، بالسفر إلى بعض المدن والعواصم الأوروبية، مثل بيرن فيينا والهاج، لإلقاء المحاضرات فيها، وتعبئة الجماعية الكاثوليكية لتكون يدا واحدة وصفا واحدا وراء دولة الرايخ المنهارة، ومواجهة القوى المتحالفة ضدها في الحرب. والثابت أن شيلر كان على اقتناع تام، أثناء تلك المرحلة الدينية التي غاص في قيمها وطقوسها بعمق وإخلاص شديدين، بأن الكاثوليكية تملك القدرة والإمكانيات اللازمة لمكافحة الرأسمالية بقيمها الفاسدة وأشكالها الاجتماعية المنحلة. وفي هذه المرحلة أيضا تمكن الفيلسوف من تطوير فكرته عن الاشتراكية المسيحية، التي أصبحت بعد ذلك وبفضل ريادته تيارا فلسفيا شديد القوة والتأثير على الساحة الفكرية والأخلاقية من ناحية، وفي مواجهة الرأسمالية وتحدي «لاقيمها» من ناحية أخرى. وقد تمخضت هذه المرحلة عن بعض أعماله ذات الطابع القومي والتربوي الواضح: أسباب كراهية الألمان، الندم والبعث الجديد، فكرة الحب المسيحية والعالم المعاصر، التعمير الثقافي - أو الحضاري - لأوروبا، وغيرها من المقالات التي شارك بها أثناء الحرب في المجلة الكاثوليكية «هوخلاند»، بجانب المحاضرات التي ألقاها في برلين وغيرها من العواصم الأوروبية، وكادت أن تحوله إلى داعية الكنيسة الكاثوليكية، ومروج لأفكار السلطة التقليدية الحاكمة والمنهارة، واللسان الناطق باسمها. ولا بد أن الفيلسوف قد مزقه هذا النشاط السياسي الذي تورط فيه بإرادته أو بطيبته وحسن ظنه شر ممزق، ولكنه بقي على وعي دائم بضرورة الفصل بين تجربته الدينية وتجربته العلمية والفكرية، ولكم سعى في هذه المرحلة للتوصل إلى شغل كرسي في إحدى الجامعات؛ لعله يتيح له العكوف على عمله العلمي البحت، ويخلصه من الضياع في دوامة الحياة العامة الملفقة والمغرقة!
وعندما وصلته الدعوة للعمل في معهد العلوم الاجتماعية في مدينة كولونيا، وجدته مستغرقا في بحث «لم يكتمل أبدا!» عن الاشتراكية المسيحية كقوة مضادة للروح الرأسمالية. كان ذلك بين سنتي 1919 و1920م؛ أي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بعدة سنوات، ولكنه لم يكن أول بحوثه التي حلل فيها الروح الرأسمالية تحليلا نقديا شاملا، وحمل نظام القيم فيها مسئولية الفساد الذي سبق نشوب الحرب، وكان كذلك من أهم العوامل تأثيرا في اندلاع نيرانها. وكان قد سبق لشيلر أن نشر في سنة 1914م ثلاثة بحوث تحت العناوين الثلاثة التالية: البرجوازي، والبرجوازي والقوى الدينية، ومستقبل الرأسمالية. وفيها يبين أن الروح الرأسمالي هو السبب الأول في قيام النظام الاجتماعي الرأسمالي وليس العكس؛ ذلك أن الرأسمالية في تقديره ليست مجرد نظام اقتصادي يحدد توزيع الملكية، وإنما هي قبل كل شيء نظام شامل للحياة والحضارة والقيم المقلوبة على رءوسها؛ نظام يستطلع في الأفق علامات انهياراه وبوادر انحسار روحه القديمة، التي ستملأ مكانها روح أخرى جديدة تقوم على قيم أخرى جديدة. بيد أن الحرب انتهت، ولم تنحسر الروح الرأسمالية، ولا تراجعت الاضطرابات السياسية والاجتماعية والأخلاقية، التي تسببت فيها عبر السنوات التي أعقبت الحرب. صحيح أنه لم يتخل أبدا عن موقفه الرافض للرأسمالية ونظامها القيمي، ولم يتوقف عن حواره النقدي مع ماركس والماركسية، ولكنه بدأ يتشكك في إمكان تجاوز الرأسمالية في المدى القريب؛ ولذلك تبنى شعار الاشتراكية المسيحية، وأخذ يدعو لها على أمل أن تكون هي النقيض للرأسمالية من ناحية، والبديل عن البلشفية من ناحية أخرى. «إن القدر المفزع الذي يئن منه الآلاف من الناس هو الذي يوصف بكلمة «الرأسمالية»؛ فالرأسمالية نوع من الطاعون أو الوباء الذي يموت بسببه الطبيب المعالج قبل أن يقترب من المريض الذي أصيب به.» ولهذا يتفق شيلر مع ماركس في أن الرأسمالية ليست في المقام الأول مقولة اقتصادية، وإنما هي مقولة اجتماعية يتحتم فهمها فهما تاريخيا عاما وغير محصور في التاريخ الاقتصادي وحده؛ ولذلك كانت تحليلاته لما سماه الروح الرأسمالية متسقة مع نظريته المبكرة عن القيم والدوافع، بحيث أصبح نظام المجتمع الرأسمالي - كما سبق القول - نتيجة مترتبة على الروح الرأسمالية وليس العكس؛ ومن ثم تكون النتيجة الطبيعية لتراتب القيم، كما تصوره شيلر، أن يصبح السعي إلى الربح من أجل الربح ذاته، وهو ما يعبر عن جوهر الرأسمالية كموقف روحي أو عقلي من العالم، لا مجرد حقيقة اقتصادية أو تطورا فاسدا للبشرية، وقلبا للتراتب الموضوعي للقيم كما عرضناه من قبل. أضف إلى هذا أن مقولة الرأسمال والرأسمالية، كما فهمها ماركس، يمكن أن تفسر النظام الفاسد للقيم والحضارة في العصر الرأسمالي وفي التاريخ الغربي، لكنها تعجز عن تفسير عصور ونظم اجتماعية سابقة على هذا العصر الرأسمالي الأوروبي والأمريكي، الذي يحدد بدايته بحوالي سنة 1885م لا تزال تئن تحت سطوة الاستعمار في الهند ومصر على سبيل المثال؛ ومن ثم تصبح محاربة الرأسمالية هي السبيل الوحيد لمنع نشوب حرب؛ أي مذبحة جديدة للشعوب، أو وباء يمكن أن يعدي البشر أجمعين. هنا بالتحديد يتأكد الدور الذي حاول شيلر أن يلقي تبعته على أكتاف الاشتراكية المسيحية والمسيحية الكاثوليكية بوجه خاص؛ فهذه الاشتراكية يمكن أن تكون هي الطريق الثالث بين الإمبريالية العالمية للبروليتاريا من جهة، والرأسمالية الليبرالية من جهة أخرى، شريطة أن تقوم الكنيسة بتبني الاتجاهات المعادية للرأسمالية بين الشباب، وأن تكف عن مغازلة النظام الرأسمالي الذي لا تنفك تخطب وده بين الحين والحين. بهذا تقف هذه الاشتراكية المسيحية القائمة على فكرة الفداء والتضحية للآخرين، وعلى تضامن الكل من أجل الكل، تقف ضد دكتاتورية أي طبقة، وضد جميع أشكال الإمبريالية، سواء كانت رأسمالية أو اشتراكية. ومن المفارقات العجيبة أن يتطلع شيلر في هذه المرحلة من تفكيره إلى رؤية بابا «الكنيسة» الكاثوليكية على رأس هذه الاشتراكية المتدينة، مع أن الأيام أثبتت أن هؤلاء البابوات كانوا، ولم يزالوا حتى اليوم، هم الخدم المخلصين للرأسمالية وأطماعها العنصرية والتوسعية التي لا تقف عند حد. ومن حسن حظ شيلر، أو من سوء حظه لا أدري، أنه لم يقدر له أن يعيش حتى يرى اشتراكيته المسيحية القائمة على القيم الإنسانية الرفيعة، تتحول إلى اشتراكية الوطنية (أي النازية)، التي جعلت وطنه في النهاية مسرحا تتدفق فيه دماء شعبه الذي تتصارع عليه جيوش الشيوعية والرأسمالية. ولا شك في النهاية في أن دعوته للاشتراكية المسيحية خلال فترة إيمانه بالكاثوليكية، لم تأت فحسب من منبعها الحقيقي، وهو فلسفته في الحب والشخصانية ونظام القيم، وإنما ارتبطت كذلك بطموحه لبعث التراث المسيحي الأصيل القائم على المحبة والتضحية والإيثار؛ تدعيما لتلك الفلسفة ذاتها وسندا لها.
ويدخل شيلر مرحلة جديدة من حياته ونشاطه الفلسفي القلق الجياش كالبحر الثائر، مع افتتاح الجامعة الجديدة في مدينة كولونيا ومعهد البحوث الاجتماعية بها. كان كونراد أديناور، الذي قاد السفينة الألمانية بعد تحطمها في الحرب العالمية الثانية، هو عمدة هذه المدينة الذي أراد أن يجعل منها عاصمة ثقافية لمنطقة «الراين» بأسرها. ويبدو أن شدة إعجابه بشيلر، ونشاطه الهائل في بث الروح الكاثوليكية وتأصيلها والدعوة إليها في مواجهة التيارات الرأسمالية والاشتراكية، هي التي دفعته للإصرار على استدعائه للحضور إلى المدينة، إلى حد الربط بينه وبين افتتاح جامعتها ومعهد البحوث السابق الذكر بها. ولبى شيلر الدعوة الملحة، وأصبح رئيسا لأحد الأقسام الثلاثة بذلك المعهد، الذي روعي في اختيار رؤساء أقسامه الثلاثة أن يكون أحدهم كاثوليكيا، والآخر ليبراليا، والثالث من الديمقراطيين الاشتراكيين.
وانتظر الجميع من شيلر أن يواصل نشاطه الكاثوليكي، أو بالأحرى أن يكون بوقا للكنيسة، لكن تصميمه على أن يكون هو نفسه، وأن يسير على دربه، سواء في حياته الخاصة أو في فلسفته، جعله يخيب الآمال التي عقدها الكثيرون عليه من ناحية، وزاد إصراره على الصدق مع نفسه من ناحية أخرى. إنه يؤكد، في إحدى رسائله إلى زوجته مريت، أنه لن يستطيع أبدا أن يقدم على فعل شيء ترفضه مشاعره الصحيحة، أو يتعارض مع حقيقته وكيانه الحميم، حتى ولو أدى ذلك إلى تعاظم محنته الخارجية أو المادية. ولعل هذا الإصرار على الصدق مع النفس هو مبعث الإشعاع القوي الذي قاضت به بحوثه ومحاضراته ومشروعاته، في تلك الفترة المتأزمة من حياته في عاصمة بلاد الراين؛ ففي هذه الفترة العصيبة جمع بحوثه ومقالات في فلسفة الدين سنة 1921م في كتاب بعنوان «عن الأبدي في الإنسان». كان لهذه البحوث والمقالات صداها القوي في العالم الكاثوليكي، وكان شيلر نفسه لا يزال على إيمانه بإله التوراة والإنجيل، الذي اعتبره الأساس الأعمق والأسمى للوجود العام ولوجوده الخاص. لكن هل كان هو نفسه يعلم شيئا عن تحولاته المفاجئة؟ هل كان يدري أنه سينغمس بعد ذلك في بحوث ودراسات متنوعة في فلسفة الاجتماع والعلوم الطبيعية، وأنه سيبدأ بشكل جاد في التخطيط لمشروعيه عن الأنثروبولوجيا الفلسفية وعن الميتافيزيقا، وتدوين شذرات منهما لم يقدر لها أن ترى النور إلا بعد رحيله، بما يقرب من نصف قرن من البدء في نشر أعماله الكاملة؟ وكيف كان له أن يحدس بما ينتظره أثناء وجوده وعمله في كولونيا، وما لقيه فيها من أزمات شخصية وتحولات فلسفية، زلزلت كيانه وهزت صورته أمام الناس؟
كم كانت حياته الجديدة في مدينة كولونيا أشبه بحياة ذكر النحل البائس المجد وسط الخلية المزدحمة بالنشاط والصراع والطنين! وكم تضاعف حنينه إلى التفرغ والعكوف على البحث والكتابة، بعدما وجد نفسه داخل شبكة كثيفة من العلاقات مع أعلام عصره! لا شك في أن حيويته الفياضة، ونزوعه الفطري إلى الانغماس في الواقع المحيط به، وإيمانه القوي بأن المفكر الحقيقي إنما يستمد مادة فكره من ثقافة عصره ومشكلاته وقضاياه الملحة وأحداثه، حتى اليومية منها. لا شك في أن هذا هو الذي دفعه للانخراط في علاقات حميمة مع أعلام عصره على اختلاف اتجاهاتهم واهتماماتهم، وتنوع إنتاجهم وإبداعهم. وتتملكنا الدهشة إذا عرفنا أسماء هؤلاء الأعلام الذين حرص على التواصل معهم والحوار معهم، وإذكاء شعلة فكره المتوهج على ضوء أفكارهم والتعلم منهم، وتشجيع الشباب الواعد ورعايتهم. ويمتد قوس هؤلاء الأعلام من الفلاسفة المحترفين والشعراء ونقاد الأدب والفن، إلى الموسيقيين والمصورين وعلماء النفس والفيزياء واللاهوت، إلى جانب البسطاء من الناس العاديين، الذين كان يحلو له أثناء أسفاره العديدة أن يتحدث معهم، ويتعرف على آرائهم وهمومهم، سواء في محطات السكك الحديدية والمطاعم والمقاهي والشوارع، أو حيثما وجد ما يثير أمواج فكره، ويستوحي منه مادة تفلسفه، ويزيده قربا من الإنسان الذي شغل على الدوام بالسؤال عن ماهيته وموقعه من الكون والكائنات من حوله.
17
Shafi da ba'a sani ba