لا حاجة بنا إذن إلى بيان أهمية المنهج ودوره في العلم والحياة ؛ إذ اقتصر حديثنا في مجمله على الجانب الإبداعي المتمثل في نقطة بدايته. وعلى الرغم من أن ضيق المجال لن يسمح بالتعرض للظروف التاريخية والحضارية - المواتية أو غير المواتية - التي يبدأ فيها، فإن اللحظة التاريخية والحضارية التي نحياها اليوم تلزمنا بالالتفات إلى واقعنا العربي، الذي يكاد يصرخ مطالبا بمصباح المنهج الكفيل بتبديد ظلماته وتخطي عثراته ونكباته، وما دام الحديث منصبا على بداية المنهج دون تفصيلات بنائه وتطبيقه ونتائجه، فسوف نقتصر في نهاية هذا المقال على هذه البداية وشروط تحقيقها، والعقبات التي تحول دون هذا التحقق على الصورة العلمية المبدعة التي يسعى إليها المتفلسف، أو على الصورة الفعالة المغيرة التي ينتظرها المواطن، ويعول عليها في الاستجابة لمطالبه الحيوية والإجابة على الأسئلة المصيرية التي تحيك في صدره بشكل غامض، وتؤرق المتفلسف - أو ينبغي أن تؤرقه - بشكل عقلي حاد. وطبيعي أن نكتفي بطرح مجموعة من الأسئلة وإلقاء بعض الإشارات؛ لأن القضية أكبر من أن نواجهها ببعض الإجابات الجاهزة، والمشكلة أخطر من أن نحسمها ببعض «المناهج» التي يتصور أصحابها أنها مطلقة اليقين؛ فالواقع الذي بلغ في الشهور الأخيرة ذروة تأزمه وتناقضه، وما يزال عرضة للمزيد من التأزم والتناقض، لا يمكن أن يتمخض فجأة عن إبداع أو مبدع معجزة، ولا بد أن يلقي الأمر على كاهل كل المتيقظين لعمق الأزمة ومداها، المشفقين على مصير حضارة يتهددها الانقراض والإبادة المعنوية والمادية، ولا مفر من أن يدور حوله حوار عام وشامل، وأن يكون حوارا نقديا حرا، يؤمن كل مشارك فيه بأن على النقد أن ينقد نفسه، وأنه ما من نقد يعلو على النقد.
من الطبيعي أن يكون «القلق المنهجي» هو أعلى اشكال القلق التي تمور بها نفوسنا القلقة، ولا مراء في أن هذا القلق ليس ابن اللحظة الحاضرة؛ إذ إن عمره قريب من عمر النهضة العربية الحديثة، والسؤال عنه والحاجة إليه مستعرة منذ ما يقرب من قرنين على أقل تقدير. ويمكننا القول - دون مجاوزة أو وقوع في المبالغة - إن مشكلة المنهج تختمر في ضمير أمتنا منذ عصر التدوين إلى ما يسمى بعصور الانحطاط. غير أنها قد تحولت عند المعاصرين إلى قلق متسلط؛ فذهب البعض إلى أننا نعاني من غيبة المنهج ومن الفراغ المنهجي،
46
في حين رأى البعض الآخر أن سبب المصيبة هو الفوضى المنهجية، والصراع المحتدم بين المناهج المتعددة (النابعة من ثقافتنا أو المستعارة من ثقافة الآخر)، ونادى فريق ثالث بمنهج قومي مستقل، تمثل في «مشروع نهضوي» كثر الحديث عنه في السنوات الأخيرة. ولما كانت الفلسفة - كما علمنا هيجل - هي ابنة عصرها وزمانها، وكان الفيلسوف هو الذي يبلور في نسقه الفلسفي ثقافة عصره وزمانه، ويضع أمامه المرأة الفكرية التي تعكس وتكثف معالم واقعه الحقيقي وتنقده في وقت واحد؛ فإن «المتفلسف» العربي - الذي اتخذ في الأغلب الأعم صورة المصلح الديني والاجتماعي والعقلي المستنير - لم يقصر منذ مطلع النهضة في أداء دوره المنهجي. والنتيجة - باختصار شديد - أن تزايد عدد «المناهج» (بغض النظر عن كونها تستحق هذه التسمية أو لا تستحقها!) واشتد تراوحها بين قطبي القديم والجديد، والمنقول والمعقول، والتراث والحداثة، والمحافظة والثورية، والاتباع والإبداع، إلى آخر هذه الثنائيات الباطلة التي لم تعدم من يحاول التوفيق بينها في الصيغة المشهورة عن «الأصالة والمعاصرة»، وكان من الطبيعي كذلك أن يكثر التأليف والكتابة عن المنهج والمنهجية، وأن يتوالى ظهور الدراسات الجامعية عن مناهج البحث في العلوم المختلفة، وتعقد الندوات والمؤتمرات لمناقشة مشكلة المنهج، ويصبح الحديث عن المنهج عن كل قلم ولسان، وكأن الجميع يؤدون طقوس التكفير عن ذنوبهم في حقه. تعددت كذلك محاولات الأخذ بالمناهج الفلسفية الغربية المعاصرة، وتأصيلها وزرعها في التربة العربية، ومحاولات تطبيقها وتجربتها في دراسة تراثنا القديم، أو في تحليل بعض قضايانا ومواقفنا ومشكلاتنا على ضوئها وبأدواتها المنهجية، وكان أن جربت كل الفلسفات والمنهجيات الغربية ولم تزل تجرب؛ من وضعية ومثالية ووجودية وشخصانية ومادية جدلية، إلى تحليلية وعقلانية نقدية وظاهراتية وتأويلية (فينومينولوجية وهيرومينويطيقية) وبنيوية بمختلف اتجاهاتها حتى التفكيكية. ولا شك أن هذه كلها جهود طيبة تستحق التقدير والعرفان، كما تنتظر المراجعة النقدية الشاملة التي تبين ما لها وما عليها، وتكشف عن مدى نجاحها أو إخفائها، وإنتاجها أو عقمها، وقدرتها على التأثير على الوعي وتغيير الواقع وتنويره، أو إخفاقها على مستوى النظر أو مستوى العمل أو كليهما معا. وإذا كانت كل هذه الجهود المشكورة تبعث على الرضا والإعجاب، فإنها في الوقت نفسه تضاعف من القلق والحيرة والبلبلة! ذلك أنه إذا جاز القول بأن القلق المنهجي علامة صحة وعافية على الصعيد المعرفي والحضاري، فمن الصحيح كذلك أنه يعيدنا إلى مشكلة أكبر، وهي مشكلة أزمتنا الحضارية وتناقضها الأساسي، فما حقيقة هذه الأزمة؟ وما طبيعة هذا التناقض؟
47
لا يسع الكاتب العربي الذي يتحدث عن الأزمة والتناقض، أن يمر مرور الكرام على الأزمة الأخيرة التي زلزلت وجوده ووجود الملايين من أبناء أمته. ولأن كلمة الأزمة أصبحت مبتذلة مستهلكة، فإنها تستحق أن تسمى محنة المحن وكارثة الكوارث (هنا حذفت المجلة صفحة كاملة عن المحنة الأخيرة).
48
فإذا نظرنا الآن في التناقض الأساسي الكامن وراء ما حدث، وجدنا الآراء تختلف بالضرورة حول طبيعته وصيغته، ووجدتني أجازف بتصوره ووضعه على هذه الصورة: إنه التدمير الذاتي المتصارع مع الوعي بضرورة التقدم. وسوف يتساءل القارئ على الفور: أليس هذا هو تناقض ازدواجية القول والسلوك المعروفة عن العرب منذ القدم، ولا شأن له بالتناقض العقلي الذي شرحت أشكاله وأسبابه من قبل؟ أليس صورة من صور الفصام الذي أشرت إليه منذ قليل، ولا يمكن أن يكون تعبيرا عن الصراع المستمر بين القديم والجديد، والرجعي والثوري، والماضي المشرق المزدهر، والحاضر الذي ليس حاضرنا، ولكنه حاضر الغرب الأوروبي الذي يفرض نفسه كذات للعصر كله وللإنسانية جمعاء،
49
أم تراه تعبيرا آخر عن الصراع الطبيعي بين قوى البناء والحياة وقوى الهدم والموت، أو عن التضاد المشهور في مفهوم ابن خلدون بين قوة العصبية ورخاوة الحضارة؟ وهل يصلح هذا التناقض لتفسير «شقاء الوعي العربي» واغترابه، ومحاولات تغييبه وتزييفه طوال تاريخه وفي لحظته الراهنة؟ وأخيرا ماذا يمكن أن يعنيه للإبداع الفلسفي أو غير الفلسفي؟ وكيف تتوقف الفلسفة - وهي التي اتجهت دائما نحو الكل والعام والمطلق والحقيقة - عند أزمة مهما تكن قسوتها؛ فهي جرح لن يلبث أن يندمل، وشدة عارضة لا بد أن تنفرج؟
Shafi da ba'a sani ba