141

Tajaribin Falsafa

تجارب فلسفية

Nau'ikan

ربما ارتبط كل ما سبق ب «ثابتين» آخرين لا أظن أن المقام سيسمح بالتوسع في الحديث عنهما: الأموات من الآباء الذي تعلمت منهم وعشت معهم أكثر مما عشت مع الأحياء، وأصدقاء العمر الذين صحبتهم وصحبوني أكثر من أربعين سنة، وكانوا وما يزالون هم الأحياء والمعلمين.

أما الأموات فأخطئ لو سميتهم الأموات. إن عيونهم ترمقني وتطل علي - وربما ترثى لي! - من طيات الكتب التي تحيط بي، وتحاصرني أنا وزوجتي وطفلي من كل ناحية، وهم يشجعونني ويردون على أسئلتي، ويقدمون لي الحب والوفاء والأمان كلما بخل علي بها أقرب الناس في هذا الزمان. والأهم من ذلك أنهم وحدهم يقفون بجانبي في هذا الوقت الذي اشتد علي فيه الشعور بالمحنة والأزمة؛ أزمة وطني وتاريخي وحضارتي، لا أزمة شخصي العرضي الزائل لا محالة. وهم في الغالب فلاسفة شعراء وشعراء فلاسفة، ألجأ إليهم دائما، وأنهل من منابعهم كلما جعت وعطشت للحكمة والسلوى والحب، وكلما ضعت في متاهة الواقع المتخلف، والتمست الخيط الهادي للخروج.

يخجلني أن أذكر أسماءهم، أو أحدث القارئ عن تجاربي معهم، لا سيما وأن هذه التجارب ما زالت قليلة الشأن ومتواضعة الحال. والأهم من ذلك أن لقائي بهم نابع من الأزمة، وأنني أزداد مع الأيام يقينا بأن التحولات والإنجازات والإبداعات الكبرى (في الفلسفة والأدب والفن والعلم) وراءها أزمات تاريخية واجتماعية ووعي أكبر بهذه الأزمات. وليتنا اليوم، ونحن في زمن المحنة، نتعمق هذه الفكرة، ونستمد منها الوقود الضروري للإبداع على كل المستويات! وليتها تعلمنا أن نراجع كل شيء، ونبدأ كل شيء من الصفر.

أما أصدقائي الذين كانوا وما زالوا أساتذتي، فيخجلني، وأنا واحد منهم، أن أتحدث عنهم بالتفصيل. وماذا أقول عن أصدقاء «الجمعية الأدبية المصرية» الذين شرفوني بالانتماء إليهم، وسكت النقد حتى الآن عن دراسة دورهم في حياتنا الأدبية دراسة جادة منصفة؛ ربما لأنهم غير أيديولوجيين - وإن لم ينغلقوا دون الأيديولوجيات - أو لأن الأغلبية الغالبة منهم قد تخلت كما قلت عن كل العروش. ومع ذلك لن أستطيع أن أمنع قلمي من تسجيل أفضالهم عليه وعلي. صلاح عبد الصبور الذي جرى شعره في عروقي مجرى الدم، وفتح القلب والعين على الزمن الجريح، وعلى رماح الاستبداد وفرسانه المهزومين. وفاروق خورشيد الذي علمني حب الأدب الشعبي واستلهامه، كما لقنتني شجاعته وكبرياؤه في مواجهة محنته دروسا في الصمود حتى تجلى الحق وتوج بالتقدير. وعبد الرحمن فهمي الذي نهلت من نبعه حكمة لم أجدها في كتب الحكمة، ولا عند أحد من أدعيائها الرسميين. وشكري محمد عياد وأحمد كمال زكي وعز الدين إسماعيل، الذين جسدوا المركب النقدي النادر من العلم والإبداع، وغيرهم من الزملاء والأصدقاء الذين لن يجحدهم غبار المعاصرة والمعاصرين مما يستحقونه في ميزان العلم والإنصاف.

وتبقى «البومة الحكيمة» - كما وصفت نفسها في مكان آخر! - شاهدة على خرائب العصر ومحتجة عليها، محاولة أن تقوم بدور النذير والبشير الذي قام به «المتنبئ» و«المنقذ»، والشاهد والشهيد من «أيب أور» إلى صلاح عبد الصبور، محذرة من «رعب أكبر من هذا سوف يجيء»، وواعدة بالنموذج الضد والبديل، لا في «يوتوبيات» حالمة ومستحيلة كثر عددها وخاب طموحها، من أفلاطون والفارابي وعصر النهضة إلى إرنست بلوخ في أيامنا، بل في «يوتوبيا» ممكنة ومعقولة، لا يزيد منتهى طموحها عن الحلم بمجتمع سوي يسترد وجهه الأصيل ممن شوهوه، وينتشل قيمه من مستنقع اللاقيم الذي فرض عليه التردي فيه، مجتمع يحيا فيه ويعمل ويأمل ويبدع إنسان سوي يجد القدر المعقول من الحرية والعدل، ويؤمن بأن القانون هو السيد - كما قال أرسطو - وليس هو القهر والغدر والتسلط والفوضى والجهل والهوان. (2) وحوار الثقافة عطش حقيقي للحرية والعدل

أجرى الحوار: جرجس شكري

هذا المتصوف الزاهد في محراب الثقافة، وهو يخطو الآن في العقد الثامن بعد أن ملأ خزانة المكتبة العربية بروائع الثقافة؛ فقد عشق الأدب، وتزوج من الفلسفة ، وتناسخت روحه في ترجماته الرائعة التي كانت وما زالت جسرا يصل الشرق بالغرب، فلن ينسى القارئ العربي أن د. مكاوي هو الذي قدم لنا برتولد بريشت، كاتبا مسرحيا وشاعرا، وكذلك جورج بوشنر الذي اعتبره شقيق روحه بالإضافة إلى هيلدرلين. أما «ثورة الشعر الحديث» (1972-1974م) فكانت حدثا كبيرا في ذاكرة الشعر العربي المعاصر من خلال المقدمة والنصوص. فمن أين أبدأ حين أحاور هذا الصرح الثقافي العملاق؟ من أستاذ الفلسفة ربيب أفلاطون وهيجل وهيدجر وكانط وهسرل ونيتشه وكامي، أم من الكاتب المسرحي والأديب والمترجم وكاتب القصة؟

سوف أبدأ من الطفل الذي كان يجوب المقابر بحثا عن أخويه؛ فقد ولد د. مكاوي ثالث ثلاثة، آثر ضلعا المثلث أن يتركا أضعفهما وأكثرهما هزالا بعد الشهر الثاني من ولادتهما. ولقد طارده الشعور بالذنب نحو الشقيقين طيلة حياته منذ أن سمع القصة من فم أمه وشقيقته الكبرى، فكان يطوف المقابر وهو لم يتجاوز العاشرة بحثا عن قبر الصغيرين المسكينين، وعن الشبر الباقي له هو والذي أعده المقرئ واللحاد ليسع الجسد الثالث النحيل (جسده هو)؛ إذ كان المقرئ يظن بأن الطفل الثالث سوف يلحق بأخويه. وشاء القدر أن يبقى بعد المقرئ والأم والأب، لكن الذنب الميتافيزيقي لم يفارقه، وظل يسأل نفسه: لماذا عشت أنا؟ بل وصار يكتب ويعمل ليبرر وجوده، ويطلب المغفرة منهما.

سألته في البداية عن هذا الطفل، وجولته اليومية في مقابر المدينة، وهل هي التي حددت طريقه إلى الفلسفة فيما بعد، وخاصة الفلسفة الوجودية؟

فقال: لازمني إحساس مزمن بالمأسوية وتراجيدية الحياة والقدرية، فأنا ريفي، والريفي مسحوق بالقدرية، وهي تحيط به كما تحيط «الخية» برقبة المشنوق، فما كنت أفعله في طفولتي كان نوعا من الإحساس التراجيدي المتمرد على الحياة، والثائر على الظلم وعلى مآسي الوجود وشقاء الإنسان، وأستدرك وأقول إنها ثورة إنسان مكتومة تفصح عن نفسها في بعض القصص والمسرحيات والكتابات النثرية فيما بعد، ورغم هذا ما زلت انطوائيا وسلبيا من ناحية الكفاح أو النضال الوطني. - سوف أختلف معك؛ فالإيجابية تتجلى فيما تكتب، أليس كذلك؟ - لكي أخرج من الاكتئاب كنت أكتب، وهذا نوع من العدمية؛ أقصد المعنى المباشر للسلبية، فلم أشارك في مظاهرة إلا كمتفرج، أو في الصفوف الأخيرة كمن يمشي في جنازة. لم أكن أيديولوجيا أو كفاحيا فعالا أو ثوريا، بمعنى الانخراط في منظمة. كنت وما زلت خجولا وبعيدا عن الكفاح المباشر. - بدأ د. مكاوي حياته شاعرا، وذلك خلال دراسته في المدرسة الابتدائية في «بلقاس» مسقط رأسه، وهي مدينة تتبع محافظة الدقهلية، وأيضا بعد انتقاله إلى المدرسة الثانوية في طنطا، وفي القاهرة قرر التوقف عن كتابة الشعر، والالتجاء لكتابة القصة القصيرة. كيف حدث هذا ولماذا؟ - في طفولتي بدأت بالتعرف على الشعر من خلال قراءة الرافعي وجبران والحكيم والمنفلوطي وغيرهم، ولكن حبي للشعر جاء من خلال بائع دخان اسمه رشاد. كان يطوف القرى هو وحماره لبيع الدخان. توطدت صداقتنا، وكان شاعرا جميلا، ويحفظ الكثير من الشعر العربي لشوقي وحافظ والمتنبي، وكنا نتطارح الشعر أنا وهو في المقابر، حيث كنت أطوف كثيرا هناك أو في الحدائق، وكان محصوله من الشعر أكثر مني، وفي تلك الفترة كتبت قصائد عارضت فيها شوقي والمعري، وهذا يدلك على عيب كبير في، وهو أني أتأثر أكثر مما ينبغي، وأعتقد أنني ظلمت نفسي حين قلت إني ظل ولست أصلا، صدى ولست صوتا. - سوف أعترض على هذه النقطة، وأقول لك إنه أمر طبيعي يحدث في البدايات دائما وسرعان ما ينتهي. وما أود معرفته لماذا قررت التوقف عن كتابة الشعر؟ - قررت هذا بعد علاقة حب فاشلة، فكنت أقرأ شعري للمحبوبة، وكانت لا تفهم شيئا. إن إيماني بعبقرية صلاح عبد الصبور، بعد أن عشنا سويا، جعلتني أعرف أنني لست شاعرا أصيلا. - وفي كتابة د. مكاوي بدا الحس الشعري موجودا بل وطاغيا في القصة والمسرح والدراسات الفلسفية، وحتى في الترجمة، وهنا يمكن القول بأنك تخليت عن الشعر في إحدى صوره؟ - بالفعل؛ فالشعرية تسكن الإنسان ولا تفارقه، بل هي تسكن اللحم والعظم وكأن هناك جنيا شعريا يسكن الإنسان كما قالوا قديما. ففي أحيان كثيرة أتهم بأنني أكتب الفلسفة بقلب شاعر، والقصص بروح فيلسوف. وقال أحدهم إنني أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء ، وهذا يقلقني أحيانا. - لا أعرف لماذا القلق من هذه المقولات؛ إذ لا يوجد فصل حاسم أو حدود صارمة بين الأنواع الأدبية والفلسفة، فأنت تعلم أن سارتر في مسرحيته الشهيرة «الذباب» وضع منهجه الفلسفي بأكمله فيها، فهي على المستوى الفني والبناء الدرامي مسرحية مكتملة، وفي نفس الوقت طرح من خلالها رؤيته للوجود والدم، وهكذا فعل ألبير كامي في روايته «الغريب» والأمثلة كثيرة!

Shafi da ba'a sani ba