مقدمة المؤلف بخط يده
1 - استغراق لحظة
2 - إن أكثر الجد هزل
3 - التعصب يخرج الحرية من ديارها
4 - الأحرار وأعداؤهم
5 - بعد الموت
6 - نعم الجدود ولكن بئس من تركوا
7 - كيف يموت الأدباء في الشرق
8 - ويل للناس من الناس
9 - إحدى عواصف الضمير
10 - التكبر وحداثة النعمة
11 - بين الوحشين الأب والزوج
12 - ما أكثر خطوبك يا فروق!
13 - لعل النهضة الثانية أثبت من الأولى1
14 - كم تحت هذه السماء من أعين باكية!
15 - ما يمنع القلوب أن تطير من الصدور؟
16 - عبد الحميد مبكيا بعد سقوطه
17 - بين أنقاض الوطن
إلى حضرات القراء
مقدمة المؤلف بخط يده
1 - استغراق لحظة
2 - إن أكثر الجد هزل
3 - التعصب يخرج الحرية من ديارها
4 - الأحرار وأعداؤهم
5 - بعد الموت
6 - نعم الجدود ولكن بئس من تركوا
7 - كيف يموت الأدباء في الشرق
8 - ويل للناس من الناس
9 - إحدى عواصف الضمير
10 - التكبر وحداثة النعمة
11 - بين الوحشين الأب والزوج
12 - ما أكثر خطوبك يا فروق!
13 - لعل النهضة الثانية أثبت من الأولى1
14 - كم تحت هذه السماء من أعين باكية!
15 - ما يمنع القلوب أن تطير من الصدور؟
16 - عبد الحميد مبكيا بعد سقوطه
17 - بين أنقاض الوطن
إلى حضرات القراء
التجاريب
التجاريب
وهي مجموعة مقالات اجتماعية
تأليف
ولي الدين يكن
مقدمة المؤلف بخط يده
ما كان أهنأني وأسعدني
لو كان ينفع معشري قلمي
أنا لي فؤاد لا أنزهه
لكن يراقب ما يقول فمي
ولي الدين يكن
الفصل الأول
استغراق لحظة
بين صدق النهى وكذب الأماني
وقف الرأي والهوى ينظران
للهوى جرأة وللرأي حكم
والبرايا لديهما شيعتان
يا نفوسا جنى الشباب عليها
قضي الأمر واستراح الجاني
لست ألحاك في زمان غرور
فلقد مر في الغرور زماني
والخيال الذي صبوت إليه
قبل عشرين حجة أصباني
خبر الناس أيها النيل عني
واشهدا معه أيها الهرمان
المغاني التي بكيت عليها
باقيات - تكلمي يا مغان
غازلتني عيون زهرك حينا
وقماريك رددت ألحاني
وإذا أنت حال عهدك بعدي
فكما شئت مهجتي ولساني
يا ربوع الهوى بأية كأس
قد سقاني فيك الهوى من سقاني
بلبل مشتك وورد مصيخ
انظروا كيف يسعد العاشقان
أضحك الدهر معشرا جهلوه
وأنا مذ عرفته أبكاني
كلما قلت للمنى أدناني
جد حتى عن المنى أقصاني •••
أيها الشرق كيف حالك فينا
ينجلي نازل فيغشاك ثان
هدمتك الخطوب صرحا فصرحا
قوضت من علاك شم المباني
يظلم الناس بعضهم منذ كانوا
طال ظلم الإنسان للإنسان
وإذا كان في الحياة قليل
من نعيم فذاك للتيجان
والعقول التي نخال أنارت
استسرت في ظلمة الأديان
انتهيت من صحائفي السود وما صدقت أن سأنتهي، تلك فصول أدمجت فيها وصف آلامي، وكان طيها خيرا من نشرها لولا لجاجة النفس شديدة النزوان. ولو كان في نطاق الصبر سعة لاسترسلت فيها وبلغت بها غايتها، ولكن كان خير مما لو كان. وهذه فصول تجاريب، أقدم عليها جهلا بمخاطرها، كالموغل في الأجمة بليل مسترخي السدول، لا يدري ما وراء أثلاتها وغاباتها، فإن غمرت من مياهها وفوزت من قتادها، فتوفيق غير مؤمل من مثلي، وإن ملكتني سورة هولها وأخذت علي مراودها ومسارحها، فما أنا أول ضال عن قصده، وفي حسن النية مأساة للآيس وتخفيف للملام.
لقد رأيت قوما راعهم ما قرءوه من فصولي، أولئك فريقان، فريق من المسيحيين وفريق من المسلمين، أكبر كلاهما أقوالي ولم تنشرح لها صدورهم، فسكت عنها بعضهم ولامني فيها بعضهم، وأنا في شغل عن الصامت واللائم، هذا باب اجتهاد فتحته لنفسي، ولا يعرف مرادي أحد مثلي، ومن لا يعتمد ما ظهر من رأيي فليأتني بما يحسبني أضمره أو فليدعني وليذهب عني بسلام، وحسبي اليوم أن أقول ما قاله أكثم بن صيفي: إن قول الحق لم يدع لي صديقا.
رأيت كاتبا قال في أحد فصوله إنه يحتقر من يترك الصوم في رمضان ويجهر بذلك، فعلمت أنه عرض بي - عفا الله عنه - لو باليت مثل احتقاره لكنت في موضع غير الذي أنا فيه، ولسوف أواصل جهادي حتى يقلل الله من أمثاله، فإن عشت حتى أدرك المرام كان ذلك فضلا من الله، وإن تحل المنية دون الأماني فكم في هذا الشرق من حر قلامة ظفره خير من حياة ألف ولي الدين.
وبعد، فهذا ما أستطلعه في استغراق لحظة، أفكر في الشرق، نجلتني أبوته ونتقتني أمومته، واليوم تشقيني محبته، يا حبذا المهد ويا حبذا اللحد، توسده المجد وليدا ثم توسده ميتا، بلاد وأمم، كلها حبيبة وكلها عزيزة.
قلت في نفسي: ما يقعدني عن إصلاح هذا الوطن الكبير الذي أحبه، فرحت أتخيل، جعلتني حاكما على الشرق كله قريبه وبعيده وسهله وجبله، فشيدت معاهد التأديب، وأقمت بنايات العلم، ورفعت بيوت الصناعة، وضربت للعدل رواقه، ومددت للأمن أطنابه، وزينت أسواق التجارة بالنفائس، واستخرجت من بطون الأرض كنوزها، وخلعت عليها مطارف خصبها حتى سال النضار في جداولها، وقر اللجين في قيعانها، وقلت أقبلت عليك السعادة أيها الشرق وراجعك الإقبال، ووقفت أسائل نفسي: أبقي للشرق شيء يحتاجه، أم قضيت له حوائجه كلها؟ وإذا أنا بمكاني من التقصير والتفريط.
وا حر قلباه! ما ينفع كل ذلك وبين أحناء الأضالع وفي سويداوات القلوب نفوس مستعصية على الخير إذا وكزتها أوضعت وإذا لاطفتها حرنت، فأهلها كالعير لا يسيرون إلا وخلفهم العصا، فمن هؤلاء المعاندون ومنهم الأدعياء والكلفون بالرئاسة كعبيد الله استطال على العرب ثم استثار تعصب المتعصبين على قتل المسيحيين، ثم وقف ينتصر للألمانيين ويحض الناس على قتال الإنكليز، ومثله كثير في البلاد العثمانية وفي مصر وفي غيرهما من بلاد الشرق.
وبينا ينادي حماة الإنسان وأنصار نجدته إلى الإخاء، إذا صحف جديدة تأتينا وكلها دينية، منها المسلمة ومنها المسيحية، جدال استعرت ناره بين المآذن والنواقيس والمشايخ والرهبان، كل يصحح دينه، وكل دينه في غنية عن التصحيح، وما عاقبة هذا، وأين يكون مستقره؟ وقانا الله لفحات قيظه.
قلت: الخطب أيسر، تتفق حكوماتنا على طرد هؤلاء الناس أو تكرههم على السكوت حتى تكشف عنا غماؤهم وتسكن عواصفهم، ثم استطلت تأملي فألفيت المعضلة على أصلها، ما حللت لها عقدة ولا قاربت لعقدة حلا، ما حيلتنا في هذا البارض النضر الذي أتى به ربيع الحياة؟ أريد فتيان اليوم ورجال الغد، يذهبون إلى مدارسهم فيتعلمون بها ما ينير بصائرهم ويصفي نفوسهم، وينفق عليهم الذهب من خزائن الحكومة وأرزاق أهلهم كالمطر الجود ، حتى إذا أشربته قلوبهم وماج في صدورهم غلبت على شدته نفثة من نفثات معمم أو مقلنس يأتيهم مسترزقا ويدانيهم مجترئا، فرأيت روح عبيد الله تجول في كثير من تلك الأجساد الطاهرة، فقلت وا أسفاه!
وعن لي بعد ذلك خاطر جديد: حال بناتنا، نغدوهن الصحة ونعلمهن النضرة ونربيهن على حواشي العز ونسيرهن في مهرجان النعيم، فإذا بلغن غاية ما تشتهي الأنفس أسلمناهن إلى بعولات كالأزواد جسوما وكالبعوض أحلاما، يرفعون بينهن وبين الحياة الطيبة أسوارا، يغارون عليهن من شعاع الشمس وبرد النسيم، ولا يغارون عليهن من يد الموت ولا ضم الجدث.
فلما كثرت في صدري هذه الوساوس، وأطبق علي ظلام اليأس عرتني هزة كهزة الكهرباء خرجت بي من استغراقي، فندمت على تخيل حول وطول ما خلقت لهما ولا قبل لي بهما، ولا تمنيتهما فيما يتمنى، وصحت وا حرباه! برح الخفاء ووضحت السبيل، وإنا لا محالة خاسرون، ولرب فكر لحظة أفادهم الأبد، ما أهون هذه القلوب على خطوب الدهر! وما أضيع ودائع الأماني في ذمم الأيام! ولو عني الناس بوصف كل هم واغل ووجد مستحدث وشجن مستثار لذابت الأفئدة، وضجت إلى بارئها الأرواح، غير أن الجد في السعي والاستمرار على النصح يهون الخطب ويؤخر يومه، وما أنا من تسمو به همته إلى ادعاء ذلك، ولكن للعلم في عصرنا نهضة شخصت لها الأبصار وعنت الوجوه، وكلنا على آثار رجاله لسائرون، فنعم مفتاح باب المعقل الأشب.
الفصل الثاني
إن أكثر الجد هزل
التاريخ ديوان العبر ومرآة الأخبار، ثم هو شاهد الزور وراوي الأكاذيب، هذه دعاوي لا تحتاج إقامة البينات، وهذا إيماني لا يزعزعني عنه جدل ولا يغلبني عليه شك، وإذا كان فيما لدينا من أخبار القرون الأولى شيء لم يموه بالكذب فذاك قليل بل أقل من القليل، ومن البلية أن لا نستطيع التمييز بين الصدق والكذب في واحدة من تلك الروايات لبعد العهد وامتناع المرجحات.
وفيمن أطراهم أهل التاريخ أناس مجدهم من غيرهم: معاوية سوده ابن العاص والعباس توجه الخراساني، باء الملكان بالسؤدد والعز وفاء الخادمان بمواهب وقعت ثم انتزعت، والملكان كلاهما ثائران عاصيان صدقهما الجد، وجرت على ما يبغيان الحوادث، فنشأت دولتان كبيرتان ملأتا أكثر الصحائف من كتاب التاريخ.
كنت جالسا ذات يوم مع صديق لي من خيرة الكتاب، فجرى بيننا مثل هذا الحديث، فقال صديقي: احمد الله أن أحرقت دار الكتب التي كانت بالإسكندرية، قلت ولم ذلك؟ قال: من يدري كم حوت من الأحاديث الملفقة والأكاذيب المبتدعة فأكلت النار جميعها، وزالت عنا حماقات لو دامت لنا لأضلت عقولنا، قلت: صدقت.
إن الأزل والأبد لمجهلان من مجاهل الزمان، ما ارتاد أحدهما فهم من الفهوم إلا أضل قصده، ما سيكون مثل ما كان، ولأن تشابهت الوقائع والحالات فإن بينها لاختلافات جمة لا تخفى على اللبيب، والظنون - قاتل الله الظنون - تأوي إلى نفوس الكاتبين فتذر عقولهم حيارى وتسير أقلامهم مفترية وآثمة، والويل لمن طابت سريرته وحسن إيمانه، فذاك يعيش على ضلال ويموت على ضلال.
هات بعض ما كتبه المؤرخون في عبد الحميد يوم لم يخنه جده ولم ينقلب عرشه، ثم اقرأ ذلك ممن لا يعلم صدقه من مينه يقل لك: إن عبد الحميد ملك لم تطلع الشمس على خير منه، ويصدق بما قيل من زور وبهتان، ولو فاز العرابي في ثورته ووفت له الأيام بلباناته لصرت الأقلام بمدحه وتغنت الأفواه بمناقبه، وعبد الحميد أحد الظالمين والعرابي أحد العاصين.
يقولون التاريخ، وما هو التاريخ؟ إفك وتأثيم، وإن بين من سودوا صحائفه ونطقوا بكذبه لأناسا أجفل عنهم الحياء، يحكون حكاية الشاهد لا السامع، ومنهم من يتبع روايته قسمه، إصرارا على الزور وإلزاما لقارئ كتابه، ألا شاهت تلك الوجوه. وإن فيما حدثنا به المؤرخون مثل قصة الزنبيل التي رواها الموصلي عن زواج المأمون ببوران وما زعمه صاحب العقد من حديث الرشيد مع أم جعفر حين هم بقتل البرامكة، وما أدعوه من أمر الذلفاء وابن عبد الملك الأموي لظرفا وأدبا، ولكنه تضليل لعقول الناس وعار يلزم من نقله من المؤرخين.
وبينا نعلل الأنفس بأن ستذهب عنا هذه الخيالات وتبقى لنا الحقائق، إذا بنا نأتي بما لم يسبقنا إليه السلف، كأن قد قضي على هذا الخلق أن لا يسمع إلا لغوا ولا يعلم إلا كذبا، وما فضل عصرنا على خاليات العصور إذا بات علم من علومه ظنا من الظنون.
توجهت يوما إلى صديقي جورجي أفندي زيدان، فأقبل علي بأنسه وحديثه، ثم أتى ذكر صحف الآستانة، فأتينا على حسن طبعها وجودة ورقها ورقة صورها، فناولني مجلة من مجلات فروق اسمها «رسملي كتاب»، وإذا فيها صورة رجل لو كان جهله علما لكان إلها، كتب في أسفلها أن صاحب الصورة من مشاهير الكتاب، قلت يا صقع الله هذه اللحى، ويا عوج الله هذه الأشداق، وقلت إن زماننا كزمان غيرنا، ولكن للماضين عذرا ونحن لا عذر لنا إن شاء الله.
ورأيت كتابا لعثماني - هو نزيل مصر الآن - اسم الكتاب «ما كابدته في سبيل الوطن»، وموضوع الكتاب من على الأمة وذم في جمعية الاتحاد والترقي، وكل هذا يجوز أن يغلب عليه الصفح الجميل، ولكن قدح المؤلف في الماسونية أو كاد، فسمج عندي تطفله، ورأيت علمه دون كبره فأنزلته منزلة لن يرقى منها درجة ولو أدلت الكواكب إليه أسبابها.
أما آن أن نفيق؟ سكرة هذه يذهب فيها عمر الأبد، كاد الدهر يموت ونحن كيوم خلق من يدعونه آدم. وبعد، فلا ننثني عن التماس الجد وادعائه والهزل ينطق من عيوننا ويبدو على نواصينا، وما يمنعنا أن نحسن نفوسنا أو نقوم طباعنا إلا كلف بما يغاير الحكمة.
لقد أمر بالمكتبة من المكتبة فإذا لاحت لناظري مجلداتها في ذهبها ونقشها أعرضت عنها إعراض السائم، وقلت كم في بطونك من زور، وكم تنطقين عن هوى؟ وسبيل العزاء أن نقول كذا شاءت الأقدار، وما تشقى الأقدار، بل يشقى أنفسهم الناس. هاتوا من ينقض كلامي هذا، نعم نعم، إن أكثر الجد هزل، وإن التاريخ ديوان العبر والأكاذيب.
الفصل الثالث
التعصب يخرج الحرية من ديارها
هلموا إلى نجدتها يا أحرار
أسير بدار الظلم أعياه آسره
أما من فتى في الناس حر بناصره
أفي الناس أحرار وفيهم أحبة
فما لأخيهم لا يرى من يؤازره
عفاء على الزوراء بعد جميلها
إذا ربعه المعمور أخلق داثره
ألم به خطب من الجور فادح «كما انقض باز أقتم الريش كاسره»
تنادوا به والضغن ملء قلوبهم
وقالوا وحيد ما لنا لا نكاثره
فإن نكفه نكف الشديد مراسه
وما بعده فينا عدو نحاذره
فطافوا به من خلفه وأمامه
كما طاف بعد المحل بالربع زائره
أحين هوى عبد الحميد بعرشه
وغبره بالذم في الناس غابره
يقوم رجال يستعيدون عهده
وفينا نيازي قائم وعساكره
ألا قد بغت هذي العمائم بغيها
فدارت على القوم الكرام دوائره
ألا لا نرجي العدل والعدل دوننا
موارده محمية ومصادره
تجلى زمانا ثم لم تبتسم لنا
أوائله حتى استسرت أواخره
بأي كتاب أم بأية سنة
يجازى على قول الصواب معاشره
بأي كتاب أم بأية سنة
يريدون طي الحق إن قام ناشره
سلام على الأوطان من بعد مأمل
ذوي وأرق الإقبال منه وثامره
سلام على الدنيا سلام على الورى
سلام على العهد الذي قل شاكره
سنبكي على العيش الذي كان غرنا
وقد ساء ماضيه وما سر حاضره
سقى الله أجداثا علت شهداؤها
بكل ملث الودق تهمي مواطره
قضوا تحت أسوار الحصار حمية
ولم تغن عن عبد الحميد دساكره
فإن يك بالدرويش قد زل جده
فهذا عبيد الله حلق طائره
أقام على الأطلال كالبوم ناعيا
يبشر بالتخريب ساءت بشائره
فأما قضى فيكم جميل بحسرة
ستبقى عليكم شاهدات مآثره
وإن تحجبوا من فضله كل باهر
فليس ضياء الشمس يحجب باهره
أخي وفجاج الأرض بيني وبينه
أعيذك من هم تبيت تساوره
أعيذك من وجد يضيفك نازلا
وأهوال ليل مظلم أنت ساهره
توقف في ظلماته غير منجل
كواكبه تسطو عليها دياجره
تشوفك البيت الذي كنت بدره
لقد أظلمت حزنا عليك مقاصره
وأصبح زاهي الروض بعدك يابسا
وناح على دوحاته لك طائره
فإن تظلموا فيكم جميلا لغاية
فإن جميلا ليس يغفل ثائره
وإن فريق الظلم إن طال ظلمه
سنمشي إليه بالسيوف نبادره
أيها العالم الجليل أستاذي الدكتور شبلي شميل: أهبت بنا فأسمعت، قرأت في المقطم ما سطرته أناملك الطيبة، وأنا طريح الفراش طليح الهموم، فخلت السقف وقع على رأسي ونهضت واقفا، وها أنا أسطر هذه السطور ولا أدري هل أجد جلدا إلى إتمامها.
كنت قرأت ردود المؤيد على العلامة الزهاوي فاستشعرت وجلا وأحس قلبي بالشر، ثم عاجلتها بكلمة عنوانها «المرأة المسلمة بين القاتل والفادي» نشرت على صفحات المقطم الأغر، غير أن كلام السوء أنفذ سهاما وأشد إصابة لمقاتل الرجال من كلام الخير، فذهبت صيحتي ولم يرجع لها صدى، ودوت صيحة المؤيد وأشياعه لتمام المحنة ولشقوة الأمجاد، هكذا دأب الشرق يفلح الغاش ولا يفلح الناصح.
قلت حين نبذوا لنا جيفة الدستور: نؤازر هؤلاء القوم القائمين فينا بالأمر، ربما أصابوا من حيث لا يشعرون، وكم رمية من غير رام، ثم أوائل الدول تأتي بمخلوقات عجيبة كصندوق الدنيا فيه عجائبه، وقلت اطمئني أيتها القلوب واسكني يا ثائرات النفوس، ووقف إخواني العثمانيون يتفرجون فما راعنا إلا مذابح وفتن وغارات تتلوها غارات، وصخب وضجيج بين نواب الأمة يتجاذبون أطراف الفوائد، كل يريد أن يسمن كبشه، فبدت السرائر في أشكالها وألقت الأفواه بما أخفته الصدور، فقلنا على الآمال والمستقبل السلام.
ولما افتر التعصب عن نواجذه أقمنا نقصد المراثي لننوح بها على الوطن في جدثه، غير أننا حاربناه فغلبنا، واستجرنا بأنصار الآدمية فلم نجد مجيرا، وما بنا أن نلقى المنية في جهادنا، ولكن من لهذه المخازي بعدنا يسجلها في دفاترها السود لتبقى عظات خالدات للأعقاب؟ هذا داء أعضل قلت الحيلة في استئصاله، وأنت طبيب لا يزاد مثلك علما، وترى عبيد الله يسعى في أديم كأديم التمساح، لا تعمل فيه النبال ولا رصاص المرتيني، ومن لنا بماوزر أولوبيل ولي متفورد فنجربه في جسده عسى يستشعر ألما أو يحدث في خلقه تغيرا، هيهات هيهات!
وكم من مثل عبيد الله، وقوفا مشمرين يحفرون للوطن لحده، والأمة تنظر ولا ترى، هي في حاجة إلى الدرس والدرس فات زمانه، وما يجدي الدستور إذا كان الشعب لم يتهيأ للدستور؟! جنى جان جناية كلنا مأخوذون بها اليوم.
وجرم جره سفهاء قوم
فحل بغير جارمه العقاب
أخواننا الذين يظلهم الدستور العثماني لا قبل لهم بمعارضة الحكام، وهم معذورون، ثم شفار أرهفت وسيوف سلت تقتطف الرقاب كما تقتطف الثمار، ومن قام مصوتا بصوت قامت عليه نوادبه، ونوابنا - حماهم الله عيون الحاسدين - كجماعة الإوز تتحاوم على مناهل الماء، لكل امرئ منهم شأن يغنيه، وفي القتيلين على جسر غلطة عبرة للسائلين.
أما لو يفيد العتب لعصفت به عواصف هذي القلوب، أما لو يغني النصح لامتلأت به بطون الدفاتر، ولكن قال أبو الطيب:
يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطبائع على الناقل
على أنني أرى رأيا أخاله يخرجنا من هذا المأزق، ولا تتسع له هذه السطور، وما هو مما ينشر بالصحف السيارة، فاضرب لي ميعادا توافيني فيه إلى عند الأساتذة أصحاب المقطم، هنالك أبسطه لكم وتنظرون أنتم فيه.
وبعد، فيا أيها المسلمون، أنا مسلم مثلكم، يحزنني خسرانكم ويشركني معكم مصرعكم، هؤلاء الرجال الذين أثقلت هاماتهم العمائم أكثرهم لا يعقلون، كان عبد الحميد يقتل الناس ويظلمهم وينفيهم وينهب الخزائن، وكل هذا حرام في دينكم، فما قام في وجهه واحد منهم ناصحا أو رادعا، ولكنهم اليوم - وقد وسعتهم بلاد الحرية - يكرهون أن يروا حرا يتكلم، يهاجمون من لا يكون من فريقهم، يملئون الدنيا صخبا وضجة، يكفرون الساعل والماخط والآكل والشارب حتى لقد زهدونا في الحياة، وهم أشد الناس بها تعلقا، فلا تجعلوا لهم سلطانا عليكم فيكسبوا من خسرانكم ويسعدوا بشقائكم وأنتم لا تعلمون.
إن ينزل بالزهاوي نازل من الظلم فتلك سبيل أبناؤكم سالكوها غدا، فإلا يحزنكم مصرعه فإن في مصارع أبنائكم ما يستدر جامدات العبرات، إيه لكم! قطعت الشعوب أشواطا في منازل الحياة ونحن إلى الوراء راجعون، لا تكونوا واسطة السوء بين الأسلاف والأخلاف، أما لتقذفن لكم الأرحام بأضاحي كالتي شهدتم، تلبسون ليومها السواد ويطول عليها أنينكم تحت طيات الدياجر.
استجار المقطم الأغر بالوالي وبالرئيس - لك الله - إنما تستجير من الرمضاء بالنار، بحت الأصوات وتقطعت الأنفاس واضطربت الجوانح وعيت الألسن وشلت الأنامل.
وقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
ألا في سبيل المجد والحق والحرية شهيد جديد، إذا لم يخنه جده ويرن في الأسماع نعيه فقد جاوز مهالك عظيمة، وإن حم حمامه - لا قدر الله - فإنا له ثائرون أو به لاحقون، وليرو ثراك أيها الوطن بدمائنا إن لم تروه أنهارك، ولتقم في جوانبك المناحات على أنصار الحرية وأبناء آدم شهود.
1
الفصل الرابع
الأحرار وأعداؤهم
قال قيس بن زهير:
إذا أنت أقررت الظلامة لامرئ
رماك بأخرى شعبها متفاقم
فلا تبد للأعداء إلا خشونة
فما لك منهم إن تمكن راحم
لله أبوه! ما أصدق قوله، وما أعرفه بمواضع الرأي! إن طوائف المتعصبين الذين أجفلوا من سيف الحرية وأظهروا الرضاء بالانقلاب العثماني يصدق فيهم هذا الكلام، لقد خفضوا لنا أجنحة الذلة وأبدوا جانب الاستكانة رهبا لا رغبا، والظلم كمين في نفوسهم يخمد الضعف جذوته وتلهب القوة جمرته، ولو أمكنتهم الغرة لاقتحموا إلينا الأهوال ولأخذونا من نواصينا ولجرونا على بطاح الأرض جر المحتطب حزم الوقود، كل ما تتحرك به ألسنتهم من قول لين يخرج من قلوب استوطنها الجبن، وتوجبه عزائم استولى عليها الخور، يكذبوننا المودة ويحتفرون لنا القبور، يد قد بسطت بالضراعة، وأخرى في قائم العضب ومقلة مسبلة بدمع كاذب، وأخرى تتحرى مواضع الأسلاب، هذا هو الود الذي مزقه التخالف وتحاول أن ترفعه الحاجة، باءوا بإثم الغواية كما استقلوا بخزي النفاق.
أقام عبد الحميد بصرحه الممرد ثلاثة وثلاثين عاما، كان كلما أنحى بشفرته على رقبة علت من جوانب ملكه صيحات الصائحين، الله أكبر الله أكبر، وكانت كلما غذت الوالدات أطفالهن ناداهم أولئك الأبرار: أسمنوا ضحاياكم. وكان الملك الأحمر بين أقطاع الضعاف من رعاياه تتساقط حوله الذبائح والمنابر تهتز بالأدعية والمدائح. قالوا في تمجيده: ظل الله في أرضه، وسلطان البرين والبحرين، وخادم الحرمين الشريفين، باني الكون، المتصف بصفات الملائكة، من عتبته بمنزلة الأفلاك، وقالوا في الدعاء له اللهم أطل في العز أيامه وحكم سيوفه في رقاب أعدائه ، وانصر عساكره وامدده بجنود من ملائكتك. ورعاياه المذبوحون يسمعون وهم في آخر كل دعاء يقولون بفم رجل واحد آمين اللهم آمين، مولين وجوههم شطر القبلة شاخصة أبصارهم مبسوطة أكفهم، ونحن نقول: يا هؤلاء نحن مظلومون، فيقولون: أنتم كاذبون بل أنتم معتدون. وما فتئت الأمة المسكينة يقص زمان عبد الحميد من حواشيها حتى أودى خيارها وبقي شرارها، وهم اليوم يكفرون الباء الملل ويحاولون أن يستعيدوا الكرة.
الآكل من كسب غيره وهو قاعد لا يحمل نفسه عناء السعي لرزقه، وإذا علمت الأمة حقائق الأشياء وبصرت بضلالات أهل التعصب قبضت عنهم جدواها ومنعتهم ورد جودها، والقوم يعلمون ذلك ولا يدانيهم فيه ريب فمن أية الطرق يأتي نحوهم الإنصاف؟ لو جمعنا العمائم التي بالبلاد العثمانية وجعلنا بعضها فوق بعض بنينا حصنا يعجز عن هدمه أسطول إنكلترا بأسره، ما في هذه الجوزات ما يرجى منه أقل الفوائد إلا آحاد لا يصعب تسميتها، وما بقي من ذلك الجمع العديد، فأنصار للاستبداد، سواء عليهم حق وباطل، لا يعجبهم من الحياة الدنيا إلا الجفان أو ما يكون ثمنا للجفان، أروني واحدا من هؤلاء للمبردين يكون جاد بدرهم واحد في خير يريده - يا بعد ما تمنى به النفوس - هذا والقوم كلهم مثقلون بالصفر والبيض يجعلونها في أشداقهم كما تجعل القردة مآكلها في أشداقها خيفة خاطف يخطفها، ثم إذا التفت عليهم المحافل ألفينا كل عثنون كحديدة الفاس يضطرب غضبا لرأي رآه أحد العقلاء، فكم من عنفقة كذنب السمكة تهتز على أثرها وتغضب لغضبها، ما أشقانا بهذه المخلوقات!
يغشوننا ونغشهم، ختل بختل، كل فريق يود أن يحرز الغلبة على مضاده بحيلة يحتالها، ولبئست أسباب الفوز في هذه الحرب العوان اتفق المنافقون من أدعياء التقوى أن يظهروا حسن النية ويبدوا جانب الود لمخالفيهم، وذلك بعد أن شرت سيوف أبطال الحرية من النفوس وباعت، فلما أفرخ روعهم وثاب إليهم بأسهم السالف أسمعونا صريف أنيابهم وقلبوا لنا صفحة الود، وأضحت تلك الألطاف أحاديث مغتبق ذهبت الكميت بلبه، أو أهازيج طير استطير من عشه فذهبت الريح بصداها .
آكل اللحم لا يغذوه النبات، والسمك لا يعيش في غير الماء ولو فرشوا له خدود الملائكة وجعلوا مساكنه سواد المقل، والمعمم لا يطيب له مقعد على متن طائرة ولا على ظهر دارجة، ومخادعة الناس بدعة من بدع عبد الحميد، وليس من الإنصاف أن نبغض الرجل لظلمه حتى نزيله عن سلطانه ثم نعاود شأنه ونستعيد سيرته.
وبعد فقد رأى قراء المقطم الأغر عجائب في نهج حكومتنا العثمانية - رعاها الله - تأتي بالواحدة من باهرات الحكم حتى لتعشى عندها الأبصار وتتضاءل أنوار الفهوم، وبينا تلهج الألسن بإطرائها وتعقد الخناصر على كل أعجوبة من مآثرها إذا بها كممثل الفصل المضحك في آخر رواية كلها حكم وكلها عبر. وما نريد أن نحصي تلك الخطيئات، وليس فينا شامت ولا بيننا عدو رقيب. إن لنا في مفاخرها ومخازيها لنصيبا يصيب كل مستظل براية الهلال، غير أننا معيرون بهاتيك الخطيئات ملزمون من خصوم غير غافلين بإلزاماتها، لا حكمة نستبين بها المراد مما نرى ولا في أولي الأمر من يتكلفون بيانا لما أشكل علينا، وليس لدينا من يدعي علم الغيب ولا من يستطيع كشفا لما تخفيه الصدور.
واقعة العلامة الزهاوي ليست فذة في مواليد الشرور، ولكن لها أخوات تخالفها ظواهر وإن لم تخالفها حقائق، لقد وقع مثلها لصديقي العثماني الحر يوسف سامح بك أحد الموظفين في نظارة الحربية المصرية، ولو كان هذا الفاضل ممن قضى عليه شقاء الجد أن يقيم في بلادنا الدستورية لسمعنا على بعد الديار أنينه في سجنه وصليل السلاسل على سواعده. ويوسف سامح رجل من العثمانيين الأحرار الذين هاجروا من بلادهم، ورأوا في أرض مصر أكنافا موطأة وجوانب مذللة فصدقها الخدمة وصدقته الجزاء. ولما انتشلت الأمة حريتها من كف سالبها وتباشر الناس بعهد جديد وصفو مقبل رأى أن يتحف إخوانه العثمانيين من العنصر التركي بكتاب جليل الفائدة جامع لأشتات الحكمة، وهو كتاب تحرير المرأة الذي وضعه العالم الحر المرحوم قاسم بك أمين، فترجمه إلى التركية بأجمل أسلوب، فأصدر مجلس الوكلاء بالآستانة قرارا إداريا يمنع به دخوله إلى الأقطار العثمانية، وقد علمنا أن الحكومة توخت هذا الجنف استرضاء لفريق المتعصبين، فهذا قلم مذرب تريد الحكومة الحرة أن تكسر شباته، والدستور رهين الإرادة، فيوما هو بمنزلة الوحي ويوما هو مهجور ومنسوخ، قاتل الله الأهواء.
لا ندري ما خطب حكامنا، يقودون أم يقادون، الأمة قاصرة وقيمها الحكومة، وإذا أطاع القيم أهواء القاصر تعطلت أحكام الحكمة، وما أرخي العنان لقوم حديثي عهد بالعتق إلا اشتد جماحهم وتعذر كبحهم، وكما ضمنت الحكومة تعليم الأمة فرض عليها أن تضمن تربيتها. إن لأهل الصلف المتزهدين والمتورعين من الخطل ما لا يستطاع معه إحكام أمر، وحسب هؤلاء أن تدر عليهم هبات المحسنين وأن يأتيهم رزقهم غدا، إن يقنعوا فذلك الكفاف وإن يطمعوا فيما وراء ذلك فنصح نافع أو زجر رادع أو لجام مصرف في يد تعودت حبس الأعنة واقتياد الصعاب.
الأديان مناهج للناس إلى ما يستطاع من الكمال، فإذا هي تجاوزت ذلك وأضحت سلعا يتجرون بها كان شرها أكثر من خيرها، وإن من أشد ما ينزل بالحر أن يبلى بقوم لا تسمو مداركهم إلى مقاصده فيتعسفوا في تأويلها الشبهات، حتى إذا أعيتهم المناظرة وأعوزتهم الحجج عمدوا إلى الفساد فاستثاروا العامة إلى الوقيعة وفزعوا إلى الختل والغدر، وأكبر من هذا أن تكون الحكومة عونا للمفسد على المصلح لا اعتقادا بإيمانه ولا إعجابا برأيه، بل تحببا إليه وإقرارا بالعجز عن إخضاعه وتقويمه.
لقد ذهلت حكومتنا الدستورية عن الدستور في قضية الزهاوي، وفي كتاب المرأة الذي ترجمه يوسف سامح بك، ثم فعلت مثل ذلك بكتاب كان ترجمه صديقي العثماني الحر الدكتور عبد الله بك جودت، كفانا الله شر الآتية من الهفوات، فهي - ولا شك - أشد وأنكى.
قيل لرجل: لم لا تصلي؟ فقال: إن الله توعد المصلين في قرآنه الكريم إذ قال:
فويل للمصلين ، قالوا له: ولكن بقية الآية تنفي زعمك، وهي قوله تعالى:
الذين هم عن صلاتهم ساهون ، قال: إنما ذكرت ما أحتاج إليه وتركت ما لا حاجة لي به. ولأحد الشعراء الأقدمين بيت في مثل هذا المعنى وهو قوله:
ما قال ربك ويل للألي سكروا
بل قال ربك ويل للمصلينا
فهل تريد حكومتنا أن تجري في اتباع أحكام الدستور على هذا المنهاج، تحتفظ بمالها وتسهو عما عليها؟ إن هذا إلا ضلال مبين.
عمرو بن معدي كرب الزبيدي كان من الصحابة، توجه ذات يوم إلى صديق له فحياه بقوله: عم صباحا، فقال الرجل لعمرو: أو لم يبدلنا الإسلام عن هذا بما هو خير منه، وهو السلام عليك، قال عمرو دعنا مما لا نعرف، هل لك في جدي مشوي وخمر معتقة؟ قال الرجل: أتشرب الخمر وقد حرمها الله علينا في كتابه؟ قال عمرو: والله إني سمعت ما بين دفتي المصحف فما وجدت لها تحريما غير أنه قال:
فهل أنتم منتهون ، فقلنا: لا.
لقد مضى على الهجرة ثلاثمائة وألف عام فأروني اليوم رجلا يقول مثل ما قاله ذلك الصحابي ويبيت في مأمن من خطب يحل بساحته، أما أننا ليصدق فينا المثل الفرنساوي: أشد تمسكا بالملك من الملك.
لكل ذي فكر رأي يراه، فإن كان صوابا فالفوز له وإن كان خطأ فلا جناح عليه، والمدارك درجات بعضها فوق بعض، ودركات بعضها دون بعض، وإن أمامنا لدستورا يشمل حكمه رقاب الأتقياء وغير الأتقياء، حسبنا ذلك هديا وحسبنا شرعا، البار أخونا والفاجر أخونا، ورحمة الله وسعت كل شيء.
نبئت أن رجالا من أهل الفضل جمعهم محفل أدب ليلة نشر استفتاء العلامة الدكتور شبلي شميل، فأخذ كل يظهر ما عنده، فقال قائل: إن الزهاوي رجل متبذل في دنياه، وقد كتب ما يعترض أصل الدين، وأرى أن نؤاخذ الحكومة العثمانية من غير هذه الوجهة، قلت هذا ينطق لسان حاله بقول ابن الصمة:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد
تفتأ هذه الحسرات تأكل قلوبنا وتستطير آمالنا وتوهي عزائمنا، لولا ذمة توجب مواصلة الجهاد ونخوة تأبى إقرار الظلامة، فإن يحرم إخواننا الذين هم في أوطاننا من ثمار ما تجود به كبيرات العقول فإن تلك الكتب باقية خالدة، لا تمحى كلماتها ولا تجفل معانيها، ومن صبر ثلاثة وثلاثين عاما يصبر عشرة أخرى حتى يأتي الفرج، وإنه لآت وأنوف المتعصبين راغمة، فاطمئني أيتها النفوس اطمئني.
الفصل الخامس
بعد الموت
أما آن أن يسترجع الدهر ما مضى
فترجع آمال وتقوى عزائم
لقد كدت أنهي النفس عما تريده
من النصح لولا ما تجر العمائم
وما زالت الأيام حربا على النهى
فإن سالمت حينا فختلا تسالم
أرى الناس هاموا بالمعالي صبابة
ولا عجب أني كذلك هائم
وهذي طباع لا يرجى انتزاعها
تناط بقوم إذ تناط التمائم
ستبقى بلاد الله تطلب منصفا
وهيهات أن ترضى بذاك الصوارم
بعد الليالي الطوال والسهاد المستديم والسقام المبرح وحوادث تلاحقت بها حوادث يرجع طريد النوائب، على ظهره كفنه الممزق، وفي يمينه قلمه غير المجهود ليستعيد في التجاريب نوحاته. خلتني جلدا وما أنا بجلد، أهون بمن بدا غيران مشتدا ثم أمسى وانيا جزعا، ابن الشرق كإخوته وما المشابه قومه بظالم.
كم نداء من ذي ود اخترق الجنادل ونفذ من حجب الحياة، أهاب بي أهل النجدة فاسمعوا، ولئن تخاذلت عني جنود الصروف، وعافتني أفواه الأجداث، فإن ذلك لتمام الشقوة، لبيكم دعاتي، اليوم أعاود ماضي شأني وأنتم سامعون. •••
كنت قبل أن يلم بي الضنى جمعت أشياء أريد أن أفيض في نقدها، رأيت ذاك الذي وسم المؤيد بميسم من التعصب ينادي بأرفع صوته «نحن مسلمون قبل كل شيء»، فنويت أن أعد الجواب.
ثم عادت نغمة الترك والعرب والخلافة العربية والأعلام المزركشة، وقامت بالآستانة صحف الشباب تزعزع أركان الكون بصيحاتها، والعلم مرفوع بأيدي صبية يسخرون من الراضي والساخط، فهممت أن أدعو إلى الرشاد.
ثم دوت في أذني استغاثات أولئك المظلومين الذين فصل ظلامتهم مندوب المقطم الفاضل في إحدى رسائله، فتجددت ثورة الشباب في نفس ذهبت بنجدتها وقائع الدهر، أطيرت الأظافر وأسيلت الدماء وتوالت السياط على أبدان ترقرق على أديمها الشباب، فقلت:
أفلا يزال السوط حاكمكم
وأبو السياط بيلديز ذهبا
أفلا يزال الدهر يعجبكم
ضرب ومضروب ومن ضربا
ونقول أحرار فنمدحكم
لا حر فيكم ، كلنا كذبا
ثم أتيت بهذه النفثة إلى أحد أساتذتنا الدكتور فارس نمر، فقال لي: يا ولي الدين، دع العجلة واستصف الأناة، إذا آخذت فآخذ ولكن بعد ثقة، وإن أثنيت بخير فأثن ولكن بعد ثقة، وهذا المقطم لا يتقرب إلى أحد ولا يملق أحدا، ولكنه عثماني مخلص في عثمانيته، غير هياب ولا وجل، تمهل تمهل، إذا دعت الحاجة إلى هذا الغضب، فنحن - ولا نزاع - سابقون، ولكن لا تستعجل الآن بالضجر، فكان كلام الأستاذ بمنزلة الدواء على الفؤاد المريض، به استقر الجأش وعادت السكينة.
ولم تزل الكتب والرسائل تتوالى علي من إخوان الحرية وفرسان الحق، تلك دعوات لم يطاوعني تلقاءها إحجام ولا تثاقلت بي خطوات، وكان الحمام ممسكا بخناقي يريد أن يطوف بي معاهد طافها الآباء والأجداد، ألا سقى الله تلك المعاهد من عهاده، غير أن للنفوس اعتلاقا بهذه الزخارف الباطلة، مال وبنون، ونحن نشقى بالمال والبنين. •••
ثم بدت ميمية الشاعر حافظ أفندي إبراهيم، هذه ثانية قصائده التي أنشدها احتفالا بجمعية رعاية الأطفال، حبذا الشعر تقف عنده البدائه حيارى: «قفا نبك» وأخواتها، أودعت من القول في صوغ الكلام وتأليفه ما لا يسمو إليه حافظ، وميمية حافظ أودعت من المعاني العصرية ما لم يلهم به كل شاعر من ملوك الكلام في ماضيات الأيام.
سبحان من قلده مفاتيح البلاغة ومكنه من نواصي المعجزات.
لولا مخافة التهمة بالحسد لنافست حافظا في هذه البدائع، وهيهات أن ينافس فيها!
ليت حافظا كان رضي من نعمة القلم بمكانه من البلاغة والفصاحة وترك ما دون ذلك لغيره من عشاق الشهرة، إذن يظل كالهندواني العضب لم يغش صفحته الصدأ، ولم تتغلب على حقه صورة الباطل، وليته ترفع عن مدائح الناس وضن بمجد لسانه أن يذال إذا يظل كأولئك الذين في الغرب خفضت لهم الرءوس ودانت الرقاب، وتضاءل عند مجدهم مجد المتوجين من العباد.
الناس في حاجة إلى الصفاء والوداد، وكلاهما في حاجة إلى أن يترنم به الشاعر ذو القافية المظفرة كحافظ وغيره.
ولو وقف حافظ عن يميني، «وغيره» عن شمالي ونازلنا جنود التعصب لشردناها عن ديارها ولأخذنا أعلامها ورجعنا بأسلابها.
يا حافظ، يا حافظ، ما إلى المزيد من الشهرة سبيل، ولا لفضلك مكابر، ولكنك تجعل نفسك في غير موضعها، دع السياسة إن لم تكن فيها رشيدا، ودع المدائح، إن في أسلافك من أعجزك وأعجزني، ادع إلى الإخاء يحفظ لك النيل ذلك ويشهد لك به الهرمان، ولا تنكر لغرض خيرا أتى، كذا ينبغي أن يكون كبار الرجال.
التجاريب مفاتيح الأمور، والمريض لا يستطيع أن يكتب أكثر من هذا، وعفو القارئين أعظم من عجز العاجزين.
الفصل السادس
نعم الجدود ولكن بئس من تركوا
يقول أناس إن كتاب التاريخ يحصي الحسنات ويحصي السيئات، كذبوا. ما يحصي إلا بمقدار ثم ينسى الطيب وينسى الخبيث إلى أن تهيج الشجون لسانا ناطقا ويراعا ماضيا فيذكر أولي الألباب، يا عقول ويا قلوب، لشد ما تتغلب عندك الأضداد من الحق والباطل فتتعاورك الشبهات ويصعب عليك القول الفصل، والدرهم والدينار، لعن الله الدرهم والدينار، يطلبان مكامن الحرص أو منافذ الأهواء. الشرق مقتول بأسياف بنيه، مجده مجده، نهب مقسم بين عداته، وورثة معاليه وخزنة مفاخره بين سكرات الصبا وبين آلام الحسرات، ألا إلى الله المشتكى. قلوب أماتها الدهر فلا يبعثها مناد مسمع ولا مستغيث مسترحم، ولا داع إلى مكرمة ولا مرشد إلى محمدة، ما خطبك يا أيتها النفوس؟ ماذا دهاك يا غرائز؟ وما بك يا طباع؟
إن منا من كان شغله حماما يستطيره على سطح بيته أو ديكة يربيها ليضارب عليها ويراهن حتى محا الله آيات تلك المشاغل ووقع من دعاواه في حرج فخرجت آلاف الدنانير من كفه ربحا حلالا لكل طامع وكاسب، وإن منا من يذهب إلى منت كرلو فيخسر في المقامرة خمسة وعشرين ألف جنيه لا يبالي فقدها ولا يجد لها وجدا، ثم يحاسب سائقه على قليل من طعام، وإن منا من يقيم له حكومة في داره مع كاتبه وخادمه ويقضي حياته بمعزل عن واجب الرجل الحر، كل هؤلاء لا يفرحهم إلا اللهو ولا يحزنهم إلا موت ديك أو حمامة ، أو ضياع صيد يفلت من أيديهم.
وإبراهيم الذي هجر راحته وباع حياته في خدمة وطنه وأقام بين أغوار اليمن وأنجادها يشتم روائح الشيح والقيصوم لا تبقى له باقية ذكر، ولا يسطر له في تاريخ الناس سطر، نحب التراث ولا نحب مستخلفه، كذا يكون الإنصاف؟
على أنني سأستوفي الكلام في فصول آتية فلينتظره القراء في مشارق الأرض ومغاربها، دعاني إلى هذا الكلام ما يقع باليمن: إن بها لداء عقاما أعيى الأطباء دواؤه، وإنها لكما قال الثقفي في غابرات العصور: «أرى رءوسا حان اقتطافها وأرى الدماء تموج بين الغلاصم واللحى.» وا حر قلباه على تلك الرءوس وتلك الدماء الغالية! وإن لأهل اليمن عندي لودا مكينا تورثته من أب بعد أب، يعرف ذلك من يعرف إبراهيم، الذي ولي أمورهم حينا من الدهر، وما كاتب هذه السطور إلا حفيده وأحد الذين ورثوا حبه لليمانيين.
ولقد عثرت على أوراق هي محفوظة عند أحد أبناء الأسرة اليكنية، عليها ختم محمد علي الكبير، وهي مقيدة بأرقامها بالدفترخانة الخديوية، عرفت بها كيف ساس اليمن ذلك الفاتح، وأي طريق سلك حتى راض شامسها وكبح جامحها، وكانت هذه الأوراق إلى اليوم تحت حجب النسيان، ولولا انتباه صاحبها إلى ما حوت لذهب بأمانتها، ولم يلتفت إليها أحد ملوك الديكة وسواس منت كارلو.
أدع الآن ذلك جانبا، وأنادي حكومتنا العثمانية بمشهد من أبنائها: على رسلك، احبسي اليوم جنودك واستبقي دماء أبنائك، إن الحكمة تبلغ ما لا تبلغ القوة، وأنا أقف اليوم على تلك التهائم وأخاطب لك أبناءك العاصين، فإن أفلح فرمية من غير رام وإن تبلغ الشقوة حدها ففقد مثلي أخف من فقد أحقر من في أولئك الجنود.
نعم، عندي لليمانيين كلام يسمعونه في حينه، فلئن ذهبت إليهم لأذهبن أعزل غير مستصحب أحدا ولأنازلن قرومهم بالحجة ولأخاطبنهم بلسان عربي يهز المعاطف من نسل الأقيال وأبناء الملوك الحميرية.
ما أنا برجل الدهاء ولا من حجاجح الرأي، ولكن لدي تدبيرا أحكمته وأمرا استجمعته، ولن أسير إلا مستوثقا بعهود لا تخان، أن لا يخيبوا لمتظلم أملا وأن لا يؤخروا إصلاحا يراد، وأن لا يولوا تلك البلاد من لا يعرف لغتها ولا يدري أهواء أهلها ولا يقدر على أن يستصفي موداتهم ويسترضي قلوبهم، فإلا تفعل الحكومة ما تطالب به من العدل والإنصاف فلا نصير لها إلا السيف، والسيف يحز الرقاب ويخلي الربوع ويقري الوحوش والنسور أجساد الناس ويرفع استغاثات الأرامل واليتامى إلى ملك الملوك، إلى من لا تخفى عليه خافية.
فلتسألني الحكومة عما أريد أن أعمله أجبها بما يزيل الشكوك ولا يدع لريبة مستقرا، ما في الوقت من سعة ولا في الإهمال من خير، هذا رأي رأيته وعقول الناس تستولد الآراء، ثم هو إحدى التجاريب، والتجاريب أمهات الحقائق، والله بيده عواقب الأمور.
الفصل السابع
كيف يموت الأدباء في الشرق
بلغ من بغضي للشعر أن صرت أعرض عن سوانح معانيه في لوامع قوافيه، القاعد بالحدود عن منازل الشرف، المتواكل بالعزمات عن بلوغ نهايات الإرب، إحدى فتن الخيال، تجري بها البدائه فتتلقاها مسامع بالقبول وتتلقاها مسامع بالملل، أبعد به وبطلابه.
يتهادى أمراء الذهب بين «شولر» وبين «سبلنددبار» تساقط أعطافهم الجنيهات ويطوفون حول معاهد الصبوة في عواصم الغرب من «منت كارلو» إلى منت كارلو، ثم يأوون إلى بيوت كثرت فيها الديكة والحمائم، ثم يصبحون في لزباتهم يهبون المال في دعاوي ومخاصمات، فطلاق وزواج وميراث وشركة، يتخلل ذلك كله لعب الورق واستشارة الوكيل وإدلال الكاتب، وما أدراك ما الكاتب! وبيع الأطيان واقتراض المال، بدرات تفيض العسجد وتنفجر عن ذوب اللجين، والشاعر يريد أن يبيع ديوانه بقرص من الطعمية فلا يجد مشتريا، والكاتب يعرض دفاتره مجانا فلا يرى قارئا، فسبحان الله!
علم من أعلام العراق، هو أبو القصائد المحبرة والقوافي المحكمة، نزيل بمصر، مقيم في دار حزنه يعالج أيامه ويعاني شدائدها، وليس بمصر من يقول له أين أصبحت أيها الأديب العظيم، أحمد مفتاح، رجل البلاغة يموت ويدفن ولم تكتب خبر وفاته جريدة من الجرائد فيما علمت، ومحمد إمام العبد، وهو شاعر مجيد يوسد بالأمس التراب ولا يتقدم أحد ليقيم له ليالي مأتمه. وفي بلاد الغرب يصنعون التماثيل للشعراء ويسمون بأسمائهم الشوارع والدوارع، ويجعلون لميلادهم ولموتهم أياما في كل سنة هي بمنزلة أيام الأعياد، ويقولون بمصر الدستور والجلاء والمؤتمر، وتكتب الجرائد ليحيا وليسقط، من يحيا ومن يسقط أيها المساكين؟
لكل امرئ في هذه الأمة موضع يميزه، والناس في درجاتهم متقاربون، وليس رجل ينكره معارفه ويتجافاه أقرب أقاربه إلا الأديب، فهو إذا برز على أقرانه حسدوه، وإن أقصر عنهم حقروه، وإن ولج جمعا جللت فيه أبصار المستهزئين، ولله في خلقه أناس يفخرون بملابسهم وليست بصنع أيديهم ولا أنسجتها من نسجهم، ولا أثمانها من كسبهم، ولا زينتها تجمل ما قبح من أشكالهم، أولئك يطئون الهامات ويذلون الرقاب ويتهادون في كل مزدحم تهادي الكواكب الرود في الوشي والبرود، طواويس الرجال يقضون طوال الأعوام في ديوان الحياة ثم يخرجون منه كما تخرج الأنعام من تحت السقائف، لا متزودين ولا مستخلفين، إلى حيث ألقت رحلها.
أعرف أناسا كانوا وضعوا للديكة أسماء، مثل عنترة وعبد هياف وأبي زيد، وهم لا يعرفون من أسماء ملوك أوروبا خمسة، وأعرف غيرهم كانوا يتعلمون من أنواع الحمام كالهزاز والعنبري والغزاري ما لو علموا بقدره من المفردات لفاقوا علماء اللغة، وفيهم من إذا نظر توقيعه ظنه توقيع غيره، هؤلاء تمر بهم الخلائق كما تمر بهم صور السينماتوغراف، فهم يرون ولكن لا يدركون، فخارهم أبهة ولائمهم، وأن يقال فلان أنفق على وليمته كذا من الجنيهات، وحلاهم ثيابهم بها يتنافسون إذا جمعتهم المجامع، يقول قائلهم أنا فصلت ملابسي هذه عند «كولا كوت» فيساجله الآخر قائلا وأنا فصلت ثيابي هذه عند «ريبو»، اسمعي يا أمم الشرق واعجبي يا أمم الغرب، وميدي يا رواسي الأرض وأعلامها، وغيضي يا بحارها ويا أنهارها، عندي كثير من هذه الأحاديث، وما سيأتي أجلب للعبرات وأبقى للحسرات، منك الصبر ومني الشكاة.
تنظر إلى الكتاب المطبوع بإحدى اللغات الأجنبية فترى مكتوبا على جلده الطبعة العشرون والطبعة الخمسون وأكثر من ذلك، وقد يكون عدد نسخ الكتاب في الطبعة الواحدة عشرة آلاف على الأقل، وليس في الشرق كتاب طبع مرتين إلا نادرا أو ما كان متضمنا للمجون، وجرائدنا ياكل مشتركوها أثمان اشتراكهم فيها، ويكتفي قراؤها بنسخ يأخذونها من المشتركين أو يقرءونها في القهوات، وقد يبالغ في الغرابة بعضهم فيرد الجريدة مكتوبا عليها «مرفوضة» بعد أن يكون قرأها أشهرا وأياما، وأغرب منهم من جاءته جريدة «الجامعة العثمانية»، وهي جريدة تنشرها «الجامعة العثمانية» في بيروت وتعطيها من دون ثمن، ويكتب على غلافها مجانا، فرد الرجل الجريدة بعد أن كتب على غلافها بالعربية والفرنساوية مرفوضة، رفض الفضل ورفض الكرامة، لا طال ذنب زمانه، ولم يخجله كرم الذين أحسنوا بها عليه إحسانا لم يقع على مستحقه، ومثل هؤلاء المخلوقات كثير بيننا ولا فخر.
يموت أدباؤنا وتطفأ أنوار المعاني في عقولهم وتبقى بيوتهم خالية وأجداثهم داثرة، وليس فينا من تحدثه نفسه بأن ينقب عن آثارهم، وينشر للأمة ما طوي من معارفهم؛ قرارا بفضلهم وتخليدا لذكرهم واستفادة من آثار قرائحهم، ونحاول بعد ذلك أن نجاري الأمم أو أن نشبه عباد الله، ما أكبر جهلنا بأقدارنا، وما أبعدنا عن مواضع الإنصاف!
لا أديب العراق أجدته فرائده، ولا الأستاذ مفتاح هنأته بلاغته، ولا إمام العبد أغناه شعره، وإن نسخة من قصة القاضي والحرامي أو قصة دليلة المحتالة أو قصة هف طلع النهار لأحب إلى عامتنا، وأشهى إلى خاصتنا من درر هؤلاء العظماء وجواهرهم وأدعى للشجون، ثم أبعث للطرب من قصائدهم وفصولهم، سقاهم الله، رعاهم الله، عاشوا مظلومين وماتوا مظلومين، وأودعت بطون المقابر كنوزا يتباهى بأمثالها ملوك الأرض. يروى أن بعض الإنكليز يقول لو خيرنا بين أن نخسر الهند كلها أو نخسر شكسبير لاخترنا خسارتنا للهند ولأبقينا شاعرنا عوضا عنها، ونحن ماذا نقول؟! نقول لتحيا الديكة والحمائم، أم نصيح ليحيا الدستور؟
إنا لنطمع اليوم في أن ننال ما لا يتاح لنا إلا بعد خمسين عاما، فمثلنا مثل جماعة من العميان، قيل إنهم ركبوا أحد المعابر (القوارب) ليعبروا النيل، فقال قائلهم: هل لكم في الخروج من المركب من غير أن تدفعوا أجرا؟ قالوا بلي، قال : إذن فاسمعوا لما أقول، إذا قارب المعبر الشاطئ صاح النوتي: «فلق»، فثبوا هنالك وثبة رجل واحد، وتفرقوا هربا، واعلموا أنه لا يترك معبره ويعدو وراءكم، فقبلوا المشورة، وكان النوتي يسمع المؤامرة وهم لا يشعرون، فلما توسط النهر صاح: «فلق»، فوثب العميان فوقعوا في البحر وغرقوا، وإني لأخشى أن ينادينا الغرور نداء النوتي فنغرق غرق العميان.
الأمة في حاجة إلى نوابغها، ونوابغها غرباء بينها، والصوت الأرن والقول المسموع ما يهتف به قوم صمتت ألبابهم ونطقت ألسنتهم، هم المسيطرون وهم الزعماء.
حسب الأديب في الشرق نعوتا تكال له كيل الحشف، فهو الأديب الفاضل والشاعر البليغ والكاتب البارع واللوذعي والألمعي وغير ذلك، وليت هذه النعوت تجبى لمن تصدق فيه، أو فيمن تكاد تصدق فيه، ولكنه مشارك فيها مشاركة الغبن، أهل البلدة كلهم أدباء فضلاء بلغاء فصحاء، ما سلم من ذلك ملك ولا سوقة، وأظن هذه هي المساواة التي يطلبها مجانين الدستور لا المساواة في الحقوق التي يثني عليها أهل الإنصاف.
ألا من مبلغ عني كل أديب في الشرق أنه أديب، وأنه فاضل وأنه لوذعي وأنه ألمعي وأنه فصيح وأنه بليغ، وأنه عند الناس وجوده مثل عدمه، وأنه أهون على أمراء الذهب من ديك من ديكة الهند أو من حمامة من حمائم اليمن.
كنت ذات يوم راجعا من دار البريد وفي يدي سيكارة هي أخرى أخواتها، فمر بجانبي رجل يسرع في مشيته فاستطارها من يدي حتى وقعت على الأرض، وكان اليوم شديد الهاجرة لافح الحر، فلما توسطت الشارع رأيت عربة نظيفة فيها رجل من رعاع القوم وأمامه اثنان من الإوز، ثلاث رفقة في خير عربة يقودها جوادان مطهمان، فرفعت طرفي إلى السماء وقلت: يا رب تلهمني الشعر، وتجري يراعي بما يستطيع من النثر، وتجعل عبادك يدعونني بالأديب إن صدقا وإن كذبا، ثم أرى أني أحقر من الإوز في هذا الشرق! ثم انصرفت صابرا.
هذا ميدان واسع، يتعب الجائل في أرجائه، ولولا حقوق للأدب وأهله ما سطرتها، ثلاثة إخوان، مكروب ودفينان، أما الرثاء فبعض ما يجب، ولن يفوتني ما استطعت منه، وأما النحيب فإني سوف أنتحب، فمن لي بمن يساجلني الدمع ويشاركني في الشكاية، أما إنا لمظلومون.
الفصل الثامن
ويل للناس من الناس
يريد الناس في الدنيا هناء
ويأبى أن يجود به الزمان
حياة حاربتهم منذ كانت
وحظ حاربوه منذ كانوا
وآمال تغرهم عجاف
وأحداث تكذبها سمان
وكم من مستنيل ليس يعطى
وكم من مستعين لا يعان
تكاثرت الهموم فلا يراع
يوفيها الشكاة ولا لسان
أمانا أيها الخصم المعادي
إذا دان العدى وجب الأمان
أإن رغبوا إليك رغبت عنهم
لقد هانت رغائبهم وهانوا
يمني الناس بعضهم بخير
ألا كذبوا على بعض ومانوا
فما للخير في الدنيا أوان
ولا للخير في الأخرى أوان
ولكن الشباب له جماح
ليالي ثم يعقبه الحران
يشد عنانه رائي جميع
إلى أمد فيسترخي العنان •••
وداع جاء يدعوني لنصح
وقد وهت النهى ووهى البنان
تعبت من الكلام فليس يجدي
كما أملت نظم أو بيان
وكانت صبوة ونزعت عنها
فها أنا لا أدين ولا أدان
وما أسفي على عهد تقضى
ولكن صنت عهدا لا يصان
ظللت أمينه دهرا طويلا
وكنت أظن أني لا أخان •••
ودار لا يزول القتل عنها
كأن الحرب فيها مهرجان
أهاب بها اليراع فلم تجبه
وناداها فجاوبت السنان
تظل بها السواعد عاملات
يصرفها ضراب أو طعان
بكت عيني الشباب وحين جفت
مدامعها غدا يبكي الجبان
لعمرك ما لذي نصح مكان
ولا للنصح في الدنيا مكان
فدعني إن آمالي استكفت
فلي شأن وللآمال شان
الفصل التاسع
إحدى عواصف الضمير
أجل إننا خاطئون، صدق لسان الحال وشهدت التجاريب، من ذا الذي يرى عدوه يغدو ويروح أمام داره، ينتزعه الرصاصة بعد الرصاصة ويعلم أنه لا محالة داهمه يوما إذا ضاقت به الحيل وأعياه طول الاصطبار، ثم يدع بابا مفتوحا لا حارس عليه، أكنا نرجي أن تأخذ عدونا رحمة بنا، أم كنا نحسب أن سيقف أمامنا ويحيينا بالورد والآس؟! إنا إذن مجانين.
قوم عبئوا فيالقهم واستحثوا سابحاتهم وجاءوا يمطروننا قنابل ويصلوننا نارا ، طمعا في أرض لا تربتها خصبة ولا ماؤها عذب، نهبا واغتصابا، يطئون الخدود المعفرة ويمشون على العظام النخرة، لم تسترجعهم آداب العصر العشرين، ولا نفذت إلى قلوبهم صيحات الساخطين من أبنائه، يستنيمون إذا عجزوا ويفتكون إذا قدروا، قد استحلوا بلادا غاروا عليها؛ لأن أهلها عرب، ولأن حكامها ترك، فكانوا فيها أشد خشونة من أهل القرون البائدة.
مضت خمسة شهور ونحن مع إيطاليا في حرب، قد أعدت لنا الموت في ألوانه المختلفة، ونحن ماذا أعددنا لها، سوى فئة قليلة تغذوها الفدافد ويسقيها الغيث، تسيل نفوسها على زرق الأسنة دوننا ونحن كعجائز الولائم، نأكل ونحملق، وفي أم عواصمنا أناس أعطوا الله مواثيقهم لا يتركون هذه الدولة وفيها من الحياة بقية، الأمم المحبة لنا تنصح، وأهل الرأي منا يرشدونهم، ولكنهم حرنوا حرانا، لا يريدون أن يتحولوا عن وجهتهم.
أنحن مخلصون لهذه الدولة؟ كلا ثم كلا، يا بعد ما بين الإخلاص وبين هذه القلوب! إن نحن إلا أقوام إذا صفا الدهر لنا أياما فخرنا بغير فخار، وادعينا ما ليس من طباعنا، كم بذلنا في سبيل الدفاع عن طرابلس، لولا ما ندبت به أكف سراة مصر وسائر بنيها من المال لجفت أكباد أبطالنا في حومات الوغي، قصور شاهقة أظلت شطي البسفور وذهب مذخور ونفائس مصونة في خزانات من الحديد، وعندنا أصحاب الدولة والعطوفة والسعادة والعزة والرفعة غصت بهم مجالس الشرف لم تسنح نفوسهم بنصف ما سنحت به أنفس المصريين، وكان قائلنا يقول قبل اضطرام الحرب: ألا لا تجهلن علينا إيطاليا، ألا لترجعن إلى صوابها، أما لنقومن أما لنفعلن، فلما جهلت إيطاليا ولم ترجع إلى صوابها ملأنا الدنيا صياحا، وأعولنا إعوال الثاكلات، وذهب وعيدنا كنفثة مصدور في ريح عاصف.
أي بني بلادي، لا أكذبكم، إذا كان أغش الناس لكم أحبهم إليكم، فهذا قلم لا يعلم تلك المسالك، اختلفنا وجوها وأشكالا، ولكننا اتفقنا طباعا وغرائز، يا ويل المخلص العاقل بيننا! يرى ويفهم ويقول فلا يسمع، إنما يطربنا نغم المادحين، سواء علينا صدق أم لم يصدق، إنما نريد أن نمدح ، ومن وقف بيننا موقف الناصح الأمين تهاوت على قفاه الأكف حتى تبقى على أديمه وسوما وندوبا.
يا ويلنا! إذا برزنا إلى ميادين الحفاظ وسلاحنا عبراتنا، فما نستبقي للعقائل التي في الخدور، هذه رقة لا الحضارة مصدرها ولا الحكمة أصلها، غير أن العجز، ذاك المسكر الذي أمال الأرؤس على المناكب هو الذي يجمجم تلك العبرات، نيل بها أعقاب الجدود المولية، ولبئست حيلة المحتال، كل قطرة من تلك الدموع تكون كلمة ذم تزاد في صحائف تاريخنا.
إذا جاء ميعاد الجدال في ميزانية الحربية والبحرية وقف ناظراها يستنديان أكف الأمة لزيادة الإنفاق، والإنفاق لدينا عن سعة، فما لبيروت، الثغر الباسم في محيا الملك العثماني تلم به دوارع الدولة المحاربة، فترميه بصواعقها وليس على بابها سوى دارعتين، ما ضمت أضلاعهما غير الهواء؟! لئن كان إيجاد أسطول يذود عن بيضة هذا الملك يحتاج إلى زمان طويل أفلا تستطيع الدولة أن ترفع على شط بيروت حصنين صغيرين تجعل فيهما بعض المدافع من معيار 13 عقدة فتضطر تلك الدوارع إلى الوقوف مكانها، وتحمي المدينة وأهلها شر البلاء.
مدت إلى دولتنا الأكف المصافحة تخطب ودها وتعرض عليها معونتها قبل الحرب وبعدها، ولكنها غلبت على أمرها في قبول الود، فوقفت موقف المرتاب، لا تدري ما تتحيز، أهذا مقام الشك؟ أفلم يبد لنا اليقين؟ ومتى تطمئن قلوبنا إلى إخلاص الناس لنا؟ ما أخال أن هذه القلوب تطمئن إلى شيء، أيام تمضي سراعا وفرص متتالية، ولما نعزم ولما نحزم، ما هذه السياسة؟
لم نتدبر أمرنا بعدة من حزم ولا من قوة، قد تركنا الأمور تجري في فوضاها غير أن الموت يدنو منا دنوا، قصارى هممنا أن ننشر طرفا من أخبار وقائع جرت في ميادين القتال، والعدو يسوق الجند بعد الجند، لا أدري متى يتهيأ لنا أن نغضب؟!
أليس من فاضح الخزي أن يصبح كثير من الناس يترحمون على أيام عبد الحميد - ولقد صدقوا - وما يجري على زمان كبرائنا يكاد يجري دموع عبد الحميد، أبو الظلم والاعتساف، أقام في قصره محجوبا إلا عن عيون تعود أن يغازلها، فكان لا يعتريه الحياء، لكن رجالنا يظهرون كأقمار التم في آفاقها، فكان من الشرف أن يخجلوا، أما أن يصان الملك على ما وجدوه، لا نطمع في زيادة، ولكن النعمة العظمى أن لا ينقص، فإذا أعجزهم هذا القدر من حسن السياسة، فليدعوا تلك المقاعد، غيرهم أولى بها.
الفصل العاشر
التكبر وحداثة النعمة
لا بد من التنقل إلى الاجتماعيات، فقد تضجر النفوس أساليب السياسة، ثم نحن إلى الاجتماعيات أشد منا حاجة إلى السياسيات، طال عهدي بفصول كنت أريدها فأجدها، ها أنا اليوم تصبيني الذكرى وتجدد حنيني الصبوة فأرجع إلى التجاريب، بعد أن طال بيننا التهاجر.
أريد أن أصف التكبر وحداثة النعمة، وليس عندي وصف يرضيني؛ لأن الذين وصفوا التكبر وصفوه غاضبين، وأنا أريد أن أصفه هازئا لا غاضبا، ويبقى لي شيء أتم به الكلام في حداثة النعمة.
التكبر ينشأ في نفس المرء من أشياء كثيرة، أشدها الحمق، ثم الاغترار بالانتقال من الضعة إلى الرفعة، ثم محاولة العزة عند الناس.
المتكبر ينظر إلى أعطافه ويأخذ في تغيير قعوده ونهوضه ومشيه ووقوفه حتى يستضحك الناظر؛ لأن النفس إذا خلا منها موضع الفضل وباتت الشمائل معطلة من زينة الأخلاق استمكن التكبر وبدت غرائبه.
عرفت رجلا تكبر بعد عناية أصابته فرأيته في أحد مجالسه وما زال ينحرف في قعوده ويتلوى في توجهه حتى انشق بنطلونه، وافتر عن بياض قميصه، فكان عابسا من فوق وباسما من تحت، وكاد أهل المجلس أن يموتوا من شدة الضحك.
ولقد رأيت أناسا من ذوي الألقاب المستحدثة يتكبرون، فهالني الأمر، فرحت أتحرى فيهم شيئا من النبل أو الفضل أتخذه عذرا لهم، فإذا عقول بخواتم ربها، لم تمسها فائدة، وإذا ألسن يتساقط منها الحديث كجلمود صخر حطه السيل من عل، وإذا وجوه صفر، كل وجه منها كإمساكية رمضان، وإذا عيون ما أومض فيها بارق من الذكاء، فقلت في نفسي: ما أشد عبث الدهر! يرفع هؤلاء من مواضعهم ثم يجلسهم مجالس ما خلقوا لها ليفضحهم على رءوس الأشهاد ، ولو تركهم حيث ولدوا لكان أشد رحمة بهم.
إن لقب باشا في هذا البلد أشد إسكارا للمرء من زجاجة الويسكي، يناله القروي الذي ربي بين الأنعام، وسار يستحث المحراث وتقوم جنباه على مضاجع الهشيم تحت سقوف الأعشاش، ثم ينزل مصرا أو يطلع الثغر فيرفل في حلة تكاد تتحل عن أعطافه، يخال رائيه أن ثيابه تمشي وحدها، فيطغى ثم يطغى، ويأتي طغيانه على شكله المضحك وكلامه السمج، كالخضاب على رأس الأصلع، فهذا فضح نفسه ولا يشعر أنه فضحها؛ لأنه يرى ضحك الناس منه فيحسبه إعجابا بفضله.
يا سيدي الباشا، لو تركت هذا الخان وتبوأت عرش بلقيس تنقله إلى إيوان كسرى، واتخذت من حمرة الشفق بردك ومن نجوم الأفق أزرارك، وتقلدت لامع البرق حساما وجعلت قوس قزح حمائله، ما زادك في عيني إجلالا مثل أدب أجنيه من فمك، وخلق كريم أتبينه في طبعك، وإني ليزهدني في كثير من أمثالك ما بيننا من اختلاف الحال، أنا أكتب وهم لا يفهمون، وأنا أخلد وهم يفنون، وأنا قديم عهد بالنعمة وهم حديثو عهد بها، وأنا يكرر ذكري كل ناطق بالضاد، وليس فيهم من جاوز ذكره آخر الزقاق الذي يسكنه، أتحدث بنعمة الله، تأدية لشكره، فأين أنت مني حتى تتطاول علي؟
وزراء الغرب وأغنياؤهم وأعيانهم يتواضعون لمن يغشى منازلهم، وهم لم يبلغوا من الرفعة إلا بالجد والكد وسهر الليالي، وأنت قبلت الأذيال ولا تزال تقبلها، فما يرفعك فوق أهل الرفعة.
ألا ترى ملوك الغرب كيف يتواضعون فيكلم الملك منهم الجندي، ويضع يده على كتفه ويقول له بني وأخي؟ ألا ترى سمو أمير البلاد، ما حظي بلثم يمينه أحد إلا خرج ولسانه شاكر وقلبه منشرح، ولكني - أستغفر الله إليك - لقد قايستك مع غير نظير، ولا أطمع أن تسمو نفسك إلى أكثر مما خلقت له، فكن حيث يسر لك أن تكون، مكانك من الطبع أولى لك.
هذا حديث أتى عرضا، وها أنا منتقل إلى غيره، شجو في الفؤاد، فاض ثم تدفق، فوا حر قلباه! كم يعاني المتأمل حالات الناس من سوء أخلاقهم! التكبر وحداثة النعمة، بئس القائدان إلى العماية.
السيدات يتجملن بالثياب وبالحلي، والرجال يتجملن بالأخلاق، وإن أفتن السيدات أنضرهن أخلاقا وأطيبهن شمائل، تلك التي يتضاءل عند نور نفسها لمعان جواهرها، فما ظنك بالرجال؟
رب كرسي يضطرب فوقه حديث النعمة وكأنه جالس على قرن الثور، لو اتخذ درجة لركوب الخيل لكان أرفع قدرا، ورب متكأ يغوص فيه حديث النعمة لو تحول مربطا لجواد لكان أشرف قدرا، حداثة النعمة فتنة من شر الفتن، ولكن الشرق مظلوم، محاسنه أقل من مساوئ الغرب، وهو غير أن مختال بها، يا مطلع الشمس وموطن المجد، متى يغنيك الله عن الغرانق ويبعث فيك مثل أولئك؟ إنك لجدير بالرحمة.
الفصل الحادي عشر
بين الوحشين الأب والزوج
ألم بها في حسنها وشبابها
كوردة بستان جنتها أنامله
فلما مشى من قلبه نحو قلبها
رسول الهوى خابت لديه وسائله
دعاها وستر التيه أسبل دونها
فما زال حتى رفع الستر سابله
ولو لم يحاول ذلك القلب باطشا
لحال على رغم الخلافة حائله
غزالة واد في حبائل قانص
تبث لغزلان الصريم حبائله
أقام الليالي وهي في قيد أسره
يغازلها لكنها لا تغازله
تضن ويسخو بالوداد وهكذا
يقابل قلب نافر من يقابله
قضاها له الظلم الذي كان قاضيا
وذلك عهد أظلم الناس عادله
تقضى ربيع العمر في غير روضه
ومات وما ناحت عليه بلابله
فيا حسرتا للغصن يذبل وحده
وتبقى عليه ناضرات غلائله
تجاوز غايات الثلاثين جائز
أحبته لو أنصفته عواذله
مضى حكمه لا أرجع الله حكمه
أواخره مذمومة وأوائله
رحمة الله عليك يا «آلبوز» بك، رجل جثته أعظم من المحمل المصري أربع مرات، ذو لحية كأنها الأجمة، ووجه كأنه ميدان القتال، وشكل لا يشابه أحد الأشكال الهندسية، لم يركب عربة إلا كسرها إما صاعدا أو نازلا، أكثر علمه باللغة الجركسية ولا يعلم منها أكثر من اثنتي عشرة كلمة، عرفته بسيواس نفيت إليها قبله ونفي إليها بعدي، وكنت أكثر عباد الله تعجبا من نكبة «آلبوز»؛ لأنه كان حما السلطان عبد الحميد ، وجد الأمير نور الدين أفندي لأمه، فلما علمت أن الحكومة جعلت راتبه مائة وخمسين جنيها في الشهر بطل تعجبي وتمنيت لكل أحبتي مثل نفيه.
أخذنا نتزاور وتحاب أهلانا، فبلغني أن له زوجتين هما آيتان في حسن الخلق والخلق، ما رأتهما سيدة إلا أحلتهما مكان الإجلال، فكان آلبوز بك كالأكمة تختفي وراءها هاتان الزهرتان، وإنما نفي إلى سيواس لخصام وقع بينه وبين بعض المقربين، وإن منهم يومئذ لجمعا لو اجتمع على طود لأماله على قواعده.
إن للتيجان بين رءوس الجبابرة وأقدام الغواني تنقلات تحدثها الصبابة، وكم من حريص ملك في فروق يهبه جملة لثغر ضاحك وما أقبلت السرائر على دول الشرق إلا وولت عنها الجدود، وبذا تبتدئ قصة المرحوم «آلبوز». نشأت له ثلاث بنات، كبراهن ذات جمال يستهوي قلوب أهل الورع، فوصف جمالها لعبد الحميد وهي طفلة، فما أومأ إليها بطرف سبابته إيماءة واحدة إلا وقد ألقي بها بين يديه، ثم فاضت مواهبه على والديها فيضا، فأنعم على أبيها برتبة الميرالاي وأدخل في حرس القصر السلطاني، غير أن نفس «آلبوز» بك ترفعت عن الوشاية، فبقي مكانه ولم يترق في الرتب، وحيل بين الطفلة ووالديها، ما سألا زيارتها إلا عللا بالمواعيد الكاذبة، ومرت الأعياد وهما يرجوان التلاقي بها فلم يقدر التلاقي، وأتت محنة النفي ولم يزودوا بنظرة إلى غصنهما الرطب في مغرسه الذي نقل إليه، وإذا هي يوما قد وضعت الأمير نور الدين، متقدم الذكر في هذا المقال، وعقد عقدها على سلطان العثمانيين فصارت ثالثة نسائه، اليوم أوفى عبد الحميد على باب السبعين، وهي لا تزال في أوائل العشرين.
سمعت أنين آلبوز بك أيام المحنة، فقلت هذا أول طود يتألم، خبرت عن حزن جرمه فقلت درة تذوب بغير لهب، وكم تمنى ذانك القلبان لقاء ساعة فضن بها الجبار، اجتث ذلك الغصن الأهيف من منبته، فلما بات في قبضته حاول أن يميله إليه فاستعصى، وما زال يجاذبه السلطانين من ذهب وقوة حتى استماله بالقوة، وما هي استمالة ولكنها إذلال، تتبدى على مثل عرش بلقيس، مستقرة بقصر «يلديز» تضم بين ذراعيها فرعا من شجرة عثمان الباسقة، نعم الظل غير أنه محرق، وحبذا الجاه ولكن حماه موحش.
حدثني ابن آلبوز بك، قال: دخلت القصر فانتهوا بي إلى ابن أختي الأمير وهو في الثامنة من عمره، فأجلسني أمامه في عربته وطاف بي الحديقة، وقال سأسأل مولاي أن يجعلك لي ياورا، وحين أنس خلوة همس في أذني: إن والدتي مشتاقة إليك، لم تنسك أبدا، وهي توصيك أن تحسن التعلم وأن تكون نابغا بين نظرائك، وكان ابن آلبوز بك يحدثني وعيناه مغرورقتان في الدموع، قلت: ذهبت وصاة أختك في الريح، هل جاء المسكينة أن أخاها لا يحسن الهجاء؟
تواقعت قنابل جيش الحرية على أسوار الملك المستبد وبينها أنفس تدعو لراميها بالتسديد، وأبت بعد ذلك أكثر نساء الملك المخلوع أن يشاركنه في محنته وأن يسكن معه في سجنه، فكانت بنت آلبوز بك فيمن خرجن من قصر الأتيني رغبة في الحرية، أبين أن يتحرر العثمانيون والعثمانيات من أسر الظلم وأن يبقين وحدهن أسيرات.
يا أسود سلانيك ومناستر، إن وراء السجون لمكربات كشفتم عنهن الكرب، أن رءوسا عقدت عليها التيجان تحنى لديكم اليوم إجلالا.
سمح الزمان للوالدين بلقاء تمنياه طويلا، فلما شفيت النفس من ألم الفراق رحل آلبوز بك إلى الحجاز فمات في طريقه، وطابت أرجاء الحرية للحمامة المروعة بين الوحشين الأب والزوج، فكم قبلة شوق من شفتي الأم الوالهة تستقر على جبين البنت الوفية، سلام على تلك الدار التي اجتمع فيها الشمل، إنها لقرارة الصفو والهناء.
الفصل الثاني عشر
ما أكثر خطوبك يا فروق!
نفدت دموعي والأسى لا ينفد
اليوم يبكيني ويبكيني الغد
بالله يا وطني أما لك راحم
أكذاك نارك كل يوم توقد
وجدي عليك ولست وحدي واجدا
من يعرفونك واجد أو موجد
ذهبت محاسنك التي أنشدتها
فإذا صبوت فأي حسن أنشد
إن يظلموك فكم أصابك ظلمهم
إن كنت تجحده فما أنا أجحد
أو ينزلوا بك للحضيض خيانة
فلعهدنا بك للكواكب تصعد
لو كان في هذي المنازل مصلح
ما ساد في هذي المنازل مفسد
إن يحرقوها ظالمين فبعدها
نار ستحرق في لظاها الأكبد
أفروق ما لك في البرية منجد
كلا، ولا لي في البرية منجد
فستظلمين كما ظلمت بمعشر
سادوا وأكثرهم بأرضك أعبد
كم حريق وكم بلاء، أمصباح فروق هذه؟ أكذا دابها الدهر؟ لا تخمد إلا تضطرم، فنيت أو كادت، اليوم ينكرها عارفها، أكل هذا بيد القدر؟ أكذا قضي عليها يروع فيها النيام تحت ظلمات الليالي؟ ما آوت فئة إلا تكشفت فئة، لقد نسيت الثغور الابتسامات، لقد جهلت القلوب الأفراح، دجان من الدمع وتهتان يرتفع من نواحيه صياح الوالهين، الأمان الأمان، ما بقيت أرواح ولا أجساد.
فروق، لو كان حظي منك مثل أساي عليك لادعيت أني أسعد الناس، أرى بك وجوها لا عهد لي بها، كنت أفزع منها في دولة الظلم، ولما انشق صباح العدل ظننت أن سنبدل عنها بخير منها، فإذا هي ثابتة كمسامير النحس، لا تقتلعها من مكانها قوة.
ما تشتعلين وحدك، كل الأقطار العثمانية في اشتعال.
نار الحرب ونار الثورة ونار الحريق، أغيضت البحار أم جفت الينابيع أم مزقت صحائف الغيث، أم يبس الكون كله؟
لبست عليك ثياب الحداد أربع مرات في أربعة أعوام، هذه حياة الحداد، أم آلى بنوك لا يفرحون بعد الظلم، ما أشد كلف الناس بالظلم، من أجل هذا كانوا يدعون لعبد الحميد بالعمر والتأييد، علا رءوسهم فأثقلها، وأومأ إلى أكفهم فأثقلها، واشترى منهم وطنهم بثمن بخس، ثم جاد به على الخراب، ولكنه كره أن يجود به جملة وأشفق أن يجعله حطبا للنار.
تنفست أطنة عن النار وبكت الدماء، ثم كان سكوت يتخلله زفير، فاستبطأ الخطب الفريسة، فإذا دمشق ملتهبة، وإذا حيفا ملتهبة أهما تشبهتا بفروق أم هي تشبهت بهما؟ كلا، إن لفروق السبق، إن عهدها بالنار قديم، تجري النار في أوصالها كما يجري السكر في مفاصل النشوان، هي الشواء اللذيذ تسمنها الغفلة وتأكلها الخيانة.
لهفا على هدية الفاتح، لهفا على الغالية البيزانطينية حبيبة قسطنطين العظيم، سبية الفاتح العظيم، عروس خدر المجد، غانية الشرق في الغرب، المتقلبة على ترائبها الخضر حمائم الموج، الضاحكة بثغر الخليج في وجه الطبيعة، بنت الربيع، أم الخصب، مناحة البلابل، لعبة النسائم.
ألا ذمة وازعة؟ ألا وجوه تستحي؟ أعند أجداث العظماء أجداث الفاتح وسليم والصقوللي والكوبريلي؟ أتلقاء مراقد الشهداء شهداء الحرية بمقربة من «الكاغد خانة»؟
لا حزن إلا أن تتصدع القلوب كما تصدعت تلك المباني، ولا وجد إلا أن تنضب شئون العيون كما نضبت تلك المياه، تفنى الألفاظ وتنفذ المعاني ولا يؤدي الشكاية لسان ناطق ولا قلم كاتب، وا حسرتاه على فروق.
ما لنا؟ ماذا نحاول عند هذا الملك المسكين؟ لقد مال حتى ضرب الأرض بجرانه، ألا أشفى، ألا احتضر، أيتها القلوب القاسية، أيتها الأيدي العابثة، أما شبعت من القرابين؟ عفي قليلا، فلقد تعف السباع إذا كثرت لديها الأشلاء.
تعالوا أيها العثمانيون ندرك فروق، تعالوا نأس جراحها، عاصمة ملككم، عذراء دولتكم، إخوانكم، أخواتكم بالعراء موسدون، ألا تغارون عليهم من الأعين الخائنة؟ أليس فيكم من ينهض ليستر جسدا عاريا عاش مصونا؟ ادعوا العثمانيين إلى نجدة فروق، هل من سامع؟ هل من مجيب؟
الفصل الثالث عشر
لعل النهضة الثانية أثبت من الأولى1
كانتا كنا حالمين، أطبقت ظلم على ظلم حتى التمس الناس بعضهم بالأيدي، ثم لاحت إيماضة فانطوت، ثم استمرت الظلمات أربعة أعوام كاملة، وها نحن اليوم نتبصر فنرى سنا باديا فنهتدي به، إذا لم يكن برقه خلبا فإنه كوكب الصبح، بعده نهار مشرق الطلعة صافي الديباجة، ألا عم صباحا أيها الطلل البالي.
كنا في مثل هذا الأوان نسمع ما يقوله المعجبون بالاتحاديين، فنكاد نطاول الجبال غرورا، وكنا إذا ذكر الاتحاديون نطرب به كما يطرب بالصوت الحسن سامعه، فإذا دعا باسم الجمعية داع أصاخت له الأرواح في الأجساد، وكم تخيلنا تلك الجمعية، فواحد يصور منها مثالا كتمثال «فينوس»، وآخر يقيم لها طورا يسجد له كأنه طور سيناء، وظل كل قلم كأنه «فرشة» روفائيل المصور الشهير، وظلت سلانيك ومناسير كأنهما لوحان من ألواحه الفاتنة الخالدة.
وهبنا هذه الجمعية المودات وبذلنا أيام الحياة ، فردت المودات وقبلت أيام الحياة، فباتت وهي أملك للأرواح من بارئها، وكانت أحب إلى الناس من النعيم، فصارت أبغض إليهم من الشقاء. ولما سطت على المستبد سطوتها، ورحلت به إلى موضع أمانها، زادت مكانا وحبا، حتى قدسناها تقديسا، وكانت في غفلة من الأمة تسرق وتخزن إلى أن نما ثراؤها وملئت خزائنها، ثم اشتد ساعدها واستحل سطرها فلم توقع به إلا الأمة، فإذا سيف من عدل الإله قد سل على زقاق «شرف» حتى كاد يحصد زرعه حصدا.
إنا لنعرف لأبطال العثمانيين فضلهم، لقد استعادوا الدستور مرتين، أما المرة الأول فأتى من لم يصنعوا شيئا وزاحموهم في الحكم، وأما المرة الثانية فنرجو أن لا تكون كذلك، اليوم أهل فروق في عيد جديد، هنيئا لأهل فروق عيدهم، وإنها لحسناء وإن صفيت، وفاتنة وإن رفلت في الأطمار البالية، إذا بدت على ترائبها قلائد الزينة بين الثياب، رأينا كواكب الأفق في الليلة الصافية، لن يغيرها أن مآلفها اليوم أجداث، وأن دورها أطلال، حسبها أن خلصها من ظلم الاتحاديين، فإن دام لها هذا الهناء فذلك جد عاود الصعود، وإن ودعها بعد قليل وصل ساعة داوى هجر أعوام.
الفرح بالنجح لا يدع مجالا للشماتة بخيبة الأعداء، إن العثمانيين أولو نجدة، رضينا أن نفوز ولا نبالي أن يرجع الأغيار بإخفاق.
الله الله، ما أطيب شذا الحرية، وما أرق نسائمها! ضاقت بنا بلاد الله ونحن اليوم نمرح بين الخافقين جذلا. دنوا دنوا أيتها الآمال المولية، إنا لنحسبك بعد اليوم ثابتة غير مزعزعة، بضاعتنا ردت إلينا، لا نطلب من عدو لنا ما بين جنبيه، ذاك عطاء من الله، ولا نحاول حسابا على ما مضى، إنا في حاجة إلى راحة يتلوها العمل.
أهلا بوزراء الدولة وشيوخ تجاريبها، أحق الموضع بكم هذه المقاعد، ملك مهزول، وأهوال ناصبة، ومكايد مثبوتة، وأعداء مختبئون لا ينهض بهذه الأعباء غيركم، فإن جاوزتم بنا الهلكات وانتهيتم إلى الموضع الذي تركنا فيه الآباء، فآمال أصابت وجدود ساعفت، وإن حالت فتن الأعداء دون ما تريدون، فشقاء لم نستحقه ساقه قدر محتم وفناء موعود.
لن نقترح الآن شيئا، أنتم أعلم بما ينبغي؛ لأنكم في الدار ونحن نازحون عنها، خلا شيئا واحدا نطالبكم به ما تحركت في أفواهنا ألسن: أن تحموا شيخنا الوطن، وأن لا تجعلوا عصره السابع آخر عصوره، الإخلاص معان والصدق مرجو، فإن قصرت سواعدكم وصلناها بسواعدنا، أمامكم السلطان وعلى آثاركم الأمة، هكذا تنتظم مواكب المجد.
رحمة الله على حسن فهمي وصميم وزكي ثلاثة أغصان علت في أرض الوطن، في ربيع الحياة، هصرتها يد الموت بمنجل الجمعية، جمعهم التراب كما تجمع الحرية والمساواة والإخاء كلمة العدل، سلام على تلك الأرواح الطاهرة، لعل النهضة الثانية أثبت من الأولى.
الفصل الرابع عشر
كم تحت هذه السماء من أعين باكية!
هل يعقل الدهر وهل يسمع؟
فما الذي يشكو له الموجع؟
تجري صروف لا على نية
نخالها تبطئ إذ تسرع
وكلنا شاك وباك على
أشياء قد زالت فلا ترجع
كم تحت جون الليل من مهجة
تكاد لا تمسكها الأضلع
وصاحب النعمة لاه بها
وحامل النقمة لا يهجع
رحماك يا خالق هذا الورى
ارث لبلواه إذا يضرع
صعب علينا بعض ما قد جرى
أما إذا شئت فما نصنع؟
تحت مضارب الظلم، وفي استغراق سكونها، حركات تحجبها أستار الغيوب، هي الأقدار لا تغالب؛ لأنها خلقت غالبة، ولا تتقى لأنها ترى ولا ترى، والبرايا أغراض منصوبة تنتزعها بالرمية بعد الرمية، فتصيب الأجساد وتنفذ منها إلى الأرواح، ولا يسمع لوقعها إلا مثل وقع القبلة على جبهة الميت في نعشه.
ما توشك البسمة أن تنطفئ فوق ثغر إلا وتجعده آثار البكاء، إن ينابيع الدموع لمعينة، وإن منابت الحسرات لخصبة، وللأمل الكاذب وميض في ليالي الخطوب، أشقى الناس من يعلق به بصره.
بكينا بيروت في جراحها الدامية وأعولنا على التيتانك في غرقاها، وها نحن اليوم نندب تكساس
1
في أضاحيها. يا ديباجة الأفق انطوي، ويا سحب الربيع موري، ويا مياه الأوقيانس غيضي، ويا صفحة الأرض تمزقي، ويا رواسيها ميدي، حتى لا يبقى على هذه الكرة الهوجاء إلا دخان الحسرات منعقدا في جوها على أرواح المظلومين.
سمعت يمامة ترجع على فنن الدوح، فهاجني ترجيعها، قلت يا يمامة، دوحك مورق فينان، وماؤك عذب رقراق، وعشك تلاعبه أنفاس الصبا، وملعبك طيات النسائم وملك الله في فضائه، فما شجاك فأبكاك؟ ومن ألقى عليك هذا الترجيع؟ يطاردك الصياد الخائن فتعجزينه ولا تعلمين أنه مدركك يوما، وتتوعدك كواسر الهواء متحاومة عليك، وإن في عشك فراخا زغب الحواصل، فهل أتاك أن للأقدار وثبات لا مهرب عنها؟ تذكرت قول أبي فراس:
أيضحك مأسور وتبكي طليقة
ويصبر محزون ويندب سال؟
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة
ولكن دمعي في الحوادث غال
لقد تتقي الحرب بالسلام، ولكن بم تتقي الأقدار؟
مكان الدمعة الحائرة على المحجر المسهد مكان اليتيم الضائع على السبيل الموحشة، تتلألأ ثم تختفي، ولو دامت مكانها لكانت الشقوة أعظم.
أيتها الأم الثاكلة أجملي جزعا، وأيتها الأيم الواله اقتصدي وجلا، ويا ملك المهد، ابك واستبك، صوتك مرنان ودمعك لؤلؤ رطب، دع الأيام تنظم من ذلك اللؤلؤ قلادة تلبسها الرحمة، هي أولى بهذا الحلي دون كل الحسان.
في ذمة الله أيتها الأنفس المستفاضة والأشلاء الضائعة بين السماوات والبحار، اذكرينا إنا ذاكروك، وابكي علينا إنا باكون عليك، لم يبق بيننا وبينك رسائل سوى العبرات.
الفصل الخامس عشر
ما يمنع القلوب أن تطير من الصدور؟
على أبواب الوطن، بين السماء المضطرمة والأرض المضطربة، جمعان حالاهما مختلفتان، جمع سكن سكون الأبد اتخذ من حواشي الجبال مضاجع طاب عليها رقوده، تنفخه أنفاس الشتاء وتنديه مدامع السحاب، كأن الشباب زاده واليوم ينقصه البلى، وكأن الأمل أسكت أفواهه واليوم تنطق الظلامة جراحاته، وجمع ركزت له راية، فهو مقيم يحميها، لابث مكانه، لا يستقدم ولا يستأخر، كأن أقدامه استأصلت في موقفه، موكل بمخارم جتالجه، يضرب عليها بالأسداد، قضي عليه أن لا يسهر إلا على ظاهرها، وأن لا ينام إلا في باطنها، وفي أعشاش القرى ومنازل المدن أصوات تتجاوب بالعويل، وعلى السرر المتقابلة أجساد استخلصت من الموت أو كادت، التفت حولها العواد، وبين هذه القيامة دولة كظل الجام على المائدة، لا يراه إلا المتثبت، تستجمع قواها لتصول صولة واحدة، إما إلى حياة تستمر فيها المغالبة، وإما إلى موت تستكن فيه الآمال، هذا هو المشهد الذي تتملى من مشاهدته دول أوروبا، بنات التمدين عرائس القرن العشرين.
لو شاءت تلك الفاتنات أن لا تروع بهذا المشهد لفعلت، إشارة واحدة كانت تستوقف الخصمين، غير أنها آثرت الغرض على الإنصاف، فباتت وعلى أعناقها من آثار تلك الدماء المراقة قلائد ليست حلى ولا شكلا، تلازمها على توالي الحقب، شاهدة بآثامها عند أحفادها.
سليلة السبعة الأعصر محتضرة، إنا نراها مختلجة على مرقدها، لن يضير زوالها إلا العثمانيين، هم وحدهم أولى الناس بالوجل وبالجزع، إن تشتم أنفاسها تقض بسنن الماضيات من الدول، غير أن ذاك الاسم الكبير، اسم العثمانية، يبقى خالدا، مشرقا في أوله، مظلما في آخره، ويشهد الله والناس أنه لم تمحه أكف الأعداء بل أكف بنيه، وأنه لم يضيعه إفراط الأعداء في هجومهم بل تفريط الأبناء في حذرهم.
تنادوا بالحرية فأتت وأعطافها تقطر دما، بئست الغانية، أغلوا لها المهور فاسترخصت الآمال، لم يبق يومئذ في مكان الفتنة جان إلا وتبدى للأعين، لقد أصبحت دور الحكومة كخلايا النحل من كثرة المترددين عليها، كل يحمل رأيا ويبتغي له ثمنا، حتى راحت ملايين الذهب في تلك الهوات، ولم تحصل الأمة من ناهبيها إلا مواعيد أبعد شيء عنها هو الوفاء، وثقت بالدولة فوليها المتغلبون، ووثقت بالجيش فاستهواه المتغلبون، ووثقت بنفسها فضربها المتغلبون، ثم وثقت بدول التمدين فأعرضت عنها بوجوهها النضرة. ألا في ذمة الله تلك الثقة، تهدى إلى الخلائق فيردونها، كأن الله تعالى لم يخلق لها صاحبا.
إذا دعت الفائدة دول الغرب بذلت في سبيلها كل ود، ولو كانت أبصر بالفائدة من وجه حلال لأقبلت على هذه الدولة مطالبة بفض هذا الجمع الثائر، جمع الاتحاديين؛ فإنه لا شأن له اليوم، ما رجاله إلا كغيرهم، تتخذهم الأمة أوصياء على نفسها ولم تولهم الوصاية دولة من الدول، فلو كانت هذه الدول اتحدت على مطالبة الحكومة العثمانية بذلك؛ لأفادت العثمانيين ولاستفادت.
أية أمة تطيق هذا الذل؟ خمسة أعوام طوال مضت، وأعنة الأمور بأيدي أناس لا ندري من أين طلعوا، فيهم الجاني والمستبد والمتعصب والسارق والممتهن، أوزاع وأعناق لا تكون أسرابا ولا أقطاعا، فكيف تكون مملكة يراد أن يعاد بناؤها؟
تخاطفوا ما ادخره عبد الحميد وتناهبوا ما علق بأركان الخزائن الفارغة، وأنزلوا الويل على رءوس الأمة حتى استغاثت بالأغيار، وأوقعوا في الناصحين تقتيلا وتعذيبا، وصالوا على أهل الرأي يخرجونهم من وظائفهم، ثم فرطوا سلك الممالك فتهاوت متتابعة من طرابلس الغرب إلى البلقان، وجاءوا في أواخر أيام الدولة ليحرموها الموت في دعة.
أربعون مليونا وأكثر من الأربعين مليونا، ذهبا عينا، لو اشترت الحكومة العثمانية بهذا المال حجارة ترصف بعضها فوق بعض لحالت دون إيغال المتغلبين في أرضها، أين ذهب هذا المال؟ وأين بات ذلك الجيش الذي قالوا إنه في مقدمة جيوش العالم؟
قد كان لأنور بك ولإخوانه من الرأي ما يعلمهم فرق ما بين الحرب في درنة والحرب في البلقان، هذا مقدار من المعرفة لا يحتاج أن يكون صاحبه أركان حرب، فكيف خيل إليهم أن مقتل ناظم باشا وإسقاط ذلك الشيخ العظيم كامل باشا يستدفعان غارات الأعداء؟ ليهنأ أولئك المتطفلون، إن الأمة غافلة، وإن غفلتها ستصاحبها إلى أن يتقلص هذا الظل المتضائل، ظل العثمانية. ولكن كيف السبيل يومئذ إلى استرجاع ما مضى، وما مضى لا يسترجع؟
أستثني أنور بك ورفيقيه على علاتهم، ولكن ماذا صنع الباقون؟ قضى منظم هذا الجيش أوقاته في بيته كما تقول جريدة الطان، وتقلد طلعت بك حسامه في أول الحرب وتوجه إلى أدرنة، واليوم مات من القواد والجنود من مات وجرح من جرح وأسر من أسر، وبات في حصار أدرنة ألوف من المدافعين، وفيهم خلق كثير حتى من مكاتبي الجرائد والقائد لم ينزل عن فراشه الوثير والناظر لم يبد للأعين إلا محتميا بظهر أنور وأنصاره، هذا مبلغ شدة القوة في الذود عن دولتهم، وهذا منتهى نجدتهم في معاندة دول العالم.
ليس لدينا لسكان البلاد إحصاء يوثق به، غير أنهم كانوا يقولون إن عددهم ثلاثون مليونا، وكنا نزيد ثمانية من عندنا فنقول ثمانية وثلاثون مليونا، فكيف يبقى عدد الجنود المجندة من هذه الملايين غير متجاوز ثلاثين ومائة ألف مقاتل؟! ما ذاك إلا أن العدة منعدمة، وأن الأمة افتقدت نشاطها الأول، وغلب عليها اليأس وأدركها الوجوم، وإلا لعبت تلك الوديان بسيل من قنا وجياد، ولتوجت ذرى الشم الصعاب بالمقاتلة من كل الأجناس.
لطم حقي باشا في بعض هجماته إسماعيل كمال بك لطمة دوى صوت وقعها في آذان النواب، فصبر لها إسماعيل كمال وأسرها في نفسه، ولم ينهض في ذلك اليوم نائب يؤاخذ الضارب، جهل الجميع أن حقي باشا لطم ألبانيا بأسرها، أجل، لقد أحس بوقع تلك اليمين كل ألباني ذي حياة، ولقد انتقم إسماعيل كمال، غير أن انتقامه أصاب الدولة ولم يصب المعتدي، وبقي حقي يغشى معاهد لذاته في بيرا وغيرها، والدولة والأمة تنضحان دما وتتقدان ألما.
نموت كراما أو نعيش كراما، ما أجمل الكلام لو قاله غير قائله! وكم من كلام حق يراد به الباطل، ولا يحتاج الخادع لخدعة الأمة العثمانية إلى أكثر من هذا، غير أنا - وا حسرتاه - نعيش أذلاء، ونموت غدا أذلاء، وتبقى تلك الأموال المختلسة من خزائن الدولة ينفقها مختلسوها في سبيل لذاتهم، لا يحيون الدولة الزائلة بقطرة من دمع، ما فات مات، وقد قال كثير عزة:
فقلت لها يا عز كل مصيبة
إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
الآن لما كادت الحرب تطوي شرتها، ويدعى إلى التقاضي قاتل الأمة وناهبها، يأتي الجانون وأيديهم تقطر دما، وأكياسهم تتفجر ذهبا، يستعيدون المخادعة؛ ليستروا تلك الآثام، ثم ينادون بيننا باسم الوطن الذي قتلوه، ونصدق نحن ما يقولون، إننا إذن أبعد الناس عن الصواب، كلا، إن اسم الوطن أرفع من أن تتماضغه تلك الأفواه، نخشى عليه من حر تلك الأنفاس التي تنفخ بسموم المطامع، على الأمة أن تنظر في أمرها، لا بد لهذا العبء الثقيل أن يوضع، أفي ساعة الموت نروع بهذه الوجوه؟ ما يمنع القلوب أن تطير من الصدور؟
الفصل السادس عشر
عبد الحميد مبكيا بعد سقوطه
إن من عجائب الشرق أن يشكو ابنه الرجل حاضرا، وأن يشتاق إليه غائبا، ومن عجائبه أن يكون لكل امرئ رأيان ليس له أحدهما، ولكنه يحملهما استخداما لهما، فكلما حل بين جماعة من أهل أحد الرأيين كلمهم به، والآن أرجع إلى استيفاء شرح ما أردت.
رأيت أناسا يقولون رحمة الله على أيام عبد الحميد، كانت خيرا من هذه الأيام، وسقى الله عبد الحميد، كان أحسن من رجال اليوم حالا، وأحكم تدبيرا وأسلم نهجا، يا عجبا لهذه الرءوس! خلت من كل تأمل، وإنما برق لها في العهد الحميدي بارق المال والجاه والوسام فهاجها، وإلا ماذا يبكيها من افتقاد عبد الحميد؟
ألم يأتها أن رجال اليوم إذا قصروا عن الخروج بهذه الدولة من ظلماتها؛ فذلك لأنهم ربوا في دولة عبد الحميد ونشئوا في ظل سلطانه؟
ألم يأتها أن عبد الحميد لم يفسد الدولة وحدها، بل أفسد الأمة معا؟ أبى عليها مكارم الأخلاق كلها، ما انتفع بكذب إلا حض عليه، ما انتصر بخدعة إلا ساق إليها، أربع وثلاثون سنة، كل سنة منها كالعصر طولا، من ابن الخمسين إلى ابن السنة الواحدة مستثمر بيد عبد الحميد، ناشئ في دوحته.
أجل، إن الفساد سبق عبد الحميد إلى الأمة، ولكنه تخاذل عنها أحيانا، ولم ينتصر إلا بعد عبد الحميد.
رأيت رجالا كان الناس يطاردونهم في العهد الحميدي، فإذا هم اليوم موضع لرحمة الناس، لا أسميهم - والناس يعرفون من أريد - سلبتهم الدولة ألقابهم وردتهم إلى أصولهم، ولكن الأمة لم تبرح حافظة لهم ألقابهم، مؤثرة لهم على سواهم. بمن استعان عبد الحميد إذا بطش؟ وبمن استهدى إلى مكان الأرواح المظلومة إذا استنفرها؟ ألم يكن هؤلاء المرحومون اليوم أعوان نقمته وأهل مشورته؟ ألم يسلب الأمة لكي يمنحهم؟ ألم يضعها لكي يرفعهم؟ ما أشد جهل الأمة بما لها وبما عليها! ولو رثت لهؤلاء المطرودين نخوة منها ونجدة لكان ذلك منها تكرما، ولكنها تنظر إلى ما بقى بأيديهم من الغنائم فتعظمهم لتشاركهم في بعضها، على أنها خاطئة؛ لأن الكاسبين في ظل عبد الحميد كسبوا ما كسبوا ببيع أغلى ما يملكه الإنسان، وهو الشرف، ومن يجعل الشرف فداء المال كيف يجود بذلك المال لمن يملقه؟
هذا خطأ، غير أنه خطأ لا يرجى إصلاحه، الناس مغرمون بأولي الجاه، ومغرمون بمن كانوا أولي الجاه، إذا ساير رجل رجلا من أولئك الواقعين التفت يمنة ويسرة ليرى كيف تجول الأبصار فيه، ولقد يهز منكبيه ويتأود في مشيته زهوا؛ لأنه يساير من كان له لقب أو قدر في دولة عبد الحميد، وبهذا القدر من الرأي ومن الحرية تريد الأمة أن تنتفض في أغلال الأسر فتكسر حلقاتها.
هيهات ثم هيهات! عرف أعوان عبد الحميد ذنوبهم وخافوا أن تتناولهم الأمة خفافا وأن تعبث بهم أهوانا، فوجدوا عند الأمة خلاف ما خافوا، وهذا من أكبر دواعي الأمان لمن أتوا بعد عبد الحميد وسلكوا طريقه، هم يقولون نربح اليوم ولن نخسر غدا، إذا أسقطنا الحكومة تلقتنا الأمة بأكفها، وفيما ندخر من المال سبيل إلى حياة طيبة وذكر جميل، وإن أمة لا تعرف الجميل من القبيح لتعجز عن مقاضاة أمثالنا.
إيه يا أهل الشرق، ويا بني العثمانية! يتعاقبكم المتحكمون يجزون نواصيكم، ويسلون أرواحكم من أجسادكم، وأنتم حامدون شاكرون كأن الله لم يخلق أناسا لغفران الإساءة ونسيان الجميل سواكم!
إذا فذوقوا ولا تشتكوا، إن أعداءكم اليوم من أولي الحكم أحبتكم غدا، ولكني كنت أقنع منكم، أن يبقى في فكر بعضكم شيء من هذه الإساءات تعاتبون عليها إخوان الغد عتابا إذا مالوا بآثامهم عن تلك المقاعد، ولكنكم لن تفعلوا. وا رحمتا عليكم! لم أجد أمة أولى منكم بالرحمة، أحسن الله عزاءكم في عبد الحميد، وأحسن الله عزاءنا فيكم.
الفصل السابع عشر
بين أنقاض الوطن
ديار الحمى حيث القنا والصوارم
تحييك من عيني الدموع السواجم
لقد طرقتك الحادثات فجأة
وأهلك في أمن وبأسك نائم
فبيناك والليلات فيك ولائم
أذابك والأنهار فيك مآتم
لك الله لا تنفك عنك نوائح
ألم يبق في ذا الدوح إلا الحمائم
أدهرك ذا الوادي من الدم مترع
إذا أمسكت بالوبل عنه الغمائم •••
حلمنا بشيء وانتبهنا بضده
وما يجتني من كاذب الحلم حالم
وكانت لجاجات فلما تيسرت
تزهد مشتاق وأقصر هائم
أقيم بناء بالعراء على شفا
ولم تقو آساس له ودعائم
فما ظن منه قائما فهو مائل
ومن ظن منهم بانيا فهو هادم
وهل ينفع الأطلال تجديد عهدها
إذا درست آثارها والمعالم •••
لحا الله قوما حملوك مغارما
وراحوا وفي الأعناق منك مغانم
هم وعدوك العدل كي يظلموا به
أبا ظالما لكن دهتك المظالم
ولا خير في ملك إذا جار شعبه
ولا خير في ملك إذا جار حاكم
وكيف انتقاء الخطب قد جل وقده
إذا بردت تحت الصدور العزائم؟ •••
وأربعة مرت ولم تحل لامرئ
تهادت على الأقطار وهي سمائم
سعت بالنيوب العصل تنفث موتها
ولا عجب بعض السنين أراقم
تعوض يأسا من غدا وهو آمل
وشام يقينا من سرى وهو واهم
ولما أباحوا حرمة الرأي للهوى
أهابت بأطماع الغواة المآثم
فهبت هبوب الريح من كل جانب
تدافع عنها بعضها وتزاحم
فما تستطيب الحكم فيه مشارك
ولا تستلذ الغنم فيه مقاسم
ويمسي لديها طائع وهو خائف
ويضحي لديها آمر وهو واجم
وليس بمجد في الغواية ناصح
وليس بمجد في الصبابة لائم
وكيف يقر المجد في ظل دولة
وحامدها يحيا بها وهو ناقم •••
تداعوا لنصر والرجا عنك ذاهب
فهلا تداعوا والرجا لك قادم
وبت وبات الداهمون تعاضدوا
فإما تراخى داهم شد داهم
فلم أر خطبا مثل خطبك ناهضا
يدافعه ملك كملكك جاثم
ولم أر مجدا مثل مجدك ناصعا
يظلله حظ كحظك قاتم
تطالعك الأقدار وهي عوابس
ويا طالما حيتك وهي بواسم
وترثي لبلواك المداين رحمة
وقد حسدت فيك السرور العواصم •••
فيا من رأى تلك الفتوح التي خلت
تجرع أسى قد أعقبتها الهزائم
لئن كنت في شكران حالك جارما
فما أنت في شكران ماضيك جارم
سنبكي لعهد عاره متجدد
ونأسى بعهد مجده متقادم
وفي الدمع والتأسي تخفيف لوعة
إذا أثقلتها الكاربات الكواظم •••
ومعترك للموت أما سماؤه
فنقع، وأما أرضه فجماجم
تنازع فيه النصر خصمان أعزل
يدافع عن ملك وشاك يهاجم
تأخرت الأعلام عن مستقرها
وفر محاميها وقر المخاصم
تفزعت الآجام وهي شواهد
ضراغمها تسطو عليها الضراغم
تجاوبها من حولها في زئيرها
رعود لها في الخافقين زمازم
مدافع منها قسطل متراكب
بنادق منها عارض متراكم
وصائب حتف مستهل فواقع
وراجف روع مستطار فحائم
ووجه ردى في أوجه الكل ضاحك
ووجه رجا في أوجه البعض ساهم
كأن الوغى قد صار في أنفس الورى
هياما فمن يقتل يمت وهو هائم
فمالهم غير الدماء مشارب
وما لهم غير الرمام مطاعم
إذا آنسوا ضعفا فكل محارب
وإن وجدوا بأسا فكل مسالم
وما خير سلم فوقه الشر عاصف
وموج المنايا تحته متلاطم
تشير أكف بالسلام خديعة
وتنزو بأخرى للصدور الصوارم
وكم كان في هذي النفوس منافس
فلم يبق في هذي النفوس مساوم
ولم تبق في الدنيا لنفس فضائل
ولم تبق في الدنيا لطبع مكارم •••
هوت «قرق كليسا» عند أول صدمة
ولما يكن في «قرق كليسا» مصادم
أناف عليها جحفل متحامل
وطال عليها مأزق متلاحم
تقاعس «عبد الله» فيها عن العدى
ولم يلق «عبد الله» جيشا يقاوم
وقد كان فيها سلة من ضراغم
فبادت وولت للنجاة النعائم
بدت تستغيث الهاربين من الردى
زيانب في أترابها وفواطم
سوافر في ذاك الدجى قد تبذلت
ترائب منها روعة ومعاصم
فليس لهم عن مورد العار دافع
وليس لها من مصدر البأس عاصم
أما كان في القوم المولين راحم
فقد قيل في القوم المغيرين راحم
أدرنة لا يبرح دعامك قائما
فإن دعام الحرب تحتك قائم
عرمت عرام الدهر جاشت صروفه
وهل يستذل الدهر والدهر عارم
ألا إن هذا موسم المجد عائدا
ولا غرو للمجد الأثيل مواسم
يظل بنوك الباسلون بعزهم
وآناف أعداهم لديك رواغم
تبوأت بين الموت والهون موضعا
أقرك فيه خطبك المتفاقم
فإن تشته موتا يرق لك كاسه
وإن تسأمي هونا فمثلك سائم
إذا نحن أعظمنا بلاءك روعة
فذاك بلاء أعظمته العظائم
فإن تسلمي تنسي رزيئة هالك
وإن تهلكي لا يهنأ العيش سالم
شطلجة لا تنفك عنها خضارم
كذلك لا تنفك عنك خضارم
فيا عجبا للويل منه مشاكل
ويا عجبا للويل منه ملائم •••
بلادي ما لي لا أرى غير واطئ
ثراك ألما يبقى في الناس لاثم
توالتك تيجان فشادت لك العلى
فلما استتمت هدمتها العمائم
لئن كان في الإسلاف بينك غالب
فما كان في الأسلاف بينك حازم
لقد بان عنك الرأي مذ بان كامل
وقد مات فيك البأس مذ مات ناظم
طغى الشر في بعض النفوس ولم يزل
يرب إلى أن أعلن الشر كاتم
ألا جمح الغاوون فيك جماحهم
فهيهات تجدي بعد هذا الشكائم
تولوا سراعا حين سلت بواتر
وعادوا سراعا حين صلت دراهم
فجاءوا يسوسون الأنام سياسة «سدى لم تسسها قبل ذاك البهائم»
فكم عالم صاحوا به أنت جاهل
وكم جاهل قالوا له أنت عالم
أقاموا وما فيهم عن الزور تائب
وظلوا وما فيهم على الختل نادم
عزيز علينا أن ذا الملك زائل
وأن الذي قد أذهب الملك دائم •••
صحا كل شعب فاسترد حقوقه
فيا ليت يصحو شعبك المتناوم
هو الشعب أفنى دهره وهو خادم
وليس له فيمن تولاه خادم
يقلب من عهد لعهد على الأذى
إذا زال عنه غاشم جد غاشم •••
أعادينا حكمتمو السيف بيننا
فجار وحكم السيف كالسيف صارم
فلا تطمعوا أن تهضمونا بهذه
فليس لحر في البرية هاضم
إلى حضرات القراء
انتهت التجاريب، ويرى القراء من مطالعتها أنها كتبت في أوقات مختلفة على حسب تقلبات الأحوال السياسية، فأبدى الكاتب رأيه في تلك الحوادث، وقد علمت من سعادته أنه كان يود مواصلة الكتابة وتدوين كل ما عن له، غير أنه رأى أن أكثر تجاريبه مؤلم كما جاء في المقدمة فاكتفى بهذا القدر ولسان حاله ينشد قول المتنبي:
ليت الحوادث باعتني الذي أخذت
مني بحلمي الذي أعطت وتجريبي
وقد عرف قراء مؤلفات ولي الدين بك يكن السابقة كالمعلوم والمجهول والصحائف السود وهذا الكتاب المؤلف سياسيا واجتماعيا، وسيصدر قريبا كتاب عفو الخاطر، فيعرفونه أدبيا؛ إذ قد خلا الكتاب المذكور من كل شيء سوى الأدبيات من شعر ونثر، وإني أبشر حضراتهم أن سعادته ساع في جمع ديوانه ونشر سائر آثاره، فيعرفونه إذ ذاك شاعرا كبيرا كما عرفوه كاتبا قديرا.
فؤاد مغبغب
Shafi da ba'a sani ba