وجدنا قرية كقرانا في الريف. تقع وسط سهل ومراع، تطوقها سلسلة من الجبال الصخرية من ثلاث جهات. - مدينة عمران. - مدينة عمران!
غادرنا السيارات، تناولنا الطعام من العلب، وشربنا بحيطة وحذر. أحاط بنا الغلمان والأطفال شبه عرايا، حملقوا في وجوهنا بأعين داهشة ثم تبادلنا الابتسام، ومرح الأطفال حول السيارات وتحتها. رغم البؤس أطل علينا من الأعين البريئة جمال فطري ونظرات ذكية، ترى من من هؤلاء تربطني به صلة قربى ترجع في تاريخها إلى ألف عام؟
ولم نمكث في عمران إلا ساعات، ثم صدرت الأوامر بالذهاب إلى حجة. تحركت القافلة دون أن تترك وراءها ذكريات، دخلنا في السحاب مرة أخرى حتى غاب عنا كل شيء. وندت أصوات متفرقة في المسيرة الطويلة. - أهي أرض عدوة أم صديقة؟ - ربما انهال علينا المطر أو الرصاص. - قريب من هنا هبط سيدنا آدم إلى الأرض.
تلوت الفاتحة والصمدية، ولما انجاب السحاب عنا ترامى أمامنا الطريق الصخري مرة أخرى، ثم انفسح فيما يشبه الدلتا عن أرض رملية تغطي الحشائش بعض رقعات منها متباعدة. وتوقفت القافلة فجأة فاشرأبت القلوب. دارت السيارة المدرعة في حركة مناورة. وجرى التهامس من سيارة إلى أخرى كمين ... كمين. تناولنا البنادق في حركة استعداد، برز علم أبيض من وراء أكياس الرمل المطوقة للكمين. خرج جندي يمني ملوحا ومرحبا، نزل إليه من السيارة المدرعة ضابط فتصافحا، زار الكمين ثم عاد إلى السيارة. دخلنا حجة، القرية الجديدة، يا للقرى! إن قلبي يحلم بشيء لا يتحقق. التقينا بجنود مصريين من المشاة، تفرقنا في الخلاء والشمس على وشك المغيب، الجو مائل للبرودة كأيام الخريف يا مصر. - جنود مظلات؟ - نعم. - صرواح! - صرواح. - هبط الجنود في واد ضيق تكتنفه الجبال. - في صرواح؟ - نعم .. ثم انهال عليهم الرصاص من الجبال. - في أي وقت؟ - الفجر. - وقت يسهل فيه الاختفاء، هل وقع ضحايا كثيرون؟ - غير قليلين، ولكنهم طهروا المنطقة. - ليرحم الله الشهداء.
بلد كأنه شبكة من الجبال المتقاطعة، من كان يتصور ذلك؟ كحارات خان الخليلي، كحجرة جحا، كالتعليمات المالية والإدارية. السحاب يركض وعما قليل تختفي السماء. وقيل إن المطر سينهمر، وارتفع النداء داعيا إلى إقامة المعسكر. (3)
الأديب
استيقظت بعد نوم ساعتين، غادرنا السفينة إلى مطار الحديدة، اتخذنا مجالسنا في طيارة إليوشن ناقلة للجنود. سنرى اليمن من فوق؛ صحراء وجبال ومراع، أما المنظر الجديد حقا فهو منظر الوديان الخضراء في سفح الجبل. وقال أحدنا للمرافق لنا: الجبال عالية جدا. - وتنطلق الطيارة بحذاء بعض القمم أحيانا. - لو أن عدوا ربض فوق جبل فلن يتعذر عليه إصابة الطيارة بالبندقية العادية؟
فضحك قائلا: ولا يخلو بعض طياراتنا من آثار عديدة للرصاص.
ولما رأى وجومنا استطرد: لا تزيد نسبة الإصابة القاتلة عن واحد في الألف.
أسلمت ناظري إلى الجبال تحتنا؛ القرى الخضراء والفجاج المتلوية. حتى لاحت صنعاء، من الجو بدت مدينة عمران ومجمع أحياء ومقر قباب ومآذن. وعندما حملتنا السيارة من المطار إلى الفندق خاضت بنا زمنا موغلا في القدم، تراصت على جوانب الطرقات المتربة بيوت غريبة مزركشة، زركشتها أيدي أطفال فنسجتها من خيوط الأحلام، وألقت بها في قلب مدينة سحرية. انشق سطح الأرض عن دنيا عابرة تطوف بها القلانس والوزرات والخناجر والبنادق واللحى. لفحتنا غربة، لاطفتنا نسمة، تجاذبتنا عواطف مبهمة، ثم لذنا أخيرا بأطيب المشاعر البشرية التي جئنا بها. وفي الفندق ارتددنا إلى ذكريات الطفولة، درجات السلم العالية، رائحة الكلس العطنة، الأسقف العالية. فندق قديم كقلعة بالية يديره غلام ذكي. جلسنا على الأسرة في عنبر جمعنا، وتبادلنا أحاديث لا نهاية لها؛ وإذا بالغلام يجلس على كرسي عند باب العنبر بلا استئذان، جعل يقلب عينيه اللماحتين فينا بهدوء عجيب. ولما تركزت الأبصار عليه قال: أنتم مصريون؟ - نعم يا أخا اليمن. - أتريدون فطورا؟ عندي بيض من اليمن، وفول من مصر، ومربى من أوروبا ... - أأنت صاحب الفندق؟ - ابن صاحبه، ولكني مديره. - كم عمرك؟ - اثنا عشر عاما. - إذا غالطناك في الحساب؟ - إني أغالط الجن. - عفارم عليك، وما رأيك في الثورة؟ - كلنا متجمهرون وثوار، واللعنة على الأعداء!
Shafi da ba'a sani ba