عدت إلى أمي فارغا، فصرخت في وجهي: يا خبر أسود، أنت يا ولد عبيط؟ - القرش. - ما له؟ - ليس في جيبي. - اشتريت به حلوى؟ - أبدا والله. - كيف ضاع؟ - لا أعرف. - تقسم على المصحف أنك لم تشتر به شيئا؟ - أقسم ... - جيبك مثقوب؟ - أبدا. - ربما تكون أعطيته للبياع في المرة الأولى أو الثانية؟ - يمكن. - ألست متأكدا من شيء؟ - أنا جائع.
ضربت كفا بكف، وقالت: أمري لله، سأعطيك قرشا آخر، ولكني سآخذه من حصالتك، وإذا عدت بالطبق فارغا سأكسر رقبتك!
وذهبت جريا وأنا أحلم بفطور لذيذ، وعند المنعطف المفضي إلى حارة البياع رأيت حلقة من الصبيان والأطفال، وسمعت تهليل أفراح. ثقلت قدماي وشد قلبي إليهم، على الأقل ألقي نظرة عابرة. اندسست بينهم، فإذا بالحاوي يطالعني، غمرتني فرحة مذهلة، نسيت نفسي تماما، استمتعت بكل قوة بألعاب البيض والأرانب والحبال والثعابين، ولما اقترب الرجل ليجمع النقود تراجعت هامسا: «لا نقود معي.» انقض علي متوحشا، تخلصت منه بصعوبة، جريت ولكمته تشق ظهري ، ولكني سعدت للغاية، وذهبت إلى البياع وأنا أقول: بقرش فول بزيت يا عم.
جعل ينظر إلي ولا يتحرك، فكررت الطلب، فسألني بغيظ: هات الطبق. - الطبق! أين الطبق؟ سقط مني وأنا أجري؟ خطفه الحاوي؟ - أنت يا ولد عقلك ليس في رأسك!
عدت أفتش في الطريق على الطبق المفقود؛ وجدت موضع الحاوي خاليا، ولكن أصوات الأطفال دلتني عليه في حارة قريبة. درت حول الحلقة، لمحني الحاوي، فصاح بي مهددا: ادفع أو فاذهب أحسن لك.
فهتفت بيأس: الطبق! - أي طبق يا ابن الشياطين؟ - رد إلي الطبق. - اذهب وإلا جعلتك طعاما للثعابين.
إنه سارق الطبق، ولكني ابتعدت عن مرمى عينيه اتقاء لشره، ومن القهر بكيت، وكلما سألني مار عما يبكيني قلت له: «خطف الحاوي الطبق.» وانتبهت من كربي على صوت يقول: «اتفرج يا سلام.» نظرت خلفي فرأيت صندوق الدنيا قائما، ورأيت عشرات من الأطفال تهرع إليه. وتتابع وقوف المشاهدين أمام عيني الصندوق، وراح الرجل يشرح الصور بإغراء: «عندك الفارس الهمام، وست الكل زينة البنات.» جفت دموعي وتطلعت إلى الصندوق بشغف، نسيت الحاوي تماما والطبق، لم أستطع مقاومة الإغراء، دفعت القرش ووقفت أمام العين إلى جانب بنت وقفت أمام العين الأخرى، تسلسلت أمام ناظري صور الحكايات الخلابة. ولما عدت إلى دنياي كنت فقدت القرش والطبق ولم يعد للحاوي من أثر، لم أفكر فيما فقدت، واستغرقتني صور الفروسية والحب والصراع، نسيت جوعي، حتى المخاوف التي تتهددني في البيت نسيتها. تراجعت خطوات لأستند إلى جدار أثري كان يوما ما مبنى لبيت المال ومقرا للقاضي، واستسلمت بكليتي للأحلام. حلمت طويلا بالفروسية وزينة البنات والغول، وتكلمت في حلمي بصوت يسمع، ولوحت بيدي بأكثر من دلالة، وقلت وأنا أدفع بالحربة الخيالية: خذ يا غول في قلبك.
وجاءني صوت رقيق قائلا: ورفع زينة البنات خلفه فوق الحصان.
نظرت إلى يميني فرأيت الصبية التي زاملتني في الفرجة؛ تبدت في فستان متسخ وقبقاب ملون وهي تعبث بضفيرتها الطويلة، وفي يدها الأخرى حبات بيضاء وحمراء من «براغيث الست» تستحلبها على مهل. تبادلنا النظر، مال قلبي إليها، فقلت لها: نجلس لنستريح.
بدت مستسلمة لاقتراحي، فأخذتها من ذراعها ودخلنا من بوابة الجدار الأثري، فجلسنا على درجة من سلمه الذي لا يفضي إلى شيء؛ سلم يرتفع درجات حتى ينتهي إلى بسطة تلوح وراءها السماء الزرقاء والمآذن. جلسنا صامتين جنبا إلى جنب، قبضت على يدها، وجلسنا صامتين لا ندري ماذا نقول. وتناوبتني مشاعر غريبة وجديدة ومبهمة، قربت وجهي من وجهها، فشممت رائحة شعرها الطبيعية تخالطها رائحة ترابية وعبير أنفاس ممزوج بشذا الحلوى. قبلت شفتيها. ازدردت ريقي الذي اقتبس مذاقا حلوا من ذوب براغيث الست، أحطتها بذراعي دون أن تنبس بكلمة، وأقبل خدها وشفتها، فتسكن شفتاها عند تلقي القبلة ثم تعودان إلى استحلاب الحلوى. وقررت أخيرا أن تقوم، قبضت على ذراعها بجزع وأنا أقول: اجلسي.
Shafi da ba'a sani ba