إذن فهو يراهم على حين أنهم لا يرونه ولا يرون شيئا، وبسبب الظلام يعيش كل منهم في عالم خاص به مغلق الأبواب عليه. يجيئون من أماكن مختلفة، متباعدة ومتقاربة، لا يدري أحد عن الآخر شيئا، يشدهم إلى هذه الحجرة داء واحد، والمعلم يدعوهم واعدا إياهم بالأمان والستر، وكلما دعا أحدهم قال له: في عزبة النخل داري، وفي حوشها الخلفي فيما يلي الحقول شيدت حجرة مرتفعة، معزولة عن الأرض بلا موصل يفضي إليها، ستصعد إليها على سلم خشبي سرعان ما يطرح تحت أكوام التبن، فهي حصن لا يكبس، ولها من الظلام حولها حصن آخر.
أجل، ها هم معلقون في الهواء، غائصون في الظلام، كأنما يعيشون في الزمن الذي لم تكن الأعين قد خلقت فيه بعد، وكل يد تلامس اليد المجاورة عند تناول الجوزة ولكن يد من هي؟ أي شخص وأي هوية؟
ويضحك المعلم ويقول: نحن مدينون للظلمة بالسلام الذي ننعم به، صدقوني فإنني رجل مجرب.
لم يتوقع يوما أن يناقشه أحد خشية أن يفضحه صوته لدى آخر ممن يكفنهم الظلام. وكان يقول لهم: لو تعارفتم على ضوء شمعة لتبادلتم أحاديث لا نهاية لها. ولاحتد الخلاف بينكم، ولانقلب المجلس جحيما لا يطاق، وطالب اللذة لا يحب ذلك، أما أنا فأمقته مقتا.
وندت من الظلام همس ضحكات مكتومة، فقال: أعرف بينكم أناسا مختلفي الأديان والآراء، وها أنتم تمضون وقتا طيبا في سلام بفضل الظلام والصمت.
ند الهمس من جديد، لعلهم يسخرون كعادتهم ولو في سرهم. يا لها من طريقة طريفة لمعالجة التفرقة الدينية والفكرية! يسخرون وهم لا يعرفون للحجرة التي يترددون عليها شكلا إلا مس الشلت والحصيرة المفروشة بينها! وهو يسعل كثيرا، ثم يقول بصوت كالقرقرة: إن أحدكم قد يلقى جليسه في مكان فلا يعرفه، قد يكون زميلا في مصلحة أو عضوا في أسرة، قد يريد له الخير أو يضمر الرغبة في قتله، كل ذلك طريف للغاية !
إنهم جميعا غارقون في الإثم، وحامل الإثم جبان؛ ولذلك فهم يكتمون الضحكات فتضغط وتمط في صوت فحيح زاحف في الظلمة. ويضحك عاليا ويقول: إني أعرفكم جميعا، الاسم والعمل والمكانة، أما أنا فلا يهمني شيء، لا يكبل الإنسان مثل حرصه المضحك على حسن السمعة، وما سر الحرية التي أتمتع بها إلا السجن والخلاء وسوء السمعة!
يا له من صوت كالقرقرة. ونبرة لا تخلو أبدا من السخرية والثقة بالنفس، وسوء سمعته جدير بتخويف الناس من مجلسه لولا دبلوماسيته في معاملة السلطات، وعنده يجد المصاب ما لا يجد عند غيره من الصنف والطمأنينة. ويقبع في الظلام محتكرا الكلام والرؤية. ومرة قال ضاحكا: إنكم جميعا من السادة، لكم منزلة تخافون عليها، أما الفقراء فلا يخافون على شيء؛ ولذلك فلا مكان لهم عندي، ولذلك فهم لا يؤمنون بالظلام والصمت.
هذا الرجل رغم حقارته ذو مكانة يؤمن بها المصابون بالأدواء. يتلقون أياديه بامتنان، ولا ينتشلهم من العدم إلا عيناه المحطمتان لجدار الظلمة؛ وهو أحدب، مغضون الوجه، قصير القامة، نيف على السبعين، ولكنه ذو حيوية شيطانية. ويسألهم ضاحكا: لم لا تجعلون من حياتكم كلها امتدادا جميلا لهذه الجلسة؟
ثم قال وكأنه يجيب على سؤاله: ستقولون العمل .. الأسرة .. الواجب.
Shafi da ba'a sani ba