ولا نتطال إلى أن نؤنب أية دولة على ما اقترفته في الماضي؛ فإن ما فات فقد فات ولذلك نرى من الواجب علينا أن نعلن على رءوس الأشهاد أن الظن بأن إنكلترا كانت تدبر لمصر سياسة غدر وخيانة ظن سيء فاسد مبني على جهل القائلين به.
ولذلك ستظهر للملأ أن مصر لم تكن في زمن من الأزمان الغابرة العامل الأول في سياسة إنكلترا الخارجية، وأن ما اتخذته إنكلترا من الذرائع في مصر لم يكن إلا من الضرورة والاحتياج لاتساع نطاق السياسة البريطانية في الشرق فصارت مصر حينئذ عاملا مهما من عوامل السياسة البريطانية الخارجية ولكنها لم تكن غرض إنكلترا الوحيد.
ورغم كل هذه الحقائق فإن التهم التي ألصقت بوزارة خارجية إنكلترا ظلما لم تزل ولن تزال بدون دحض ولا نقض.
وسنبحث فيما إذا كانت إنكلترا قد انتهزت في الحقيقة فرصة الحركة العرابية لتضع يدها على مصر كما انتهزت أية دولة قوية ضعف جارتها، أو أن ذلك الاحتلال جاء عفوا صفوا، ثم نبحث فيما إذا كان هذا التداخل الإنكليزي قد ألحق بمصر نفعا أو ضرا. بعد أن بررنا هذا التداخل والتمسنا لإنكلترا فيه عذرا لدخولها في ميدان الاستعمار الذي جعل احتلال مصر ضربة لازب، فنقول: كل من له إلمام بتاريخ إنكلترا ومستعمراتها يذكر أن إنكلترا قامت نحو سنة 1757 بأعمال سياسية وحربية في الهند استمرت سبع سنوات، تمكنت بريطانيا عقبها من القبض على صولجان السيادة في ولايات الهند الشمالية الشرقية كافة، فكتب على مصر من ذاك الحين أن تكون عاملا مهما في سياسة إنكلترا الاستعمارية، على أن مصر كانت لها أهمية تجارية قبل ذلك العهد، وهي أنه قبل افتتاح قنال السويس كانت معظم التجارة المستعجلة الآتية من الغرب إلى الشرق تنتهي إلى الإسكندرية، ومن هناك تحمل على ظهور الجمال إلى ثغر السويس.
ومن هنا تظهر أهمية مصر التجارية قبل افتتاح ترعة السويس نفسه، ومن يتتبع تاريخ التجارة بين الشرق والغرب يلاحظ أن طريق البحر الأبيض كان يدخل في دور الأهمية سنة عن سنة، ويتجلى له أن عدد المسافرين الذين كانوا ينزلون مصر قبل سفرهم إلى الشرق الأقصى كان يزيد عاما فعاما، وفي سنة 1780 ازدادت قوة إنكلترا في الهند وساعدها الحظ فحصلت على ولاية كارناتيك، فأصبح الاستيلاء على مصر في مقدمات الأمور المهمة لضمان بلاد الهند.
ثم رأت إنكلترا أن أملاكها ومستعمراتها في أفريقية لا تكون أبدا في مأمن من غارة الأعداء إلا إذا ضمت إليها بلاد الكاب، ثم نظرت فشهدت العلم الفرنسوي يخفق فوق جزيرة موريتيس فهاج من ذلك سخطها ولحقها الجزع لعلمها أن جزيرة موريتيس «ركن خطر»، وإن بقاءها في يد دولة معادية أيا كانت يعرض إنكلترا لأخطار دائمة، فلو بقيت فرنسا في تلك الجزيرة فإنها تتمكن في أي حين من أن تبعث بسفن حربية من سفنها لمناوأة السفن البريطانية، أو أن تبعث بثلة من جندها لسلب السفن البريطانية التجارية.
وغني عن البيان أن إنكلترا لم تكن لتتحمل كل تلك المتاعب إذا أرادت أن تتوسع في سياستها الاستعمارية، فهل تلام إنكلترا إذن إذا كانت لا تدخر وسعا في امتلاك بلاد الكاب وجزيرة موريتيس؟ أفنسمي سياسة دولة تنظر في العواقب وتحسب للمستقبل ألف حساب سياسة مكر وخداع؟
ألا نعلم أن السياسة الدولية مبنية على الأنانية وحب الأثرة وتفضيل الذات على الغير، وأن الدولة التي تفضل دولة أخرى على نفسها تداس بالأرجل وتسقط في أقرب زمان.
على أن المقام لا يسمح لنا بالإفاضة في هذا البحث والنظر فيما إذا كانت سياسة الاستعمار التي تتخذها كل دولة لتوسيع أملاكها سياسة حكيمة عادلة مبنية على الفضيلة وحب الخير للإنسانية أم لا، وكل ما نقول هو إن الاستعمار قد أصبح الغرض الوحيد الذي تسعى إليه كل الدول، فلم تبق دولة من دول العالم وضربت فيه بسهم، فإن كانت سياسة الاستعمار جديرة باللوم والذم فإن الدول جمعاء جديرة بهما، ومن الظلم أن نرى عيوب دولة ونغض الطرف عن عيوب دولة أخرى.
وغني عن البيان أننا لا نبرر استيلاء إنكلترا على الهند لأننا لا نرى لها حقا أدبيا في ذلك، ولكن إذا كانت إنكلترا قد وضعت يدها فإنها لا تستطيع أن ترى وهي قريرة العين هادئة البال عدوا قويا ذا بأس شديد كفرنسا على قيد ذراع من الطريق إلى الهند؛ لأن مثل هذا العدو في آونة الحرب الحقيقية يمكنه أن يضرب إنكلترا في مستعمراتها ضربة قاضية قبل أن تصل النجدة الحربية إلى نصف الطريق من ثغر بليموث إلى البحار الهندية.
Shafi da ba'a sani ba