ولا نستطيع هنا أن نأتي على تاريخ جزر إيونيون وعلى ذكر الملوك الفاتحين الذين وضعوا أيديهم على هاتيك الجزر قبل أن أهداها الملك لويس الثامن عشر لإنكلترا في سنة 1814 جزاء على ما قامت به نحوه، ويكتفي أن نقول إن نابوليون استعمل تلك الجزيرة مرقاة ووسيلة وصل بها إلى مصر ولو صنعت له الأقدار على ما أراد لكانت تلك الجزر وسيلة إلى بلاد الهند. على أن نابوليون كان ينوي أن يجعل تلك الجزر قاعدة أعماله الحربية عندما خطر بباله فتح ممالك أوروبا الوسطى، ولكن واقعة أبي قير عكست آمال ذلك البطل الكبير واستولى الأسطول البريطاني على ثلاث جزر من جزر الإيونيون ما عدا كورفو التي ما زالت محافظة على ولاء نابوليون حتى تنازل عن الملك وكان ما كان.
وقد صادق مؤتمر فينا على هدية لويس الثامن عشر لإنكلترا، وبعبارة أخرى قرر هذا المؤتمر إعادة الجمهورية في جزيرة كورفو تحت حماية بريطانيا العظمى، فعينت إنكلترا من قبلها رجلا اسمه «ميتلند» مراقبا على الجمهورية الكورفية، فاتخذ ذلك المراقب سياسة غير حميدة وأسس حكومة توافق أغراضه وعامل أشراف كورفو على ما هم مشهورون به من الجموح والشدة بالغلظة والقسوة ووضع عليهم سيطرة من حديد، ولكنه أصلح إصلاحا كثيرا فمهد السبل في الجزيرة وحصنها، ولما ذهب «ميتلند» وجاء غيره مكانه ضعف نفوذ إنكلترا لضعف ذلك الغير، مع أن من حلوا محل «ميتلند» كانوا على جانب عظيم من الذكاء والبراعة، ونحن لا نستطيع أن نطيل البحث أكثر من هذا إنما نلفت نظر القارئ إلى كتاب «أملاك إنكلترا الضائعة» تأليف المستر لورد فإنه يتضمن كل ما يتعلق بهذه المسألة وغيرها من أمثالها.
هذا وقد استمرت الحال في كورفو على هذا المنوال إلى سنة 1864، ونقول كما قلنا سابقا إنه لم تفتح لنا خزائن أسرار الحكومة فلا نستطيع أن نعلم الأسباب القوية التي اضطرت المستر غلادستون لتسليم هذه الجزيرة في السنة المذكورة آنفا (1864)، ولا يخفى أن أهل كورفو كانوا شديدي الخزوانة، ولكن إنكلترا صرفت خمسين سنة في تهذيبهم وتهدئة خواطرهم وكبح جماحهم ولم ينفد صبرها على طول هذا الزمن، ولا نعتقد بأن إنكلترا اضطرت لتسليم هذه الجزر مقابل إبعاد الدوق «لوكتنبرج» الذي رشحته روسيا وفرنسا للعرش اليوناني.
ولسنا في حاجة إلى ذكر سخط الأمة الإنكليزية التي هاجها هذا التسليم، فإن الإنكليز ظنوا لذلك العهد أن النفوذ الحربي لإنكلترا في البحر الأبيض قد ضاع ولن يعود أبدا، ولكن كذبت الأيام هذا الظن وأخمدت نار ذلك الهياج، ولو أن إنكلترا جادت بهذه الجزر كرما منها لعد ذلك العمل جنونا وجهلا ولا نظنها اقترفت مثل ذلك الذنب، وسنترك أسباب الجلاء ونتكلم عنه وعن طبيعته لأهميته، فنقول: إن إنكلترا رغبت في أن تهب أهل جزر كورفو حريتهم بشروط تجعل كورفو في مستقبل الأيام تنفع إنكلترا أكثر مما تضرها، وأظهرت إنكلترا رغبتها الشديدة في الانسحاب من مكان لا يمكنها الاستيلاء عليه تماما إلا إذا ظلمت أهله وأجحفت بحقوقهم؛ ولذلك فهي لم تكن لتقبل أن تخلي تلك الجزر ليأتي غيرها ويستولى عليها ويستعملها سلاحا يحارب به بريطانيا، وضمت النمسا صوتها إلى صوت إنكلترا وطالبتا كلتاهما بحياد هذه الجزر وأشارتا على حكومة اليونان بإتلاف كل الحصون والقلاع الحربية التي في الجزيرة، وسألتاها أن تعد وعد حر بأن لا تقيم أعمالا حربية في الأرخبيل فأجيب طلب الدولتين وصارت جزيرتا كورفو وباكسو على الحياد، وقد دلت إنكلترا بإخلائها كورفو على عزة نفس وشهامة قل أن يوجد لهما مثيل، ولكن لا نحسب أن تلك الشهامة كانت خالية من نظر سياسي بعيد، فإن إنكلترا بلا ريب كانت في كوفو في «مركز كاذب»، وربما كان يقف هذا المركز في سبيل سياستها حجر عثرة، ومن الغريب أن الأمر الذي أصدرته لاحتلال تلك الجزر كان غريبا جدا، فإنها صرحت فيه بأن تلك الجزر مستقلة تمام الاستقلال ولكنها «تحت أمر المراقب البريطاني العالي»، وقد حاولت إنكلترا سنين طويلة أن تنفذ منطوق هذا الأمر ولكنها لم تنجح؛ لأنه كان من اللازم أن يعلم العالم إن كانت هذه الجزر بريطانية أو غير بريطانيا أي «مستعبدة» أو «مستقلة»، فليس بنافع أن تعذب إنكلترا أهل كورفو برجاء كاذب فإما تمنحهم حريتهم وإما تمنعهم إياها، ولم تكن إنكلترا لتتحمل مجالس الأمة والجمعيات العمومية التي كانت تجتمع في الجزيرة تحت إدارة الوطنيين، ولو هي أغضت عنها فإن ذلك كان يعد منها احتقارا لنظام الحكومة الكورفية.
ثم رأت إنكلترا أنه من المستحيل أن تهزأ بعهود الدول وتعلن امتلاكها للجزيرة لأن ذلك كان يضر بشرفها وبمنافعها السياسية معا.
ولو أننا لم نطلع على الأوراق السياسية السرية ولكننا لا نغالي إذا قلنا بأن مركز إنكلترا الكاذب في كورفو سهل على أعدائها تهديدها، وكثيرا ما اضطروها إلى الإذعان لهم رغم أنفها. وزد على ذلك أن أهل كورفو ذاتهم كانوا في كل يوم يفتحون أعينهم لينظروا إلى استقلالهم الخيالي نظر السجين إلى الحرية الموهومة، فظهر لإنكلترا أنها إذا صحت نيتها على إخضاع كورفو بالسيف بعد أن تنال رضاء الدول، فإن ذلك الإخضاع لا بد وأن يكون سببا في سفك شيء كثير من الدماء الزكية.
ولا يخفى أن إنكلترا لم تخف عليها أهمية المركز الحربي الذي كانت تضحيه بتسليم جزيرة كورفو، ولكن الذي صغر عليها المصيبة هو الحياد الذي منح لتلك الجزر وتركها كالرجل الأعزل، وفوق ذلك فإن نجاة إنكلترا من ذلك المركز الحرج كان أثمن لديها من كل شيء؛ لأن ذلك المركز ربما يكون سببا في تعطيل سياستها وإضعاف قوتها على أن قوة إنكلترا في البحر الأبيض لم تضعف بعد التنازل عن كورفو كما كان يتقول المتقولون، ولو قام بين الدول في المستقبل نزاع فإن إنكلترا تكون أولى الدول باحتلال كورفو.
كل هذا الذي تقدم يرينا أن التقهقر في السياسة الاستعمارية كثيرا ما ينفع عندما ترى الدولة المستعمرة فيه خيرا، ولا يخفى علينا أن القوة ربما كانت تعضد إنكلترا في كورفو إذا ركنت بريطانيا إليها ولكن القوة لا تنتج دائما نتيجة مرضية .
الفصل الرابع
المركز الكاذب
Shafi da ba'a sani ba