ويظهر لنا أن المسألة المصرية كالزر الكهربائي لا يمسها أحد إلا وتحدث له هزة ورعشة، وكثيرا ما خشي من ذلك «الزر الكهربائي» على السلام في أوروبا كلها وهذا هو الذي اضطر دول أوروبا للرضى باحتلال بريطانيا لمصر أولا، ويجعل هذا الاحتلال غير محدد الزمن ثانيا؛ لأن احتلال إنكلترا لمصر جعل أوروبا في راحة من جهة المسألة المصرية مؤقتا، فكأن أوروبا حلت المسألة المصرية حلا وقتيا، وقد ساعد على هذا العمل براعة الساسة من الإنكليز الذين عينتهم إنكلترا لينوبوا عنها في مصر.
فإننا مهما حاولنا فلا نستطيع أن نوفي اللورد كرومر حقه من المدح والثناء، ومهما ذكرنا من فضائله فإننا لا نأتي على آخرها، ولسنا نحن وحدنا الذين نقول هذا القول فإن أشد أعداء السياسة الإنكليزية الذين لا تخفى عن أعينهم سيئة؛ لأنهم يلتمسون السيئة أنى وجدوها ليشيعوها ويذيعوها، قد كفوا من زمن طويل عن نقد اللورد كرومر وتوجيه سهام الملام إليه.
أجل إن اللورد كرومر حاز ثناء الكل لأنه تمكن من سلوك مسلك وعر بدون أن يظهر ما يدل على تعبه من المشاغب والمصاعب التي صادفته في طريقه، ولم يتعد كرومر مرة في العمر واحدة حد الملاطفة والملاينة، وقد عرف كيف يذعن بلطف عندما لا يرى في الإذعان شرا لبلاده، وعرف كيف يأمر بشدة بدون أن يمس أحدا بسوء على أننا لم نره يلجأ إلى الأمر الأخير إلا عندما اضطرته منافع السياسة الإنكليزية لركوب ذلك المركب الخشن.
وقد كفانا أن قد كان اللورد كرومر نموذجا لكل المستخدمين الإنكليز الذين تخلقوا بأخلاقه واتصفوا بصفاته طوعا أو كرها، فكانت نتيجة ذلك أن كل شيء سار بسكون وهدوء.
قلنا إن المركز السياسي في مصر قد تغير تغييرا بينا وأن المسألة المصرية أخذت تبرد شيئا فشيئا وابتدأت أهميتها في نظر الدول تقل يوما فيوما حتى أصبحت جميعها ترى أن بقاء الاحتلال البريطاني في مصر وعدمه لديها سيان.
وقد حدثت في السنين الأخيرة أمور جعلت الحرب الدولية في أوروبا مستحيلة، ونعني بالحرب الدولية الحرب التي تجر رجل أكثر من ثلاث دول أروبية؛ وما سبب ذلك إلا أن المسائل الدولية الكبرى كلها قد حلت حلا مرضيا ولم تبق إلا مسألة اقتسام المملكة العثمانية، ومما يحسن ذكره أن أغلب الدول الأوروبية خوفا من القلاقل والاختلافات الصغيرة الشأن التي تشب نارها بينهن اجتهدن في إيجاد ممالك صغيرة مستقلة معتزلة فجاءت هذه الممالك كالجبل يفصل الواديين، أو كالحاجز القوي بين النهرين، وهذه الممالك الصغيرة الحاجرة هي: هولاندا، وبلجيكا، وإمارة لوكسمبرج، وجمهورية سويسرا، فهذه الممالك في الحقيقة لا قوة لها ولا حول ولا تعد بين ممالك أوروبا، ولكن إحداها تستفيد وتفيد أكثر من أية دولة كبرى، فإنها محمية برضاء الكل فلا تستطيع أي دولة معادية أن تمد لها يدها بسوء، وهي أيضا تمنع الدول التي حولها من الاحتكاك ببعضها البعض، وبعد هذا التغيير السياسي الذي نشأت عنه هذه الممالك أصبحت المسائل السياسية المتعلقة بعلاقات دول أوروبا ذاتها في زوايا الإهمال وأركان النسيان، وأصبحت ممالك أوروبا وهي لا يهمها إلا مسائلها الداخلية أو المسائل المتعلقة بمصالحها السياسية والاستعمارية في القارات الأربع، وهكذا صار السلام في قارة أوروبا مضمونا.
فيظهر من ذلك أن دول أوروبا الآن مستعدة لأن تحل المسألة المصرية بلا خوف من عواقبها؛ لأن أهم أسباب النزاع بين الدول قد زالت، وأصبحت «الحرب العامة» من أحلام الماضي ولن يحققها المستقبل أبدا، وانتهى الدور الذي كانت فيه المسألة المصرية مسألة دولية تهم كل دولة بمفردها وصارت المسألة المصرية الآن لا تهم إلا الإنكليز والمصريين دون سواهم.
وبناء على ذلك فسنبحث في منافع إنكلترا في مصر، وقبل ذلك نشير إشارة صغيرة إلى سياسة بريطانيا الاستعمارية ونبدي بشأنها ما نراه موافقا من الملاحظات، وإنا نرى أنه من السهل علينا أن نقارن بين سياسة الدولتين بريطانيا العظمى وفرنسا في الاستعمار، وقد قررنا فيما مضى أن الفتوحات البعيدة لا توافق فرنسا وكثيرا ما تضر بها، وبهذا تختلف سياسة إنكلترا عن سياسة فرنسا الاستعمارية على خط مستقيم، فإن إنكلترا منذ نشأتها كانت ولا تزال دولة فاتحة لأنها بطبيعتها غير قادرة على أن تكون مملكة زراعية كبرى، فهي لا تأمل ولا تتعشم أن تعتمد في رزقها على أرضها وبلادها، فهي بحكم الطبيعة مضطرة لأن تؤسس مستعمرات بعيدة، ومن سوء حظها أنها لا تجد ميدانا موافقا لفتوحها واستعمارها على مقربة منها مثل مستعمرات فرنسا في أفريقيا، وهي: تونس، والجزائر. وزد على ذلك أن إنكلترا منذ القرون الوسطى طلقت فكرة الاستعمار في قارة أوروبا لأنه لا يخطر ببال إنكلترا في الحال أو في الاستقبال أن تضع يدها على ذراع واحد من أراضي قارة المدنية، وليس لدينا دليل على صدق قولنا أقوى من محالفة «فينا» التي عقدت سنة 1815، فإن إنكلترا لم تجرأ في هذه السنة على طلب حصن واحد من حصون فرنسا بقصد وضع اليد أو التملك.
وقد ذكرنا فيما تقدم الوسائل العديدة التي سهلت على إنكلترا النجاح في سياستها الاستعمارية ، وذكرنا أن كل المسائل المتعلقة بالسياسة الداخلية منذ عودة شارل الثاني في أواسط القرن السابع عشر قد صارت كل شيء، ولا ننكر أن إنكلترا بعد ذلك أصيبت بمصائب شتى من الكنيسة والثوريين، ولكن كل تلك المصائب كانت صغيرة ومثلها كمثل الجرح الصغير السريع الاندمال بعكس الممالك الأوروبية الأخرى التي كانت جروحها لا تندمل إلا بعد أن يسيل دمها مدرارا.
ولا نرانا في حاجة للبحث عما إذا كانت كل هذه الظروف قد حدثت لإنكلترا عفوا، أو أن إنكلترا أفرغت جهدها في صفاء داخليتها لتتفرغ لحوادثها الخارجية، إنما نحن في حاجة إلى البحث والنظر في النتائج، ولا نحسب أن إنسانا ينكر أن أول شرط من شروط نجاح بريطانيا هو أن تكون بارعة في فن الاستعمار لتكون لها أملاك واسعة خارج بلادها؛ لأن هذه الأملاك إذا أحسنت بريطانيا إدارتها تكون أبدا سببا في قوتها داخلا وخارجا، ومثل جنون إنكلترا بالاستعمار كمثل القمر كان هلالا ثم صار بدرا ولن يعتريه أفول، فإنك إذا دخلت قلب كل إنكليزي لقيت فيه معبدا للاستعمار فكلهم مستعمرون إنما يختلفون في المذاهب والطرق.
Shafi da ba'a sani ba