فلذلك نستطيع أن نتنبأ ونحن متحققين بأن روسيا ستقصر أطماعها على «ما بين النهرين» وعند ذلك تتساوى روسيا مع النمسا في الرغبة في حل المسألة المصرية حلا أوليا لإخراجها من قسمة الغنيمة؛ لئلا تعرقل مساعيها السياسية وتقف عقبة كئودا في سبيل أعمالها الاستعمارية.
وهنا نطلب من القارئ أن يلتفت إلى مسألة واحدة وهي أنه من القواعد المدونة في السياسة الدولية أن كل دولة تخفي مطامعها ولا تظهر رغبة شديدة في الحصول على ما تطلب. ويظهر أن مثل هذه القاعدة لا يقبلها القارئ مجردة عن البرهان لغرابتها، فنقول: إن السياسة إن لم تكن محمية بقوة السلاح فإنها لا تفلح، وبعبارة أخرى: لا تستطيع أي دولة أن تدخل ميدان السياسة الدولية إلا إذا كانت تستطيع أن تعزز أغراضها ومطالبها بقوة السيف والمدفع. فلما تكون الدول كلها على هذا الاستعداد وتعلم كل دولة أن الحرب مع الدولة الأخرى يجلب على كلتيهما الدمار والخراب يمتنعن كافة عن الحروب.
ولتتخذ مثلا رأيناه بأعيننا منذ عهد قريب، ولننظر قليلا إلى أغراض ألمانيا في السنين السابقة لحرب السبعين، فإن غرضها الوحيد كان إذلال فرنسا بفصلها عن كل الدول، ثم إذا نظرنا في مركز ألمانيا الجغرافي نرى أن أهم شيء كان عندها في ذلك الحين هو أن تكون آمنة هجوم عدو من خلفها؛ ولذلك اجتهدت في الحصول على حياد روسيا.
ولو أن روسيا في ذلك الحين أظهرت ميلا إلى مساعدة فرنسا فإن آمال ألمانيا وتدابيرها كانت كلها تذهب أدراج الرياح؛ لأن روسيا إذا اشتركت مع فرنسا في محاربة ألمانيا لكانت تلك الحرب هي الضربة القاضية على ألمانيا، ومما يدل على أن ألمانيا كانت تخشي جانب روسيا من عهد طويل قبل حرب السبعين - أي عندما كانت سياسة ألمانيا الاستعمارية لم تزل في حيز الخيال - هو أن ألمانيا اهتمت اهتماما شديدا بمسألة البحر الأسود مع عدم أهمية ذلك البحر لها مطلقا، وقد كان اهتمامها حقيقة بشأن روسيا فكانت تتساءل هل يفتح البحر الأسود للبواخر والمدرعات الروسية أم يقفل في وجهها؟ على أن ألمانيا لا تلام على هذا الاهتمام لأن قفل باب البحر الأسود في وجه روسيا كان مما صادقت عليه الدول في معاهدة باريس (1856)، ويجدر بكل دولة أن تسعى في تنفيذ منطوق هذه المعاهدة ولكن ألمانيا أظهرت اهتماما فوق العادة. وكانت روسيا تجتهد في كل آن في جس نبض سياسة ألمانيا لترى هلا تزال ألمانيا والدول مصرة على حرمان روسيا من المرور بالبحر الأسود وغل أيديها في الشرق الأدنى، ولكن ألمانيا فاقت روسيا في المكر، فإنها لم تصرح بما يكنه قلبها قبل الأوان؛ وأخبرت روسيا رسميا بأنها لا تهتم كثيرا بمسألة البحر الأسود ففرحت روسيا بذلك وجاملت ألمانيا بأن أعلنت حيادها في حرب السبعين، ونستطيع أن نأتي للقارئ بأمثلة كثيرة من هذا القبيل، وعند ذلك يقف القارئ على سبب اهتمام الدول الكبرى بمسألة الدردنيل اهتماما كبيرا مع العلم بأن هذه المسألة لا تمسهم ولا تمس سياستهم مباشرة.
ونحن نلتمس من القارئ عذرا لاستطرادنا في هذا الموضوع، إنما قصدنا بالإطالة فيه أن نريه وجها من وجوه السياسة الدولية، ونظهر له أنه ليست العادة في السياسة أن تنظر الدولة إلى ما يمسها مباشرة؛ بل كثيرا ما تحسب للمستقبل ألف حساب وتعمل أعمالا يظنها الجاهلون خطأ وهي عين الصواب.
أما وقد شرحنا فيما تقدم سياسة روسيا حيال المسألة المصرية، وأظهرنا أنها لم تستفد بالسياسة الحاضرة في وادي النيل، فما بقي علينا إلا أن نتكلم عما إذا كانت روسيا راضية عن الحالة السياسية في مصر، وهل تستفيد في المستقبل من المسألة المصرية إذا بقيت هذه المسألة على ما هي عليه من التعقيد؟ فنقول لا، فقد عرفنا فيما تقدم كل آمال روسيا السياسية؛ لأن روسيا ترمي إلى أخذ «ما بين النهرين» من الغنيمة التركية ولو اجتمعت قوى الأرض قاطبة لا تعوقها عن أخذ «ما بين النهرين»، ولا نظن أن بريطانيا تحرك لسانها أو ترفع يدها بكلمة أو حركة عدائية ضد روسيا في سياستها الاستعمارية؛ فلذلك تكون روسيا في مأمن من شر إنكلترا فإذا تقرر ذلك علمنا أنها ليست محتاجة إلى رضاء إنكلترا عن سياستها وليست محتاجة إلى مؤزراتها في أخذ «ما بين النهرين»؛ ولذلك فهي لا تخجل من بريطانيا ولا تحسب لها حسابا ولا ترضى أن تجاملها بسكوتها عن المسألة المصرية. ولنتكلم الآن عن علاقة ألمانيا بالمسألة المصرية، فنقول: إن الزمن الذي كانت فيه ألمانيا لا تعد شيئا مذكورا قد مضى وانقضى، فإنها في هذا العهد قد تقدمت تقدما باهرا، فإذا عدت الدول العظمى فإن ألمانيا تكون بلا جدال في مقدمة هذه الدول، ولا ينكر ما نقول من يرى أعمالها التجارية التي تدل على همة الألمان ونشاطهم، وقد عرفت الدول الآن أن ألمانيا تسعى لأن تكون من أكبر دول العالم قوة ونفوذا وثروة، ونحن لا نحتاج إلى الدلالة على نفوذ هذه الدولة في الشرق إلا إلى بعض الجداول التي تحوي الإحصائيات التجارية فنقتنع بعد ذلك بأن تجارة هذه الدولة بلغت مبلغا لم تكن لتحلم به.
وإذا بدأنا بإحصائيات قنال السويس وعددنا السفن والبواخر التي تمر منه نرى لأول وهلة أن السفن البريطانية والتجارة البريطانية كانت في أول أمر هذا القنال تشغل أربعة أخماسه.
ورغما عن ازدياد التجارة البريطانية واتساعها عاما فعاما بالنسبة لنفسها، فإنها في كل سنة تنقص نقصا فاحشا بالنسبة لمجموع متاجر الدول الأخرى، فقد كان معدل التجارة البريطانية التي تمر بقنال السويس بالنسبة لمتاجر الدول يساوي 77 في المائة، ولكن في سنة 1900 انحط هذا المعدل إلى 57 في المائة، وإذا نظرنا نظرا مدققا نجد أن هذا السقوط السريع في التجارة الإنكليزية مسبب عن مزاحمة التجارة الألمانية لها. هذا وعدد السفن الألمانية التي تمر بالقنال الآن لا يفوقه إلا عدد السفن البريطانية.
وهذا يدل على أن ألمانيا تطالب بحق عظيم وهو اشتراكها في كل المسائل التي تؤثر في التجارة في بلاد المشرق، ولكن ألمانيا لا تحسب المسائل التجارية شيئا في جانب منافعها السياسية على شواطئ البحر الأبيض الشرقية (ليفانت).
وأهمية ألمانيا هي في شيء واحد وهو أن شعبها شعب حي ينمو بسرعة شديدة ويحتاج عاجلا أو آجلا إلى مكان فسيح يملؤه بقوته وعمله، فإذا أردنا أن نبحث في سياسة ألمانيا الخارجية ينبغي لنا أن نضرب صفحا عن كل المسائل التي لا تتعلق بألمانيا مباشرة؛ لأن ساسة هذه الدولة يقفون في وجهنا قائلين: «إننا لا نعمل إلا لصالح ألمانيا، ولا يبعثنا على العمل إلا ما يهم بلادنا وينفع أبناءها.» على أن الغرض الوحيد الذي جمعت ألمانيا قواها لتحصل عليه قد أصبح معلوما لدى كل الناس، فإن ألمانيا من زمن بعيد تسعى لجعل آسيا الصغرى ولاية ألمانية، كما جعلت فرنسا في الزمن الماضي مصر ولاية فرنسوية.
Shafi da ba'a sani ba