بسم الله الرحمن الرحيم
[و] صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، والآلاء العظام، والإفضال والإنعام، والعفو والانتقام. خالق الأعراض والأجرام، ومخترع الأشباح والأجسام. الموجود الذي لا أول لوجوده، إذ لو كان محدثا، لافتقر إلى
1 / 227
محدث إلى غير أول، وذلك لا يتصور في الأوهام. فهو الباقي إلى غير نهاية، إذ ما يثبت له القدم، استحال عليه الانعدام. نبه العقول على قدرته باختراعه المخترعات على غير مثال وإمام. وأرشدها إلى علمه بعجائب مصنوعاته، بما فيه من الإتقان والإحكام، ودلها على إرادته المتعلقة بجميع المتجددات، من جهة تخصيصها مع تساويها بالتقدم والتأخر، والإيجاد
1 / 228
والإعدام، المنزه عن كل ما قام بالحوادث، فدل على حدثها، فلا تجوز عليه المماسة، والمباينة، والمجاوزة، والمكان والزمان، ولا الساعات والأيام. فهو الواحد في ذاته، فلا يقبل الانقسام. المخصوص بصفاته،
1 / 229
ليس كمثله شيء، وهو السميع العلام. المنفرد بخلق الخلائق وأعمالهم، فلا شريك له عند أهل الإسلام. خلق القدرة لعباده على بعض الأفعال التي اخترعها، فهي مقدورة لهم من غير تأثير له في خلقها، إذ يستحيل أن
1 / 230
يتطرق إلى المتحد الانقسام. فلا يتصور خلق بين خالقين عند ذوي الأفهام. البصير الذي يتعلق بصره بجميع الموجودات، فلا يخفى عليه شيء
1 / 231
في الأرض ولا في السموات، وإن غلظ الحجاب، واشتد الظلام. السميع بسمع، محيط بالموجودات، فيسمع دبيب النمل على الصخرة في قعر البحر على الدوام. المتكلم بكلام قديم أزلي، قائم به، ليس بأصوات تتقطع، وحروف تتوالى، موصوفة بالتقدم والانصرام.
1 / 232
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
1 / 233
بل كلامه واحد، [أمر] بالمأمورات، ونهي عن المنهيات، وخبر عن المخبرات، لا تتصور فيه حقيقة الاستفهام، إذ هو العالم بالمعلومات غير المتناهيات، فمن المحال من العالم الاستعلام. وخبره صدق، لا يتصور فيه كب، إذ يستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل عليه الجهل والأوهام. وهذه الصفات قديمة، أزلية قائمة به، بدليل اتصافه بأحكامها على الدوام.
1 / 234
ويستحيل أن يكون محلا للحوادث، ثبت ذلك بواضح الأعلام. وهو المريد لجميع المتجددات، وأعمال العباد خيرها وشرها نفعها وضرها. فلا مانع له مما أراد، ولا معارض له فيما فعل من صحة وإسقام.
لا جائز في صفاته، ولا واجب في أفعاله. فإن عفا فبفضله، وإن عذب
1 / 235
فبعدله، لا للتشفي والانتقام.
رحم عباده بإسقاط التكليف عنهم قبل ورود الأنبياء، وبعثة الرسل الكرام. ثم أرسل الرسل، وأيدهم بالمعجزات الظاهرة، دلالة على صدقهم فيما يبلغونه عن الملك العلام. بعث محمدا ﷺ، بشيرا ونذيرا إلى الأحمر
1 / 236
والأسود، مبينا للأحكام، وموضحا للحلال والحرام، داعيا إلى الله بإذنه، بأوضح الدلائل والأعلام- وهو القرآن المجيد- فلا يشبهه شيء من الكلام.
بل لو اجتمعت الإنس على أن يأتوا بسورة من مثله لعجزوا، مدى الدهور والأعوام، مشتمل على الفصاحة والجزالة، (٢/ب) والبلاغة، قد تحيرت فيه عقول ذوي الأفهام. فيه نبأ من كان قبلنا من الأمم الخالية، والقرون البالية، على أكمل تفسير وأحسن نظام، عما سيكون من الأمور، فصودفت على حسب ما أخبر، من غير انقسام. والمخمن والمنجم لا تتفق له الإصابة في كل الأحكام، لا جرم انقادت العرب العاربة، وهم اللد الفصحاء، واللسن
1 / 237
البلغاء، واعترفت بالعجز، مع استبدادهم بفصيح الكلام. فأوضح الحجة، وأظهر المحجة، ودعا إلى شريعة الإسلام. وأمر بالصلاة والصدقة الصيام، وحث على الجهاد والحج وصلة الأرحام. وجاهد في الله حق جهاده حتى أمات الكفر وأبطل عبادة الأصنام. ونهى عن الظلم، والبغي والفواحش، وجميع الآثام. حتى انقاد الناس لحكم الله ﷿، وترك التحاكم إلى الأزلام. وزهد في الدنيا قولا وفعلا، فإنها أشبه شيء بالأحلام. ورغب في الآخرة التي هي دار الدوام. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأصهاره وأنصاره البررة الكرام.
أما بعد، فإنه لا أهم بعد العلم بالله ﷿، وصفاته ورسله، من أحكامه ليحصل الامتثال لأمره، والانكفاف عما نهى عنه. قال الله تعالى: ﴿وما خلقت [الجن والإنس] إلا ليعبدون﴾. وقال تعالى: ﴿قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني﴾. وقال: ﴿وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾. فلا نجاة إلا بسلوك طريق الله ﷿. والعلم هو الدليل على الطريق، وهو الميراث الذي ورثه الأنبياء، قال ﷺ: (إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم).
1 / 238
ولا تصح معرفة الفروع دون تحصيل علم الأصول.
وقد رأيت كتاب الشيخ الإمام، إمام الحرمين رحمة الله عليه الملقب (بالبرهان)، من أحل ما صنف في أصول الفقه، لمكان مصنفه من العلم، وحرصه على التحقيق، ميله عن التقليد، وإضرابه عن التطويل والتكرير، وانصرافه عن الاستدلال عن الخيالات البعيدة، والاستدلالات الركيكة، مع فصاحة في اللفظ واختصار، واعتناء بالمعنى وعدم انتشار. فاستخرت الله تعالى في الاعتناء بشرحه، وحل ما أشكل من ألفاظه، وعسر من معانيه، مع الحرص على إيضاح الحق، والانحراف عن التعصب، مستعينا بالله ﷿، متبرئا من الحول والقوة إلا بالله، وهو الموفق للصواب.
قال الإمام رحمة الله عليه: (الحمد لله رب العالمين والصلاة) [على محمد خاتم النبيين]). قال الشيخ [﵁]: الحمد: لفظة يراد بها الثناء
1 / 239
بصفات الكمال ومحاسن الأمور والأفعال والأقوال. فقد يحمد الإنسان على الشجاعة والعلم والمعرفة، وإن كانت هذه الصفات مختصة به، قاصرة عليه. والشكر للمنعم بآلائه ونعمه، إنما يشكر على ما أولى من إحسانه. فالحمد أعم والشكر أخص. هذا هو الأمر المشهور عند أهل اللسان. وقد يوضع الحمد موضع الشكر، فيقال: حمدتك على ما صنعت إلي من خير، ولا يوضع الشكر موضع الحمد، فلا يقال: شكرتك على شجاعتك وغيرها. وعند أهل التصوف: يرجع الشكر إلى العمل، ويرجع الحمد إلى الثناء الجميل. وقد قال الله تعالى: ﴿وقل الحمد لله﴾. وقال: ﴿وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين﴾. (٣/أ) وقال: ﴿اعملوا آل داود شكرا﴾. فالشكر عندهم: صرف النعم إلى جهات يرضى بها المشكور المنعم.
وقوله: (الله)، قد اختلف في أصل هذه الكلمة ومعناها. فذهب
1 / 240
[البصريون] إلى أن أصلها (لاه)، فزيدت (اللام) للتعريف ساكنة، فأدغمت اللام في اللام، فإن [ابتدئ] بها، اجتلبت همزة الوصل لها، وإن كان في حال التدرج سقطت.
وقال أهل الكوفة: أصلها (إله) ثم ادخلت الألف واللام، فصار (الإلاه)، ثم حذفت الهمزة لكثرة الاستعمال، ثم أدغمت (اللام) في (اللام) فقيل: (الله). والقول الأول أصح لوجهين:
أحدهما- لزوم [التمسك] [بهاء] الاسم عليه. وما ذكروه دعوى من غير دليل.
الثاني- أنه قد سمع (لاه أبوك) بمعنى الله أبوك، فتحرك حرف الجر، وبقيت الكلمة على ما هي عليه.
واختلف الناس في هذا الاسم، هل هو مشتق أو جامد؟ فذهب أكثر أهل العلم إلى أنه مشتق. ثم اختلفوا في اشتقاقه، فقال النضر بن شميل: هو من
1 / 241
التأله، وهو التعبد [والتنسك]. وقيل: هو من (الإلاه)، وهو الاعتماد، إذ الخلق معتمدون عليه. وقال أبو عمرو بن العلاء: هو من ألهت إلى الشيء، إذا تحيرت فيه. وقال المبرد: هو من قول العرب: ألهت إلى الشيء، إذا سكنت إليه. وقيل: هو من (الوله)، وهو فقدان العقل لفوات المحبوب، فأبدلت من (الواو) (همزة)، كما يقال: إشاح ووشاح. وقيل معناه: المحتجب، لأن العرب تقول: لاهت العروس، إذا احتجبت. وقيل: معناه المتعالي، ومنه قيل للشمس: [إلهة]. وقد قيل غير هذا. وهذه الأقاويل أجودها.
1 / 242
وقوله: (رب العالمين)، أي خالق الخلق، وسيدهم، ومالكهم، والقائم بأمورهم. العالمين: جمع عالم، ولا واحد له من لفظه، كالرهط والناس، وقيل: إنه اسم للجمع. قاله النضر بن شميل. واختلفوا في مدلوله، فقيل: هم الملائكة، وقيل: هم [بنو] آدم، وقيل: هم الإنس والجن، وقيل: الروحانيون. قاله أبو عمرو بن العلاء. وهو معنى قول ابن عباس: كل ذي روح. وقال سفيان بن عيينة: هم الخلق أجمعون. وهذا قول أهل الكلام. وسبب الاختلاف أنه: هل أخذ من العلم أو العلامة؟
وقوله: (الصلاة على محمد)، الصلاة من الله الرحمة. ومحمد: اسم
1 / 243
دال على كثرة المحامد، ومذمم بخلافه. وخاتم النبيين: بعموم المعنى.
قال الإمام: (حق على كل من يحاول الخوض في فن من فنون العلم) إلى قوله (حظ من العلم الجملي). قال الشيخ ﵁: الحق: خلاف الباطل. والحق بمعنى الثبوت، يقال: استحق عليه حقا، أي ثبت له ولزمه. أي لازم لكل من يحاول الخوض، يقال: حاولت الأمر، أي أردته. فعلى مريد علم من العلوم هذه الوظائف الثلاث، وهي: الإحاطة بالمقصود الذي يراد له الفن، لتجر الداعية إلى الطلب، غذ صرف الهمة لما لا يتعلق به غرض، لا يتأتى للعقلاء اعتيادا. عن، الباري سبحانه لا يقصد إلى الأمور، ولا يريدها لغرض، لاستحالة الغرض عليه.
وقوله: (بالمواد التي منها يستمد ذلك الفن). المادة: زيادة متصلة.
1 / 244
قال الله تعالى: ﴿والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ..﴾.
وقوله: (وبحقيقته وحده)، الحقيقة: لفظ مشترك، وقد يراد بها الذات، فيقال: حقيقة الشيء ونفسه وعينه بمعنى واحد. وقد يراد بها خلاف المجاز، وهي من أقسام الألفاظ، فيقال: اللفظ ينقسم (٣/ب) إلى الحقيقة والمجاز. والمراد هنا بالحقيقة: الذات دون اللفظ. والضمير عائد على الفن، أي بحقيقة الفن، وليست هذه الإضافة إضافة الشيء إلى نفسه، فإن تلك ممنوعة، وهي كإضافة الأسماء إلى الكنى، والكنى إلى الأسماء، وذلك لا يسوغ عند أهل اللسان. نعم، الإضافة على وجهين: لفظية ومعنوية. فاللفظية في اللفظ دون المعنى، كالحسن الوجه، فلا تفيد تخصيصا ولا تعريفا. والإضافة المعنوية: [ما أفادت]
1 / 245
أحدهما، ثم هي على وجهين: إضافة الشيء لغيره، كغلام زيد، وسرج الدابة. وقد تكون كإضافة النوع إلى الجنس، كخاتم حديد، ونفس زيد، إذ لفظ الخاتم لا يختص بالحديد، ولا النفس بزيد، فأفادت الإضافة التخصيص.
وقوله: (وحده). اعلم أن لفظ الحد ينطلق في اللغة على جهات: إذ يطلق على الحاجز بين شيئين. فيقال: بيني وبينه حد. وقد يطلق على منتهى الشيء، فحدود الدار منتهاها. ويطلق أيضا على المنع، ومنه تسمى المرأة حادا، لامتناعها من الزينة والأزواج. وحدود الشرع موانع من المحرمات. وسمي الحديد حديدا، لامتناعه لشدته. وسمي السجان حدادا، لمنعه من في السجن من الخروج.
وهو في عرف العلماء: مشترك بين اللذات واللفظ، فيقال فيه على الوجه الأول: حد الشيء نفسه. وعلى الثاني: حد الشيء هو اللفظ المفسر لمعناه. ثم إنه أيضا على هذا الوجه مشترك بين [ثلاثة] أمور:
فيطلق على اللفظ الحد، باعتبار دلالته على الأوصاف النفسية عند
1 / 246