وقد يجوز أن يخرق الله تعالى العادة فيخلق لنا علما ضروريا، قيد لنا به على صدق خبر الواحد العدل، وان كان هذا موقوفا على زمن النبوة فجائز فينا اليوم. فجاء من جميع ما ذكرناه، أنه خبر الواحد إذا صح متنه، واستقامت عدالة قائله، وجب العمل به. /ص114/ وثم رتبه ثالث وهو الخبر المستفيض (¬1) الذي لا يلحق بالتواتر، ولا هو في حيز الآحاد، غير أنه يوجب العلم من طرق المعنى. وكانت معجزات الرسول_ صلى الله عليه وسلم_ تنقسم قسمين: منها ما يعلم بالضرورة قطعا، كظهور القرآن وتحديه للعرب بأن تأتي بمثله في نظمه وجزالته (¬2). ومنها ما يعلم بالدليل ("كحنين الجذع") (¬3), ("ونبع الماء من بين الأصابع") (¬4) ("وجعل قليل الطعام كثيرا") (¬5) (وشكوى البعير) (¬6)، جرى مجراه من معجزاته_ عليه السلام_. /ص115/ ومعنى قولنا: مما يعلم بالدليل، أن الجماعة الذين أخبروا بهذه المعجزات بالقبول، وسكتوا عن الانكار، فكان سكوتهم دليلا على صدق ما أخبرهم. وكذلك نقول في الخبر الذي روي في القضية في غزاة الحديبية، وان كانت ألفاظه مختلفة ومعانية متفقة، فقد روي من طرق كثيرة (¬1) وذلك أن عليا_ رضوان الله عليه_ لما أمره الرسول_ صلى الله عليه وسلم_ بالكتابة فكتب" هذا ما قضى عليه رسول الله"، فقالت قريش: لوعلمنا أنك رسول الله، ما خالفناك أو كلاما هذا معناه، (¬2) (فقال لعلي: أمحه، فقال: لا"أمحوه" (¬3) يا رسول الله، فقال: أرني مكانه، فمحاه وكتب محمد بن عبد الله (¬4), وفي بعض الأخبار، أنه_عليه السلام_ قال له: ("ستبلى بمثلها") (¬5) وقد كان ذلك في الحكومة عند" دومة" (¬1) الجندل بصفين. /ص116/ فإذا كانت المعجزات التي ذكرناها، وهي التي تعلم بالدليل، ومعنى الدليل، سكوت الأمة عن ردها وأخذها بالقبول، كمان هذا الخبر الذي فيه اثبات الكتابة له_ عليه السلام_ أولى أن يلحق بسائر المعجزات التي لم نعلم أحدا من الأمة رد الأخبار التي نقلت الينا في اثبات هذه القضية، فكان الخبر الذي فيه ذكر الكتابة_ مما ذكره أهل الصحيح من المحدثين، كالشعبي، وابن أبي شيبة، وغيرهم_ لاحق بما تقدم ذكرنا له. وأما احتجاج من احتج بالآية، وهو قوله تعالى: ("وما كنت تتلو" من قبله" (¬2) من كتاب ولا تخطه بيمينك") (¬3) الآية، فلا دليل فيه، ولو كان فيه دليل، لكان بغير هذا اللفظ، فكان يكون: ("وما كنت تتلو من كتاب ولا تخطه بيمينك") فلما قيده تعالى بوقت كان موقوفا على الوقت الذي قيده فيه، وهو قبل البعثة وفي حالها (¬4). فإذا كان الأمر على ذلك، لم يسع الاحتجاج بما لا دليل فيه للخصم. وأما قوله تعالى: (الأعراف 157_و_158). فمنسوب إلى قومه، الذي يدل على صحته، قوله تعالى: (الجمعة_2). /ص117/ وقد علمنا من طريق الضرورة، أن في أمته_" عليه" (¬5) السلام_ ممن وقعت عليه هذه التسمية، من يكتب ويقرأ (¬6) فلا معنى للاحتجاج بموجبها على التفضيل، اذ ليست أميته معجزة له_ صلى الله عليه وسلم_ وإنما المعجز، ما أتى به من القرآن الذي فارق نظمه سائر نظوم كلام العرب، مع كونه أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولا يصحب أحدا ممن يقرأ ويكتب، ولا يداخل أحدا من أهل السير والمعرفة لكتب المتقدمين. وهو قد نشأ بين قريش وعرفوه (¬1) بذلك، أعني غير كاتب ولا قارىء ولا مداخل لمن تقدم ذكره ولا آخذ عن أحد منهم، فكان ذلك معجزا. ولو تحدى بالأمية، لقابله عشرة آلاف (¬2) أو يزيدون، وقالوا له: كل واحد منا أمي، وهو نبي، وأميته دليل على كذبك، فثبت أن أميته ليست بمعجزة، وإنما المعجز ما ذكرناه. ولو سلم ذلك جدلا (¬3)، لم تبال معجزته ولا أميته بظهور كتبه منه في ذلك الوقت على طريق الاعجاز. /ص118/ بدليل قوله تعالى: (يس_69) ثم وجد من ألفاظه_ صلى الله عليه وسلم_ المتزن (¬4) من الكلام: ("هل أنت إلا أصبع (¬5) دميت*وفي سبيل الله ما لقيت") فكما هذا لا يسمى القائل له شاعرا، فكذلك لا يخرج النبي_ صلى الله عليه وسلم_ عن كونه أميا بوجود كتابة منه في القضية المذكورة. عاد الكلام إلى الآية والأحاديث الأول: فإذا كان من تولى الرد على الفقيه القاضي الجليل لم يشهدوا هذه المعاني، ولا تتبعوها بفحص ونظر، كانوا ممن شهد بما لم يعلم.
Shafi 82