أبو ريحان محمد بن أحمد البيروني
أبو ريحان محمد بن أحمد البيروني من كبار العلماء في القرن الرابع والخامس الهجري، ولد في الثاني من ذي الحجة عام ٣٦٢ هـ في منطقة يقال لها بيرون من توابع خوارزم ولذا لُقّب بالبيروني. لا يعرف نسبته ولا أباه ولا جده.
أخذ يتلقى العلوم والمعارف المتدوالة في عصره بصورة جيدة ومما ساعده على اتساع دائرة معلوماته رحلاته الكثيرة واشتياقه المتدفق لاكتساب العلوم الذي بدأ معه منذ حداثة سنه. فكان منذ البداية يهتم بمسائل لم تكن معهودة ومعروفة بين المتعلمين في القرون الوسطى الإسلامية.
في العشرين من عمره ترك موطنه قاصدًا سواحل بحر الخزر، فاعتنى به في جرجان قابوس بن وشمغيز الزياري حتى أهدا إليه أول تأليف كبير له وهو الآثار الباقية. كما كانت له مكاتبات مع ابن سينا الذي كان معاصرًا له. وفي عام ٤٠٠ هـ عاد إلى وطنه ولكن سرعان ما عصفت به الفتن والمحن وعندما جاء محمود الغزنوي ليحتل خوارزم في سنة ٤٠٨ هـ، ساق بعض من كان فيها أسرى بمن فيهم البيروني وهكذا ينتهي هذا العالم إلى غزنة عاصمة محمود في أفغانستان. لكن البيروني ليس بالرجل الذي يهدأ أو تعيقه المصائب عن مهماته فيبدأ بالكتابة وهو في طريقه إلى الأسر، وكتب مما كتب في هذا الوقت كتابه المعروف بتحقيق ما للهند.
اشتهر اسم البيروني في المدونات العربية في مجال الجغرافيا والسياحة ولكن الذي يظهر من مؤلفاته أنه لم يكن عالمًا بالجغرافيا وبتعبير أصح كان مؤلفًا ذا معرفة واسعة للغاية أكثر من أن يكون عالمًا جغرافيًا. وإن دائرة معلوماته واسعة للغاية بحيث أن تحديد عدد العلوم التي لم يكن يعرفها أسهل من العلوم التي عنى بها. وإن جلّ اهتماماته ونشاطاته العلمية كانت تتمحور في الرياضيات والنجوم والعلوم المتعلقة بها ولذا فقد اهتم في مجال الجغرافيا إلى الجانب الرياضي والنجومي فيه.
آثاره
له تأليفات عدة منها: تحديد الأماكن لتصحيح مسافات المساكن، القانون المسعودي، الآثار الباقية، الصيدنة في الطب، تحقيق ما للهند وغيرها.
Shafi da ba'a sani ba
تمهيد
بسم الله الرحمن الرحيم حين شرعت في كتابة مقدمة هذا الكتاب ظننت الأمر سهلا. فلما دخلت عالم البيروني وجدته عبقريا وبحرا هائجا مائجا تقف على شاطئه فلا تدرك مداه.
وتغوص فيه فلا تسبر اغواره ويسحرك فلا تستطيع رجعة وتستنجد بما كتب عنه من التناقض في تواريخ اخباره وهكذا تصبح اسيره. ولن تعرف اخباره وصفاته وشخصيته ما لم تقرأه فتنقي من مصنفاته ما تشاء.
فهذا كتاب «تاريخ الهند» فهو «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل او مرذولة» يعتبر مرجعا اساسيا كاملا للحضارة الهندية. لم يترك شيئا إلا وكتبه.
ويقول المستشرق بيلر عن هذا الكتاب «كتبه ... وهو ينظر بعقل الفيلسوف والرياضي العارف بمناهج البحث عند ارسطو وافلاطون وبطليموس وجالينوس ...» ويعترف البيروني «ولقد اعيتني المداخل فيه مع حرصي الذي تفردت به في ايامي» ولقد اراد البيروني كتاب «تاريخ الهند» ان يكون لكل مسلم راعب في مناقشة الهنود. فيكون حوار الند للند؟.
اسمه ولقبه ومولده:
ولد البيروني في ٤ أيلول عام ٩٧٣ م قريبا من كيفا «كات» ويقال إنه لا يعرف نسبته ولا اباه ولا جده اما كلمة بيرون الفارسية فتعني «القريب او الخارج» . مما
1 / 5
يدل على انه لم يكن من افراد مجتمع مستقر لربما كان ذلك من كثرة تجوال اهله كتجار، او لإقامتهم خارج اسوار المدينة تجنبا لدفع الضرائب.
استاذه:
ومن حسن حظ البيروني ان يكون استاذه الفلكي المشهور ابو نصر المنصور بن علي بن العراق (تلميذ ابي الوفاء) الذي تنبه الى نبوغه ودربه ثم نشأت بينهما مودة وثقة عظيمتان.
حياته وعصره:
ترعرع البيروني في خوارزم وسنذكر قليلا من تاريخ هذه المنطقة وصفات اهلها.
حين استقر الحكم للأمويين او عز الحجاج ابن يوسف سنة ٧٠٤ الى والي خراسان المقيم في مرو القائد قتيبة بن حلم ان يعبر نهر «اموداريا» (جيحون آنذاك) ويفتح بلاد ما وراء هذا النهر الذي توقفت عنده جيوش عثمان بن عفان، كان هذا النهر يفصل بين قوميات تتكلم الفارسية واقوام تتكلم التركية (التركمان) .
بعد عمليات رائعة دامت ٨ سنوات اخضع قتيبة الاقاليم الشمالية الشرقية (بخارى، طشقند وسمرقند) كما اخضع الاقليم الشمالي الغربي (خوارزم) .
ولقد دمر قتيبة كثيرا من الاصنام والمعابد.
جاء هذا الفتح بعواقب محمودة إذ مهد لنمو مراكز علمية وثقافية عظيمة ساهمت في تقدم الحضارة العالمية الممثلة آنذاك بالعرب. لعل القارئ يذكر ان عباقرة ما قبل الزمخشري والخوارزمي ولدوا في خوارزم وكذلك البيروني وما بين بحر خوارزم (ارال) وبحر قزوين الى الغرب عاش البيروني النصف الأول من حياته.
واشتهرت في خوارزم انذاك مدينتان: كات والجرجانية الى الشمال كلاهما
1 / 6
على نهر اموداريا وتعرفان اليوم باسمي كيفا (خيفا) واورغنج وهما في روسيا حاليا.
ويقول ياقوت عن خوارزم: أهلها علماء فقهاء اذكياء اغنياء فهي لعمري بلاد طيبة فيهم جلد وقوة غالب عليهم الطول والضخامة وفي رؤوسهم عرض ولهم جبهات واسعة مرنوا على القناعة بالشيء اليسير (والمترفون مثل الفقراء) ونستنتج ايضا انهم ذو تعلق شديد بوطنهم.
ويقول لنا المقريزي «١» أيضا: الجرجانية مدينة عجيبة إذ كل اهلها اجناد حتى البقال والقصاب والخباز والحائك وأهلها أهل الصناعات الدقيقة يغلب عليهم ممارسة علم الكلام في الاسواق والدروب يناظرون بلا تعصب وينكرون من احد ذلك قائلين: (ليس لك إلا الغلبة بالحجة) .
وعاش البيروني ايضا في جرجان (ايران) على بحر قزوين وهي (مدينة حسنة على واد عظيم، سهلية، جبلية، بحرية، أودية هائلة، وجبال عالية، إذا غدا القناص راح بما اشتهى) .
وقضى البيروني مدة كبيرة من حياته في غزنة (افغانستان) وكان عصر البيروني عصر مظلم لما اشتعلت فيه من فتن إنما يذهل بما جمع من علماء. هذا ابن يونس (متوفي ١٠٠٩) عبقري الفلك وحساب مثلثات ابتكر الرقاص الكروي. ويستعمله مقياسا للزمن وذاك ابن الهيثم نابغة الرياضيات والفيزياء يطور علم البصريات، والعدسات. وهناك علي بن عيسى اشهر جراح ومصنف في حقل البصر والعيون. ولا ننسى الفيلسوف الطبيب ابن سينا. هؤلاء قلة من علماء المشرق.
ويقول المؤرخ سارطون الذي قوّم حضارات الأمم وعدد منجزاتها في كتابه الضخم «المقدمة الى تاريخ العلوم» ان النصف الاول للقرن الحادي عشر ينبغي
1 / 7
ان يسمى (عصر البيروني) لانه ملأ عصره وفاق معاصريه إذ حلق قلما يلحق به احد.
اما الناحية السياسية لعصر البيروني فكان مرحلة الهوان والانحلال للخلافة العباسية..
ولا ريب في ان تشرده وهربه من فتنة ضربت (كات) حين غزاها وحاصرها والي الجرجانية المدينة الثانية والكبيرة في خوارزم، وضم كات وما حولها الى سلطانه. كان البيروني يناصر والي بلده فهرب.
يقول البيروني في كتابه (الآثار الباقية عن القرون الحالية) انه لجأ الى الري «١» وكان في بؤس وفقر مدقع مما اثار عليه سخرية احد المنجمين، لكنهما تصاحبا بعد ذلك ثم دعاه الأمير البويهي فخر الدولة فبنى له مزولة كبيرة على جبل مشرف على الري وسماها باسم الأمير. وفي هذه المدة عمل في مناطق كثيرة حول بحر قزوين.
حين مات محمد بن مأمون الذي منه هرب البيروني وخلفه ابنه علي كانت الأحوال السياسية والحزازات الشخصية قد هدأت، فدعاه علي ليرجع الى خوارزم فرجع لما نعرفه عن البيروني من تعلق بمنطقته وقبوله دعوة علي الذي ألحقه بحاشية أخيه الأمير ابن العباس مأمون. وبعد رحيل البيروني عن قابوس عصفت الفتن بجرجان وأودت بحياة قابوس خلال سنوات قليلة.
وبعد وفاة علي حوالي سنة ١٠٠٩ خلفه أبو العباس الذي زاد من اعباء البيروني، إذ عينه مستشارا سياسيا مقيما في القصر وسفيرا معتبرا لرجاحة عقله وطلاقة لسانه وقوة حججه في الاقناع، ويقول بتذمر البيروني لأن ارصاده تأثرت وأعماله في مجلس العلوم خفت، فيقول في كتاب (تحديد ...) ووفاء كرهت من احوال الدنيا
1 / 8
على ما حسدني عليه الجاهل ... ثم تفرغت قليل التفرغ في ايام الشهيد ابي العباس» لكن اشغاله لا تثنيه عن انهاء ما بدأه سنة ٩٩٥ من قياسات لارتفاع الشمس، ولا سيما ان وليّ نعمته وهبه مالا لينشئ جهازا يرصد به أوج الشمس.
ويقوم بذلك ما بين ٧ حزيران و٧ كانون الاول سنة ١٠١٦. وفي هذه الفترة المزدهرة يصمم «نصف كرة» قطرها ٥ امتار لتكون جهازا يبيّن الحلول بالخطوط البيانية لمسائل تتعلق بعلم هيئة الأرض وقياس خواصها كالمساحة مثلا..
وتأبى الفتن إلا تخريب عمله فتهب فتنة يذهب مأمون ضحيتها وكما يقول البيروني «اسفر عقباها من امن لا يتسع للعود الى الحال الأول والاشتغال بما هو يمثل اولى ...» . عندئذ يثأر محمود الغزنوي لعهده فيحتل خوارزم في ٣ تموز ١٠١٧.
ويسوق من في البلاط اسرى بمن فيهم البيروني في ربيع ١٠١٨ وهكذا ينتهي هذا العالم الى غزنة عاصمة محمود في افغانستان. لكن البيروني ليس بالرجل الذي يهدأ أو تعيقه المصائب عن مهماته فيبدأ بالكتابة وهو في طريقه الى الاسر.
وبعد وفاة محمود في ١٠٣٠ خلفه ابنه مسعود الذي تغلب على اخيه وتحسنت احوال البيروني المادية وزادت حريته، فتمكن من زيارة بلده سنة ١٠٣٢، و١٠٣٤ وامتازت هذه الفترة بغزارة التصنيف في حقول مختلفة..
مصنفاته:
في سنة ١٠٣٦ ينهي فهرسا باعماله حتى هذا التاريخ، فلا يشكل على أحد ويقول بلغة الواثق المتيقن من اهمية اعماله: «ينبغي عليك ان تعلم فيما عددته من كتبي بما عملته في حداثتي وازدادت المعرفة بفنه بعد ذلك فلم اطرحه او استرذله فإنها جميعا ابنائي والاكثر بابنه وشعره المفتون» .
ثم يذكر اسماء الكتب التي اتفق لي عملها سنة ٤٢٧ للهجرة وقد تم عمري ٦٥ سنة قمرية و٦٣ سنة شمسية وتعرف انه كتب ١٨٠ مصنفا او أكثر نوجز الحديث عن بعض منها.
«كتاب تحديد الاماكن لتصحيح مسافات المساكن» فرغ في تصنيفه في ٢٨
1 / 9
آب ١٠٢٥ والكتاب سفر قيم لقياس خطوط الطول والعرض وموقع البلدان على الكرة الارضية.
(كتاب القانون المسعودي) فهو موسوعة ضخمة تلخص قواعد البيروني وابتكاراته وفي الموسوعة خزانة كبيرة لتاريخ الأمم وتقاويمها من (يوم آدم) الى يوم البيروني فليراجعه من يشاء..
وفاته:
في سنة ١٠٤٠ يثور قواد مسعود ويذبحون الأمير ويخلفه ابنه (مودود) الذي يقدم اليه آخر مصنفاته (الصيدنة في الطب) وفي هذا الكتاب يذكر انه نيف الثمانين وخف سمعه وبصره وتقل اخباره بعد سنة ١٠٤٨ لكن الثابت من اقواله في كتاب (الصيدنة في الطب) انه كان حيا ذلك العام ولربما توفي حوالي ١٠٥٠.
بعض مآثره:
كان له من العزم ما جعله يقوم بحسابات وحل معادلات لا تعالج اليوم إلا بالأدمغة الالكترونية. اختار اصعب المسائل وحلها وتسمى هذه المسائل الهندسية والرياضية «مسائل البيروني» وقدم طريقة بسيطة للرسم على الأوراق اشكالا هندسية من أدوات البعد الثالث، كالاجسام الكروية. ومن أهم اعماله الفلكية ابتكاره نظرية خاصة لتقدير «النسبة التقريبية» الضرورية لحساب مساحات ومحيطات الدوائر. وتمكن من تقدير محيط الكرة الارضية وقطرها.
يجد البيروني قيمة النسبة التقريبية ١٤١٧٤، ٣ والصحيحة هي ١٤١٥٩، ٣.
هو إذن مبتكر القاعدة المعروفة بقاعدة البيروني وهي معادلة رياضية تستخدم في حساب نصف قطر الأرض استنادا الى معرفة محيطها. المعادلة بسيطة شأنها شأن القواعد الجليلة ... ويقول نللينو «... معادلة البيروني لقياس محيط الأرض هي من الاعمال العلمية المجيدة المأثورة» صمم جهازا بسيطا لقياس
1 / 10
الوزن النوعي (الكثافة) لبعض المعادن والجواهر، ونتائجه تشهد عليه:
الذهب ٢٦، ١٩، وهذه هي اليوم ويقول ان الذهب سمي كذلك «لأنه سريع الذهاب بطيء الاياب على الاصحاب!» . وهو أول من استعمل الوحدة (نسبة واحد) للنسب المعروفة في حساب المثلثات، وهذا الاستعمال قائم حتى الآن ...
مصنفاته باستثناء القليل ذات اسلوب واضح لا لبس فيه ولا ابهام، وان كان غير سلس.
يحب الايجاز فيقول انه يكتب «... لمن له دراية واجتهاد، ومحب العلم ... ومن كان على غير هذه الصفة فلست أبالي أفهم أم لم يفهم.
الغرب يبعثه:
كان المستشرق نيكولاس دي فانيكوف اول من نبه اوروبا الى البيروني عام ١٨٦٦.
وسرعان ما تتدفق الكتب «حساب المثلثات عند البيروني، جغرافية البيروني» . ومن اعظم المحققين كان الالماني ساخاو الذي ترجم الى الالمانية والانجليزية كتابين ضخمين (الآثار الباقية عن القرون الخالية عام ١٨٧٩ وتاريخ الهندسة عام ١٨٨٨) ويقول ساخاو «... البيروني اعظم عقلية ظهرت في التاريخ ...» وبعد أن اطلع الخبراء على كتبه عن الهند قال أحدهم «... محاولة فريدة من رجل مؤمن يدرس بنزاهة وتجرد حضارة وثنية ...
ومن جهة تاريخية جاءت هذه الدراسة اكبر ظاهرة علمية في تاريخ الاسلام ...
وجميع ما كتب من قبل هو أشبه بألعاب الاطفال ...» لذلك اهتم الهنود بالبيروني وفي عام ١٩١٣ قامت بعثة لتجميع آثاره وكذلك الفرس.
وما ان دخل النصف الثاني من القرن العشرين حتى كثرت المهرجانات
1 / 11
والكتب وأخذت الدول تتنازع شرف الانتماء إليه، فتحسبه من ابنائها.
روسيا تسمى جامعة ومدينة على اسمه وتقيم له تمثالا في جامعة موسكو.
وتكرمه الهند وايران وأفغانستان. وجامعات في اميركا والمانيا واليونسكو تصدر فهرسا بالمآثر العربية، ومن بينها أعماله. حتى تركيا تريده، لأنها تظن ان البيروني سليل الاتراك الذين انتشروا بين بحري آرال وقزوين.
علي صفا
1 / 12
مقدّمة المؤلّف «١»
بسم الله الرحمن الرحيم إنّما صدق قول القائل «ليس الخبر كالعيان» لأنّ العيان هو إدراك عين الناظر عين المنظور إليه في زمان وجوده وفي مكان حصوله، ولولا لواحق آفات بالخبر لكانت فضيلته تبين على العيان والنظر لقصورهما على الوجود الذي لا يتعدّى آنات الزّمان وتناول الخبر إيّاها وما قبلها من ماضي الأزمنة وبعدها من مقتبلها حتّى يعمّ الخبر لذلك الموجود والمعدوم معا. والكتابة نوع من أنواعه يكاد أن يكون أشرف من غيره، فمن أين لنا العلم بأخبار الأمم لولا خوالد آثار القلم؟
ثمّ إنّ الخبر عن الشيء الممكن الوجود. في العادة الجارية يقابل الصدق والكذب على صورة واحدة وكلاهما لاحقان به من جهة المخبرين لتفاوت الهمم وغلبة الهراش والنّزاع على الأمم. فمن مخبر عن أمر كذب يقصد فيه نفسه فيعظّم به جنسه لأنّها تحته أو يقصدها فيزري بخلاف جنسه لفوزه فيه بإرادته، ومعلوم أنّ كلا هذين من دواعي الشهوة والغضب المذمومين. ومن مخبر عن كذب في طبقة يحبّهم لشكر أو يبغضهم لنكر، وهو مقارب للأوّل فإنّ الباعث على فعله من دواعي المحبّة والغلبة. ومن مخبر عنه متقرّبا إلى خير بدناءة الطبع أو
1 / 13
متّقيا لشرّ من فشل وفزع. ومن مخبر عنه طباعا كأنّه محمول عليه غير متمكّن من غيره وذلك من دواعي الشرارة وخبث مخابىء الطبيعة. ومن مخبر عنه جهلا، وهو المقلّد للمخبرين وإن كثروا جملة أو تواتروا فرقة بعد فرقة فهو وهم وسائط فيما بين السامع وبين المتعمّد الأوّل، فإذا أسقطوا عن البين بقي ذاك الأوّل أحد من عددناه «١» من التخرّصين والمجانب للكذب المتمسّك بالصدق هو المحمود الممدوح عند الكاذب فضلا عن غيره، فقد قيل «قولوا الحقّ «٢» ولو على أنفسكم «٢»» وقال المسيح ﵇ في الإنجيل ما هذا معناه: «٣» لا تبالوا بصولة الملوك في الإفصاح بالحقّ بين أيديهم فليسوا يملكون منكم غير البدن، وأمّا النفس فليس لهم عليها يد «٣» وهذا منه أمر بالتشجّع الحقيقيّ، فالخلق الذي تظنّه العامّة شجاعة إذا رأوا إقداما على المعارك وتهوّرا في خوض المهالك هو نوع منها، فأمّا جنسها العالي على أنواعها فهو الاستهانة بالموت، ثم سواء كانت في قول أو كانت في فعل، وكما أنّ العدل في الطباع مرضيّ محبوب لذاته مرغوب في حسنه كذلك الصدق إلّا عند من لم يذق حلاوته أو عرفه وتحاماه كالمسؤول من المعروفين بالكذب: هلّ صدقت قطّ؟ وجوابه: لولا أنّي أخاف أن أصدق لقلت لا، فإنّه العادل عن العدل والمؤثّر للجور وشهادة الزور وخيانة الأمانة واغتصاب «٤» الأملاك بالاحتيال والسرقة وسائر ما به فساد العالم والخليقة. وكنت ألفيت الأستاذ أبا سهل «٥» عبد المنعم بن عليّ ابن نوح التفليسيّ أيّده الله مستقبحا قصد الحاكي في كتابه عن المعتزلة الإزراء عليهم في قولهم: «إنّ الله تعالى عالم بذاته»، وعبارته عنه في الحكاية أنّهم يقولون إنّ الله لا علم له تخييلا إلى عوامّ قومه أنّهم ينسبونه إلى الجهل، جلّ وتقدّس عن ذلك وعمّا لا يليق به من
1 / 14
الصفات، فأعلمته أنّ هذه طريقة قلّ ما يخلوا منها من يقصد الحكاية عن المخالفين والخصوم، ثم إنّها تكون أظهر فيما كان عن المذاهب التي يجمعها دين واحد ونحلة لاقترابها واختلاطها، وأخفى فيما كان عن الملل المفترقة وخاصّة ما لا يتشارك منها في أصل وفرع وذلك لبعدها وخفاء السّبيل إلى تعرّفها، والموجود عندنا من كتب المقالات وما عمل في الآراء والدّيانات لا يشتمل إلّا على مثله، فمن لم يعرف حقيقة الحال فيها اغترف منها ما لا يفيده عند أهلها والعالم بأحوالها غير الخجل إن هزّت بعطفه الفضيلة أو الإصرار واللجاج إن رخّت فيه الرذيلة، ومن عرف حقيقة الحال كان قصارى أمره أن يجعلها «١» من الأسمار والأساطير يستمع لها تعلّلا بها والتذاذا لا تصديقا لها واعتقادا؛ وكان وقع المثال في فحوى الكلام على أديان الهند ومذاهبهم فأشرت إلى أنّ أكثرها هو مسطور في الكتب هو منحول وبعضها عن بعض منقول وملقوط مخلوط غير مهذّب على رأيهم ولا مشذّب، فما وجدت من أصحاب كتب المقالات أحدا قصد الحكاية المجرّدة من غير ميل ولا مداهنة سوى أبي العبّاس الإيرانشهريّ، إن لم يكن من جميع الأديان في شيء بل منفردا بمخترع له يدعو إليه ولقد أحسن في حكاية ما عليه اليهود والنصارى وما يتضمّنه التوراة والإنجيل وبالغ في ذكر المانويّة وما في كتبهم من خبر الملل المنقرضة، وحين بلغ فرقة الهند والشمنيّة صاف سهمه عن الهدف وطاش في آخره إلى كتاب زرقان ونقل ما فيه إلى كتابه، وما لم ينقل منه فكأنّه مسموع من عوامّ هاتين الطائفتين ولمّا أعاد الأستاذ أيّده الله مطالعة الكتب ووجد الأمر فيها على الصّورة المتقدّمة حرّص على تحرير ما عرفته من جهتهم ليكون نصرة لمن أراد مناقضتهم وذخيرة لمن رام مخالطتهم، وسأل ذلك ففعلته غير باهت على الخصم ولا متحرّج عن حكاية كلامه وإن باين الحقّ واستفظع سماعه عند أهله فهو اعتقاده وهو أبصر به. وليس الكتاب كتاب حجاج وجدل حتّى استعمل فيه
1 / 15
بإيراد حجج الخصوم ومناقضة الزائغ منهم عن الحقّ، وإنّما هو كتاب حكاية فأورد كلام الهند على وجهه وأضيف إليه ما لليونانيّين من مثله لتعريف المقاربة بينهم، فإنّ فلاسفتهم وإن تحرّوا التّحقيق فإنّهم لم يخرجوا فيما اتّصل بعوامّهم عن رموز نحلتهم وموضعات ناموسهم، ولا أذكر مع كلامهم كلام غيرهم إلّا أن يكون للصوفية أو لأحد أصناف النصارى لتقارب الأمر بين جميعهم في الحلول والاتّحاد، وكنت نقلت إلى العربيّ كتابين أحدهما في المبادىء وصفة الموجودات، واسمه «سانك» والآخر في تخليص النفس من رباط البدن ويعرف «بياتنجل» وفيهما أكثر الأصول التي عليها مدار اعتقادهم دون فروع شرائعهم، وأرجوا أنّ هذا ينوب عنهما وعن غيرهما في التقرير ويؤدّي إلى الإحاطة بالمطلوب بمشيئة الله.
1 / 16
أ- في ذكر أحوال الهند وتقريرها أمام ما نقصده من الحكاية عنهم
يجب أن نتصوّر أمام مقصودنا الأحوال التي لها يتعذّر استشفاف أمور الهند، فإما أن يسهل بمعرفتها الأمر وإمّا أن يتمهّد له العذر، وهو أنّ القطيعة تخفي ما تبديه الوصلة، ولها فيما بيننا أسباب: منها أنّ القوم يباينوننا بجميع ما يشترك فيه الأمم، وأوّلها اللغة وإن تباينت الأمم بمثلها ومتى رامها احد لازالة المباينة لم يسهل ذلك لأنّها في ذاتها طويلة عريضة تشابه العربيّة يتسمّى الشيء الواحد فيها بعدّة أسام مقتضبة ومشتقّة، وبوقوع الاسم الواحد على عدّة مسمّيات محوجة في المقاصد إلى زيادة صفات إذ لا يفرّق بينها إلّا ذو فطنة لموضع الكلام وقياس المعنى إلى الوراء والأمام، ويفتخرون بذلك افتخار غيرهم به من حيث هو بالحقيقة عيب في اللغة؛ ثمّ هي منقسمة إلى مبتذل لا ينتفع به إلّا السوقة، وإلى مصون فصيح يتعلّق بالتّصاريف والاشتقاق ودقائق النّحو والبلاغة لا يرجع إليه غير الفضلاء المهرة، ثم هي مركّبة من حروف لا يطابق بعضها حروف العربيّة والفارسيّة ولا تشابهها بل لا تكاد ألسنتنا ولهواتنا تنقاد لاخراجها على حقيقة مخارجها ولا آذاننا تسمع بتمييزها من نظائرها وأشباهها ولا أيدينا في الكتبة لحكايتها، فيتعذّر بذلك إثبات شيء من لغتهم بخطّنا لما نضطرّ إليه من الاحتيال لضبطها بتغيير النقط والعلامات وتقييدها باعراب إمّا مشهور وإمّا معمول؛ هذا مع عدم اهتمام الناسخين لها وقلّة اكتراثهم بالتصحيح والمعارضة حتى يضيع الاجتهاد
1 / 17
ويفسد الكتاب في نقل له او نقلين ويصير ما فيه لغة جديدة لا يهتدي لها داخل أو خارج من كلتي الأمّتين، ويكفيك معرّفا أنّا ربّما تلقفنا من أفواههم. اسما واجتهدنا في التوثقة منه فاذا أعدناه عليهم لم يكادوا يعرفونه إلا بجهد؛ ويجتمع في لغتهم كما يجتمع في سائر لغات العجم حرفان ساكنان وثلاثة وهي التي يسمّيها أصحابنا متحرّكات بحركة خفيّة، ويصعب علينا التفوّه بأكثر كلماتها وأسمائها لافتتاحها بالسواكن؛ وكتبهم في العلوم مع ذلك منظومة بأنواع من الوزن في ذوقهم قد قصدوا بذلك انحفاظها على حالها وتقديرها وسرعة ظهور الفساد فيها عند وقوع الزيادة والنقصان ليسهل حفظها فإنّ تعويلهم عليه دون المكتوب، ومعلوم أنّ النظم لا يخلو من شوب التكلّف لتسوية الوزان وتصحيح الانكسار وجبر النقصان، ويحوج إلى تكثير العبارات، وهو أحد أسباب تقلقل الأسامي في مسمّياتها؛ فهذا من الأسباب التي تعسّر الوقوف على ما عندهم. ومنها أنهم يباينوننا بالديانة مباينة كلّيّة لا يقع منّا شيء من الإقرار بما عندهم ولا منهم بشيء مما عندنا، وعلى قلّة تنازعهم في أكر المذاهب بينهم بما سوى الجدال والكلام دون الإضرار «١» بالنفس أو البدن أو الحال ليسوا مع من عداهم بهذه الوتيرة وإنما يسمّونه «مليج» وهو القذر لا يستجيزون مخالطته في مناكحة ومقاربة او مجالسة ومؤاكلة ومشاربة من جهة النجاسة، ويستقذرون ما تصرّف على مائه وناره وعليهما مدار المعاش، ثمّ لا مطمع في صلاح ذلك بحيلة كما يطهر النجس بالانحياز إلى حال الطهارة، فليس بمطلق لهم قبول من ليس منهم إذا رغب فيهم أو صبا إلى دينهم، وهذا ممّا يفسخ كلّ وصلة ويوجب أشدّ قطيعة. ومنها أنّهم يباينوننا في الرسوم والعادات حتى كادوا أن يخوّفوا ولدانهم بنا وبزيّنا وهيآتنا وينسبوننا إلى الشيطنة وإيّاها إلى عكس الواجب وإن كانت هذه النسبة لنا مطلقة وفيما بيننا بل وبين الأمم بأسرهم مشتركة؛ وعهدي ببعضهم وهو ينقم منّا بأنّ أحد ملوكهم هلك على يد عدو
1 / 18
له قصده من أرضنا وخلّف جنينا، ملّك بعده وسمّي «سبكر» «١» وحين الإيفاع سأل أمّه عن حال أبيه فقصّت عليه القصّة وامتعض لها فبرز من أرضه إلى أرض العدوّ واستوفى نزّته من الأمم حتى ملّ الإثخان والنكاية فألزم البقايا هذا التزبّي بزيّنا تذليلا لهم وتنكيلا فشكرت فعله لمّا سمعته إذ لم يسمنا التهنّد والانتقال إلى رسومهم.
ومما زاد في النفار والمباينة أنّ الفرقة المعروفة بالشمنيّة على شدّة البغضاء منهم للبراهمة هم أقرب إلى الهند من غيرهم، وقد كانت خراسان وفارس والعراق والموصل إلى حدود الشام في القديم على دينهم إلى أن نجم «زردشت» من اذربيجان ودعا ببلخ إلى المجوسيّة وراجت «٢» دعوته عند «كشتاسب» وقام بنشرها ابنه «إسفنديار» في بلاد المشرق والمغرب قهرا وصلحا ونصب بيوت النيران من الصين إلى الروم، ثمّ استصفى الملوك بعده فارس والعراق لملّتهم فانجلت «الشمنّية» عنها إلى مشارق بلخ وبقي المجوس إلى الآن بأرض الهند ويسمّون بها «مك»؛ وكان ذلك بدو النفار عن جنبة خراسان فيهم إلى أن جاء الإسلام وذهبت دولة الفرس، فزادهم غزو أرضهم استيحاشا لمّا دخل محمّد بن القاسم بن المنبّه أرض السّند من نواحي سجستان وافتتح بلد «بمهنوا» وسمّاه «منصورة» وبلد «مولستان» وسمّاه «معمورة وأوغل في بلاد الهند إلى مدينة «كنوج» ووطئ أرض القندهار وحدود كشمير راجعا يعارك مرّة ويصالح اخرى ويقرّ القوم على النحلة إلا من رضي منها بالنّقلة «٣»؛ وغرس ذلك في قلوبهم السخائم، وإن لم يتجاوز بعده من الغزاة حدود كابل وماء السند أحد إلى أيّام الترك حين تملكوا بغزنه في أيّام السامانيّة ونابت الدولة ناصر الدين سبكتكين فآثر الغزو وتلقّب به وطرّق لمن بعده في توهين جانب الهند طرقا سلكها يمين الدولة محمود رحمهما الله نيّفا وثلاثين سنة فأباد بها خضرآءهم وفعل من الأعاجيب في
1 / 19
بلادهم ما صاروا به هباء منثورا وسمرا مشهورا، فبقيت بقاياهم المتشرّدة «١» على غاية التنافر والتباعد عن المسلمين بل كان ذلك سبب انمحاق علومهم عن الحدود المفتتحة وانجلائها إلى حيث لا يصل إليه اليد بعد من كشمير وبانارسي وأمثالهما مع استحكام القطيعة فيها مع جميع الأجانب بموجب السياسة والديانة. وبعد ذلك أسباب ذكرها كالطعن فيهم ولكنّها حافية «٢» في أخلاقهم غير خفيّة، والحمق دآء لا دوآء له؛ وذلك أنّهم يعتقدون في الأرض أنّها أرضهم وفي الناس أنّهم جنسهم وفي الملوك أنّهم رؤساؤهم وفي الدين أنّه نحلتهم وفي العلم أنّه ما معهم فيترفّعون ويتبظرمون «٣» ويعجبون بأنفسهم فيجهلون، وفي طباعهم الضنّ بما يعرفونه والإفراط في الصيانة له عن غير أهله منهم فكيف عن غيرهم، على أنّهم لا يظنّون أنّ في الأرض غير بلدانهم وفي الناس غير سكّانها وأنّ للخلق غيرهم علما حتى أنّهم إن حدّثوا بعلم أو عالم في خراسان وفارس استجهلوا المخبر ولم يصدّقوه للآفة المذكورة، ولو أنّهم سافروا وخالطوا غيرهم لرجعوا عن رأيهم؛ على أنّ أوائلهم لم يكونوا بهذه المثابة من الغفلة، فهذا «براهمهر» أحد فضلائهم حين يأمر بتعظيم البراهمة يقول: «إنّ اليونانيين وهم أنجاس لمّا تخرّجوا في العلوم وأنافوا «٤» فيها على غيرهم وجب تعظيمهم فما عسى نقوله في البرهمن إذا حاز إلى طهارته شرف العلم؟» وكانوا يعترفون لليونّانيين بأنّ ما أعطوه من العلم أرجح من نصيبهم منه، ويكفيك دليلا عليه من مادح نفسه وهو يقرئك السلام؛ إنّي كنت أقف من منجّميهم مقام التلميذ من الأستاذ لعجمتي فيما بينهم وقصوري عمّا هم فيه من مواضعاتهم، فلمّا اهتديت قليلا لها أخذت أوقّفهم على العلل وأشير إلى شيء من البراهين والوّح لهم الطرق الحقيقيّة في الحسابات فانثالوا عليّ
1 / 20
متعجّبين وعلى الاستفادة متهافتين يسألون: عمّن شاهدته من الهند حتى أخذت عنه؟ وأنا أريهم مقدارهم وأترفّع عن جنبتهم مستنكفا، فكادوا ينسبونني الى السخر ولم يصفوني عند أكابرهم بلغتهم إلا بالبحر والماء يحمض حتى يعوزا «١» الخلّ، فهذه صورة الحال، ولقد أعيتني المداخل فيه مع حرصي الذي تفرّدت به في أيّامي وبذلي الممكن غير شحيح عليه في جمع كتبهم من المظانّ واستحضار من يهتدي لها من المكامن ومن لغيري «٢» مثل ذلك إلا أن يرزق من توفيق الله ما حرمته في القدرة على الحركات عجزت فيها عن «٣» القبض والبسط في الأمر والنهي طوي عنّي جانبها، والشكر لله على ما كفي منها؛ وأقول: إنّ اليونانيين أيّام الجاهلية قبل ظهور النصرانية كانوا على مثل ما عليه الهند من العقيدة، خاصّهم في النظر قريب من خاصّهم وعامّهم في عبادة الأصنام كعامّهم، ولهذا أستشهد من كلام بعضهم على بعض بسبب الاتّفاق وتقارب الأمرين لا التصحيح فإنّ ما عدا الحقّ زائغ والكفر ملّة واحدة من أجل الانحراف عنه، ولكنّ اليونانيّين فازوا بالفلاسفة الذين كانوا في ناحيتهم حتى نقّحوا لهم الأصول الخاصة دون العامّة لأنّ قصارى الخواصّ اتّباع البحث والنظر وقصارى العوامّ التهوّر واللجاج إذا خلوا عن الخوف والرهبة يدلّ على ذلك سقراط لمّا خالف في عبادة الأوثان عامّة قومه وانحرف عن تسمية الكواكب «آلهة» في لفظه كيف أطبق قضاة أهل اثينية الأحد عشر على الفتيا بقتله دون الثاني عشر حتى قضى نحبه غير راجع عن الحقّ؛ ولم يك للهند أمثالهم ممّن يهذّب العلوم فلا تكاد تجد لذلك لهم خاصّ كلام إلا في غاية الاضطراب وسوء النظام ومشوبا في آخره خرافات العوامّ من تكثير العدد وتمديد المدد ومن موضوعات النحلة التي يستفظع أهلها فيها المخالفة، ولأجله يستولي التقليد عليهم وبسببه أقول فيما هو بابتي منهم أنّي لا «٤» أشبّه ما في كتبهم من
1 / 21
الحساب ونوع التعاليم إلا بصدف مخلوط بخزف «١» أو بدرّ ممزوج ببعر أو بمهى مقطوب بحصى، والجنسان عندهم سيّان إذ لا مثال لهم لمعارج البرهان؛ وأنا في أكثر ما ساورده من جهتهم حاك غير منتقد إلا عن ضرورة ظاهرة، وذاكر من الأسماء والمواضعات في لغتهم ما لا بدّ من ذكره مرّة واحدة يوجبها التعريف، ثمّ إن كان مشتقا يمكن تحويله في العربيّة إلى معناه لم أمل عنه إلى غيره إلا أن يكون بالهندية أخفّ في الاستعمال فنستعمله بعد غاية التوثقة منه في الكتبة، أو كان مقتضبا شديد الاشتهار فبعد الإشارة إلى معناه، وإن كان له اسم عندنا مشهور فقد سهل الأمر فيه؛ ويتعذّر فيما قصدناه سلوك الطريق الهندسي في الإحالة على الماضي دون المستأنف، ولكنه ربّما يجيء في بعض الأبواب ذكر مجهول وتفسيره آت في الذي يتلوه، والله الموفّق.
1 / 22
ب- ذكر اعتقادهم في الله سبحانه
إنّما اختلف اعتقاد الخاصّ والعامّ في كلّ أمّة بسبب أنّ طباع الخاصّة ينازع المعقول ويقصد التحقيق في الأصول، وطباع العامّة يقف عند المحسوس ويقتنع بالفروع ولا يروم التدقيق وخاصّة فيما افتنّت فيه الآراء ولم يتّفق عليه الأهواء؛ واعتقاد الهند في الله سبحانه أنه الواحد الأزلي، من غير ابتداء ولا انتهاء المختار في فعله القادر الحكيم الحيّ المحيي المدبّر المبقي الفرد في ملكوته عن الأضداد والأنداد لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء؛ ولنورد في ذلك شيئا من كتبهم لئلا تكون حكايتنا كالشيء المسموع فقط، قال السائل في كتاب «باتنجل»: من هذا المعبود الذي ينال التوفيق بعبادته؟ قال المجيب: هو المستغني بأوّليّته «١» ووحدانيّته عن فعل لمكافاة عليه براحة تؤمّل وترتجي أو شدّة تخاف وتتّقي، والبريء عن الأفكار لتعاليه عن الأضداد المكروهة والأنداد المحبوبة، والعالم بذاته سرمدا إذ العلم الطارئ يكون لما لم يكن بمعلوم وليس الجهل بمتّجه عليه في وقت ما أو حال؛ ثمّ يقول السائل بعد ذلك: فهل له من الصفات غير ما ذكرت؟ ويقول المجيب: له العلوّ التامّ في القدر لا المكان فإنّه يجلّ عن التمكّن، وهو الخير المحض التامّ الذي يشتاقه كلّ موجود، وهو العلم الخالص
1 / 23