تحقيق الآمال فيما ينفع الميت من الأعمال
www.izbacf.org
أعد هذا الكتاب إلكترونيا
قطب الدين بن محمد الشروني الجعفري
للتواصل
Shafi 1
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ومولانا محمد الصادق الأمين، وعلى آله الطاهرين، وصحبه الراشدين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد ..
فإن مما يقضي منه العجب -وما حييت أراك الدهر عجبا- مما يظهر في الساحات من مدعي السلفية من النهي عن قراءة القرآن إلى روح الأموات.
وهذا كتاب بين يديك قام بتأليفه فضيلة السيد العلامة الكبير، المحقق الشهير، ناشر العلم في الحرمين الشريفين؛ محمد بن السيد علوي عباس المالكي الحسني المكي حفظه الله، وقد جاء مؤلفا لم يسبق إلى مثله، جمع فيه أقوال علماء السلف من الصحابة والتابعين، وفقهاء الإسلام، وحفاظ الشريعة الإسلامية، في مشروعية تلاوة القرآن وأنواع المبرات التي تنفع الأموات، وسماه (تحقيق الآمال فيما ينفع الميت من الأعمال)، ولقد أتى فيه بالحق المؤيد بالدليل الذي لا يماري فيه إلا متعصب لا يقبل الحق، أما المنصف الذي يطلب الحق ففيه ضالته المنشودة، وطلبته المقصودة، فاشدد به يديك، وعض عليه بناجذيك. فما أحوج الميت إلى الصلة بالمبرات وأنواع الطاعات التي تخفف من أثقاله، وتزيد في صالح أعماله، وقد انقطع عنه عمله إلا ما كان من سعيه، وما وصله به إخوانه وأهله وجيرانه، من دعاء، أو تلاوة قرآن، أو صدقة، أو حج، أو عمرة، فبفضل الله تعالى ينفعه ذلك ويزيد في حسناته ولا ينقص من أجر التالي والمتصدق شيء بفضل الله وكرمه فهو أكرم الأكرمين.
Shafi 2
وقد شهدت موقفا من مواقف المتعصبين في أحد المساجد بصنعاء، وقد أحدثوا ضجة في المسجد بسبب قراءة (يس) على ميت، ويقولون في حجتهم إن حديث: ((اقرءوا (يس) على موتاكم)) حديث ضعيف لا يجوز العمل به. فأجبت عليهم أن الحديث من قسم الحسن كما ذكره جلة العلماء ولسنا بحاجة إلى الاستدلال به، ولنا دليل من أقوى الأدلة، وهو الأصل في جواز تلاوة القرآن -(يس) وغيره- للأحياء والأموات من غير فرق وفي كل زمان ومكان. ومن ادعى منع ذلك فعليه الدليل الصحيح الصريح الذي يصلح مانعا لدليل الأصل، فتفضلوا بدليل ينهى عن قراءة القرآن على الأموات، وهيهات هيهات لا يوجد ذلك، بل الدليل الصحيح الحث على قراءة القرآن في كل حال إلا حالة الجنابة والحيض والنفاس، وأن ((من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات، لا أقول الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف..)) الحديث بطوله، وبقي لنا الاستدلال بحديث ((إقرؤا (يس) على موتاكم)) استظهارا وتقوية.
قالوا: لم يفعله الصحابة، ولا أمر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قلت لهم: الترك وعدم العمل لو سلمنا به ليس بدليل، فالدليل هو قوله صلى الله عليه وآله وسلم وفعله وتقريره، والترك ليس بحجة، كيف وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما تركته فهو عفو)) أي جائز، نص الحديث: قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما أحل الله فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا)) أخرجه البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء بسند حسن.
وروى الترمذي وابن ماجة من حديث سلمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه))، وللحديث طرق أخرى. وهذا كما لا يخفى مؤيد لدليل الأصل وهو الجواز.
Shafi 3
ثم نقول: قد أمر صلى الله عليه وآله وسلم قولا بقوله: ((اقرؤا (يس) على موتاكم)) وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده))، رواه أبو داود من حديث أبي هريرة بسند صحيح، فما المانع من ثبوت هذه الجوائز العظيمة والمغانم الكريمة لمن يتدارسون (يس) أو غيرها بنية الأحياء أو الأموات لإطلاق الحديث، أليس في هذا الكفاية للدلالة على المشروعية مع دليل الأصل؟ هل لديكم ما يعارضه أصح منه أو مثله؟ تفضلوا. فبهتوا وانقطعوا ولم يقتنعوا.
ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة
بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم
وكما ورد في خصوص الموضوع الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه، وأبو داود في سننه: سأل رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: هل بقي شيء من البر أبر به أبوي بعد موتهما؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)) رواه مسلم وأبو داود، وهذا من التنصيص على بعض أفراد العام، وورد في القرآن الكريم: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}[الإسراء:24]، وقد أثبت هذا المشهد لبيان ضعف حجة المانعين.
Shafi 4
وممن ذهب إلى وصول ثواب القرآن وكل الأعمال الصالحة إلى الأموات أئمة الآل الكرام، وشيعتهم الفخام، وكثير من العلماء المحققين الأعلام، انظر كتاب جمع الشتيت للإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني رحمه الله، وتكاد أن تكون المسألة وفاقية بين المحققين -كما ستقف على كلام أئمة المذاهب في هذه الرسالة النفيسة- ولم يظهر الخلاف الكبير والتعصب المقيت إلا في هذا العصر على أيدي المتجاهلين لما ورد في المسألة، والخطب يسير والمسألة طاعة لله وعبادة، فمن نهى عنها فهو يأمر بعقوق الوالدين وقطيعة الأرحام والأقارب بعد الموت، والله تعالى ورسوله يأمران ببرهم أحياء وميتين، وفيه أيضا نهي عن طاعة الله وعبادته كما ذلك معلوم.
وجزى الله مؤلف الرسالة خير الجزاء، ونفع بها المؤمنين، وقد أذن فضيلة المؤلف حفظه الله بإعادة طبع الرسالة مرة ثانية كما ترى إذنه بتوقيعه بطبعها لمؤسسة الإمام زيد الثقافية المباركة، فنرجو أن تعاد الطبعة بصورة تسر الناظر وتشوق القارئ المنصف كما هو عادة المؤسسة فيما نشرته من التراث الإسلامي، بارك الله فيها وجزى الله القائمين عليها خير الجزاء آمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الصادق الأمين، وعلى آله الطاهرين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
بتاريخه 1 شهر شوال سنة 1423ه
كتبه/ محمد بن علي بن محمد بن المنصور وفقه الله
عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء
عضو جميعة علماء اليمن
صنعاء
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فهذه رسالة تحتوي على بحوث علمية مهمة في وصول ثواب القراءة للأموات، وغيرها من الأعمال الصالحات، وما يتعلق بذلك من التلقين والجلوس للعزاء، وسميتها: (تحقيق الآمال فيما ينفع الميت من الأعمال).
Shafi 5
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع بها وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، إنه سميع قدير، وبالإجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، عملت سوءا وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
اللهم، إنا نسألك العفو والعافية، في الدين والدنيا والآخرة، والمال والأهل والبدن.
اللهم إنا نسألك الرضا، والعفو عما مضى، واللطف فيما جرى به القضا.
وصلى الله وسلم على خاتم رسله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتبه الفقير إلى الله تعالى
السيد/ محمد بن السيد علوي المالكي الحسني
خادم العلم الشريف بالبلد الحرام
Shafi 6
{وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}
قال الله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}[النجم:39].
هذه الآية الكريمة من النصوص المهمة التي يتمسك بها كثير ممن يجرون وراء ظواهر الألفاظ وعمومات النصوص المطلقة دون مراعاة للأصول والقرائن الأخرى التي تفيد تخصيصا أو تقييدا للنص، والتي يجب أن لا تفهم النصوص العلمية إلا بها لتدور جميعا في فلك واحد، وتأتي متناسبة مترابطة في نسق واحد يليق بصاحب الشريعة المحفوظ من التناقض والتعارض، إذ لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.
فظاهر هذه الآية يفيد نفي انتفاع الميت بأي شيء بعد موته، لأنه ما أثبت له إلا ما سعى فيه، ومحل سعيه هو الدنيا، لكن هناك نصوصا أخرى تثبت انتفاعه بغير سعيه كما سيأتي في هذا البحث، ولذلك فإن المحققين من علماء السنة وخصوصا المنصفين من أئمة السلفية مثل الشيخ ابن تيمية وابن القيم الذين فهموا الآية هذا الفهم الصحيح أثبتوا انتفاع الميت بعمله وعمل غيره، وبينوا معنى الآية والتوفيق بينها وبين النصوص الأخرى الواردة في هذا الموضوع.
Shafi 7
قال العلامة الشيخ فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي في شرحه على كنز الدقائق في باب الحج عن الغير: وأما قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} فقد قال ابن عباس: إنها منسوخة بقوله تعالى: {والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان...} الآية [الطور:21]، وقيل: هي خاصة بقوم موسى وإبراهيم عليهما السلام لأنه وقع حكاية عما في صحفهما لقوله تعالى: {أم لم ينبأ بما في صحف موسى ، وإبراهيم الذي وفى}[النجم:36،37]، وقيل: أريد بالإنسان الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى أخوه، وقيل: ليس له من طريق العدل، وله من طريق الفضل، وقيل: اللام في (الإنسان) بمعنى (على)، كقوله تعالى: {وإن أسأتم فلها}[الإسراء:7]، أي عليها، وكقوله تعالى: {لهم اللعنة}، أي عليهم، وقيل: ليس له إلا سعيه، لكن سعيه قد يكون بمباشرة أسبابه، بتكثير الإخوان، وتحصيل الإيمان، حتى صار ممن تنفعه شفاعة الشافعين، وأما قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث)) فلا يدل على انقطاع عمل غيره، والكلام فيه وليس فيه شيء مما يستبعد عقلا لأنه ليس فيه إلا جعل ما له من الأجر لغيره، والله تعالى هو الموصل إليه، وهو قادر عليه، ولا يختص ذلك بعمل دون عمل. ا ه.
Shafi 8
تحليل نفيس لشارح العقيدة الطحاوية
ذكر الشيخ ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية مسألة انتفاع الميت بعمل غيره مما لم يتسبب فيه، ورجح القول به، وذكر الأدلة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس عليه، ثم قال في الجواب عن الآية التي يتمسك بظاهرها المانعون:
والجواب عما استدلوا به من قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}[النجم:39]: قد أجاب العلماء بأجوبة، أصحها جوابان:
أحدهما: أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء، وأولد الأولاد، ونكح الأزواج، وأسدى الخير، وتودد إلى الناس، فترحموا عليه، ودعوا له، وأهدوا له ثواب الطاعات، فكان ذلك أثر سعيه، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه في حياته وبعد مماته، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم.
يوضحه: أن الله تعالى جعل الإيمان سببا لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم، فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه ذلك.
الثاني: وهو أقوى منه أن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره، وإنما نفى ملكه لغير سعيه، وبين الأمرين من الفرق ما لا يخفى، فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه فإن شاء أن يبذله لغيره وإن شاء أن يبقيه لنفسه. وقوله سبحانه وتعالى: {ألا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}[النجم:38،39]، آيتان محكمتان تقتضيان عدل الرب تعالى، فالأولى تقتضي أنه لا يعاقب أحدا بجرم غيره، ولا يؤاخذه بجريرة غيره كما يفعله ملوك الدنيا، والثانية تقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله لينقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب، وهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلا بما سعى. ا ه.
Shafi 9
((إذا مات ابن آدم انقطع عمله))
ومن النصوص المهمة المتصلة بالآية الكريمة الحديث الصحيح المشهور: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
وقد شرح هذا الحديث سيدي الوالد الإمام علوي بن عباس المالكي الحسني رحمه الله، فقال: قوله: ((إذا مات ابن آدم ...)) اعلم أن انقطاع ذات العمل بالموت أمر ظاهر، إذ الميت لا يعمل ولا يكلف بعد الموت، وإنما المقصود أن بعض الأعمال تستثمر آثارها حتى بعد الموت فلا ينقطع أجرها بتكرر ذلك. ولذا قال: ((إلا من ثلاث)) أي إلا من خصال ثلاث: ((صدقة جارية)) أي غير منقطعة كحفر بئر، ووقف مصحف، وبناء مسجد ورباط، وقوله: ((أو علم ينتفع به)) يعني به العلم الشرعي: الذي ينتفع به، ويترتب عليه الفوز بالنعيم المقيم والنجاة من العذاب الأبدي. ويدخل في ذلك: تأليف الكتب ووقفها. لأن المراد مطلق الانتفاع: بالمباشرة والتسبب. وقوله: ((أو ولد صالح)) أي مسلم ((يدعو له)): لأنه من كسبه. وقد تفضل الله تعالى بكتابته مثل ثواب سائر الحسنات التي يعملها الأولاد دون آثام السيئات.
وبما تقرر، علم أنه لا حصر في هذه الخصال الثلاث، لأن مفهوم العدد غير حجة، أو لأنه عليه الصلاة والسلام اطلع على الثلاث ثم أطلعه الله على الزائد فضلا منه وإحسانا، لما أخرج ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته: علما نشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، ومسجدا بناه، وبيتا لابن السبيل بناه، ونهرا أجراه، وصدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، تلحقه من بعد موته)).
فهذا الحديث احتوى على سبع خصال تضم إلى الثلاث الأول: تبلغ عشرا. وقد زاد السيوطي عليها واحدة أيضا. وقد نظم ذلك بقوله:
إذا مات ابن آدم ليس يجري عليه من خصال غير عشر
Shafi 10
علوم بثها، ودعاء نجل
وغرس النخل، والصدقات تجري
وراثة مصحف، ورباط ثغر،
وحفر البئر، أو إجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوي
إليه، أو بناء محل ذكر
وتعليم لقرآن كريم
فخذها من أحاديث بحصر
Shafi 11
تخريج ما ورد في هذه الأبيات:
أما قوله: (علوم بثها، ودعاء نجل، والصدقات تجري) فهذه جاءت مجموعة في الحديث الصحيح المشهور: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)).
وأما قوله: (غرس النخل، وحفر بئر) فقد جاء ذكرهما في حديث أنس مرفوعا: ((سبع يجري أجرهما للعبد بعد موته وهو في قبره وذكر منها حفر البئر أو غرس النخل)) رواه أبو نعيم في الحلية.
وأما قوله: (محل ذكر) فهو المسجد، وقد تقدم ذكره في حديث ((إن مما يلحق المؤمن ..)) الحديث.
قال ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية:
وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله)) فاستدلال ساقط، فإنه لم يقل انقطع انتفاعه، وإنما أخبر عن انقطاع عمله، وأما عمل غيره فهو لعامله، فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل، لا ثواب عمله هو، وهذا كالدين يوفيه الإنسان عن غيره، فتبرأ ذمته، ولكن ليس له ما وفى به الدين. ا ه..
Shafi 12
القراءة على الميت وفعل السلف
وربما يقول متنطع ممن يتشبث بأذيال العدم لرد كل مسألة وإنكار كل جديد بقوله: لم يفعله السلف ولم يثبت عنهم، ربما يقول هذا: إن القراءة على الميت لم يفعلها السلف، فنقول له:
أولا: هذه الدعوى غير صحيحة، لأن القراءة على الأموات صحت عن ابن عمر، وحكاها الشعبي عن الأنصار، وثبتت عن الإمام أحمد، وهو من كبار أئمة السلف. وفي نفح الطيب في فوائد المقري الكبير أنه أنشد شيخه الآبلي قول ابن الرومي المشهور:
أفنى وأعمى ذا الطبيب بطبه
وبكحله الأحياء والبصراء
فإذا مررت رأيت من عميانه
أمما على أمواته قراء
فاستفاد منه قدم القراءة على الأموات.
ثانيا: لو سلم عدم فعل السلف لها لا يلزم منه المنع الخاص المدعى، فعدم فعلهم لها ليس بدليل، وليس كل شيء من مسائل الفروع لم يفعله السلف يكون محظورا، ومن ادعى ذلك فعليه الدليل ولا سبيل له إليه.
ثالثا: قد ثبت في الحديث الصحيح ((إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه))، وثبت أيضا تعذيب الأموات في قبورهم كقوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا}[غافر:46]، وكحديث وضعه عليه السلام الجريدتين على قبرين وأخبر: ((أنه يخفف عنهما ما دامتا رطبتين)) أخرجه الشيخان، وأصحاب السنن الأربعة، وابن خزيمة، وأخرج البخاري في الأدب المفرد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به))، ووردت أحاديث كثيرة بخصال غير هذه الثلاثة، يلحق ثوابها الإنسان بعد موته، تتبعها الحافظ السيوطي فبلغت إحدى عشرة خصلة، ونظمها في الأبيات السابقة.
Shafi 13
وأخرج الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنه، عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله تعالى))، وكون الأموات يعذبون في قبورهم ويتألمون من سوء أعمال أقربائهم الأحياء، وينتفعون بما يسديه الأحياء إليهم شيء لا يأتي عليه الحصر من الأحاديث والآثار عن السلف، ذكر بعضا من ذلك ابن كثير في تفسير سورة الروم عند قوله تعالى: {فإنك لا تسمع الموتى}[الروم:52].
رابعا: القراءة على الأموات أمر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد أخرج الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان وصححه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((اقرءوا (يس) على موتاكم))، قال النووي رحمه الله في كتابه (الأذكار) ما نصه: قال العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم: يجوز ويستحب العمل في الفضائل والترغيب والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعا اه.
(قلت): فسكوت الإمام أبي داود عن تضعيفه يدل على أنه صالح وأنه لا يبعد عن درجة الحسن لغيره، وأقل ما يقال فيه أنه نافع للعمل به، دافع لاعتراض المعترض أو إنكار المنكر لذلك العمل. خصوصا وأنه قد جرى عليه عمل الفقهاء في كثير من الأمصار سلفا وخلفا واشتهر بين الناس كما قرر ذلك الشيخ ابن القيم في كتاب الروح كما سيأتي وغيره من أئمة السلف.
والحديث الضعيف إذا جرى عليه العمل تقوى، وانتهض، وصار له مزية على غيره، ويستأنس به أهل الاعتبار والنظر، ويفرحون للعمل به، ويعتبرون ذلك داخلا في دائرة السنة النبوية، ولا يبادرون إلى الإنكار أو الحكم بالبدعة والضلالة والمخالفة.
Shafi 14
وشواهد هذا كثيرة في كتب السنة المشرفة. وممن يعتني به الإمام الحافظ الترمذي، فإنه في كتابه السنن كثيرا ما ينقل أحاديث ويحكم عليها بالضعف ثم يقول بعد ذلك: (وقد عمل قوم من أهل العلم بهذا الحديث) كما قال في حديث أبي سعيد في دعاء الاستفتاح [أبواب الصلاة/ باب ما يقول عند افتتاح الصلاة] ج1 ص276، وكما قال في حديث علي في ميراث الإخوة من الأم وهو ضعيف: (والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم) كتاب الفرائض/ باب ما جاء في ميراث الإخوة ج4 ص30، وكما قال في حديث تميم الداري في ميراث المشرك الذي يسلم على يد رجل من المسلمين إنه أولى: (فالحديث فيه ضعف ولكن العمل عليه عند بعض أهل العلم) ج4 ص38، وكما قال في حديث أنس بن مالك في الصلاة على الدابة في ماء وطين وهو ضعيف: (والعمل على هذا عند أهل العلم) أبواب الصلاة/ باب ما جاء في الصلاة على الدابة في الطين والمطر ج1 ص421. وكما قال في حديث أبي هريرة في قضاء صلاة ركعتي الفجر بعد طلوع الشمس. وهو ضعيف: (والعمل على هذا عند بعض أهل العلم) أبواب الصلاة/ باب ما جاء في إعادتها بعد طلوع الشمس ج1 ص433.
والحاصل أن هذا الحديث صالح للعمل به ومقبول في هذا الباب.
وقال الإمام أحمد في المسند أيضا: حدثنا أبو المغيرة، حدثني صفوان -يعني ابن عمرو- حدثني المشيخة أنهم حضروا غضيف بن الحارث الثمالى حين اشتد سوقه، فقال: هل منكم أحد يقرأ (يس)؟ قال: فقرأها صالح بن شريح السكوني، فلما بلغ أربعين قبض، قال: فكانوا يقولون: إذا قرئت يعني (يس) على ميت خفف عنه بها.
وأسند صاحب مسند الفردوس إلى أبي الدرداء بلفظ: ((ما من ميت تقرأ عنده (يس) إلا هون الله عزوجل عليه))، قال محب الدين الطبري: المراد الميت الذي فارقته روحه، وحمله على المحتضر قول بلا دليل. اه.
Shafi 15
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن جندب بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا واستخرجت {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} من تحت العرش فوصلت بها، و (يس) قلب القرآن لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له، واقرءوها على موتاكم)). اه.
Shafi 16
أقوال أئمة المذاهب الفقهية
وقد عقد العلامة الفقيه الحنبلي الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله فصلا خاصا في كتابه (غاية المقصود) جمع فيه أقوال العلماء من كل مذهب في إثبات وصول الثواب إلى الأموات من أي عمل صالح يقوم به الحي ويهب ثوابه إلى الأموات، كالحج، والصدقة، والأضحية، والعمرة، وقراءة القرآن، ولا شك أنه يدخل فيه الأذكار من تهليل، وتكبير، وصلاة وسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهي كلها أعمال صالحة يثاب عليها العامل بها، وإذا وهب ثوابها للميت تقبل الله منه ذلك وأوصله إليه، وإذا وصل إليه انتفع به بفضل الله وكرمه وإحسانه.
فنقل الشيخ ابن حميد أقوال الأئمة من فقهاء الأحناف، مثل الشيخ برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني، في كتابه: (الهداية) في باب الحج عن الغير.
والشيخ شمس الدين أبي العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي، في كتابه (نفحات النسمات في وصول إهداء الثواب للأموات).
والبدر العيني، في باب الحج عن الغير، من شرح الكنز.
وابن عابدين، في رد المحتار على الدر المختار.
وصاحب الفتاوي الهندية، في الفتاوي الهندية، الباب الرابع عشر، في الحج عن الغير.
وصاحب الهداية، في بيان أحكام الحج عن الغير.
والشيخ علي قاري، في شرح المنسك المتوسط.
ونقل أقوال أئمة الفقه المالكي وحفاظ المذهب في الموضوع مثل:
الإمام ابن رشد، في نوازله.
والعلامة الشهاب القرافي، في الفرق الثاني والسبعين والمائة.
وابن الحاج، في الجزء الأول من المدخل.
والشيخ أبو زيد الفاسي، في باب الحج عن الغير.
والحطاب، في شرحه على خليل.
ثم ذكر أقوال كبار أئمة الشافعية مثل:
العلامة الشربيني، في كتابه السراج المنير.
والنووي، في روضة الطالبين، وشرح مسلم.
Shafi 17
والسيوطي، والسبكي، وابن الصلاح، في الفتاوى، والشيخ أبو المعالي على ابن أبي السعود الشهير بالسويدي، في كتابه (العقد الثمين في بيان مسائل الدين). وابن النحوي، في المنهاج . وشيخ الإسلام أبو عبد الله القاياتي، في الروضة.
ثم ذكر أقوال أئمة الحنابلة وحفاظ مذهبهم.
وبدأه بقول الإمام أحمد: الميت يصل إليه كل شيء من الخير من صدقة أو صلاة أو غيره، ثم ذكر كلام الموفق ابن قدامة، في المغني، وهو طويل ونفيس.
ثم قال في العدة شرح العمدة: وأما قراءة القرآن وإهداء ثوابه للميت فالإجماع واقع على فعله من غير نكير، وقد صح الحديث: أن الميت ليعذب ببكاء أهله، والله سبحانه أكرم من أن يوصل إليه العقوبة ويحجب عنه المثوبة.
قلت: ويدل على هذا أيضا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل))، فإذا كان هذا في العذاب والعقاب ففي الفضل والثواب أولى وأحرى.
Shafi 18
[توثيق النصوص الفقهية من مذاهب العلماء في الموضوع]
توثيق النصوص الفقهية من مذاهب العلماء في الموضوع
1) توثيق نصوص مذهب الحنفية
قال الإمام العلامة المرغيناني في أول باب الحج عن الغير من هدايته ما نصه: الأصل في هذا الباب أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوما أو صدقة أو غيرها عند أهل السنة والجماعة، لما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ((أنه ضحى بكبشين أملحين أحدهما عن نفسه والآخر عن أمته ممن أقر بوحدانية الله وشهد له بالبلاغ)). اه.
وقد كتب عليه المحقق الكمال بن الهمام في فتح القدير كتابة مطنبة جيدة، ملخصها أن المعتزلة خالفوا في كل العبادات أي منعوا وصول ثوابها للغير وذكر شبهتهم، وأجاب عنها، وساق آثارا كثيرة دالة على الجواز، ثم قال ما نصه: فهذه الآثار وما قبلها، وما في السنة أيضا من نحوها عن كثير، قد تركناه لحال الطول يبلغ القدر المشترك بين الكل وهو أن من جعل شيئا من الصالحات لغيره نفعه الله به مبلغ التواتر. اه.
وقال العلامة عثمان بن علي الزيلعي الحنفي في شرحه على كنز الدقائق في باب الحج عن الغير أيضا ما نصه: الأصل في هذا الباب أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره عند أهل السنة والجماعة، صلاة كان أو صوما أو حجا أو صدقة أو قراءة قرآن أو الأذكار، إلى غير ذلك من جميع أنواع البر، ويصل ذلك إلى الميت وينفعه.
Shafi 19
وقال العلامة الشيخ زين الدين المعروف بابن نجيم والمشهور بأبي حنيفة الثاني ومحرر المذهب في البحر الرائق في باب الحج عن الغير: لما كان الحج عن الغير كالتبع آخره، والأصل فيه أن الإنسان له أن يجعل ثواب عمله لغيره صلاة أو صوما أو صدقة أو قراءة القرآن أو ذكرا أو طوافا أو حجا أو عمرة أو غير ذلك عند أصحابنا للكتاب والسنة، أما الكتاب فلقوله تعالى: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}[الإسراء:24]، وإخباره تعالى عن ملائكته بقوله: {ويستغفرون للذين آمنوا}، وساق عبارتهم بقوله تعالى: {ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك}[غافر:7]، إلى قوله: {وقهم السيئات}.
وأما السنة فأحاديث كثيرة منها ما في الصحيحين، ثم ذكر الأحاديث الواردة في الموضوع.
وجزم البدر العيني في باب الحج عن الغير أيضا من شرح الكنز، بأن للإنسان أن يجعل ثواب عمله لغيره من صلاة أو صوم أو حج أو صدقة أو قراءة قرآن أو ذكر إلى غير ذلك من جميع أنواع البر، وكل ذلك يصل إلى الميت عند أهل السنة والجماعة. اه.
وللعلامة سعد الدين الديري المتوفى سنة 867ه: (الكواكب النيرات في وصول ثواب الطاعات إلى الأموات) اقتفى فيه أثر السروجي مع زيادات عليه كثيرة.اه.
Shafi 20