فإن غذاء هذه هو العلم والزيادة في المعقولات والإرتياض بالصدق في الآراء وقبول الحق حيث كان ومع من كان والنفور من الكذب والباطل كيف كان ومن أين جاء. فمن اتفق له في الصبا أن يربي على أدب الشريعة ويؤخذ بوظائفها وشرائطها حتى يتعودها ثم ينظر بعد ذلك في كتب الأخلاق حتى تتأكد تلك الآداب والمحاسن في نفسه بالبراهين. ثم ينظر في الحساب والهندسة حتى يتعود صدق القول وصحة البرهان فلا يسكن إلا إليها ثم يتدرج (كما رسمناه في كتابنا الموسوم بترتيب السعادات ومنازل العلوم) حتى يبلغ إلى أقصى مرتبة الإنسان فهو السعيد الكامل فليكثر حمد الله تعالى على الموهبة العظيمة والمنة الجسيمة. ومن لم يتفق له ذلك في مبدأ نشوه ثم ابتلى بأن يربيه والده على رواية الشعر الفاحش وقبول أكاذيبه واستحسانا ما يوجد فيه من ذكر القبائح ونيل اللذات كما يوجد في شعر امرىء القيس والنابغة وأشباههما ثم صار بعد ذلك إلى رؤساء يقرونه على روايتها وقول مثلها ويجزلون له العطية.
وامتحن بأقران يساعدونه على تناول اللذات الجسمانية. ومال طبعه إلى الإستكثار من المطاعم والملابس والمراكب والزينة وإرتباط الخيل الفره والعبيد الروقة (كما اتفق لي مثل ذلك في بعض الأوقات) ثم انهمك فيها واشتغل بها عن السعادة التي أهل لها -
1 / 60