بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل الفرقان على عبده بواسطة الأمين جبريل ، مصدقا لما بين يديه من التوراة والإنجيل ، ليكون للعالمين نذيرا ، وليخرج الناس من الظلمات إلى النور ، فهدى إلى التي هي أقوم من الأمور ، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا .
وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة واستهلكوا في الكفر من العمر آخره ، أبوا من الانقياد ، سيدعون ثبورا غدا في المعاد ، وسيصلون سعيرا ، أنزله بعمله للإفادة كما أراده . فأخرجه من عالم الغيب إلى عالم الشهادة ، فقرع به أسماع مسامع السرائر ، من أولي الألباب أولي النهى والبصائر ، تشويقا أو تخويفا أو تحذيرا ، وأودع في طي خزائن غوامض دقائق عويصات أنوار أزهاره ، ودائع مكنون لآلئ يحار حقائق مصونات أسرار أثماره ، فهدى بالكشف إلى ذلك من بنوره ينظر فكان بصيرا ، وحلى كمال صياغة بلاغه مطالع كلامه بحلى جمال براعة مقاطع ختامه ، فكفى به خبيرا ، وجلا بطلوع لوامع جوازم قواطع صوارم جوامع أحكامه سدف ليالي جو الجهالات تنويرا . وأبان عن معالم صراط الهدى وأماكن مغانم التقى ، ومكامن مظالم الهوى بظهور سطوع أدلة أنوار مناره ، ومجامع أسراره معاني أذكار أخباره ، لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا .
Shafi 4
وحرس أبواب مغاني سماء مباني آياته ، عن استراق شيء بالنقص أو المزيد في ذاته ، وكان المعيار الصحيح ، والمعيار النجيح محكم الآيات ، مجردا في النظام عن الخلل في الكلام ، لا يقبل الزلل في الأحكام أو في شيء من الأحوال ، ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ، على أنه في تأليف كلامه وعجيب نظامه لقرآنه تراكيب ألفاظه العجيبة ، وعدم تناهي معانيه الغريبة - مع شدة إجازه - قد اقتضى كون اعجازه من رام عزما أن يعارضه نطما ، فتحدى لذلك جميع العالمين أن يأتو بمثله ، أو سورة في صورة شكله ، وأنى لهم بذلك ولو كن بعضهم لبعض ظهيرا . والصلاة السلام على نبي الرحمة ، هادي الأمة ، محمد النبي الأمي ، الذي أراد الله بجود هالة هلاله وجوده ، في قبة سماء بهجة الدين ، من حيث أنه جعله للناس قمرا وسراجا منيرا ، وعلى آله المطهرين من القبائح من جميع العالمين تطهيرا .
(2)
أما بعد ، فقد انكشف بنور الحق البرهان ، وصار الأمر ظاهر العيان أنه لا سبيل إلى الوصول إلى الله ، والفوز في لقائه بالسعادة الأبدية ، والتنعم باللذاذات السرمدية ، إلا بوجود الرعاية ، والسير إليه في منار الهداية ، على أنوار العلم ، في عنان الحلم ، لأنه من لم يكن له نور من ربه ، فما له من نور يستدل به ، وذلك هو العلم النافع ، فالعلم هو الدليل على قصد السبيل ، إلى الملك الجليل . العلم كله القرآن وهو التنزيل ، وما بعده من العلم تفسير له وتأويل . فهو الهدى والنور ، والشفاء لما في الصدور ، من أمراض الغرور وأدواء الفجور .
Shafi 5
طوبى لمن كان على عرفات ادكاره واقفا ، وبكعبة أسراره طائفا ، فإنه العروة الوثقى ، والسبب الأوفى ، الذي من تعلق به نجا ، ومن تركه ضل وغوى ، وهلك فتردى . نعم ، ولكن على غير معرفة بتأويله ، لا يصح أن يكون تابعا له لدليله ، حتى يكون في حقه كذلك ، كلا ، بل يخاف عليه على غير ذلك ، أن تعميه أسراره ، وتحرقه أنواره ، وتجرفه وتغرقه بحاره ، مهما يكن في عومه ذا مره ، واقتحم فخاض لجته على غره ، وإذا كان الأمر في ذا لا شك أنه هكذا ولم تكن هذه التفاسير التي على المخالفين لأهل الاستقامة في الدين لغير الحق في ذلك حاليه ، لكونها في ضلال التأويل ليست خاليه . حتى صار كأن صرف العناية إلى ذلك من أكثر العناية ، لا سيما إذا لم تجد لأهل العدل من أصحابنا تفسيرا يرجع بالحق إليه ، ويقتفي أثره فتعول عليه .
Shafi 6
(3) وها نحن في هذا المنهاج ، لكثرة الطلب واللجاج ، من بعض أخواني في الله علي ، ومراجعته في ذلك إلي ، مع كوني ممن قعد به القصور ، في حضيض الضعف عن الارتقاء ، في ذروة هذا المرقى ، الشريف الباذخ ، العالي الشامخ ، المنيف . وها نحن في همة الشروع فيه ، لفتح مباديه ، على سبيل التوسط قصدا بين الإقلال المخل ، والإسهاب الممل ، فإن الاستيفاء لجميع معانيه ، حتى يؤتى على أقاصيه ، لا مطمع لنا فيه ، لكونه كان لوخم الإذكار وعوم الأفكار ، وغوص الأبصار في البحر ، الذي لا ساحل له ولا قعر . وكيف لا وهو الميدان الفسيح لمجال الاعتبار ، المستوفي على الصحيح لجميع الأعمار ، قبل البلوغ إلى آخره ، ثم لا يؤتى على عابره ، هذا وإني فيه وارد من علم اللسان ، ما لا بد منه للبيان ، ومن القرآن كل معمول به وشاذ ، ليكون للقارئ عن نسبة اللحن وكالخطأ كالملاذ ، وأسميه إن من الله علي بتمامه من فضله وإكرامه ، )) مقاليد التنزيل لإدراك حقائقه بالتأويل (( ، وأنا به سبحانه أتوسل ، وله ربي أسأل ، أن يفتح لي بابه ، وأن يهجم بي في القول والعمل على الإصابة ، وألجأ إليه ملجأ من توكل عليه ، أتضرع فأناديه ليغمرني بالإقالة من عثار الرأي وباديه ، وهو الموفق لغيره وبه التوفيق ، وهذا حين الابتداء رب يسر لإتمامه إنك سميع الدعاء ، فعال لما تشاء .
Shafi 7
(4) سورة فاتحة الكتاب وتسمى أم القرآن ، والأساس ، وفاتحة كل شيء أوله ، وأمه وأصله ، وأساسه ومبدؤه ، وما أحقها بهذا لافتتاح الكتاب بها ، وانطوائها على سياق الثناء ، على الصفات والأسماء ، الدالة على كيفية التوحيد ، وكمية التفريد ، واحتوائها على نسيج مدارج الوصول إلى الله على معارج العلم والعمل الصالح ، وكون التلمح أمر بالإقامة ، على طريق الاستقامة ، التي ليس بشيء في الوجود إلا لأجلها موجود ، مع ما اشتملت عليه من القصص وإخبارا عن حال الفريقين من المالك ، والآخر الهالك ، وما في خلال ذلك التصريح ، من خصال التلويح ، بالوعد والوعيد ، لمن لحنها ولمن ضل عن طريق الاستقامة زل ، وعلى الجملة فهي كالجملة في مبانيها ، وما عداها فكالتفصيل لمعانيها ، فهي المبدأ وذلك منها ينشأ ، وتسمى : الكافية والواقية والشافية . لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وهي شفاء من كل داء ) وسورة الحمد والشكر والدعاء والصلاة ، لاشتمالها على ذلك .
Shafi 8
(5) وتسمى السبع المثاني لأنها تثنى في كل صلاة ، بل في كل ركعة منها ، وتكفي الركعات السرية وحدها ، ولا يكفي غيرها عنها ، إذ كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج . ولها أسرار عظيمة حتى أنه يروى عن محمد الغزالي أنه ذكر أن فيها من الخواص ألفاظا ظاهرة وألفاظا باطنة ، وهي سبع آيات بالاتفاق ، مكية على الأصح ، وقيل : مكية ومدنية ، لأنها نزلت مرتين ، مرة بمكة يوم فرضت الصلاة ، ومرة بالمدينة حين حولت القبلة ، لم يشذ عنها شيء من الحروف الأبجدية ، التي عليها مدار العربية إلا سبعة لا غيرها . واختلف الناس على أقوال في ( بسم الله الرحمن الرحيم ) هل هي آية منها أم لا ؟ والحق أنها آية منها ، وأن الصلاة لا تصح على العمل لتركها ، ومختلف في النسيان فيها ولا تنازع في أنها من كلام الله إجماعا . والباء فيها للاستعانة لكن القول في العبارة عنها في التسمية لها ، فسموها بإضافة وباء استعانة وباء إلصاق ، أي تلصق الأفعال بالأسماء ، وقيل فيها أنها للمصاحبة ، وهي حرف جر يخفض ما بعده ، ولا تصح عند أهل اللسان إلا بها ، ولذلك قالوا إنها مناطة بضمير : ابدأ وقيل اقرأ .
(6)
وقد أجمع الكل فيما نعلم على حذف الهمزة لاشتهارها في القراءة دوما للخفة ، وإنما طولت الباء فيما قيل ، عوضا منها لتكون كالدليل عليها ، وكأنه في ذلك وفي مد السين تعظيم لشأن المبدأ ، والاسم هو المسمى ، وقيل غيره ، إنه صفة له وتعريف لا غيره والمسمى هو المعنى الذي أريد به الاسم .
Shafi 9
والقول الثالث لا هو ولا غيره ، والأول أصح ، لكن على شريطة إرادة الذات من الشيء المسمى لا اللفظ نفسه مجردا عن نفس المراد به ، فإن ذلك لا شك فيه فإنه غيره لترادفه وتجزئه وتغايره في الكيفيات ، وتعداده وتقطعه حروفا في الأصوات ، واختلافه في اللغات ، وتباينه في الهيئات ، وكأنه في نفس البداية بالبسملة تشويق للمريدين ، وترويح لقلوب الخائفين ، وتطميع لأنفس المشتاقين ، واستحثاث للسالكين ، وتنشيط للمقبلين ، واستدعاء للمرتدين ، واستعطاف للمذنبين ، وإشارة لطيفة من الله لأهل الألباب ، على أن الرحمة قريبة ممن تعرض لنفحاتها ، والاستنشاق لمبادئها رجاء أن يغمر أقاصها ، قائلا في مقاعد شكره ومعاهد ذكره .
(7)
Shafi 10
( الحمد لله رب العالمين) فالحمد عبارة عن الثناء كالمدح ، لكن الفرق بينهما أن الحمد يكون على الأمور الإختيارية ، المجردة من شائبة الإجلال ، لنقص أو فساد على حال . والمدح إطلاق الثناء على الجهل بلا تخصيص ، فكأنه أعم ، والحمد أخص . وقيل هما مترادفان على مسمى ، وكلاهما لمعنى ، والتعريف للعهد . ويحتمل أن يكون لإستغراق الجنس لأن حمده مستغرق كل حمد لغيره ، إذ ما بكم من نعمة فمن الله ، ليس للمزيد فيه موضع ولا للنقص فيه مفرع . والجملة وإن كانت كأنها في معرض الخبر صورة ، فإنها لمن الواجبات في حقه على العبد ، المكلف بها عند نزول البلية بها أو شيء منها ، وكأنه نوع من الشكر إلا أنه من وظائف اللسان ، والشكر عام لأركان مقامات الإيمان ، ودرجات الإحسان . وفي الحديث الحمد رأس الشكر ولا خلاق من الحمد لمن لم يكن له من الآداب الشرعية والخلق الرحمانية خلاق . كلا ، وليس المجرد عن النقائص إلا الإله جل جلاله ، وكلما كان لغيره ممن حمده بل ليس ذلك يكون كذرة من صفات مجده ، ونعوت حمده ، وكأنه بالإضافة إلى حمده كاد ألا يستحق إن يسمى حمدا ، لنقصه وقصوره عن كمالات الحمد ، محتاجا للتكميل إلى أدمة التصقيل ، فلأمضاها من حيث المناسبة بين الحمدين جزما .
Shafi 11
والله من حقت له العبادة وثبت له محض السيادة ، وهو الذي لفرط الاحتياج إليه ، تأله كل المألوهات إليه بحالها إيجادا من العدم ، وإمدادا بالنعم ، وحده لا شريك له ، وما كان هو الإله وما عداه مألوها لم يجز أذن يطلق على غيره نعم ، ولذلك كاد ألا يستأهل غيره أن يحمد ، فضلا أن يعبد ، وأنى لأميل إلى أن هذا هو الاسم الأعظم لذاته ، لأنه كالجامع لكل الصفات العليا ، وإليه تنضاف جميع الأسماء الحسنى ، حتى إنه يمكن بالفهم إخراج جميع التوحيد من مفهومات معانيه . وقد قيل في اشتقاقه أقوال ، أكثرها أولى أن يترك لانحطاطه عن رتبة الصحيح ، لعلل تشعر فيها بخلل ، وهو قول الخليل بن أحمد وجماعة : إنه اسم علم لا اشتقاق له . وعن ابن عباس - رحمه الله - أن الله ذو الألوهية وهو الذي تأله الخلق إليه . وتفخيم لامه الثاني سنة ، وحذف ألفه ومدها ، وفي فريد الواو في هائه أو إشباع الضمير بحيث إنها تصير واوا ، كل واحد منها لحن في الإحرام تفسد به الصلاة .
(8)
والرب في كلام العرب المالك والسيد والمصلح ، وقرئ بالنصب على المدح ، والكسر أصح ، والله رب الكل قاهر ما عداه ، ومالك لما سواه ، تفرد بالألوهية ، وتوحد بالربوبية ، وذلك من صفاته وأسماء ذاته ، فلا يجوز أن يطلق التعريف فيه ولا التجريد له لغيره عن التقييد ، ولكن ربك وربه ورب كذا في أمثال ذلك .
والعالمين جمع عالم ، بفتح اللام كخاتم ، فيه عن ابن عباس - رحمه الله - أنهم الجن والإنس لقول الله تعالى : (( ليكون للعالمين نذيرا )) (الفرقان : 1) .
والقول الثاني عن أبي عبيدة أنهم أربع أمم : الملائكة ، والإنس ، والجن ، والشياطين .
Shafi 12
والقول الثالث جميع المخلوقات ، لقوله تعالى : (( وما رب العالمين (23) قال رب السماوات والأرض وما بينهما )) ( الشعراء : 23، 24 ) وهذا شائع أن كل جنس على الأصح عالم في نفسه على حدة ، وكون الجميع فيه بالواو والنون تغليبا لمن يعقل ، وعلى هذا فقد اختلف في حصرها فقيل ألف عالم : ستمائة قي البحر ، وأربعمائة في البر ، وقيل ثمانية عشر ألف عالم ، الدنيا عالم منها ، وما العمار في الخراب إلا كقسطاط في صحراء . وقيل ثمانون ألف عالم ، أربعون ألفا في البحر ، وأربعون ألفا في البر .
والقول الرابع لا يحصى عدد العالمين إلا الله ، لقوله تعالى : (( وما يعلم جنود ربك إلا هو )) ( المدثر: 31) وكأنه على هذا من التأويل هو الأوجه فيه والكائنات كلها شاهدة له ، لأنه ربها إذ كل شيء منها ينادي بمقاله ، على لسان حاله في حدثه أن له محدثا أحدثه لوجود شدة الحاجة منها في إيجادها ، وتوالي إمدادها ، إلى واحد واجب لذاته ، الوجود الذي لا يقبل الحدث في القدم نعم ، وكان هذا الدليل القاطع ، على وجود الصانع المتولي أمرها إبداعا وتدبيرا ، واختراعا وتصويرا ، على مقتضى المشيئة تقديرا ، صار المقتضى لظهور الحياة والقدرة ، والعلم والإرادة ، والحكمة والقوة والعزة ، والقدم والبقاء ، والإحاطة بالأشياء ، وأنه ليس كمثله شيء ، لاستحالة مماثلة الصناعة للصانع لها عقلا إلى غيرها ، مما لا يحصى من المعاني في الصفات لله الخالق لكل شيء .
(9)
Shafi 13
( الرحمن الرحيم ) من سمى ذاته فيهما أنهما بمعنى ، والفرق أسوغ ، وإنه لأقرب الأسماء إلى اسم الله ، لقوله تعالى : ((قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن )) (الإسراء : 110) وكذلك في البسملة يروى أولا بالرحمن غيره في الأشهر ، وقيل جائز والأول أكثر ، فكان فيه لزيادة الثناء ، مبالغة عن الرحيم في العبادة من متسع الرحمة وفسيح الكرامة ، كما روي عن ابن عباس - رحمه الله - أنه قال رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الآخرة . وقيل الرحمن بالبر والفاجر في الدنيا ، والرحيم بالمؤمنين في الآخرة ، وقال قوم الرحمن بجميع الخلق ، والرحيم بالمؤمنين ، وهذا في المتعبدين ممكن من حيث الاقتصار في النظر على المعاني الظاهرة من النعم أن يكون فيضان الرحمة شاملا للكل نعماؤه ، وهو كذلك لكن في المجاوزة لها إلى ما وراءها من اللباب باعتبار الحقيقة في المرجع ، فالرحمة الإلهية في الدنيا والآخرة خصوصية ، لكونها مناطة بالإيمان كائنة حيث ما كان ، لأن البلايا في حق المؤمن عطايا لمن شكرها ، والنعم في حق من لم يشكرها نقم ، بلى ، وكان فيهما أكبر إشارة إلى إيجاب فرع باب الرحمة ، باستدامة شكر النعمة ، في مقامات الخدمة ، والتعلق به في المهمات كلها ، فإنه رحمن ، والرجوع إليه بالتوبات ، والإقبال إليه بكلمة الهمة في سبيل الطاعات ، فإنه رحيم يقبل التوبة ، ويعفو عن السيئات لا محالة ، وإياكم والإياس ، يعرف هذا بدليل المعنى ، البارز من مفهوم الفحوى ، وقد قيل إن أبا عمر كان يدغم الميمين ، ميم الرحيم في مالك يوم الدين ، أي يوم القضاء والحساب للجزاء ، وما قيل أنه يوم الطاعة ويوم القهر . فداخل فيه جار ومجرور ، بإضافة اسم الفاعل إليه تنزيلا منزلة المفعول به .
قرأ عاصم ويعقوب ومالك والكسائي : مالك بالألف بعد الميم . وقد قيل إنه قرأ كذلك بالرفع مضافا ومنونا . على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، وبالنصب على الحال أو المدح منونا .
Shafi 14
وقرئ مالك من غير ألف بالجر والرفع والنصب ، وبتسكين لامه مخففا وبلفظ الفعل الماضي .
(10)
واختلف الناس في معناهما فقيل واحد ، وقيل مالك أجمع ، لأن كل مالك لشيء ملكه وليس كل ملك لشيء مالكه ، وقيل ملك أوسع لأن كل ملك مالك ملكا ، وكأنه أرجح لما فيه من المزيد على المالك واحتوائه عليه ، لأن الملك من له الأمر والنهي في الرعية النافذ فيهم حكمه كيف أراد ، لأنه لهم مالك لكونهم تحت ملكه فكان عاما والمالك خاص بجزء من معناه . ألا ترى أن اسم المالك يطلق على من كان له أدنى ملك لشيء من الأعيان المملوكة ، على إرادة ذلك في المعنى ، وإن كان لا يملك بعد ، ولذلك سمي القلب سلطان الجوارح ، لأنه كالملك القاهر لها ، وهي له كالرعية يتصرف فيها بقدرة الإلهية ، تصرف المالك كيف شاء وعلى ما شاء ، فهي منقادة لا تطيق عناده ، لأنها مجبولة على طاعته .
ولله الملك من قبل ومن بعد ، وهو المالك لما كان في الوجود من شيء أو يكون . لا يصادف حكمه ولا قدره وقضاء غير ملكه ، كلا بل تجري الأمور في الخلق من الله الملك الحق ، على عنان المقادير ، بأزمة التدابير على مقتضى الحكمة ، ووفق المشيئة ، في الدارين : الآخرة والأولى ، وإنما جرى التخصيص ليوم الدين يوم يكشف عن الغطاء حين النداء : ((لمن الملك اليوم لله الواحد القهار )) ( غافر: 16) مقالا بالصدق ، واعترافا بالحق لظهور العيان ، المستغنى عن البرهان ، على سلب الأعيان ورجوع العواري من الملك المجازي إلى الحق ، الملك الحقيقي .
Shafi 15
ذلك الملك السرمدي والتنصيص لنفس اليوم اكتفاء به عن ذكر ما فيه ، لأنه كالمستلزم له في اشتماله في صرفه عليه ، ما جرت به العادة في عرف الذمة ، وذلك نوع تنبيه على الأعمال الصالحة واجتناب الطالحة ، لأن اختصاص التسمية له بالدين من سائر ما يسمى به ، دلالة على أنك كما تدين تدان . فانظر في ذلك يا ذا الغفلة لنفسك أيام المهلة .
وكان في هذه الجملة أبلغ تنبيه على حقارة الدنيا وأشد تحذيرا منها وتزهيدا فيها لكونها مطلوبة وفي الأخرى مساوية ، فآثروا ما يبقى على ما يفنى ، فالباقيات الأعمال والنيات والأقوال الصالحات لا غير ، فارعوها حق رعايتها إن كنتم موقنين . وانظروا فيها وإلى هذه الخمسة الأسماء العظيمة ، الصفات الجسيمة ، فإن تحت كل اسم وصفته بحرا من المعاني لا ساحل له . ومن كان كذلك حاله في أوصافه فكيف لا يكون لمحض الحمد أهلا ، كلا إنه لواجب الحمد وبذلك على هدايته . فاحمدوه حمد من يستوجب لإخلاصه في حمده الحمد والزلفة بحمده ، واعلم أن الحمد في اللسان لا جدوى له حتى يكون نتيجة قلب شاكر الأركان . رجل سرى من الملك إلى الملكوت الأعلى على جواد الاجتهاد حتى وصل فناخ على الرضا بفناء حضرة الربوبية ، فينزل منزل العبودية ، فغاب عن الأغيار بشهود الملك الجبار ، وطفق على قدر الالتفات لما حضر لمولاه العظيم وربه الكريم . قد أقبل بشرا شده إليه ، لما نظر بعين اليقين إليه ، يقول عن خالص باله بلسان حاله وصدق مقاله .
(11)
Shafi 16
((إياك نعبد وإياك نستعين)) قرئ بفتح الهمزة والفتح أكثر ، وقلبها بعض القراء هاء والأول أشهر . وكان هذا لما تصفح ألواح صفحات عالم الشهادة على الوحدانية ، وتلمح معاني الصفات الإلهية ، تجلى من له من لوائح الغيب ، أنوار أسرار الحق على الحقيقة ، فعلم يقينا أنه المستحق لأن يحمد ويسبح ويوحد ويطاع فيعبد ، هو لا غيره ، فقال تحت الاستعانة والامتثال ، والتضرع في الخدمة والابتهال على التخصيص ، إياك نعبد لا غيرك ، ثم استدل بأنوار البرهان على معارج العرفان ، فرقى بها إلى مدارج أسرار العيان ، فأدهشه عن ملاحظة الأكوان ، حتى غاب عن الجنس في جناب القدس ، وفنى في أحواله عن مشاهدة أعماله ، وعمى عن الخلق بشهود الملك الحق ، وانطوى في شهوده عن دائرة وجوده ، فقال : (( وإياك نستعين )) على أداء شكرك والقيام بحقوقك وأمرك ، بل في المهمات كلها هربا من اللجأ إلى غيره وتبرؤا من الحول والقوة والطول ، والإقرار بالعجز عن نفسه وعلى غيره من أبناء جنسه . وللمولى بالقدرة لما أيقن أنه لا طاقة له على النهوض بأعبائها إلا به لا غيره ، ترك الالتفات إلى غيره وأقبل عليه بالكلية حين لم يبق فيه لغيره بقية ، لأن (( إياك نعبد )) : مقام الإخلاص في العبادة ، ((وإياك نستعين)) : مقام الصدق في الإرادة . فالأول لله والثاني بالله ، والضمير في الكاف المتصل ثابت فيها من المتكلم للمخاطب المكلم ، والله معكم أين ما كنتم ، والكسر له لحن تفسد به الصلاة ، وكأنه في نفس الخطاب دليل على تقديم العلم على العمل ، لقوله إياك صادر عن معرفة به مزايلة الاضطراب قربة فيه ، ثم قفى بقوله : نعبد لما نظر إليه بعين اليقين فعرفه بالإلهية ، ونفسه وأمثاله بالعبودية ، فكان وجود العلم يستدعى وجود العمل ، فالعلم إمام ، والعمل حيث إنه من هداياه وجزيل عطاياه ، بل ولكون هذه الخصلة سبب الوصلة ، ذلك لئلا يكون فيه شوب لغيره ، فإنه لا يقبل الشركة .
Shafi 17
وكون التكرير له فيما قيل للتنبيه على أن العبادات لا يمكن القيام بها ، والثاني لمريدها . إلا بالمعونة من الله . فهي في الحقيقة منه إليه ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . وقيل في الواو إنها للحال ، أي نعبدك مستعينين بك ، وكأنه يحتمل في الفعلين أن يكون إيرادهما بلفظ الجمع تفخيما لشأن المخلصين ، وسعي العابدين ، ومناجاة المضطرين ، وسؤال المبتلين . أو أنه أراد به نفسه وجماعة المؤمنين ، تبركا بهم ورجاء أن تعم الإجابة بذكرهم والتوسل بهم .
وقراءة النون منها بالكسر على لغة تميم ، والفتح أظهر وبتقديم العبادة على الاستعانة في النص عليها استدل أن طلب الحاجة المرادة مقدمة عن العبادة أدعى إلى الإجابة .
( 12 )
والعبادة أنواع ، وأي شيء أطيع الله به فهو منها ، وكأنها في الجملة تدور على أربعة أركان لقاعدتين ، هما : العلم ، والعمل ، لا يشذ شيء منها عنهما ، لكن العلم على ضربين : بالله وبأمر الله ، العمل على وجهين ، ظاهر وباطن .
وكل واحد منهما على قسمين : فعل وترك .
ثم كل واحد منهما أيضا على حالين : فرص ونفل .
Shafi 18
والفرض على معنيين : أداء اللوازم واجتناب المحارم . وتلخيص معاني ذلك يستدعي مجلدات ثم لا يستقصى إذ لا ينحصر فيحصى . والاستعانة روم المعونة على تحصيل المراد من جلب أو دفع ، أو ما كان من المطالب أقران الاختيارية والاضطرارية . وتفصيل كل شيء منهما يذكر على حدة في التنوع لها ما لا يدخل تحت الحصر جزما ، ولكن الجامع لها أمران ، لا بد أن يكون المطلوب دنياويا أو أخراويا ، ميزان ذلك ما كان لله فأخراوي ، وما كان للنفس أو الشيطان فدنياوي . وقد نص الشرع على الكثير من ذلك في بيانه عن أهل العلم من المسلمين ، وهي في الحقيقة استمداد والمعونة إمداد ، وحصولها من وجهين في الجملة إما لواسطة أو غيرها ، ويكون من حسب ما جرى من سنة الله ، هذا في أشياء والأخر في أخرى . وفي الجنس الواحد منها كذلك ، مرة بتوسط ومرة بغير توسط ، (( ولن تجد لسنة الله تبديلا )) ( الأحزاب : 62 ) والوسائط ما لا تحصى ، ولكنها لا بد من أن تكون روحانية أو جسمانية ، وليس الفاعل لشيء على الحقيقة إلا الله خالق كل شيء ، وهو على كل شيء قدير .
Shafi 19
( 13 ) وكان فحوى الخطاب دليل على الأمر بها ، ولكن في سبيل ثوابه على تسهيل أبوابه ، وتيسير أسبابه ، رجاء العطاء مع الإلجاء في الدعاء والوسيلة إلى الشيء بشيء من الشيء . فمن عكس هوى فانتكس ، ولذلك يسأله هذا العارف المريد مع الإقامة على الاستقامة بحقه المزيد مخافة الانقطاع عن الوصول إلى مطلوبه ، فقال : (( اهدنا الصراط المستقيم )) ، طريق الوصلة إلى محبوبه لأن الصراط في اللغة هو الطريق ، قرء بالزاء ، والسين ، والصاد والصاد أشهر والقراءة به أكثر ، وقد كان حمزة يقرأ بإشمام الزاء ، فيما عنه يروى . وسمي سراطا لأنه كان يسرط السايلة ، والمراد به العبادة عن طريق الدين في الإسلام إلى الملك العلام ، على أبلغ وجه في التشبيه له بالطريق ، تصويرا يدركه العقل ، من حيث أنه للمسافرين إلى الله في المعنى كل الطريق للسيارة من جميع المارة ، والمستقيم المستوى ، صفة له بأنها المنهاج المجرد عن الميل ، لا يقبل الاعوجاج . والدين منتظم من ثلاثة ، علم وحال وعمل ، فالحال فرع العلم . والعلم والعمل ثمرة الحال ، والهداية إرشاد في غاية اللطف . ومخارج أسبابها على الجملة أربعة : الأصلين عقلي ومكتسب شرعي ، فالأول على قسمين أحدهما ضروري ، وذلك ما يتأدى إليه من المعلومات التي لا تقبل الشك جزما ، والثاني رأي نوع والتعب في الروع ، والكشف عن محض سر الحق من قول العقل المطلع بالأنوار القدسية ، على الأسرار الملكوتية ، والواردة على الحدس من حياة القدس على سبيل الإلهام في اليقظة كالملائكة أو في المنام ، وفيضان ذلك من ينابيع العقل إلى الجوارح الظاهرة ، بواسطة النفس القاهرة . وعلى العكس فيما يستمده من الجنس ، في معنى التأدي من الظاهر إلى الباطن ، وإليه يرجع الأمر كله في حكم المواقع النظرية ، في المواضع العقلية .
Shafi 20
( 14 ) والثاني المكتسب الشرعي على قسمين ، وكلاهما يتأديان إلى الغريزة ، ومنها إلى نور البصيرة في الناس ، من مداخل الحواس . لكن أحدهما الروحي ، والمتلقيله من الموحي إليه ، والكتاب والسنة والإجماع والآثار عن أهل العلم من المسلمين الأبرار .والقياس المجرد عن الاحتباس فإنه نوع هدى ، وإن الإمامية من الشيع أنكرته أصلا ، وأبطلته جهلا ، فهو حق لأنه من نتائج ذلك ، فالأول رتبة الرسل من الأنبياء ، والوسطى درجة الصحابة الفهماء . والثالثة الأخرى مبلغ التابيعين من العلماء . والقياس يختص به أهل العلم الفطنة من الفقهاء . والثاني ما وراء هذا من المواد الحسية الاختيارية والاضطرارية ، التي بها يكتسب العقل بالآية ، ويستمدها لحياته مما سطرته يد القدرة الربانية ، بالأقلام النورانية ، من الحكم الإلهية ، على صفحات ألواح عالم الملك والمؤدى من به اهتدى ، فإنه به أدلة تغمس المستدل بها في دأماء الإيمان اليقين ، ويخرجه من دجى هيكل هيولى ذاته ويسقيه شربة من رحيق المعرفة التوحيدية تبرئة من العيب ، فتعافي من كل داء دفين في الباطن المقتضى لوجود الصحة في الظاهر ، وتبرد غليل القلب من حر العمى ، ونار الهوى ، فلا يظمأ بعدها أخرى أبدا . وتجلى صدى الشك وغشاوة النفاق وظلمة الشرك ، فيضيء القلب لمزيد نور العقل ، وبنور ستر المعرفة منه لربه ونفسه ودنياه وآخرته .
Shafi 21
زيادة تزيده إشراقا ينسخ ظلمات مدلهم النفس الأمارة بالسوء ، ويصقل مرآته فتنجلي صورة الملكوت فيه ويفرح ويعرج مهما تعلق بأسبابه المتدلية إلى عالم الشهادة فيرى من درجات الكسبية ، إلى المنازل العقلية ، لكن ثم ينادى من شاطئ الوادي الأيمن من وراء حجاب ، فاخلع نعلي صفاتك ، وكن موسى الصفات فتجرد من مسيح الهوى ، والبس خلع الآداب الملكية والملابس الروحانية ، وتدرع برياش الحلم والتقى ، إنك بواد أسرار الحقيقة المقدس طوى ، واقصد في مشيك واغضض من صوتك ، واثبت لما ترى واستمع من لحن الخطاب وأحسن رد الجواب ، فليس بينك وبين ملكوت الأعلى غير قاب قوسين أو أدنى ، فبفضل الله وبرحمته تفرح ، ودع قلبك في برزخ أنوار المعارف الإلهية يستريح ، وباستدامة الأذكار تتجلى فيه الأنوار ، حتى يعلوا في الملأ الأعلى ذكره ، لما انشرح بنور الله صدره ، ويفتح له بمفاتيح الكشف الحقيقي باب المحبة والأنس والرضا بأنواع الفضاء فيتيه في عرصات الشوق إلى الله تعالى ، حتى يتخطى الملك إلى الملكوت ، فيسبح في فسيح بيداء أسراره ويموص(1) في آذى(2) بحارها ، ويغوص فيصير بعين البصيرة لآلئ غوامض أنوار الحقائق الغيبيات ، ويفتح لأسماعه باب الاستماع فيفهم في عياض رياض الوجد ، بسماع نغمات تسبيح الجمادات ، حتى يغيب عن الممالك إلى المالك ، فلا يجد ما سواه ولا ينظر ما عداه . فهذه هي الأسماء الأربعة . لكن في بعض المعلومات ما هو على الصحيح في البداية كسبي وفي النهاية ضروري .
Shafi 22
( 15 ) وكذلك يتولد من بعض الضروريات أنواع من المعاني ، يستفيدها العقل بالكسب لها منها فتكون من الكسبي ، وكلها أرسل الله لمن أراد الله أن يرفع قدره ، وينشرح بنور الإسلام صدره . أو يقطع بالحجة البينة عذره ، بعد قيام الحجة بها ، أو بشيء منها في شيء من دينه ، نعم . وبأي وجه من ذلك في العدل اقتدى إلى الله اهتدى . ومن نازع الحجة التي بالهداية منها أتته ، فقد خالف الله شططا ، وعصى رسله واتبع هواه ، وكان أمره فرطا . والمعنى في (( اهدنا الصراط )) ، ارشدنا إليه ، وقيل وثبتنا عليه ، وكلاهما في النظر حق ، لكون طريق الاستقامة في غاية الخفاء ، أحد من الشعرة على عقبة كؤود المسلك إلا على كيس ذمر ، ليس بذي غمر . كثير الموانع شديد المقاطع ، فكم سائر ضل ، وكم قد زل ، ونيس لأهل التكليف من جوازه بد ، فمن نعس فهوى في القرار ، هلك في النار ، ومن جاز فقد فاز ، لأن من وراء هذه الكلفة أعظم زلفة ، وأنت ترى أكثر الناس في هذه الدنيا كالفراش فيها يتهافتون ، من ذروة هذا الصراط يهوون ، وبعضهم ينزلق فيرجع فيعلق ، فالتثبت عليه لا غناية عنه ، ولكونه يتمادى إلى آخر العمر . ولذلك اختلفت أحوال الناس في قطعة من لحظه إلى خمسين عاما فما فوقها ، وأما ما بينهما حسب مدة الأعمار في هذه الدار .
Shafi 23