Tafsir Surah An-Nur
تفسير سورة النور
Nau'ikan
آية الإفك وسبب نزولها
أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًَّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ * لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور:١١-٢١] .
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومَن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد: ففي هذه الآيات الكريمة بيَّن الله ﵎ فيها قصة الإفك أو حادثة الإفك، وهي من أعظم الحوادث التي وقعت في العصر المدني، والتي عايش النبي ﵌ أحزانَها، وعايشت أم المؤمنين عائشة ﵂ بلاءها وأشجانَها، وعايش أصحاب النبي ﵌ كَرْبها.
هذه الآيات الكريمة نزلت في حادثة الإفك، والأصل فيها ما ثبت في صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة ﵂ وأرضاها: (أن النبي ﵌ لما غزا غزوة بني المصطلق -وتسمى: غزوة المريسيع، وقد سميت غزوة بني المصطلق اعتبارًا لمن غزاهم النبي ﵌، وهم بطن من خزاعة، وسميت بغزوة المريسيع؛ لأن الماء الذي نزل عليه هذا الحي يسمى بماء المريسيع، وقد كانت سنة ستٍِ كما قاله بعض أهل السير- لما أراد النبي ﵌ أن يخرج لهذه الغزوة، وكان من هديه ﵌ إذا أراد الغزوة أن يُقرِع بين نسائه، فمن خرجت لها القرعة خرجت معه ﵊، وشاء الله ﷿ أن تكون القرعةُ في هذه الغزوة لأم المؤمنين عائشة ﵂ وأرضاها، فخرجت مع النبي ﵌ حتى إذا انتهت الغزوة، آذَنَ رسول الله ﵌ أصحابَه بالرجوع إلى المدينة، فلما علمت عائشة ﵂ برحيل النبي ﵌ وإرادته الرجوع إلى المدينة خرجت لقضاء حاجتها، وكان الجيش لا كنيف فيه، فخرجت تبعد عن القوم من أجل قضاء حاجتها ﵂ وأرضاها حتى إذا توارت عن الجيش وقضت حاجتها، رجعت إلى منزلها وخبائها الذي نزلت فيه، فإذا بها قد فقدت عِقدًا لها من جزع ظفار -والجزع: أصله الخرز، وقولهم: جزع ظفار؛ المراد بظفارٍ: موضع قِبَل اليمن، وهو المعروف الآن بعُمان، أُضيف إلى هذا البلد لكونه يُصنع فيه-، ففقدت هذا العقد، فخرجت ﵂ وأرضاها إلى الموضع الذي قضت حاجتها فيه حتى تجد العِقد الذي فقدته، وشاء الله ﷿ لما خرجت جاء الذي يقود جملها وحمل مع آخرين هودجها، وكانت ﵂ خفيفة صغيرة السن، فلم يستبعد وجودَها في الهودج ولم يستغرب من خفة الهودج ﵁، فسار به وهو يظن أن أم المؤمنين ﵂ داخل الهودج، فخرجت حتى إذا وجدت حاجتها رجعت إلى منزلها، وإذا بالجيش قد ارتحل فرجعت إلى موضعها علَّهم أن يفقدوها ثم يرجعوا في طلبها، وشاء الله ﷿ أن يدركها النوم، فنامت في الموضع الذي هو منزل لها حين نزل الجيش، فجاء صفوان بن المعطل ﵁ وأرضاه، قالت: فنمتُ، فما راعني إلا صوت صفوان ﵁ وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان صفوان ﵁ يعرفها قبل نزول آية الحجاب، قالت: فأخذت الخمار فغطيت به وجهي وأعرض عني ﵁، ووالله ما كلمني بكلمة، وأناخ لها البعير ﵁ وأرضاه.
- صفوان بن المعطل صحابي جليل له فضله، فإنه لما اتُّهم بأم المؤمنين ﵁ وعنها وأرضاهما، قال: (والله! ما كشفتُ كنف أنثى) .
أي: ما زنيت بامرأة قط، وهذا من عفته ﵁ وأرضاه، واستُشهد ﵁ في خلافة عمر سنة تسع عشرة في غزوة أرمينية، وقيل: إنه قُتل ﵁ في خلافة معاوية سنة ثمان وخمسين من الهجرة، فالشاهد: أن هذا الصحابي الجليل ﵁، لما رآها أناخ لها البعير، وقد كان من ساقة الجيش، والساقة يتفقدون مَن وراء الجيش، لكي يعينوه إذا أصابه العجز عن المسير، أو حصل به ضرر -لا سمح الله- قالت: فاحتملني فما كلمني بكلمة حتى دخل بها المدينة، فرآهما عدو الله عليه مِن الله اللعنة عبد الله بن أبي بن سلول فقال مقالته الخبيثة، قال: والله! ما نجا منها ولا نجت منه.
فاتَّهمها ﵂ وأرضاها، ونسبها إلى الذي هي منه بريئة، وشاء الله ﷿ ما شاء، فخاض الناس في شأن عائشة ﵂ وأرضاها، واتهموها بما اتهمها به عدو الله، وكان المسلمون على طوائف: - منهم من أنكر وكذب إبقاءً لبراءة أم المؤمنين ﵂ وأرضاها.
- ومنهم من حمل الحديث ونقله دون أن يصدقه ولكن كان يشهِّر به في المجالس.
- ومنهم من سمعه وصدقه.
فأصبح الناس ما بين مصدِّق ومكذِّب، وناقل للحديث.
ومضى على ذلك شهر كامل، وشاء الله ﷿ أن عائشة ﵂ لم تكن على علم بكلام الناس فيها، فبمجرد أن أدخلها صفوان إلى المدينة أصابها المرض فاشتكت، فذهبت إلى بيت أبيها فجلست فيه ﵂ وأرضاها، والناس يتكلمون في عرضها، وهي غافلة لا تدري من حديث الناس شيئًا، حتى شاء الله ﷿ في يوم من الأيام أن تخرج إلى المناصع -وهو موضع شرقي المدينة- لقضاء حاجتها، وكانت معها أم مسطح بن أثاثة ﵄، فلما رجعت من قضاء حاجتها عثرت أم مسطح في مِرْطها، فقالت: تعس مسطح، فلما قالت هذه المقالة، عتبت عليها أم المؤمنين عائشة ﵂ أن قالت هذه المقالة في حق ابنها، وكان مسطح ممن خاض في حديث عائشة ﵂، وتهمتها، فلما ردت عائشة مقالة أم مسطح أخبرتها أم مسطح بالخبر، قالت عائشة: فذكرت لي الحديث، فسألتها: هل علم رسول الله ﵌ بذلك؟ فأخبرتها أن رسول الله ﵌ علم بذلك، ثم سألت: هل علم أبوها وأمها بذلك؟ فقالت: نعم، فخرَّت مغشيًا عليها ﵂ وأرضاها، وشاء الله ﷿ ما شاء من فتنتها بهذه المقالة، وأصابتها الحمى، وجعلَتْ تنفض من شدة ما وجدت من التهمة والزور والبهتان فيها ﵂ وأرضاها، ثم شاء الله ﷿ ما شاء، فمَضَت عليها ثلاث ليال لا تنام لها عين ولا ترقأ عن الدمع ﵂ وأرضاها، قالت: فلما كانت الليلة الثالثة جاء رسول الله ﵌ إليها، وقال: يا عائشة! إن كنت أذنبت ذنبًا فاستغفري الله وتوبي إليه، فقالت لأبيها: أجب رسول الله، فما استطاع أبو بكر ﵁ وأرضاه أن يتكلم، وقالت لأمها: أجيبي رسول الله، فما استطاعت أمها أن ترد الحديث على رسول الله ﵌، فلما غلبهما ما غلبهما من العي والحصر في جواب النبي ﵌ قالت: والله! لئن قلتُ لكم: إني لم أفعل لم تصدقوني، ولو قلت لكم: إني فعلتُ صدقتموني، فوالله! ما فعلت؛ ولكن الله سيبرئني، ثم قالت: ولكن أقول كما قال أبو يوسف -عجز عنها اسم يعقوب ﵇ من شدة ما وجدت ﵂ من الهم والحزن-: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف:١٨]، فاستعانت بالله ﷿، فما قضت حديثها حتى نزل الوحي على رسول الله ﵌ وبرأها الله ﷿ من فوق سبع سماوات ﵂ وأرضاها، فكانت هذه الحادثة من أشد الحوادث المدنية على رسول الله ﵌، فنزلت هذه الآيات التي صبَّرها الله ﷿ بها، وهي قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًَّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ
4 / 2