104
قوله تعالى: (والمهاجرين في سبيل الله) وقوله تعالى: (وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أشار تعالى إلى فضل مسطح ﵁ وأرضاه، لأن مسطحًا كان من المهاجرين، وفي هذه الآية الكريمة دليل لأهل السنة والجماعة على المعتزلة الذين يقولون إن ارتكاب الكبيرة يوجب إحباط العمل والعياذ بالله، ومذهب أهل السنة والجماعة: أن العمل يُحْبَط بالكفر والشرك بالله ﷿، كما أشار الله ﵎ إلى ذلك بقوله: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر:٦٥] فالعمل والعياذ بالله يُحبط بالكفر، قال الله ﵎: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا﴾ [الفرقان:٢٣] فالكفر والشرك بالله ﷿ يوجب حبوط العمل، وذهاب ما فعله الإنسان من صالح القول والعمل، ولو أن إنسانًا كان من أصلح العِبَاد، وأتقاهم لله ﷿ وأكثرهم صلاحًا واستقامةً وكانت حياتَه كلَّها في تلك الطاعة والاستقامة، حتى إذا دنا أجلُه أشرك بالله -ولو بكلمة- فإن ذلك الشرك يوجب حبوط عمله كله، قولًا كان أو فعلًا أو اعتقادًا، فيكون والعياذ بالله من الخاسرين، فلذلك كان من أعظم البلاء وأشد الرزية التي لا أعظم منها رزية: الشرك بالله، والكفر بالله ﵎، ومن الشرك بالله: الاستغاثة بغير الله من دون الله، ومن الكفر بالله: الاستهزاء بالدين، وكل ذلك مما عمت به البلوى والعياذ بالله خاصة في هذا الزمان. فالمقصود أن مذهب أهل السنة والجماعة أن العمل إنما يُحبط بالكفر والشرك بالله. ولا يُشْكِل على هذا قوله تعالى: ﴿وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات:٢] فقد خرَّج بعض العلماء ذلك على الوعيد كما اختاره صاحب الأضواء وغيره من أهل العلم ﵏، وذهب المعتزلة إلى أن الإنسان إذا فعل كبيرة من الكبائر حبِط عمله والعياذ بالله، ومثال ذلك لو أن إنسانًا زنى أو سرق وكان على طاعة واستقامة فإن زناه وسرقته توجب حبوط عمله عند هؤلاء. والحمد لله الذي وسَّع علينا ما ضيقه أهل الاعتزال، والحمد لله الذي رحم عباده حيث لم يجعل حبوط العمل بارتكاب الكبائر، إذ النصوص شاهدة على أن مرتكب الكبيرة لا يعتبر ممن حبط عمله، كما في هذه الآية الكريمة، ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة أن مسطحًا قذف أم المؤمنين عائشة ﵂ وأرضاها على خلاف: هل كان يقول ذلك، أو ينقل الكلام دون اعتقادٍ له، أو كان يحضر المجالس ويسمع ويرضى ولم يكن منكرًا لذلك الأمر، وإن كان الذي ورد في الرواية التي في سبب النزول أنه ﵁ وأرضاه كان فقط يسكت على ما يقال، وهذا يدل على أن مَن جلس المجلس الذي يغتاب فيه المسلم أنه شريك للذي اغتاب والعياذ بالله في إثمه، وآخذ حكمه والعياذ بالله، ولذلك قال تعالى: ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ﴾ [النساء:١٤٠] . فالمقصود: أن أصح الأقوال هو قول أهل السنة والجماعة من أن مرتكب الكبيرة لا يُحبط عمله، وأنه على حالتين: - إما أن يتوب في الدنيا فيتوب الله ﷿ عليه، قال الله ﷿: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه:٨٢] ولم يفرِّق الله بين ذنب كبير ولا صغير، فالآية عامة. - وإما أن يصر على الكبيرة إلى لقاء الله والعياذ بالله، فيوافي الله يوم القيامة بتلك الكبيرة غير تائب منها، فإن وافاه وحالته على ذلك فهو تحت رحمة الله ومشيئته؛ إن عذبه فبِعَدْلِه، وإن عفا عنه فبِرَحْمَتِه، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة، ومنها قوله ﵎: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء:٤٨] .

6 / 10