[1 - سورة الفاتحة]
[1.1-7]
الباء حرف معنى وذكر لها النحاة معاني كثيرة ولم يذكر لها سيبويه إلا معنى الازلاي الالصاق والاختلاط ثم قال فمن اتسع من هذا اتسع في الكلام فهذا أصله وذكروا أنها هنا للاستعانة وما يتعلق به محذوف فقدره الكوفيون بدأت وجعل البصريون ذلك في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره ابتدائي.
بسم الله أي كائن، بسم الله وخالف الزمخشري الفريقين فقدره متأخرا عن التسمية قال: تقديره بسم الله اقرأ أو أتلو لأن الذي يجيئ بعد التسمية مقروء والتقديم على العامل عنده يوجب الاختصاص وليس كما زعم قال سيبويه وقد تكلم على ضربت زيد ما نصه وإذا قدمت الإسم فهو عربي جيد كما كان ذلك يعني تأخيره عربيا جيدا فذلك قولك زيد ضربت والاهتمام والعناية ها هنا في التقديم والتأخير سواء مثله في ضرب زيد عمرا وضرب عمرا زيد " انتهى " والاسم ها هنا هو اللفظ الدال بالوضع على موجود في العيان إن كان محسوسا وفي الأذهان ان كان معقولا من غير تعرض بسببيته للزمان وهو ثلاثي حذفت منه واو فقال البصريون: هي لام الكلمة لأنه عندهم مشتق من السمو.
وقال الكوفيون: هي فاء الكلمة لأنه عندهم مشتق من الوسم وبعض العرب لم يعوض من المحذوف فقال: سم بكسر السين وضمها، والمشهور بهمزة وصل مكسورة وبعضهم يضمها ولا نعلم اسما أوله: همزة وصل مضمومة غيره. وزعم بعض النحويين أنه ردت لأمه وبني على فعل فقالوا: سمى كهدى فإن صح هذا ففيه خمس لغات.
وحذف ما تتعلق به الباء لأنه موطن لا ينبغي أن يقدم فيه سوى ذكر الله تعالى، فلو ذكر ما يتعلق به لم يكن ذكر الله مقدما ففي حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى فطابق ذكر اللسان ذكر القلب وحذفت الألف من بسم الله تخفيفا لكثرة الاستعمال " والله " لفظ عربي لا سرياني معرب وهو علم لموجود العالم وليس بمشتق عند الأكثر وألفه منقلبة عن أصل عند من يرى أنه مشتق فعن ياء إن كان من لاه يليه ارتفع أو عن واو إن كان من لاه يلوه لوها احتجب أو زائدة عند من يرى أنه مشتق من ألة أو وله فأصله إلاه أو ولاه فأبدلت واوه همزة كاعاء في وعاء ثم حذفت الهمزة اعتباطا فقالوا: لاه كما قال بعضهم في ناس أن أصله أناس ودخلت عليه أل فقيل الله أو كان أصله الاه فنقلت حركة الهمزة إلى اللام بعد حذفها فأدغمت اللام في اللام ولزم النقل والادغام فقيل: الله، وصار لا ينطلق إلا على المعبود بحق وعلى هذا يكون فعال بمعنى مفعول كالكتاب بمعنى المكتوب وال هذه لازمة وشذ حذفها مع حذف حرف الجر في قولهم: لاه أبوك، يريدون لله أبوك.
{ الرحمن } لفظ عربي خلافا لمن زعم أنه ليس عربيا بل أصله رخمان بالخاء المعجمة فعرب بالحاء وهو بناء على فعلان من الرحمة والظاهر أنه وصف على فعلان وإن كان شذ بناؤه من المتعدي وذهب الاعلم وابن طاهر وغيرهما إلى أنه اسم علم مشتق من المتعدي كما اشتقوا الدبران من دبر صيغ للعلمية ويدل على علميته وروده غير تابع الاسم قبله في أكثر الكلام فعلى قول هؤلاء يكون الرحمن بدلا من اسم الله.
قال السهيلي: البدل فيه عندي ممتنع وكذلك عطف البيان لأن الاسم الأول لا يفتقر إلى مبين لأنه أعرف الاعلام كلها وأبينها ألا تراهم قالوا: وما الرحمن ولم يقولوا وما الله فهو وصف يراد به الثناء وإن كان يجري مجرى الاعلام.
" الرحيم " صيغة مبالغة فعلى القول بأن الرحمن صفة قيل دلالتهما واحدة كندمان ونديم وقيل معناهما مختلف فالرحمن أكثر مبالغة وأردف الرحيم ليكون كالتتمة ليتناول ما دق منها ولطف وقيل الرحيم أكثر مبالغة والذي يظهر ان جهة المبالغة مختلفة فلا تكون من باب التوكيد فمبالغة فعلان من حيث الاستيلاء والغلبة ومبالغة فعيل من حيث التكرار والوقوع بمحال الرحمة ولذلك لا يتعدى فعلان ويتعدى فعيل ومن ذهب إلى أنهما بمعنى واحد وليس توكيدا احتاج أن يخص كل واحد منهما بشيء فقيل رحمن الدنيا ورحيم الآخرة وقيل العكس وقيل لأهل السماء والأرض وقيل غير هذا وسمعت إضافة الرحمن في قولهم رحمن الدنيا والآخرة وسمع أيضا استعماله بغير أل وبغير إضافة في قولهم لا زلت رحمانا ووصفه تعالى بذلك مجاز عن إنعامه على عباده ألا ترى أن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم إحسانه فعلى هذا هي في حق الله صفة فعل وقيل صفة ذات وهي إرادة الخير لمن أراد الله له ذلك.
" الحمد " مصدر حمد يحمد والأصل في المصدر أن لا يجمع. وحكى ابن الاعرابي جمعه على أحمد.
Shafi da ba'a sani ba
قال الشاعر:
وأبلج محمود الثناء خصصته بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي
وأل في الحمد الظاهر أنها لتعريف الجنس فتدل على استغراق الأحمد كلها بالمطابقة وقراءة الجمهور والحمد بالرفع وهو يدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى فيكون قد أخبر بأن الحمد مستقر له تعالى أي حمده وحمد الحامدين وقرىء بالنصب على إضمار فعل قيل من لفظه تقديره حمدت الحمد لله فيتخصص الحمد بتخصيص فاعله وأشعر بالتجدد والحدوث ويكون من المصادر التي حذف فعلها وأقيمت مقامه وذلك في الاخبار نحو قولهم شكرا لا كفرا وقيل التقدير اقرؤوا الحمد لله أو الزموا الحمد لله واللام في قراءة الرفع تكون للاستحاق وفي قراءة النصب تكون للتبيين فيتعلق بمحذوف تقديره.
" لله " أعني نحو قولهم سقيا لزيد. وقرىء بكسر الدال اتباعا لحركة اللام فاحتمل أن يكون الاتباع في مرفوع أو منصوب وقرىء بضم لام الجر اتباعا لحركة الدال.
" الرب " السيد والمالك والمعبود والمصلح وهو اسم فاعل حذفت ألفه كما قيل بار وبر وقيل مصدر وصف به ويطلق الرب على الله وحده وبقيد الاضافة على غيره نحو رب الدار وقرىء رب بالنصب على المدح ويضعف الخفض الصفات بعدها إلا أن فرع على أن الرحمن علم.
" العالمين " العالم لا مفرد له كالأنام واشتقاقه من العلم أو العلامة والمختار أنه كل مصنوع وجمع لاختلاف أنواع المصنوعات بالواو والياء على جهة الشذوذ ورب والرحمن والرحيم صفات مدح لأن ما قبله علم لم يعرض بالتسمية فيه اشتراك فيتخصص وبدئ بالرب لأن له التصريف في المسود والمملوك والعابد بما أراد من خير أو شر واتبع بالرحمانية والرحيمية لينبسط أمل العبد في العفو إن زل وإن كان الرب بمعنى المصلح كان الوصف بالرحمة مشعرا بعلة الاصلاح لأن الحامل للشخص على إصلاح العبد العمل رحمته له ومعنى سياق هذه الأوصاف ان المتصف بها مستحق للحمد وقرىء بنصب الرحمن الرحيم ورفعهما وإذا قلنا بأن التسمية من الفاتحة كان تكرار هاتين الصفتين تنبيها على قدر عظمهما. قرىء في السبعة.
" مالك " وملك وقرىء ملك على وزن سهل وملكي بإشباع كسرة الكاف وملك على وزن عجل وبرفع الكاف ومالك بنصب الكاف ومالكا بالألف والنصب والتنوين وبالرفع والتنوين ومليك وملاك ومالك بالامالة المحضة وملك فعلا ماضيا فينتصب بعده وبعد المنون يوم وهذه القراءات بعضها راجع لمعنى الملك وبعضها لمعنى الملك وكلاهما قهر وتسليط فالملك على من تأتت منه الطاعة باستحقاق وراجع بغيره والملك على من تأتت منه ومن لا تتأت وذلك باستحقاق فبينهما عموم وخصوص. واليوم هو المدة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ويطلق أيضا على مطلق الوقت.
" والدين " الجزاء دناهم كما دانوا والقضاء ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله والطاعة في دين عمرو والعادة كدينك من أم الحويرث قبلها.
والملة ورضيت لكم الاسلام دينا والاضافة إلى يوم الدين اتساع إذ متعلق الملك والملك غير اليوم والاضافة على معنى اللام والظاهر تغاير ملك ومالك فقيل هما بمعنى واحد كالفره والفاره واليوم هنا زمان يمتد إلى أن ينقضي الحساب فيستقر كل فيما قدر له من جنة أو نار ومتعلق الملك، أو الملك هو الأمر أي ملك أو مالك الأمر في يوم الدين وفائدة الاختصاص بهذا اليوم وإن كان ملكا أو مالكا للأزمنة كلها التنبيه على عظم هذا اليوم بما يقع فيه ولما اتصف تعالى بالرحمة انبسط أمل العبد فنبه بالصفة بعدها ليكون من عمله على وجل وان لعمله يوما تظهر له فيه ثمرته من خير أو شر.
" إياك " ضمير نصب منفصل وفيه خلاف مذكور في النحو وقرىء بفتح الهمزة وشد الياء وكسرها وتخفيف الياء وبإبدال الهمزة المفتوحة هاء والقول باشتقاق أيا ضعيف والكلام على وزنها فضول.
Shafi da ba'a sani ba
" نعبد " العبادة التذلل عبدت الله تذللت له وقرىء نعبد بكسر النون ونعبد مبنيا للمفعول وهي قراءة مشكلة وتوجيهها أن فيها استعارة والتفاتا فالاستعارة إحلال المنصوب موضع المرفوع فكأنه قال أنت ثم التفت فأخبر عنه اخبار الغائب فقال نعبد وغرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة.
" نستعين " والاستعانة طلب العون والطلب أحد معاني استفعل وهي اثنا عشر معنى وقرىء نستعين بكسر النون وإياك مفعول مقدم والتقدم للاعتناء والتهمم.
قال الزمخشري: التقدم للتخصيص وقد تقدم الرد عليه في بسم الله وإياك التفات من غيبة إلى خطاب ومن أعرب ملك منادى فلا التفات لأنه خطاب بعد خطاب ودعوى الزمخشري ثلاث التفاتات في تطاول ليلك وما بعدها خطأ إنما هما التفاتان وفائدة الالتفات أنه لما ذكر أن الحمد لله المتصف بالربوبية والرحمة والملك لليوم المذكور أقبل على المحمود وأخبر أنه وغيره يعبده ويخضع له ولذلك أتى بالنون لانها تكون له ولغيره فكما أن الحمد يستغرق الحامدين كذلك العبادة تستغرق المتكلم وغيره وقرنت العبادة بالاستعانة للجمع بين ما يتقرب به العبد إلى الله وبين ما يطلبه من جهته وليكون ذلك توطئة للدعاء في قوله اهدنا وقدمت العبادة على الاستعانة لتقدم الوسيلة قبل طلب الحاجة لتحصل الاجابة إليها وأطلق العبادة والاستعانة ليتناول كل معبود به ومستعان عليه وكرر وإياك ليكون كل من العبادة والاستعانة سيقا في جملتين وكل جملة منهما مقصودة وللتنصيص على أن الذي يطلب العون منه هو تعالى.
" اهدنا " الهداية هنا الإرشاد والدلالة وتتعدى إلى الثاني بالى وباللام وهنا تعدى بنفسه.
" والصراط " الطريق وأصله السين وقرىء به وبين الزاي والصاد وبالزاي خالصة وهي لغة لعذرة وكعب وبني القين والصاد لغة قريش وعامة العرب على اشمام الصاد الزاي وتذكير الصراط أكثر من تأنيثه ويجمع في الكثرة على صراط وقياسه في القلة أصرطة ان كان مذكرا واصرط إن كان مؤنثا.
" المستقيم " اسم فاعل من استقام وهو استفعل بمعنى الفعل المجرد وهو قام والقيام هو الانتصاب والاستواء من غير اعوجاج.
" والذين " اسم موصول والخلاف في لغته وفيما يعرف به الموصول مذكور في كتاب النحو والذين يخص العقلاء وما أجرى مجراهم.
" أنعمت " والنعمة لين العيش ونعم الرجل إذا كان في نعمة والهمزة في أنعمت لجعل الشيء صاحب نعمة وهو أحد المعاني التي لأفعل وضمن معنى التفضيل فعدي بعلى وأصله التعدية بنفسه أنعمته جعلته صاحب نعمة والتاء في أنعمت ضمير المخاطب المذكر المفرد وعلى حرف جر عند الأكثرين ظرف عند سيبويه وجماعة ومعنى على الاستعلاء حقيقة أو مجازا وقرىء.
" عليهم ": بضم الهاء وسكون الميم وبكسر الهاء والميم بغير ياء وكذا بياء بعدها وبكسر الهاء وضم الميم بواو بعدها وبضمهما وواو بعدها وبضمهما بغير واو وبكسر الهاء وضم الميم بغير واو وبضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها وكذلك بغير ياء.
" اهدنا " صورته صورة الأمر. ومعناه الطلب والرغبة ولما أخبر المتكلم أنه ومن معه يعبدون الله تعالى ويطلبون منه العون سأل له ولهم الهداية إلى الطريق الواضح لأنهم بالهداية إليه تصح منهم العبادة.
Shafi da ba'a sani ba
" صراط الذين " بدل عين المبدل منه إذ فيه بعض إبهام ليكون المسؤول الهداية إليه قد جرى ذكره مرتين وصار يذكر البدل منه حوالة على طريق من أنعم الله عليهم فكان ذلك أثبت وأؤكد، والبدل على الصحيح على نية تكرار العامل فكأنهم كرروا طلب الهداية وفسر المنعم عليهم بأقوال أولاها الأنبياء ومن ذكر معهم في قوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين، الآية. ولم يقيد الانعام ليعم جميع المنعم به على سبيل البدل وبناء أفعل للفاعل استعطاف لقبول التوسل بالدعاء في الهداية أي طلبنا منك الهداية إذ سبق إنعامك فمن إنعامك إجابة سؤالنا ومضمون الجملة طلب استمرار الهداية إلى طريق من أنعم عليهم لأن من صدر منه حمدا لله وأخبر بأنه يعبده ويستعينه فقد حصلت الهداية له لكنه يسأل استمرارها.
" غير " مفرد مذكر دائما ومدلوله المخالفة بوجه ما وأصله الوصف ويستثنى به ويلزم الاضافة لفظا أو معنى وإدخال أل عليه خطأ ولا يتعرف وان أضيف إلى معرفة.
" المغضوب " والغضب يغير الطبع كما يروه.
" عليهم " وعليهم الأولى في موضع نصب والثانية في موضع رفع وغير بدل من الضمير في عليهم أو من الذين. وهو ضعيف وان قاله أبو علي أو نعت على مذهب سيبويه إذ قد تتعرف غير إذا أضيفت إلى معرفة أو على مذهب ابن السراج في أنها تتعرف إذا وقعت على مخصوص لا شائع وقرىء غير وهو حال من الضمير في عليهم.
وقال المهدوي من الذين والحال من المضاف إليه الذي لا موضع له من رفع أو نصب، المشهور أنه لا يجوز.
وقال الأخفش والزجاج: نصب على الاستثناء المنقطع والمغضوب عليهم اليهود لأنهم كفروا عن علم وعاندوا والنصارى ضالون أي كفروا جهلا فلهذا خص كل بوصف ولا في قوله " ولا الضالين " حرف خلافا للكوفيين ودخلت لتأكيد معنى النفي الذي تدل عليه غير أنه كأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين وأشعر أن الضالين هم غير المغضوب عليهم وإن كان كلهم قد اشتراك في الغضب والضلال، ولتقارب معنى غير ولا أجاز الزمخشري أنا زيدا غير ضارب قال: كما جاز أنا زيدا لا ضارب فأوردهما مورد الوفاق وفي المسألتين خلاف.
" والضلال " سلوك سبيل غير القصد. ضل عن الطريق سلك غير جادتها، والضلال: الهلاك والضلال الحيرة والغفلة وكانت صلة الذين فعلا ماضيا وصلة أل اسما لأن المقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله عليهم وصله أل بالاسم ليشمل سائر الأزمان وبناه للمفعول لأن من طلب منه الهداية ونسب الانعام إليه لا يناسب أن يواجه بوصف الانتقام وليكون المغضوب توطئة للختم بالضالين فيعطف موصول بال على موصول بال مثله والمراد بالانعام الانعام الديني.
وروي عدي بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن المغضوب عليهم هم اليهود وإن الضالين هم النصاري "
والغضب من الله تعالى إن كان إرادة الانتقام من المعاصي فهو من صفات الذات وإن كان إحلال العقوبة به كان من صفات الفعل ومناسبة ذكر الغضب أثر النعمة لأن الغضب يقابل الانتقام لا الضلال فبينهما تطابق معنوي. وأيضا تشجيع فقد جمعت هذه الصورة حسن الافتتاح وبراعة المطلع إذ كان مفتتحا باسم الله تعالى. والمبالغة في الثناء بعموم أل في الحمد لله، والاختصاص باللام في لله، وبالإضافة في ملك يوم الدين، وحسن التقديم والتأخير في نعبد ونستعين والمغضوب عليهم والضالين، والتفسير بعد الابهام في صراط الذين، والالتفات في إياك نعبد وما بعده، وطلب الشيء والمقصود استدامته. وسرد الصفات لبيان خصوصيته في الموصوف أو مدح أو ذم، والتشجيع في الرحيم والمستقيم وفي نستعين والضالين.
Shafi da ba'a sani ba
[2 - سورة البقرة]
[2.1-3]
" الم " حروف التهجي هذه التي في أوائل السور اختلف الناس في المراد بها اختلافا كثيرا ولم يقم دليل على تعيين شيء مما ذكروه والذي اختاره هو ما ذهب إليه الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين قالوا: هي سر الله في القرآن وهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه نؤمن بها ونمرها كما جاءت وإلى هذا ذهب الوزير الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الظاهري رحمه الله تعالى قال: هذه الحروف التي في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وسائر كلامه تعالى محكم " انتهى ". وهذه الحروف أوردت مفردة من غير عامل ولا عطف فاقتضت أن تكون مسكنة كأسماء الأعداد إذا أوردت من غير عامل ولا عطف فلا محل لها من الاعراب وقال الكوفيون: ألم ونظائرها آية في خلاف لهم في بعضها.
وقال البصريون وغيرهم: ليس شيء من ذلك آية ولم ينضبط لي ما سمى العادون في القرآن آية ولا عرفت مقدار ما لحظوا في ذلك ووقف أبو جعفر على كل حرف من حروف التهجي وقفه وقفة وأظهر النون من طسم، ويس، وعسق ون الا من طس تلك فلم يظهر ذلك.
" ذلك " اسم إشارة واللام مشعرة ببعد المشار إليه والكاف للخطاب وإذا كان على موضوعه من البعد فأقوال كثيرة مضطربة: الأولى: أن تكون إشارة لما نزل بمكة من القرآن أو البعد بالنسبة إلى الغاية التي هي بين المنزل، والمنزل إليه . وسمعت شيخنا الأستاذ أبا جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يقول ذلك إشارة إلى الصراط المستقيم كأنهم لما سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب وبهذا الذي ذكره الأستاذ يتبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره لا إلى شيء لم يجر له ذكر وقد ركبوا وجوها من الإعراب في قوله.
" ذلك الكتاب لا ريب فيه " والذي اختاره أن يكون ذلك الكتاب جملة مستقلة لأنه متى أمكن حمل الكلام على الاستقلال دون إضمار ولا افتقار كان أولى.
" ولا ريب " جملة مستأنفة لا موضع لها من الاعراب أو في موضع نصب أي مبرأ من الريب وقرىء لا ريب بالرفع وسياق الكلام يدل على أن المراد نفي كل ريب في هذه القراءة والفتح نص في العموم والذي نختاره أن الخبر محذوف للعلم به إذ لغة تميم إذا علم لا يلفظ به ولغة الحجاز كثرة حذفه إذ ذاك ولا ريب يدل على نفي الماهية أي ليس مما يحله الريب ولا يدل على نفي الارتياب لأنه قد وقع ارتياب من ناس ضلال، وعلى هذا لا يحتاج إلى حمله على نفي التعليق والمظنة كما حمله الزمخشري ولا يزد علينا وإن كنتم في ريب لاختلاف الحال والمحل فالحال في كنتم المخاطبون والريب هو المحل والحال هنا الريب منفيا والمحل الكتاب فلا تعارض بين كونهم في ريب من القرآن وكون الريب منفيا عن القرآن واختيار الزمخشري أن فيه خبر ولذلك بني عليه سؤالا وهو ان قال هلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله:
لا فيها غول
[الصافات: 47]، وأجاب بأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد وهو أن كتابا غيره فيه الريب، كما قصد في قوله: لا فيها غول، تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل: ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة. وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر ولا نعلم أحدا يفرق بين ليس في الدار رجل، وليس رجل في الدار. والأولى جعل كل جملة مستقلة من قوله: ذلك الكتاب لا ريب وفيه هدى. ولم يحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق بعض، فالأولى أخبرت أن المشار إليه هذا الكتاب الكامل. كما تقول: زيد الرجل، أي الكامل في الأوصاف. والثانية نفت أن يكون فيه شيء من الريب. والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين.
والمجاز في فيه " هدى " أي استمرار هدى لأن المتقين مهتدون، والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أو ترك وعلى ما اخترناه من الاعراب تكون الجملة. الأولى: كاملة الأجزاء حقيقة، والثانية: فيها مجاز الحذف إذا اخترنا أن خبر لا محذوف، والثالثة: فيها تنزيل المعاني منزلة الأجسام إذ جعل الكتاب ظرفا والهدي مظروفا وأتى بلفظة في التي للوعاء فهو مشتمل على الهدى كاشتمال البيت على زيد في قولك زيد في البيت.
Shafi da ba'a sani ba
و " الإيمان " التصديق وأصله من الأمان أو الأمان أو الأمن، ومعناها: الطمأنينة. والهمزة فيه للصيرورة وضمن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء أو باللام.
و " الغيب " مصدر غاب يغيب إذا توارى. والأجود أن يكون أطلق على الغائب لا أنه فعيل من غاب فخفف كلين والباء متعلقة بيؤمنون.
والصلاة وزنها فعلة، وألفه منقلبة من واو وهي مشتقة من الصلا وهو عرق متصل بالظهر أو من صلى بمعنى دعا.
و " الرزق " العطاء. وبفتح الراء المصدر.
و " الانفاق " الانفاد وللمتقين في موضع الصفة فلا يتعلق بهدي.
[2.4-5]
و " الذين " يجوز في إعرابه الأوجه الثلاثة لأنه صفة مدح والغيب المؤمن به هو ما غاب عن المؤمن مما كلف الإيمان به وتضمن الاعتقاد القلبي والفعل البدني وإخراج المال وهذه الثلاثة عمد الاسلام وإفعال المتقي ومن للتبعيض والأولى حمل الانفاق على الزكاة لكثرة ورودها مقترنة مع الصلاة في القرآن والسنة، وأضاف الرزق إليه لا إلى كسب العبد ليعلم أن الذي ينفقه العبد هو بعض مما رزقه الله تعالى وجعلت صلاة الذين افعالا مضارعة لا صلات لأل لأن المضارع على ما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث والتجدد في صفة المتقين أمدح.
وال قالوا تدل على الثبوت وكان هذا الموصول بصلاته شرح للمتقين فدل المتقين على الثبوت والمضارعات على الحدوث فتعددت وأخرت الصلة الثالثة لأجل الفواصل وحذف العائد على ما وتقديره رزقنا همو، وترتيب هذه الصلات من باب ترتيب الأهم فالأهم والألزم فالألزم فالايمان لازم للمكلف دائما والصلاة في كثير من الأوقات والنفقة في بعض الأوقات.
و " الانزال " الإيصال والإبلاغ ولا يشترط أن يكون من علو. وقرىء بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك مبنيين للفاعل وهو التفات إذ هو خروج من ضمير متكلم في رزقناهم إلى ضمير غائب وقرىء بما أنزل إليك ووجهه أنه سكن لام أنزل ونقل إليها حركة همزة إليك بعد حذفها ثم أدغم والذين معطوف على الذين ويظهر أنه تفسير للإيمان بالغيب وهو أن يؤمن بما أنزل إلى الرسول وبما أنزل إلى الرسل قبله.
و " بالآخرة " هي صفة غالبة وهي في الأصل تأنيث آخر وحملها على الدار الآخرة أولى من حملها على النشاة الآخرة، والمضي في وما أنزل من قبلك متحقق وفي بما أنزل إليك لأن أكثره كان نزل بمكة والمدينة فقام الأكثر مقام الجمع أو غلب الموجود لأن الإيمان بالمتقدم الماضي يقتضي الايمان بالمتأخر، والإيقان: التحقق للشيء لسكونه ووضوحه، يقن الماء: سكن وظهر ما تحته، ولم تعد بآء الجر في ما الثانية ليدل على أنه إيمان واحد إذ أعادته تشعر بأنهما إيمانان وأكد أمر الآخرة بتعلق الإيقان الذي هو أجلى وآكد مراتب العلم والتصديق وإن كان لا تفاوت في الحقيقة بينهما رفعا لمجاز إطلاق العلم على الظن فذكر أن الإيمان والعلم بالآخرة لا يكون إلا إيقانا، وغاير بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة لا يكون إلا إيقانا، وغاير بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة في اللفظ لزوال كلفة التكرار وكان الإيقان هو الذي اختص بالآخرة لكثرة غرائب متعلقاتها ولكون المنزل مشاهدا أو كالمشاهد والآخرة غيب صرف فناسب الإيقان:
Shafi da ba'a sani ba
قالوا: والإيقان هو العلم الحادث سواء كان ضروريا أم استدلاليا فلذلك لا يوصف به الباري سبحانه وتعالى وقدم المجرور اعتنآء به وإبراز هذه الجملة اسمية وإن كانت معطوفة على فعلية آكد في الاخبار عن هؤلاء بالإيقان والتصدير بالمبتدأ يشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه كما أن التصدير بالفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به ولم يذكرهم في: ومما رزقناهم، لأن الوصف بالإيقان أعلى من الوصف بالانفاق ولكونه يكون فيه قلق لفظي.
" أولئك " اسم إشارة للجمع مطلقا وهو للرتبة الوسطى وهو مبتدأ خبره الذي بعده، وهي جملة استئنافية ولا تختار ما أجتازه الزمخشري من كون هذه الجملة في موضع خبر عن الذين يؤمنون وإعراب الذين مبتدأ والذهاب بالذين مذهب الاستئناف لأن تعلقه واتصاله بما قبله في غاية الوضوح.
على هدى إلا أنه لما وصف المتقين بصفات مدح فصلت جهات التقوى أشار إليهم بأن من حاز هذه الأوصاف الشريفة هو على هدى جعل رسوخهم في الهداية كأنهم استعلوه، ووصف الهدى بأنه من ربهم تعظيم للهدى الذي هم عليه، ومن: لابتداء الغاية أو للتبعيض، أي من هدى ربهم. وذكر الرب هنا في غاية المناسبة.
والفلاح: الفوز والظفر بإدراك البغية والبقاء. وقرىء من ربهم بضم الهاء كان ضمير جمع لمذكر أو مؤنث ولا يراعي سبق كسر أو ياء وهذان خبران مختلفان لذلك كرر أولئك ليقع كل منهما في جملة مستقلة أخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة وهم فصل أو بدل أو مبتدأ.
[2.6-7]
والكفر: الستر. وسواء: اسم بمعنى استواء مصدر إستوى وقد يوصف به بمعنى مستو.
و " الانذار ": الاعلام مع التخويف. والهمزة في أأنذرتهم للتسوية.
" والختم " الوسم بطابع أو غيره.
" والقلب " اللحمة الصنوبرية سميت بالمصدر.
" السمع " مصدر سمع. وكني به عن الأذن.
Shafi da ba'a sani ba
" البصر " العين.
" والغشاوة " الغطاء.
و " العذاب " أصله الاستمرار في الألم ولما ذكر أوصاف المتقين المؤدية بهم إلى الفوز ذكر أوصاف الكافرين المؤدية بهم إلى العذاب وافتتح قصتهم بحرف التأكيد ليدل على استئناف الكلام فيهم والظاهر أن الذين كفروا للجنس ملحوظا فيه قيد وهو أن يقضي عليه بالكفر والموافاة عليه ويحتمل أن يكون لمعينين ممن وافى على الكفر كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما. وسواء وما تعلق به جملة اعتراض فلا موضع لها من الاعراب. وسواء مبتدأ والجملة الداخلة عليها الهمزة خبر عن سواء وجوزوا العكس.
ولا يؤمنون خبران وجملة الاعتراض لتأكيد مضمون جملة ان وخبرها، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن استوى إنذاره وعدم إنذاره أو يكون خبر ان سواء والجملة التي فيها الهمزة في موضع الفاعل عند من يجيز أن تكون الجملة فاعلة. أو سواء مبتدأ وما بعده خبره أو العكس. ولا يؤمنون خبر بعد خبر أو على إضمار مبتدأ تقديره هم لا يؤمنون، أولا موضع لها من الاعراب فتكون تفسيرية لأن عدم الإيمان استواء الانذار وعدمه. وقرىء أأنذرتهم بتحقيق الهمزتين وهي لغة تميم، وبتسهيل الثانية وهي لغة الحجاز، وبإدخال ألف بينهما حققت الثانية أو سهلت، وبإبدال الثانية ألفا وقد أنكره الزمخشري وزعم أنه لحن، وقرىء بحذف الهمزة الأولى وبحذفها ونقل حركتها إلى الميم الساكنة قبلها، ومفعول أأنذرتهم الثاني محذوف تقديره العذاب على كفرهم والظاهر أن لا يؤمنون.
وختم خبر لادعاء. والختم على القلب كني به عن كونه لا يقبل شيئا من الحق استعار المحسوس للمعقول. أو مثل القلب بالدعاء الذي ختم عليه صوتا لما فيه ومنعا لغيره من الدخول إليه. وقيل: الختم حقيقة وهو انضمام القلب وانكماشه. وإسناد الختم إلى الله حقيقة لا مجاز كما تأوله الزمخشري. وعلى سمعهم معطوف على قلوبهم لا انه مشارك السمع للأبصار في الغشاوة وان جوزوه وأفرد السمع لكونه لمح فيه الأصل وهو المصدر، أو للإستغناء بالمفرد عن الجمع لدلالة ما قبله وما بعده عليه، أو على حذف مضاف أي وعلى حواس سمعهم. وقرى: وعلى أسماعهم، والمشهور في قراءة غشاوة - بكسر الغين ورفع التاء - فتضمن الكلام إسنادين فعلية وإسمية ليدلا على التجدد والثبوت وقدمت الفعلية لأن ذلك قد فرغ منه ووقع وقدم خبر الاسمية ليطابق الفعلية في تقديم المحكوم به على المحكوم عليه. وقرىء غشاوة - بالنصب - أي وجعل. وقرىء غشاوة - بضم الغين ورفع التاء وبفتحها والنصب وسكون الشين -. وعشوة وعشية وعشاوة - بالعين المهملة - من العشا وهو شبه العمى في العين. وتقديم القلوب من باب التقديم بالشرف وهو أحد التقديمات الست ولما ذكر تعالى حال هؤلاء الكفار في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة من العذاب ولما كان أعد لهم ذلك صيروا كان العذاب ملك لهم لازم.
و " العظيم " أصله للجثة.
[2.8-9]
و " الناس " اسم جمع لبني آدم. وقالوا: ناس من الجن. وهو مجاز وأصله عند سيبويه والفراء أناس حذفت همزته فوزنه عال. وعند الكسائي نوس من ناس تحرك. وعند غيرهما نسي من النسيان قلب، ويدل عليه قولهم في تصغير إنسان أنيسان.
ومن هنا موصولة وجوزوا أن تكون موصوفة وهي مبتدأ والخبر في الجار والمجرور قبلها ولا بد من قيد في الناس وإلا كان أخبارا لا تستقل به فائدة. فالتقدير ومن الناس السابق ذكرهم الذين اندرجوا في قولهم: إن الذين كفروا فليس هؤلاء إلا بعضا من أولئك شاركوهم في جميع ما أخبر به عن أولئك وزادوا أنهم ادعوا الإيمان واكذبهم الله تعالى وليسوا غير مختوم على قلوبهم كما زعم الزمخشري.
وجعل من موصولة أكثر في لسان العرب من كونها موصوفة ويدل على أنها موصولة انها نزلت في ناس بأعيانهم معروفين. بما صدر منهم من أقوالهم وأفعالهم كعبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه ومن وافقه من غير أصحابه ممن أظهر الاسلام مقالا وأبطن الكفر اعتقادا واقتصروا على قولهم.
Shafi da ba'a sani ba
{ آمنا بالله وباليوم الآخر } منهم أن يعترفوا بالايمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه وايهاما انهم من طائفة المؤمنين وحمل في قوله يقول على لفظ من وفى.
{ وما هم بمؤمنين } على المعنى. وقول ابن عطية: إنه لا يجوز أن يرجع من لفظ الجمع إلى لفظ الواحد مخالفة لقول النحويين من أنه يجوز أن يبدأ بالحمل على المعنى ثم على اللفظ وإن كان الحمل أولا على اللفظ ثم على المعنى أولى. وقد ثبت ما أنكره في كتاب الله تعالى وفي لسان العرب وبمؤمنين في موضع نصب. وأكثر لغة الحجاز جر الخبر بالباء وعليه أكثر ما جاء في القرآن. وزيدت الباء في الخبر للتأكيد ولأجل التوكيد بولغ في نفي إيمانهم بأن جاءت الجملة إسمية، وسلط النفي على اسم الفاعل الذي ليس مقيدا بزمان ليشمل جميع الأزمان ولم يجيىء التركيب مبنيا على قولهم فيكون وما آمنوا.
والخداع، قيل: إظهار غير ما في النفس. وقرىء: يخدعون الله مضارع خدع. وجاز في يخادعون أن يكون مستأنفا، كان قائلا يقول: لم يتظاهرون بالإيمان وليسو بمؤمنين؟ فقيل: يخادعون. قيل: وأن يكون بدلا من يقول أو حالا من ضمير، يقول ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في بمؤمنين، والعامل فيها اسم الفاعل كما ذهب إليه أبو البقاء وهذا إعراب خطأ وذلك ان ما دخلت على الجملة فنفت نسبة الإيمان إليهم، فإذا قيدت تلك النسبة بحال تسلط النفي على تلك الحال وهو القيد فنفته. ولذلك طريقان في لسان العرب أحدهما، وهو الأكثر: أن ينتفي ذلك القيد فقط، ويكون إذ ذاك قد ثبت العامل في ذلك القيد.
فإذا قلت: ما زيد أقبل ضاحكا فمفهومه نفي الضحك. ويكون قد أقبل غير ضاحك وليس معنى الآية على هذا إذ لا ينفى عنهم الخداع فقط فيثبت لهم الإيمان بغير خداع بل المعنى نفي الإيمان عنهم مطلقا والطريق الثاني وهو الأقل هو أن ينتفي القيد وينتفي العامل فيه، فكأنه قال في المثال السابق: لم يقبل زيد ولم يضحك، أي لم يكن منه إقبال ولا ضحك. وليس معنى الآية على هذا إذ ليس المراد نفي الإيمان عنهم ونفي الخداع والعجب من أبي البقاء كيف تنبه لشيء من هذا فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال ولا يجوز أن يكون في موضع جر على الصفة لمؤمنين لأن ذلك يوجب نفي خداعهم والمعنى على إثبات الخداع إنتهى كلامه فأجاز ذلك في الحال ولم يجز ذلك في الصفة وهما سواء، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك بل كل منهما قد يتسلط النفي عليه ومخادعة المنافقين الله هو من حيث الصورة لا من حيث المعنى من حيث تظاهروا بالإيمان وأبطنوا الكفر ومن حيث عدم عرفانهم بالله ولصفاته أو يكون ذلك على حذف مضاف أي يخادعون رسول الله وليس اسم الجلالة مقحما كما ذهب إليه الزمخشري وذكر مثلا نازعناه في الاستدلال بها ومخادعتهم المؤمنين كونهم امتثلوا إجراء أحكام المسلمين عليهم مع مخالفتهم لهم في الإعتقاد. وقرىء: وما يخادعون مضارع خدع بفتح الياء وضمها مبني للمفعول. ويخدعون بفتح الخاء وتشديد الدال المكسورة من خدع مشددا وبفتح الياء والخاء وكسر الدال مشددة ويخادعون بكسر الدال وفتحها مبنيا للمفعول فمن بناه للمفعول نصب.
" أنفسهم " تمييزا على مذهب الكوفيين في غبن زيد رأيه، واما على التشبيه بالمفعول به، واما على إسقاط حرف الجر أي في أنفسهم، ويختدعون مضارع اختدع بمعنى خدع كاقتدر وقدر والمعنى ان وبال ذلك ليس راجعا للمخدوع بل للخادع فكأنه ما كاد إلا نفسه بإيرادها موارد الهلكة وهو لا يشعر بذلك جهلا بقبيح أفعاله.
" وما يشعرون " معطوف على يخادعون الله، أي وما يشعرون إطلاع الله نبيه على خداعهم، أو وما يشعرون إيقاع أنفسهم في الشقاء بكفرهم ونفاقهم. أو جملة حالية، أي وما يخادعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك إذ لو شعروا بذلك ما خادعوا الله والمؤمنين وجاء يخادعون بصيغة المضارع اشعارا بالديمومة إذ هو في معرض الذم.
[2.10-12]
قرىء مرض بسكون الراء وهي لغة كالحلب والحلب وكينونة المرض في قلوبهم مجاز عن ما حل فيها من الشك والحسد والغل. وقيل: حقيقة وهو الفساد والظلمة التي حدثت فيها بظهور الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته.
{ فزادهم الله مرضا }. هذا خبر وإسناد الزيادة إلى الله تعالى حقيقة. وقيل: دعاء حقيقة بوقوع زيادة المرض وقيل مجاز فلا تقصد به الإجابة لكون المدعو به واقعا بل المراد به السب واللعن والتنقص نحو: قاتلهم الله.
ومرض نكرة تعم على طريق البدل وتعداد المحال يدل على تعداد الحال فاكتفى بالمفرد عن الجمع.
Shafi da ba'a sani ba
و " فزادهم ": أي قلوبهم أو ذواتهم، لأن مرض القلب مرض لسائر الجسد اليم اما للمبالغة ووصف العذاب به مجاز وهو من مجاز التركيب أو معناه مؤلم جآء فعيل من أفعل وهو من مجاز الأفراد وجمع وصف العذاب بالعظم والألم للمنافقين إذ هم أشد عذابا من غيرهم من الكفار وما في بما كانوا مصدرية.
وقال أبو البقاء: الا ظهر أن تكون موصولة. وقرىء: يكذبون مخففا ومشددا مضارع كذب وكذب.
" وإذا قيل ": لغة أهل الحجاز إخلاص الكسر في نحو قيل: وبيع والاشمام لغة كثير من قيس وبني أسد وعقيل وقرىء بهما. والفساد التغير عن حالة الاعتدال والصلاح نقيضه وهذه الجملة الشرطية هي من باب عطف الجمل استئنافا ينعى عليهم قبائح أفعالهم وأقوالهم. قيل: وتحتمل أن تكون معطوفة على يقول صلة من فلا موضع لها من الإعراب وهي جزء كلام لأنها من تمام الصلة (وأجاز الزمخشري وأبو البقاء) أن تكون معطوفة على يكذبون فلها موضع من الإعراب وهو النصب ويكون جزأ من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم وهذا الاعراب خطأ على جعل ما في بما موصولة وقراءة التشديد لغة وجملة الشرط من ضمير يعود على ما والجملة بعد إذ هذه في موضع خفض على مذهب الجمهور والعامل في إذا الجواب، والذي نختاره انها لا موضع لها من الإعراب والفعل الذي يلي إذا هو العامل فيها كسائر حروف الشرط وحذف فاعل القول للعلم به إذ هو الله تعالى ويظهر أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو الجملة من قوله: لا تفسدوا في الأرض ولا يجوز ذلك عند جمهور البصريين ويجوز عند الكوفيين فتخريجه على مذهب جمهور البصريين أن يكون في قيل مضمر، أي وإذا قيل هو أي قول سديد فأضمر هذا القول الموصوف وجاءت الجملة بعده مفسرة فلا موضع لها من الإعراب وزعم الزمخشري أن الجملة هي المفعول الذي لم يسم فاعله وجعله من باب الاسناد اللفظي ونظره بقوله: الف حرف من ثلاثة أحرف، وإذا أمكن أن يكون إسنادا معنويا لم يعدل إلى الاسناد اللفظي.
" ولا تفسدوا " نهي عن إيقاع الفساد بأي طريق كان من كفر أو غيره من جهات الفساد وهو من باب النهي عن المسبب، والمراد النهي عن السبب فمتعلق النهي حقيقة هو إيطان الكفر وممالاة الكفار وإفشاء سر المؤمنين وذلك هو المفضي إلى الهيج للفتن المؤدية الى الإفساد وذكر محل الإفساد وهي الأرض التي نشأتم فيها وانتفعتم بها أحياء وأمواتا فما كان محل إصلاحكم لا يناسب أن يجعل محل إفساد ومعمول جواب الشرط أبرزوه جملة إسمية ليدل على ثبوت الوصف لهم وأكدوها بانما دلالة على قوة اتصافهم بقوة الاصلاح كل ذلك بهت وكذب على عاداتهم في الكذب فأكذبهم الله فقال؛
{ ألا إنهم هم المفسدون } فأتى بألا الدالة على التنبيه على كذبهم وبأن المقتضية التأكيد في قولهم: وبهم وبال واستفتحت بألا لتكون الاسماع مصغية لما جاء في حقهم وهم تأكيد للضمير أو فصل أو مبتدأ وتختار في ألا التي للتنبيه انها حرف بسيط، وزعموا انها مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية للدلالة على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقا كقوله:
أليس ذلك بقادر
[القيامة: 40] ولكونها من المنصب في هذا ألا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرية بنحو ما يتلقى به القسم، وقاله الزمخشري. ودعوى التركيب على خلاف الأصل ولأن ما زعموا خطأ لأن مواقع ألا تدل على أن لا ليست للنفي فيتم ما ادعوه ألا ترى انك تقول إلا أن زيدا منطلق ليس أصله لا أن زيدا منطلق إذ ليس من تراكيب العرب بخلاف ما نظر به من قوله تعالى:
أليس ذلك بقادر
[القيامة: 40]، لصحة تركيب ليس زيد بقادر ولوجودها قبل رب وليت وحرف النداء وغيرها مما لا يتعقل فيه أن لا نافية فتكون الهمزة للاستفهام دخلت على لا النافية فأفادت التحقيق. وقوله: لا تكاد تقع إلى آخره غير صحيح ألا ترى أن الجملة بعدها تستفتح برب وبليت وبفعل الأمر وبالنداء وبحبذا ولا يتلقى بشيء من هذا القسم وعلامة الا هذه التي هي حرف تنبيه واستفتاح صحة الكلام دونها، وكون انما مركبة من ما النافية دخل عليها أن التي للإثبات فأفادت الحصر قول ركيك فاسد صادر عن غير عارف بالنحو، والذي نذهب إليه انها لا تدل على الحصر بالوضع، كما أن الحصر لا يفهم من اخواتها التي كفت بما، فلا فرق بين: لعل زيدا قائم، ولعلما زيد قائم. فكذلك: ان زيدا قائم، وإنما زيد قائم. وإذا فهم الحصر فإنما يفهم من سياق الكلام لا ان إنما دلت عليه وبهذا الذي قررناه يزول الاشكال الذي أوردوه في نحو قوله تعالى:
إنمآ أنت منذر
Shafi da ba'a sani ba
[الرعد: 7]
قل إنمآ أنا بشر
[الكهف: 110]
إنما تنذر من اتبع الذكر
[يس: 11]
إنمآ أنت منذر من يخشها
[النازعات: 45]. انتهى.
" ولكن لا يشعرون " لكن تقع بين متنافيين وظهوره ذلك هنا أنه تعالى أخبر أنهم هم المفسدون وقد علم ذلك منهم ولكن هم لا يعملون ذلك فاستدرك هذا المعنى الذي فاتهم من عدم الشعور بأنهم هم المفسدون ومفعول يشعرون محذوف تقديره ولكن لا يشعرون بإفسادهم.
[2.13-15]
{ وإذا قيل لهم آمنوا } هذه الجملة الكلام عليها أهي معطوفة على صلة من أو على يكذبون أو مستأنفة وما العامل في إذا وما المقام مقام الفاعل كالجملة الشرطية السابقة، ولما نهوا عن الافساد أمروا بالإيمان وبحصوله يزول إفسادهم وبدأ بالمنهي عنه لأنه الأهم وهو ترك والترك أسهل من امتثال المأمور فكان في ذلك تدريج لهم وأكثر المعربين يجعل الكاف في " كما آمن " ونظيره نعتا لمصدر محذوف أي إيمانا مثل إيمان الناس. ومذهب سيبويه: إن الكاف في موضع الحال وذو الحال ضمير مصدر محذوف دل عليه الفعل، وما مصدرية ينسبك منها ومن صلتها مصدر هو في موضع جر بالكاف. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء، أن تكون ما كافة للكاف عن العمل كهي في: ربما قام زيد، والظاهر أن أل في الناس للعهد وهم المؤمنون الذين سبقوا بالإيمان فأحيلوا عليهم. والسفه: خفة الحلم والجهل، ويقال سفه - بكسر الفاء وضمها - وهو القياس لمجيىء سفيه وجمعه على فعلى قياس مطرد في فعيل الصحيح الوصف لمذكر عاقل.
Shafi da ba'a sani ba
" أتؤمن " استفهام انكار واستهزاء ، ولما كان المأمور به مشبها أتوا بإنكارهم مشبها وأل في السفهاء للعهد ويعنون بهم المؤمنين الخلص في الإيمان اعتقدوا أنهم سفهاء.
{ ألا إنهم هم السفهآء } وهذا كما رد عليهم في قوله
ألا إنهم هم المفسدون
[البقرة: 12] إن الله تعالى هو العالم بأنهم السفهاء.
{ ولكن لا يعلمون } إنهم سفهاء لغباوتهم وجاء هناك لا يشعرون لأن الافساد يدرك بأدنى تأمل لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير، فنفي عنهم ما يدرك بالمشاعر وهي مبالغة في تجهيلهم إذ الشعور الثابت للبهائم منفي عنهم والأمر بالإيمان يحتاج إلى إمعان كر واستدلال ونظر قام يفضي إلى الإيمان والتصديق، ولم يقع منهم المأمور فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه هو خفة العقل والجهل بالأمور والعلم نقيض الجهل فقابله بقوله: لا يعلمون، ويجوز في نحو السفهاء إلا تحقيق الثانية مع تحقيق الأولى وجعلها بين الهمزة والواو وأبوابها واوا مع تحقيق الأولى أو جعلها بين الهمزة والواو وأجاز بعضهم جعل كل منهما بين الهمزة والواو.
{ وإذا لقوا } قرىء لاقوا وهي فاعل بمعنى الفعل المجرد وآمنا فعل مطلق غير مؤكد بشيء تورية منهم وإيهاما سموا النطق باللسان إيمانا وقلوبهم معرضة.
وخلا يتعدى بالباء وبالى والى على معناها من انتهاء الغاية وليست هنا بمعنى مع خلافا للنضر بن شميل.
و { شياطينهم } اليهود ورؤساءهم. وشيطان عند البصريين فيعال من شطن وقالوا: في معناه شاطن، وفي التصغير مشيطن. وعند الكوفيين فعلان من نشاط ويشهد لهم قولهم شيطان مسمى به ممنوع من الصرف.
وقرىء " معكم " بسكون العين وهي لغة ربيعة وغنم وانظر الفرق بين قولهم للمؤمنين آمنا وبين قولهم لشياطينهم.
هناك اكتفوا بالمطلق وهنا أكدوا المعية والموافقة بقولهم. انا ثم لم يكتفوا حتى ذكروا سبب قولهم آمنا وهو الاستخفاف بالمؤمنين وأبرزوا ذلك في جملة مؤكدة بانما وبنحن ومستهزؤون باسم الفاعل وكأنهم لما قالوا أنا معكم أنكر عليهم الاقتصار على هذا وانكم كيف تكونون معنا وأنتم مسالمون أولئك بإظهار تصديقكم وتكثيركم سوادهم والتزام أحكامهم من الصلاة وأكل ذبائحهم فأجابوا بذلك وإنما نستخف بهم في ذلك القول لصون دمائنا وأموالنا وذريتنا.
Shafi da ba'a sani ba
وقرىء " مستهزئون " بهمزة وبإبدالها ياء وبحذفها وضم ما قبلها وقلبها ياء هو قول الأخفش، وأما سيبويه فيخففها بجعلها بين بين، والاستهزاء: هو الاستخفاف واللهو واللعب، والله سبحانه منزه عن ذلك. فجاء قوله:
{ الله يستهزىء بهم } على سبيل المقابلة والمعنى أنه يجازيهم على استهزائهم وفي افتتاح الجملة باسم الله التفخيم والتعظيم والاخبار عنه بالمضارع وهو يدل على التجدد. ولم يذكروا هم متعلق الاستهزاء لتحرجهم من إبلاغ المؤمنين فينقمون ذلك عليهم فابقوا اللفظ محتملا وليذبوا عن أنفسهم لو حوققوا وان كانوا عنوا المؤمنين وقال: { يستهزىء بهم } فذكر متعلق الاستهزاء فهو أبلغ من قولهم.
{ يستهزىء بهم } فذكر متعلق الاستهزاء فهو أبلغ من قولهم.
وقرىء " ويمدهم " من مد ومن أمد وإسناد المد أو الامداد لله تعالى حقيقة إذ هو المنفرد بإيجاد ذلك وهو الممكن من المعاصي والزيادة منهما.
وقرىء طغيانهم - بكسر الطاء وضمها - وأضيف الطغيان إليهم لأنهم فاعلوه كسبا وان كان الله تعالى هو مخترعه.
والعمه التحير عن الرشد وركوب الرأس عن اتباع الحق. " وفي طغيانهم " متعلق بيمدهم وقيل بيعمهون. و " يعمهون " حال من مفعول يمدهم أو من ضمير طغيانهم. ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين.
قال: لأن العامل لا يعمل في حالين وهذا فيه خلاف وتفصيل.
[2.16-18]
" أولئك " إشارة إلى الذين تقدم ذكرهم الجامعين للأوصاف الذميمة كما تقدم في المتقين حيث ذكرت أوصافهم أشير إليهم بأولئك.
وقرىء اشتروا بضم الواو وكسرها وفتحها والاشتراء هنا مجاز كني به عن الاختيار لأن المشتري للشيء مختار له مؤثر.
Shafi da ba'a sani ba
و " الضلالة " الكفر والهدى الإيمان جعل تمكنهم من اتباع الهدى كالثمن المبذول في المشتري.
" فما ربحت " عطف بالفاء الدالة على تعقب نفي الربح وبنفس ما وقع الاشتراء تحقق عدم الربح. وإسناد الربح إلى التجارة مجاز لأن الرابح هو التاجر ولما صور الضلالة والهدى مشترى وثمنا وكان ذلك مجازا رشحه ببعض أوصاف الحقيقة بقوله:
{ فما ربحت تجارتهم } فانضاف مجاز إلى مجاز وقرىء تجاراتهم على الجمع والافراد. ونفي الربح لا يدل على إنتقاص رأس المال لكن عبر بنفيه عن ذهاب المال لما في الكلام من الدلالة على ذلك لأن الضلالة والهدى نقيضان فاستبدالهم الضلالة دل على ذهاب الهدى بالكلية ويتخرج عندي على أن يكون من باب. على لا حب لا يهتدي بمنارة.
لما ذكر اشتراء شيء بشيء توهم أن ذلك تجارة فنفي الربح والمقصود نفي التجارة أي لا تجارة فلا ربح نحو لا منار فلا هداية.
{ وما كانوا مهتدين } تتميم للمعنى المقصود بهذه الجملة ويقال: لهذا في علم البيان التتميم ويقول هذه الجملة إخبار بأن هؤلاء ما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله: بالهدى، انهم كانوا على هدى فيما مضى فبين وما كانوا مهتدين مجاز قوله بالهدى ودل على أن الذين اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى فالمثبت في الاعتياض غير المنفي أخيرا لأن ذلك بالقوة وهذا بالفعل المثل والمثل كالشبه والشبه وأصله الوصف، والمثل القول السائر الذي فيه غرابة وضرب المثل يؤثر في القلب ما لا يؤثر وصف الشيء نفسه إذ فيه تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالشاهد ولما ذكر تعالى أوصافا لهم سابقة ضرب المثل زيادة في كشف أحوالهم فقال:
{ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } أي قصتهم ووصفهم مثل وصف الذي استوقد أي الجمع الذي استوقد. ويدل على ذلك قوله: ذهب الله بنورهم. فالذي وصف لمفرد في معنى الجمع وليس الذي مثل من لفظ ومعنى. كما نقل عن أبي علي والأخفش وقرىء الذين جمعا وتخريجه اما على انها كمن على ما قالاه واما أنه أفرد على ما توهم أنه نطق بمن، واستوقد بمعنى أوقد حكاه أبو زيد. وقيل: هي للطلب ونكر نارا لأن مقابلها من وصف المنافق نزر يسير من اليقين بالاسلام وجوانحه منطوية على الكفر والنفاق فاكتفى بالمطلق.
ويقال: ضاء المكان وأضاء النور ويستعمل أضاء أيضا لازما وإلا ظهر أن ما مفعول أي أضاءت النار المكان الذي حوله وجوزوا أن تكون ما نكرة موصوفة وأن تكون ما هي الفاعلة وأضاء لازم أي الجهة التي حوله أنت الفعل على معنى ما وجواب لما هو.
{ ذهب الله بنورهم } وأجاز الزمخشري أن يكون جواب لما محذوفا تقديره حمدت قال: وهو أولى وذهب الله بنورهم.
قال الزمخشري: الضمير في بنورهم عائد على المنافقين والجملة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد فقيل ذهب الله بنورهم أو هي بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان، ولم يكتف الزمخشري بأن جوز حذف هذا الجواب حتى ادعى أن الحذف أولى، قال: وكان الحذف أولى من الاثبات لما فيه من الوجازة مع الاعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من اللفظ في أداء المعنى. كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام متحيرين متحسرين على فوات الضوء خائبين بعد الكدح في أحياء النار " انتهى ".
وهذا الذي ذكره نوع من الخطابة لا طائل تحتها لأنه كان يمكن له ذلك لو لم يكن تلى قوله:
Shafi da ba'a sani ba
{ فلمآ أضآءت ما حوله ذهب الله بنورهم }. وأما باقي كلامه بعد تقدير خمدت إلى آخره فهو مما يحمل اللفظ ما لا يحتمله ويقدر تقادير وجملا محذوفة لم يدل عليها الكلام وذلك عادته في غير ما كلام في معظم تفسيره ولا ينبغي أن يفسر كلام الله بغير ما يحتمله ولا أن يزاد فيه بل يكون الشرح طبق المشروح من غير زيادة عليه ولا نقص منه ولما جوزوا حذف الجواب تكلموا في قوله تعالى:
{ ذهب الله بنورهم } فخرجوا ذلك على وجهين، أحدهما: أن يكون مستأنفا جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما بالهم قد اشبهت حالهم حال هذا المستوقد فقيل: ذهب الله بنورهم. والثاني: أن يكون بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان قالهما الزمخشري. وكلا الوجهين مبنيان على أن جواب لما محذوف وقد اخترنا غيره، وأنه قوله تعالى:
{ ذهب الله بنورهم } بدلا من جملة. والوجه الثاني من التخريجين اللذين تقدم ذكرهما وهو أن يكون قوله:
{ ذهب الله بنورهم } بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان ولا يظهر لي صحته لأن جملة التمثيل هي قوله.
{ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } ، فجعله ذهب الله بنورهم، بدلا من هذه الجملة على سبيل البيان لا يصح لأن البدل لا يكون في الجمل إلا إذا كانت الجملة فعلية تبدل من جملة فعلية فقد ذكروا جواز ذلك وأما ان تبدل جملة فعلية من جملة اسمية فلا أعلم أحدا أجاز ذلك والبدل على نية تكرار العامل. والجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب لأنها لم تقع موقع المفرد فلا يمكن أن تكون الثانية على نية تكرار العامل، إذ لا عامل في الأولى فيتكرر في الثانية فبطلت جهة البدل فيها " انتهى ".
والظاهر أن نارا حقيقة في النار التي استوقدت وإذهاب الله نورهم بأمر سماوي والباء في بنورهم للتعدية مرادفة للهمزة والله تعالى لا يوصف بالذهاب.
{ وتركهم في ظلمت لا يبصرون } في ظلمات متعلق بتركهم ولا يبصرون في موضع الحال أو في ظلمات في موضع الحال فيتعلق بمحذوف ولا يبصرون حال أيضا أما من الضمير في تركهم، واما من الضمير المستكن في المجرور قبله فإن كان ترك يتعدى إلى اثنين كان في ظلمات الثاني ولا يبصرون حال ولا يجوز العكس لأن الخبر لا يكون مؤكدا.
وقرىء { صم بكم عمي } بالرفع أي هم وهي إخبار متباينة الوضع لكنها في معنى خبر واحد وهو عدم قبولهم الحق وقرىء بنصب الثلاثة وجوزوجوها أحسنها النصب على الذم والظاهر أن هذا كله من أوصاف من شبه وصف المنافقين وبوصفهم بالغ في ذلك.
{ فهم لا يرجعون } أي جوابا لأن من اشتدت عليه تلك المشاعر لا يمكن أن يرجع جوابا لمن يخاطبه وجهة المماثلة بين المنافقين والمستوقد ان قلنا أنه من تمثيل المفردات أن استيقاد النار مقابل بما أظهروا في الاسلام إذ حقنوا به دمآءهم وعصموا به ذرياتهم وأموالهم وإضآءة النار كونهم جرت عليهم أحكام الإسلام وذهاب النور مقابل بما فضحهم الله به أنهم ليسوا بمؤمنين وتركهم في ظلمات مقابل لتماديهم على كفرهم ونفاقهم. وصم وما بعده مقابل لكونهم لا يقبلون الحق والإيمان أبدا فهم لا يرجعون مقابل لكونهم لا كلمة لهم ولا مراعاة فهم كمن حرم مراجعة من يقهره.
[2.19-21]
Shafi da ba'a sani ba
{ أو كصيب } معطوف على كمثل وأوهنا للتفصيل وكان من نظر في حالهم منهم من شبهه بحال المستوقد ومنهم من شبهه بحال ذي صيب فهو على حذف مضاف يدل عليه الضمير في يجعلون. والصيب: المطر النازل والسحاب أيضا، ووزنه عند البصريين فيعل بكسر العين، وعند البغداديين بفتحها، وعند القراء فعيل فقلب.
" والسماء " المظلة والسماء ما علاك من سقف ونحوه، وجمعت على سماوات واسمية وسماء وهي جموع لا تنقاس وقرىء أو كصايب اسم فاعل من صاب يصوب وصيب أبلغ.
" والرعد " الصوت المزعج المسموع من جهة السماء.
" والبرق " الجرم النوراني الذي يشاهد ولا يثبت وجعل الصيب مقرا لهذه الأشياء على سبيل المجاز مجاز المصاحبة.
{ يجعلون أصبعهم في آذانهم } إن كان بمعنى يلقون تعدى إلى واحد وفي آذانهم متعلق يجعلون وإن كان بمعنى يصيرون كان في آذانهم في موضع المفعول الثاني.
" والصاعقة " الوقعة الشديدة من صوت الرعد معها قطعة من نار تسقط مع صوت الرعد لا تمر بشيء إلا أتت عليه وهي سريعة الخمود والصاعقة لغة تميم والتصريف جاء على التركيبين فلا تكون صاقعة مقلوبا من صاعقة خلافا لمن ذهب إلى ذلك.
وقال ابن عرفة: والصاعقة أيضا العذاب ومن في من السماء متعلق بصيب أو في موضع الصفة أي كائن من أمطار السماء وظلمات الصيب بتكاثفه وانتساجه وتتابع قطره وظلمة ظلال غمامه وظلمة الليل وأفرد ورعد وبرق وإن كانوا قد قالوا رعود وبروق أما لأنهم أرادوا المصدر فكأنه إرعاد وإبراق وإما أن أريد بهما المعنيان فلان كلا منهما يسمى بالمصدر فروعي حكم أصلهما وإن كان المعنى على الجمع ونكرت الثلاثة لأنه ليس المقصود العموم، والظاهر أن يجعلون جواب سؤال مقدر، أي فكيف حالهم لا في موضع جر صفة لذوي المحذوفة، ولا في موضع حال من الضمير في فيه والعائد محذوف ثابت عنه أل في الصواعق أي من صواعقة ومن سببية متعلقة بيجعلون.
وقرىء { من الصواقع وحذر الموت } أعربوه مفعولا من أجله ولا يكون للفعل إلا مفعول له واحد إلا بالعطف فقد يتعدد أو بالبدل وقيل: حذر مصدر، أي يحذرون حذر الموت. وقرىء: حذار مصدر حاذر، وإحاطته تعالى بهم كناية عن كونه لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به وإحاطته بالعلم والقدرة على إهلاكهم.
{ يكاد } مضارع كاد وفيها لغتان فعل وفعل ولذلك تقول كدت وكدت وهي من أفعال المقاربة.
{ يخطف } و " الخطف " أخذ الشيء بسرعة وجوزوا في يكاد أن يكون جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: كيف حالهم في ذلك البرق. وأن يكون في موضع جر صفة لذوي المقدر حذفه في صيب وأل في البرق نائب مناب الضمير وهي للعهد إذ قد تقدم ذكره.
Shafi da ba'a sani ba
وقرىء يخطب - بكسر الطاء - مضارع خطف - بفتحها وكسرها - في الماضي لغة قريش ويتخطف ويخطف ويخطف ويخطف، وما مصدرية ظرفية وانتصاب كل على الظرف سرت إليه الظرفية من إضافته لما المصدرية الظرفية وما مثل هذه يراد به العموم. تقول: أصحبك ما ذر شارق يريد العموم فكل في مثل هذا أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية ولا يراد مطلق الفعل والتقدير كل وقت اضاءة واضاءان كان متعديا فالمفعول محذوف أي أضاء لهم الطريق وعاد الضمير في فيه على الطريق أو يكون التقدير.
{ مشوا } في نوره فيعود على البرق وإن كان لازما أي كل ما لمع البرق مشوا في نوره وهذه الجملة استئناف كأنه قيل: فما حالهم في حالتي وميض البرق وخفائه قيل كذا.
وقرىء { أظلم } مبنيا للمفعول وتخريجه على أن التقدير وإذا أظلم الليل بنفسه وقال: قد جاء في شعر حبيب متعديا " قال ": هما أظلما جائي ثمت أجليا ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب. " قاموا " ثبتوا لا يبرحون لشدة الظلمة. وفاعل أظلم ضمير يعود على الليل المفهوم من سياق الكلام وصدرت الجملة بكلما والثانية بإذا.
قال الزمخشري: لأنهم حراص على وجود ما هممهم به معقودة من إمكان المشي وثابتة فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها وليس كذلك التوقف والتجسد " انتهى ".
ولا فرق هنا بين كلما وإذا لأنه متى فهم التكرار من كلما لزم منه التكرار في إذا لأن الأمر دائر بين إضاءة البرق والاظلام فمتى وجد هذا فقد هذا يلزم من تكرار وجود هذا تكرار عدم هذا ومفعول شاء محذوف وكثيرا ما يحذف لدلالة المعنى عليه خصوصا بعد لو وأدوات الشرط وتقدم ذكر الآذان والأبصار فقال: " لذهب بسمعهم وأبصارهم " وقرىء بأسماعهم وأعقب تعالى ما علقه على المشيئة بالقدرة، لأن بالمشيئة والقدرة تمام الأفعال وكان بصيغة المبالغة إذ لا أحق بها منه ولما بالغ في حال المستوقد وما عرض له بالغ في حال هؤلاء النفر وما عرض لهم من الحيرة والمبالغة في حال المشبه بهما تقتضي شدة المبالغة في حال المشبه ونحن نختار أن هذين التشبيهين هما من التمثيلات المركبة ومن المفسرين من جعل ذلك من قبيل التمثيلات المفردة فقابل شيئا من أوصاف المشبه به لشيء من أوصاف المشبه وقد تقدم شيء من ذلك في تمثيل المستوقد وأما هنا فقال قابل الله القرآن بالصيب لنزوله من علو وعماهم عن تعقله بالظلمات، والوعيد والزجر بالرعد، والنور والحجج الباهرة بالبرق وتخويفهم بجعل أصابعهم في آذانهم وتكاليف الشرع بالصواعق، ولما ذكر الله تعالى المكلفين من المؤمنين والكفار المختوم عليهم بالموافاة على الكفر والمنافقين وصفاتهم وأحوالهم وما يؤل إليه حال كل منهم وأبرز حال المنافقين في أسوأ صور الأمثال خاطب جميع الناس فقبلا عليهم بالنداء لأن فيه هدى لما يلقيه إليهم من أمر العبادة له.
ويا حرف نداء ومع كثرة النداء في القرآن لم يناد إلا بيادون سائر حروف النداء.
وأي: لها محامل وهي هنا المنادى يوصل بها إلى نداء ما فيه أل. وهما: حرف تنبيه لازم لا يجوز حذفه.
و { الناس } صفة لأي واجب رفعهما.
ولفظ { ربكم } مناسب إذ هو السيد والمصلح ومن كان مالكا أو مصلحا أحوال العبد فجدير أن يعبد ولا يشرك به ونبه بوصف الخلق على استحقاقه للعبادة دون غيره أفمن يخلق كمن لا يخلق. والخلق والاختراع والإيجاد على تقدير وترتيب.
{ والذين من قبلكم } قدم خلف المخاطبين وإن كان من قبلهم تقدم زمان خلقهم لأن علم الانسان بحال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة فتنبيههم أولا على أحوال أنفسهم أهم وآكد. وبدا أولا بصفة الخلق إذ كانت العرب مقرة بأن الله خالقها وهم المخاطبون والناس تبع لهم إذ نزل القرآن بلسانهم ودخلت من هنا على الزمان، إذ التقدير من زمن قبل زمان خلقكم وقرىء في بفتح الميم قبل منصوبا. وخرج الزمخشري ذلك على إقحام الموصول الثاني كما أقحم في يا تيم تيم عدي والأحسن في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون على إضمار مبتدأ محذوف تقديره والذين هم من قبلكم وذكر خلق من قبلهم لأنهم أصولهم فخلق أصولهم إنعام على الفروع.
Shafi da ba'a sani ba
ولعل فيها لغات ولم يجيىء في القرآن إلا أفصحها وهي للترجي والاطماع وذلك بالنسبة إلى المخاطبين والمعني إذا عبدتم ربكم رجوتم حصول التقوى وهي التي تحصل بها الوقاية من النار والفوز بالجنة فتعلقت جملة الرجاء باعبدوا. وذكر الزمخشري وابن عطية تعلقها بخلقكم والذي تؤدوا لأجله هو الأمر بالعبادة والموصول وصلته على سبيل المدح الذي تعلقت به العبادة فلم يجيىء الموصول ليحدث عنه بل في ضمن المقصود بالعبادة وأما صلته فلم يجيىء لإسناد مقصود إنما جيء بها لتتميم ما قبلها فلا يتعلق بها ترج بخلاف اعبدوا فإنها الجملة المفتتح بها أولا والمطلوبة من المخاطبين وإذا تعلقت باعبدوا ناسب خطاب لعلكم تتقون.
[2.22-23]
الذي جعل يجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف ونصبه صفة لما قبله أو على القطع وأجيز رفعه على الابتداء والخبر.
{ فلا تجعلوا لله أندادا } وهو في نهاية الضعف لمضي الصلة فلا يناسب دخول الفاء في الخبر وللربط بالاسم الظاهر وهو لله فلا تجعلوا له وأجاز مكي رحمه الله أن ينتصب على أعني وليس بالتفسير فيحتاج إلى إضمار أعني وأن ينتصب بتتقون وهو إعراب تنزه القرآن عنه، والأحسن جعل جعل بمعنى صير، فينتصب فراشا وبناء على المفعول لا يمعنى خلق فينتصبان على الحال. ومعنى فراشا: تستقرون عليها. والفراش والمهاد والبساط والقرار والوطاء نظائر، والبناء مصدر يراد به المبني فهو تشبيه بما يفهم كقوله:
والسمآء بنيناها بأييد
[الذاريات: 47] شبهت بالقبة المبنية على الأرض. ومن السماء متعلق بانزل أو في موضع الحال فتتعلق بمحذوف إذ لو تأخر لكان صفة لما فيكون التقدير من مياه السماء ونكر ماء لأن المنزل لم يكن عاما فتدخل فيه أل.
{ فأخرج به } أي بالماء. والباء للسببية وهذه السببية مجاز، إذ هو تعالى قادر على أن ينشىء الأجناس وقد أنشأها من غير مادة ولا سبب ولكن لما وجد خلقه بعض الأشياء عنه أمر ما أجرى ذلك الأمر مجرى لسبب لا انه سببه حقيقة ومن للتبعبيض وأل في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه ولا حاجة إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموع التي يتعاور بعضها موضع بعض لاكتفائها في الجمعية نحو: كم تركوا من جنات وثلاثة قروء، فقامت الثمرات مقام الثمر أو الثمار كما ذهب إليه الزمخشري وأبعد من جعل من زائدة وأل في الثمرات للاستغراق لأن زيادة من في الواجب وقيل: معرفة انفرد بجوازه الأخفش ولأن من الثمرات ما لا يكون رزقا لنا فلا يصح الاستغراق واحتمل رزقا أن يكون كالطحن. فينتصب على الحال. وأن يكون مصدرا فيكون مفعولا من أجله وقرىء من الثمرة على التوحيد ولكم في موضع الصفة ان كان رزقا بمعنى المرزوق وفي موضع المفعول إن كان مصدرا وجوز أن يتعلق بأخرج. وقدم خلق الانسان لأنه أقرب إلى معرفته ثم بخلق الآباء ثم بالأرض لأنها أقرب إليه من السماء، وقدم السماء على نزول المطر وخروج الثمرات لأنه كالمتولد بين السماء والأرض؛ والأثر متأخر عن المؤثر. قال أبو عبيدة: النداء الضد وقيل: الكفؤ والمثل. ولما كانوا اتخذوا أندادا جاء النهي عن جعل أنداد لله تعالى على حسب الواقع. وهذه الجملة متعلقة بقوله: اعبدوا، أي فوحدوه وأخلصوا له العبادة لأن أصلها هو التوحيد. وقال الزمخشري: تتعلق بلعل على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأطلع في قوله
لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموت فأطلع
[غافر: 36-37] في رواية حفص عن عاصم أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه ولا تشبهوه بخلقه " انتهى ".
فعلى هذا لا تكون لا ناهية بل نافية. وتجعلوا منصوب على جواب الترجي ولا يجوز على مذهب البصريين وفي كلامه تعليق لعلكم تتقون بخلقكم على ما مر من مذهبه الاعتزالي ويجوز أن يكون متعلقا بالموصول وصلاته إذا جعلت. الذي خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة على توحيده.
Shafi da ba'a sani ba
{ فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } جملة حالية فيها هزء لترك الأنداد أي أنتم من أهل العلم والتمييز بين الحقائق فلا تفعلوا فعل أجهل العلم أو أبعدهم عن الفطنة. وقدروا مفعول تعلمون أنواعا من التقادير والأولى أن يكون متروكا إذ المقصود إثبات أنهم من أولي العلم.
قال ابن عطية: هذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإنسان.. إلى آخر كلامه وهذا خطأ في التركيب لأنه لا ينوب أن ومعمولاها مناب مفعولي أعطى بخلاف باب ظن.
{ وإن كنتم في ريب }: " الآية " ليست ان بمعنى إذ ولا كان هنا ماضية المعنى واللفظ ولم تخلصه ان للاستقبال وإن كان الريب وقعوا فيه حقيقة كما زعموا بل أخرج هذا الشرط في صورة المستقبل أي هو مما يعرض وقوعه وإن كان لا يمكن وجوده إذ وضوح انتفاء أن يكونوا في ريب من جهته غير خاف، وفي ريب هو من تنزيل المعاني منزلة الاجرام. ومن: تحتمل ابتداء الغاية والسببية. وما موصولة، أي من الذي نزلنا والعائد محذوف أي نزلناه وأجيز أن تكون نكرة موصوفة ونزلنا تضعيفه مرادف للهمزة التي للنقل. وقرىء: أنزلنا وليس التضعيف هنا دالا على نزوله منجما في أوقات مختلفة خلافا للزمخشري قال: فإن قلت: لم قيل مما نزلنا على لفظ التنزيل دون الانزال؟ قلت: لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم وهو من مجازه لمكان التحدي. " انتهى ".
وهذا الذي قاله الزمخشري في تضعيف عين الكلمة هو الذي يعبر عنه بالتكثير أي يفعل ذلك مرة بعد مرة فيدل على هذا المعنى بالتضعيف وذهل الزمخشري عن كون ذلك إنما يكون في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية، نحو: خرجت زيدا وفتحت الباب وقطعت وذبحت. فلا يقال: جلس زيد ولا قعد ولا صوم.
ونزلنا لم يكن متعديا قبل التضعيف إنما تعدى بالتضعيف أو الهمزة فإن جاء التكثير في لازم فهو قليل ويبقى على حاله لازما قالوا مات المال وموت إذا كثر ذلك فيه وأيضا فالتضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة الفعل إما أن يصير اللازم متعديا فلا ونزلنا كان قبل التضعيف لازما تقول نزل القرآن، ويدل على بطلان ما ذهب إليه قوله تعالى:
لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة
[الفرقان: 32]. ففي قوله تعالى:
{ نزلنا على عبدنا } التفات إذ هو خروج من غائب إلى متكلم ويفيد التفخيم للمنزل والمنزل عليه، وفي إضافة العبد إليه تعالى تنبيه على عظم قدره واختصاصه بخالص العبودية. ولفظ العبد عام وخاص وهذا من الخاص لا تدعني إلا بيا عبدها لأنه أشرف أسمائي.
وقرىء على عبادنا. يعني الرسول وأمته. قيل: ويحتمل أن يراد بالعباد النبيون الذين أنزل عليهم الكتب والرسول عليه السلام أول مقصود بذلك. والسورة المنزلة الرفيعة وسميت سورة القرآن بذلك لأنه يشرف بها قارئها. وقيل: قطعة من القرآن من أسأرت من السؤر والهمزة في سؤرة لغة وطلب منهم الإتيان بمطلق سورة وهي التي أقلها ثلاث آيات وتقدم وإن كنتم في ريب مما نزلنا ولم يكن التركيب في ريب من عبدنا، فناسب أن يكون الضمير في من مثله عائدا على المنزل لا على المنزل عليه. والمطلوب في غير هذا أن يأتوا بسورة مثله وبعشر سور مثله، وقال علي أن يأتوا بمثل هذا القرآن. ومن في موضع الصفة: أي من كلام مثله. وقول من قال: انها لبيان الجنس أو زائدة مرغوب عنه. والمثلية في حسن النظم وبديع الوصف وغرابة الأسلوب والأخبار بالغيب مما كان وما يكون ومما احتوى عليه من الأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والحكم والمواعظ والأمثال والصدق والأمن من التحريف والتبديل. وقيل: الضمير في مثله عائد على المنزل عليه فمن متعلقة بقوله: فاتوا، أي فاتوا من مثل الرسول بسورة. أو في موضع الصفة، أي بسورة كائنة وصادرة من رجل مثله. وفي كلا التقديرين من الابتداء الغاية والمثلية تتجه على كونه على الفطرة الأصلية أميا لا يحسن الكتابة ولا دارس العلماء ولا جالس الحكما ولا فارق وطنه الذي نشأ فيه. وإذا كان الضمير في من مثله عائدا على المنزل فذكر المثل على سبيل الفرض.
والشهداء جمع شهيد للمبالغة كعليم وعلماء. وكونه جمع شاهد كشاعر وشعراء وليس من باب فاعل. وقال الزمخشري: ولا قصد إلى مثل ونظير هنا ولكنه مثل قوله القبعثري للحجاج.
Shafi da ba'a sani ba
وقال له: لا حملنك على الأدهم مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب. أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقوة وسط اليد، ولم يقصد أحدا يجعله مثلا الحجاج. " انتهى ". وقد فسر هو المثلية: في كونه بشرا عربيا أميا لم يقرأ الكتب. فقوله لا مثل ولا نظير ليس بظاهر لأن المماثل في هذا الشيء الخاص موجود ومن دون الله يحتمل أن يتعلق بشهداءكم أي ادعوا من اتخذتم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم أنكم على الحق أو أعوانكم من دون الله أي من دون أولياء الله ومن تستعينون بهم دون الله أو يتعلق بادعوا أي وادعوا من دون الله أي لا تستشهدوا بالله فتقولوا الله يشهد ان ما ندعيه حق ولم يكتف في تعجيزهم بأن يعارضوه حتى أمرهم أن يدعوا شهداءهم فيستعينون بهم على ذلك وهو أمر تعجيز.
والظاهر أن { إن كنتم صدقين } في كونكم في ريب من المنزل على عبدنا، وجواب الشرط محذوف أي فأتواه
[2.24-27]
ولما كان الأمر أمر تهكم وتعجيز أخبر أنهم ليسوا قادرين على المعارضة بقوله: ولن تفعلوا. وجاء بلن وإن كان الغالب أنها تدخل على الممكن تهكما بهم على أنها ربما تدخل على الممتنع وعبر بالفعل عن الاتيان لأنه ما من شيء من الاحداث إلا يصح أن يعبر عنه بالفعل. وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل لم الجزم. قال: وجزمت لم لأنها أشبهت لا في التبرئة في أنهما ينفيان وكما تحذف لا تنوين الاسم كذلك تحذف لم الحركة ولن تفعلوا إثارة لهممهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وفيه دليل على إثبات النبوة إذ هو إخبار بالغيب ولم يقع من أحد معارضة أصلا ولن تفعلوا جملة اعتراض لا موضع لها من الإعراب.
وقال الزمخشري: واقتران الفعل بلن في هذه الجملة دون لا وان كانتا أختين في نفس المستقبل، لأن في لن توكيد أو تشديد أتقول لصاحبك لا أقيم غدا. فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غدا كما تفعل في أنا مقيم واني مقيم. " انتهى ".
وهذا مخالف لما حكي عنه أن لن تقتضي التأبيد فيما نفي. وقال ابن خطيب: زملكا لن تنفي ما قرب ولا يمتد النفي فيها وهذا يكاد يكون عكس قول الزمخشري وكون لن تقتضي التأكيد أو التأبيد أو نفي ما قرب أقوال متأخرين والرجوع ذلك لمستقرىء اللسان سيبويه ومن في طبقته قال سيبويه: لن نفي لقول سيفعل، ولا نفي لقول يفعل. " انتهى ". وهو نص على أنهما ينفيان المستقبل.
{ فاتقوا النار } جواب على الشرط الذي هو فإن لم تفعلوا وكني به عن ترك العناد لأن من عاند بعد وضوح الحق له استوجب العقاب بالنار واتقاء النار من نتائج ترك العناد. قيل وعرفت النار ووصفت بالتي وصلت لتقدم ذكرها في سورة التحريم إذ تلك الآية نزلت بمكة وهذه بالمدينة.
وقرىء { وقودها } على أن يراد به الذي توقد به. ووقودها - بضم الواو - وهو مصدر أي ذووا وقودها أو جعلوا المصدر مبالغة وحكي المصدر بالفتح أيضا وقرىء وقيدها أي موقودها.
{ والحجارة } يناسب أن تفسر بالأصنام لقوله تعالى:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
Shafi da ba'a sani ba