Tafsirin Mizani
تفسير الميزان - العلامة الطباطبائي
Nau'ikan
بحث اجتماعي
المتأمل في شئون الاجتماع الإنساني، والناظر في الخواص والآثار التي يتعقبها هذا الأمر المسمى بالاجتماع من جهة أنه اجتماع لا يشك في أن هذا الاجتماع إنما كونته ثم شعبته وبسطته إلى شعبه وأطرافه الطبيعة الإنسانية، لما استشعرت بإلهام من الله سبحانه بجهات حاجتها في البقاء والاستكمال إلى أفعال اجتماعية فتلتجىء إلى الاجتماع وتلزمها لتوفق إلى أفعالها وحركاتها وسكناتها في مهد تربية الاجتماع وبمعونته.
ثم استشعرت وألهمت بعلوم صور ذهنية وإدراكات توقعها.
على المادة، وعلى حوائجها فيها وعلى أفعالها، وجهات أفعالها تكون هي الوصلة والرابطة بينها وبين أفعالها وحوائجها كاعتقاد الحسن والقبح، وما يجب، وما ينبغي، وسائر الأصول الاجتماعية من الرئاسة والمرءوسية والملك والاختصاص، والمعاملات المشتركة والمختصة، وسائر القواعد والنواميس العمومية والآداب والرسوم القومية التي لا تخلو عن التحول والاختلاف باختلاف الأقوام والمناطق والأعصار، فجميع هذه المعاني والقواعد المستقرة عليها من صنع الطبيعة الإنسانية بإلهام من الله سبحانه، تلطفت بها طبيعة الإنسان، لتمثل بها ما تعتقدها وتريدها من المعاني في الخارج، ثم تتحرك إليها بالعمل، والفعل والترك، والاستكمال.
والتوجه العبادي إلى الله سبحانه، وهو المنزه عن شئون المادة، والمقدس عن تعلق الحس المادي إذا أريد أن يتجاوز حد القلب والضمير، وتنزل على موطن الأفعال - وهي لا تدور إلا بين الماديات - لم يكن في ذلك بد ومخلص من أن يكون على سبيل التمثيل بأن يلاحظ التوجهات القلبية على اختلاف خصوصياتها، ثم تمثل في الفعل بما يناسبها من هيئات الأفعال وأشكالها، كالسجدة يراد بها التذلل، والركوع يراد به التعظيم، والطواف يراد به تفدية النفس، والقيام يراد به التكبير، والوضوء والغسل يراد بهما الطهارة للحضور ونحو ذلك.
ولا شك أن التوجه إلى المعبود، واستقباله من العبد في عبوديته روح عبادته، التي لولاها لم يكن لها حياة ولا كينونة، وإلى تمثيله تحتاج العبادة في كمالها وثباتها واستقرار تحققها.
وقد كان الوثنيون، وعبدة الكواكب وسائر الأجسام من الإنسان وغيره يستقبلون معبوداتهم وآلهتهم، ويتوجهون إليهم بالأبدان في أمكنة متقاربة.
لكن دين الأنبياء ونخص بالذكر من بينها دين الإسلام الذي يصدقها جميعا وضع الكعبة قبلة، وأمر باستقبالها في الصلاة، التي لا يعذر فيها مسلم، أينما كان من أقطار الأرض وآفاقها، ونهى عن استقبالها واستدبارها في حالات وندب إلى ذلك في أخرى فاحتفظ على قلب الإنسان بالتوجه إلى بيت الله، وأن لا ينسى ربه في خلوته وجلوته، وقيامه وقعوده، ومنامه ويقظته، ونسكه وعبادته حتى في أخس حالاته وأرداها فهذا بالنظر إلى الفرد.
وأما بالنظر إلى الاجتماع، فالأمر أعجب والأثر أجلى وأوقع فقد جمع الناس على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم على التوجه إلى نقطة واحدة، يمثل بذلك وحدتهم الفكرية وارتباط جامعتهم، والتيام قلوبهم، وهذا ألطف روح يمكن أن تنفذ في جميع شئون الأفراد في حيويتها المادية والمعنوية، تعطي من الاجتماع أرقاه، ومن الوحدة أوفاها وأقواها، خص الله تعالى بها عباده المسلمين، وحفظ به وحدة دينهم، وشوكة جمعهم، حتى بعد أن تحزبوا أحزابا، وافترقوا مذاهب وطرائق قددا، لا يجتمع منهم اثنان على رأي، نشكر الله تعالى على آلائه
Shafi 196