وقيل لهم: من حل جيوبه أو مد طرفه إلى قاتله أو اتقى بيده أو رجله فهو ملعون مردودة توبته؛ فكانوا يقتلونهم إلى المساء. فلما كثر فيهم القتل عاد موسى وهارون وبكيا وتضرعا وقالا: يا رب هلكت بنو إسرائيل البقية البقية؛ فأمرهم الله تعالى أن يرفعوا السلاح عنهم ويكفوا عن القتل وقد قتل منهم ألوف كثيرة فاشتد ذلك على موسى، فأوحى الله تعالى إليه أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنة؛ فكان من قتل منهم شهيدا ومن بقي منهم كفر عنه ذنوبه، وذلك قوله تعالى: { فتاب عليكم }؛ أي ففعلتم ما أمركم به فتاب عليكم؛ أي فتجاوز عنكم، { إنه هو التواب الرحيم }.
وفي بعض التفاسير: أن موسى عليه السلام قال لهم بعدما رجع من الجبل وأعطاه الله التوراة: أنكم ظلمتم أنفسكم بعبادتكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم؛ أي ليقتل الذين لم يعبدوا العجل الذين عبدوا العجل. فقالوا: يا موسى نحن نفعل ذلك، فأخذ عليهم المواثيق ليصبرن على القتل، فأصبحوا بأفنية البيوت كل بني أب على حدة فأتاهم هارون والاثنا عشر ألفا الذين لم يعبدوا العجل بالسيوف، فقال لهم هارون: هؤلاء إخوانكم قد أتوكم شاهرين السيوف فاتقوا الله واصبروا، فلعن الله رجلا حل جنوته أو قام من مجلسه أو مد طرفه إليهم أو اتقاهم بيده أو رجله. فقالوا: آمين. فجعلوا يقتلونهم إلى المساء.
وقام موسى يدعو ربه لما شق عليه من كثرة الدماء. فنزلت التوراة، وقيل له: ارفع السيف، فإني قد قبلت توبتهم جميعا من قتل منهم ومن لم يقتل، وجعلت ذلك القتل لهم شهادة وغفرت لمن بقي منهم. فكان القتلى سبعين ألفا والقاتلون اثنا عشر ألفا. وكان السبب في امتحانهم بذلك: أنه كان فيهم من عرف بطلان عبادة العجل؛ إلا أنهم لم ينهوا الآخرين لخشية وقوع القتل فيما بينهم، فابتلاهم الله بما تركوا النهي عن المنكر لأجله.
[2.55]
قوله عز وجل: { وإذ قلتم يموسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة }؛ وذلك أن الله عز وجل أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل؛ فاختار موسى من قومه سبعين رجلا من خيارهم؛ وقال لهم: صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. ففعلوا ذلك، فخرج بهم موسى إلى طور سيناء لميقات ربه؛ فلما بلغوا هنالك أمرهم موسى بالمكث في أسفل الجبل وصعد هو؛ فقالوا لموسى: أطلب لنا نسمع كلام الله؛ فوقع على الجبل غمام أبيض؛ فغشاه كله.
وكان موسى عليه السلام إذا ناجى ربه وقع على وجهه نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه؛ فضرب دونه الحجاب؛ ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام؛ وخروا سجدا؛ فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه، فأسمعهم الله تعالى:
إنني أنا الله لا إله إلا أنا
[طه: 14] أخرجتكم من مصر فاعبدوني ولا تعبدوا غيري؛ فلما فرغ موسى وانكشف الغمام؛ وأقبل إليهم، قالوا: { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } أي لا نصدق حتى نرى الله عيانا وعلانية، { فأخذتكم الصعقة }؛ أي فأخذتهم الصاعقة؛ أي نزلت نار من السماء فأحرقتهم جميعا. ويقال: سمعوا صوتا فماتوا. يقال: صعق فلان؛ أي هلك، { وأنتم تنظرون }.
قرأ عمر وعثمان وعلي بغير ألف (الصعقة). وقرأ ابن عباس: (جهرة) بفتح الهاء وهما لغتان. فلبثوا موتى يوما وليلة.
[2.56]
Shafi da ba'a sani ba