Tafsir al-Uthaymin: Ghafir
تفسير العثيمين: غافر
Mai Buga Littafi
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٤٣٧ هـ
Inda aka buga
المملكة العربية السعودية
Nau'ikan
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ بالله مِن شُرور أَنْفُسنا ومن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللهُ بالهُدَى ودِين الحَقِّ، فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في الله حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ اليَقينُ، فصَلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدّين، أَمَّا بَعْدُ:
أَمَّا بَعْدُ: فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالحٍ العُثَيْمِين - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنَيْزَةَ صَباحَ كُلِّ يومٍ أثناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة، حَلقاتٌ فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدَايَةُ التَّسْجِيلِ الصَّوتيِّ لَهَا مِن سُورة النُّور وَمَا بَعدَها؛ حتَّى بلَغ فَضيلتُه قَولَه تَعالَى في سُورة الزُّخرف: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَيْن يَدَيِ الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَيْنِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ،
1 / 5
المُتوفَّى سَنَةَ (٨٦٤ هـ) (^١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد بنِ سابِق الدِّين الخُضَيْرِيِّ السُّيُوطِيِّ، المُتوفَّى سنة (٩١١ هـ) (^٢). تغمَّدهما الله بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجَزاءِ.
وسَعْيًا - بإِذْنِ اللهِ تَعالَى - لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَّيخِ مُحمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيْمِين الخَيرَّيةِ واجِباتِه فِي شرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لِإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللهَ تعالَى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ؛ نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيْرَ الجزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعليَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مجُيبٌ.
وَصَلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ
فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ
١٤ مُحَرَم ١٤٣٧ هـ
* * *
_________
(^١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
(^٢) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
الحمد لله ربِّ العالمَين، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تَبِعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
إن العِلْم يَحتاج إلى مُكابَدة وإلى مُثابَرة وإلى دأَبٍ وكلَّما عوَّد الإنسان نفسَه على ذلك اعتاده وصار أَمْرًا سهلًا عليه.
أمَّا إذا ركَنَ إلى الكَسَل والدَّعة والسُّكون فإنه يَصعُب عليه جِدًّا أن يَكون مجُتَهِدًا؛ لأن النفس وما تَعوَّدت، والإنسان في طلَب العِلْم كالمُجاهِد في سبيل الله في إعداد العُدَّة؛ لأن الله تعالى جعَل الجِهاد في سبيل الله والعِلْم عَديلَيْن؛ حيث قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢]، يَعنِي: لا يُمكِن أن يَخرُجوا جميعًا في الجِهاد، ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢] يَعنِي: وقعَدَت طائِفة ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾ ﴿لِيَتَفَقَّهُوا﴾ الفاعِل همُ الفِرْقة الباقِية ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾، بل قال بعضُ العُلَماء ﵏: إن طلَب العِلْم أَوكَدُ من الجِهاد في سبيل الله؛ لأن طلَب العِلْم يَنبَني عليه الجِهاد والعِلْم لا يَنبَني على الجِهاد، بل إن المُجاهِد لا يُمكِن أن يُجاهِد على الوجه الصحيح إلَّا بطلَب العِلْم؛ فلِهَذا كان أَوكَدَ.
إِذَنْ: فبَقاء الإنسان يُطالِع ويُراجِع ويُذاكِر ويَحفَظ في العِلْم الشَّرْعيِّ هو كالمُجاهِد في سبيل الله سَواءً بسَواءٍ.
1 / 7
ولو سُئِلْنا: أيُّهما أفضَلُ الجِهاد في سبيل الله أو طلَب العِلْم؟
قُلْنا: لا يُمكِن أن نُفضِّل أحدَهما على الآخَر على الإطلاق، فمِن الناس مَن نَقول له: طلَبُ العِلْم في حقِّك أفضَلُ. ومن الناس مَن نَقول: الجِهاد في حقِّكَ أفضَلُ؛ ولهذا تَجِدون أَجْوبة النَّبيِّ ﷺ في التَّفاضُل بين الأعمال أنه يُخاطِب كل إنسان بما تَقتَضِيه حاله، وبهذا يَنفَكُّ الإشكال الذي يَرِد على النَّفْس؛ حيث يَقول الرسول ﵊ في بعض الأحاديث: "أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ كَذا وَكَذا"، وفي بعضِها: "أَفْضَلُ الأَعْمالِ كَذا وكَذا"، فيُقال: إن هذا الاختِلافَ هو على حَسب حال المُخاطَب نَقول: بعض الناس طلَب العِلْم أَفضَلُ في حقِّهم، وبعض الناس الجِهاد في حَقِّهم أفضَلُ، فمَن كان وِعاءً للعِلْم حافِظًا فاهِمًا مُكابِدًا للعِلْم، فهذا طلَب العِلْم في حقه أَفضَلُ؛ لأنه يُنتِج أكثَرَ، وَينفَع المُسلِمين أكثَرَ، ومَن كان على غير هذه الحالِ قليلَ الحِفْظ، قليلَ الفَهْم ولكنه شُجاع قوِيٌّ بطَلٌ فهُنا الجِهاد في حَقِّه أفضَلُ، ﴿وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾.
وقبل البَدْء بالتَّفْسير نُقدِّم مُقدِّمة - نَسأَل الله ﷾ أن يَنفَع بها -، فنَقولُ:
إنَّ مِنْ نِعْمَة الله ﷾ على العَبْد أن يُحبِّب إليه العِلْم، وذلك لأن العِلْم الشَّرْعيَّ مِفتاح كل خير؛ لقول النَّبيِّ ﷺ: "مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقَهْهُ فِي الدِّينِ" (^١) وهذه بُشْرى لكُلِّ مَن فقَّهَه الله في دِينه وعلَّمه، أنَّ الله أَراد به خيرًا، والفِقْه في الدِّين هو مَعرِفة الأحكام الشرعية من أدِلَّتها، ثُم تَطبيق هذه الأحكامِ التي عُلِّمها؛
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا، رقم (٧١)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، رقم (١٠٣٧)، من حديث معاوية بن أبي سفيان ﵄.
1 / 8
لأن مَن لم يُطبِّق فليس بفِقيه؛ بل هو قارِئ؛ ولهذا حذَّر عبدُ الله بن مسعود ﵁ من أن يَكثُر القُرَّاء ويَقِلَّ الفُقَهاء (^١)، فالفَقيه في دِين الله هو الذي يَعلَم شريعة الله ثُم يُطبِّقها على - نفسه وعلى غيره، بقَدْر استِطاعته.
وطالب العِلْم عليه مَسؤُولية كبيرة؛ لأنه واسِطة بين الخَلْق وبين الرسول ﷺ إذ إنَّه يَنقُل شريعة الرسول - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - إلى أُمَّته؛ ولهذا يَجِب أن يَكون أُسْوة حسَنة في عِباداته وأخلاقه ومُعامَلاته؛ لأنه إذا كان أُسوة حَسَنة في ذلك، فقد أَثمَر العِلْم في حقِّه ثمَراته الجَليلة، ولأنه إذا كان أُسوة للنَّبيِّ ﷺ في ذلك أَحبَّه الناس وأَلِفوه، واقتَدَوْا به، وصار إمامًا، وإن لم يَكُن إمامًا كبيرًا؛ لكنه إمام بحَسَبِ حاله، وكلَّما ازداد الإنسانُ عِلْمًا وتَمَسُّكًا بما علِم، ازداد احتِرام النَّاس له، واقتِداؤُهم به، وجَعْلهم إيَّاه أُسوةً.
ثُم إن طالِب العِلْم يَجِب عليه الإخلاصُ لله ﷿ في طلَبه؛ لأن الإخلاص هو أهمُّ شيء، وهو الذي يَكون به تَحقيق ما أَراده العَبْد، والإخلاص لله في طلَب العِلْم أَشار الإمامُ أَحمَدُ ﵀ إلى شيء منه، فقال: العِلْم لا يَعدِله شيء لمَن صحَّتْ نِيَّته. قالوا: وبِمَ تَصِحُّ النِّيَّة؟ قال: يَنوِي بذلك رَفْع الجَهْل عن نَفْسه وعن غيره (^٢).
وهذا لا شكَّ أنه تَصحيح النِّيَّة، لكنه ليس كلُّه، أو ليس كلُّه تَصحيحَ النِّية، بل هناك أَشياءُ تَجِبُ مُلاحظُتها أيضًا، وذلك بأن يَنوِيَ بطلَب العِلْم امتِثال أَمْر الله ﷾؛ لأن الله أَمَر بالعِلْم، ورغَّب فيه، فقال تَعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
_________
(^١) أخرجه مالك في الموطأ (١/ ١٧٣، رقم ٧٧)، والدارمي في السنن رقم (١٩١، ١٩٢).
(^٢) انظر الفروع لابن مفلح (٢/ ٣٣٩).
1 / 9
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ﴾ [محمد: ١٩]، وقال الله تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: ١١]، وهذا شيء مُشاهَد، بَيِّنوا لي تاجِرًا من أكبَر التُّجَّار في عهد الأئِمَّة الأربَعة حصَل له من رَفْع الذِّكر ما حَصَل لهؤلاءِ الأئِمَّة الأربعة، لن تَجِدوا إلى ذلك سبيلًا؛ فأَهْل العِلْم مَرفوعون عِند الله، ومَرفوعون عِند العِبَاد، مَرفوعون في حَياتهم ومَرفوعون بعد مَماتِهم، حتى وإن نَالَ أحَدًا منهم ما يَنالُه من التَّعذيب أو المُضايَقة، أو ما أَشبَه ذلك فإنه يَزداد بذلك رِفْعة عِند الله ورِفْعة عِند العِباد.
فأنت إذا نَوَيْت بطلَبك للعِلْم امتِثال أَمْر الله، صارَت كلُّ حرَكة تَتحَرَّكها في هذا المَجالِ عِبادة، إن راجَعْت الدَّرْس فعِبادة، وإن حَفِظت فعِبادة، وإن مَشَيْت فعِبادة، وقد ثبَت عن النَّبيِّ ﷺ أن "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلمًا، سَهَّلَ الله لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ" (^١).
وهذه مسائل تَغيب عنَّا كثيرًا:
الأولى: كثيرًا ما نُراجِع الكُتُب لتَحقيق مَسأَلة ما، ولكن يَغيبُ عنَّا أَنَّنا الآنَ في عِبادة نَرجو بها ثَواب الله؛ لكن إذا استَحضَر طالِب العِلْم أنه يَمتَثِل أَمْر الله ﷾ بطَلَب العِلْم، صارَ طلَبُه للعِلْم عِبادة.
الثانية: أن يَنوِيَ بطلَب العِلْم حِفْظ الشريعة؛ لأنَّ الشريعة تُحفَظ برِجالها؛ ولهذا قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -: "إِنَّ الله لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب العلم قبل القول والعمل، معلقًا مجزومًا به، ووصله مسلم: كتاب الذِّكر والدعاء والتوبة، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، رقم (٢٦٩٩)، من حديث أبي هريرة ﵁.
1 / 10
مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِمَوْتِ الْعُلَمَاءِ؛ حَتَّى إِذَا لَمْ يَجِدِ النَّاسُ عُلَمَاءَ يَسْتَفْتُونَهُمُ، اسْتَفْتَوْا أُنَاسًا جُهَّالًا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" (^١).
إِذَنْ: حِفْظ الشريعة يَكون بالعُلَماء، برِجالها فانْوِ بذلك - أي: بطلَبك العِلْم - حِفْظ الشريعة، ونِعْمَ الرجُلُ أنتَ؛ إذا كنْت خِزانة لشَريعة الله ﷿! .
الثالِثة: أن يَنوِيَ بهذا - أي: بطلَبه العِلْم - حِماية الشَّريعة والذَّوْد عنها؛ لأن الشَّريعة لها أَعداءٌ، أعداءٌ مُعلِنون بعَداوتهم، وأَعداءٌ ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ [النساء: ١٠٨]، فلها أَعداءٌ؛ فأنت انْوِ بطلَبك العِلْم حِماية الشَّريعة، والدِّفاع عنها؛ وإذا كان هذا مَقصودَ طالِب العِلْم، فإنه سوف يَختار الجِهَة التي يَكون غَزو أعداء المُسلِمين من ناحِيَتها، وعلى هذا يَجِبُ أن يَكونَ على عِلْمٍ بما يَجرِي في الساحة من الأفكار الرَّديئة أو العقائِد الفاسِدة.
ونَضرِب مثَلًا بوَقْت من الأَوْقات مَرَّ على الناس وهُمْ لا يَعرِفون مَذاهِبَ أهل التَّعْطيل، ولا يَعرِفون الأفكار المُنحرِفة الهَدَّامة؛ لأنَّهم لم يَخرُجوا من بلادهم، ولم يَفِد إليهم أحَدٌ من غيرهم، فهم مُلتَفُّون على عُلَمائهم، ولا يَعرِفون إلَّا الحَقَّ، هؤلاء لا يُهِمُّهم أن يَشتَغِلوا بأمور أخرى من وَسائِل العِلْم، أو الدِّفاع عن الشَّريعة؛ لأنَّهم آمِنون، لكن إذا جاء العَدوُّ فلا بُدَّ أن نَستَعِدَّ له، وأن يَكون استِعْدادنا بسِلاح مُناسِب لسِلاحه، فمِن المَعلوم مثَلًا أنَّ مَن هَاجَمَك بالمَدافِع والصواريخ، لا يَصِحُّ ولا يَستَقيم
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، رقم (١٠٠)، ومسلم: كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، رقم (٢٦٧٣)، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ﵄.
1 / 11
أن تُدافِعه بما يُسمَّى بالسِّلاح الأبيض بالخَناجِر والسيوف وما أَشبَهها؛ لأن الواجِب أن تَستَعدَّ لكل عَدوٍّ بما يُناسِب سِلاحه.
فالآنَ صار في الساحة أَفكار رَديئة خَبيثة، إن لم تَكُن مُلحِدة فهِيَ إلى الإِلحْاد أقرَبُ من الاعتِدال، ولا حاجةَ إلى التَّخصيص؛ لأنه مَعلوم عند كَثير مِنْكم.
فنَحتاج أن نَعرِف هذه الأفكارَ وكَيفَ نُبطِلها، وإني أَقول لكُمْ: إن جميع الأفكار المُنحرِفة إبطالُها سَهْل جِدّا، حتى وإن هَوَّلوا الأمر، وإن ضَخُمُوا فهُمْ كالإِسْفِنج، اعصُرْه بيَدِك يَخرْج كلُّ ما فيه، ولا تَتَهيَّبوا لأنهم ليس عِندهم عِلْم مَسموع ولا عَقْل مَصنوع، فلا بُدَّ أنَّ الإنسان إذا كان قد نوَى بطلَب العِلْم حماية الشريعة والدِّفاع عنها، لا بُدَّ أن يَعرِف ما يَكون في الساحة، حتى يَستَطيع أن يُدافِع، ولكل مَقامٍ مَقال، ولكل مَكان ما يُناسِبه.
وإني أَقولُ لكُم: إن حِماية الشريعة والدِّفاع عنها لا يَكون إلَّا برِجالها، لو ألَك كُنت في مَكْتبة، ومعَك جماعة ودخَل رجُل مُلحِد يُقرِّر الإلحاد، وأنتُمْ لا عِلْمَ عِنْدكم، لكن المَكتَبة مَملوءة من الكتُب التي تَرُدُّ على المُلحِدين، وتُبيِّن زَيْف ما هُم عليه، فلا يُمكِن أن يَقفِز كِتاب منها من أَجْل أن يَرُدَّ على هذا المُلحِدِ؛ فالكُتُب وإن كثُرَتْ لا تُفيد، لا بُدَّ من عُلَماء، وإذا كان في هذا المَكانُ الذي ذكَرْت إذا كان فيه عالِمٌ! فسوف يَتكلَّم بما يَرُدُّ قول هذا المُلحِدِ، حتى يَنكِص على عَقِبيه. هَذِه أُمور ثلاثة كلُّها تَتَرتَّب على إخلاص النِّيَّة.
الرابِعة: ما أَشار إليه الإمامُ أَحمَدُ ﵀ أَنْ يَنوِيَ رَفْع الجَهْل عن نَفْسه وعن غيره، ومتى كان يَنوِي ذلك لا بُدَّ أن يَجِدَّ في الطلَب، لأنَّ مَن أَراد الغِنَى لا بُدَّ أن يَكتَسِب، ولا بُدَّ أن يَتَّجِر، ولا بُدَّ أن يَخوض جميع مَيادين التِّجارة؛ فإذا كان يُريد
1 / 12
رَفْع الجَهْل عن نفسه فليس من المُمكِن، ولا من المَعقول أن يَجلِس من غير تَعلُّم، لا بُدَّأن يَجِدَّ في الطَلب.
وإذا كان يُريد رَفْع الجَهْل عن غيره فلا بُدَّ أن يَحرِص غاية الحِرْص على نَشْر العِلْم بالوَسائِل المُناسِبة، الوسائِل القَويَّة في كل مجَال:
أولًا: يُمكِن أن يَنشُر العِلْم عن طريق الحَديث في المَجالِس العادِيَّة؛ جلَس مجَلِسًا في وَليمة في أي مَكان، يُمكِن أن يَنشُر عِلْمه، وذلك بالطريقة اللَّبِقة المُحبَّبة للنُّفوس، والتي لا تُوجِب المَلَل والاستِثْقال، يُمكِن أن يُورِد مَسأَلة من المَسائِل في هذا الجَمْعِ الذي عِنده يُورِد مَسألة يَقول: ما تَقولون في رجُلٍ فَعَل كذا وكذا، أو قال كذا وكذا؛ أو يَأتِي بمَسأَلة إلغازٍ حتَّى يَفتَح الأَذْهان، وحِينئذٍ يَدخُل في تعليم الناس.
لسْتُ أَقولُ: افرِضْ نَفْسك في المَجلِس الذي أنت فيه؛ لأن هذا صَعْب على النُّفوس، لكن اجلِبْهم إلى العِلْم بالطرُق المُحبَّبة المُناسِبة، حتى يَشْتَغِل المَجلِس بالعِلْم مُناقَشة، أو إلقاءً، أو ما أَشبَه ذلك.
ثانيًا: كذلك أيضًا يَنشُر عِلْمه عن طريق الأشرِطة، والأشرِطة - ولله الحمد - نفَع الله بها نَفْعًا كثيرًا، خُصوصًا وأنَّ الناس كثير مِنهم - وخاصَّة من الشَّباب - يَتلقَّوْن هذه الأشرِطةَ بشغَف ولَهف، لا تَكاد تَخرُج إلَّا والناس يَتلَقَّوْنها وَينتَفِعون بها، فهذه الأَشرِطةُ - ولله الحمد - فيها مَصلَحة كبيرة ونَشْر للعِلْم، وليس في مَكانِك أو بلَدِك، أو مَنطِقتك، بل إنه يَتَعدَّى إلى خارِج بلادِك، كما سمِعنا أنَّ أَشرِطة الدُّعاة والعُلَماء تَذهَب إلى أماكِنَ بَعيدةٍ. هذه من وَسائِل نَشْر العِلْم.
ثالِثًا: يُمكِن أن تَنشُر العِلْم عن طَريق الكِتابة، كِتابة الرَّسائِل، تَأليف كُتُب، نَشرة وَرَقية، وما أَشبَه ذلك، بقَدْر المُستَطاع؛ حتى تَنشُر عِلْمك، وتَنفَع وتَنتَفِع.
1 / 13
وهناك نَشْر للعِلْم بطَريق خَفيٍّ، يَخفَى على طالِب العِلْم، أو على كثير من طلَبة العِلْم، ألَا وهو نَشْر العِلْم عن طريق العمَل به، كثيرًا ما يَرقُب النَّاس هذا العالِمَ، ويَرَوْن ماذا يَصنَع، فيَقتَدون به، قال بعض الناس: إنه كان يُصلِّي. فقال بعض الذين شاهَدوه: إنَّك تَفعَل كذا وكذا في صلاتِك. فانظُرْ كيف كان الناس يُراقِبون أَفعال طالِب العِلْم من أَجْل أن يَقتَدوا به، وهذا من طريق نَشْر العِلْم، بل قد يَكون هذا من أَبلَغِ الطُّرُق التي يَتَأثَّر بها الناس؛ لأنَّ تَأثُّر الناس بالفِعْل قد يَكون أَشدَّ وأقوَى من تَأثُّرهم بالقَوْل؛ ولهذا بمرِّر ما أَسلَفْناه من أنَّ طالِب العِلْم لا يَكون فَقيهًا إلَّا إذا عمِل بعِلْمه، وإلَّا فهو قارِئ وليس بفِقيهٍ.
وبهذه المُناسَبة أَوَدُّ أن أَحُثَّكم على مَكارِم الأخلاق، من: السَّماحة، وبَذْل السَّلام، وبَذْل المَعروف، والتَّسامُح فيما بينكم، ومُلاقاة الناس بالبِشْر، وطلاقة الوَجْه، فقد كان من صِفات النَّبيِّ ﷺ أنه كان دائِم البِشْر كثير التَّبسُّم، صلَواتُ الله وسلامه عليه؛ دائِم البِشْر لا تَجِده مُنغلِقًا ولا مُكفَهرًّا، كَثير التَّبسُّم في مَحلِّه، فلنا فيه صلوات الله وسلامه عليه أُسوة حسَنة؛ قال الله تعالى فيه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: ٤].
وممَّا يَنبَغي لطالِب العِلْم أن يَحفَظ وَقْته عن الضَّياع، وضَياع الوقت يَكون بأسباب، أو يَكون له وُجوهٌ:
الوجهُ الأوَّل: أن يَدَع المُذاكَرة ومُراجَعة ما قرَأ.
الوجه الثاني: أن يَجلِس إلى أصدقائه، وأَحِبَّائه، وَيتحدَّث معهم بحَديث لَغو، ليس فيه فائِدة.
الوَجْه الثالِثُ: وهو أَضَرُّها على طالِب العِلْم، ألَّا يَكون له همٌّ إلَّا تَتبُّع أقوال
1 / 14
الناس، وما قيل وما يُقال، وما حصَل وما يَحصُل في أمر ليس مَعنِيًّا به، وهذا لا شَكَّ أنه من ضَعْف الإسلام؛ لأن النَّبيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: "مِنْ حُسْن إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ" (^١).
والاشتِغال بهذا القِيلِ والقال وكَثْرة السُّؤال مَضيَعة للوقت، وهو في الحقيقة مرَض إذا دبَّ في الإنسان - نَسأَل الله العافِية - صار أكبَرَ هَمِّه، ورُبَّما يُعادِي مَن لا يَستَحِقُّ العداء، أو يُوالي مَن لا يَستَحِقُّ الوَلاء، من أَجْل تَشاغُله في هذه الأُمورِ، التي تَشغَله عن طلَب العِلْم، بحُجَّة أنه يَقول له فِكْرة. هذا من باب الانتِصار لصاحِب الحَقِّ، وليس كذلك، بل هذا من إِشْغال النَّفْس بما لا يَعنِي الإنسان.
أمَّا إذا جاءك الخبَرُ بدون أن تَتَلقَّفه، وبدون أن تَطلُبه، فكل إنسان يَتلقَّى الأخبار، لكن لا يَنشَغِل بها، لا تَكُون أكبَرَ همِّه؛ لأن هذا يَشغَل طالِب العِلْم، ويُفسِد عليه أمرَه، وَيفتَح في الأُمَّة باب الحِزْبية والوَلاء والبَراء، فتَتَفرَّق الأُمَّة فنَسأَل الله تعالى أن يُوفِّقَنا وإيَّاكم لما فيه الخَيْر والصَّلاح، وأن يَجمَع القُلوب على طاعته، وَيرزُقنا عِلْمًا نافِعًا، وعمَلًا صالِحًا، ورِزْقًا طيِّبًا واسِعًا يُغنينا به عن خَلْقه.
فإن قال قائِل: كثير من المَشايخ يَهتَمُّون بالعِلْم ويُهمِلون فِقْه الواقِع، وكثير من الطُّلَّاب يُنكِرون إنكارًا شديدًا على مَن اهتَمَّ بالواقِع وَيقولون: العِلْم قال الله قال الرسولُ.
فالجوابُ: النَّاس في كل أُمورهم يَنقَسِمون إلى ثلاثة أقسام: طرَفان ووسَط، طرَف مُفرِّط، وطرَف مُفرِط، ووسَط. من الناس مَن يَشتَغِل بما يُسمُّونه فِقْه الواقِع،
_________
(^١) أخرجه الترمذي: كتاب الزهد، رقم (٢٣١٧)، وابن ماجه: كتاب الفتن، باب كف اللسان في الفتنة، رقم (٣٩٧٦)، من حديث أبي هريرة ﵁.
1 / 15
ولا يَكون له هَمٌّ إلَّا تَتبُّع الناس، وقيل وقال وكَثْرة السؤال، وهذا لا شَكَّ أنه مَضيَعة وتَشاغَل بالمُهِمِّ إن كان مُهِمًّا عن الأهمِّ، وهذا غلَط.
ومن الناس مَن يَتَشاغَل بالفِقْه الشَّرْعيِّ ويَحرِص عليه، لكنه لا يَلتَفِت إلى أحوال الناس إطلاقًا، بل رُبَّما يُنكِر من الفِقه الشَّرعيِّ ما يَظُنُّ أنَّ الدليل لا يَدُلُّ عليه، وهذا أيضًا طرَف خَطَأ.
ومن الناس مَن يُحاوِل الجمع بين هذا وهذا، ونحن إذا سَبَرْنا سِيرة النّبيِّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وجَدْنا أنه ﵊ يَفهَم الواقِع، ويَفهَم الناس، ويَفهَم الخيّر من الشِّرير، لكنه ﷺ يَهتَمُّ بالأمر الثاني، الذي هو الفِقْه في الدِّين، ولهذا قال: "مَنْ يُرِدِ الله بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ" (^١) لم يَقُل: يُفقِّهْه في الواقِع، فِقْه الواقِع وَسيلة للتَّطبيق فقَطْ، فلا بُدَّ لطالِب العِلْم من هذا ومن هذا، لا تَجنَح إلى طرَف الفِقْه في الواقِع، ولا تَغلُ في الفِقْه في الدِّين، فتُعرِض عن كل شيء، فالإنسان يَجِب أن يَكون وسَطًا.
فإن قال قائِل: لكن لو نظَرْنا إلى واقِعنا المُعاصِر الآنَ بعض وسائِل الإعلام تَدعو إلى الكُفْر والإلحاد والشِّرْك، وما أَشبَه ذلك، الواقِع الحَقُّ يَمنَع من ذلك، فكيف تَكون حِماية الشَّريعة؟
فالجوابُ: أنت انْوِ بذلك حِماية الشريعة، أمَّا كونُك تُطبِّق ذلك في المُجتَمَع، هذا ليس إليك، هذا إلى الله ﷿: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص: ٥٦]، ومعلومٌ ما جرَى للإمامِ أحمدَ وغيرِه من الأئِمَّة من المِحَن، في
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا، رقم (٧١)، ومسلم: كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، رقم (١٠٣٧)، من حديث معاوية بن أبي سفيان ﵄.
1 / 16
محُاوَلة تَطبيق الشَّريعة في الناس، ومع ذلك هم صبَروا واحتَسَبوا حتى ظهَر الحَقُّ، ولله الحمدُ.
فتَطبيق الشَّريعة ليس مَعناه أن طالِب العِلْم إذا نَوى تَطبيق الشَّريعة وحِمايَتها، أنه يَستَطيع ذلك، قد لا يَستَطيع، لكن هو يَنوِي هذا، ويَجعَل طلَبه للعِلْم مُركَّزًا على هذه النِّيَّةِ، والله ﷾ يُيَسِّر له الأمر، ثُم إذا أُوذِيَ في الله، فهو رِفْعة لدرَجاته، ورِفْعة لِذكْره، لو تَأمَّلت مَن أكثَر الناس إيذاءً من العُلَماء لوَجَدْت أنهم العُلماء الكِبار هم الذين يَلحَقهم الأذى من حَبْس وضرْب وإهانة، وربَّما قَتْل، فيَكون هذا من رِفْعة الله لهم.
مسألة: ما هي العُلوم التي يَحسُن لطالِب العِلْم البَدْء بها؟
الجَوابُ: نرَى أن أهمَّ المهمَّات هو العِلْم بهذا الكِتابِ العَزيز، كِتاب الله قبلَ كل شيء، لأن الصَّحابة ﵃ لا يَتَجاوَزون عَشْر آيات حتى يَتَعلَّموها وما فيها من العِلْم والعمَل، ثُمَّ العِناية بما صحَّ من السُّنَّة، ثُم العِناية بما كتَبَه أهل العِلْم وأَخَذوه من هَذين المَصدَرين الأساسين، الكِتاب والسُّنَّة، ولا يَعنِي إذا قُلنا: إنَّك تَحرِص على مَعرِفة كلام الله، وكلام رسوله، أن تُعْرض عن كُلِّ شَيءٍ، لا بُدَّ أن نَنْتَفِعَ بأفْكَارِ العلماء الذين كرَّسوا جُهودَهم لخِدْمة العِلْم، وإلَّا لضِعْنا؛ ولهذا كتَب العُلَماء ﵏ في أُصول الفِقْه، وفي أُصول الحديث، وفي قَواعِد الفِقْه، وفي قَواعِد التَّحديث، وغير ذلك من أَجْل الضَّبْط؛ حتى يَنضَبِط الناس وَيكونوا ماشِين على قَواعِدَ معلومةٍ.
فإن قال قائِل: حِفْظ المُتون فيه صُعوبة، بعض الناس يَقول: أنا أُكرِّر مَسائِلَ مرَّاتٍ، وأَفهَمها وأَكتَفِي بذلك عن حِفْظ المُتون، حِفْظ المُتون مِثْل الفِقْه مثَلًا يَقول: هذه إنما كَلام أُناس نحن نَأتِي بمِثْله، فما رأيُك؟
1 / 17
فالجوابُ: أنا رَأْيِ أنَّ حِفظ المُتون هو الأساس، وما انتَفَعْت بشيء من انتِفاعي بما حَفِظت من الكتُب؛ لأنَّ حِفْظ المَسائِل يُطيل إلَّا مَسائِلَ تَتكرَّر على الإنسان يَوميًّا فهو لا يَنساها من قِبَل العمَل، فحِفْظ المُتون هو العِلْم في الواقِع، وكونه صعبًا على بعض الناس هذا صَحيح، فبعضُ الناس يَصعُب عليه جدًّا أن يَحفَظ، تَجِده يُكرِّر المَتْن تَكرارًا كثيرًا، ولكِن لا يَحفَظه، لكِنِ احرِصْ على هذا، وكُلَّمَا تَقدَّمتِ السِّنُّ بالإنسان قوِيَ فَهمُه وضَعُف حِفْظه، يَعنِي: فَهمه يَقوَى وَيتفتَّح عليه من الفُهوم ما لم يَكُن يَعرِفه من قَبلُ، لكن يَقِلُّ حِفْظه؛ ولهذا نَنصَح الشابَّ إلى الحِفْظ، وأوَّل ما يَجِب أن يُحفَظ هو كِتاب الله، الذي هو أساس كلِّ شيء.
فإن قال قائِل: هل يُنصَح طالِب العِلْم أن يَسير في فنٍّ من الفُنون مثل فَنِّ الفِقْه، أو أنه يَتنقَّل في الفُنون من فَنِّ العَقيدة إلى فَنِّ الفِقه؟
فالجوابُ: العُلوم ليسَتْ سواءً، بعضُها أهمُّ من بعض؛ فأنت كَرِّس جُهودك على الأهَمِّ، ولا تَخلُ نَفسُك من العُلوم الأخرى المُسَانِدة للأهَمِّ، يَعنِي مثَلًا: رجُل قال: أَنا أَهوَى النَّحو، أُكرِّس جُهودي على النَّحو ولا أَتعرَّض لغير هذا. نَقول: غلَط، كَرِّس جُهودك على ما تَهواه نَفْسك؛ لئَلَّا يَضيع عليك الوَقْت؛ لأنَّ الإنسان إذا حاوَل أن يُرغِم نفْسَه في دِراسة شيء لا يَختاره سيَضيع عليه الوقتُ، لكن لا تَنْسَ العُلوم الأُخرى.
وكذلك أيضًا لا تُكثِر على نَفْسك من العُلوم؛ لأن كَثْرة العُلوم تُضعِف الإنسان في هِمَّته، وفي فَهْمه والَّذين درَسوا في المَدارِس النِّظامِية يَعرِفون هذا، تَجِد مثَلًا المَعاهِد أو المدارس الثانويَّة تَجِد فيها مثَلًا خمسَ عشْرَةَ مادَّةً تَضيع على الإنسان، لو أَرَدْت أن تَبحَث معه في شيء عَميق من المَوادِّ التي درَسها ما وجَدْت
1 / 18
عنده شيئًا، فإذا رَكَّز الإنسان على العُلوم واختَصَرها بقَدْر ما يَستَطيع، صار هذا أَجوَدَ له، وأكثَرَ استِفادةً.
ويُذكَر أنَّ بعض الناس يَقول: إن مَن أَتقَن عِلْمًا من العلوم إتقانًا جيِّدًا استَغنَى به عن سائِر العُلوم، وهذا لا شَكَّ أنه غلَط، لو أنك أَدرَكْت النَّحْو جيِّدًا، لا يُغنِيك عن مَعرِفة الفِقْه. وما يُذكَر عن أبي يُوسُفَ والكِسائيِّ أنَّهما تَناظَرا في حَضْرة الرشيد، وقال الكِسائيُّ: إن الإنسان إذا أَتقَن العِلْم - أي عِلْم أَتقَنه - يَستَغنِي به عن غيره، وأنَّ أبا يُوسُفَ أَورَدَ عليه الرجُل يَسهو في سُجود السَّهْو، فقال الكِسائيُّ: ليس عليه سُجود. قال: ومن أَيْن يُوجَد هذا في عِلْمك. لأنَّ الكِسائيَّ إمامٌ في النَّحوِ، قال: من قَواعِد عِلْمي أن المُصغَّر لا يُصغَّر (^١). هذا لا يَصِحُّ دليلًا في حُكْم شَرعيٍّ أبَدًا. وأنا أَظُنُّ أنَّ هذه القِصَّةَ مَصنوعة، ليسَتْ صَحيحة.
لكن الإنسان يَنبَغي له أن يُركِّز، وأنا في نظَري أن أَهَمَّ ما أُركِّز عليه هو القُرآن الكَريم، القُرآن كُنوز عَظيمة، كُلَّما أَخَذْت آية وصِرْت تَتَأمَّلها انفَتَح لك من العُلوم فيها ما لا يَعلَمه إلَّا الله، ثُم القُرآن سَنَد يَعنِي: ليس القُرآن ككِتاب أيِّ عالِم من العُلَماء، هو سَنَد يَحتَجُّ به الإنسان أمام الله ﷿؛ لأنه كَلام الله ﷾؛ فلهذا أنا أَرَى أن نُركِّز على عِلْم التَّفسير، ثُم على مَعرِفة ما صَحَّ عن النَّبيِّ ﷺ، وأَنتُمْ تَعرِفون أنَّ ما نُسِب للرسول ﷺ يَحتاج إلى جُهْد قَبلَ أن يَكون دليلًا، الجُهْد هو أن نَعرِف صِحَّته إلى الرسول؛ لأنه ما أَكثَرَ الأحاديثَ التي رَواها ضِعَاف النَّاس رِوايةً! إمَّا لقِلَّة أمانَتِهم، أو لسُوء حِفْظهم، أو ما أَشبَه ذلك.
_________
(^١) ذكرها الجويني في نهاية المطلب (٢/ ٢٧٥)، وابن مفلح في النكت على المحرر (١/ ٨٢)، وانظر: الموافقات للشاطبي (١/ ١١٨).
1 / 19
بل ما أَكثَرَ الأحاديثَ المَوْضوعةَ المَكْذوبة على الرسول ﵊ لأنَّ الأهواءَ كثُرَت، فصار مَن لا يَخاف الله يَضَع ما شاء من الأحاديث، وَينسُبها للرسول ﷺ، تَحتاج السُّنَّة إلى عِناية كَبيرة في ثُبوت صِحَّتها عن الرسول ﷺ.
أمَّا القُرآن فلا يَحتاج إلى هذا؛ لأنه ثابِت بالنَّقْل المُتواتِر الذي يَنقُله الأصاغِر عن الأكابِر؛ فالعِناية بالكِتاب والسُّنَّة هو أهمُّ شيء، لكن لا يَعنِي ذلك الإعراضَ عمَّا كتبَه العُلَماء، لا بُدَّ من الاستِعانة بآراء العُلَماء، وكيفية استِنْباطهم للأحكام من القُرآنِ والسُّنَّة.
ويَنبَغي أن نُلِمَّ بشَيْء من قَواعِد التَّفسير، فنَقولُ:
أوَّلًا: التَّفْسير مَأْخوذ من الفَسْر، فسَرَتِ الثَّمَرَةُ عن قِشْرِها، أيِ: اتَّضَحت وبانَت، وهو عِبارة عن تَوضيح كلام الله ﷿، والتَّفسير يُراد به التَّفْسير اللّفْظيُّ، يَعنِي: أن تُفسِّر اللَّفْظة بقَطْع النَّظَر عن سِياقها، ويُراد به التَّفْسير المَعنَويُّ، بأن تُفسَّر اللَّفْظة بحَسب سِياقها، فمثَلًا قول الله ﵎: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠]، إذا فسَّرنا القُوَّة التَّفسير اللفظيَّ، صار مَعناها ضِدَّ الضَّعْف، لكن الرسول ﷺ قال: "إِنَّ القُوَّةَ الرَّمْيُ" (^١)، وعلى هذا فنَقول: مَعنَى القُوَّة ضِدُّ الضَّعْف، هذا باعتِبار اللَّفْظ، والمُراد بها الرَّميُ، هذا باعتِبار المَعنَى المُراد.
ومثله أيضًا: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦]، الزِّيادة مَعناها: الفَضْل، زِيادة الشيء على الشيء، هذا من حيثُ اللَّفْظ؛ لكن المُراد النَّظَر إلى وَجْه الله ﷿ كما فسَّره النَّبيُّ ﵌.
_________
(^١) أخرجه مسلم: كتاب الإمارة، باب فضل الرمي، رقم (١٩١٧)، من حديث عقبة بن عامر ﵁.
1 / 20
إِذَنِ: التَّفْسير اللَّفْظيُّ غير المُراد، المُراد يُعيِّنه السِّياق، أو يُبيِّنه النَّبيُّ ﷺ أو ما أَشبَه ذلك، وأمَّا اللَّفْظ فأن تُفسَّر الكلِمة باعتِبار مَعناها، مُنْفرِدَة دون النَّظَر إلى سِياقها، والقُرآن الكَريم يُفسَّر بالمعنى الثاني، أي: بما أَراد الله به.
ثانيًا: هل المُراد يُخالِف الظاهِر أو هو الظاهِر إلَّا بدَليل؟ المُراد هو الظاهِر، يَعنِي: أنَّ الله يُريد بكَلامه ظاهِره، ولا بُدَّ، ولا يُمكِن أن نَعدِل عن الظاهِر إلَّا بدليل، فمَن عَدَل عن الظاهِر إلى غيره بدون دَليل، كان مِمَّن يحرِّفُون الكَلِمَ عن مَواضِعه.
مثال هذه القاعِدةِ: قال الله ﵎: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: ٥٤]، فظاهِر قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾؛ أي: عَلا عليه، علُوًّا يَليقُ بجلاله وعظَمته، وهو عُلوٌّ خَاصٌّ بِالعَرْش، وليس هو العُلوَّ العامَّ على جميع المَخلوقات، فإذا جاء الإنسان، وقال: ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ يَعنِي: استَوْلى عليه، فإننا لا نَقبَل منه؛ لأنَّ هذا خِلاف الظَّاهِر بلا دليلٍ، فإذا كَانَ خِلافُ الظَّاهِر بلا دليلٍ؛ فإنه من باب تَحريف الكلِم عن مَواضِعه، وإن تَسَمَّى أهْلُه بأنَّهم مُؤَوِّلة، فإِنَّما يُسمُّون أنفسهم بذلك من أَجْل قَبول قولهم، وتَسهيل خطَئِهم على الناس؛ لأنه فَرْق بين أن تَقول: هذا مُؤَوِّل، أو هذا محُرِّف. وإلَّا فالحقيقة أنهم محُرِّفون.
ولهذا تَجِد شيخ الإسلام ابنَ تَيميَّةَ ﵀ عبَّر بالعَقيدة الواسِطية بقوله: من غير تَحْريف (^١). ولم يَقُل: من غَيْر تَأوِيل؛ لأن التَّحريف مَذموم بكُلِّ حال، والتَّأوِيل منه صَحيح ومنه فاسِد.
_________
(^١) العقيدة الواسطية (ص: ٥٧).
1 / 21
فإن دَلَّ دليل على أن المُراد خِلاف الظاهِر، فَسَّرناه بالمُراد، مِثْل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ [النحل: ٩٨]، مَعنى قرَأْت، يَعنِي: أرَدْت أن تَقرَأ، وليس المعنى: إذا فرَغْت، لو أننا فَسَّرْنا اللَّفْظ بظاهِره، لقُلنا: إذا قرَأْت. يَعنِي إذا انتَهَيْت من القِراءة فاستَعِذْ بالله، ولكنَّ هذا غيرُ مُراد، والذي يُبيِّن أن هذا غيرُ مُراد فِعْلُ النَّبيِّ ﵊ فإنه كان يَستَعيذ قبل أن يَبدَأ القِراءة. هاتان قاعِدتان.
القاعِدة الثالِثة: إلى مَن يُرجَع في تَفسير القُرآن؟ هل يُرجَع إلى اللُّغة والحَقيقة اللُّغَوية، أو يُرجَع إلى الحَقيقة الشرعية، أو ماذا؛ نَقولُ: أوَّلا يُرجَع في التفسير إلى تَفسير مَن تَكلَّم به، وهو الله ﷿ فيُرجَع في التَّفسير:
أوَّلًا: إلى كلام الله، فإذا كانت الكلِمة مجُمَلة في مَوْضِع من القُرآن ومُفصَّلة في مَوْضِع؛ فإنه يُرجَع إلى ما فُصِّل بالقُرآن نفسه، إذا كانت مُبهَمة في مَوضِع لكنها مُبيَّنة في مَوْضِع آخرَ نَرجِع إلى المَوْضِع الآخَر.
فيُفسَّر القُرآن أوَّلا بالقُرآن؛ لأن المُتكلِّم به أَعلَمُ به من غيره، ففي قوله تعالى: ﴿الْقَارِعَةُ (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ [القارعة: ١ - ٣]، ما هي القارِعة؟
نَقول: بيَّنها الله بقوله: ﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ [القارعة: ٤]، وقال تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ [الانفطار: ١٧ - ١٨] فسَّرَها بقوله: ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾ [الانفطار: ١٩]، وكذلك قوله تعالى: ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ﴾ [العلق: ١٥]، أيُّ ناصِية هي؟ كلُّ ناصِية يَسفَع الله بها؟ لا ﴿نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (١٦)﴾ [العلق: ١٦]، وعلى هذا فقِسْ.
1 / 22
فنَرجِع أوَّلًا إلى تَفسير مَن تَكلَّم به وهو الله؛ أي: إلى تَفسير القُرآن بالقُرآن؛ ثُم بعد هذا نَرجِع إلى:
ثانيًا: تَفسير القُرآن بالسُّنَّة؛ لأنَّ أَعلَمُ الناس بكلام الله رسولُ الله ﷺ فنَرجِعُ إلى تَفْسيره، ولا نَقبَل تفسير غيره.
مِثال ذلك قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: ٢٦]، فقد فسَّرَها ﷺ بأنَّها النظَر إلى وجه الله؛ فلو جاءَنا جاءٍ وقال: وزِيادة؛ أي: زِيادة في الحُسْن، قُلنا له: لا نَقبَل قولَك. وإن كانت الكلِمة من حيثُ مَعناها اللَّفْظى تَحتَمِل ما قلت لكنَّنا لا نَقبَل؛ لأن النَّبيَّ ﷺ فسَّرها بأنها النظَر إلى وجهِ الله، وهو أَعلَم الناس بمُراد ربِّه، فلا نَقبَل قوله.
ثالثًا: نَرجِع إلى تَفْسير الصحابة، يَعنِي: إذا لم نَجِد في القُرآن ولا في السُّنَّة، رجَعْنا إلى تَفسير الصحابة؛ لأن الصحابة أَعلَمُ النَّاس بمُراد الله ورسوله؛ حيث إنَّهم في عَصْر التَّنزيل، وشاهَدوا الأحوال والقرائِن الدالَّة على المُراد، ولا شَكَّ أن المُشاهِد للشيء ليس كالغائِب عنه؛ فالآنَ رُبَّما أَتكلَّم أنا بكلام، مُنفعِل فيه، وأَقول: أَتَفْعَلون كذا؟ ولمَ كَذا؟ وتَجِدونَني مُنفَعِلًا والذي يَسمَع كلامي ولم يُشاهِدْني يَظُنُّه كلامًا عادِيًّا، ولا يَعرِف؛ لأنه ليس عنده قَرينة.
ولهذا نَقول: الصحابة أَعلَمُ الناس بتَفسير كَلام الله ورسوله؛ لأنهم قد شاهَدوا الأحوال، وعرَفوا القَرائِن؛ فيُرجَع إلى تَفسيرهم.
مثال ذلك: قولُه تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ﴾ [النساء: ١٢]، فهُنا فسَّر أبو بَكْر ﵁ الكَلالة
1 / 23
بأنه مَن لَيْس له ولَد ولا والِد (^١)، بأنه الميت يَموت ليس له ولَد ولا والِد، يَعنِي: لا أُصولٌ ولا فُروعٌ. هنا نَأخُذ بتَفسير أبي بَكْر؛ لأنه من الصَّحابة، والصَّحابة أَعلَم النَّاس بتَفسير كلام الله ﷿.
ومَعنَى قولنا هذا: أنه لو جاء أحَدٌ من المُتأخِّرين، وفسَّر القُرآن بخِلاف ما فسَّرَت به الصحابة، فإننا لا نَرجِع إلى قوله أبَدًا.
رابِعًا: إذا لم نَجِد في القُرآن ولا في السُّنَّة، ولا في كلام الصحابة، نَرجِع إلى أقوال التابِعين، ولا سيَّما مَن عُرِف مِنهم بالتَّلقِّي عن الصحابة، مثل مجُاهِد بنِ جَبْر ﵀، فإنه قال: عرَضْتُ المُصحَف على ابن عبَّاس مرَّتَيْن أو أكثَرَ أَقِف عند كل آية وأَسأَله عن مَعناها (^٢). فمِثْل هذا يُؤخَذ بقوله؛ لأنه أخَذ عن الصحابة، وإن كان بعض التابِعين قد لا يَنال هذه المَرتَبة، لعدَم أَخْذه عن الصَّحابة، لكن التابِعون أَقرَبُ إلى المعنى الصَّحيح ممَّن بَعدَهم إلَّا أنهم - كما عرَفْتم - يَقِلُّون مَرْتَبةً عن الصحابة.
خامِسًا: نَرجِع إلى المعنى الحَقيقيِّ للكلِمة، وهو المعنى اللُّغويُّ، يَعنِي: نَرجِع إلى مَعنَى الكلِمة في اللُّغة العرَبية، ودليلُ ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣)﴾ [الزخرف: ٣]، يَعنِي: تَفهَمون المَعنَى، وهذا إحالة من الله ﷿ إلى اللُّغة العرَبية، وأنَّ عَقْل القُرآن يَكون بمُقتَضى اللُّغة العرَبية، ولنا حُجَّة.
فإذا قال قائِل: ما دَليلُك على أن معنى هذه الكلِمةِ هو كذا؟
_________
(^١) أخرجه عبد الرزاق (١٠/ ٣٠٤)، وسعيد بن منصور في التفسير من السنن رقم (٥٩١)، وابن أبي شيبة (١٦/ ٣٧٠).
(^٢) أخرجه الطبري في تفسيره (١/ ٨٥)، والطبراني في المعجم الكبير (١١/ ٧٧، رقم ١١٠٩٧).
1 / 24