Tafsir Al-Uthaymeen: Stories
تفسير العثيمين: القصص
Mai Buga Littafi
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٤٣٦ هـ
Inda aka buga
المملكة العربية السعودية
Nau'ikan
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
إنَّ الحمدَ للَّه، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ باللَّه مِن شُرور أَنْفُسنا ومن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللَّهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أن محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللَّهُ بالهُدَى ودِين الحَقِّ؛ فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في اللَّه حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ التقينُ، فصَلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ:
فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالحٍ العُثَيْمِين -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنَيْزَةَ صَباحَ كُلِّ يومٍ أَثْناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة، حَلقاتٌ فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدايتُها مِن سُورة النُّور وما بَعدَها، حتَّى بلَغ قَولَه تَعالَى في سُورة الزُّخرف: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالَى في تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَيْن يَدَي الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَيْنِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ، المُتوفَّى سَنَةَ (٨٦٤ هـ) (^١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبدِ الرَّحمن بنُ أَبِي بَكْر بنِ محمَّد
_________
(^١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 5
ابنِ سابِق الدِّين الخُضَيْرِيِّ السُّيُوطِيِّ، المُتوفَّى سنة (٩١١ هـ) (^١). تغمَّدهما اللَّه بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجَزاءِ.
وسَعْيًا -بإِذْنِ اللَّهِ تَعالَى- لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَّيخِ مُحمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْريَّةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لِاِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللَّهَ تعالَى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ؛ نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيْرَ الجَزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعْلِيَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
وَصَلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيرَّيةِ
٢٠ جُمَادَى الآخِرَة ١٤٣٦ هـ
* * *
_________
(^١) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
(الآيات ١ - ٣)
* * *
* قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿طسم (١) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [القصص: ١ - ٣].
* * *
الحمدُ للَّهِ ربِّ العَالمَينَ، وصلَّى اللَّهُ وسلَّمَ عَلَى نبيِّنَا مُحَمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحَابِهِ ومَنْ تَبِعَهُم بإحسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ. وبَعد:
قَالَ المُفَسِّرُ (^١) ﵀: [﴿طسم﴾ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ بِذَلِكَ، ﴿تِلْكَ﴾ أَيْ هَذِهِ الآيَاتُ، ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ الْإِضَافَةُ بِمَعْنَى مِنْ، ﴿المُبِينِ﴾ المُظْهِرُ الحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، ﴿نَتْلُو﴾ نَقُصُّ، ﴿عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ﴾ خَبَرِ، ﴿مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ﴾ الصِّدْقُ ﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ لِأَجْلِهِمْ؛ لِأَنَّهُمُ المُنْتَفِعُونَ بِهِ].
الحِكمة من القَصَص فِي الآيَاتِ واضحةٌ، فهو يُتلَى عَلَى النَّاسِ لكي يُؤمِنوا، فَإِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فِي الْأَصْلِ فهو لتَثْبِيت إيمانِهم وزيادَتِه.
من فوائد الآيات الكريمة:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: بيان عِظَم القُرْآن وعُلُوُّهِ، وذلك عَنْ طَرِيقِ الْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بالبُعد ﴿تِلْكَ آيَاتُ﴾.
_________
(^١) المقصود بـ (المفسر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، المتوفى سنة (٨٦٤ هـ) ﵀، ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 7
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا الْقُرْآنُ مكتوبٌ؛ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿الْكِتابِ﴾، ونحن نعلم أنَّ كتابةَ القُرْآن مُتَحَقِّقَةٌ فِي ثَلَاثَةِ أماكنَ:
١ - فِي اللَّوْحِ المَحْفُوظِ.
٢ - فِي صُحُفِ الملائكة.
٣ - فِي المَصَاحِفِ الَّتِي بَيْنَ أيدينا.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مُظهِر مُبَيِّن للأُمُور؛ لِقَوْلِهِ تعالى: ﴿الْمُبِينِ﴾، فهو مُظهِر ومُبَيِّن للأُمُور.
وحَذْفُ مُتَعَلَّق ﴿الْمُبِينِ﴾ يُستفاد مِنْهُ عُمُومُ إِبَانَةِ الْقُرْآنِ لِكُلِّ شَيْءٍ.
وحذفُ المتعَلَّق هَذَا مِنَ القَواعِدِ التَفْسِيريَّة، فإنَّ حَذْفَ المتعَلَّقِ يُفيد العُلُوَّ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى﴾ [الضحى: ٨] حيثُ لَمْ يَقُلْ: (فأغناك)؛ لِأَنَّ اللَّهَ أغناهُ، وأغنى به، وَقَالَ تعالى أَيْضًا: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى﴾ [الضحى: ٧]، فاللَّه هداه وهدَى به.
فقوله: ﴿الْمُبِينِ﴾ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُبَيِّنٌ لِكُلِّ شَيْءٍ، ويدل لذلك قَوْلُهُ ﵎: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل: ٨٩].
ولذلك فإنَّ أيَّ مُشكلة تَعْرِضُ لَنَا فِي دِينِنَا نَجِدُ حَلَّها فِي الْقُرْآنِ، والقُرْآن يُرشدنا إلى الأخذ بالسُّنة، قَالَ تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ [الحشر: ٧].
إذن: الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ يَحِلَّان كُلَّ مَا يَعْرِضُ لَنَا مِنْ مُشْكِلَاتٍ فِي أُمُورِ دِيننا، أو دُنيانا، ولكن المشكلة هي القُصور فِي فَهْمِ النَّص لَدَى بَعْضِ النَّاسِ، ويرجع الْأَمْرُ إِلَى سببين: إمَّا هَوًى مُتَّبَع، وإمَّا جَهْلٌ.
1 / 8
فهناك مِنَ النَّاسِ مَنْ يريد اتباعَ الهوى، وَلَا يُرِيدُ اتِّبَاعَ الحْقِّ، فيذهب إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَلَّهُ يَجِدْ مَا يُبَرِّرُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ.
فمثلًا هُنَاكَ مَنْ يُبَرِّر للاشتِراكِيَّة، ويبحث فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عما يؤيد رأيَه هذا، فَإِنْ وَجَدَ مَا يُخَالِفُ رأيَه ترَكَه وتجاوَزَه إِلَى غَيْرِهِ، فهذا الرَّجُلُ لَمْ يَقْصِدِ الحقَّ.
وكذلك بعضُ الذين يُشَرِّعُون القوانين، أو الأُمُورَ الفِقهية، أَوْ مَا شابَهَ، لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إِلَّا مِنْ أَجْلِ تبريرِ مواقِفِهم، فإذا رأوا ما يُخالِفُها أَغْمَضُوا أَعْيُنَهم، وإن رأوا مَا يُشِيرُ إليها -ولَوْ لإبطالها- فَتَحُوا أعيُنَهم.
وهؤُلاءِ لهم غَرَضٌ فِي صُدُورِهِمْ في تَصَفُّحِهِم للقرآن والسُّنة، كَمَا قَالَ شَيْخُ الإِسْلام ابن تَيمِيَّة ﵀ فِي (العقيدة الواسطية)، وَهِيَ كَلِمَةٌ عظيمة المعنى، قال (^١): "وَمَنْ تَدَبَّرَ الْقُرْآنَ طَالِبًا لِلْهُدَى مِنْهُ؛ تَبَيَّنَ لَهُ طَرِيقُ الْحَقِّ".
كلمةٌ عظيمةٌ، فِيهَا أَمْرَانِ: تَدبُّر، وطَلَبُ الهدى. فـ (تَدَبَّرَ): الفعل، و(طالبًا للهُدى): النية الصَّالحِة، (تَبَيَّن له طَرِيقُ الْحَقِّ) جَوَاب الشَّرْطِ.
فالشيخ ﵀ جزَم به؛ لأَنَّهُ مَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ لَا شَكَّ فِي هَذَا.
إذن: القُرْآنُ مُبَيِّنٌ لكُلِّ الأُمُور؛ إِمَّا مِنَ الْقُرْآنِ نَفْسِهِ، أَوْ مِمَّا يُرْشِدُ إِلَيْهِ، أي السُّنَّة النَّبَوِيَّةُ.
أحيانًا تَعْتَرِضُنا مَسائِلُ، ونَبْحَثُ عَنْهَا فِي كُتُبِ الفُقهاء؛ فُقَهاء الحنابلة، وفُقَهاء الشَّافعية، وغيرهم، فما نجدُها، فَنَرْجعُ إِلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فنجدُها واضحةً جَلِيَّةً.
_________
(^١) العقيدة الواسطية اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص ٧٤).
1 / 9
وَالرُّجُوعُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لفيد الإِنْسَان -حقيقةً- فائدتين عظيمتين:
الأُولى: الطُّمأنينة والاستقرار؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ -وَإِنْ كَانَ الْإِنْسَانَ قَدْ يطمئِن إليه بَعْضَ الشَّيْءِ- مَا تَكُونُ الطُّمأنينة إليه كطُمأنِينَتِه إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
الثَّانية: أنَّه يَسْتَطِيعُ أَنْ يُقْنِعَ غيره، ويُطَمْئِنَ غيره.
فمثلًا إِذَا قُلْتَ لِإِنْسَانٍ مَا: هَذَا حَرَامٌ. يَقُولُ لَك: مَا الدَّلِيلُ عَلَى الحُرمة؟ فإِذا قلتَ: له حَرَّمَهُ اللَّهُ، أَوْ حَرَّمَهُ رسولُه. اطمأنَّ لِقَوْلِك، أَمَّا إِذَا قُلْتَ لَهُ: هناك كِتَابٌ مَا قَدْ حَرَّمَهُ. قَالَ لَك مستنكرًا: أيُّ كتابٍ هذا؟ هَلْ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟
إذن: الرُّجُوعُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يَبُثُّ الطُّمأنينة فِي قُلُوبِ المخاطَبين ويُقْنِعُهم.
ولذلك أنا أَمْيلُ إِلَى الرُّجُوعِ دائمًا إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يَعْنِي كلامي هذا طَرْحَ كَلَامِ أَهْلِ الْعِلْمِ، لا، فكلامُ أَهْلِ الْعِلْمِ مفاتيحُ لهذه الخزائن، فَكَمْ مِنْ إِنْسَانٍ لَا يَهْتَدِي بالكتاب والسُّنة إِلَّا إِذَا دَخَلَ مِنْ حَيْثُ دَخَلَ هؤُلاءِ العلماءُ.
وهناك فَرْقٌ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ: اتَّبعِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، واقْتَدِ بكلامِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ: اتَّبعِ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، واطْرَحْ كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فهو لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَهَذَا خَطَأٌ كبيرٌ.
واعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ دائمًا بَيْنَ طَرَفَيْنِ مُتَطَرِّفَيْنِ.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الآيَةِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ القَصَص يُسَمَّى تِلاوَةً، يُقال: قَصَّ الإِنْسَانُ القِصَّة، إذا تَلاها علينا؛ وَذَلِكَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ﴾.
1 / 10
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: بيانُ أهمية قِصَّةِ مُوسَى مَعَ فِرعونَ، ولهذا تَكَفَّلَ اللَّهُ تعالى بِتِلَاوَتِها عَلَى النَّبِيِّ ﷺ لأهميتِها، وبيان فوائِدها.
وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تجمعوا الْقصَّةَ مِنْ جَمِيعِ أطرافها فِي الْقُرْآنِ، واستخرجوا مَا فِيهَا مَنْ فَوَائِدَ، فهذه الْقِصَّةُ مِنْ أَهَمِّ القَصَص الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ الكريم، وَقَدْ تَكَرَّرَتْ فِي مَوَاضِعَ مُخْتلِفَةٍ بأساليبَ مختلفةٍ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ هُوَ الحَقُّ، فَجَمِيعُ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ بِهِ عَنْ هَذِهِ القَصَص هُوَ حَقٌّ، وَقَدْ سَبَقَ أَنْ قُلنا: إِنَّ الحَقَّ إِذَا وُصِفَ بِهِ الخَبَرُ، فَهُوَ بمعنى الصِّدق، وإذا وُصِفَ بِهِ الحُكْمُ، فهو بمعنى العَدْل.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: أَنَّ هَذِهِ القَصَص سببٌ لحدوث الإِيمَان، وكذلك سبب لزيادته أيضًا، أي سبب لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ حَتَّى يُؤْمِنَ، ولمن آمَنَ حتَّى يزدادَ إيمانُه؛ ثباتًا وكَمِّيَّةً.
وَالدَّليلُ عَلَى أَنَّهُ يَنتفِعُ بِهَا غيرُ المؤمن قَوْلُهُ تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف: ١١١]، فكلُّ إنسان عنده لُبٌّ -أَيْ عقل- فَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُعْتبر ويَنتفع.
* * *
1 / 11
الآية (٤)
* * *
* قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: ٤].
* * *
قَالَ المُفَسِّرُ ﵀: [﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا﴾ تَعَظَّمَ ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ أَرْضِ مِصْرَ ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ فِرَقًا فِي خِدْمَتِهِ ﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ﴾ هُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ﴾ المَوْلُودِينَ ﴿وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾ يَسْتَبْقِيهِنَّ أَحْيَاءً لِقَوْلِ بَعْضِ الْكَهَنَة لَهُ: إِنَّ مَوْلُودًا يُولَدُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يَكُونُ سَبَبَ زَوَالِ مُلْكِكَ ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ بِالْقَتْلِ وَغَيْره].
﴿وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾: قَالَ المُفَسِّرُ ﵀: [يَسْتَبْقِيهِنَّ أحياء] لأنَّهُن فِي الْأَصْلِ أحياء، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الموتى إِلَّا اللَّهُ.
وجملتا (يُذَبِّحُ) و(يَسْتَحْيِي) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ (عَلَا) و(جَعَلَ).
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ فِرْعَوْنُ مِنَ العُلُوِّ والجبَرُوت، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَنْ عَلَا فِي الْأَرْضِ، وطلب العُلُوَّ عَلَى الْخَلْقِ؛ فهو شبيه بفِرْعَون ووارثُه، وبئس الرَّجُلُ مَنْ كَانَ فِرْعَوْنُ إمامَه.
1 / 12
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أنَّ تفريق الأُمة سببٌ لفَشَلِها وذُلِّها، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾، ومنها نعلم أَنَّ الْحِكْمَةَ الإنجليزية المشهورة (فَرِّقْ تَسُدْ) أصلُها فِرْعَوني؛ لأن فِرْعَون هُوَ أَوَّلُ مَنْ جَعَلَ أَهْلَ الْأَرْضِ شيعًا؛ حَتَّى يَسُودَ عليهم.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ، مَعَ أَنَّهُمْ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ.
فيتفرع عَلَى هَذِهِ الْفَائِدَةِ: أَنَّ مَنْ سَكَنَ أرضًا، وأقام فيها، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهَا فِي الْأَصْلِ، نُسب إليها، وَصَارَ مِنْ أَهْلِهَا.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: بيانُ شِدَّة استضعاف فِرْعَون لِبَنِي إِسْرَائِيلَ؛ حَيْثُ كَانَ ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ﴾.
وَقَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ فِعْلِهِ هَذَا: إِنَّهُ أُخبر بأنه سيُولَد مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ولا، يَكُونُ هَلَاكُهُ عَلَى يَدِهِ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الطَّرِيقُ لإذلال الأُمَّة؛ لِأَنَّهُ إِذَا ذَهَبَ الرجال، وبقيت النساء صِرن إماءً للمُسْتَعْبِد، وهُنَّ بلا شك مَا عِنْدَهُنَّ قَيِّمٌ عليهن، ولا مُدافِعٌ عنهن.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أَنَّ الْعُلُوَّ فِي الْأَرْضِ، والعُتُوَّ عَلَى الْخَلْقِ، والسَّعْيَ بينهم بالتفريق يُعَدُّ مِنَ الإفساد، وَذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾.
ويتضح مِنَ الآيَةِ أَنَّهُ مَنْ كَانَ عَلَى نقيض ذَلِكَ مِنَ التواضع للحَقِّ والخَلْقِ، جَمَعَ شَمْلَى الأُمة، وقَصَرَ عدوانه عنها، يَكُونُ مِنَ المُصْلِحِينَ، وَكَمَا قِيلَ: وبِضِدِّها تتميز الأَشْياء.
* * *
1 / 13
الآيتان (٥، ٦)
* * *
* قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: ٥ - ٦].
* * *
قَالَ المُفَسِّرُ ﵀: [﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ بِتَحْقِيقِ الهَمْزَتَيْنِ، وَإِبْدَالِ الثَّانِيَةِ يَاءً: يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْخَيْرِ ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ مُلْكَ فِرْعَوْنَ، ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ أَرْضِ مِصْرَ وَالشَّامِ ﴿وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا﴾ وِفي قِرَاءَةٍ: "وَيَرَى" بِفَتْحِ التَّحْتَانِيَّةِ وَالرَّاءِ وَرَفْعِ الْأَسْمَاءِ الثَّلاثَةِ ﴿مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ يَخَافُونَ مِنَ المَولود الَّذِي يَذْهَبُ مُلْكُهُمْ عَلَى يَدَيْهِ].
الإرادةُ الْوَارِدَةُ فِي الْآيَةِ هنا هِيَ إِرَادَةٌ كونِيَّة، وهي المشيئة، ويتعلق بها الحُكم القَدَرِيُّ، فالإرادة الكَوْنِيَّة مُرادِفَةٌ للمَشِيئَة، وتَتَعَلَّق بالأُمُور الكَوْنِيَّة.
أمَّا الإرادةُ الشرعيةُ فمُرادِفَةٌ للمَحَبَّة، وهي تتعلق بالأُمُور الشرعية، فمثلًا: اللَّهُ يُرِيدُ مِنَّا أَنْ نُصَلِّيَ فِي جَمَاعَةٍ، فهذه إرادةٌ شرعيةٌ.
وَهَلِ ﴿الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ هُنَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فقط، أَمْ مِنْ عُموم أَهْلِ مِصْرَ الذين استضعفهم فِرْعَون؟ المرادُ هنا كل الذين استضعَفَهم فِرْعَونُ.
1 / 14
فَقَدْ كَانُوا مُضطهَدين، ولذلك أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ بالهداية والإِيمَان والإمامة، وكذلك بميراثهم لفِرْعَونَ وجُنُودِه.
وَهَذَا كُلُّهُ فِي المُسْتَقْبَلِ؛ لأنَّهُ أتى بالفعل المضارع (نُرِيدُ) الَّذِي يَدُلُّ عَلَى المُسْتَقْبَلِ، أي: نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عليهم مستقبلًا.
قَوْلُه تعالى: ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾ أي: أَئِمَّةً فِي الْخَيْرِ، والإمامُ هُوَ كُلُّ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَقَدْ يَكُونُ فِي الْخَيْر، أَوْ فِي الشَّرِّ، قَالَ اللَّهُ تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾ [القصص: ٤١]، وَلَكِنَّ المُرَادَ هُنَا: أَئِمَّةٌ فِي الْخَيْرِ.
قَولُهُ تعالى: ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ أي: يَرِثُون فِرْعَونَ وجُنوده، قَالَ تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: ٥٩].
من فوائد الآيتين الكريمتين:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: إثباتُ إِرَادَةِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَنُرِيد﴾، ووجهُ إثباتِ الإرادةِ هنا، مع أنَّها فِعْلٌ، وليس اسمًا، هُوَ أَنَّ الْفِعْلَ يَدُلُّ عَلَى الحدَث وزَمَانِه.
فقولُه: ﴿وَنُرِيدُ﴾ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِرَادَةِ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ نقول: إِنَّ يَدُلُّ عَلَى إِثْبَاتِ الإرادة للَّه ﷿.
المعتزلة لم يُثبتوا الإرادة للَّهِ ﷿، بل نَفَوْهَا، فِي الْوَقْتِ الَّذِي أثبَتَها الأشاعرةُ له ﷿، واستدلوا بكون الليل ليلًا، والنهار نهارًا، والحَرِّ حَرًّا، والبَرْدُ بَرْدًا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْإِرَادَةِ؛ إِذْ لَا يَقَعُ هَذَا التَّخْصِيصُ إلَّا بإرادةٍ.
ولكنهم يستدلون عَلَى إِثْبَاتِ الصفات عامَّةً بالعَقْلِ، فَمَا وَافَقَ عُقُولَهُم قَبِلُوه، وَمَا خَالَفَهَا أَوَّلُوه وصَرَفُوه حتَّى يُوافِقَ العقل.
1 / 15
وقد تبين لَنَا قَبْلَ ذَلِكَ فَسَادُ هَذَا المنهجِ، فَهُوَ مُخَالِفٌ للقرآن الكريم، يَقُولُ اللَّهُ ﷿: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ [المؤمنون: ٧١].
قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ ﵀: "كُلَّمَا جَاءَنَا رَجُلٌ أَجْدَلُ مِنْ رَجُلٍ أَرَادَنَا أَنْ نَرُدَّ مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ" (^١).
نعم، هَذَا أَمْرٌ لَا يَسْتَقِيمُ؛ فإثبات صِفَاتِ اللَّهِ بالطُّرق العقلية، وَنَفْيُ مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ؛ هُوَ فِي الحقِيقَةِ عُدوانٌ، وطريقٌ فاسِدٌ.
ويمكننا أَنْ نَرُدَّ عليهم بأنَّنا نستطيع أَنْ نُثْبِتَ ما نَفَوْهُ بطريق العقل، كما أثبتوا هم ما أثبتوا بطريق العقل، بل بصورةٍ أَفْلَحَ وأَبْلَغَ.
فظُهور صِفة الرَّحْمة فِي المَخْلُوقَاتِ أَبْلَغُ مِنْ ظُهُورِ صفة الإرادة، وَكَذَلِكَ الْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ بالرِّزق، والإمداد، والإعداد، وَفِي جَمِيعِ مَا يَتَمَتَّعُون به، وَهَذَا ثَابِت لِكُلِّ إِنْسَانِ.
أمَّا كونُ البَرْدِ بَرْدًا، والحَرِّ حَرًّا، فَهَذَا لَيْسَ دليلًا قويًّا عَلَى الْإِرَادَةِ، فَدَلالةُ مَا سَبَقَ عَلَى الْإِرَادَةِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ النِّعَم عَلَى الرَّحْمة بلا شك.
أَيْضًا إِذَا نَظَرْنَا لِنَصْرِ اللَّه للطائعين، وفُقْدَانِه للعاصِين، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الحبِّ والكُره، فَلَوْلَا أَنَّهُ يُحِبُّ هَؤُلَاءِ مَا نَصَرَهُم، وَلَوْلَا أَنَّهُ يُبْغِضُ هَؤُلَاءِ مَا نَصَرَهُم، وهذا معروفٌ، حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا صَارَ يُبغض أَحَدًا مَا فما نَصَرَهُ، وَلَا أَحِبَّهُ.
إذن: نَصْرُ هؤلاءِ، وإذلالُ هؤُلاءِ دَلَّ عَلَى إِثْبَاتِ المَحَبَّة والبُغض، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ ينكرون، ويقولون: الْعَقْلُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ.
_________
(^١) الإبانة الكبرى، لابن بطة (٢/ ٥٠٧، رقم ٥٨٢).
1 / 16
فَالحْمْدُ للَّهِ الَّذِي جَعَلَ الحقَّ واضحًا، فَمَا مِنْ شَيْءٍ يزعُم هَؤُلَاءِ أَنَّ العقل يُنكره، أَوْ لَا يُثْبِتُهُ، إلَّا وجدنا أَنَّ الْعَقْلَ يُثبته كما أثبته الشرعُ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: تمام قُدْرَةِ اللَّهِ ﷿؛ وذلك عندما جعل هؤُلاءِ المستضعفين أئمةً، ووارثين لهؤُلاءِ الطُّغاة، وذلك بإرادةٍ مِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ، وليس بِقُدْرَتِهم، فالمسلمون -مثلًا- وَرِثُوا ديار الفُرس والرُّوم بفعلهم وجهادهم، وإرادة اللَّه.
ولكنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَرِثُوا فِرْعَونَ بلا قتالٍ، وَلَا فِعْلٍ منهم، بَلْ كَانَ ذَلِكَ بإرادة اللَّه المَحْضَة فقط، وَهَذَا مِنْ قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾، فاللَّهُ يُيَسِّر لِعِبَادِه مِنَ النَّصْرِ ما لم يَكُنْ فِي مَقْدُورِهم، وَلَا فِي حسابهم.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ مَنِ استُضِعف لِقِيَامِه بالحقِّ فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ العاقبةُ له؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾، وَإِنْ كَانَتْ فِي سِيَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فغيرُهم دَاخِل فِي الْعُمُومِ اللفظي، إِذَا قُلْنَا ﴿عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ فِي أَيِّ مكانٍ وزمانٍ، أو العُموم المعنوي، وذلك بقياس غَيْرِهِمْ عَلَيْهِم؛ لأن دَلالات العُموم إمَّا لَفْظِيَّة، أو مَعْنَوِيَّة، فالقياسُ الصحيحُ دَلَالَةُ اللَّفْظِ عَلَى المَقِيس دلالة معنوية، فحينئدٍ نقول: ﴿عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ﴾ إذَا جعلناهم هم بَنِي إِسْرَائِيلَ فقط، فالمستضعفون بقيامهم بِالْحَقِّ مِنْ غَيْرِهِمْ مثلُهم؛ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى يَقُوُل: ﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الفتح: ٢٣].
فسُنَّةُ اللَّهِ للخَلق واحدة؛ لِأَنَّهُ ﷾ ليس بَيْنه وَبَيْنَ أَحَدٍ نَسَب، أو حَسَبٌ حتَّى يُرَاعِيَهُ، يَقُولُ تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: ١٣].
قد يَقُوُل قَائِلٌ: هناك أُناسٌ استُضْعِفوا بالحَقِّ، وقُتِلوا، أو طُرِدوا، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فأين الْعَاقِبَةُ الَّتِي تزعمون؟
1 / 17
فنقول: إِنَّ العاقبةَ لَا تَكُونُ للشَّخص الجسدِيِّ فقط، بل للشَّخصِ المعنوي، فمَقَالتُه هَذِهِ لَابُدَّ أَنْ تُنصَر.
وانظروا الآنَ إِلَى مَنْ سَبَقَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَمْ مِنْ عَالمٍ أُوذِيَ فِي الحَقِّ، سواء قُتِل أَمْ لَا، تجدوا مقالاتِه ما زالت باقِيَةً، ومُنْتَشِرَةً أَكْثَرَ مِنْ غَيرِهِ، وهذا واضحٌ لمِنْ تَأَمَّلَهُ.
إذن: النصرُ لقائل الْحَقِّ فِي حَيَاتِهِ، أَوْ لمقالته بَعْدَ وَفَاتِهِ، والإِنْسَان المجاهد للَّهِ هُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ يَثْأَرَ لنفسه، بل هَمُّه أَنْ يَبْقَى هَذَا الحَقُّ الَّذِي قَامَ بِهِ، لَا يَهُمُّهُ بقاؤه هُوَ، أَوْ مَمَاتُهُ إِذَا كَانَ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ، أَمَّا مَنْ يَدْعُو إِلَى نَفْسِهِ -وَنَسْألُ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَنا مِنْ ذَلِكَ جَمِيعًا- نَجِدُه يَقُولُ إِذَا أُوذِيَ، أَوْ أَصَابَهُ ضَرَرٌ: أَنَا مَا انتصرتُ.
وَلَكِنْ مَنْ يَدْعُو إِلَى اللَّهِ لَا يَشْغَلُهُ إِلَّا أَنْ تنتصر الدعوة، ولهذا فإنه يُقاتِل مِنْ أَجْلِهَا. لا بُدَّ مِنْ نَصْرِ الحَقِّ بأسبابه، فإذا أَعْيَتْكَ الأُمور جاء النَّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بلا سبب.
لكنك مأمورٌ بِسُلُوكِ طريقٍ مُعَيَّنٍ حَتَّى تُنْصَرَ، وَقَدْ لَا تَنَالُ النصرَ بسبب مخالفتك لهذا الطَّرِيقِ، وتقصيرك فيه، فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ حَسُنت نِيَّتُه حَسُنَ فِعْلُه ونُصِر.
فالأمر هنا يختلف، ومَسائِل هَذَا الْبَابِ مِن أَدَقِّ المَسائِل، وَقَدْ تَكَلَّمْنَا عنها كثيرًا.
فَلَا يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ كالكُرة فِي يَدِ غَيْرِهِ، يُقَلِّبُه كَيْفَ يَشَاءُ، أو تذهب به ريحٌ عاصفةٌ بعيدًا جدًّا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُتَّزِنًا، لا مُتُهَوِّرًا، فإذا تهَوَّرَ، ثم خالفه النصر، فالبلاء مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ.
1 / 18
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: بيانُ فضائلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، ومَناقِبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لقوله: ﴿وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾.
وهنا قد يُشْكِلُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنَّ اللَّهَ تعالى يَقُولُ ذَلِكَ، وفي آيات كثيرة يَذُمُّ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ ﷾ بَيَّنَ السَّبَبَ فِي جَعْلِ هؤُلاءِ أئمةً، فَقَالَ تعالى فِي سُورة السَّجْدَةِ: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: ٢٤]، فحينما كانوا مُتَّصِفِينَ بهذين الوصفين: الصَّبْر واليَقِين، كانوا أئمةً، وَقَدْ أَخَذَ شيخُ الْإِسْلَامِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ جملةً، فقال (^١): "بالصَّبْر واليقِين تُنال الْإِمَامَةُ فِي الدِّينِ".
لَكِنْ لمَّا تخلَّف الصَّبْرُ، وتَخَلَّف اليَقِينُ منهم، صاروا ﴿قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ [البقرة: ٦٥]، وجاءت الآيَاتُ فِي ذَمِّهم، فالآياتُ لا يُكذِّب بَعْضُهَا بَعْضًا، ولكن هناك أشياءُ تُوجِب تَخَلُّفَ أحكام بعض الآياتِ لِتَخَلُّفِ السبب.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: أَنَّ المُسْلِمِينَ إِذَا اسْتَوْلَوْا على بلاد الكُفَّار مَلكُوها، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تعالى: ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾، يَمْلِكُ مَا وَرِثَ، فَهُمُ الَّذِينَ يجعلهم اللَّهُ الْوَارِثين، وَلِهَذَا قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: إِنَّ الأراضي تُملك.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أن الأراضي لَيْسَتْ مِنَ الْغَنَائِمِ المحضة، فَاللَّهُ تعالى يَقُولُ: ﴿وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾، مَعَ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ يقول: "أُحِلَّتْ لِيَ المَغَانِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي" (^٢).
_________
(^١) قاعدة في الصَّبْر، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص ٩٤).
(^٢) أخرجه البخاري: كتاب التيمم، باب رقم (٣٣٥)، مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، رقم (٥٢١).
1 / 19
انظروا هذا التَّقرير هُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى وَرَّث بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْضَ بَنِي فِرْعَونَ وأموالَهم، قَالَ اللَّهُ تعالى: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: ٥٧ - ٥٩].
فلو ادَّعى أحدُهم أَنَّ اللَّهَ أخرجَ آلَ فِرْعَوْنَ مِنْ أَرْضِهِمْ، وجعلها مَغْنَمًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بقوله: ﴿وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾، وهذا مُعارِضٌ لحديث الرَّسُول، فكيف نُجيب عنه؟
نقول: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يأخذوها بَعْدَ قِتَالٍ، فالغنيمةُ معروفة، إنما أُخِذَتْ عَنْ طَرِيقِ قتال الأعداء، ولكن هَؤُلَاءِ مَا وَرِثُوها بالقتال، بل بِقُوَّةِ اللَّهِ ﷿ الَّتِي لَيْسَ لَهُمْ إِلَيْهَا سَبِيل، فالأراضي والمساكن والكُنوز الَّتِي أَخَذَهَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَا تُعَدُّ مِنَ الْغَنَائِمِ، بَلْ هِيَ مِن وَهْب اللَّهِ لَهُمْ بلا قتال.
وَعَلَى هَذَا فَلَا تَعَارُضَ بين الآيةِ وَبَيْنَ قولِ الرَّسُولِ ﷺ: "أُحِلَّتْ لِيَ المَغَانِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلي".
وَلَكِن هَذَا لَا يَنْفِي أَنَّ الغنائم كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي المَاضِي، لَكِنَّ اللَّهَ لَمْ يُحِلَّهَا للمقاتلين، بَلْ كَانَت تَنْزِلُ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ تحرقها، وَإِنْ كَانَ فِيهَا شَيْءٌ مِنَ الْغُلُولِ فَلَا تنزل النار.
والحِكْمَة مِن إحراق الغنائم هي قطعُ التَّعَلُّقِ بِهَا نهائيًّا؛ لِأَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ لتَدَاوَلَها النَّاسُ بالبَيْع والشِّراء والانْتِفاع، وصار مِلكًا لهم.
وَمِنَ المَعْرُوفِ أَنَّ اللَّهَ ﷾ يَمُدُّ الأُمة بأشياءَ تستعين بِهَا فِي حَيَاتِهَا؛ فهو يَمُدُّ الإِنْسَان عامَّة بأشياءَ مُعَيَّنة لِأَجْلِ أَنْ يَصِلَ إِلَى الفَضِيلَة.
1 / 20
فالنَّبي ﷺ يستغفر ربه، مَعَ أَنَّ اللَّهَ قد غَفَرَ له ما تقدَّم مِن ذَنْبِه، وما تأخر، ونحن مأمورون بأن نُصَلِّيَ عليه، واللَّهُ تعالى يَقُولُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ﴾ [الأحزاب: ٥٦]، فلا يلزم مِن الوُصول إلى الكمال ألَّا يسعى الإِنْسَانُ بأسبابِه.
ولو قال قائلٌ: كيف تَحِلُّ لنا الغنائم ونحنُ أفضلُ الأُمَمِ؟ لماذا لا يُوكَلُ الْأَمْرُ إِلَى مَناقِبنا وفضائلنا؟
فنقول له: هذا مِن نِعْمَة اللَّه علينا، لا لأن نَصِلَ إلى درجة الكمال، ولكنه أَحَلَّ هَذِهِ المَغَانِم حتَّى نستعين بها.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: تمكينُ الْإِنْسَانِ فِي الْأَرْضِ مِنْ نِعْمَةِ اللَّه عليه؛ لقوله: ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [القصص: ٦]، لأن هَذَا مِن جُملة ما أنعم به على بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ أَنْ مَكَّنَهُم فِي الْأَرْضِ، فكونُ الإِنْسَان يُمَكَّن له فِي الْأَرْضِ، سواء كان هذا التمكين عَنْ طَرِيقِ سُلطة السُّلطان، أَوْ عَنْ طَرِيقِ سُلطة القُرْآن.
والتَّمكين فِي الْأَرْضِ ليس معناه أن الإِنْسَان يَحكم النَاس؛ ليكون سلطانًا عليهم، لا، بل قد يكون التَّمكين للإنسان فِي الْأَرْضِ بتمكين قوله؛ حتَّى يكون له سُلطان على المُؤمِنينَ.
ولنأخُذْ شيخ الإِسْلام ابن تَيمِيَّة مثلًا، فَقَدْ مَكَّنَ اللَّهُ لَهُ فِي الْأَرْضِ أعظمَ مِن تمكين الوُلاة أنفسهم، فتمكينُ الوُلاة قد انقضى بِمَوْتِهِم، أما ابن تَيمِيَّة ﵀ فَقَدْ مَكَّن اللَّه له بأنْ جَعَلَ قولَهُ مُعْتبرًا بَيْنَ النَّاس، وما زالت أقوالُه باقيةً حتَّى الآن.
فقَوْلُ مَن قام بالحقِّ لَهُ سُلْطَانٌ وقُوة، وهذا أيضًا جاء به الحديث، بأن اللَّهَ تعالى كما أخبر رسول اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا
1 / 21
فَأَحِبَّهُ، قَالَ: فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهَ أَهْلُ السَّمَاءِ، قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ" (^١).
أي: يَكُونُ لَهُ قَبُولٌ فِي الْأَرْضِ، ولقوله نَفَاذٌ، وَهَذَا مِنْ تمكين اللَّهِ تعالى فِي الْأَرْضِ، لكن قوله: ﴿وَنُرِىَ فِرعَونَ﴾ هَذَا مِن جُملة الأمثلة على قُدْرَةِ اللَّهِ ﷿.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أن فِرْعَون وقومَه كانوا يَحْذَرون مِنْ بَنِي إسرائيل، فأراهم اللَّهُ تعالى ما كانوا يحذرون.
وهنا إشكال، وهو: كيف أراهم اللَّهُ تعالى مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ مَعَ أَنَّهُمْ هَلَكُوا؟
والجواب: أنهم أدركوا ذلك في آخِر لحَظَاتِ حياتهم، وقَبْلَ خُروج الروح، وذلك ظاهِرٌ في قولِ فِرْعَونَ عندما أدركه الغَرَقُ: ﴿آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾ [يونس: ٩٠].
وبعضهم قال فِي قَوْلِه ﵎: ﴿وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: ٦]: ليس المرادُ الهلاكَ، بل المرادُ بما كَانُوا يَحْذَرُونَ مُنازعة آل فِرْعَون؛ فإن بَنِي إِسْرَائِيلَ لما بُعِث موسى اسْتَقْوَوْا، وقصة السَّحَرَةِ واضحةٌ فيها، لما اجتمعوا واجتمع النَّاس في يومِ عيدِهم، وفي الضحى في رَابِعَةِ النهار، وصارت الهزيمة على آلِ فِرْعَوْنَ، هزيمة حِسِّية ومعنوية: هُزِمُوا حِسًّا بأنَّ عَصَا موسى ﷺ جَعَلَتْ تَلْقَفُ ما يأفِكُون، وهُزموا معنًى بأَنَّ السحرةَ أنفُسَهُم آمنوا، وصَرَّحُوا للملأ بأنَّ فِرْعَونَ هو الذي أكْرَهَهُم على السِّحْر، وبَيَّنوا أن الرب الحقيقيَّ هو رَبُّ موسى وهارون ﷾ فهذه هزيمةٌ معنوية، بالإضافة إلى الهزيمة الحِسِّيَّة.
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب التوحيد، باب كلام الرب مع جبريل، ونداء اللَّه الملائكة، رقم (٧٠٤٧)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب إذا أحب اللَّه عبدًا حببه لعباده، رقم (٢٦٣٧).
1 / 22
وهذا ما غاظَ فِرْعَونَ وهامانَ وجُنودَهما، وهذِهِ آيةٌ عظيمة، فظُهور بَنِي إِسْرَائِيلَ على آل فِرْعَوْنَ في ذلك المجمع العظيم كان له أكبرُ الأثر، فَقَدْ وعَدَهُم موسى ﵇ بأن يَتَحَدَّاهُم يومَ الزِّينة: ﴿مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ﴾ [طه: ٥٩]، و﴿يَوْمُ الزِّينَةِ﴾ هو يوم العيد، يتزين النَّاس فيه، ﴿وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ [طه: ٥٩]، يُجمَعون في رابعة النهار.
نعم، هذا الموعدُ اقترحَهُ موسى؛ لأَنَّهُ واثقٌ ﵊ بِأَنَّ اللَّهَ سينصُره، وحَصَلَ هذا الاجتماعُ فِي هَذَا اليوم، وصار فِي الحْقِيقَةِ يومَ عيدٍ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، ويومَ شَرٍّ وسُوءٍ لفِرْعَون، وهو نظيرُ ما قاله أَبو جهلٍ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ غزوة بَدْرٍ: "وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَأْتِيَ بَدْرًا -وَكَانَتْ بَدْرٌ سُوقًا مِنْ أَسْوَاقِ الْعَرَبِ- فَنُقِيمَ بِهَا ثَلَاثًا، فَنُطْعِمَ بِهَا الطَّعَامَ، وَنَنْحَرَ بِهَا الْجُزُرَ، وَنَسْقِيَ بِهَا الْخَمْرَ، وَتَعْزِفَ عَلَيْنَا الْقِيَانُ، وَتَسْمَعَ بِنَا الْعَرَبُ، وَبِمَسِيرِنَا فَلَا يَزَالُونَ يَهَابُونَنَا بَعْدَهَا أَبَدًا" (^١).
ولقد تحقق ذلك بالفعل، وسَمِعَت العربُ بما حَدَث في غزوة بَدر، ولكن انقلب الأمرُ عليهم، فما غَنَّتِ لهمُ القِيانُ، ولكن غَنَّت عليهم! فقد ظهر عَوَارُهم وجَبَرُوتُهم، حتَّى أَعَزَّ اللَّهُ الإِسْلام والمسلمين بعددهم.
نعود لِقصَّة موسى مع فِرْعَونَ، قَالَ تعالى: ﴿وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ﴾ [الشعراء: ٥٦]، نعم، لقد حصل ما كان يَحْذَرُ فِرْعَونُ وآلُه؛ وجعل اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أئمة.
ومن المُفيد أن نذكُر أنَّ الجَعْل له مَعانٍ متعددةٌ، وكلُّ معانيه تعود إلى التصيير فِي الحَقيقة، لكن التصيير هو تصيير المعدوم موجودًا.
* * *
_________
(^١) أخرجه البيهقي في دلائل النبوة (٣/ ٣٣).
1 / 23
الآية (٧)
* * *
* قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص: ٧]
* * *
قَالَ المُفَسِّرُ ﵀: [﴿وَأَوْحَيْنَا﴾ وَحْيَ إِلْهَامٍ أَوْ مَنَامٍ ﴿إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ وَهُوَ المَوْلُودُ المَذْكُورُ، وَلَمْ يَشْعُر بِوِلَادَتِهِ غَيْرُ أُخْتِهِ ﴿أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾ الْبَحْرُ أَيِ النِّيلُ ﴿وَلَا تَخَافِي﴾ غَرَقَهُ ﴿وَلَا تَحْزَنِي﴾ لِفِرَاقِهِ ﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ فَأَرْضَعَتْهُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ لَا يَبْكِي، وَخَافَتْ عَلَيْهِ، فَوَضَعَتْهُ فِي تَابُوتٍ مَطليٍّ بِالْقَارِ مِنَ الدَّاخِلِ، مُمَهَّدٍ لَهُ فِيهِ، وَأَغْلَقَتْهُ وَأَلقَتْهُ فِي بَحْرِ النِّيلِ لَيْلًا].
قوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا﴾: الوحيُ في اللغة: الإعلامُ بسرعةٍ وخَفَاءٍ، ودليلُه قَوْلُهُ تعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم: ١١]، ويُطلَق على مَعانٍ متعددة؛ منها:
الوحيُ الشرعي: وهو وحيُ النُّبوة، أو الرِّسالَة.
ووحيُ الإلهام: وهو ما يُعطيه اللَّهُ ﵎ فِي نفس الموحَى إليه.
ووحيُ النوم، فإن الرؤيةَ الصَّالحِةَ جُزء مِن سِتة وأربعين جزءًا مِن النُّبوة (^١)
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب التعبير، باب: الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، رقم (٦٥٨٨).
1 / 24