Tafsir Al-Uthaymeen: As-Sajdah
تفسير العثيمين: السجدة
Mai Buga Littafi
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٤٣٦ هـ
Inda aka buga
المملكة العربية السعودية
Nau'ikan
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ بالله مِن شُرور أَنْفُسنا ومِن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللهُ بالهُدَى ودِين الحَقِّ؛ فبلَّغَ الرِّسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في الله حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ اليَقينُ، فصَلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ:
فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالحٍ العُثَيْمِين - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنَيْزَةَ صَباحَ كُلِّ يومٍ أَثْناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة؛ حَلقاتٌ فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدايتُها مِن سُورة النُّور وما بَعدَها؛ حتَّى بلَغ قَولَه تَعالَى في سُورة الزُّخرف: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَيْن يَدَيِ الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَيْنِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ، المُتوفَّى سَنَةَ (٨٦٤ هـ) (^١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد
_________
(^١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 5
ابنِ سابِق الدِّين الخُضَيْرِيِّ السُّيُوطِيِّ، المُتوفَّى سنة (٩١١ هـ) (^١). تغمَّدهما الله بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجَزاءِ.
وسَعْيًا - بإِذْنِ اللهِ تَعالَى - لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَّيخِ محُمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لِإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل الله تعالَى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ؛ نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيْرَ الجَزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعْلِيَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
وَصَلَّى اللهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ
فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْرِيَّةِ
٢٠ جُمَادَى الآخِرَة ١٤٣٦ هـ
* * *
_________
(^١) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
سورة السجدة
الحمدُ للهِ ربِّ العَالمِينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ عَلَى نبيِّنَا محُمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحَابِهِ ومَنْ تَبِعَهُم بإحسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ. وبَعد:
قال المفسر (^١) ﵀: [سُورة السَّجْدة] الإضافة هنا بَيانية، يَعنِي: السورة التي تُذكَر فيها السَّجْدة، والسَّجْدة ستَأتي - إن شاء الله تعالى - في أثنائِها.
قال ﵀: [وهي مَكِّيَّة ثلاثون آيةً] وكلُّ سُورة مُبتَدَأَةٍ بالحُروف الهِجائية فهي مَكِّية إلَّا سورَتَيْن: البَقَرة وآل عِمرانَ فإنهما مدَنِيَّتان، وإلَّا فكُلُّ سُورة ابتُدِئَت بالحروف الهِجائية فهي مَكِّيَّة.
* * *
_________
(^١) المقصود بـ (المفسر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، المتوفي سنة (٨٦٤ هـ) ﵀، ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 7
الآيتان (١، ٢)
* قالَ الله ﷿: ﴿الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [السجدة: ١ - ٢].
* * *
قال ﵀: [﴿الم﴾ الله أَعلَمُ بمُراده به].
وسبَقَ لنا أن العُلَماء ﵏ انقَسَموا في ذلك ثلاثةَ أَقْسام:
قِسْم ادَّعَى أن لهذه الحُروفِ مَعانِيَ، وأنها رُموز لتِلكَ المَعانِي، وهذا قَوْل لا دليلَ عليه، وهو ضَعيف، بل باطِل.
والقول الثاني: أن لها مَعانِيَ، لكن الله تعالى أَعلَمُ بها فتكون من المُتَشابِه الذي لا يَعلَمه إلَّا الله تعالى.
والقِسْم الثالِث: يَقولون: إنه ليس لها مَعانٍ أصلًا؛ لأن القرآن نزل باللِّسانِ العَرَبيِّ، واللِّسانُ العربيُّ لا يكون لهذه الحروفِ معانٍ أبدًا، وهذا قولُ مجُاهدٍ (^١)، وهو الصَّحيحُ؛ أنَّه لا معانيَ له.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: كيف تَجْزِمونَ بأنَّه لا معانيَ لها، والنَّفْيُ يحتاجُ إلى حُجَّةٍ؟
قُلْنَا: نجزم بذلك؛ لأنَّ القرآنَ نزل بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ، واللِّسان العربيُّ ليس فيه
_________
(^١) أخرجه الطبري في تفسيره (١/ ٢٠٩)، وانظر: تفسير ابن كثير (١/ ٧٠).
1 / 9
هذه الحروفُ الهجائيَّة، وهذه الحروفُ في اللِّسان العربيِّ معناها أنَّها حروفٌ يكون منها الكلامُ فقط، ولكنْ ذكروا أنَّ هذه الحروفَ الهجائيَّةَ لها مَغزًى؛ وهو إظهارُ عَجْزِ هؤلاء المُكذِّبينَ بأنَّ هذا القُرآنَ من هذه الحروفِ التي تكوِّنونَ منها كلامَكم، ومع ذلك فقد أعجزكم، فهو لم يأْتِ بشيءٍ بديلٍ، إنَّما أتى بالحروف التي تُرَكِّبونَ كلامَكم منها؛ قالوا: ويدلُّ لذلك أنَّكَ لا تكاد ترى سورةً ابتُدِئَتْ بهذه إلا ويليها ذكْرُ القرآنِ.
قال تعالى: ﴿الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ﴾ أي: القرآنِ، المرادُ بالكتابِ القرآنُ، وهو فِعالٌ بمعنى مفعولٍ؛ أي: مَكْتوب؛ وسُمِّيَ كتابًا؛ لأنَّه كُتِبَ في اللَّوْح المَحْفوظِ، وفي الصُّحُفِ التي بأيدي الملائِكَة، وفي الصُّحُفِ التي بِأَيْدينا؛ ولهذا سُمِّي كتابًا.
وقال ﵀: [مبتدأٌ] أي ﴿تَنْزِيلُ﴾؛ لأنَّ الكتابَ مضافٌ إليه.
وقوله ﵀: [﴿لَا رَيْبَ﴾ شكَّ ﴿فِيهِ﴾ خبرٌ أوَّلُ] ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ يعني: أنَّ تنزيلَ الكتابِ مؤكَّدٌ ليس فيه رَيْبٌ، وهل النَّفيُ هنا على بابِهِ، أو هو نَفْيٌ بمعنى النَّهْيِ؛ أي: لا تَرْتابوا فيه؟
الجوابُ: فيه قولانِ: فمِنَ العُلماءِ من يقولُ: إنَّ النَّفْيَ هنا بِمَعْنى النَّهْيِ؛ فمعنى ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي: لا تَرْتَابوا فيه، وبعضُ أَهْلِ العِلْمِ يقولُ: إنَّ المرادَ بالنَّفْيِ حقيقَتُه، والمعنى: أنَّ هذا الكتابَ ليس فيه رَيْبٌ، وإذا لم يكنْ فيه رَيْبٌ لَزِمَ مِن ذلك النَّهْيُ عَنِ الرَّيْبِ؛ لأنَّه إذا انتفى الرَّيْبُ في القرآنِ فلا يَحِلُّ لنا أنْ نَرْتَابَ فيه.
وهذا القَوْلُ أَبْلَغُ: أن يكونَ بالنَّفْيِ ليس فيه رَيْبٌ، سواءٌ ارْتابَ فيه مَنِ ارْتابَ أمْ لم يَرْتَبْ، فهو حقيقةٌ لا رَيْبَ فيه.
1 / 10
والرَّيْبُ يقول المُفَسِّر ﵀: إنَّه الشَّكُّ؛ ولكنْ ذهب بعضُ أَهْلِ العِلْمِ إلى أنَّه لا يوجدُ كلمتانِ مترادِفَتانِ في المعاني، بل لا بدَّ أن يكون هناك فارِقٌ، وقالوا: إنَّ الرَّيْبَ شَكٌّ مع قَلَقٍ ورِيبَةٍ؛ وليس مُطْلقَ شكٍّ، بل هو شكٌّ خاصٌّ، وهو الذي يكون فيه القَلَقُ والإرتيابُ، وكونُ النَّفْسِ يكون معها انشغالٌ بخلافِ الشكِّ المجرَّدِ.
وقوله ﵀: [﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ خبرٌ ثانٍ] والمعنى: تنزيلُ الكتابِ مؤكَّدٌ لا رَيْبَ فيه، تنزيلُ الكتابِ من ربِّ العالمينَ.
وعلى هذا فيكون الخبرُ الأَوَّلُ جملةً؛ فالخبرُ الأوَّلُ ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ جملةٌ؛ لأنَّ ﴿لَا﴾ نافِيَة للجِنْس و﴿رَيْبَ﴾ اسْمُها و﴿فِيهِ﴾ خبرٌ، وهو جُملة، والخبرُ الثاني ﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ شِبْه جملةٍ من جارٍّ ومجرورٍ.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ ربُّ العالمينَ الذي خَلَقَه ومَلَكَه ومَلَكَ التَّصَرُّفَ فيه؛ والرُّبوبيَّةُ تشملُ ثلاثةَ أشياءَ: الخَلْق، والمِلْك، والتَّدبير.
وقوله ﷿: ﴿الْعَالَمِينَ﴾ المرادُ به ما سِوَى الله ﷿، وسُمِّيَ ما سِوَى الله عالَمٌ؛ لأنهم عَلَمٌ على خالِقِهِم، وما من شيءٍ إلا فيه آيةٌ من آياتِ الله ﷾ تَشْهَد له بالوحدانيَّة والقُدْرةِ والعِزَّةِ وغير ذلك.
وقوله تعالى: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ يعني أنَّ تنزيلَ الكتابِ من الله لا إشكالَ فيه، فليس قولَ محمدٍ ولا قولَ جبريلَ ولا قولَ أحدٍ من الخَلْق، بل هو مِنْ رَبِّ العالمين وَحْدَه.
ويجوز في الإِعْرابِ أن نجعل ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ في مَوْضِع نصبٍ على الحالِ: ذلك الكتابُ خاليًا من الرَّيْبِ؛ من أين هو؟ الجوابُ: ﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
1 / 11
ويجوز أن نَجْعَلَ ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ خبرًا واحدًا؛ و﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ حالٌ من قوله تعالى: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾؛ فتَجْعَلُ الجُمْلَتَينِ خبرينِ، أو إحداهما خبرًا والأخرى حالًا.
وعلى كلِّ حالٍ: فمعنى الآيةِ الكريمةِ أنَّ تنزيلَ الكتابِ أمرٌ لا شكَّ فيه، وأنَّه ﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ أيضًا لا شكَّ فيه، وعندي أنَّ أَحْسَنَ ما يُقالُ في الإعرابِ: أنْ يُجْعَلَ ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ هو الحالَ؛ تنزيلُ الكتابِ من رَبِّ العالمينَ لا مِن غَيْره، و﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ يكونُ حالًا.
من فوائد الآيتين الكريمتين:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: أنَّ القرآنَ الكريمَ لم يأتِ بجديدٍ؛ أتى بالحروفِ التي يتكلَّمُ بها النَّاس، ومع ذلك أَعْجَزَهُم؛ يؤخَذُ من قوله تعالى: ﴿الم﴾ لأن الصَّحيحَ أنه ليس له معنًى.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أن القرآنَ كلامُ الله ﷾؛ لقوله تعالى: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وجه ذلك: أنَّ القرآنَ كلامٌ وأضافه الله إلى نَفْسِه، فيقتضي أن يكونَ كلامَهُ.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: إثباتُ عُلُوِّ الله؛ لقوله ﷾: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ والنُّزُولُ لا يكون إلا مِنْ أعلى.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: إثباتُ أن القرآنَ الكريمَ مكتوبٌ؛ لقوله تعالى: ﴿الْكِتَابِ﴾ ولقد سبق لنا أنه مكتوبٌ في لَوْحٍ مَحْفوظٍ، وفي الصُّحُف التي بِيَدِ الملائكة، وفي الصُّحُف التي بأيدينا.
1 / 12
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: تأكيدُ أنَّ هذا القرآنَ مُنَزَّل مِنْ عند الله؛ لقوله ﷾: ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: إثباتُ ربوبيَّةِ الله ﷾ لجميعِ الخَلْقِ؛ لقوله ﷾: ﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: الإشارَةُ إلى أنَّ هذا القرآنَ مُلزَمٌ به جميعُ النَّاسِ؛ تُؤْخَذُ من قوله تعالى: ﴿تَنْزِيلُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فإذا كان ربُّهُم الذي أنزله فمعناه أنه يَلْزَمُهُم جميعًا العَمَلُ بهذا القرآنِ.
* * *
1 / 13
الآية (٣)
* قالَ الله ﷿: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [السجدة: ٣].
* * *
ثم قال: [﴿أَمْ﴾ بل ﴿يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ محمدٌ؟ لا].
﴿أَمْ﴾ يقول المُفَسِّر إنَّها بمعنى [بل] إذَنْ فهي للإضراب الإنتقاليِّ، وليست للإضراب الإبطاليِّ؛ لأنَّها لم تُبْطِل ما سَبَقَها، ولكنَّها مع ذلك مُضَمَّنةٌ معنى بل والهمزة، وأَصْلها: بل أَيَقُولون افْتَراه؟ والإسْتِفْهامُ في هذه الآية للإِنْكارِ بدليلِ قوله ﵀: [لا]، يعني أنه ليس مُفْترًى، والإفتراءُ معناه الكَذِب، فمعنى ﴿افْتَرَاهُ﴾ أي: كَذَب بادِّعائِهِ أنَّه من عند الله.
وقوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ﴾ أي: القرآنُ أو الكِتابُ؛ كما عبَّر الله به.
وقوله تعالى: ﴿الْحَقُّ﴾ أي: الثَّابتُ الذي لا يَتَزَلْزَل، وهو الحقُّ المشتَمِلُ على كلِّ خيرٍ.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ حالٌ من قوله: ﴿هُوَ﴾ يعني: حالَ كَوْنِه من ربِّك، وتأمَّلْ في الآية الأُولى قال: ﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وهنا قال: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ لأنَّ الذي اتُّهِمَ بالإفتراءِ هو الرَّسولُ ﷺ، فأراد الله تعالى أن يُبَيِّنَ أنَّ الرَّسولَ ﷺ لا يُمْكِن أن يَفْتَرِيَ الكَذِبَ؛ لأنَّ له من الله ربوبيَّةً خاصَّةً وهي قوله: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ فالرُّبوبيَّةُ هنا
1 / 14
ربوبيَّة خاصَّة؛ ثم بيَّنَ الله الحكمةَ من ذلك قوله: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا ...﴾ إلخ.
والحكمة من اختلافِ التَّعبيرِ بين قوله ﷾: ﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وقوله ﷾: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ وهو أنَّه لما أراد أن يتبع أمْر القرآنِ من حيثُ هو قرآنٌ بيَّن أنَّه نازلٌ من ربِّ العالمين الذي يَعْتَمِدُ عليه هؤلاء العالمَونَ، فنُزِّلَ عليهم الكتابُ؛ لأنه لما كان ربَّ العالمين وجب على جميع العالمَينَ أن يَقْبَلوا هذا وأنَّه من ربِّنا؛ أمَّا في قوله تعالى: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ فلأنَّه لما نُسِبَ الرَّسولُ ﵊ إلى الكَذِبِ في هذا القرآن ذَكَرَ الله تعالى ربوبيَّتَه الخاصَّة: ﴿مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ﴾ إشارةً إلى أنَّه رسولُ الله، وأمَّا المُنْذِر في القرآن فهو ربُّه الذي يعتني به ويَرُبُّه ربوبيَّةً خاصَّةً.
ففي الأوَّل من حيث وَصْفُ القرآنِ بأنَّه قرآنٌ قال: ﴿تَنْزِيلُ مِنْ رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ وفي الثاني قال: ﴿بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ الذي يَرُبُّكَ ربوبيَّةً خاصَّة، وأنت مربوبٌ له.
قال ﷾: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا﴾ المفعولُ الثَّاني محذوفٌ تقديره (به)، ولكِنْ في المسألَةِ نَظَرٌ، إن كان مفعولًا به ففيه نظرٌ، ولكن لا شكَّ أنَّ التَّقْديرَ (به)، وأنه هو آلة الإنذارِ التي يُنْذَر به أي بِسَبَبِه، ولكن المفعول الثَّاني محذوفٌ عُرِف في غير ما ذكره المُفَسِّر ﵀: ﴿لِتُنْذِرَ﴾ به ﴿قَوْمًا﴾ العذاب، وإنما اخترت ذلك لما في قوله ﷿: ﴿فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فُصِّلَت: ١٣]؛ وقد بيَّن الله ﷿ في آيةٍ أخرى ما هو المنذَرُ به.
قوله ﵀: [﴿مَا﴾ نافِيَة ﴿أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ بإنذارِكَ] قوله ﷾: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ﴾ يقول المُفَسِّر ﵀: إنَّ [﴿مَا﴾ نافية] وفي سورة يس: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ﴾ [يس: ٦] وهذا الذي قرَّرَه المُفَسِّر ﵀ أنَّ (ما) نافية - هو الصَّوابُ في إعرابها، وإن كان بعضُهُم ذكر
1 / 15
أنَّها اسمٌ موصولٌ؛ أي: لِتُنْذِرَ قومًا الذي أتاهُم مِن النُّذُرِ قبلك؛ يعني: تُنْذِرُهم العذابَ، وعلى هذا الرَّأي تكون (ما) اسمًا موصولًا، وهو المفعولُ الثاني في الجملة، لكنَّ الذي مشى عليه المُفَسِّر أَصْوَبُ: أنَّ ما نافية.
والخلاصةُ في إعراب (ما) قولانِ:
أحدهما: أنَّها نافِيَة، فيكون معنى الآيَةِ الكريمة: لِتُنْذِرَ قومًا لم يَأْتِهِمْ نذيرٌ قبلك.
القولُ الثاني: أنَّ ما اسمٌ موصولٌ؛ أي: لِتُنْذِرَ قومًا الذي أتاهم من النُّذُر قبلك.
والصَّواب الأوَّل.
والعرب لم يُرْسَلْ إليهم رسولٌ بعد إسماعيلَ إلا محمدٌ ﷺ؛ ولهذا قال النبيُّ ﵊: "أَنا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ" (^١) في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ ...﴾ إلخ.
وقوله تعالى: ﴿مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾، إِذَا قَالَ قَائِلٌ: ما هي الفائِدَةُ في وَصْف هؤلاء القومِ لِكَوْنِهِمْ لم يأتِهِمْ نذيرٌ من قبلُ؟
الجوابُ: الفائِدَة في ذلك أمران:
الأمرُ الأوَّلُ: بيانُ شدَّة حاجَتِهِم إلى الرَّسولِ ﵊ وأنَّهم في غايَةِ ما يكون من ضرورةٍ إلى بَعْثَتِه.
الأمرُ الثَّاني: بيانُ نِعْمَة الله عليهم بهذا الرَّسولِ ﵊؛ حيث إنَّه هو الرَّسولُ الذي أتاهم ولم يَأْتِهِمْ نذيرٌ مِن قبلِهِ.
_________
(^١) أخرجه الإمام أحمد (٤/ ١٢٧)، والحاكم في المستدرك (٢/ ٤١٨)، من حديث العرباض بن سارية ﵁.
1 / 16
قوله ﷾: ﴿لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ يكثُرُ في القرآنِ الكريمِ مثلُ هذا التَّعبيرِ: ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾، ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: ١٥٢]، ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: ٦٩] فهل هو للرَّجاءِ أم للتوقُّعِ؟
الجوابُ: قال بعضُهُم: إنَّها للرَّجاء، ولكن باعتبارِ حالِ المخاطَبِ لا باعتبارِ حالِ المتكلِّم؛ لأن الرَّجاءَ هو الطَّمَعُ في نَيْلِ ما يَعْسُر إدراكُه، قد لا يتعذَّرُ، لكنه يؤمَّلُ إلا أنه فيه نوعُ شِدَّةٍ، والرَّبُّ ﷿ لا يُمْكِنُ وَصْفُه بهذا الوَصْفِ، فيكون مُتَرَجِّيًا باعتبارِ حالِ المخاطَبِ.
وجملة (لعلَّ) للتَّعليل، وكونُ الله ﷾ يجعل الشَّيءَ علَّةً للشَّيء؛ ليس فيه نَقْصٌ، بل هو من كماله ﷾ أن يبني من الأسبابَ أسبابًا.
يَرِدُ على هذا القَوْل: أن العلَّة ملازِمَةٌ للمعلولِ، فإذا قال: ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ لَزِمَ أن يهتدوا فما دَامَتْ علَّة، فالعِلَّةُ ملازِمَةٌ للمَعْلول: فلما جاءهم هذا النَّذيرُ يلزم اتِّباعُه.
والجوابُ على ذلك أن يُقالَ: إنَّ العلَّةَ علَّتانِ: عِلَّةٌ باعِثَةٌ، وعلَّةٌ غائِيَّةٌ، والعلَّةُ الباعِثَة مُوجِبة وغيرُ مُوجِبَة، وهذه كقوله ﷾: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] مع أنَّهم ما يعبدون الله كلُّهُم، وكقوله ﷾: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [النساء: ٦٤]. ومعلومٌ أنَّ كثيرًا من الرُّسُل ما أُطيعوا، فيكون هنا العِلَّة الباعِثَة غيرَ الموجِبَة؛ يعني أنَّ الحكمةَ من هذا هو هذا، ثم قد تَحْصُل وقد لا تَحْصُل، ومثَّلوا لذلك بقولهم: شَرَيْتُ القَلَمَ لأكتبَ به، أو لهذه الغايَةِ، ولكن: هل يلزَمُ أن تَكْتُبَ؟
الجوابُ: قد تكتب، وقد لا تَكْتُب.
1 / 17
قوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ الإهتداءُ هنا يَشْمَلُ الهدايَةَ: هدايةَ الدَّلالَةِ، وهدايةَ التَّوفيقِ؛ فإنَّ الرَّسولَ ﵊ جاء بهدايَةِ الدَّلالةِ، والتوفيقُ بِيَدِ الله ﷿، ولا توفيقَ إلا بعد عِلْمٍ؛ قال ﵀: [﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ بإنْذَارِكَ].
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَةُ الأُولَى: بيانُ جُرْأَةِ هؤلاء المُكَذِّبين؛ لقولهم: ﴿افْتَرَاهُ﴾ أي: اخْتَلَقَه وكَذَبَ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ القُرآنَ حقٌّ غيرُ مُفْتَرًى؛ لقوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ الْحَقُّ﴾.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَّةُ: إثباتُ رِسالَةِ الرَّسولِ ﵊؛ لقوله تعالى: ﴿بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: عناية الله برسوله ﷺ؛ حيث أضافَ إليه الرُّبوبيَّةَ الخاصَّة في قوله تعالى: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: إثباتُ الحِكْمَةِ في إنزالِ هذا القُرْآنِ؛ لقوله تعالى: ﴿لِتُنْذِرَ﴾ لأنَّ اللَّام للتَّعليلِ.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: بيانُ مِنَّة الله على هؤلاء الذين أُرْسِلَ إليهِمُ الرَّسولُ ﷺ، تُؤْخَذُ من قوله تعالى: ﴿مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: شِدَّةُ الضَّرورةِ إلى إرسالِ الرَّسولِ ﷺ؛ تُؤْخَذُ مِنْ كَوْنِه لم يَأْتِهِم نذيرٌ مِن قَبْلِك، فهم في ضرورَةٍ إلى رسالَتِه، هذا على القَوْلِ بأنَّ (ما) نافِيَة، أمَّا على القَوْلِ بأنَّها اسمٌ موصول، فيُسْتَفادُ منها: أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَنْذَرَ ما أَنْذَرَتْ به الأنبياءُ مِن قَبْلِه، فيكون إذن: مُصَدِّقًا لما سَبَقَه من الرِّسالاتِ.
1 / 18
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَةُ: أنَّ الإنذارَ سببٌ للهدايَةِ؛ لقوله تعالى: ﴿لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ وهذا يشْهَدُ به الواقِعُ؛ فكم من إنسانٍ اهتدى بما أُنذِرَ!
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ: إثباتُ رَحْمةِ الله تعالى بالخَلْقِ؛ حيث أرسل إليهم النُّذُرَ من أجل هدايَتِهِم.
* * *
1 / 19
الآية (٤)
* قالَ الله ﷿: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ﴾ [السجدة: ٤].
* * *
ثم قال: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾.
﴿اللَّهُ﴾ مبتدأٌ و﴿الَّذِي﴾ اسمٌ موصولٌ خَبَرٌ، و﴿خَلَقَ﴾ بمعنى أَوْجَبَ بتقديرٍ ونظامٍ، وأنَّ الخَلْق في الأصل في اللُّغَة: التَّقْديرُ؛ كما في قول الشَّاعِر:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ ... وَبَعْضُ النَّاسِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي (^١)
ويُطْلَقُ الخلْقُ على: الإيجادِ في تقديرٍ، وهو المرادُ به هنا.
وقوله تعالى: ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ هي الأَجْرامُ المحسوسَةُ، وهي سَبْعَةٌ، وقوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضَ﴾ المرادُ بها الجِنْسُ، ويشمل جميعَ الأَرَضِينَ.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ يعني: والذي بينهما، وهو السَّحابُ، وكذلك النُّجُومُ والقمر وما أشبهها، وهذا يدلُّ على أنَّ هناك أشياءَ كثيرةً قد لا نَعْلَمُها إلى الآن، فإلى الآن نكتشِفُ أشياءَ كثيرةً مما بين السَّماء والأَرْض، ويدلُّ على أنَّ ما بين السَّماء والأرض أنه ليس مُجَرَّد سحاب فقط بل وراءَ ذلك؛ أن الله تعالى جَعَلَه قسيمًا لخلق السَّمواتِ والأرض، ولا بُدَّ أن يكون شيئًا عظيمًا يقابِلُ هذه المخلوقاتِ.
_________
(^١) البيت لزهير بن أبي سلمى، انظر: ديوانه (ص: ٣٢).
1 / 20
وقوله تعالى: ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ قال ﵀: [أوَّلُها الأَحَدُ، وآخِرُها الجُمُعَة] وقد فصَّل الله تعالى هذه الأَرْبَعَة في سورة فُصِّلَتْ، وقال تعالى: ﴿قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ [فصلت: ٩ - ١٠]؛ فالآن خَلْقُ الأَرْضِ في أَرْبَعَة أيَّامٍ، ثمَّ قال ﷾: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (١١) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [فصلت: ١١ - ١٢] فتكون الأيامُ ستَّة: أوَّلُها الأحَدُ وآخرها الجمعة.
وهل هذه الأيام كأيَّامِنا؟ أو كُلُّ يومٍ مقدارُهُ ألفُ سَنَةٍ؟ أو هي أيام بمعنى ساعاتٍ أو لحظاتٍ؟
أقوالٌ؛ فمنهم من قال: إنَّها أيَّامٌ؛ يعني لحظات؛ لأن الله إذا أرادَ شيئًا قال له: ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٧] وعبَّر بالأيَّامِ عن مطلَقِ الزَّمَن، ومنهم من قال: إنَّها أيَّام كلُّ يومٍ منها مقدارُهُ ألفُ سنةٍ، فتكون سِتَّةَ آلافِ سَنَة، ومنهم من قال: إنَّها أيَّام كأيامِنا، وإنَّ الأيام أُطْلِقَت والمرادُ بها هذه الأيَّامُ المعروفَةُ، لاسيَّما وأنَّه في سورة فُصِّلَتْ: ﴿فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾، ﴿فِي يَوْمَيْنِ﴾ ولا يمكن أن نَخْرُجَ من قراءةِ القرآنِ عن معهودِ المَعْروفِ في اللُّغَة العربيَّة.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هذا القَوْلُ وإن كان ظاهِرَ القرآن يَرِدُ عليه أمرانِ:
الأمر الأوَّل: أنَّه لمَّا خَلَقَ السَّمواتِ والأَرْضَ ليس هناك شمسٌ حتى تُحدَّدَ بالأيَّامِ؛ فماذا نقولُ؟
الأمر الثَّاني: أن يُقال: لماذا سِتَّةُ أيام؟ ولماذا لم تكن في لحظَةٍ، أو تكون في أيامٍ طويلةٍ جدًّا في لحظة باعتبارِ قُدْرَةِ الله ﷾: ﴿كُن فَيَكُونُ﴾ مهما عظُمَ الشَّيءُ،
1 / 21
في نسبة طويلة باعتبارِ هذه المخلوقاتِ؛ يعني لا يكفيها ألفُ سنة ولا أَلْفَا سنةٍ ولا مائَةُ ألْفِ سَنَة، لأنَّ المخلوقاتِ عظيمةٌ لا يكفيها هذه المدَّةُ القصيرةُ؛ فإمَّا أن تُقاسَ بقُدْرَة الله أو تقاس بحَسَبِ واقِعِها، فإنْ قِسْتُمُوها بحَسَبِ قدرة الله أنها في لحظَةٍ فالأيَّام السِّتة ليسَ لها معنًى؛ وإن قِسْتُمُوها بحسب واقعها لا بحسَب قُدرة الله فإنَّ المخلوقاتِ عظيمةٌ جدًّا منظَّمَةٌ في غايَةِ النِّظام.
فالجوابُ على هذينِ الإيرادَيْنِ:
الأَوَّل: أن هذا بِحَسَبِ عِلْمِ الله، والله يعلم متى يكون.
والثَّاني: والجوابُ عنه أن يُقالَ: هكذا قال الله ﷿، وليس لنا أن نتعدَّى ما أخْبَرَنا الله به؛ لأنَّ هذا أمرٌ لا يَسَعُنا الإحاطَةُ به، وقد قال الله ﷾: ﴿مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ﴾ [الكهف: ٥١]. ونحن لا شكَّ نقيسُ هذه الأشياء بحَسَبِ قدرة الله لا بِحَسَبِ واقِعِها، فواقِعُها لا يعلَمُه إلا الله ﷿ فإذن يجب أن تُقاسَ بِقُدْرَةِ الله، ويُقال: إنَّ تقديرَها في ستَّةِ أيَّام حسَبَ ما تقْتَضِيه حكمةُ الله ﷿، وليس لنا أن نتكلَّمَ في شيء من ذلك.
ولهذا، اليهود - لعنةُ الله عليهم - قالوا: إن الله تعالى خلقَ السَّمواتِ والأَرْضَ في ستَّة أيامٍ، ولما كان يومُ السَّبْتِ استراح! نعوذ بالله! وإنَّ يَوْمَ راحَةِ الله هو يومُ عيده، وجعلوا عيدَهُم السَّبْتَ وكَذَبُوا فِي هَذا فالله ﷿ لا يَتْعَبُ حتى يحتاجَ إلى راحةٍ.
وقوله ﷾: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾: ﴿اسْتَوَى﴾ بمعنى علا، استوى على الشيء، وقد ذَكَرْنا فيما سبق أنَّ ﴿اسْتَوَى﴾ وردت في القرآن على أَرْبَعَةِ أوْجُه: مُطْلَقَة، ومُقَيَّدَة بـ (إلى)، ومُقيَّدَة بـ (على)، ومُقيَّدة بواو المعِيَّة:
1 / 22
١ - فإذا جاءت مُطْلَقَة، فهي بمعنى كَمُلَ؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾ أي: كَمُلَ.
٢ - وإذا قُيِّدَت بـ (إلى) فهي بمعنى القَصْدِ التَّامِّ؛ كما في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ وفي هذه الآية قولٌ ثانٍ: أنَّ استوى بمعنى علا: (ثم علا إليها) لكنْ هذا كغيره من الصِّفاتِ التي لا تُعْلَمُ كيفيَّتُها.
٣ - مُقَيَّدة بـ (على) وتكون بمعنى العُلُوِّ والإسْتِقْرارِ؛ كما في قوله ﷾: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ﴾ وفي قوله ﷾: ﴿لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ﴾ أي: لِتَعْلُوا على ظُهُوره وتَسْتَقِرُّوا، ولم تأتِ بغيرِ هذا المعنى أبدًا في اللُّغَةِ العربيَّةِ، فإذا قُيِّدَتْ بـ (على) لا تأتي إلا بهذا المعنى، ولا تكون بغيره أبدًا.
٤ - مُقَيَّدَة بواوِ المعيَّة فتكون بمعنى تساوَى، فاستوى بمعنى تساوَى؛ كقولهم: "استوى الماءُ والخَشَبَةَ" يعني: استوى الماءُ مع الخَشَبَةِ؛ صارا سِيَّانِ.
المُهِمُّ هنا: هو ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ لا تأتي بصورة غير هذا المعنى إطلاقًا، وقد جاءت في القرآن الكريمِ في سَبْعَةِ مواضِعَ، ما فيها موضِعٌ واحدٌ اختَلَفَ فيه التَّعْبيرُ عن هذا؛ إلا: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥] وما أشبه ذلك فهو عند أهل السُّنَّة والجماعَةِ بمعنى (علا على العَرْش واسْتَقَرَّ عليه)، ورُوِيَ عنهم (ارْتَفَع) ورُوِيَ عنهم (صَعِدَ وارْتَفَع) و(صَعِدَ) و(علا) معناهما متقارِبٌ؛ ولهذا اخْتَرْنا أن نقول بمعنى (علا واسْتَقَرَّ)، أما (ارتفع) و(صَعِدَ) فهو مقابِلٌ لـ (علا).
وهذا الإستواءُ استواءٌ بمعنى العُلُوِّ والإسْتِقْرار، وقد يَرِدُ عليكم سؤالٌ، ويُقال: أَلَسْتُم تقولون إنَّ عُلَوَّ الله ﷿ بذاتِهِ صِفَةٌ ذاتِيَّةٌ أزلِيَّةٌ أَبَدِيَّةٌ؟
1 / 23
نَقُول: بلى، عُلُوُّ الله بذاته صفةٌ أزليَّة أبديَّةٌ لا تنفَكُّ عن الله، خلَق ثم اسْتَوَى، فمعنى ذلك أنه حين الخَلْقِ ليس مُسْتَوِيًا على العَرْش، وهذا حقٌّ؛ لأن الإستواءَ على العَرْشِ أخَصُّ من مُطْلَقِ العُلُوِّ؛ فالإستواءُ على العَرْشِ والعُلُوُّ على العَرْشِ خاصَّةً هذا معنًى خاصٌّ غيرُ معنى (مُطْلَقِ العُلُوِّ) فالله ﷾ عالٍ دائمًا لكنْ كَوْنُه على العرش بنفسه هذا حادِثٌ قطعًا؛ لأنَّ العَرْشَ مخلوقٌ. وقد بيَّنَ الله أنَّه استوى على العَرْشِ بعد خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، ولا نعلم عمَّا قبل ذلك، والله أعلم.
ولكنَّ السؤالَ الآن: إذا قُلْتُمْ إنَّ معنى (استوى على العرش) أي: علا واسْتَقَرَّ عليه، فإنه يَرِدُ علينا إشكالٌ: بأنَّ عُلُوَّ الله ﷾ وَصْفٌ ذاتيٌّ أزليٌّ أبديٌّ، فكيف تقولون إنَّ معنى صَعِدَ علا عليه، وأنتم تقولون إنَّ العُلُوَّ صفةٌ ذاتيَّةٌ أزَلِيَّة أبديَّة، وفي العُلُوِّ عُلُوَّانِ: مُطْلَقُ عُلُوٍّ، وعُلُوٌّ خاصٌّ بالعكس؛ فالأوَّلُ الذي هو مُطْلَق العُلُوِّ صفةٌ ذاتيَّة أزليَّة أبديَّة، فالله لم يَزَلْ ولا يزالُ عاليًا بذاتِهِ على جميع الخلق، أما الإستواءُ على العَرْشِ فهو صفةٌ فعليَّة خاصَّةٌ في العرش.
وأضْرِبُ مثلًا يُقَرِّبُ المعنى: فالإنسانُ إذا كان على السَّطح فهو عالٍ على مَنْ تحت السطحِ، فإذا وُضِعَ له كرسِيٌّ في السَّطح وجلس عليه صار عُلُوُّه على هذا الكرسيِّ علوًّا خاصًّا مع ثبوتِ العُلُوِّ الأَوَّلِ الذي هو مُطْلَق العُلُوِّ، لكنَّ هذا عُلُوٌّ خاصٌّ: على هذا الكرسيِّ.
فتبيَّنَ أنَّ هناك فرقًا بين العُلُوِّ بالمعنى العامِّ؛ فإنه وَصْفٌ ذاتيٌّ أزليٌّ أبديٌّ، وبين استوائه على العَرْش الذي هو علوٌّ خاصٌّ على ذلك العَرْش؛ ولهذا بعضُ السَّلَفِ ورد عنه تَفْسيرُه: (بأنَّه جلس عليه) وهذا قريبٌ من تفسيره بالإستقرار، فهذا علوٌّ خاصٌّ، ففرَّقَ بين العُلُوِّ الخاصِّ، وبين العُلُوِّ بالمعنى العامِّ.
1 / 24
وننتقل من هذا المعنى إلى أن نقولَ: هل الإستواءُ على العرش من الصِّفاتِ الفِعْلِيَّةِ أم من الصِّفاتِ الذَّاتِيَّةِ؟
الجوابُ: الإستواءُ من الصِّفاتِ الفِعْلِيَّة، وأنَّ كل شيء يتعلَّقُ بالمشيئة إن شاء الله فَعَلَ وإنْ شَاء لم يَفْعل، فهو من الصِّفاتِ الفِعْلِيَّة فضلًا عن الإسْتِوَاء على العَرْشِ، فإنَّه من الصِّفات الفعليَّة.
وأهلُ السُّنَّة يقولون: ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ أي علا عليه واستقرَّ، وكيف كان ذلك العُلُوُّ والإستقرارُ؟
لا ندري؛ ولهذا قال الإمامُ مالكٌ ﵀ لما سُئِلَ؛ قيل له: يا أبا عبد الله ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: ٥] كيف استوى؟ فأَطْرَقَ ﵀ بِرَأْسِهِ حتى علاه الرُّحَضَاءُ - العَرَقُ - من شِدَّة وقْعِ هذا السُّؤالِ على قلبه، ثم رَفَعَ رأسه، وقال: "الإسْتِواءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، والكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، والإيمانُ به واجِبٌ، والسُّؤَالُ عنه بِدْعَةٌ" (^١)؛ ويُنْقَلُ عن مالكٍ على غيرِ هذا اللَّفْظِ أنه قال: "الإستواءُ مَعْلومٌ، والكَيْفُ مَجْهولٌ، والإيمانُ عنه واجِبٌ، والسُّؤالُ عنه بدعة" (^٢) لكن الذي صَحَّ عنه بالسَّنَدِ هو اللَّفْظُ الأَوَّلُ، وهو: "الإستواءُ غيرُ مجهولٍ، والكَيْفُ غير مَعْقولٍ، والإيمانُ به واجبٌ، والسُّؤالُ عنه بِدْعَةٌ" ثم قال: "ما أُراكَ إلا مُبْتَدِعًا! " مع أنه يُحْتَمَلُ أنه سألَ سُؤالَ اسْتِفْسارٍ ولم يسألْهُ إفحامًا، ولهذا قال: وما أُراك أوْ ما أظُنُّك إلَّا مُبْتَدِعًا، ثم أمر به فأُخْرِجَ من الحَلْقَة لئلَّا يُشَوِّشَ على النَّاس.
_________
(^١) أخرجه اللالكائي في اعتقاد أهل السنة رقم (٦٦٤)، والبيهقي في الأسماء والصفات رقم (٨٦٧)، وأبو نعيم في الحلية (٦/ ٣٢٥)، والدارمي في الرد على الجهمية رقم (١٠٤).
(^٢) انظر: الإقتصاد في الإعتقاد للغزالي (ص: ٣٨)، والملل والنحل (١/ ٩٣)، والعرش للذهبي (١/ ١١٧ - ١١٨).
1 / 25