Tafsir al-Uthaymeen: Al-Ma'idah
تفسير العثيمين: المائدة
Mai Buga Littafi
دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع
Lambar Fassara
الثانية
Shekarar Bugawa
١٤٣٥ هـ
Inda aka buga
المملكة العربية السعودية
Nau'ikan
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
* قال الله ﷿: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١)﴾ [المائدة: ١].
قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾.
أولًا: هذه السورة مدنية وهي آخر ما نزل من القرآن؛ ولذلك قال العلماء: ما كان فيها من حلال فأحلوه، وما كان فيها من حرام فحرموه، ولم يأتِ فيها حكم يكون منسوخًا، بل كل الأحكام التي فيها محكمة، وهي مدنية؛ لأنها نزلت بعد الهجرة، وكل ما نزل بعد الهجرة فإنه مدني، وإن نزل بمكة، وإلا ففيها قول الله تبارك وتعالي: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣] وهذه الآية نزلت في عرفة والنبي ﷺ واقف بها (^١).
البسملة لا حاجة لتكرار الكلام عليها لأنه سبق (^٢) الكلام
_________
(^١) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾، حديث رقم (٤٣٣٠)، ومسلم، كتاب التفسير، باب، حديث رقم (٣٠١٧) عن طارق بن شهاب.
(^٢) انظر: تفسير سورة الفاتحة لفضيلة شيخنا المؤلف رحمه الله تعالى.
1 / 5
عليها، وأنها آية من كتاب الله مستقلة ليست من السورة التي قبلها ولا التي بعدها، يؤتى بها عند بدء كل سورة سوى سورة براءة، وأنها متعلقة بمحذوف، ويقدر هذا المحذوف فعلًا متأخرًا مناسبًا للموضوع الذي تقدمته هذه البسملة، هذا أحسن ما قيل في متعلق البسملة.
وعليه: فإذا كنت تريد أن تقرأ تقول: إن الجار والمجرور متعلق بفعل محذوف تقديره باسم الله أقرأ، وإذا كنت تريد أن تتوضأ تقول: باسم الله أتوضأ، وإذا كنت تريد أن تذبح مذكاة تقول: باسم الله أذبح .. وهكذا.
وقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ اعلم أنه إذا صُدِّر الكلام بهذه الجملة ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فإنه كما قال عبد الله بن مسعود ﵁: أرعها سمعك -يعني: انتبه لها- فإما خير تؤمر به، وإما شر تنهى عنه (^١)، وإما خبر يكون فيه مصلحة لك، مثل قول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ [التوبة: ٢٨] وما أشبه ذلك.
واعلم أيضًا أنه إذا صدر الكلام بها فإنه يدل على أن ما بعدها من مقتضيات الإيمان؛ تصديقًا به إن كان خبرًا، وعملًا به إن كان طلبًا، وأن مخالفة ذلك نقص في الإيمان وامتثاله يزيد به الإيمان.
واعلم أيضًا أن الله تعالى يصدر الخطاب بها إغراءً للمخاطب؛ لأن قوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ كأنه يخاطبهم بقوله: إن إيمانكم يحملكم على أن تفعلوا كذا وكذا وأن تتركوا كذا وكذا حسب السياق.
وقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ أوفوا بها أي:
_________
(^١) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره (١/ ١٩٦)، وأبو نعيم في الحلية (١/ ١٣٠)، وأحمد في الزهد (ص ١٥٨).
1 / 6
ائتوا بها وافية كاملة من غير نقص، وقد بَيَّن الله تعالى الوعيد على من يستوفي العقود تامة ولا يوفيها تامة، في قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣)﴾ [المطففين: ١ - ٣] إذًا: (أوفوا) بمعنى: ائتوا بها كاملة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: ٣٤]، ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ﴾ [الإسراء: ٣٥] وما أشبه ذلك.
و"العقود" جمع عقد: وهو ما أبرمه الإنسان مع غيره، وضد العقد الحل، تقول: عقدت الحبل وحللت الحبل، فالعقود هي ما أبرمها الإنسان مع غيره، وهي أنواع كثيرة: منها البيع والإجارة والرهن والوقف والنكاح وغير ذلك.
وقوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ هذا عام فأي عقد فإنه يجب الوفاء به، ولكن لا بد أن يقيد بما جاءت به الشريعة، وهو ألا يكون العقد محرمًا، فإن كان العقد محرمًا فإن النصوص تدل على عدم الوفاء به بل على تحريم الوفاء به، لقول النبي ﷺ: "ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط" (^١).
قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ أحلت: هذا فعل مبني لما لم يسمَّ فاعله، وفاعله معلوم ليس مجهولًا؛ لأن الفاعل هنا هو الله ﷿، كما قال الله ﵎: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ [النحل: ١١٦] فالمُحِلُّ هنا هو الله ﷿.
_________
(^١) رواه البخاري، كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطًا في البيع لا تحل، حديث رقم (٢٠٦٠)، ومسلم، كتاب العتق، باب إنما الولاء لمن أعتق، حديث رقم (١٥٠٤) عن عائشة.
1 / 7
وقوله: ﴿بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ البهيمة: ما لا ينطق، فكل حيوان لا ينطق فهو بهيمة، وذلك لأن البهائم لا تُعْرِبُ عما في ضميرها بل يكون ما في ضميرها مبهمًا لا يُعرف.
وقوله: ﴿الْأَنْعَامِ﴾ المراد بها ثلاثة أنواع: الإبل والبقر والغنم، فإضافة البهيمة إلى الأنعام من باب إضافة الشيء إلى جنسه، أي: البهيمة من الأنعام، كما تقول: خاتم حديد، وباب خشب، وما أشبه ذلك.
وقولنا: بهيمة الأنعام هي الإبل والبقر والغنم هذا تفسير للأنعام لا للبهيمة.
قوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ هذا استثناء من قوله: ﴿بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ لأن بهيمة الأنعام مفرد مضاف فيعم كل شيء من بهيمة الأنعام.
وقوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ المراد بذلك ما سيأتي في الآية التي بعدها في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ [المائدة: ٣] هذا الذي يتلى عليهم.
قوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ هذا استثناء من قوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾ ويحتمل أن تكون حالًا، وهو الأقرب؛ لأنها مضافة إلى اسم الفاعل، يعني: أحلت لكم حال كونكم غير محلي الصيد وأنتم حرم.
وقوله: ﴿مُحِلِّي الصَّيْدِ﴾ أي: مستبيحيه وذلك بصيده.
قوله: ﴿وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ جملة حالية، والحُرُم جمع حرام وهو: من تلبس بالإحرام بحج أو عمرة أو دخل في الحرم وإن لم يكن محرمًا.
1 / 8
والحَرم في مكة معروف بحدوده، وفي المدينة كذلك أيضًا، لكن المدينة ليست كمكة في التحريم بل هي أقل كما سيذكر إن شاء الله تعالى.
والمراد بالصيد في حال الإحرام: كل حيوان بري متوحش أصلي؛ أي: متوحش باعتبار أصله، مثاله: رجل محرم قبل أن يدخل حرم مكة نزل ضيفًا على إنسان عنده حمام فاشترى منه حمامًا؛ هذا لا يجوز لأنه صيد، وعليه فإن كان الرجل في الحرم أو كان محرمًا فلا يجوز الصيد، ومثال آخر: رجل اشترى دجاجة غير مقدور على إمساكها تطير كالحمام هذا يجوز؛ لأن الدجاج غير متوحش أصلًا فهو ليس بصيد، وأيضًا من أمثلة الصيد الغزال والظباء والضب، وأما الغراب فلا يدخل لأنه لا يؤكل بل يدخل في الخمس التي أمر بقتلها في الحل والحرم.
قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ الجملة كالتعليل لما قبلها، لما ذكر الله ﷿ الإحلال والتحريم قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾، الحكم هنا يشمل الحكم الكوني والحكم الشرعي، فكل ما يريده الله ﷿ فإنه يحكم به؛ لأنه لا راد لحكمه، إن شاء حلل هذا وحرم هذا، وإن شاء أوجب هذا ورخص في هذا، وكذلك أيضًا إن شاء حكم على عباده بالغنى والأمن؛ وإن شاء حكم بضد ذلك، فالأحكام الكونية والشرعية كلها بإرادة الله، ولا أحد يعترض على حكم الله ﷿، كما قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ [يوسف: ٤٠] يعني: ما الحكم إلا لله، ﴿أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [يوسف: ٤٠].
1 / 9
وقوله: ﴿مَا يُرِيدُ﴾ الإرادة هنا تشمل الإرادة الكونية والشرعية، فالكونية باعتبار كون الحكم كونيًّا، والشرعية باعتبار كون الحكم شرعيًّا، وحينئذٍ لا بد أن نفرق بين الإرادتين الكونية والشرعية، والفرق بينهما: أن الكونية بمعنى المشيئة، فتتعلق بما يحبه الله وما لا يحبه الله، ويقع فيها ما أراد الله ﷿ بكل حال، وأما الشرعية فهي التي بمعنى المحبة، فمعنى يريد أي: يحب، فتتعلق بما يحبه الله فقط، وقد يقع فيها المراد وقد لا يقع، فهذا هو الفرق بين الإرادتين الكونية والشرعية.
لو قال قائل: إيمان أبي بكر الصديق ﵁ وكفر أبي لهب هل وقعا بإرادة الله الكونية أم الشرعية، وكذلك إيمان أبي طالب هل هو مراد كونًا أم شرعًا؟
الجواب: إيمان أبي بكر وقع بإرادة الله الكونية والشرعية، وأما كفر أبي لهب فواقع بالإرادة الكونية فقط؛ لأن الله لا يريد الكفر شرعًا، لكن قدرًا يريده لحكمة، وأما إيمان أبي طالب فهو مراد شرعًا؛ لأن الدلالة الشرعية لا تستلزم الوقوع، ولو أراده كونًا لوقع.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: فضيلة الإيمان؛ وجه ذلك توجيه الخطاب أعني خطاب الله ﷿ إلى المؤمنين.
الفائدة الثانية: أهمية ما يذكر بعد هذا النداء، لوجود فرق بين قولك: (افعل كذا) وقولك: (يا فلان افعل كذا)، فالثاني أشد وادعى للاهتمام؛ لأنك ناديته حتى ينتبه لك، ففيه أهمية ما سيذكر بعد هذا النداء.
1 / 10
الفائدة الثالثة: وجوب الوفاء بالعقود، لقوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ لأن الأصل في الأمر أنه للوجوب لا سيما إذا كان متعلقًا بحق الآخرين، والعقد متعلق بحق الآخرين؛ لأنه إبرام شيء بينك وبين الآخر، فإذًا لأمر بالوفاء للوجوب.
الفائدة الرابعة: أن جميع العقود حلال، وجه ذلك: أن الله أمر بالوفاء بها، والله تعالى لا يأمر بالوفاء بالفحشاء أبدًا، ولكن هذا ليس على عمومه إذ يستثنى منها ما حرمه الشرع، كبيع الغرر وبيع حبل الحبلة، والبيع بالربا، والقمار، وما أشبه ذلك.
الفائدة الخامسة والسادسة: أن العقود تنعقد بما دل عليها من قول أو فعل بلفظ أو إشارة أو كتابة، وجه ذلك أن الله جل وعلا أطلق العقد فكل ما كان عقدًا بين الناس فهو عقد، ويتفرع على هذا مسائل كثيرة:
منها: جواز البيع بالمعاطاة، والمعاطاة أن يأتي الإنسان إلى الخباز وقد كُتِبَ إعلان (الخبزة بريال) فيضع الريال في مكان الفلوس ويأخذ الخبزة، هذا بيع بالمعاطاة؛ لأنه ليس فيه قبول ولا إيجاب، لكنه بالمعاطاة، وقد عرف عند الناس أنه عقد.
ومن ذلك أيضًا: الركوب في الحافلات، الإنسان يدخل باب الحافلة المفتوح فيدخل ويسلم الأجرة للذي عند الباب، ولا يتكلم ولا يعقد الإجارة بصيغة، هذه أيضًا إجارة بالمعاطاة.
ومن ذلك أيضًا: أن النكاح ينعقد بما دل عليه وأنه لا يحتاج إلى لفظ: زَوَّجْتُكَ، فإذا قال: وهبتك ابنتي، وعلم أن المراد بالهبة ليس مجانًا صح العقد، وكذلك لو قال: ملكتك
1 / 11
ابنتي فقال: قبلت، صح العقد؛ لأن هذا هو المعروف، وقد جاء في حديث الواهبة نفسها عند البخاري لفظ: "ملكتكها بما معك من القرآن" (^١).
الفائدة السابعة: وجوب الوفاء بالشروط المشترطة في العقد، فإذا عقد رجلان بينهما عقد بيع أو غيره واشترطا شروطًا فالأصل وجوب الوفاء بالشروط، وذلك لأن قوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ يشمل الوفاء بالعقد نفسه وبأوصافه التي هي شروطه؛ لأن الشروط في العقد في الحقيقة أوصاف للعقد، والأمر بالوفاء بالعقد أمر بالوفاء به وبما يتضمنه من الأوصاف.
فإذا اشترط المتعاقدان شرطًا وحصل نزاع في هذا الشرط فالصواب أن هذا الشرط يصح حتى يقيم المانع دليلًا على المنع، وعلى هذا فإننا نُجري الناس على معاملاتهم حتى نتأكد أن فيها مخالفة للشرع، فالأصل إذًا في المعاملات أن تجري على ما هي عليه حتى يقوم دليل على أنها محرمة لأن قوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ أمر، والأمر يقتضي الوجوب، فيجب الإيفاء بالعقود.
مثال ذلك: رجل باع بيتًا واشترط على المشتري أن يسكنه سنة فيجب على المشتري أن يُمَكِّنَ البائع من ذلك.
مثال آخر: امرأة اشترطت إن جاز لها المقام مع أهله وإلا فلها الفسخ؛ لأنها سمعت أن أمه شريرة طويلة اللسان سريعة الغضب، فقالت: سأقع في مشاكل فالشرط صحيح، فإذا جاز لها
_________
(^١) رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب القراءة عن ظهر القلب، حديث رقم (٤٧٤٢)، ومسلم، كتاب النكاح، باب الصداق وجواز كونه تعليم قرآن وخاتم حديد وغير ذلك من قليل وكثير، حديث رقم (١٤٢٥) عن سهل بن سعد.
1 / 12
المقام عند أهله وإلا فلها الفسخ، ولكن ينبغي في مثل هذه الحال أن يُجعل الباب مفتوحًا، فتقول: لها الفسخ أو المطالبة بأن تسكن في مكان وحدها.
مثال آخر: رجل باع أمَةً واشترط على المشتري أن يطأها سنة حتى يتزوج، هذا شرط باطل؛ لأنه ليس في كتاب الله، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، بل في القرآن ما يدل على تحريم ذلك قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧)﴾ [المؤمنون: ٥ - ٧]، وأيضًا لأن هذه الأمة خرجت عن ملكه.
مثال آخر: رجل باع أمَةً واشترط أن تخدمه سنة، أي: باعها واستثنى منفعتها يصح، ويدل له حديث جابر لما باع جمله للنبي ﷺ واستثنى حملانه (^١).
ويدخل في الوفاء بالشروط شروط النكاح بل قال النبي ﷺ: "إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به من الفروج" (^٢) فإذا اشترطت المرأة على زوجها ألا يتزوج عليها صح الشرط ويجب الوفاء به، وإذا اشترطت الزوجة أن يطلق زوجته التي معه لا يصح الشرط.
_________
(^١) رواه البخاري، كتاب الشروط، باب إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز، حديث رقم (٢٥٦٩) عن جابر بن عبد الله.
(^٢) رواه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح، حديث رقم (٢٥٧٢)، ومسلم، كتاب النكاح، باب الوفاء بالشروط في النكاح، حديث رقم (١٤١٨) عن عقبة بن عامر.
1 / 13
والفرق ظاهر: لأن الثاني فيه عدوان على الزوجة الأولى، والأول لا عدوان فيه، بل الزوج امتنع عما أباح الله له باختياره ورضاه، ولكن لو أراد الزوج أن يتزوج وتزوج، فالزوجة لها الخيار إن شاءت بقيت وإن شاءت فسخت، ولا مهر للزوج؛ لأنه هو الذي أخل بالشرط، فنقول له: تزوج، ولا نحجر عليه إذا لم يفِ بالشرط، إن اضطرته الحاجة لذلك وإلا فإن ذمته لا تبرأ وهو للإثم أقرب؛ لأن المرأة مكرهة على الفسخ وقد غرر بها، وهي ربما تبقى وهي مكرهة.
يدخل في ذلك الوفاء بالعهود لأن العهد عقد، كما جاء في آية أخرى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: ٣٤].
وأيضًا يدخل في ذلك الوفاء بالوعد، فلو قلت لإنسان: سأمر عليك غدًا في الساعة الفلانية، الصحيح أنه يجب عليك أن توفي به؛ لأن الوعد عهد ولأن إخلاف الوعد من صفات المنافقين، والرسول ﵊ لما قال في المنافق: "إذا وعد أخلف" (^١) لا يريد أن يوصل إلى أفهامنا أن هذه الخصلة من خصال المنافقين فقط، ولكن يريد منا أن نتجنبها ونحذرها، ولهذا كان القول الراجح أن الوفاء بالوعد واجب، وأنه لا يجوز للإنسان أن يخلف في الوعد إلا لعذر شرعي.
والعجب أن بعض المغرورين بأخلاق الأمم الكافرة يقول لصاحبه إذا واعده: إنه وعد إنجليزي، مع أن الكفار من أبعد
_________
(^١) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، حديث رقم (٣٣)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، حديث رقم (٥٩) عن أبي هريرة.
1 / 14
الناس عن الوفاء بالوعد، وكان على هذا أن يقول: إنه وعد مؤمن؛ لأن المؤمن هو الذي لا يخلف الوعد إلا لعذر شرعي.
تنبيه:
إذا استثنى الواعد، أي: قال إن شاء الله ولم يفِ بالوعد فالظاهر أنه لا شيء عليه؛ لأن صاحبه الذي سمعه يقول: إن شاء الله يعرف أنه لم يُردِ الوفاء التام، إلا إذا فهم المخاطب من قوله: إن شاء الله، التحقيق كان يكون أشار إليه بيده أثناء وعده له فيجب عليه الوفاء بالوعد حينئذٍ؛ لأن الوعد عقد أو معاقدة بين الواعد والموعود.
الفائدة الثامنة: أن جميع بهائم الأنعام حلال لقوله: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾، وأيضًا غير بهيمة الأنعام نقول: إنها حلال لكن لا بهذه الآية، بل بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] وعلى هذا فإذا شككنا في هذا الحيوان الزاحف أو الطائر هل هو حلال أو حرام؟ فالأصل أنه حلال، وعلى من حرمه الدليل، لكن إذا شككنا في الحلال هل ذكي ذكاة شرعية أم لا؟ فالأصل عدم الذكاة الشرعية؛ لأن الذكاة فعل لا بد من تحقق وجوده، فإذا وجدنا عضوًا من شاة ولا ندري هل هو مذكى أو غير مذكى؟ فنقول: إنه لا يحل؛ لأن الأصل عدم التذكية ما لم يوجد ظاهر يغلب على هذا الأصل، فإن وجد ظاهر يغلب على هذا الأصل فإننا نأخذ به.
فلو وجدنا رِجْلَ شاة عند بيت من بيوت المسلمين فنحن لا نعلم هل ذكيت أم لا؟ فالأصل عدم الحل، لكن هنا ظاهر يغلب على هذا الأصل وهو أن وجودها بين بيوت المسلمين يدل على أنها مذكاة، فيكون هذا الظاهر غالبًا أو مُغَلَّبًا على الأصل.
1 / 15
ولهذا قال العلماء ﵏: لو وجد الإنسان شاة مذكاة في بلد أكثر أهله ممن تحل ذبيحته فهي حلال، مع أن هناك احتمالًا أن يكون الذي ذبحها ممن لا تحل ذبيحته، لكن يغلَّب الظاهر لقوته.
الفائدة التاسعة: الإحالة على مذكور أو على ما سيذكر، لقوله: ﴿إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾، وهذا إحالة على ما سيذكر، وقد استعمل العلماء ﵏ هذا في مؤلفاتهم، وأكثر من رأيناه يستعمله الحافظ ابن حجر ﵀، فما أكثر إحالاته، ومع ذلك أحيانًا ينسى أن يوفي ﵀.
الفائدة العاشرة: أن الأصل في البهيمة -أعني: بهيمة الأنعام- الحل كما قررناه قبل قليل، وجه ذلك: الاستثناء من هذا الحكم ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا﴾، وقد قال العلماء ﵏: إن الاستثناء معيار العموم -معيار يعني: ميزانًا- فإذا وجدت شيئًا فيه استثناء فاعلم أن هذا الحكم عام؛ لأنه لما أخرج هذا الفرد من أفراده علم أن الحكم شامل لجميع الأفراد.
الفائدة الحادية عشرة: أنه لا يحل الصيد للمُحْرِم، لقوله: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ ولا لمن كان في الحرم؛ لأن من كان في الحرم فقد دخل في جو محرَّم فيه الصيد فيحرم عليه الصيد.
لكن لو صاد صيدًا حلالًا يعني: أنهر الدم وسمَّى الله وقتله فإنه لا يحل، لقوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ أي: غير محليه، فدل ذلك على أنهم إذا قتلوه فهو حرام فلا يحل لهم أن يحللوه لأنفسهم؛ ولهذا عبر الله عن صيد الصيد بالقتل، فقال تعالى في آية أخرى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: ٩٥] ومعلوم أنه لا يريد أن يقتل بغير الصيد الشرعي؛
1 / 16
لأن القتل بغير الصيد الشرعي منهي عنه سواء كان الإنسان مُحْرِمًا أم غير محرم، لكن لما كان صيد الصيد في حال الإحرام حرامًا صار هذا الصيد بمنزلة القتل، فيكون المصيد حرامًا.
الفائدة الثانية عشرة: تعظيم الإحرام وأنه يحرم على المحرم الصيد لئلا ينساب وراء الصيد فينسى الإحرام، إذ من المعلوم الآن عند أهل الصيد أنهم شغوفون به وأنه يأخذ بلبهم وعقولهم، حتى إنك ترى الصائد يلحق الصيد والحصى يُدمي قدمه والشوك يخرقها ومع ذلك لا يبالي، فلو أحل الصيد للمحرم لتلهى به عن إحرامه وغفل.
الفائدة الثالثة عشرة: إثبات الحكم لله، لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾.
الفائدة الرابعة عشرة: إثبات الإرادة لله جل وعلا، لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾.
الفائدة الخامسة عشرة: الإشارة إلى أنه لا يحل للإنسان أن يعترض على الأحكام الشرعية، وجه ذلك: لأن الله ختمها بقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ وذلك بعد أن ذكر أنواعًا من الأحكام.
° قال الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢)﴾ [المائدة: ٢].
1 / 17
نقول في قوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ما قلناه في الآية الأولى.
قوله: ﴿لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾ أي: لا تنتهكوا حرماتها، و"الشعائر" جمع شعيرة، وهي العبادات الكبار، كالحج والعمرة ونحو ذلك، وذلك لأن الأحكام الشرعية شعائر وغير شعائر، الأحكام الكبيرة تسمى شعائر، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: ١٥٨].
قوله: ﴿وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾ الشهر هنا المراد به الجنس، وليس المراد به الواحد، فالشهر الحرام شهور أربعة بينها الله تعالى في قوله: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التوبة: ٣٦] وبيَّن النبي ﷺ أعيان هذه الأشهر بأنها: ذو القَعدة بفتح القاف وهو الأفصح ويجوز الكسر، وذو الحِجة والأفصح كسر الحاء، والمحرم والرابع رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان (^١)، هذه الأشهر الحرم، يقول الله تعالى: لا تحلوها بالمعاصي وأيضًا لا تحلوها بالقتال؛ لأن القتال في الأشهر الحرم حرام، حتى الكفار لا يحل أن نبدأهم بالقتال في الأشهر الحرم، إلا دفاعًا عن النفس أو إذا كان امتدادًا لقتال سابق، وهذه المسألة يأتي إن شاء الله بيان حكمها واختلاف العلماء فيها.
_________
(^١) رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا﴾، حديث رقم (٤٣٨٥)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال، حديث رقم (١٦٧٩) عن أبي بكرة.
1 / 18
قوله: ﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾ أي: لا تحلوا الهدي، والمراد بالهدي ما يهدى إلى الحرم، من إبل أو بقر أو غنم، وكيفية إحلاله أن يذبحه قبل أن يبلغ محله، فلو أن الإنسان ساق الهدي من الميقات: من ذي الحليفة مثلًا ثم أراد أن يذبحه أو ينحره قبل الوصول إلى مكة كان هذا حرامًا لا يحل، ولهذا قال: ﴿وَلَا الْهَدْيَ﴾ والعطف هنا لا يدل على المغايرة، فليس المعنى أن الهدي ليس من شعائر الله بل هذا كقول الله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: ٢٣٨] فالعطف هنا لا يدل على أن الصلاة الوسطى ليست من الصلوات، لكن قد يعطف الخاص على العام للعناية به.
قوله: ﴿وَلَا الْقَلَائِدَ﴾ جمع قلادة، والمراد بالقلائد: ما تقلد به أعناق الهدي، وكان من عادتهم أن يجعلوا في عنق كل واحدة قلادة، إشارة إلى أنها هدي، ويعلق في هذه القلادة النعال البالية وأطراف الأسقية أي: أطراف القرب وما أشبه ذلك، إشارة إلى أن هذه للفقراء، فمن حين أن يرى الإنسان هذا البعير أو هذه الشاة وعليها هذه القلادة يعرف أنها هدي فيحترمها ولا يضيرها بشيء، ويحتمل أن يقال: إن القلائد أعم من ذلك، وأن المراد: ولا ما تقلدتموه، أي: ما تقلدتموه من عهود ووعود وغيرها، ولكن السياق يدل على المعنى الأول، القلائد يعني: قلائد الهدي.
قوله: ﴿وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ يعني: ولا تحلوا أيضًا.
قوله: ﴿آمِّينَ﴾ بمعنى قاصدين، ﴿الْبَيْتَ﴾ مفعول به لآمين
1 / 19
و﴿الْبَيْتَ الْحَرَامَ﴾ هو الكعبة وسماه الله بيتًا لأنه بيت في الواقع، إذ إنه حجرة ذات أركان وسقف، ووصفها الله بالحرام لما لها من الحرمة والتعظيم، ولهذا كان ما حولها محترمًا، حتى الأشجار محترمة في الحرم، مع أن الأشجار جماد، أما الحصى والتراب فغير محترم، ولهذا لك أن تكسر الحصاة، ولك أن تنقل التراب إلى خارج الحرم، بخلاف الأشجار، لكن الأشجار التي لا تنمو كالتي قد يبست وكأغصان انكسرت فهذه ليست حرامًا.
قوله: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا﴾ جملة يبتغون في موضع نصب على الحال من "آمّين".
وقوله: ﴿يَبْتَغُونَ﴾ أي: يطلبون.
وقولة: ﴿فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ﴾ الفضل هنا يشمل الفضل الدنيوي والفضل الأخروي، دليل ذلك قوله ﵎ لما ذكر أحكام الحج قال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨] وهذا فضل الدنيا يشير به إلى من أتى إلى الحج يبيع ويشتري أو يكاري إبله أو سيارته أو ما أشبه ذلك.
وقوله: ﴿وَرِضْوَانًا﴾ أي: رضًا من الله ﷿ وفيها قراءتان ضم الراء وكسرها (رُضوانًا) و(رِضوانًا).
وقوله: ﴿وَرِضْوَانًا﴾ أي: من ربهم، فالرضوان هنا عام فهم يريدون رضوانًا من الله ﷿ ومن أنبيائه وأوليائه وأصفيائه، لكن الأصل الأصيل أنهم يريدون الفضل من الله ﷿.
قوله: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا﴾ إذا حللتم أي: من الإحرام، لقوله تعالى: ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: ١].
1 / 20
وقوله: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ﴾ أي: من إحرامكم ﴿فَاصْطَادُوا﴾ والمراد بالإحلال هنا الإحلال الأول الذي يحصل برمي جمرة العقبة يوم العيد والحلق أو التقصير، كما جاءت بذلك السنة أن من رمى وحلق حل له كل شيء إلا النساء (^١)، هذا هو المراد بقوله: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ﴾ وليس المراد إذا حللتم من كل الإحرام.
وقوله: ﴿فَاصْطَادُوا﴾ أصلها فاصتادوا لكن لعلة تصريفية قلبت (التاء) (طاء)، والمعنى: صيدوا الصيد، ولم يقل: فصيدوا؛ لأن الصيد يحتاج إلى عمل وحركة وافتعال، وإن شئت فقل: وانفعال أيضًا، وسيأتينا إن شاء الله تعالى هل الأمر هنا للإباحة أو لرفع النهي، وينظر في حكم الاصطياد الأصلي.
قوله: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا﴾ ﴿شَنَآنُ﴾ فيها قراءتان بسكون النون وفتحها، وكذلك "أنْ" في قوله تعالى: ﴿أَنْ صَدُّوكُمْ﴾ فيها قراءتان بفتح الهمزة وكسرها، فالشنآن هو البغض.
قوله: ﴿قَوْمٍ﴾ المراد بالقوم هنا وإن كان نكرة أهل مكة، فالنكرة هنا معلومة.
والمعنى على قراءة الكسر أي: لا يحملنكم بغضهم إن
_________
(^١) رواه بهذا اللفظ الدارقطني (٢/ ٢٧٦) (١٨٥)، ورواه بدون ذكر الحلق: أبو داود، كتاب المناسك، باب في رمي الجمار، حديث رقم (١٩٧٨) عن عائشة، والنسائي، كتاب مناسك الحج، باب ما يحل للمحرم بعد رمي الجمار، حديث رقم (٣٠٨٤)، وابن ماجه، كتاب المناسك، باب ما يحل للرجل إذا رمى جمرة العقبة، حديث رقم (٣٠٤١) عن ابن عباس.
1 / 21
صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وهذا إشارة إلى أنهم سوف يصدونكم عن المسجد الحرام، لكن إن صدوكم فلا تعتدوا.
أما على قراءة الفتح "أَن صدوكم" فتكون الجملة تعليلًا، أي: لا يحملنكم بغضهم من أجل صدهم إياكم أن تعتدوا.
إذًا: يختلف المعنى باختلاف القراءتين، فعلى قراءة كسر الهمزة إخبار عما يتوقع، وعلى قراءة فتح الهمزة إخبار عما وقع، فيكون المعنى الأول: ولا يحملكم بغض هؤلاء إن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وعلى الثانية: ولا يحملكم بغض قوم لكونهم صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا.
وقوله: ﴿صَدُّوكُمْ﴾ أي: صرفوكم، وهذا ينطبق تمامًا على ما فعلته قريش في غزوة الحديبية، فإنها صدت النبي ﷺ، وأحلت شعائر الله، وأحلت الشهر الحرام، والهدي، والقلائد، فكل ما نهى الله عنه في هذه الآية انتهكته قريش، وصدوا أولى الناس بالبيت عن بيت الله ﷿.
وقوله: ﴿عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ أي: ذي الحرمة والتعظيم، ولا شك أن هذا المسجد له حرمة وعظمة، فإن أول بيت وضع للناس ليتعبدوا الله فيه هو المسجد الحرام، وهو الذي يجب على كل مسلم وجوبًا عينيًّا لا يتم إسلامه إلا به أن يؤمه بحج بالإجماع، أو بحج وعمرة على خلاف بين العلماء رحمهم الله تعالى في وجوب العمرة، فهو مسجد حرام.
ووصف بالمسجد إما لأن جميع الأرض مسجد، وأولى أرض تتصف بذلك هي هذه البقعة، أو يقال: إن المراد بالمسجد
1 / 22
الحرام هو مسجد الكعبة الذي اتُّخذ مسجدًا؛ لأنهم صدوهم عن الوصول إليه، وما حول المسجد تابع له، والأصل هو المسجد، ولهذا أجمع العلماء ﵏ على ركنية الطواف في العمرة والحج، فطواف الإفاضة وطواف العمرة مجمع على ركنيتهما وعلى أنه لا يصح الحج والعمرة إلا بهما.
وقوله: ﴿أَنْ تَعْتَدُوا﴾ هذه متعلقة بقوله: لا يجرمنكم، يعني: لا يحملنكم على العدوان، و"أَنْ" في تاويل مصدر منصوب بنزع الخافض وتقديره: على أن تعتدوا، يعني: لا يحملكم هذا على العدوان.
قوله: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ تعاونوا على وزن (تفاعلوا)، ولا تكون هذه الصيغة إلا من جانبين، فإنك إذا قلت: أعن صاحبك، فطلب الإعانة من جانب واحد، لكن قوله: ﴿وَتَعَاوَنُوا﴾ أي: ليعن كل واحد أخاه، ﴿عَلَى الْبِرِّ﴾: وهو فعل الطاعات: ﴿وَالتَّقْوَى﴾: وهي ترك المحرمات، فإذا استعانك أخوك على عبادة من العبادات فأعنه لتشاركه في الأجر، فإذا قال لك: قَرِّب لي ماء الوضوء؛ فقربه له، وإذا قال لك: اشترِ لي ثوبًا أستر به عورتي في الصلاة؛ اشترِ له، وإذا قال لك: دلني على اتجاه القبلة دله عليها، بل وإن لم يستعنك فأعنه أيضًا.
كذلك تعاونوا على التقوى، أي: على ترك المحرمات، فإذا استعانك إنسان على تكسير المزمار فأعنه، أو استعانك على إراقة خمر فأعنه أيضًا، أو على إتلاف كتب بدع فأعنه، وهلمَّ جرَّا.
قوله: ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ "الإثم" هو المعاصي المتعلقة بحق الله ﷿، و"العدوان": المعاصي المتعلقة بحق
1 / 23
العباد، وإذا أفردت إحداهما عن الأخرى صارت شاملة لمعنى الأخرى، يعني: إذا أطلق الإثم صار شاملًا للعدوان على الناس، ولو أطلق العدوان صار شاملًا للإثم؛ لأن العدوان على حق الله ﷿ إثم.
قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ لما ذكر هذه الأوامر والنواهي أمر بتقوى الله ﷿، يعني: اتقوا الله أن تخالفوا أمره أو أن تقعوا في نهيه، والتقوى فسرت بعدة تفاسير وأحسنها أن يقال: إن التقوى اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وينقص من التقوى بقدر ما نقص من ذلك، فالإنسان الذي عنده معاصي ومآثم لكنها لا تخرجه من الإسلام نقول: إن تقواه ناقصة.
وقد كان بعض السلف إذا قيل له: اتقِ الله؛ ارتعد وربما سقط من مخافة الله ﷿، وأدركنا من الناس من هذه حاله، أي: أنك إذا قلت له: اتقِ الله؛ اضطرب واحمر وجهه وخشع، والآن بالعكس، إذا قلت له: اتقِ الله، قال: ماذا فعلت؟ مع أنه منتهك لحرمات الله ﷿، فالواجب على العبد تقوى الله ﷿ امتثالًا لأمره تعالى.
قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الجملة صلتها بما قبلها أنها وعيد لمن لم يتقِ الله، والمعاقبة هي المؤاخذة على الذنب.
من فوائد الآية الكريمة:
الفائدة الأولى: تحريم تحليل الشعائر، لقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾.
الفائدة الثانية: أن إحلال شعائر الله وكذلك ما ذكر في الآية نقص في الإيمان، لقوله: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
1 / 24