Tafsir Al-Uthaymeen: Al-Ahzab
تفسير العثيمين: الأحزاب
Mai Buga Littafi
مؤسسة الشيخ محمد بن صالح العثيمين الخيرية
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٤٣٦ هـ
Inda aka buga
المملكة العربية السعودية
Nau'ikan
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
إنَّ الحمدَ للَّه، نحمدُهُ ونَسْتعينُه ونَسْتغفرُه، ونَعوذُ باللَّه مِن شُرور أَنْفُسنا ومن سيِّئات أعمالِنا، مَن يَهْده اللَّهُ فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضْلِلْ فَلا هادِيَ له، وأَشْهَد أنْ لا إلَهَ إلا اللَّهُ وحدَه لا شريكَ لَه، وأَشْهَد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه، أرسلَه اللَّهُ بالهُدَى ودِين الحَقِّ؛ فبلَّغَ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونَصَح الأمَّةَ، وجاهَد في اللَّه حَقَّ جِهادِه، حتَّى أتاهُ اليَقينُ، فصَلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهِ وعلَى آلِه وأصحابِه ومَن تَبِعهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدِّين، أَمَّا بَعْدُ:
فمِنَ الدُّروسِ العِلميَّة المُسجَّلَة صَوتيًّا، والَّتِي كانَ يَعقِدُها صاحِبُ الفَضِيلةِ شَيخُنا العلَّامةُ الوالِدُ محمَّدُ بنُ صالع العُثَيْمِين -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- في جامِعِهِ بمَدِينَةِ عُنَيْزَةَ صَباحَ كُلِّ يومٍ أثْناءَ الإِجازاتِ الصَّيْفيَّة؛ حَلقاتٌ فِي تَفْسير القُرآن الكَرِيم كانَت بِدايتُها مِن سُورة النُّور وما بَعدَها؛ حتَّى بلَغ قَولَه تَعالَى في سُورة الزُّخرف: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)﴾.
وقَدِ اعتَمدَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالَى في تَفْسيرِه لتِلْكَ السُّور كِتابًا بَيْن يَدَي الطُّلاب هُو (تَفْسير الجَلالَيْنِ) للعلَّامة جَلال الدِّين محمَّد بنِ أَحْمدَ بنِ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ المَحَلِّيِّ، المُتوفَّى سَنَةَ (٨٦٤ هـ) (^١)، والعلَّامة جَلال الدِّين عبد الرَّحمن بن أَبِي بَكْر بنِ محمَّد
_________
(^١) انظر ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حُسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 5
ابنِ سابِق الدِّين الخُضَيْرِيِّ السُّيُوطِيِّ، المُتوفَّى سنة (٩١١ هـ) (^١). تغمَّدهما اللَّه بواسِع رَحمته ورِضوانه، وأَسْكنهما فَسِيحَ جنَّاتِه، وجَزاهُما عَنِ الإِسْلام والمُسلِمِينَ خَيرَ الجَزاءِ.
وسَعْيًا -بإِذْنِ اللَّهِ تَعالَى- لِتَعْمِيمِ النَّفْع بتِلْكَ الجُهُود المُبارَكة فِي هَذا المَيْدَان العَظِيم باشَر القِسْمُ العِلْمِيُّ بِمُؤسَّسةِ الشَّيخِ محُمَّد بنِ صالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْريَّةِ واجِباتِه فِي شَرَفِ الإِعْدادِ والتَّجْهِيز للطِّباعةِ والنَّشْر لإِخْراجِ ذَلِكَ التُّراث العِلمِي؛ إنفاذًا للقَواعِدِ والضَّوابِط والتَّوْجِيهاتِ الَّتِي قَرَّرها فَضيلةُ الشَّيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالَى في هَذا الشَّأْنِ.
نَسْأل اللَّهَ تعالَى أنْ يَجْعلَ هَذا العَمَلَ خالصًا لِوجهِه الكَريمِ؛ نافِعًا لعِبادِه، وأنْ يَجزِيَ فَضِيلةَ شيخِنا عَنِ الإسلامِ والمسلمِينَ خَيْرَ الجزَاء، ويُضَاعِفَ لهُ المثُوبَةَ والأَجْرَ، ويُعْلِيَ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، إِنَّه سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
وَصَلَّى اللَّهُ وسلَّم وبارَك علَى عبدِه ورَسولِه، خاتَمِ النَّبِيِّينَ، وإِمامِ المُتَّقِينَ، وسيِّدِ الأوَّلينَ والآخِرينَ، نبيِّنَا محمَّدٍ، وعلَى آلِه وأَصْحابِه والتَّابعينَ لهُمْ بإِحْسانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
القِسْمُ العِلْمِيُّ فِي مُؤَسَّسَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ العُثَيْمِين الخَيْريَّةِ
٢٠ جُمَادَى الآخِرَة ١٤٣٦ هـ
* * *
_________
(^١) انظر ترجمته في: الأعلام للزركلي (٣/ ٣٠١).
1 / 6
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
* قَالَ اللَّهُ ﷿: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
* * *
الحمدُ للَّه ربِّ العَالمَينَ، وصلَّى اللَّهُ وسلَّمَ عَلَى نبيِّنَا مُحمَّدٍ، وعَلَى آلِهِ وأصحَابِهِ ومَنْ تَبِعَهُم بإحَسَانٍ إِلَى يَومِ الدِّينِ. أمَّا بَعد:
البَسمَلة تَقدَّم الكلام عليها من حيثُ المَعنى، ومن حيثُ الإعراب، وقُلْنا في الإعراب: إنها جارٌّ ومَجرور مُتعلِّق بمَحذوف، وأنه يَنبَغي أن يُقدَّر ذلك المَحذوف فِعْلًا خاصًّا مُتأخِّرًا.
مثال ذلك: عندما تُريد أن تَقرَأ تَقول: بسم اللَّه الرحمن الرحيم. يَكون التقديرُ: بسم اللَّه الرحمن الرحيم أَقرَأُ، وهو أَحسَنُ من أن تَقول: التَّقديرُ: ابتدائي بسمِ اللَّه الرحمن الرحيم، أو التقديرُ: ابتدِئْ بسم اللَّه الرحمن الرحيم، لأننا إذا قدَّرْناه فِعْلًا خاصًّا كان أدلَّ على المَقصود؛ فإن كلِمة (ابتِداء) عامَّة في كل ما يُبتَدَأ به، لكن إذا عَيَّنت الفِعْل وقلتَ: بسم اللَّهِ أَقرَأُ، كان أدَلَّ على المَقصود.
فنُقدِّره فِعْلًا؛ لأنَّ الأصل في الأعمال هي الأفعال؛ ولهذا تَعمَل بدون شَرْط، وأمَّا ما يَعمَل من الأسماء فإنه لا يَعمَل إلَّا بشروط، كاسْمِ الفاعِل، واسم المَفعول، والمَصدَر، وما أَشبَه ذلك.
ونَجعَله مُتأخِّرًا لسبَبين:
1 / 7
السبَب الأوَّل: التَّبرُّك بالبَداءة بسم اللَّه.
والسبَب الثاني: الدَّلالة على الحَصْر، لأن تَأخير العامِل يَدُلُّ على الحَصْر، أو بعِبارة أعمَّ: لأن تَأخير ما حَقُّه التقديمُ يَدُلُّ على الحَصْر.
إذن: نَقول في البَسْملة: كلَّما جاءت مُتعلِّقة بمحذوف، ويُقدَّر هذا المَحذوفُ فِعْلًا خاصًّا مُتأخِّرًا، أمَّا عندما تُريد أن تَتَوضَّأ، فتُقدِّر: بسم اللَّه أَتَوضَّأ، وعندما يُريد الإنسان أن يَذبَح ذبيحة، يَقول: التقدير: باسْمِ اللَّه أَذبَحُ، وعلى هذا فقِسْ.
يَقول المفسر (^١): [بسم اللَّه الرحمن الرحيم] وهنا (اسْمِ) مُضاف للَفْظ (اللَّهِ) وهو مُفرَد فيُفيد العموم، ولهذا قَدَّره الشُّرَّاح بأن المَعنى: بكلِّ اسم من أسماء اللَّه تعالى.
والاسم مَأخوذ من السُّمُوِّ وهو الارْتِفاع، وقيل: من السِّمة وهي العَلَامة، ولو قيل بأنه مَأخوذ من هذا وهذا لم يَكُن بعيدًا؛ لأنه يُظهِر المُسمَّى فيَكون فيه مَعنَى الارتفاع، ولأنه يُميِّزه فيَكون فيه مَعنَى العلامة.
(اللَّه) علَمٌ على ذات اللَّه ﷿، وهو أصل الأَعلام، وأسماء اللَّه تعالى -كما نَعرِف- أعلام وأَوْصاف، لكن أصلها كلِمة (اللَّه)، ولهذا تَأتي الأسماء دائِمًا تبَعًا لها، فهي الأصل، وربما تَأتي لفظ الجلالة تابِعةً لغيرها من الأسماء، مثل ﴿إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾، فهنا تَأتي (اللَّه) تابِعةً لما قبلها.
وقوله: ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ اسمان مُشتَقَّان من الرحمة، لكن الأوَّل منهما يَدُلُّ على الرحمة باعتِبارها وصفًا للَّه ﷿، والثاني يَدُلُّ على الرحمة باعتِبارها فِعْلًا له، فهو
_________
(^١) المقصود بـ (المُفَسِّر) هنا: محمد بن أحمد بن محمد بن إبراهيم جلال الدين المحلي، المتوفى سنة (٨٦٤ هـ) ﵀، ترجمته في: الضوء اللامع (٧/ ٣٩)، حسن المحاضرة (١/ ٤٤٣).
1 / 8
رحمن وهو رحيم، مُتَّصِف بالرحمة، وفاعِل للرحمة، يَعنِي: أنه ﷿ مع كونه رحيمًا فإنه يَرحَم، وهذا الذي قرَّرْته هو ما قرَّره ابنُ القيِّم ﵀ في الفَرْق بين الرحمن وبين الرحيم (^١).
وإن كان بعضُ العُلَماء ﵏ يُفرِّق بينهما بأن الرحمن ذو الرحمة العامَّة، والرحيم ذو الرحمة الخاصَّة، وَيقول: إنه يَدُلُّ على ذلك قوله ﷾: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا﴾، لكن المعنى الذي أَشار إليه ابنُ القَيِّم ﵀ أَبلَغُ وأَحسَنُ؛ ولهذا جاءت (الرحمن) على وَزْن (فَعْلان)، وهذا الوزنُ يَدُلُّ غالِبًا على السَّعة والامتِلاء، فهو ﷾ واسِع الرحمة، وهو ﷾ يَرحَم مَن يَشاء، كما قال تعالى: ﴿يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ﴾.
والبسملة آية من كِتاب اللَّه ﷾، تَأتي في مُبتَدَأ كلِّ سورة، إلَّا في سورة (براءَة)، فإنه ليس فيها بَسْملة، وذَكَر أهل العِلْم ﵏ أن سبب سُقوط البَسمَلة في (براءة) أن الصحابة ﵃ أَشْكَلَ عليهم: هل هي من سورة الأَنفال أو هي سُورة مُستَقِلَّة؟ فجعَلوا بينهما فاصِلًا، ولم يَكتُبوا: بسم اللَّه الرحمن الرحيم (^٢). وهذا واضِح.
لكن أَوْضَحُ منه أنه لو كانت البَسمَلة قد نزَلَتْ بين سورة الأنفال و(براءة) لم يُمكِن أن تَسقُط؛ لأن اللَّه تعالى يَقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾، لكن لمَّا أَشْكَل على الصحابة هل (براءة) مُستَقِلَّة، أو من سورة الأَنفال وضَعوا الفاصِل فقط.
_________
(^١) انظر: مدارج السالكين (١/ ٥٦).
(^٢) أخرجه الإمام أحمد (١/ ٥٧)، وأبو داود: كتاب الصلاة، باب من جهر بها -أي البسملة-، رقم (٧٨٦)، والترمذي: كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة التوبة، رقم (٣٠٨٦)، من حديث عثمان بن عفان ﵁.
1 / 9
الآية (١)
* قالَ اللَّه ﷿: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [الأحزاب: ١].
* * *
قال اللَّه ﷾: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾ النِّداء هنا للنبيِّ ﷺ بوَصْفه نبيًّا، وقد يُناديه اللَّه ﷿ بوَصْفه رسولًا، فيُخاطِبه اللَّه ﷾ بوَصْفه رسولًا في مَقام الرِّسالة، كما في قوله: ﴿يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة: ٦٧].
و(النبيُّ) مُشتَقٌّ، وأصلها: (النَّبيءُ)، وقيل: أَصلها (النَّبيو) بالواو، فعلى القول الأوَّل يَكون مُشتَقًّا من النَّبَأ، وأُبدِلت الهمزةُ بالياء تخفيفًا، وعلى القول الثاني يَكون مُشتَقًّا من النَّبْوَة، وهي الارتفاع، ولا شَكَّ أن مَقام النُّبوَّة مَقام رفيع، وأن النبيَّ مخُبِر ومخُبَر أيضًا، فهو فَعيل بمَعنى فاعِل وبمَعنى مَفعول.
يَقول اللَّه تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ﴾، والمُراد به: نبيُّنا محمَّدٌ ﷺ.
يَقول المُفَسِّر ﵀: [﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾ دُمْ على تَقواهُ]، صَرَفَها المُفَسِّر ﵀ عن ظاهِر لَفْظها؛ لأنَّك إذا أَمَرْتَ أحدًا بشيء فالأصل أنه غير مُتَلبِّس به، فإذا قلت: يا فُلانُ قُمْ. فهل هو قائِم؟ لا، هذا هو الأصل، فالأصل أن الأَمْر إنشاءُ ما لم يَكُن، فإذا قُلتَ: يا فُلانُ قُمْ. أو يا فُلانُ اقْعُدْ؛ فإنه حين توجيه الأمر إليه ليس مُتَّصِفًا بهذا الوَصْفِ.
1 / 11
فالنبيُّ ﵊ قال اللَّه ﷾ له: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ﴾، فلو أَخَذْنا بظاهِر العِبارة لكان النبيُّ ﷺ حين تَوجيه الخِطاب إليه لم يَكُن مُتَّقيًا، وهذا أمر لا يُمكِن؛ لذلك يَكون مَعنَى ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾ أي: دُمْ على تَقواه؛ ومن هنا نَأخُذ أن الأمر بالشيء قد يَكون أمرًا بتَجديده، وقد يَكون أمرًا بالاستِمْرار عليه، وقد يَكون أمرًا بالتَّفصيل لهذا المَأْمورِ به.
فمثَلًا: إذا قلت: يا أيُّها المُؤمِنُ آمِنْ. فالمَعنى: دُمْ على إيمانك وحَقِّقْه، وفي قوله ﷾: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ [النساء: ١٣٦]، الأمر هُنا: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ﴾ أي: داوِموا عليه، لكن فيه تَفصيل، يَعني: ﴿آمَنُوا﴾ مجُمَل، ثُم قال: ﴿آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ﴾ فصار إِذَنْ تَوْجيه الأَمْر في الأصل إلى مَن لم يَكُن مُتَلَبِّسا به، هذا هو الأصل، وقد يُوجَّه إليه لطلب الاستِمْرار، وقد يُوجَّه إليه لبَيان التَّفصيل، كما في قوله ﷿: ﴿آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾.
وقوله: ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾ تَأْتي التَّقوى في القرآن الكريم كثيرًا، فما مَعنَى التَّقوى؟ ومن أين هي مُشتَقَّة؟
نَقول: هي مُشتَقَّة من الوِقاية، ولهذا يَقولون: إن أصل التاء فيها واوٌ، فـ (تَقوَى) بمَعنى: (وَقْوَى)، هذا أَصلُها، وإذا كانت بمَعنى الوِقاية فإن التَّقوى هي أن يَتَّخِذ الإنسان وِقاية من عذاب اللَّه ﷿، ولا وِقايةَ من عذاب اللَّه تعالى إلَّا بفِعْل أَوامِره واجتِناب نَواهيه، وعلى هذا فنَقول: إن المُراد بالتَّقوى فِعْلُ أَوامِر اللَّه ﷾، واجتِناب نَواهِيه.
1 / 12
ومن المَعلوم أننا إذا قُلْنا: فِعْل أَوامِر اللَّه تعالى، (أَوامِر) مُضاف إلى اللَّه تعالى: أن الإنسان سيَنوِي بهذا الفِعْلِ امتِثال أَمْر اللَّه تعالى، وكذلك إذا قُلنا: اجتِنابُ نَهي اللَّه تعالى، فإن الإنسان سيَجتَنِبه؛ لأن اللَّه تعالى نهَى عنه؛ لأن مجُرَّد الفِعْل بدون نِيَّة ليس بتَقوَى، ومُجرَّد التَّرْك بدون نِيَّة ليس بتَقوَى، لكن لمَّا كان الفِعْل والتَّرْك مُضافًا إلى اللَّه تعالى صار لا بُدَّ فيه من نِيَّة.
قوله ﵀: [﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ فيما يُخالِف شَريعتك]، عَطْف قولِه: ﴿وَلَا تُطِعِ﴾ على ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾ من باب عَطْف الخاصِّ على العامِّ؛ لأن تَرْك طاعة هؤلاء من تَقوَى اللَّه ﷿، فيَكون عَطْفه على التَّقوى من باب عَطْف الخاصِّ على العامِّ، وهذا كثير في القُرآن والسُّنَّة وكلام العرَب.
قوله: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ الكافِر هو الذي صرَّح بكُفْره وأَعلَنَه، وأمَّا المُنافِق فهو الذي أَخفَى كُفْره، وأَظهَر أنه مُؤمِن، فمن أين اشتُقَّ الكُفْر أو الكافِر؟
يَقولون: إن الكُفْر في الأصل: السَّتْر، ومنه: (الكُفُرَّة) وهو غِلاف الطَّلْع؛ لأنه يَستُرُه، هذا في الأصل، وسُمِّيَ الذي لا يُؤمِن باللَّه تعالى كافِرًا؛ لأنه سَتَر نِعْمة اللَّه ﷿، وجَحَد شَريعته، فصار بذلك ساتِرًا للحَقِّ، وساتِرًا للنِّعْمة التي أَنعَمَ اللَّه تعالى بها عليه.
وأمَّا النِّفاق فإنه مَأخوذ من نافِقاء اليَرْبوع، واليَرْبوع: الدُّويْبة المَعروفة، تَتَّخِذ بيتًا في الأرض وتَحفُر الجُحْر، وتَجعَل له بابًا، وتَجعَل في آخِرِه بابًا مُغلَقًا بشيء من التُّراب، بمَعنَى: أنها تَحفُر فإذا وصَلَتْ إلى مُنتَهى الجُحْر حَفَرَت، إلى أن يَبقَى عليها شيء قليل من طبَقة الأرض، بحيث إذا دفَعه برَأْسه انفَتَح، هذه هي النافِقاء، ويَصنَع ذلك لأَجْل ما إذا فُجِئ من باب الجُحْر خرَج من هذا، فهكذا المُنافِق، إذا خُوطِب
1 / 13
بالإيمان قال: إنه مُؤمِن. فتَخلَّص، كما أنه إذا أَتَى إلى قومه يَقول: إنه كافِر. فيَتخَلَّص من مَلامة هؤلاءِ ومَلامة هَؤلاءِ.
﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ معلوم أن الرسول ﷺ لا يُمكِن أن يُطيع الكافِر، لكن الذي قد يُمكِن أن يُطيع المُنافِق، لأنَّ المُنافِق لا يُحَسُّ بنِفاقه وكُفْره، ولا يُعلَم عنه، فقد يَغتَرُّ به الإنسان؛ فلهذا قدَّم اللَّه تعالى الكافِرين هنا على المُنافِقين، مع أنه في باب الوعيد يُقدِّم المُنافِقين على الكافِرين، قال اللَّه ﷾: ﴿إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا﴾ [النساء: ١٤٠]، وقال ﷾: ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ﴾ [الأحزاب: ٧٣].
﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ يَقول المُفَسِّر ﵀: [فيما يُخالِف شَريعتَكَ]، هذا القَيدُ يَقتَضي تَخصيص النَّهي مع أن النَّهيَ مُطلَق ﴿لَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾، فما الذي حمَل المُفَسِّر على أن يُقيّده بما يُخالِف الشريعة؟
حمَلَه على ذلك:
١ - أنه لو فُرِض أن الكافِر أو المُنافِق أَمَر بما يُوافِق الشريعة، لكان لِزامًا علينا أن نُطيعه؛ لا لأنه أَمَر، ولكن لأن هذا مُقتَضى الشريعة، هذا وجهٌ.
٢ - ووجهٌ آخَرُ، هو أن يُقال: إن تَقييد المُفَسِّر ﵀ ذلك بيانٌ للواقِع؛ لأن الكافِر والمُنافِق -لِعَداوتهما لشريعة النبيِّ ﷺ لا يُمكِن أن يَأمُرَا إلَّا بما يُخالِف الشريعة، فيَكون هذا القَيْدُ بَيانًا للواقِع، والقيدُ الذي يَكون بيانًا للواقِع لا يُقيِّد، لأنه لا يُراد.
وفي ذلك أَمثِلة، منها: قوله ﷿: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
1 / 14
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، فإن قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ قَيْد مُبيِّن للواقِع، وليس المَعنى أن هناك رَبًّا لم يَخلُق وربًّا خلَق؛ والأمثِلة في هذا كثير.
فهنا يُمكِن أن نَحمِل كلام المُفَسِّر ﵀ في قوله: [فيما يُخالِف شريعتَكَ] على أنه بَيان للواقِع، وهو أن الكافِر والمُنافِق لا يُمكِن أن يَأمُر إلَّا بما يُخَالِف الشَّريعة؛ لأن الكافِر كافِر بها، والمُنافِق أيضًا كافِر بها، لكنه يُظهِر الإيمان.
ثُمَّ قال ﵀: [﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا﴾ بما يَكون قَبْلَ كونه، ﴿حَكِيمًا﴾ فيما يَخلُقه]، ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، هذه الجُمْلةُ مَوضِعها ممَّا قَبْلها في المَعنى تَعليلية، ووجهُ كَونِها تَعليلًا لما قَبْلها أن اللَّه تعالى لمَّا أَمَر نبيَّه ﷺ بالتَّقوى ونهاهُ عن طاعة الكافِرين؛ بيَّن أن هذا الأَمْرَ والنهيَ صادِر عن عِلْم وحِكْمة، وأنه ﷿ أَعلَم بما يَكيده هؤلاءِ الأعداءُ من الكُفَّار والمُنافِقين، فلا تُطِعْهم؛ فليسوا أهلَ نُصْح لكَ أبدًا.
وقوله ﵀: [﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ بما يَكون قبل كَوْنه]، وهذا التَّقييدُ غير صحيح؛ لأنه تعالى عليم بما يَكون قبل كَوْنه، وبعد كَوْنه: حالَ كَوْنه مَوجودًا، وبعدَ كَوْنه: حالَ كَوْنه مَعدومًا، فعِلْم اللَّه تعالى يَتعَلَّق بالأشياء في أَحوالها الثلاثِ؛ قبل الوُجود، وحين الوُجود، وبعد العَدَم.
أمَّا عِلْم المَخلوق فلا يَتعلَّق بالأشياء في هذه الأَحوالِ كُلِّها:
قبلَ الوُجود مَعلوم أنه لا يَعلَمها.
وحين الوُجود: لنَفرِضْ أنه يَعلَمها.
وبعد العَدَم: قد يَنْساها.
1 / 15
فعِلْم المَخلوق مَحفوف بنَقْصين: جَهْل سابِق، ونِسْيان لاحِق.
أمَّا اللَّه ﷿ فإن عِلْمه كامِل، جُملةً وتَفصيلًا، في جميع الأحوال، قبل الوُجود، وحين الوُجود، وبعدَ العدَم، ولهذا قال مُوسى ﵊: ﴿عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾، فنَفَى عنه الضَّلال الذي هو الجَهْل، والنِّسْيان الذي هو: الذّهول عن الشيءِ بعد عِلْمه.
قوله ﷾: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ إِذَنْ نَقول: عَليمًا بما يَكون قبلَ كَوْنه، وبما يَكون حين كونه، وبما يَكون بعد عدَمه في كل الأحوال.
﴿حَكِيمًا﴾ تَقدَّمَت كثيرًا، وبيَّنَّا أنه مُشتَقُّ من الحِكْمة والحُكْم، وأن حُكْم اللَّه ﷾ كَوْنيٌّ وشَرْعيٌّ، وأن الحِكْمة نَوعان أيضًا: غائِيَّة وصُورّيَة، والصُّوريَّة ليس المعنى أنها بالصُّورة فقط، لكن كون الشيء على هذه الصورةِ حِكْمة، والغاية منه حِكْمة أُخرى، فإذا كان كذلك فتكون الأقسامُ أَربَعةً:
١ - حُكْم مُشتَمِل على الحِكْمة في صورته وغايَته.
٢ - حُكْم شَرْعيٌّ مُشتَمِل على الحِكْمة في صورته وفي غايَته.
﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، وهنا إِشْكال في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ﴾؛ لأن المعروف أن الشيءَ الماضِيَ قد مضَى، ﴿كَانَ عَلِيمًا﴾، فهل يُفيد أنه الآنَ ليس بعَليم؟ لا؛ لأن (كان) قد تَكون مَسلوبة الزمان، ويُقصَد بها اتِّصاف اسمِها بخبَرها، وتَحقُّق ذلك الاتِّصافِ بدون أن يُلاحَظ الزمَن فيها، وهي كلَّما جاءَت بالنِّسبة إلى اللَّه تعالى وأسمائه وصِفاته، فإنها على هذا البابِ: أنها تُفيد تَحقُّق اتِّصاف المَوْصوف -الذي هو اسمُها- بصِفَته -وهو خَبَرُها-، بقَطْع النَّظَر
1 / 16
عن الزمان، فعليه نَقول: إن الفِعْل هنا مَسلوب الزمان، يَعني: لم يَزَلْ ولا يَزال عَليمًا حكيمًا.
وهلِ العِلْم والحِكْمة من الصِّفات الذاتية أو الفِعْلية؟
الجوابُ: من الصِّفات الذاتية؛ لأن اللَّه ﷿ لم يَزَل ولا يَزال عَليمًا، ولم يَزَل ولا يَزال حَكيمًا. واللَّه تعالى أَعلَمُ.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: أن اللَّه ﷾ ناداه بوَصْف النُّبوَّة مع الأنبياء الذين سِواهُ، يُنادِيهم اللَّه ﷾ بأسمائهم: ﴿يَامُوسَى﴾ [المائدة: ٢٢] ﴿يَاعِيسَى﴾ [المائدة: ١١٦]، وما أَشبَهَ ذلك، أمَّا النبيُّ ﷺ ما ناداه إلَّا بوَصْف النُّبوَّة أو الرِّسالة.
فإن قلت: أليْس اللَّه ﷿ قد قال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ [آل عمران: ١٤٤]، وقال: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ [الفتح: ٢٩]؟
فالجوابُ: أن هذا ليس مقامَ نداء خطاب لكنه مقام خبر.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: وجوبُ التَّقوى على الأُمَّة، فإذا كان الرسول ﵊ يُؤمَر بالتَّقوى فغيرُه من بابِ أَوْلى هذا وجهٌ. وجهٌ آخَرُ: أن الخِطاب المُوجَّه للرسول ﷺ ومُوجَّه له ولأُمَّته ما لم يَقُم دليل على تَخصيصه.
وبهذه المُناسَبة فالخِطابات المُوجَّهة للرسول ﵊: إمَّا أن يَقوم دليل على العُموم، بأن يَكون في نفس الخِطاب ما يَدُلُّ على العُموم، أو فيه ما يَدُلُّ على الخُصوص، أو فيه ما لا يَدُلُّ على هذا ولا على هذا.
فالذي فيه ما يَدُلُّ على العُموم للعُموم مثل قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ
1 / 17
النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: ١].
والَّذي فيه ما يَدُلُّ على الخُصوص مثل قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التحريم: ١].
والذي فيه ما لا يَدُلُّ على هذا ولا هذا، مثل هذه الآيةِ، ولكنَّ حُكمَها عامٌّ للنبيِّ ﷺ ولأُمَّتِه.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن النبيَّ ﷺ عبدٌ مأمورٌ مُكلَّفٌ، لأَمْره بالتَّقوى، وعدَم إطاعة الكافِرين والمُنافِقين.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أن الإنسان مَهما بلَغ من المَرتَبة، فإن التَكاليف لا تَسقُط عنه؛ وعلى هذا فيَتَفرَّع من هذه القاعِدةِ: بيانُ ضَلال أُولئكَ الصوفيةِ الذين يَقولون: إن الإنسان إذا وصَل إلى درجة المُعايَنة سقَطَت عنه التكاليفُ! .
قُلنا: لا؛ لأنه لا أحَدَ يَبلُغ مَرتَبة النبيِّ ﵊ عند اللَّه ﷾، ومع ذلك لم تَسقُط عنه التَّكاليفُ.
فإن قالوا: إن اللَّه تعالى يَقول: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: ٩٩]، يَعنِي: حتى تَصِل إلى درجة اليَقين، ثُم تمَتَنِع عن العِبادة؟
فالجَوابُ: أن المُراد باليَقين هنا هو الموت، قولهم -أي: أصحاب الجحيم- كما قال تعالى عنهم: ﴿وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾ [المدثر: ٤٦ - ٤٧]؛ أَتاهم اليَقينُ، يَعنِي: أنَّهم وصَلوا إلى درجة اليَقين؟ أبدًا، إذ ماتوا على التكذيب ولم يَصِلوا إلى درجة اليَقين، وإذا كان هؤلاء يَقولون: إننا وصَلْنا إلى درجة يَقين يَكونون به من أصحاب الجَحيم، فنحن نُوافِقهم على ذلك.
1 / 18
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: تَحريمُ طاعة الكافِرين والمُنافِقين والرُّكونِ إليهم؛ لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: أن الكافِر والمُنافِق لا يُمكِن أن يَكون ناصِحًا للمُؤمِنين أبَدًا، ولو كان يُمكِن أن يَكون فيه نُصِح ما نَهَى تعالى عن طاعتهم مُطلَقًا، لأن الناصِح يُطاع.
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ: إثبات اسمَيْن من أسماء اللَّه تعالى، وهُما: العليم والحكيم.
وهل عِلْم اللَّه ﷾ يَشمَل الحاضِر والمُستَقبَل والماضي؟ وهل هو مُتعَلِّق بالواجِب أو بالمُستَحيل أو بالمُمكِن أو بالجميع؟
الجوابُ: إذا لم يُمكِن أن يَكون في السَّموات أو في الأرض آلهِة غير اللَّه تعالى، وكذلك ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: ٩١]، فإن هذا من المُستَحيل.
ومِثال تَعلُّق عِلْم اللَّه ﷾ بالواجِبِ كثير جِدًّا، فكُلُّ ما أَخبَر اللَّه تعالى به عن نفسه فهو من العِلْم الواجِب؛ لأن اللَّه تعالى يَجِب له صِفات الكمال، فإذا أَخبَر عن نَفْسه بهذه الصِّفاتِ صار مُتعَلِّقًا بالواجِب.
أمَّا المُمكِن فمنه قوله: ﴿اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ﴾ [الرعد: ٨]؛ لأن حَمْل الأنثى وغيض الأَرحام وزيادة الأرحام مُمكِن.
إِذَنْ: فصار عِلْم اللَّه ﷾ شامِلًا لكل شيء جُملةً وتَفصيلًا، حاضِرًا ومُستَقبَلًا وماضِيًا واجِبًا ومُمكِنًا وجائِزًا؛ ولهذا يَقول السَّفارينيُّ في عَقيدته:
1 / 19
وَالْعِلْمُ وَالْكَلَامُ قَدْ تَعَلَّقَا ... بِكُلِّ شَيْءٍ يَا خَلِيلي مُطْلَقَا (^١)
فائِدة: الواجِب عندهم ضِدُّ المُستَحيل والمُمكِن، لأنهم يَقولون على الأشياء ثلاثة أُمور: إمَّا واجِبة -يَعني: لا بد من وُجودها، وليس الواجِب الذي يُثاب فاعِله ويَستَحِقُّ العِقابَ تارِكُه-، بل الواجِب الذي لا بُدَّ منه، والمُستَحيل الذي لا يُمكِن، والمُمكِن الذي هو جائِز الوقوع وعدَمه.
* * *
_________
(^١) العقيدة السفارينية (ص: ٥٢).
1 / 20
الآية (٢)
* قالَ اللَّه ﷿: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [الأحزاب: ٢].
* * *
قوله تعالى: "بِمَا يَعْمَلُونَ" حسب النُّسخة التي عِندي.
﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ نَقول في: ﴿اتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ﴾ كما قُلنا في ﴿اتَّقِ اللَّهَ﴾، يَعنِي: استَمِرَّ على اتِّباعه، واتِّباع ما يُوحَى إلى النبيِّ ﷺ بالنِّسبة للرسول ﷺ يَشمَل: اتِّباعَه بالتَّبليغ، واتِّباعه بالدَّعوة، واتِّباعه بالعمَل؛ لأن النبيَّ ﵊ مأمور بالأمور الثلاث؛ مَأْمور بتَبليغه، وبالدَّعوة إليه، وبالعمَل به.
وقوله تعالى: ﴿مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾ الوحيُ في الأصل: الإعلام بسُرعة وخَفاء، والمُراد به هنا: إبلاع النبيِّ ﷺ ما شرَعه اللَّه ﷿؛ سواء كان بواسِطة أو بغير واسِطة.
ومعلوم أن إبلاغ اللَّه ﷾ لنَبيِّه ﷺ الوحيَ لا يَكون ظاهِرًا للناس؛ لأن رسول اللَّه ﷺ ما يُعرَف أنه يُوحَى إليه إلَّا بما يَظهَر من علامات الوَحي، لكن لا نَدرِي كيف يُوحَى إليه لولا أنه أَخبَرنا بذلك.
وقوله تعالى: ﴿مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾: ﴿مَا﴾ هذه اسم موصول من صِيَغ العُموم، تَشمَل كلَّ ما يُوحَى إلى النبيِّ ﷺ.
1 / 21
وقوله ﷾: "إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرًا" يُفيد أن هَؤلاءِ الكافِرين والمُنافِقين كانوا يُحاوِلون من النبيِّ ﵊ أن يُخالِف شريعته، ولكن الرسول ﵊ قد لا يَعلَم بذلك؛ ولهذا قال: "إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرًا"
أي: هَؤلاء الكُفَّار والمُنافِقون ﴿خَبِيرًا﴾.
وقوله ﷾: ﴿خَبِيرًا﴾ والخَبير مُشتَقٌّ من الخِبرة، وهي: العِلْم ببَواطِن الأمور؛ ولهذا سُمِّيَ صاحِب الحرْث والزَّرْع خَبيرًا، وسُمِّيت المُزارعة مخُابَرة؛ لأن الحَبَّ يُدفَن في الأرض فيَكون باطِنًا غير ظاهِر، فالخَبير هو العَليم ببواطِن الأمور؛ إِذَنِ: الخبير أخَصُّ من العليم، لأن العليم يَشمَل العالِم بظواهِر الأمور وبواطِنها، لكن الخَبير أخصُّ، هو العالِم ببواطِن الأُمور، والعالِم بالبواطِن عالِم بالظواهِر من بابِ أَوْلى.
يَقول المُفَسِّر ﵀: [وفي قِراءَة بالفَوقانية]، فيُقال: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ مهو، وقوله: "في قِراءَة"، في اصطِلاح المُفَسِّر ﵀ أنه إذا قال: "في قِراءة" فهي سَبْعية، وإذا قال: قُرِئ، فهي شاذَّة.
وعلى هذا ففي الآية قِراءَتان سبْعيتان، تَجوز القِراءة بكُلٍّ مِنهما، وعندما نَقول: تَجوز. فليس مَعناه أن القِراءة بهذا وبهذا على حدٍّ سَواءٍ، لكنِ المعنى أن القِراءةَ بهما غيرُ مَمنوعة؛ لأن الأفضل أن تَقرَأ بهذه تارةً وبهذه تارةً، فإن اختِلاف القِراءات كاختِلاف العِبادات، وقد ذكَرْنا أن الأفضلَ في العِبادات الوارِدة على وجوهٍ مُتنوِّعةٍ: أن تَأتيَ بهذه مرةً وبهذه مرةً، لأجل أن تَكون قد عمِلت بالسُّنَّة في جميع وجوهها، كذلك في القِراءات الأفضل أن تَأتيَ بهذه مرَّةً وبهذهِ أُخرى بشَرْط أن تَكون عالِمًا بالقِراءة.
1 / 22
ولكن هذا القولَ الذي نَقوله إنما هو في قِراءة الإنسان الخاصَّة، أمَّا قِراءته على العامَّة، فإنه لا يَنبَغي أن يَخرُج عن القِراءة المَوْجودة بين أيديهم، لأن العامِّيَّ لا يُدرِك هذه القِراءاتِ أو لا يُدرِك اختِلاف هذه القِراءاتِ، فإذا قرَأْت القُرآن بغير ما بين يديه، فإنه سيُنْكِر عليك ولكن هذا الإنكارَ ربُّما تُجيب عنه، لكن سيَقَع في نَفْسه شيء من الشَّكِّ، يَقول: إِذَنِ القُرآن ما ضُبِط ما دام أَحَدهم يَقرَأ بهذا وأَحَدهم يَقرَأ بهذا؛ فيَقَع في قَلْبه شيء من الشَّكِّ، ولهذا يَنبَغي لنا أن نُحدِّث الناس بما تُدرِكه عُقولهم، كما في حديث عَليٍّ ﵁: "حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ" (^١).
فالحاصِل: أن الإنسان -طالِب العِلْم الذي يَعرِف القِراءات- يَنبَغي له أن يَقرَأ أحيانًا بهذه وأحيانًا بهذه، ولكن هل يَجمَع بين القِراءَتَيْن؛ يَعنِي مثلًا هنا أَقول: "إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرًا"، ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾؟
الجوابُ: لا، الأفضَلُ يَأتي بهذا مرَّةً وبهذا مرَّةً؛ لأنك إذا جمَعْت بين القِراءَتَيْن فقد خالَفْت، إذ إن مَن قرَأَها بالتاء لا يَقرَؤُها بالياء، فكيف يَجمَع بينهما؟ ! ولكن بعض أهل العِلْم ﵀ يَقول: لا بأسَ أن تَجمَع بين القِراءَتَيْن، سواء كانت مُنفَصِلةً أو غير مُنفَصِلة، بمعنى أنه يَجوز أن تَقرَأ في القِراءَتَيْن في الآية الواحِدة، أن تَقرَأ بالقِراءَتَيْن في الآية الواحِدة، ويَجوز أن تَقرَأ في آية بقِراءة قارِئ وفي آية أُخرى بقِراءة قارِئٍ آخَرَ؛ وأمَّا الثانية وهي أن تَقرَأ في آية بقِراءة قارِئٍ وفي آية أُخرى بقِراءة قارِئٍ آخَرَ فهي جائزة.
_________
(^١) أخرجه البخاري: كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا، رقم (١٢٧).
1 / 23
أمَّا الجَمْع بين القِراءَتَيْن في آية واحدة وفي تِلاوة واحِدة فإن في جوازها نظَرًا؛ فمَثَلًا: تَقرَأ: "إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرًا" على قِراءة أحَدِ القُرَّاء، ثُمَّ تَأتي مثَلًا بقِراءة ثانية تُخالِفه في آية أُخرى فتَقرَأ بها.
من فوائد الآية الكريمة:
الْفَائِدَة الأُولَى: وجوبُ اتِّباع ما أُنْزِل على النَّبيِّ ﷺ، تُؤخَذ من قوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾.
فإن قلت: هل هذا على العُموم؛ أي: أنه يَجِب اتِّباع ما أُنْزِل على الرسول ﷺ؛ فيَجِب إِذَنْ أن نَرفَع الأَيدِيَ في الصلاة، ويَجِب أن نُسبِّح أكثرَ من مرَّة؟
فالجَوابُ: أن نَقول: هذا يُستَثنى منه ما قام الدليلُ على أنَّه ليس بواجِب، لكن ما صحَّ عن الرسولِ ﵊ ولو كان غيرَ واجِب يَجِب اعتِقاد مَشروعيته، حتَّى وإن كان غيرَ واجِب الفِعْل؛ فعِندنا اعتِقاد المَشروعية وتَنفيذ هذا المَشروع على حسب ما جاء في الأَدِلَّة إمَّا واجِب وإمَّا مُستَحَبٌّ.
وأمَّا اعتِقاد المَشروعية فيما صحَّ فهو واجِب؛ فمثَلًا: يجب عليَّ أن أَعتَقِد مَشروعية مجُافاة العَضُدين عن الجَنْبين في السُّجود، وأن نَعتَقِد مَشروعية الالتِفات في الصلاة عند السلام، لكن فِعْل ذلك يَتوَقَّف على الأدِلَّة التَّفصيلية، إن دلَّت الأدِلَّة على وجوبه فهو واجِب، وإن دلَّتْ على أنَّه مُستَحَبٌّ فهو مُستَحَبٌّ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: ثُبوت رسالة النَّبيِّ ﷺ ونُبوَّته؛ تُؤخَذ من قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ ومن قوله تعالى: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾.
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: أن للَّه تعالى رُبوبيةً خاصَّةً بالنِّسبة إلى الرسول ﵊؛
1 / 24
لقوله تعالى: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾، وقد تَقدَّم كثيرًا بأن الرُّبوبية نَوعانِ والعُبودية نوعان: رُبوبية عامَّة ورُبوبية خاصَّة.
فمِثال الرُّبوبية العامة: قوله ﷾: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ [الصافات: ٥].
ومثال الرُّبوبية الخاصَّة هذه الآية: ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾.
وقد اجتَمَع النوعان في قوله ﷾: ﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ﴾ [الأعراف: ١٢١ - ١٢٢].
وكذلك العُبودية نَوْعان: عامَّة وخاصَّة.
فالعامة مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [غافر: ٤٤].
والخاصَّة مثل قوله ﷾: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ [الإسراء: ١]، والمُراد الرسول ﵊.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: أنَّ عِلمَ اللَّه تعالى شامِلٌ للأُمور الباطِنة؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾.
الْفَائِدَةُ الخَامِسَةُ: تَحذير الإنسان من المُخالَفة؛ لأن هذا يُوجِب أنَّنا لا نُخَالف اللَّه تعالى ما دُمْنا نَعلَم أنه خَبير بما نَعمَل، فإنه لا يُمكِن أن نُخالِف اللَّه ﷿، مِثْل ما لو قُلْت: اذهَبْ وأنا أَعلَمُ ما تَفعَل. فالمُراد: التهديدُ والتحذيرُ من المُخالَفة، فكلُّ نَصٍّ يُبيِّن اللَّه تعالى فيه أنه يَعلَم ما نَعمَل فهو تَحذير لنا من مخُالَفته.
الْفَائِدَةُ السَّادِسَةُ: وجوبُ تَقديم الوحي على الرأي في قوله ﷿: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾ فإن هذا الخِطابَ مُوجَّهٌ إلى رسول اللَّه ﷺ وإلى أمَّتِه بالأَوْلى،
1 / 25