225

فالق الإصباح وجعل اليل سكنا والشمس والقمر حسبانا..

[الأنعام: 96]. لم يقل: بحسبان، لأنها هي في ذاتها حساب وليست محسوبة، أي أن حسابها آلي. وتأتي الكلمة بصورة أخرى في سورة الكهف في قوله تعالى:

ويرسل عليها حسبانا من السمآء..

[الكهف: 40]. المعنى هنا شيء للعقاب على قدر الظلم تماما، هذه هي مادة الحساب.. وقولهم: " حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا " في ظاهرها أبلغ من قولهم: " نتبع ما ألفينا عليه آبآءنا " لكن كل من اللفظين مناسب للسياق الذي جاء فيه ف " اتبعوا " يناسبها " نتبع ما ألفينا " وقوله تعالى: " وإذا قيل لهم تعالوا " يناسبها قولهم: " حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا " ، يعني كافينا ما عندنا ولا نريد شيئا غيره. ومن هنا نفهم لماذا جاء الحق في آية البقرة بقوله: " اتبعوا " ، وفي آية المائدة: " تعالوا " ، وجاء جوابهم في سورة البقرة: " بل نتبع " ، وفي سورة المائدة: " حسبنا ". وهناك خلاف ثالث في الآيتين: ففي آية البقرة قال: " أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ". وفي آية المائدة قال " أولو كان آباؤهم لا يعلمون ". الخلاف في " لا يعقلون " و " لا يعلمون ". وما الفرق بين " يعقلون " و " يعلمون "؟. إن " يعقلون " تعني ما ينشأ عن فكرهم وتدبرهم للأمور، لكن هناك أناس لا يعرفون كيف يعقلون، ولذلك يأخذون القضايا مسلما بها كعلم من غيرهم الذي عقل. إذن فالذي يعلم أقل منزلة من الذي يعقل، لأن الذي عقل هو إنسان قد استنبط، وأما الذي علم فقد أخذ علم غيره. وعلى سبيل المثال، فالأمي الذي أخذ حكما من الأحكام هو قد علمه من غيره، لكنه لم يتعقله، إذن، فنفي العلم عن شخص أبلغ من نفي التعقل لأن معنى " لا يعلم " أي أنه ليس لديه شيء من علم غيره أو علمه. وعندما يقول الحق سبحانه: { لا يعقلون شيئا } [البقرة: 170] فمعنى ذلك أنه من المحتمل أن يعلموا، لكن عندما يقول: " لا يعلمون " فمعناه أنهم لا يعقلون ولا يعلمون، وهذا يناسب ردهم. فعندما قالوا: " بل نتبع " فكان وصفهم ب " لا يعقلون ". وعندما قالوا: " حسبنا " وصفهم بأنهم " لا يعلمون " كالحيوانات تماما. نخلص مما سبق أن هناك ثلاث ملحوظات على الآيتين : في الآية الأولى قال: " اتبعوا " ، وكان الرد منهم " نتبع ما ألفينا " والرد على الرد " أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ". وفي الآية الثانية قال: " تعالوا " ، وكان الرد منهم " حسبنا " ، فكان الرد عليهم " أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ".

وهكذا نرى أن كلا من الآيتين منسجمة، ولا يقولن أحد: إن آية جاءت بأسلوب، والأخرى بأسلوب آخر، فكل آية جاءت على أسلوبها يتطلبها فهي الأبلغ، فكل آية في القرآن منسجمة كلماتها مع جملها ومع سياقها. وقوله تعالى: { وإذا قيل لهم } [البقرة: 170] مبنية للمجهول ليتضمن كل قول جاء على لسان أي رسول من الله من بدء الرسالات، فهي ليست قضية اليوم فقط إنما هي قضية قيلت من قبل ذلك. إن المعنى هو: إذا قيل لهم من أي رسول، اتبعوا ما أنزل الله قالوا: { بل نتبع مآ ألفينا عليه آبآءنآ أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } [البقرة: 170]. ويختم الحق الآية في سورة البقرة بقوله: " ولا يهتدون ". وكذلك كان ختام آية المائدة: " ولا يهتدون " لنعلم أن هدى السماء لا يختلف بين عقل وعلم، فالأولى جاءت بعد قوله تعالى: { أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون } [البقرة: 170] والثانية جاءت في ختام قوله تعالى:

أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون

[المائدة: 104] وذلك للدلالة على أن هدى السماء لا يختلف بين من يعقلون ومن يعلمون.

[2.171]

والذي ينعق هو الذي يصوت ويصيح للبهائم، وهو الراعي، إذن، فكلمة ينعق أعطتنا صورة راع يرعى بهائم. وكان هذا الصياح من الراعي ليلفت الماشية المرعية لتسير خلفه، وهو لا يقول لها ما يريده أن تفعله، وإنما ينبهها بالصوت إلى ما يريد، ويسير أمامها لتسير خلفه إلى المرعى أو إلى نبع الماء، فالنداء لفتة ودعاء فقط، لكن ما يراد من الدعاء يصير أمرا حركيا تراه الماشية. فكأن الماشية المرعية لا تفهم من الراعي إلا النداء والدعاء، إنما دعاء ونداء لماذا؟ فهي لا تعرف الهدف منه، إلا بأن يسلك الراعي أمامها بما يرشدها. وهكذا نفهم أن هناك " راعيا " ، و " ماشية " ، و " صوتا من الراعي " وهو مجرد دعاء ونداء. مقابل هؤلاء الثلاثة في قضيتنا هو الرسول حين يدعو فيكون هو " الراعي " ويدعو من؟، يدعو " الرعية " الذين هم الناس. وبماذا يدعو الرعية؟. أيناديها فقط لتأتيه، أم يناديها لتأتيه ويأمرها بأشياء؟. إنه يأمرها باتباع منهج السماء. وهذا هو الفارق بين الراعي في الماشية والراعي في الآدميين. فعندما يأتي الرسول ويقول:

" يا قوم إني لكم رسول، وإني لكم نذير "

Shafi da ba'a sani ba