157

Tafsir Al-Shaarawi

تفسير الشعراوي

Nau'ikan

رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين

[يوسف: 101]. وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي لا تتمنوا الموت جزعا مما يصيبكم من قدر الله.. ولكن اصبروا على قدر الله.. وقوله تعالى: { والله عليم بالظالمين } [البقرة: 95].. لأن الله عليم بظلمهم ومعصيتهم.. هذا الظلم والمعصية هو الذي يجعلهم يخافون الموت ولا يتمنونه.

[2.96]

الحق سبحانه وتعالى بعد أن فضح كذبهم.. في أنهم لا يمكن أن يتمنوا الموت لأنهم ظالمون.. وما داموا ظالمين فالموت أمر مخيف بالنسبة لهم.. وهم أحرص الناس على الحياة.. حتى إن حرصهم يفوق حرص الذين أشركوا.. فالمشرك حريص على الحياة لأنه يعتقد أن الدنيا هي الغاية.. واليهود أشد حرصا على الحياة من المشركين لأنهم يخافون الموت لسوء أعمالهم السابقة.. لذلك كلما طالت حياتهم ظنوا أنهم بعيدون عن عذاب الآخرة.. الحياة لا تجعلهم يواجهون العذاب ولذلك فهم يفرحون بها. إن اليهود لا يبالون أن يعيشوا في ذلة أو في مسكنة.. أو أي نوع من أنواع الحياة.. المهم أنهم يعيشون في أي حياة.. ولكن لماذا هم حريصون على الحياة أكثر من المشركين؟ لأن المشرك لا آخرة له فالدنيا هي كل همه وكل حياته.. لذلك يتمنى أن تطول حياته بأي ثمن وبأي شكل.. لأنه يعتقد أن بعد ذلك لا شيء.. ولا يعرف أن بعد ذلك العذاب.. واليهود أحرص من المشركين على حياتهم. وقوله تعالى: { يود أحدهم لو يعمر ألف سنة } [البقرة: 96].. الود هو الحب.. أي أنهم يحبون أن يعيشوا ألف سنة أو أكثر.. ولكن هب أنه عاش ألف سنة أو حتى أكثر من ذلك.. أيزحزحه هذا عن العذاب؟ لا.. طول العمر لا يغير النهاية. فما دامت النهاية هي الموت. يتساوى من عاش سنوات قليلة ومن عاش ألوف السنين.. قوله تعالى: " يعمر " بفتح العين وتشديد الميم يقال عنها إنها مبنية للمجهول دائما.. ولا ينفع أن يقال يعمر بكسر الميم.. فالعمر ليس بيد أحد ولكنه بيد الله.. فالله هو الذي يعطي العمر وهو الذي ينهيه.. وبما أن العمر ليس ملكا لإنسان فهو مبني للمجهول.. والعمر هو السن الذي يقطعه الإنسان بين ميلاده ووفاته.. ومادة الكلمة مأخوذة من العمار لأن الجسد تعمره الحياة. وعندما تنتهي يصبح الجسد أشلاء وخرابا.. قوله تعالى: " ألف سنة ".. لماذا ذكرت الألف؟ لأنها هي نهاية ما كان العرب يعرفونه من الحساب. ولذلك فإن الرجل الذي أسر في الحرب أخت كسرى فقالت كم تأخذ وتتركني؟ قال ألف درهم.. قالوا له بكم فديتها؟ قال بألف.. قالوا لو طلبت أكثر من ألف لكانوا أعطوك.. قال والله لو عرفت شيئا فوق الألف لقلته.. فالألف كانت نهاية العدد عند العرب.. ولذلك كانوا يقولون ألف ألف ولم يقولوا مليونا.. وقوله تعالى: { وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر } [البقرة: 96].. معناها أنه لو عاش ألف سنة أو أكثر فلن يهرب من العذاب. وقوله تعالى: { والله بصير بما يعملون } [البقرة: 96].. أي يعرف ما يعملونه وسيعذبهم به سواء عاشوا ألف سنة أو أكثر أو أقل.

[2.97]

الله تبارك وتعالى أراد أن يلفتنا إلى أن اليهود لم يقتلوا الأنبياء ويحرفوا التوراة ويشتروا بآيات الله جاه الدنيا فقط.. ولكنهم عادوا الملائكة أيضا.. بل إنهم أضمروا العداوة لأقرب الملائكة إلى الله الذي نزل بوحي القرآن وهو جبريل عليه السلام.. وأنهم قالوا جبريل عدو لنا. الخطاب هنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولقد جلس ابن جوريا أحد أحبار اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له من الذي ينزل عليك بالوحي؟ فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام جبريل.. فقال اليهودي لو كان غيره لآمنا بك.. جبريل عدونا لأنه ينزل دائما بالخسف والعذاب.. ولكن ميكائيل ينزل بالرحمة والغيث والخصب.. وأيضا هو عدوهم لأنهم اعتقدوا أن بيت المقدس سيخربه رجل اسمه بختنصر، فأرسل اليهود إليه من يقتله.. فلقى اليهودي غلاما صغيرا وسأله الغلام ماذا تريد؟ قال إني أريد أن أقتل بختنصر لأنه عندنا في التوراة هو الذي سيخرب بيت المقدس.. فقال الغلام إن يكن مقدرا أن يخرب هذا الرجل بيت المقدس فلن تقدر عليه.. لأن المقدر نافذ سواء رضينا أم لم نرضى.. وإن لم يكن مقدرا فلماذا تقتله؟ أي أن الطفل قال له إذا كان الله قد قضى في الكتاب أن بختنصر سيخرب بيت المقدس.. فلا أحد يستطيع أن يمنع قضاء الله.. ولن تقدر عليه لتقتله وتمنع تخريب بيت المقدس على يديه.. وإن كان هذا غير صحيح فلماذا تقتل نفسا بغير ذنب.. فعاد اليهودي دون أن يقتل بختنصر.. وعندما رجع إلى قومه قالوا له إن جبريل هو الذي تمثل لك في صورة طفل وأقنعك ألا تقتل هذا الرجل. ويروى أن سيدنا عمر بن الخطاب كان له أرض في أعلى المدينة.. وكان حين يذهب إليها يمر على مدارس اليهود ويجلس إليهم.. وظن اليهود أن مجلس عمر معهم إنما يعبر عن حبه لهم.. فقالوا له إننا نحبك ونحترمك ونطمع فيك.. ففهم عمر مرادهم فقال والله ما جالستكم حبا فيكم.. ولكني أحببت أن أزداد تصورا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلم عنه ما في كتابكم.. فقالوا له ومن يخبر محمدا بأخبارنا وأسرارنا؟ فقال عمر إنه جبريل ينزل عليه من السماء بأخباركم.. قالوا هو عدونا.. فقال عمر كيف منزلته من الله؟ قالوا إنه يجلس عن يمين الله وميكائيل يجلس عن يسار الله.. فقال عمر ما دام الأمر كما قلتم فليس أحدهما عدوا للآخر لأنهما عند الله في منزلة واحدة.

. فمن كان عدوا لأحدهما فهو عدو لله.. فلن تشفع لكم عداوتكم لجبريل ومحبتكم لميكائيل لأن منزلتهما عند الله عالية. إن عداوتهم لجبريل عليه السلام تؤكد ماديتهم.. فهم يقيسون الأمر على البشر.. إن الذي يجلس على يمين السيد ومن يجلس على يساره يتنافسان على المنزلة عنده.. ولكن هذا في دنيا البشر.. ولكن عند الملائكة لا شيء من هذا.. الله عنده ما يجعله يعطي لمن يريد المنزلة العالية دون أن ينقص من الآخر.. ثم إن الله سبحانه وتعالى اسمه الحق.. وما ينزل به جبريل حق وما ينزل به ميكائيل حق.. والحق لا يخاصم الحق.. وقال لهم عمر أنتم أشد كفرا من الحمير.. ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكد الرسول يراه حتى قال له وافقك ربك يا عمر.. وتنزل قول الله تبارك وتعالى: { قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين } [البقرة: 97] فقال عمر يا رسول الله.. إني بعد ذلك في إيماني لأصلب من الجبل. إذن فقولهم ميكائيل حبيبنا وجبريل عدونا من الماديات، والله تبارك وتعالى يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم.. إنهم يعادون جبريل لأنه نزل على قلبك بإذن الله.. وما دام نزل من عند الله على قلبك.. فلا شأن لهم بهذا.. وهو مصدق لما بين يديهم من التوراة.. وهو هدى وبشرى للمؤمنين.. فأي عنصر من هذه العناصر تنكرونه على جبريل.. إن عداوتكم لجبريل عداوة لله سبحانه وتعالى.

[2.98]

وهكذا أعطى الله سبحانه وتعالى الحكم.. فقال إن العداوة للرسل.. مثل العداوة للملائكة.. مثل العداوة لجبريل وميكائيل.. مثل العداوة لله. ولقد جاء الحق سبحانه وتعالى بالملائكة ككل.. ثم ذكر جبريل وميكائيل بالاسم. إن المسألة ليست مجزأة ولكنها قضية واحدة.. فمن كان عدوا للملائكة وجبريل وميكائيل ورسل الله.. فهو أولا وأخيرا عدو لله.. لأنه لا انقسام بينهم فكلهم دائرون حول الحق.. والحق الواحد لا عدوان فيه.. وإنما العدوان ينشأ من تصادم الأهواء والشهوات. وهذا يحدث في أمور الدنيا. والآية الكريمة أثبتت وحدة الحق بين الله وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل.. ومن يعادي واحدا من هؤلاء يعاديهم جميعا وهو عدو لله سبحانه.. واليهود أعداء الله لأنهم كفروا به.. وأعداء الرسل لأنهم كذبوهم وقتلوا بعضهم. وهكذا فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى وحدة الحق في الدين.. مصدره هو الله جل جلاله.. ورسوله من الملائكة هو جبريل.. ورسله من البشر هم الرسل والأنبياء الذين بعثهم الله.. وميكائيل ينزل بالخير والخصب لأن الإيمان أصل وجود الحياة.. فمن كان عدوا للملائكة والرسل وجبريل وميكائيل فهو كافر.. لأن الآية لم تقل إن العداوة لهؤلاء هي مجرد عداوة.. وإنما حكم الله عليهم بأنهم كافرون.. الله سبحانه وتعالى لم يخبر محمدا صلى الله عليه وسلم بهذا الحكم فقط، وإنما أمره بأن يعلنه حتى يعرفه الناس جميعا ويعرفوا أن اليهود كافرون.

[2.99]

Shafi da ba'a sani ba