. ولكن نحن الذين نظلم أنفسنا.. بأن نوردها مورد التهلكة والعذاب الذي لا نجاة منه دون أن نعطيها شيئا. إن الدنيا كما قلنا عالم أغيار. والنعمة التي أنت فيها زائلة عنك. إما أن تتركها بالموت أو تتركك هي وتزول عنك.. وتخرج من الدنيا تحمل أعمالك فقط.. كل شيء زال وبقيت ذنوبك تحملها إلى الآخرة.. ولذلك فإن كل من عصى الله وتمرد على دينه قد ظلم نفسه لأنه قادها إلى العذاب الأبدي طمعا في نفوذ أو مال زال بعد فترة قصيرة ولم يدم.. فكأنه ظلمها بأن حرمها من نعيم أبدي وأعطاها شهوة قصيرة عاجلة.
[2.58]
من هذه الآية الكريمة نعرف أن بني إسرائيل رفضوا رزق السماء من المن والسلوى مع أنه كان رزقا عاليا.. عاليا في الجودة لأنه طعام حلو نقي شهي ينزل لهم من السماء مباشرة، وعاليا في الكثرة من أنه كان يأتيهم بلا عمل وبلا تعب وبكميات هائلة تكفيهم وتزيد.. وطلبوا من موسى طعام الأرض الذي يزرعونه بأيديهم ويرونه أمامهم كل يوم فقد كانوا يخافون أن يستيقظوا يوما فلا يجدون المن والسلوى. الحق سبحانه وتعالى يكمل لنا القصة في آية قادمة:
وإذ قلتم ياموسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثآئها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم..
[البقرة: 61]. فالله سبحانه وتعالى ما زال يمتن على بني إسرائيل بنعمه وكيف قابلوها بالجحود، فيذكرهم بإنجائهم من عذاب آل فرعون، ويذكرهم بالبحر الذي انشق لهم فمشوا فيه ثم انقض الماء بعد ذلك على آل فرعون فأغرقهم، ويذكرهم كيف أنهم عبدوا العجل بعد ذلك.. وكان من الممكن أن يهلكهم الله بذنوبهم. كما أهلك الأمم السابقة ولكنه عفا عنهم.. ثم يذكرهم بفضله عليهم بأن أعطاهم الكتاب الذي يفرق بين الحق والباطل.. ويذكرهم بأنهم طلبوا أن يروا الله جهرة.. فصعقوا وماتوا ثم بعثهم الله. ويذكرهم كيف ظللهم بالغمام من حرارة الشمس المحرقة، ورزقهم بالمن والسلوى.. ثم يذكرهم بأنهم طلبوا طعام الأرض فاستجاب لهم. في هذه الآية يقول الحق تبارك وتعالى: { فكلوا منها حيث شئتم رغدا } [البقرة: 58]. وفي آية أخرى يقول:
رغدا حيث شئتما
[البقرة: 35]. الفرق في المعنى أن قوله تعالى: { حيث شئتم رغدا } [البقرة: 58] تدل على أن هناك أصنافا كثيرة من الطعام. " ورغدا حيث شئتم " يكون هناك صنف واحد والناس جائعون فيقبلون على الطعام.. عندما يقول الحق جل جلاله: كلوا رغدا يكون المخاطب هنا نوعين: إنسان غير جائع ولذلك تعد له ألوانا متعددة من الطعام لتغريه على الأكل.. فتقدم في هذه الحالة " حيث شئتم " فيقال: { فكلوا منها حيث شئتم رغدا } [البقرة: 58].. فإذا كان الإنسان جوعان يرضى بأي طعام.. فيقال رغدا حيث شئتم. إن المسألة في القرآن الكريم ليست تقديما وتأخيرا في الألفاظ.. ولكن المعنى لا يستقيم بدون هذا التغيير.. قوله تعالى { ادخلوا هذه القرية } [البقرة: 58].. والقرية هي هنا بيت المقدس أو فلسطين أو الأردن.. الحق تبارك وتعالى يقول: { وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين } [البقرة: 58].
. والحق جل جلاله حين خاطبهم بين لنا أنهم لم يكونوا في حالة جوع شديد بحيث يأكلون أي شيء فقال: { فكلوا منها حيث شئتم رغدا } [البقرة: 58] أي ستجدون فيها ألوانا كثيرة من الطعام تغريكم على الأكل ولو لم تكونوا جائعين. وقوله تعالى: { وادخلوا الباب سجدا } [البقرة: 58].. أي ادخلوا الباب وأنتم في منتهى الخضوع.. { وقولوا حطة } [البقرة: 58] أي حط عنا ذنوبنا يا رب.. غير أنهم حتى في الأمر يغيرون مضمونه.. ويلبسون الحق بالباطل.. وهذه خاصية فيهم.. ولذلك دخلوا الباب وهم غير ساجدين.. دخلوه زاحفين على ظهورهم.. مع أن ما أمرهم الله به أقل مشقة مما فعلوه.. فكأن المخالفة لم تأت من أن أوامر الله شاقة، ولكنها أتت من الرغبة في مخالفة أمر الخالق وبدلا من أن يقولوا حطة. أي حط عنا يا رب ذنوبنا قالوا حنطة والحنطة هي القمح.. ليطوعوا اللفظ لأغراضهم.. فكأن المسألة ليست عدم قدرة على الطاعة ولكن رغبة في المخالفة. ومع أن الحق تبارك وتعالى وعدهم بالمغفرة والرحمة والزيادة للمحسنين، فإنهم خالفوا وعصوا.. وقوله تعالى: { وسنزيد المحسنين } [البقرة: 58] يأتي في الآية الكريمة:
للذين أحسنوا الحسنى وزيادة
[يونس: 26]. أي لهم أجر مثل ما فعلوا أضعافا مضاعفة.. وما هي الزيادة؟ أن يروا الله يوم القيامة. هذه هي الزيادة التي ليس لها نظير في الدنيا.
Shafi da ba'a sani ba