قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشآء وتنزع الملك ممن تشآء وتعز من تشآء وتذل من تشآء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير
[آل عمران: 26]. ولعل قوله تعالى: " تنزع " تلفتنا إلى أن أحدا في الدنيا لا يريد أن يترك الملك.. ولكن الملك يجب أن ينتزع منه انتزاعا بالرغم عن إرادته.. والله هو الذي ينزع الملك ممن يشاء. وهنا نتساءل: هل الملك في الدنيا والآخرة ليس لله؟.. نقول الأمر في كل وقت لله.. ولكن الله تبارك وتعالى استخلف بعض خلقه أو مكنهم من الملك في الأرض.. ولذلك نجد في القرآن الكريم قوله تعالى:
ألم تر إلى الذي حآج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين
[البقرة: 258]. والذي حاج إبراهيم في ربه كافر منكر للألوهية.. ومع ذلك فإنه لم يأخذ الملك بذاته.. بل الله جل جلاله هو الذي اتاه الملك.. إذن الله تبارك وتعالى هو الذي استخلف بعض خلقه ومكنهم من ملك في الأرض ظاهريا.. ومعنى ذلك أنه ملك ظاهر للناس فقط.. أن بشرا أصبح ملكا.. ولكن الملك ليس نابعا من ذات من يملك.. ولكنه نابع من أمر الله .. ولو كان نابعا من ذاتية من يملك لبقى له ولم ينزع منه.. والملك الظاهر يمتحن فيه العباد، فيحاسبهم الله يوم القيامة.. كيف تصرفوا؟ وماذا فعلوا؟.. ويمتحن فيه الناس هل سكتوا على الحاكم الظالم؟.. وهل استحبوا المعصية؟ أم أنهم وقفوا مع الحق ضد الظلم؟.. والله سبحانه وتعالى لا يمتحن الناس ليعلم المصلح من المفسد.. ولكنه يمتحنهم ليكونوا شهداء على أنفسهم.. حتى لا يأتي واحد منهم يوم القيامة ويقول: يا رب لو أنك أعطيتني الملك لاتبعت طريق الحق وطبقت منهجك. وهنا يأتي سؤال.. إذا كان الله سبحانه وتعالى يعلم كل شيء فلماذا الامتحان؟.. نقول إننا إذا أردنا أن نضرب مثلا يقرب ذلك إلى الأذهان.. ولله المثل الأعلى.. نجد أن الجامعات في كل أنحاء الدنيا تقيم الامتحانات لطلابها.. فهل أساتذة الجامعة الذين علموا هؤلاء الطلاب يجهلون ما يعرفه الطالب ويريدون أن يحصلوا منه على العلم؟.. طبعا لا.. ولكن ذلك يحدث حتى إذا رسب الطالب في الامتحان.. وجاء يجادل واجهوه بإجابته فيسكت.. ولو لم يعقد الامتحان لادعى كل طالب أنه يستحق مرتبة الشرف. اذا قال الحق تبارك وتعالى: { ملك يوم الدين } [الفاتحة: 4].. أي الذي يملك هذا اليوم وحده يتصرف فيه كما يشاء.. واذا قيل: { ملك يوم الدين } [الفاتحة: 4].
. فتصرفه أعلى من المالك لأن المالك لا يتصرف إلا في ملكه.. ولكن الملك يتصرف في ملكه وملك غيره.. فيستطيع أن يصدر قوانين بمصادرة أو تأميم ما يملكه غيره. الذين قالوا: { ملك يوم الدين } [الفاتحة: 4] اثبتوا لله سبحانه وتعالى أنه مالك هذا اليوم يتصرف فيه كما يشاء دون تدخل من أحد ولو ظاهرا: والذين يقرأون ملك.. يقولون إن الله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم يقضي في امر خلقه حتى الذين ملكهم في الدنيا ظاهرا.. ونحن نقول عندما يأتي يوم القيامة لا مالك ولا ملك إلا الله. الله تبارك وتعالى يريد أن يطمئن عباده.. إنهم إذا كانوا قد ابتلوا بمالك أو ملك يطغى عليهم فيوم القيامة لا مالك ولا ملك إلا الله، جل جلاله.. عندما تقول مالك أو ملك يوم الدين.. هناك يوم وهناك الدين.. اليوم عندنا من شروق الشمس إلى شروق الشمس.. هذا ما نسميه فلكيا يوما.. واليوم في معناه ظرف زمان تقع فيه الأحداث.. والمفسرون يقولون: { ملك يوم الدين } [الفاتحة: 4] أي مالك أمور الدين لأن ظرف الزمان لا يملك.. نقول إن هذا بمقاييس ملكية البشر، فنحن لا نملك الزمن.. الماضي لا نستطيع أن نعيده، والمستقبل لا نستطيع أن نأتي به.. ولكن الله تبارك وتعالى هو خالق الزمان.. والله جل جلاله لا يحده زمان ولا مكان.. كذلك قوله تعالى: " مالك يوم الدين " لا يحده زمان ولا مكان.. واقرأ قوله سبحانه:
ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون
[الحج: 47]. وقوله سبحانه:
تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة
[المعارج: 4]. واذا تأملنا هاتين الآيتين نعرف معنى اليوم عند الله تبارك وتعالى.. ذلك أن الله جل جلاله هو خالق الزمن.. ولذلك فإنه يستطيع أن يخلق يوما مقداره ساعة.. ويوما كأيام الدنيا مقداره أربع وعشرون ساعة.. ويوما مقداره ألف سنة.. ويوما مقداره خمسون ألف سنة ويوما مقداره مليون سنة.. فذلك خاضع لمشيئة الله. ويوم الدين موجود في علم الله سبحانه وتعالى بأحداثه كلها بجنته وناره.. وكل الخلق الذين سيحاسبون فيه.. وعندما يريد أن يكون ذلك اليوم ويخرج من علمه جل جلاله إلى علم خلقه.. سواء كانوا من الملائكة أو من البشر أو الجان يقول: كن.. فالله وحده هو خالق هذا اليوم.. وهو وحده الذي يحدد كل أبعاده.. واليوم نحن نحدده ظاهرا بأنه أربع وعشرون ساعة.. ونحدده بأنه الليل والنهار.. ولكن الحقيقة أن الليل والنهار موجودان دائما على الأرض.. فعندما تتحرك الأرض، كل حركة هي نهاية نهار في منطقة وبداية نهار في منطقة أخرى.
. وبداية ليل في منطقة ونهاية ليل في منطقة أخرى.. ولذلك في كل لحظة ينتهي يوم ويبدأ يوم.. وهكذا فإن الكرة الأرضية لو أخذتها بنظرة شاملة لا ينتهي عليها نهار أبدا.. ولا ينتهي عنها ليل أبدا.. إذن فاليوم نسبي بالنسبة لكل بقعة في الأرض.. ولكنه في الحقيقة دائم الوجود على كل الكرة الأرضية. والله سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن عباده.. إنهم إذا أصابهم ظلم في الدنيا.. فإن هناك يوما لا ظلم فيه.. وهذا اليوم الأمر فيه لله وحده بدون أسباب.. فكل إنسان لو لم يدركه العدل والقصاص في الدنيا، فإن الآخرة تنتظره.. والذي اتبع منهج الله وقيد حركته في الحياة يخبره الله سبحانه وتعالى بأن هناك يوما سيأخذ فيه أجره.. وعظمة الآخرة أنها تعطيك الجنة.. نعيم لا يفوتك ولا تفوته. ولقد دخل أحد الأشخاص على رجل من الصالحين.. وقال له: أريد أن أعرف.. أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة؟.. فقال له الرجل الصالح.. إن الله أرحم بعباده، فلم يجعل موازينهم في أيدي أمثالهم.. فميزان كل إنسان في يد نفسه.. لماذا؟.. لأنك تستطيع أن تغش الناس ولكنك لا تغش نفسك.. ميزانك في يديك.. تستطيع أن تعرف أأنت من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة. قال الرجل كيف ذلك؟ فرد العبد الصالح: إذا دخل عليك من يعطيك مالا.. ودخل عليك من يأخذ منك صدقة.. فبأيهما تفرح؟.. فسكت الرجل.. فقال العبد الصالح: إذا كنت تفرح بمن يعطيك مالا فأنت من أهل الدنيا.. وإذا كنت تفرح بمن يأخذ منك صدقة فأنت من أهل الآخرة.. فإن الإنسان يفرح بمن يقدم له ما يحبه.. فالذي يعطيني مالا يعطيني الدنيا.. والذي يأخذ مني صدقة يعطيني الآخرة.. فإن كنت من أهل الآخرة.. فافرح بمن يأخذ منك صدقة.. أكثر من فرحك بمن يعطيك مالا. ولذلك كان بعض الصالحين إذا دخل عليه من يريد صدقة يقول مرحبا بمن جاء يحمل حسناتي إلى الآخرة بغير أجر.. ويستقبله بالفرحة والترحاب. قول الحق سبحانه وتعالى: { ملك يوم الدين } [الفاتحة: 4].. هي قضية ضخمة من قضايا العقائد.. لأنها تعطينا أن البداية من الله، والنهاية الي الله جل جلاله.. وبما أننا جميعا سنلقى الله، فلابد أن نعمل لهذا اليوم.. ولذلك فإن المؤمن لا يفعل شيئا في حياته إلا وفي باله الله.. وأنه سيحاسبه يوم القيامة، ولكن غير المؤمن يفعل ما يفعل وليس في باله الله.
Shafi da ba'a sani ba