Tafsir Al-Muntasir Al-Kattani
تفسير المنتصر الكتاني
Nau'ikan
تفسير قوله تعالى: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي)
قال الله ﷻ: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف:٢٨].
يعلم ربنا ﷻ نبيه عليه صلوات الله وسلامه، ويوجهه لكي يصبر نفسه، ويتحمل أتباعه من المؤمنين القاصرين أنفسهم على ذكر الله وعبادته والدعوة إليه، وهم لا يريدون بذلك إلا وجه الله والدار الآخرة، وذلك أمر للمؤمنين جميعًا، وهذا أمر للنبي ﵊ لكونه أسوة للمسلمين.
وسبب نزول هذه الآية أن فئة من كفار مكة قالوا لرسول الله ﷺ: يجلس مجلسك ويحضر معك أمثال بلال بن رباح وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وأبي الدرداء، وهؤلاء مساكين الصحابة، وهم يلبسون ألبسة صوفية فعندما يشتد الحر تخرج منهم روائح العرق، فيتعالى الأغنياء والمترفون الجبابرة عن أن يجالسوا ضعاف ومساكين المؤمنين، وقالوا لنبي الله ﵊: خصنا بمجلس معك وأبعد هؤلاء واطردهم، فأمره الله بألا يفعل فقال: ﴿وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ﴾ [الأنعام:٥٢]، وقال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف:٢٨] أي: تحمل هؤلاء المساكين ومسكنتهم وروائحهم، وجالسهم واصبر معهم وادع دعاءهم واعبد عبادتهم.
وكان هؤلاء يجلسون مكانهم في الغداة بعد صلاة الصبح يدعون ربهم ويتضرعون إليه ويسبحونه ويحمدونه ويكبرونه ويهللونه إلى شروق الشمس، ويفعلون مثل ذلك بعد صلاة العصر داعين ضارعين ذاكرين حامدين شاكرين مهللين ومعظمين ومنزهين إلى غروب الشمس.
وكذلك كان أهل الصفة الذين تجاوزت أعدادهم السبعين لا عمل لهم إلا العبادة والدعاء والذكر، والله ذكر هنا الدعاء؛ لأن الدعاء عبادة، والدعاء كما قال نبينا ﵊: (الدعاء مخ العبادة).
واصبر نفسك يا محمد! وتحمل هؤلاء وهم يدعون ربهم، ويتضرعون إليه، وقد كان بعض هؤلاء لا يلبس إلا لباسًا واحدًا، وبعضهم يكون اللباس عليه أيامًا، وبعضهم كان ثائر أشعث الشعر مسكنة وضعفًا وحاجة، ومع ذلك كان الواحد منهم يزن مئات من الأغنياء والمترفين والغافلين عن ذكر الله، فقد قلنا بالأمس بأن النبي ﵊ كما روى الإمام أحمد وجد جماعة من أتباعه بعضهم ثائر الشعر، وبعضهم ليس عليه إلا ثوب واحد، وهم يذكرون الله غدوة، وهم يذكرون الله مساءً وعشية، فجلس معهم، وقال: (أنتم الذين أمرني ربي بأن أصبِّر نفسي معكم).
والمترفون من صناديد مكة عندما طلبوا من الرسول ﵊ بأن يخصهم بمجلس ويطرد عنه هؤلاء المساكين والضعاف، نهاه ربه أن يستجيب لهم، وإن كان لم يفعل ﵊، فهو لم يفردهم بمجلس ولم يجلس مختصًا بهم دون مساكين الصحابة وكل ما كان قد حدث يومًا بين ما هو مع أمثال هؤلاء جاءه عبد الله بن أم مكتوم وأخذ يسأله وكان أعمى لم ير من هم الجالسون فأعرض عنه ﵊ وعن جوابه، رجاء أن يؤمن به أولئك، وبإيمانهم قد يؤمن أتباعهم، وقد تؤمن الأكثرية من مكة، ولكن الله ﷻ لم يقبل منه ذلك، وعاتبه عليه، وقال: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى﴾ [عبس:١ - ٣].
فعاتبه الله ولامه، وبعد ذلك كان النبي ﵊ إذا جاءه ابن أم مكتوم يقول: (أهلًا بمن عاتبني فيه ربي)، وكان يقبل عليه بوجهه الشريف ﵊، بل أكثر من ذلك كان إذا خرج من المدينة المنورة إلى غزوة كان يتركه أميرًا للمدينة ونائبًا عنه في حكم المدينة، والفصل بين الناس.
﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ﴾ [الكهف:٢٨] أي: يعبدون ربهم، ويضرعون إليه، ﴿بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف:٢٨]، أي: يفعلون ذلك في الغداة وهي الصباح، ويفعلون ذلك مساءً وعشية، فيذكرون ربهم داعين ضارعين، يصلون الصبح، ويبقون في مجالسهم إلى شروق الشمس، ويصلون العصر، ويبقون في مجالسهم إلى غروب الشمس، داعين لله ضارعين، شاكرين له على أنعمه بأن هداهم إلى الإسلام ووفقهم لدعائه وعبادته وحده، وترك الأصنام والأنصاب والأزلام والأوثان كما كان يصنع أقوامهم.
﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ [الكهف:٢٨]، وهم بذلك لا يقصدون من دعائهم ومن عبادتهم إلا وجه الله والدار الآخرة، ولا يريدون إلا ثواب الله، لا يريدون جزاء أو مكافأة دنيوية ولا جزاءً ولا شكورًا من أحد، ولا يريدون دنيا ولا مجاملة، ولا مراءاة، ولا شيء مما يفعله غير المخلص وغير العامر قلبه بالله وبعبادة الله وذكره.
﴿وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ﴾ [الكهف:٢٨]، أي: لا تتجاوز بعينيك عنهم، ولا تتطاول بالنظر إلى غيرهم من الأغنياء والمترفين، وترى أن أولئك أولى بالمجالسة، وأولى بالمحادثة، وأولى بالمذاكرة، بل جالس هؤلاء العابدون، هؤلاء الأخيار الصالحون، المنكسرة قلوبهم لله، الذين إذا حضروا لم يعرفوا، وإذا غابوا لم يفتقدوا، عباد الله المخلصون في العبادة له، ولا تتجاوز عيناك عنهم، لا تنظر إلى غيرهم، ولا تهتم بالمترفين وبالمعجبين وبالتائهين، دع أولئك لدنياهم، واصبر نفسك مع هؤلاء العابدين المخلصين لله.
﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ [الكهف:٢٨]، أي: ولا تطع أولئك الذين طلبوا منك اختصاصهم بهذه المجالس وإبعاد العابدين المخلصين في دعائهم وفي عبادتهم لله وحده.
أما أولئك المترفون الذين غفل قلبهم عن ذكر الله، وعن عباد الله الصالحين فلا تطعهم وأعرض عنهم، ولا تجالسهم، ولا تخصهم بالجلوس، وإياك أن تبعد هؤلاء وتطردهم لأجل أولئك.
﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ [الكهف:٢٨]، غفل قلبه فأغفلناه، ونسي ربه فنسيناه، لو يعلم الله في قلوبكم خيرًا لآتاكم خيرًا، ولأكرمكم، وفي الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله.
فهؤلاء عندما فسدت قلوبهم وغطى عليها الران، وما تركوا نبيهم ﵊ والرسالة التي أنزل إليه، لم يتركوها عن جهل ولا عن عدم معرفة، ولكنهم أعرضوا عنها تكبرًا وتعاظمًا واستهزاءً، فدعهم واتركهم، فقد فعلوا بأنفسهم ما الله ﷻ ودعهم إليها وتركهم.
﴿وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا﴾ [الكهف:٢٨]، أي: عن توحيد الله، وعن عبادة الله.
﴿وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ [الكهف:٢٨]، أي: اتبع نزواته وكفره وشهواته، واتبع ما يظنه خيرًا له في دنياه، وهو لا يؤمن بالبعث ولا بالنشور ولا بالآخرة، فكان إلهه هواه، فصد عن سبيل الله، وأغفله الله وتركه.
﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف:٢٨]، أي: كان أمره فارطًا ضائعًا ضالًا تائهًا من الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، كان أمره ضياعًا وضلالًا وفسادًا، هؤلاء الذين يزعمون أنهم على شيء وليسوا على شيء، ممن جعلوا العبادة لغير الله، وممن جعلوا مع الله شريكًا، وممن اتبعوا شهواتهم ونزواتهم، وممن دعوا غير الله وأشركوا مع الله غيره، فهؤلاء كما أُمر النبي ﵊ بذلك وهو الأسوة والمعلم، وهو الذي جاء بالرسالة عن ربه ليبلغها لعباده.
وهو أمر لكل مؤمن ومسلم بأن يصبر نفسه مع المساكين من الصالحين والأتقياء، الذين يذكرون الله صباحًا ومساءً، وألّا يكبر في عينه المترفون والأغنياء والضائعون والمبتدعون والتابعون لأهوائهم وشهواتهم، والبعيدون عن الله في مجالسهم، وفي خلواتهم، هؤلاء الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وما هم على شيء، فقد ذهبت أيامهم ضياعًا وضلالًا، فلا تهتم بهم، ولا يهتم بهم مسلم، ولا يجعلهم المؤمن جلساء له، فإنهم يبعدون المسلم عن ربه، وينسونه ذكر ربه.
أما أولئك الذين إذا رأيتهم ذكروك بالله، والذين تتنزل الرحمات عند ذكرهم فجالسهم وعاشرهم، وهذه الآية الكريمة تحض المؤمن على عشرة الصالحين، والبعد عن المنافقين المبتدعين الضالين، وعلى ألا يكبر في عينه إلا الصالح التقي المستمسك بسنة نبيه وما كان عليه السلف الصالح، واترك ما عدا ذلك ممن اتبع هواه، وجعل دين الله شيعًا وأحزابًا، واتبع كل ناعق.
ومن هنا كان يعلمنا ﵊ في الدعوات، ويقول لنا: (اللهم ارزقنا حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقربنا إلى حبك)، فحب الصالحين مطلوب ومشروع أيضًا.
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة فحب الصالح يفيدك وينفعك، وعسى يومًا أن تنالك بركته، فتصبح من الصالحين كذلك.
وقديمًا قيل في الحكمة: قل لي من تعاشر أقل لك من أنت.
أما أولئك التابعون لكل ناعق، المسترسلون مع كل فاشق، التاركون لنبيهم وسنتهم، التابعون لضلالات اليهود والنصارى والمنافقين والمبتدعة، فقد نهى الله عن عشرتهم، ونهانا عن مجالستهم، ونهانا عن أن نعترف بهم وبما عندهم من فساد وضلال وهوى.
7 / 2