231

Tafsir Ahmed Hateeba

تفسير أحمد حطيبة

Yankuna
Misira
الأدلة على أن الهم بالسيئة والعزم عليها سيئة وإن لم يعلمها
قال العلماء: المعاصي تضاعف بمكة كما تضاعف الحسنات، فالحسنات تكون عظيمة ومضاعفة، وكذلك السيئات، ومن ذلك ما ذكره الله ﷿ بقوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ﴾ [الحج:٢٥]، وليس الوعيد على الذي يفعل فقط، بل الذي يريد أن يفعل الإلحاد في الحرم، فالله ﷿ يذيقه من عذاب أليم.
وهنا يقول العلماء: هناك فرق بين الخاطر في رأس الإنسان ثم يكف عن ذلك ولا يفعل، وبين أنه يريد أن يفعل الخطأ ويعزم عليه ثم يقدم فيمنعه قضاء الله وقدره ﷾، فالذي يهم ثم يمتنع لأنه يخاف من الله فهذا تكتب له السيئة حسنة، وقد جاء حديث عن النبي ﷺ بهذا المعنى.
ففي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: قال النبي ﷺ فيما يرويه عن ربه ﷿: (إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك) أي: بين الله ﷿ ذلك، يقول: (فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإذا هو هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة)، وانظر إلى قوله: (هم بسيئة ولم يعملها) أي: لم يعملها خوفًا من الله ﷿، وهنا فرق بين أنه امتنع من السيئة لأنه خاف من الله سبحانه فتكتب له حسنة كاملة، وبين أنه امتنع منها لعجزه فتحسر على كونه لم يفعلها، فهذا يؤاخذ على هذا الهم وعلى الإرادة بالفعل، فقال هنا ﷺ: (فإن هو هم بها فعملها كتبها الله له سيئة واحدة).
والحديث هذا ذكر ابن عباس أن النبي ﷺ يرويه عن ربه، وكان اللفظ المسوق هنا من كلام النبي ﷺ، ولكن جاء في رواية أخرى في صحيح البخاري أن الله ﷿ قال: (إذا أراد عبدي أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه -يعني يقول للملائكة- حتى يعملها).
وجاء من حديث أبي هريرة: (إذا أراد أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها من أجلي فاكتبوها له حسنة)، فلاحظ هنا أنه قال: (إذا ترك السيئة من أجلي) فهذا تكتب له هذه السيئة التي كاد أن يفعلها حسنة.
وجاء حديث آخر عن النبي ﷺ في سنن الترمذي ورواه الإمام أحمد أيضًا من حديث أبي كبشة الأنماري أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: (ثلاثة أقسم عليهن، وأحدثكم حديثًا تحفظوه) أي: أن النبي ﷺ يخبر عن ثلاثة أشياء ويقسم عليهن، ويحدثنا حديثًا ويأمرنا أن نحفظ هذا الحديث صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (ما نقص مال عبد من صدقة) أي: إذا تصدقت فإن المال لا ينقص أبدًا من الصدقة، وصدق رسول الله ﷺ، ولا نحتاج أن يقسم لنا فهو الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.
قال ﷺ: (ولا فتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)، بمعنى: أن أي إنسان بدأ يفتح على نفسه باب السؤال ويمد يده للناس، فإن الله ﷿ يفتح عليه باب الفقر، حتى وإن جمع أموالًا كثيرة وكنزها من سؤال الناس، إذ يملأ الله قلبه فقرًا، فلا يزال يشعر بالفقر عمره أبدًا، حتى يأخذه الله ﷾.
قال ﷺ: (ولا ظلم عبد مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزًا)، أي: ما من عبد يظلم مظلمة ويعفو عنها ويصبر إلا فتح الله له باب عز، وزاده عزًا إلى عزه ﷾.
قال النبي ﵌: (وأحدثكم حديثًا تحفظوه، إنما الدنيا لأربعة نفر) أي: يعيش فيها أربع أصناف من الناس، قال: (عبد رزقه الله مالًا وعلمًا فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقه، فهذا بأفضل المنازل) أي: عبد رزقه الله مالًا وعلمًا، فبعلمه يعمل في ماله فيتقي ربه في هذا المال، ويصل به رحمه بهذا المال، ويعلم لله فيه حقه من زكاة ونحوها، فهذا بأفضل المنازل؛ إذ جمع الله له علمًا ومالًا وطاعة لله.
قال: (وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالًا فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالًا لعملت بعمل فلان، فهو بنيته فأجرهما سواء) أي: أن هذا الفقير لم يؤت مالًا، ولكن تمنى أن يؤتيه الله ﷿ مالًا فيعمل كهذا.
الرجل الأول صاحب العلم والمال والتقوى، فأجرهما سواء.
قال: (وعبد رزقه الله مالًا ولم يرزقه علمًا فهو يخبط في ماله بغير علم، ولا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله تعالى فيه حقه، فهذا بأخبث المنازل)، وهذا رجل جاهل ليس على علم، ومعه مال كثير يسرف به، فلا يترك شيئًا من حرام إلا وبذل فيه هذا المال، فهو يصرف ماله في كل شيء، ويريد بذلك أن يحصل على الدنيا، ويستمتع فيها، فبجهله يظن أن الأولى والأخرى هي هذه الدنيا، فلذلك ينفق ماله في الملاذ والحرام ولا يهمه شيء، فليس عنده علم، وليس عنده ورع يمنعه من معصية الله ﷿، فهذا بأخبث المنازل وشرها وهي نار جهنم والعياذ بالله.
قال: (وعبد لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا)، وهذا جاهل آخر لكنه فقير (فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته ووزرهما سواء)، فالعلم يشرف بأهله، والجهل قبيح بأهله، وانظر إلى الإنسان العالم الذي عرف لله حقه، فلما أعطاه المال عمل بطاعة الله في هذا المال، فلما منعه صبر على هذا الأمر وتمنى الخير، فالتمني تجارة مع الله ﷾، فالله ﷿ هو الذي منعه من المال، وعلم الله أنه لو أعطاه المال لعمل كهذا الذي عمله، فمنعه المال وأعطاه الأجر، وهذا فضل الله ﷾، بل ويجعل الإنسان الفقير يوم القيامة يدخل الجنة قبل الغني بخمسمائة عام، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء سبحانه ﵎.
وهذا الرجل الرابع رجل مسكين، حرمه الله ﷿ المال في الدنيا وهو جاهل، فبجهله لم ينظر إلى أمر الله ﷿ وطاعته، وإنما نظر إلى الدنيا، ونظر إلى مال ذاك الإنسان الجاهل، فلقد أتعب نفسه بنفسه، وأشقى نفسه بعقله وبجهله، فهو ينظر إلى الدنيا أنها كل شيء، ويتمنى أن معه مالًا فيعمل به كذا وكذا من المعاصي، فهو يتمنى المعاصي، والله يكتب عليه السيئات بتمنيه لهذه المعاصي، فهو بأخبث المنازل عند الله ﷿ كهذا الإنسان الجاهل صاحب المال.
فهذا هو الفرق بين من خطر بباله أنه يفعل معصية ثم تراجع عن ذلك خوفًا من الله؛ فتكتب له حسنة، وبين من أراد فعل معصية ثم لم يفعلها ونسي أمرها، فهذا لا حسنة له ولا سيئة، وآخر أراد فعل معصية ومنع من هذه المعصية، فإذا به يتحسر على فوات هذه المعصية، كمن أراد أن يسرق شيئًا فوجد الباب مقفلًا، فرجع حزينًا، وصار يتمنى معرفته لفتح الأقفال، فالتمني موجود في قلبه، ولو تمكن لفعل، فهذا كالذي يفعله.
ومن ذلك حديث النبي ﷺ أنه قال: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، فقالوا هذا القاتل، فما بال المقتول؟! فقال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه).
فحرصه على قتل صاحبه وإن كان لم يقتله جعله في النار مع صاحبه القاتل.
فهذا مما يؤيد أن الإصرار على المعصية معصية، ومن ذلك قول الله سبحانه: ﴿وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران:١٣٥]، فالمؤمنون إذا حدثتهم أنفسهم بالفاحشة أو المعصية تراجعوا خوفًا من الله ﷿، ولم يصروا على هذا الأمر، وسواء فعلوا أو لم يفعلوا فالله ﷿ يعفوا ويغفر لهم.
ومن ذلك قول الله ﷿: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ [النور:١٩]، فهؤلاء أحبوا ولم يعملوا، فهم يحبون بقلوبهم أن تنتشر الفواحش بين الناس، ومع ذلك لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، فكيف إذا فعلوا وأباحوا الفواحش للناس؟! ومن ذلك قول الله ﷿: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات:١٢]، والظن هو فعل العقل، فالإنسان يفكر في الشيء بعقله، ولم يحقق شيئًا من ذلك، فقال الله ﷿: ﴿اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ﴾ [الحجرات:١٢]، فإن الظن منه الكثير ومنه القليل، والقليل من الظن غالبًا يكون في الخير، والكثير منه يكون ظن سوء، وعلينا أن نجتنب هذا الظن السيء، فإذا رأيت من أخيك شيئًا فاحمله على المحمل الحسن، فإذا لم تفعل وظننت ظن السوء فإن الله يقول: ﴿إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ﴾ [الحجرات:١٢] أي: إن بعضًا من هذا الظن الذي ظننته في أخيك تأثم عليه وتعاقب عليه عند الله ﷿.
والغرض من هذا كله بيان ما جاء عن النبي ﷺ من أن الإنسان إذا هم بسيئة كتبت عليه هذه السيئة إن كان همه بعزم، ويعلم الله ﷿ أنه لو تركه في ذلك لأتى الفاحشة وفعلها.
ولذلك نقول: قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ﴾ [الحج:٢٥] يدل على عظمة الحرم وقدره، فالإنسان الذي يفعل المعصية فيه يأثم إثمًا عظيمًا، والذي يريد أن يفعل المعصية ويعلم الله ﷿ من قلبه أنه يريد فعلها ويصر عليها فهذا داخل في قوله تعالى: ﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج:٢٥].
وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة ﵁ أنه قال: قال النبي ﷺ: (اجتنبوا السبع الموبقات، فقيل: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
والحديث نفسه رواه أبو داود وذكره عن عبيد بن عمير

22 / 6