بسم الله الرحمن الرحيم
وبه الإعانة
مقدمة المؤلف
الحمد لله حمدًا يقضي عنا شكر آلائه، ويسنى الحظ من رحمته وجزيل عطائه، وصلى الله على محمد خاتم أنبيائه، وخيرة أصفيائه، وعلى آله الأطهار من ذريته، والأبرار من عترته، وسلم وكرم.
أما بعد فإنه حضر عندي جماعة من أهل الأدب، بين ريان منه صادر عن مورده، وطالب موف على مقصوده، ومجتهد سمت همته إلى جمع فنونه، وافتراع أبكاره وعونه. جعلوا مبدأ مذكراتهم، ومنشأ مشاجرتهم معاني شعر أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي، وقصروا همهم على كشف ما التبس من معانيه، والحث عن غوامضه وخوافيه فكأنه عناهم بقوله:
أنام ملء جفوني عن شواردها ... ويسهرُ الخلق جراها ويختصمُ
وسألني منهم أوجب حقه، وأوثر موافقته، جمع ما انتهى إلى علمه من أقوال مفسري ديوان المذكور، على سبيل الإيجاز والاختصار، والاقتصاد، فانتهت إلى مراده، وسارعت إلى جمع مقترحه وإيراده، وتتبعت جميع قصائده تتبع الناشد مظان نشائده، أقتضب منها الألفاظ الشريفة والمعاني اللطيفة مظهرًا خبياتها، جاليًا لها في أحسن هيآتها، وأفردت لها مختصرًا لطيفا مجمله، كافيا لمن يتأمله. لم أتسمح في إغفال نكتة لغوية ولا إهمال مشكلة نحوية. إن كان شيخنا أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سلمان ﵀ ورضي عنه، قد أورد في كتابه المعروف: ب) اللامع العزيزي (مالا فائدة فيما عداه، ولا حاجة معه إلى ما سواه، إلا أنه رحمة الله قلد ظرف الكلام فضل عنانه، وأرسل سابقا يفتن في ميدانه، فلم يدع فضلة علم إلا رفع منارها، ولا دفينة معنى إلى كشفها وآثارها. فطال الكتاب بما استودع من صنوف الآداب.
وأما الشيخ أبو الفتح عثمان بن جني، ﵀، فإنه بسط عبارة كتابه، وجعل النحو معظم ما أتى به، حتى صار طالب البيت الواحد يفني عدة صفحات في اختلاف مذاهب النجاة، قبل إدراك طلبه، وبلوغ أربه ز ولم يخلص تصنيف الأستاذ أبي علي ابن فروجة ﵀ فيما نقمه على الشيخ أبي الفتح ابن جني من ألفاظ غير مفيدة، ومقاصد في الرد عليه ليست بالرشيدة.
فاستخرجت في ذلك كله ما لابد منه، ولا غنى للناضر عنه تقريبا على الطالب المستفيد، وتذكرة للراغب المستزيد معولا في تيسير ما قصدته، وتجنب الزلل فيما أوردته، على معونة الله وحسن توقيفه، وهو حسبي ونعم الوكيل.
حرف الهمزة
قال أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي من أهل الكوفة ومولده منها بكندة سنة ثلاث وثلاثمائة، وتوفي سنة أربع وخمسين:
عذْلُ العواذلِ حولَ قلبِ التَّائِهِ ... وهوى الأحِبَّةَ مِنْهُ في سَوْدائِهِ
قال الشيخ أبو العلاء: عَذْل وعَذَل، والتحريك في هذا الموضع أحسن، لأنه أقوى في السمع والغريزة، ويقال: عذلت فلانا فاعتدل، أي: لام نفسه.) معتذلات سهيل (: أيام شديدات الحر تجيء قبل طلوعه أو بعده، وبعض الناس يرويها) معتدلات (بالدال، أي: أنهن قد استوين في شدة الحر، وأما بالكف عنه.
وقوله:) التائه (جاء بالهاء الأصلية مع تاء الإضمار في القوافي، وربما فعلت الشعراء ذلك وهو قليل ومنه قول الأنصاري:
أبلغ أبا عمرو أحي ... حة والخطوب لها تشابه
أني أنا الليث الذي ... تخشى مخالبه ونابه
وسوداء القلب وسويداؤه، وأسوده، وسواده واحد، وهي علقة من دم أسود تكون فيه.
يشكو الملام إلى اللوائم حره ... ويصد حين يلمن عن برحائه
قال الشيخ أبو العلاء ﵀: المعنى أن اللام يشكو إلى اللوائم اللاتي يلمن هذا المحب، لأنه إذا وقع في سمعه، صار إلى قلبه، فوجد حرارة شيديدة، وهو من دعوى الشعر المستحيلة.
الشمس من حساده والنصر من ... قرنائه والسيف من أسمائهِ
قال الشيخ أبو العلاء: السيف من أسمائه يعني اللفظة دون جوهر السيف لأن الحديد جوهر ولا يكون أحد الجنسين في الآخر.
ومن أبيات لها:
القلب أعلم يا عذول بدائهِ ... وأحق منك بجفنه وبمائهِ
قال أبو الفتح ابن جني: أي هو يصرف الدمع حيث يريد لأنه مالكه والهاء في مائه تعود على الجفن ويجوز أن تعود على القلب وفيه بُعد.
ما الخل إلا من أود بقلبهِ ... وأرى بطرف لا يرى بسوائهِ
1 / 1
قال ابن جني: معنى البيت ليس خليل إلا نفسك فلا تلتف إلى قول أحد: إني خليل لك. ويجوز أن يكون المعنى، ما الخل إلا من فرق بيني وبينه، فإذا وددت فكأني بقلبه أود وإذا رأيت فكأني بطرفة أرى. إنما يستحق أن يسمى خلا من كان منك بهذه المثابة
إن المعين على الصبابة بالأسى ... أولى برحمة ربها وإخائهِ
قال ابن جني: كأنه قال: إن المعين على الصب بالأسى وهو الحزن أولى بأن يرحمه ويكون أخاه إما لأنه هو الذي جنى عليه ما جنى وإما لأنه أعرف الناس بدوائه وأطبهم بدائه. ويجوز أن يكون قوله:) على الصبابة (. أي: مع ما أنا فيه من الصبابة يكون المعنى في هذا أي: لا معونة إلا إيراده علي الأسى والحزن. فيجري مجرى قولك: عتابك السيف. وحديثك الصمم أي لا عتاب عندك إلا السيف.
وقال الشيخ أبو العلاء: يقول الذي يعين على الصبابة بالأسى أي الحزن أولى برحمة ربها: أي كان ينبغي أن لا يفعل ذلك. كأنه جعل عذله إياه زيادة في حزنه ويجوز أن يعني أنك يا عذول كان ينبغي أن تحزن بحزني كما يقال للرجل إذا منع صديقه شيًا: إن الذي يعين خليله بالمال وقضاء الحاجة هو الذي يستحق أن يسمى خليلًا ومؤاخيًا.
وقد روت) الأسى (بضم الهمزة. من أسيت الحزين أي عزته. والمعنى إن الذي يقول لك أسوة بفلان وفلان أولى بأن يكون خليلًا ناصحًا.
عجبَ الوشاةُ منَ اللحاق وقولهم ... دع ما نراك ضعفتَ عن إخفائهِ
قال ابن جني: المعنى إنه ليس حوله إلا واش أو لاحٍ. فعجب الوشاة من تكليف اللحاق له بما لا يستطيعه لأنه إذا ضعف عن إخفائه فهو عن تركه أضعف. والواشي: لذي ينمق الكذب. واللاحي: الذي يزجر ويغلظ القول
مهلا فإن العذل من أسقامه ... وترفقًا فالسمع من أعضائهِ
قال أبو العلاء: هذا مجاز واتساع، لان السمع ليس من الأعضاء، ولكنه يحمل على أنه أراد موضوع السمع من أعضاءه؛ أي الأذن.
ومن التي أولها:
أتنكر يا ابن إسحاق إخائي
أأنطق فيك هجرًا بعد علمي ... بأنك خير من تحت السماءِ
قال الشيخ ﵀: الهجر: مالا ينبغي من القول. يقال: أهجر الرجل إذا جاء بالهجر قال الشماخ:
كما جدة الأعراقِ قال ابن ضرةٍ ... عليها كلامًا جار فيه وهَجَّرا
وهجر الرجل بمعنى هذى ومنه قوله تعالى:) سامرا تهجرون (أي: تهذون وقيل: من الهجر الذي هو القطيعة أي تهجرون سامرًا لا تحضرونه.
وتنكر موتهم وأنا سهيلٌ ... طلعتُ بموتِ أولادِ الزناءِ
قال الشيخ ﵀: إثبات الألف في أنا عند بعض الناس ضرورة لأن هذه الألف لا تثبت إلا في الموقف. وكان محمد بن يزيد يتشدد في ذلك ولا يجيزه. وقد جاء في مواضع كثيرة من ذلك قول الأعشى:
فكيف أنا وانتحالي القواف ... ي بعد المشيبِ كفى ذاك عارا
وقول حميد بن بحدل:
أنا زين العشيرة فاعرفوني ... حميدًا قد تذريت السناما
والزنا تمد وتقصر. وجاء في كتاب الله ﷿ مقصورًا. وكأنه إذا مد مصدر زاني يزني قال الشاعر:
أبا حاضرٍ من يزن يعرف زناؤه ... ومن يشرب الخرطوم يصبح مسكرًا
ومن التي أولها:
أمن ازدياد في الدجى الرقباءُ ... إذ حيث كنت من الظلام ضياءُ
قال ابن جني: أي لا يقدر أحد على زيارتك ولا تقدرين على زيارة أحد ليلًا لأن ضوء وجهك ينم عليك.
قلق المليحة وهي مسك هتكها ... ومسيرها في الليل وهي ذكاءُ
قال أبو علي ابن فورجة: قلقها: يعني حركتها في مشيها. وهتكها مصدر هتك فلان الستر هتكًا وهو مصدر فعل متعدٍ. ولو أتى بمصدر لازم كان أقرب إلى الفهم. كأنه لو قال: انهتاكًا كان لعلم المخاطب به، كأنه يقول: ومسيرها في الليل هتك لها من قبل الطيب الذي استعمله بل جعلها نفسها مسكًا. وكأنه ألم بقول امرئ القيس:
ألم ترياني كلما جئت طارقًا ... وجدت بها طيبا وإن لم تطيبِ
وبقول آخر:
درة كيفما أديرت أضاءت ... ومشم من حيثما شم فاحا
وأما المعنى المتداول أن الطيب يهتك من استعمله فمنه قول بشارٍ:
رب قول من سعاد لنا ... قد حفظناه فما رفعا
أملي لا تأت في قمرٍ ... لحديثٍ واتقِ الدرعا
وتوق الطيب ليلتنا ... إنه واش إذا سطعا
وأجود منه آخر محدث تقدم أبا الطيب:
1 / 2
ثلاثة منعتها من زيارتنا ... وقد دجا الليل خوف الكاشحِ الحنقِ
ضوء الجبين ووسواس الحلي وما ... يفوح من عرقٍ كالعنبر العبقِ
هب الجبن بفضل الكم تستره ... والحلي تنزعه ما الشأن في العرق
وقوله:) مسيرها في الليل وهي ذكاء (يشبه قوله أيضا:
رأت وجه من أهوى بليل عواذلي ... فقلن ترى شمسا وما طلع الفجر
والأصل في هذا قول القائل:
عجبت لمسراها وأني تخلصت ... إلى وباب السجن دوني مغلقُ
عجبت لمسراها وسرب سرت به ... تكاد به الأرض البسيطة تشرقُ
مثلت عينك في حشاي جراحة ... فتشابها كلتاهما نجلاء
قال ابن جني: أي لما نظرت إليك جرحت قلبي جراحة أشبهت لسعتها عينك. وقوله: كلتاهما نجلاء، في موضع نصب على الحال، كأنه قال فتشابها نجلاوين. وإن شئت لم يكن لها موضع من الإعراب كقوله تعالى) سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهمُ (ورابعهم كلبهم، جملة لا موضع لها من الإعراب.
وقال ابن فورجة: هذا البيت ظاهر المعنى شاهدت كثيرا من الفضلاء يغلطون في معنى قوله: مثلت عينك في حشاي جراحةً ويظنون أن معناه خيلتها إلي، وصورتها عندي جراحة، ويقولون هذا كما يقول:) فلان غصة في صدري، وشجى في حلقي (. وإن لم يكن كذلك حقيقة. ويراد به وهو يحل محل الغصة من الصدر، والشجى في الحلق، وكذلك هذه العين، تحل محل الغصة من الصدر، والشجى، وكذلك هذه العين تحل محل الجراحة في حشاي وهذا كقوله في شعره أيضا:
ممثلة حتى كأن لم تفارقي ... وحتى كأن اليأس من وصلك الوعدُ
وقوله أيضا:
كانت من الحساء سؤالي إنما ... أجلي تمثل في فؤادي سولا
أي تخيل، وهذا خطأ فاحش، إذ كان آخر البيت هذا القول بقوله: فتشابها، إذ هي عين واحدة، وتشابها فعل اثنين ومعنى البيت مثلت أي أحدثت لعينك مثالا في حشاي، أي جرحته جراحة واسعة مثل عينك. وهذا كما يقول: مثلث أي جعلت له مثالا للحروف يكتب مثلها.
نفذت علي السابري وربما ... تندق فيه الصعدة السمراء
قال ابن جني: معنى البيت أن عينك نفذت ثوبي إلي، فتمثلت في حشاي جراحة، فإن قيل: كيف تندق الصعدة في الثوب الرقيق قيل: معناه إنه إذا طعن بقناة اندقت القناة دون أن تعمل فيه، فكأن ثوبه درع عليه لمكان جسمه من تحته يؤكد هذا قوله:
طوال الردينات يقصفها دمي ... وبيض السريجات يقطعها لحمي
كأنه نظر إلى قول قيس بن الخطيم:
ترى قصد المران تهوى كأنها ... تذرع خرصان بأيدي الشواطب
وقريب منه قول أبي تمام:
أناس إذا ما استلحم الروع صدعوا ... صدور العوالي في صدور الكتائب
إلا أن المتنبي جعل نفسه مؤثرة في السلاح ولم يجعل للسلاح فيها أثرًا يفخر بذلك. ألا ترى أن بعد هذا) أنا صخرة الوادي (ويجوز أن يكون عنى بالسابري: الدرع كقول دريد:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدججٍ ... سراتهم في السابري المسردِ
فيكون على هذا نفذت نظرتك الدرع إلى قلبي فنفذت حينئذ من قوله:
وقى الأمير هوى العيون فإنه ... ما لا يزول ببأسه وسخائهِ
وكلا القولين مذهب.
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ... فإذا نطقت فإنني الجوزاء
قال ابن فورجة: صخرة الوادي هي أتان الضحل وهي صخرة تكون في الوادي قد بل الماء أسفلها فازدادت رسوخًا في الأرض. الضحل الماء القليل يترقرق على وجه الأرض، وجمعه ضحول وأضحال وأتان الضحل أراد امرؤ القيس بقوله: حجارة غيل وارساتٌ بطحلبِ والغل الماء بين الشجر. ومثله:
عيرانة كأتان الضحل ناجية ... إذا ترقص بالقور العساقيل
1 / 3
وإنما سميت أتان لان هذه الصخرة تلامس بالطحلب فشبهت بالأتان التي املاست فأكثر لحمها. والأتان أيضا مكان على حافة البئر سمي بذلك لاملاسه، ونراكب الطحلب عليه. وإنما يعني أني إذا زوحمت لم يقدر إزالتي عن موضعي كما أن هذه الصخرة لا تزال عن موضعها يريد لا أزال عن شر في وفضلي عند المساماة والمفاخرة. أو يعني أني إذا حاربت لم انهزم. وقوله) فإذا نطقت فإنني الجوزاء (فإن المنجمين يزعمون أن الجوزاء من البروج التي تختص بالكتاب. فهو وصاحبه عطارد يدلان على المنطق والبراعة فيقول: أنا الجوزاء، أي: مني تستفاد البراعة، ومني يقتبس الفضل كما أن الجوزاء تعطي من يولد به البراعة والنطق وإلى هذا أشار بقوله:
ومني استفاد الناس كل غريبةٍ ... فجازوا بتركِ الذم إن لم يكن حمد
شيم الليالي أن تشكك ناقتي ... صدري بها أفضى أم البيداء
قال الشيخ ﵀: يقول ناقتي هذه تشككها الليالي، فلا تدري أصدري أفضى أم البيداء التي هي سائرة فيها وأراد ألف الاستفهام فحذفها وذلك كثير موجود، وقد حملوا على ذلك قول الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ... غلس الظلام من الرباب خيالا
كأنه قال: أكذبتك عينك وقوله) أفضى (يحمل أن يكون اسمًا وفعلا. فإذا كان اسما فهو على معنى التفضيل كأنه قال: أصدري أشد سعة أم البيداء، وإذا كان فعلا فهو من أفضى إلى الشيء يفضي كأنه قال صدري يفضي بهذه الناقة. أي يصيرها في الفضاء أم البيداء.
فتبينت تسئد مسئدًا في نيها ... إسادها في المهمهِ الإنضاء
قال ابن جني: الاساد إغذاذ السير، والني الشحم، يقال نوت الناقة تنوي نوايةً. والمهمه: الأرض الواسعة. والأنضاء مصدر أنضاه إذا هزله وأذابه والمعنى. فتبيت هذه الناقة تسرع السير في شحمها. أي يهزلها الانضاء لشدة السير. كما تسرع هي في قطع الأرض. أي كما قطعت الأرض قطعت الأرض شحمها، على احتذاء مثال هذا. هكذا حصلته عنه وقت قراءتي عليه شعره.
ونصب) مسئدًا (على الحال منها، والإنضاء مرفوع بمسئد والعائد عليها من هذه الحال الهاء في نيها. وإسآدها منصوب على المصدر، والناصب له) مسئدًا (لا يسئد وتقديره، فتبيت هذه الناقة تسئد مسئدًا الإنضاء في نيها إسآدًا مثل إسآدها هي في المهمه. ونظير هذا: بيت هند: تصلي مصليًا عمرو في دارها صلاتها في المسجد أي تبيت تصلي على هذه الحال. فتسئد فعل الإنضاء، وجرى حالًا على الناقة لما تعلق به من ضميرها الذي في نيها كما تقول:) مررت بهند واقفًا عندها عمرو (.
بَيني وَبَينَ أبي عليٍّ مِثْلُهُ ... شُمُّ الجبالِ وَمِلْئُهُنَّ رَجاءُ
قال ابن جني: نصب مثلهن لأنه كان في الأصل في وصف النكرة التي هي رجاء أراد ورجاء مثلهن. ونعت النكرة المرفوعة إذا قدم عليها نصب على الحال كما تقول فيها قائمًا رجل ومثله: لِعَزَّةَ موحِشًا طَلَلُ ومعنى البيت: بيني وبين الممدوح جبال مثله في العظم، وهو في نظائر اللفظ تعظيم للممدوح لأنه شبهه بالجبال، يريد حلمه ورزانته كقول مسلم:
كَبيرُهُم لا تَقومُ الرَّاسِياتُ لَهُ ... حِلْمًا وَطِفْلُهُمْ في هَدي مُكْتَهِلُ
أي: بيننا هذه الجبال، ورجاء مني له مثلها تعظيمًا لرجائه وتأكيدًا له. وقال الأحسائي: شم الجبال مثله في الحلم والرفعة والشدة.
ورفع مثله على الابتداء والخبر " بيني وبين أبي علي " وشم الجبال بدل من مثله، ولا يجوز نصب مثلهن ولا مثله على الحال، لأن مثله ليس صفة لشم الجبال فينصب إذا تقدم. لأن الجماعة لا توصف بالواحد، ومثلهن عطف على الجملة، والتقدير ورجاء مثلهن، فقدم حرف العطف وهو الرجاء، ونيته تقديم رجاء وتأخير مثلهن. ومثله قولهم) إن في الدار لزيدًا (وحكم اللازم أن تكون في الخبر مؤخرة، وليس للاسم فيها حظ، فلما قدم الخبر بقيت اللام في موضعها في التأخير، ووقع الاسم بعدها، والنية تقديمه، فاللازم في الحقيقة للخبر لا للاسم. وكذلك واو العطف في البيت لما كانت للرجاء وتقدمت الصفة والواو قبلها، لم يعتد بتقديمها، وأجريت في الاتباع مجراها متأخرة لوقوع الواو، مقتضية لتقديم الموصوف، لأن حرف العطف لا يكون في الصفة، إنما هو للموصوف، والصفة تابعة ولولا الواو لنصبت الصفة المتقدمة على النكرة، كقوله: لعزة موحشًا طلله.
1 / 4
وَكَذا الكريمُ إذا أقامَ بِبَلدَةٍ ... سالَ النُّضارُ بها وَقامَ الماءُ
قال ابن جني: معنى البيت أن الكريم إذا أقام ببلدة، أعطى المال وفرقه في وجوه الكرم، فكأنه ماء سائل، وقام الماء أي جمد، لما رأى من كرمه وسخائه فوقف متحيرًا، فلم يسل. ويشهد لصحة هذا التفسير قوله بعده:
جَمَدَ القِطارُ ولو رَأتْهُ كما رأى ... بُهِتَتْ فلمْ تَتَبَجَّسِ الأنواءُ
يقول: جمد القطار لما رآه، تحيرًا من كرمه، فلولا أن الأنواء رأته كما رآه القطار لبهتت فلم تتبجس بالماء، استعظامًا لما يأتيه. وهذا تفسير للذي قبله. قال الشيخ أبو العلاء أحمد ﵀: الصواب أن تكون الأنواء مرفوعة برأته، لأنه أولى الأفعال بها، إذ كانت الرؤية هي التي يؤديها إلى البهت، فكأنه قال: لو رأته الأنواء، بهتت فلم تتبجس.
وقال ابن فورجة: أراد بالكريم الممدوح نفسه، لا كل كريم، إذ كان شارعًا في ذكره، وهذا كما قال الشاعر: أبى القَلْبُ إلاَّ أُمَّ عمروٍ وذكرَها وكقول نُصيب: وقُلْ إن تَمِلّينا فما مَلَّكِ القَلْبُ
مَن يَهْتَدي في الْفِعْلِ ما لا يهتدي ... في القَوْلِ حتّى يَفْعَلَ الشُّعَراءُ
قال الشيخ: فعل الشعراء: هو قوله يهتدي. والمعنى أن هذا الممدوح يهتدي في الفعل ما لا يهتدي إليه الشعراء، وهم موصوفون بالفطنة، وادعاء الأشياء المتعذرة، فهذا الممدوح يفعل الأشياء التي لا تهتدي الشعراء إليها حتى يفعلها فتعرفها حينئذ.
مَنْ يَظْلِمُ اللُّؤِماءَ في تَكْليفهم ... أنْ يُصْبِحوا وَهُمْ لَهُ أكْفاءُ
قال ابن جني: يقول تكليفه اللؤماء أن يصبحوا مثله في الكرام، ظلم لهم منه، لأنهم لا يقدرون على ذلك.
وقال أبو العلاء: " مَنْ " في البيت استفهام، والمراد أن أحدًا من الناس لا يظلم اللؤماء، بأن يكلفهم أن يفعلوا كفعل هذا الممدوح، كما يقال للشيء إذا بَعُد: من يقدر على هذا؟ أي: لا يقدر عليه أحد.
اِحْمِدْ عُفاتَكَ لا فُجِعْتَ بِفَقْدِهِمْ ... فَلَتركُ ما لم يأخُذوا إعْطاءُ
قال ابن جني: يقول: " لا فجعت بفقدهم " حشو في غاية الملاحة والظرف، وهو يحتمل أمرين، أقربهما إلى ظاهر البيت، إنه دعا بأن لا يعدم القصاد والطلاب، إذ كانوا لا يقصدون إلا ذا مال وثروة.
لا تكْثُرُ الأمواتُ كثرة قِلَّةٍ ... إلا إذا شَقِيَتْ بِكَ الأحياءُ
قال ابن جني: إنما تكثر الأموات إذا قل الأحياء، وكثرتهم كأنها في الحقيقة قلة، وقوله شقيت بك أي: شقيت بفقدك، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، وإنما تشقى به الأحياء، لمفارقته إياهم وقال الشيخ: معناه أن الأموات، إذا حارب هذا الممدوح أعداءه، كثروا لأنه يقتلهم، وكثرة هذه الأموات مؤدية إلى القلة، لأنها فناء.
وقال ابن فورجة: قوله: كثرة قلة، لأن الأموات تدفن أو تبلى، فتذروها الرياح، أو تأكلها الوحوش والطير، فهي تقل وإن كثرت، وكأن هذا البيت ينظر به إلى قول القائل:
لِكُلِّ أُناسٍ مَقْبَرٌ بِفَنائِهِمْ ... فَهُمْ يَنْقُصونَ وَالْقُبورُ تَزيدُ
وهذه الطريقة سلك أيضًا بقوله:
متى ما ازْدَدْتُ مِنْ بَعْدِ التَّناهي ... فَقَدْ وَقَعَ انْتِقاصي في ازدِيادي
جعل زيادته بعد تناهيه نقصانًا زائدًا، كما جعل في هذا البيت، كثرة الأموات قلة. وقوله: " شقيت بك الأحياء " ليس يريد به الشقاء بعينه، وإنما هو من قولهم: شقيت بفلان، إذا كان يبغضك، كقول الطرماح.
وَنِّي شَقِيٌّ باللئامِ ولن ترى ... شَقِيًَّا بِهِمْ إلا كريمَ الشَّمائِلِ
أي: اللئام يبغضونني، ولا ترى أحدًا يبغضونه إلا كريمًا. وقال أبو الطيب:
لولا ظِباءُ عَديٍّ لما شَقِيتُ بِهِمْ ... ولاَ بِرَبْرَبِهِمْ لولا جآذِرُهُ
يريد: لولا ظباء عدي، لما أغضبتني عدي، ولا أضمرت لي الأحقاد، والمعنى أنك إذا كرهت حياة قوم وأبغضتهم، قتلتهم فكثرت بهم الأموات، كثرة تؤدي إلى قلة.
1 / 5
وقال الأحسائي: الأموات في قول جمهور الناس بعدد الأحياء، وأنه لا يموت واحد إلا ولد بازائه مولود، وهذا قول تشهد الحكمة بصحته، وتسكن العقول إلى وجوبه، يقول: فإذا صرت في الأموات كثروا على الأحياء كثرة قلة كما أن الأحياء بكونك فيهم، أكثر من الأموات كثرة نباهة وشرف، لا كثرة عدد وكذلك تكثر الأموات بموتك كثرة قلة لا كثرة عدد، وكشف معنى قوله: كثرة قلة أن شخصك حينئذ يصير إلى الأموات فقط، والذكر والشرف والمجد والفخر في إحياء لم يدفن معك ولا مات فتصير للأموات فيها حظ. وإنما كثروا بالشخص الذي عدمته الأحياء، وكثرة الأموات على الحقيقة قلة.
لم تسم يا هارون إلا بعدما ... اقترعت ونازعت اسمك الأسماء
قال ابن جني: يقول لم تسم يا هارون بهذا الاسم إلا بعد أن تقارعت عليك الأسماء، فكل أراد أن تسمى به فخرًا بك وقال الشيخ: أجود ما يتأول في هذا أن يكون الاسم هاهنا في معنى الصيت كما يقال: فلان قد ظهر اسمه أي قد ذهب صيته في الناس، فهذا يحتمله ادعاء الشعراء وهو مستحيل في الحقيقة لان العالم لا يخلو أن يكون فيه هارون فهذا يحتمل ادعاء الشعراء هو مستحيل في الحقيقة لأن العالم لا يخلو أن يكون فيه جماعة يعرفون بهارون ويجوز أن يكون الأسماء في آخر البيت جمع اسم أي صيت وتحتمل أن تكون جمع اسم يعني به اسم الرجل الذي هو معروف به مثل زيد وعمرو وما جرى مجراه.
فبأيما قدم سعيت إلى العلا ... أدم الهلال لأخمصيك حذاء
قال ابن جني: تعجب من القدم التي تسعى بها إلى العلا ثم دعا له فقال) أدم الهلال لأخمصيك حذاء (كأنه دعا للقدم المعنى: لا تزال عاليًا وهو كقوله: أتتركني وعين الشمس نعلي قال الشيخ: ذكر أن قوله أدم الهلال دعا للممدوح وليس في ذلك فائدة وإنما الشاعر مخبر للممدوح يقول فبأيما قدم سعيت أي في حال طلبت المعالي فأنت رفيع القدر كأن أدم الهلال حذاء لأخمصيك ولم يرد والله معنى الاستفهام في أول البيت وإنما أراد في أي حال طلبت المعالي، فأنت رفيع القدر، كأن أدم الهلال حذاء لأخمصيك، ولم يرد والله معنى الاستفهام في أول البيت، وإنما أراد في أي حال طلبت المكارم، فأنت في غاية لا يبلغها غيرك، وكأنه جعل سعيه إلى المعالي مختلفًا فلذلك حسن أن يقول " فبأيما قدم سعيت ". كأنه جعل سعيه إلى الحرب قدمًا، وإعطاءه النوال قدمًا أخرى، وعفوه عن الجاني ثالثة.
لو لم تكُنْ من ذا الوَرى اللَّذ منكَ هوْ ... عَقِمَتْ بمولدِ نَسْلِها حَوَّاءُ
قال ابن جني: قوله: اللذ، بسكون الذال وكسرها، لغة، يقول لو لم تكن من هذا الورى كأنه منك، لأنك جماله وشرفه وأنفس أهله، ولكانت حواء في حكم العقيم التي لم تلد، ولكن بك صار لها ولد.
وقال الأحسائي: إن الله تعالى إنما خلق آدم وحواء، لتكون منهما ولولا ذلك لما أنسلا، وحذف الياء من الذي وسكون الذال كقوله:
كنت من الأمرِ اللذي قد كيدا ... كاللذْ تَزَيَّى زُبْيَةً فاصطيدا
ومن التي أولها:
ألا كُلُّ ماشيةِ الخيزلى ... فِدا كُلِّ ماشيةِ الهيدبى
قال الشيخ: الخيزلى مشية فيها تفكك من مشي النساء يقال: مشت الخيزلي والخيزلى والخيرزي والخورزي بمعنى واحد. والهيذبي ضرب من مشي الخيل. ويقال: الهيدبي بالدال والذال. ومعنى البيت ألا كل امرأة فدا كل فرس.
وَكُلِّ نَجاةٍ بُجاوِيَّةٍ ... حَنوفٍ وَمَا بِيَ حُسْنُ المِشى
قال ابن جني: بجاوية منسوبة إلى البجاوة، وهي قبيلة من البربر، يطاردون عليها في الحرب. قال يرمي الرجل بالحربة فإن وقعت في الرمية، جاء الجمل إليها حتى يتناولها صاحبها. وإن وقعت في الأرض أسرع الجمل إليها حتى يضرب بجرانه الأرض فيأخذها صاحبها. هذا لفظ المتنبي.
قال الشيخ: ناقة نجاة في معنى ناجية، وهي السريعة التي تنجي صاحبها. وهو اسم وضع للإناث دون الذكور، لأنهم قالوا للناقة نجاة، ولم يقولوا للبعير نجي. وبجاوية منسوب إلى البجاة، ويقال أنه اسم جيل من الناس، وقيل: بل البجاة البلد، ولهم نجب موصوفة، ويجب أن يكون قوله: بجاوية منسوبة على غير قياس، لأنه لو حمل على لفظ البجاة لقيل بجوي. والخنوف: التي نقلت خفها الوحشي والاسم الخناف، والمشي جمع مشية كما يقال الفِرى جمع فرية.
1 / 6
وَأَمْسَتْ تُخَبِّرُنا بالنِّقَا ... بِ وادي المياهِ ووادي القُرى
قال ابن جني: النقاب موضع يتشعب منه طريقان إلى وادي المياه ووادي القرى، أي صرنا إلى النقاب عليها، وقدرنا سلوك إحدى الطريقين عليها، صارت كأنها مخيرة لنا إحدى الطريقتين، وإن كانت في الحقيقة غير مخيرة.
وقال الشيخ: قوله النقاب، ليس هو اسم موضع بعينه، وإنما هو من قولهم ورد الماء نقابًا إذا لم يعلم حتى يرده، فكأنه ادعى للإبل أنها من خبرتها تخبرهم بالمياه. ووادي المياه ووادي القرى بدل من النقاب بدل تبيين.
ولاحَ لها صَوَرٌ والصَّباحَ ... وَلاحَ الشُّغورُ لها والضُّحى
قال الشيخ: ذُكر عن أبي الفتح ابن جني أنه قال: صور لا يعرف في هذه المواضع وإنما أخذه أبو الفتح من الكتب الموضوعة في المقصور والمحدود. وإنما أراد أبو الطيب صورًا فألقى حركة الهمزة على الواو وحذفها، وقد ذكر الفرزدق هذا الموضع في شعره فقال:
فما جَبَرَتْ إلاَّ على عَتَبٍ بها ... عَرَاقيبُها مُذْ عُقِرَتْ يومَ صَوارِ
وفي هذا المعنى كانت المعاقرة بين غالب أبي الفرزدق وسحيم بن وثيل الرياحي. والمعنى أن هذا الموضع لاح للإبل مع الصباح، ولاح الشغور لها مع الضحى، ويجوز في الصباح الرفع على العطف، والنصب على أنه مفعول معه. وكذلك يجوز في الضحى، والشغور يجوز أن يكون اشتقاقه من قولهم بلاد شاغرة، إذا لم يكن لها من يحميها.
وَرَدْنا الرُّهَيْمَةَ في جَوْزِهِ ... وَباقِيهِ أكثرُ مِمَّا مَضَى
قال الشيخ: الجوز الوسط، وبعض ما لا علم له بالعربية، يسأل عن هذا البيت، ويظن أنه مستحيل، لأنه يحسب أنه لما ذكر الجوز وجب أن تكون القسمة عادلة في النصفين، فيذهب إلى أن قوله " وباقية أكثر مما مضى " للكلام المتقدم وليس الأمر كذلك، ولكنه جعل ثلث الليل الثاني كالوسط وهو الجوز. ثم قال " وباقية أكثر مما مضى " كأنه ورد والثلث الثاني قد مضى منه ربعه وبقي ثلاثة أرباعه، وأكثر هذا بيّن واضح. وقد ذكر ابن فورجة في كتابه الموسوم) بالفتح على أبي الفتح (أن القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز، نقم على أبي الطيب في قوله: وَرَدْنا الرُّهَيْمَةَ في جَوْزِهِ ونسب إليه الغلط في ذلك، فقال: كيف يكون باقيه أكثر مما مضى، وقد قال في جوزه، والجوز الوسط؟ قال ابن فورجة: وعندي أن المخطئ هو القاضي، فإنه لم يفهم البيت فتجنى، ثم اعتذر بما وضعه الله عنه، وقد تقدم قوله:
فيا لك ليلًا على أعكُشٍ ... أحَمَّ البِلادِ خَفِيَّ الصُّوى
فظن القاضي أن جوزه الهاء لليل وأنه كقول عمر بن أبي ربيعة:
وَرَدْتُ وَما أدري بَعْدَ مَورِدي ... مِنَ اللَّيْلِ أمْ ما قَدْ مَضَى مِنْهُ أكْثَرُ
ولعمري أنه لو كان كما ظن، لكان كلامه محالًا، وإنما الهاء في جوزه لأعكش، وأعكش مكان واسع، والرهيمة ماء مكانه وسط أعكش، فهذا كلام صحيح ثم قال وباقيه، أي باقي الليل، فقد بان أن المعنى لم يفهمه الذي رده.
فَلَمَّا أَنَخْنا رَكَزْنا الرِّمَا ... حَ فَوْقَ مَكارِمِنا والعُلا
قال الأحسائي: في هذا البيت وجوه من المعاني، أحدها: أن مكارمهم طبقت الأرض، ووصلت إلى كل موضع منها، ووسمت الأرض بآثارها، فأين ما نزلوا وطئوا مكارمهم، وأناخوا على آثارها، وركزوا الرماح عليها، وهذا وجه والثاني: أن عادة العرب إذا عادوا من سفر أو وقعة، فوصلوا إلى المنزل الذي يستريحون فيه، حطوا أثقالهم في الأرض، وعددوا مفاخرهم ومناقبهم، ثم ركزوا عليها الرماح.
ووجه ثالث: وهو أنهم ركزوا الرماح بالرهيمة في أرض كانت فيها وقائع لأهل الكوفة، ظفروا بأعدائهم فيها من أهل الشام وغيرهم في قديم الزمان، فذكر أنها مكارم لهم، وفعال سلفت لقومه هناك.
ووجه رابع: وهو أن فوق تستعمل كثيرًا بمعنى دون، فأراد أنهم ركزوا الرماح وإن كانت طوالًا دون مكارمهم وعلاهم، والشاهد لكون فوق بمعنى دون، قوله تعالى) إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها (أي فما دونها. وقول أبي الطيب:
وَمِنْ جَسَدي لمْ يَتْرُكِ السَّقْمُ شَعْرَةً ... فما فَوْقَها إلاَّ وَفيها لَهُ فِعْلُ
أي دونها.
ومن التي أولها: إِنَّما التَّهْنِئاتِ لِلأَكِفَّاءِ
1 / 7
وَبَساتينُكَ الجِيادُ وَما تَحْمِلُ مِنْ سَمْهَريَّةٍ سَمْراءُ قال ابن جني: يقول إنما بساتينك الخيل والقنا، وهما نزهتك وجعل القناة على الفرس كالحمل في الشجرة.
وقال الشيخ: قوله " تحمل من سمهرية " يحتمل وجهين. أحدهما: أن يكون تحمل للجياد. والآخر: أن يكون للممدوح، وهو أبلغ في المدح، ومن المبالغة في البيت أن تكون القناة بمنزلة الغصن المثمر، وتكون ثمرته ما تحمل على السنان من رؤوس الأعداء.
فَتَراها بَنُوا الحُروبِ بأعيا ... نٍ تَراهُ بِها غَداةَ اللِّقاءِ
قال ابن جني: أعيان جمع عين، وأعين أكثر من الكلام، وتراها عائدة على الملوك والهاء في تراه عائد إلى كافور.
وَما سَلَّمْتُ فَوْقَكَ للثُّرَيَّا ... وَلاَ سَلَّمْتُ فَوْقَكَ للسَّماءِ
قال الشيخ: فوق لم تجر عادتها أن تستعمل مفعولًا ولا فاعلًا، وإنما تجيء ظرفًا منصوبًا، أو غاية مثل قولهم: من فوق، ومن تحت، وقد جاء شعر نُسب إلى سُحيم عبد بني الحساس وهو شاذ قليل وهو:
أتيت النساءَ الحارثياتِ غدوةً ... بوجهٍ بَراهُ اللهُ غيرَ جميلِ
فشَبَهتَني كلبًا ولست بفوقه ... وَلا دونَه إن كان غَير جميلِ
حرف الباء
أحْسَنُ ما يُخْضَبُ الحديدُ به ... وخاضبِيهِ النَّجِيعُ والغَضَبُ
قال ابن جني: خاضبيه في موضع جر، معطوف على ما، وجمعه التصحيح لأنه أراد من يعقل وما لا يعقل. وهذا كقوله تعالى:) والله خلق كل دابة فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع (لما خلط الجميع بقوله كل دابة، استعمل من يمشي على بطنه، وعلى أربع والمعنى: أحسن ما يخضب الحديد به الدم، وأحسن خاضبيه الغضب، فجمع اللفظ وهو ينوي التفضيل. وذكر الغضب هاهنا مجازا، وإنما يريد صاحب الغضب.
وقال الشيخ: إن جعل خاضبيه منصوبا، على أنه مفعول معه، فلا يمتنع. وقال ابن فورجة: الذي ذكره الشيخ أبو الفتح غير ممتنع إلا أن فيه من التعسف ما ترى. والذي عندي أن قوله وخاضبيه. قسم قد حصل المعنى الذي أراد، وزال ذاك التكليف، وجعل الغضب خضابا للحديد، لأنه لخضبه بالدم على سبيل التوسع في الكلام، وحسن أيضا ذلك لأن الغضب يحمر منه لون الإنسان وتحمر عيناه، كما قال الشاعر:
هَلاَ سَألتِ غَداةَ الرَّدعِ ما حِسبي ... عندَ الطَّعانِ إذا ما احمرَّتِ الحَدَقُ
وكما قال الشيخ أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري يصف سهيلا:
وسُهيلٌ كوجنَةِ الحِبِّ في اللّوِنِ ... وقلبِ المُحبّ في الخَفَقانِ
يُسرِعُ اللّمحَ في إحِرارِ كما تُسرِعُ ... في اللّمحِ مُقلةُ الغَضبانِ
وقد رويت عن جماعة ممن أثق بهم، رووه عن المتنبي) وخاضبيه (الباء بالفتح، كأنه يريد أحسن خاضبيه تثنيه خاضب، كأن النجيع خاضب، والذهب خاضب فقال أحسنها الدم، ويكون الغضب حينئذ تاكيدا للنجيع أتى به للقافية، ولأن النجيع يخضب عند الغضب، فكأنه جعل النجيع والغضب شيئا واحدا.
ومن التي أولها:
أيَدرِي ما أرابَكَ مَنْ يُرِيبُ ... وهل تَرقَى إلى الفَلَكِ الخُطُوبُ
قال ابن فورجة: قد سمعت جماعة من متكلفي الأدباء يفسرون هذا البيت، فيقولون من يريب: يريد به الله تعالى وهذا كلام إلحاد وإقدام على إثم عظيم، يريد هل يدري الذي أرابك بهذا الدمل. ما الذي أرابك حقارة، وصغر قدر، وهذا خطأ فاحش، ودعوى على هذا الفاضل قد برأه الله منها، والذي أراده أبو الطيب، أيدري ما أرابك وهو الدمل.) ما (لما لا يعقل. وهي فاعلة أيدري. ومن يريب يريد من يريبه من الناس، ولم يأت بالهاء لأن المعنى مفهوم، ويريد بهذا الكلام هل يعلم هذا الدمل بمن حل ومن الذي راب ثم قال:) وهل ترقى إلى الفلك الخطوب (أي أنت كالفلك بعدا عن الآفات وعلوا في الأشكال.
إذا دَاءٌ هَفا بُقراطُ عَنْهُ ... فَلَمْ يوجد لصَاحِبِهِ ضَرِيبُ
1 / 8
قال الشيخ: الناس يختلفون في إنشاد هذا البيت. وأصح ما يقال إذا داء. أي هذا داء. ويكون الألف للتقرير أو للاستفهام الخالص، كأنه لما ذكروا سيف الدولة وأنه حب الحرب وشوقه إليها. قال هذا الداء لم يعرفه بقراط، فأما من يروي: إذا داء فلا وجه له، على أنه يؤدي انفراد سيف الدولة بهذا الداء. إذا جعلت الفاء جوابا لإذا. والذين رووا:) أذى داء (أقرب إلى الإصابة؛ لأنه يحمل على أنه أراد أذى داء، ويجوز يقول أصحاب هذه الرواية: أن الهمزة للنداء، والمعنى يا ذا داء أي: أنت سيف الدولة صاحب هذا الداء.
وقال ابن فورجة: وغلط الشيخ أبو الفتح في تفسير هذا البيت. وزعم أنه سمعه من أبي الطيب قال ﵀: جواب إذا) فلم يوجد (أي: فليس يوجد لصاحبه شبيه. كذا قال لي وقت القراءة عليه. واستعمال لم في موضع ليس لمضارعتها إياها، ثم تكلم في قوله داء بالرفع. وأنه بالنصب أجود لأن) إذا (تطلب الفعل، وهذا كقولك) إذا زيدا مررت به فأكرمه (فكان يكون تقديره، إذا أهمل وأغفل بقراط داء. وقد رفع فكأنه قال إذا أعضل داء. وأفنى في هذا الكلام عدة صفحات من كتابه، وهب أنا سلمنا له هذا التعسف. وقلنا أن) لم (بمعنى) ليس (فهل يحسن أن يجعل سيف الدولة صاحب الداء، يريد به صاحب دوائه والعالم بطبه، وهل يقول زيد صاحب الاستسقاء، أي صاحب مداواته، بل يفهم هنا أن زيدا به استسقاء، إلا أن يتقدم كلام يفهم هذا.
والذي أراد أبو الطيب أن بعيد ما طلبت قريب، إذا هفا بقراط عن داء. فلم يوجد عليل به، تلك العلة ففي تلك الحال بعيد ما تطلبه قريب، ويعني بالداء أدواء الزمان، والحروب والأعداء.
ومن التي أولها:
بغيرك راعيًا عَبَث الذِّئابُ ... وَغَيرَكَ صَارِمًا ثَلَمَ الضِّرَابُ
قال الشيخ: يجوز نصب راع وصارم على التمييز وعلى الحال.
ولَو غَيرُ الأميرِ غَزَا كِلابًا ... ثَناه عن شُمُوسِهِمُ ضَبابُ
قال الشيخ: لما كانت المرأة تشبه بالشمس، جعل نساء القوم شموسا وجعل دونها من حمايتهم ضبابا، وأصل ذلك أن المرأة يقال لها كأنها الشمس ثم يحذف حرف التشبيه قال قيس بن الخطيم:
فرَأيتُ مثلَ الشَّمسِ عندَ ذُروِّهَا ... في الحُسنِ أو كَدُنُوِّها لِغُرُوبِ
وقال آخر فحذف حرف التشبيه:
من الشمسين شمس بني عقيل ... إذا حضرت وشمس بني هلال
ولاَقى دُون ثأيِهِمُ طِعانًا ... يُلاقِي عندَهُ الذَئْبَ الغُرَابُ
قال الشيخ: الثأي جمع ثأية، وهو مراح الإبل، إذا كانت عازبة. ويقال: أنه يتخذ من الشجر، وقوله:) يلاقي عنده الذئب الغراب (أي: يجتمعان على أكل القتلى، وبعض الناس يذهب إلى أن الذئب لا يأكل إلا ما يفترسه، وأنه لا يجري مجرى الضباع والكلاب. وعلى ذلك فسروا قول الشاعر:
ولكُلِّ سَيَدِ مَعشَرٍ من قَومِهِ ... دَعَرٌ بِدنِّس مجده ويعيبُ
لولا سِوَاهُ لجردت أوصَالَهُ ... عُرجُ الضّبِاعِ وَصَدَّ عنهُ الذِّيبُ
ومن التي أولها: يا أُختَ خَير أخٍ يا بنتَ خَيرِ أبِ
جَزَاكَ رَبُّكَ بالأحزَانِ مَغفِرَةً ... فحُزنُ كلِّ أخي حُزنٍ أخو الغَضَبِ
قال ابن فورجة: يقول: جزاك الله مغفرة بهذا الحزن الذي أصابك، فقد أثمت به، قال الله تعالى) لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم (والحزن أخو الغضب، لأسباب كثيرة. فمنها أن الحزن غضب في الحقيقة، لأنه يغضب لما نال منه الدهر فيحزن، ومنها أن الرجل يأثم بالحزن ويأثم بالغضب، قال الله تعالى:) والكاظمين (. ومنها أن الحزن ينال من الإنسان، ويخلط عليه، كما أن الغضب ينال منه ويخلط عليه أمره، وقد دل على ذلك بقوله في عضد الدولة:
آخِرُ ما المَلكُ مُعَزّىً بِه ... هَذَا الَّذي أثَّرَ في قَلبِهِ
لا جَزَعًا بَلْ أنَفًا شابَهُ ... أن يَقدِرَ الدَّهرُ على غَصبِهِ
ألا تراه قرن بينهما، وجعل تأثيره في قلبه، لا الجزع والحزن، ولكن للغضب والأنف والحمية، وقد فسر بذلك بقوله بعده:
وأنتُمُ مَعشَرٌ تَسخُو نُفُوسُكُم ... بِمَا يَهَبنَ ولا يَسخُون بالسِّلَبِ
ومن التي أولها: فَهِمتُ الكِتابَ أبَرَّ الكُتُبْ
وَقَد كانَ يَنصُرُهُمْ سَمعُهُ ... ويَنصُرُني قَلبُهُ والحَسَبْ
1 / 9
قال ابن جني: أي يسمع منهم، إلا أن قلبه كان على كل حال معي، أي يميل إليهم بسمعه، ويميل إلي بقلبه.
ومَا قُلتُ للبَدرِ أنتَ اللُّجَينُ ... ولاَ قُلتُ للشَّمسِ أنتِ الذَّهَبْ
قال الشيخ: يقول أني تناهيت في مدحك، فلم أقل: وأنت البدر فضة، ولم أقل أنك أنت الشمس ذهب، لأن الذهب والفضة يستهلكان والشمس والقمر ليسا كذلك.
وقد زَعَمُوا أنَّهُ إن يَعُدْ ... يُعَدْ مَعَهُ المَلِكُ المُعتَصِبْ
قال الشيخ: المعتصب يحتمل وجهين: أحدهما وهو الأجود: أن يكون من الاعتصاب بالتاج، والآخر: أن يكون مفتعلا من العصبية.
ومن التي أولها:
فَديناكَ أهدى النَّاس سَهمًا إلى قلبي ... واقتلُهُم للَّدارعينَ بِلا حَربِ
قال الشيخ: قوله) أهدى الناس سهما (يحتمل وجهين: أحدهما ان يكون مأخوذا من قولهم هدى الوحش إذا تقدم، فيكون سهم منصوبا على التمييز، ويكون أفعل مبنيا من فعل له فاعل، ويكون الفعل للقسم. والآخر: أن يكون الفعل للمخاطب من قولهم هديته الطريق. فإذا حمل على ذلك، فسهم ينتصب بفعل مضمر يدل عليه قوله أهدى، لأن فعل التعجب لا يجوز أن ينصب مفعولا، وكذلك أفعل الذي للتفضيل، وعلى ذلك حملوا قول الشاعر:
فَلَم أرَ مِثلَ الحَيّ حَيًّا مُصبِحًّا ... ولا مِثلَنا لما التَقَينَا فَوارسَا
أكَرَّ وأحمى للحَقِيقَةِ مِنهُمُ ... وأضرَبَ مِنَّا في اللقاءِ القَوانِسا
نصب القوانس بفعل مضمر، كأنه قال وأضرب منا في اللقاء فتم الكلام، وأضمر بضرب القوانس، والدارع، الذي عليه الدرع. الذي عليه الدرع.
وَمَنْ خُلِقَتْ عَيناكَ بينَ جُفُونهِ ... أصابَ الحَدُورَ السَّهلَ في المُرتقى الصَّعبِ
قال الشيخ: الحدور كل مكان ينحدر فيه. وهو أسهل من الصعود. ولذلك يصعدني الأمر إذا شق علي، ومنه قوله تعالى) سأرهقه صعودا (.
وقال الهذلي:
وإنَّ سيادةَ الأقوامِ فأعلم ... لها صَعداءُ مَطلَعُها طويلُ
وكلام أبي الطيب مؤيد هذا المعنى، كأنه قال اصاب الحدور السهل في الصعود. والصعود والحدور يستعملان على التأنيث، وذكر الحدور هاهنا لأنه جعله كالنعت للمكان.
ومن التي أولها: دَمعٌ جَرَى فَقضَى في الرَّبعِ ما وَجَبَا
دَارُ المُلِمَ لها طَيفٌ تَهَدَدَني ... لَيلًا فَما صَدَقتْ عَيني وَلا كَذَبا
قال ابن فورجة: الألف واللام في الملم بمعنى التي. يريد دار التي ألم لها ليلا طيف يهددني. ويهدني الطيف على عادة المحبوب في كثرة الدلال والصلف والابتعاد بالهجران والتجنب، فقال ما صدقت عيني لأنها أرتني ما لم تكن حقيقة، وما كذب الطيف في التهدد، فأنه قال لأهجرنك وقد هجر، ولأبعدن عنك، وقد بعد عني، ولأعذبنك وقد فعل.
كأنَّها الشَّمسُ يُعِيي كَفَّ قَابِضِها ... شُعاعُها وَيَراهُ الطَّرفُ مقتَربا
قال ابن جني: هذا مثل قول الشاعر:
فأصبحتُ مَما كانَ بَيني وبينها ... سوى ذِكرها كالقَابضِ الماءَ باليدِ
وقال الشيخ: حسن تقديم ضمير الشعاع قبل ذكره، لأنه اتصل بمخفوض قد أضيف إليه مفعول، كما يقال) خذ ثوب غلامه الأمير (فيحسن تقديم الهاء التي هي عائدة على الأمير لأجل ما ذكرناه، فإذا اتصل الضمير الفاعل قبح تقديمه على المفعول، فلا يحسن أن يقال: خان غلامه الأمير إلا في الضرورة كما قال الشاعر:
جَزَى رَبُّه عَنّي عَدِيَّ بنَ حاتمٍ ... جزاءَ الكِلاَبِ العَاوياتِ وقد فعلْ
وهذا المعنى مأخوذ من قول الأول:
فقلتُ لأصحَابي هي الشَّمسُ ضَوؤُها ... قريبٌ ولَكِنْ في تَناوُلَها بُعدُ
مُبَرقِعي خَيلِهمْ بالبيضِ مُتَّخِذِي ... هامِ الكُماةِ على أرماحِهم عَذَبَا
قال ابن جني: أي جعلوا براقع خيلهم حديدا على وجوهها ليقيها الحديد أن يصل إليها. وجعل شعر هام الكماة، وهم الأبطال، عذبا لرماحه، وقد جمعوا) كميا (على) أكماء (.وقال الشيخ: يريد أنهم يمدون أيديهم بالسيوف للضرب، فتصير أمام الخيل، فكأنها لها براقع، ويمكن أن يريد أنهم قد ستروها بالبراقع، وقوله متخذي هام الكماة يريد ذوائب هام الكماة، وقد يجوز أن يجعل الهامة كالذؤابة، وعذبة الرمح ما تشد في طرفه، والكماة جمع كمي وهو الذي كمى نفسه بالسلاح أي سترها، وقيل هو الذي يستر شجاعته.
1 / 10
مَحَامِدٌ نَزَفَتْ شِعرِي لِيَملأها ... قالَ ما امتَلأتْ مِنهُ وَلا نَضَبا
قال الشيخ: كان ابو الفتح ابن ٠جني (يتأول هذا البيت على معنى إذا اعتقده وجب أن يروي) وما نضبا (ويفسر الغرض بأن الشاعر أراد بقوله:) ما امتلأت منه (الذي امتلأت. وصف شعره بأنه لم ينضب. وفي هذا طعن على الممدوح، لأنه وصف المحامد بالامتلاء من الشعر.
وإذا روى) ولا نضبا (فالمعنى أن محامده لم تمتلئ، وأن شعره لم ينضب، فهو مدح للمحامد وللشعر، وإذا رويت) وما نضبا (فهو يؤدي المعنى الذي تؤديه لا، ولكنه أشبه بها من ما.
وقال الأحسائي: يقول أن الشعر على غزارته وجمومه لم يملأها وقصر عنها على أنه لم ينفد.
ومن التي أولها:
بأبِي الشُّموسُ الجانِحاتُ غَوَارِبَا ... اللاَّبِساتُ من الحريرِ جَلاَبِبَا
قال الشيخ: رفع الشموس وما جرى مجراها يحتمل وجهين: أحدهما أن تكون مبتدأ، كأنه قال الشموس بابي مفديات. والآخر: أن يكون الخبر قوله الشموس، ويجوز وجه ثالث: وهو أن تكون الشموس مرفوعة لأنها اسم ما لم يسم فاعله، كأنه قال تفدى الشموس. ويجوز أن تنصب على معنى قوله أفدي بأبي الشموس، ومثل هذا قولهم بنفسي فلان، إذا أرادوا معنى الفداء. والجانحات المائلات، يقال جنحت الشمس للغروب، وجنحت النجوم إذا مالت للمغيب.
المُنهباتُ عُيونَنا وقُلُوبَنا ... وَجَناتِهنَّ النَّاهِبَاتِ النَّاهبا
قال ابن جني: يقول أنهبتنا وجناتهن. فلما نظرنا إليهن نهبن قلوبنا وعقولنا.
وحُبِيتُ مِن خُوصِ الرَكابِ بأسوَدٍ ... مِن دارِشٍ فغَدَوتُ أمشي رَاكِبا
قال الشيخ: الدارش كلة معربة، وهو الأديم المحبب، وإنما خفا أو شمشكا وخوص الركاب التي غارت عيونها، والركاب الإبل خاصة وقد كرر هذا المعنى في الفعل كما قال:
لا ناقَتِي تَقَبلُ الرَّدِيفَ ولا ... بالسَّوْطِ يَومَ الرّهانِ أجهدُها
وقد سبق إلى هذا المعنى القائل: إلَيكَ امتَطَينا الأرحبي المُلَسَّنا
فَلَقَدْ دَهِشتُ لما رأيتُ ودُونَهُ ... ما يُدهِشُ المَلَكَ الحَفيظَ الكاتِبا
قال: أصل الملك وملاك. ويدل على ذلك قولهم الملائكة، ووزنه مفعل فإذا حذفت الهمزة فقد ذهبت العين مفل. وعندهم أنه مأخوذ من الألوكة. وهي الرسالة وكأنه مقلوب، لأنه كان ينبغي أن يقال: مألك فأخرت الهمزة، وربما جاء في أشعار المحدثين الأملاك يريدون به جمع ملك وذلك غلط، وإنما جمع الملك ملائك وملائكة.
ومن التي أولها:
ضُرُوب النَّاسِ عُشَّاقُ ضُرُوبَا ... فأعذَرُهُمُ أشَفُّهُمُ حَبيبَا
قال الشيخ: ضروبا منصوب بوقوع الفعل عليها، وهو العشق فهذا الوجه الذي لا ينبغي أن يعدل عنه، وقد يمكن أن يقال هي منصوبة على الحال، كأنه قال الناس عشاق مختلفين في عشقهم. وقوله أعذرهم لا يجب أن يكون مأخوذا من قولك عذرت الرجل فهو معذور، لأنه حمل على ذلك كان أفعل التفضيل قد بني من فعل ما لم يسم فاعله وذلك ممتنع. ولكنه مأخوذ من قولهم عذر الرجل وأعذر إذا أتى بعذر. وفعل فعلا يعذر به من أساء إليه، يقال عذر من نفسه وأعذر إذا بين عذره. وأشفهم أي أفضلهم مأخوذ من الشف وهو الفضل والربح.
كأنَّ نُجومَهُ حَليٌ عَلَيهِ ... وقَدْ حُذِيَتْ قَوَائِمُهُ الجَبُوبا
قال ابن فورجة: شبه النجوم بالحلي على الليل، وأراد أن يصفه بالشيوع فقال وقد حذيت قوائمه الجبوبا، والجبوب الرض يعني كأن الليل جعلت الأرض له حذاء فهو متصل من السماء بالأرض. ويجوز أن يعني بذلك طول الليل.
وقال الأحسائي: شبه الليل بفرس أدهم محلى بالنجوم. والجبوب وهي الأرض قوائمه، وقيل لبعض العرض وسئل عن فرسه أتسبح في الجبوب؟ فقال: نعم وتتوغل في الشنخوب.
ومن التي أولها:
أعِيدوا صَباحِي فَهوَ عندَ الكَواعِبِ ... وَرُدُّوا رُقادِي فَهوَ لَحظُ الحَبائِبِ
قال ابن جني معناه ردوا الكواعب والحبائب ليرجع صباي وأبصر أمري إذا أبصرت إليهم وأبصرت إلى: ابن فورجة: يريد الكواعب حتى يعود صباحي، أيد هري ليل كله ولا صباح إلا في وجوههن، وحقق ذلك بقوله بعده:
فإنَّ نَهارِي لَيلَةً مُدلَهِمَّةٌ ... على مُقلَةٍ مِن فَقدِكم في غَياهِب
1 / 11
أتاني وَعِيدُ الأدعياءِ وأنَّهم ... أعَدُّوا لِيَ السُّودانَ في كَفرِ عاقِبِ
قال الشيخ: الدعياء جمع دعي، وهو الذي يدعيه أبوه، أو يدعي هو إلى أب ولا يكون نسبه ثابتا، والسودان هاهنا مراد بهم عبيد وسودان أعدوا له في كفر عاقب ليقتلوه. وكفر عاقب في الشام الأعلى. وكل قرية كفر، وبعض من فسر شعر أبي الطيب يذهب إلى أنه أراد بالسودان الحيات جمع أسود. ويذهب إلى أن السودان كناية عن الشرور ولا يمتنع ما قال.
وقال ابن فورجة: السودان: جمع أسود سالخ؛ يجمع على الأساود وعلى السودان ولا يجمع سالخ كما قالوا) أبارص في سام أبرص (.
قال الراجز:
واللهِ لو كُنتُ لهذا خَالِصا ... لكُنتُ عَبدًا يأكلُ الأبارِصَا
قالوا وقد جمعت سام أبرص على البرصة، فجمعوا الاسم الثاني وقد يقال سوام أبرص بجمع الاسم الأول، وقالوا ليس في كلام العرب جمع أفعل على فعلة إلا هذه الكلمة، يريد أعدوا لي دواهي ومكروا بي.
ثم قال:
ولَو صَدقُوا في جَدَهِم لَحذِرتُهمْ ... فهلْ فيَّ وحَدي قَوُلُهمْ غيرُ كَاذِبِ
فبين في هذا البيت أنهم أعدوا له وشايات وكلاما. وأدعى أنهم أدعياء في جدهم. ليسوا متحققين في انتسابهم بل هم كاذبون، فقال لو كانوا صادقين في انتسابهم لحق لي حذرهم والتوقي منهم. فأما الآن وقد شاع كذبهم فكل ما وشوا به علي كذب.
وقال الحسائي: هؤلاء قوم من العلوية كان بينه وبينهم عداوة. فبلغه أنهم هموا بقتله وأقاموا له رجالا ليغتالوه في طريقه وهو قاصد أبا محمد الحسن بن عبيد الله بن طغج بالرملة.
أُناسٌ إذا لاقَوا عشدىً فكأنَّما ... سِلاحُ الذي لاقَوا غبارُ السَّلاَهِبِ
قال ابن جني: يقول سلاح أعدائهم عندهم كغبار الخيل لا يعبأون به، ولا يلتفتون إليه. وخص السلاهب لأنها أسرع فغبارها ألطف. إذا لاقوهم قابلوهم بالفرار. فسلاحهم أن يركضوا جيادهم فيثور غبارها في الهزيمة. ويجوز أن يذهب إلى أن الممدوحين لا يحلفون بسلاح الأعداء ولا يضرهم، فكأنه غبار الخيل يدخلون فيه بلا اكتراث. ويقوي هذا القول في صفة الخيل دوامي الهوادي. والسلاح يذكر ويؤنث.
يقُولونَ تأثِيرُ الكَواكِب في الوَرَى ... فما بالُهُ تأثِيرُهُ في الكَواكِبِ
قال أبو علي ابن فورجة: تأثيره في الكواكب إثارته الغبار حتى لا يظهر ليلا. وحتى يزول ضوء الشمس، وحتى تطلع الكواكب بالنهار. قال الشيخ أبو الفتح: وذلك أنه يبلغ من الأمور ما أراد. فكأن الكواكب تبع له وليس تبعا لها. وهذا وجه في تفسير هذا البيت غير ظاهر. ولقائل أن يقول هذه دعوى من نفسك. ولا يظهر لأحد تأثير في الكواكب، إذا بلغ هو ما أراد مخالفا لما أرادت الكواكب، بل يظن أن بلوغه ما أراد كان مما أرادت الكواكب، وما ذكرناه أظهر وأبعد من العنت.
تُخَوّفُنِي دُونَ الذي أمَرَتْ بِهِ ... ولم تَدْرِ أنَّ العارَ شَرُّ العَواقِبِ
قال ابن جني: تخوفني الهلاك وهو دون العار الذي أمرتني بارتكابه.
فقد غَيَّبَ الشُّهُّادَ عن كل مَوطنٍ ... وَرَدَّ إلى أوطَانِهِ كُلَّ غائبِ
قال الشيخ أبو الفتح: يقول قد غيب من كان شاهدا في وطنه ومن كان عادته ترك السفر لما سمع به من سخائه، ورد غائب إلى أوطانه. لأنه أعطاه وأغناه عن السفر إلى سواه.
يَرَى أنَّ مَا بانَ مِنكَ لضَارِبٍ ... بأقَتلَ مَّما بانَ مِنكَ لِعائِبِ
قال الشيخ أبو العلاء: في أن ضمير وهو الهاء كأنه قال يرى أنه ما الذي بان منك لضارب. فما الأولى نافية والثانية في معنى الذي.
ومن التي أولها: مَنِ الجَاذِرُ في زِيّ الأعارِيب
إنْ كُنتَ تَسألُ شَكًَّا في مَعارِفِها ... فَمَنْ بَلاكَ بِتَسهيدٍ وتَعذِيبِ
قال الشيخ أبو العلاء: هذا البيت فيه ضرب من الاكذاب. لأنه يسأل عن الجاذر وكأنه لا يعرفها. ثم قال هذه المقالة الثانية فدل أنه خبير بهن والمعارف تستعملها العرب في معنى الوجوه. واحدها معرف سمي بذلك لأن الوجه يعرف به الإنسان.
1 / 12
وروي عن الأصمعي أنه قال في واحد المعارف: فأما القياس فيوجب أن يكون الواحد معرفا بكسر الجر لأنه موضع المعرفة. فهو كالمجلس موضع الجلوس. والمهبط موضع الهبوط، ويجوز أن تكون المعارف جمع معرفة، كأنه أراد إن كنت تسأل شكا في معرفتها. ثم جمع فقامة الوزن.
لا تَجزِنِي بَضَنيً بِي بَعدَها بَقَرٌ ... تَجزِي دُمُوعيَ مَسكوبًا بِمَسكوبِ
قال الشيخ أبو العلاء: قوله) لا تجزني (مجزوم بالدعاء، لأنه ينجزم كانجزام النهي والمعنى أنه بكى عند الفرقة وبكين. فجزين دمعه بدمع، فدعا لهن أن لا يجزينه بضناه ضنى مثله، كما جزينه بالدمع، أي لا أريدهن يضنين بعدي.
قالُوا هجَرتَ إليه الغَيثَ قُلتُ لهم ... إلى غُيُوثِ يَدَيهِ والشَّابِيبِ
قال ابن جني: يقول تركت القليل من ندى غيره، إلى الكثير من نداه.
قال الشيخ أبو العلاء: المعنى أنه قيل له هجرت الغيث إلى هذا الممدوح لأن مصر لا تمطر. فأجابهم بهذا الجواب، وأنكر أبو علي ابن فورجة على أبي الفتح ابن جني ما ذكره. من أن الشاعر أراد أنه ترك القليل من ندى غيره إلى الكثير من نداه. وقال: ليس في قوله هجرت الغيث ما يدل على أنه هجر القليل من ندى الناس، بل يدل على أنه هجر الكثير إلى الكثير.
بَلى يَرُوعُ بِذي جَيشٍ يُجدّلُهُ ... ذا مِثلِهِ في أحَمِّ النقعِ غِربِيبِ
قال الشيخ أبو العلاء: بذي جيش أي بملك صاحب جيش، وذا مثله، أي ملكا صاحب جيش مثل هذا الجيش، وذا: في معنى صاحب، يقال ذو مال وذو جاه، ولا يضاف ذو إلا إلى أسم ظاهر ولا يحسن أن يقال الماء أنت ذوه.
ومن التي أولها: أُغالِبُ فيكَ الشَّوقَ والشَّوقُ أغلبُ
وكمْ لِظَلامِ اللَّيلِ عِندَكَ مِن يَدٍ ... تُخَبّرُ أنَّ المَانَوِيَّةَ تَكذِبُ
قال الشيخ أبو العلاء: المانوية منسوبة إلى ماني. وهو رجل يعظمه أهل مذهبه ويقال أن طائفة من الترك عظيمة يرون مذهبه، وأن أهل الصين على مذهبه وأن لأصحابه كتبا ومناظرات، ويزعمون باثنين: رب يفعل الخير لا غير وهو في بعض الألسنة الذي يسمى يزدان، وضده يفعل الشر ويسمونه أهرمن، ويذكر عنهم أنهم يقولون أن الخير من النهار والشر من الليل.
وللهِ سيرِي ما أقَلَّ تَئِيَّةً ... عَشِيَّةَ شَرقيَ الحَداليَ وغُرَّبُ
قال الشيخ أبو العلاء: الحدالي في موضع رفع بالإبتداء، وموضع شرقي نصب على الظرف، وحذف ياء الإضافة من شرقي لالتقاء الساكنين، ويجوز أن يكون الحدالي خبرا، وشرقي مبتدأ، لأن شرقي يجوز أن يكون ظرفا وغير ظرف، قال جرير:
هبَّتْ جنوبًا فَذِكرى ما ذكرتكُم ... عندَ الصَّفاة التي شرقيَّ حَورَانَا
فالوجه النصب في شرقي حوران، والرفع على أن يكون التقدير عدن الصفاة التي هي حوران، والحدالي وغرب جبلان.
عَشِيَّةَ أحفَى النَّاسِ بِي مَنْ جفَوتُهُ ... وأهدَى الطَّريقَين الذي أتَجَنَّبُ
قال ابن جني: يقول أصفى الناس بي سيف الدولة، وأهدى الطريقين التي أتجنب، لأنه كان يترك القصد ويتعسف ليخفي أثره خوفا على نفسه وقال أبو علي ابن فورجة:) من جفوته (يعني به سيف الدولة. وأحفاهم أشدهم اهتماما في البر بي، وأهدى الطريقين الذي أتجنب، يريد الأولى بي أن أعود إلى سيف الدولة، إلا أني هجرته لدرب مصر، يتوصل بذلك إلى عتاب كافور، وإظهار الندم على زيارته.
وعَيني إلى أُذنَي أغَرَّ كأنَّهُ ... مِنَ اللَّيلِ باقٍ بينَ عَينَيهِ كَوكبُ
قال ابن فورجة: إنما يجعل عينه إلى أذنه، لأن الفرس أسمع الحيوان، ومن أمثال العرب) أسمَعُ من فَرَسٍ بِبَهماء في غَلَسٍ (وقوله كأنه من الليل. أي كأنه قطعة من الليل، وقد تم الكلام به، أعني أنه غير متعلق بقوله) باق بين عينيه كوكب (فيسقط حينئذ تشبيهه إياه بالليل. وهذه اللفظة ومعناها أخذهما من أبي داود حيث يقول: ولَها فرجةٌ تَلألأُ كالشِّعرَي أضاءتْ وغُمّ منها النُّجومُ
وأظلمُ أهل الظُّلم مَن باتَ حاسِدًا ... لِمَن باتَ في نَعمائه يَتَقَلَّبُ
قال ابن فورجة: قرأت كتابا منسوبا إلى) أبي علي محمد بن الحسن الحاتمي (يذكر فيه ما نقله أبو الطيب من ارسطاطاليس إلى شعره، يذكر فيه أن هذا البيت من قول أرسطاطاليس) أقبح الظلم حسدك لعبدك الذي تنعم عليه (.
1 / 13
ويجوز أن يكون توهم الهاء في قوله) في نعمائه (عائدة إلى ما بات، ولو كانت عائدة إليه كان المعنى مأخوذا من قول أرسطاطاليس كما ذكر. وإنما الهاء عائدة إلى الممدوح، ومعنى البيت أن إنعامه فائض على كل أحد فاظلم الناس من يحسد من نال من خيره. إذ كان خيره مبذولا لكل أحد، فلم يبق للحسد وجه. وإنما هذا مثل قوله: كسَائِلِه مَن يسأل الغَيثَ قطرَةً وخارج من مخرجه.
وَدُونَ الذي يبغُونَ ما لَو تخلَّصُوا ... إلى الشَّيبِ منهُ عشت والطِّفلُ أشيَبُ
قال ابن جني: أتى دون ما يريدون من السوء الموت، والذي لو تخلصوا منه إلى الشيب لشاب، ولكنهم لا يخلصون من الموت إلى الشيب بل يقتلهم قبل ذلك.
ويُغنِيكَ عَمَّا يَنسُبُ النَّاسُ أنَّهُ ... إلَيكَ تَناهَى المُكرماتُ وتُنسَبُ
قال أبو علي: قوله عما ينسب الناس. يبعد قليلا هذا البيت عن الفهم، وهو مع ذلك ظاهر، يقول يغنيك عن النسب أن المكارم كلها تنسب إليك. وظاهره مأخوذة من قول ابن أبي طاهر:
خَلائقُهُ للمَكرُمات منَاسبٌ ... تَناهَى إليها كلُّ مَجدٍ مُوثَّلِ
وللبيت باطن خبيث، وهو سخرية يردي أنه لا نسب لك لأنك عبد، ثم زاد دلالة على السخرية فيما يليه:
وأيُّ قَبِيلٍ يَستَحِقُك قَدرُهُ ... مَعَدُّ بنُ عَدنانٍ فِداكَ وَيَعرُبُ
أفتراه أجل من النبي ﷺ وهو من معد بن عدنان!.
ومن التي أولها:
لا يُحزِنِ اللهُ الأميرَ فإنَّني ... لآخُذُ مِن حالاتِهِ بِنَصِيبِ
قال الشيخ أبو العلاء: في هذا البيت خزم، ولم يخزم أبو الطيب إلا في موضعين أحدهما هذا والآخر: إنْ تَكُ طَّيءٌ كانَتْ لِئاما وقال أبو علي ابن فورجة: هذا البيت ظاهر اللفظ والمعنى، وإنما حملني على إيراده أني قرأت أوراقا قد وسمت بمساوئ المتنبي. أنشأها الصاحب كافي الكفاءة أبو القاسم، قد ارتكب فيها شيئا من المزج عجيبا، ليس من طريقة العلم، ولا مما أفاد غير خيلاء الوزارة وبذخ الولاية. ولعمري لو لم يرو عنه هذا الكتاب لكان أجمل بمثله، إذ كان لم يتعد فيه التهزؤ الفارغ والكلام اللغو. حتى أنه ما يكاد ينتقص بيتا من الأبيات التي نقمها على أبي الطيب بما يفيد معرفة، مخطئا فيه أو مصيبا، إلا مواضع يسيرة كأنها عثار منه بالجد لا عمد، وهذه رسالة عملها في صباه والنزق حداه على إظهارها وما أجدر مريد الخير بكتمانها عليه، فمن الأبيات التي ردها عليه هذه الأبيات يقول: ولا ندري لم لا يحزن الله سيف الدولة إذا أخذ أبو الطيب بنصيب من القلق، أترى هذه التسلية أحسن عند أمته أم قول أوس:
أيَّتُها النَّفسُ أجمِليِ جَزَعَا ... إنَّ الذي تذَريَن قد وَقَعَا
قد أخطأ في موضعين، أحدهما أنه ظن أنه يقول كلما أحزن سيف الدولة حزنت فقط، وظن أن يحزن الله لأنه إخبار ولو ظنه ذلك لما استفهم، فقال لم لا يحزن الله سيف الدولة إذا أخذ أبو الطيب بنصيب من القلق وهذا خطأ ويحزن جزم والنون ساكنة وحركت لالتقاء الساكنين، وهو دعاء كما تقول: لا يمت زيد، ولا تشلل يدك، فيقول لا أصابك الله بحزن فأني أحزن إذا حزنت، كأنه يقول لا أحزنني الله ولا نالني بحزن والغلط الثاني أنه قال: أترى هذه التسلية أحسن أم قول أوس؟ فأن هذا البيت ليس بتسلية وإنما هو دعاء للممدوح، وليحسب أنه على ما أظنه قائل هذا القول، فكيف يكون تسلية، إخباره أن الله لا يحزن سيف الدولة لأن المتنبي شريكه، فهذا ظاهر وترك الدلالة على هذه الزلة غير سائغ.
ولا فَضلَ فيها للشَّجاعَةِ والنَّدَى ... وَصَبرِ الفَتى لَولا لِقاءُ شَعُوبِ
قال ابن جني: يقول لو أمن الناس الموت لما كان للصابر والشجاع فضل، لأنه قد أيقن بالخلود ولا خوف عليه.
1 / 14
قال أبو العلاء: إدعاء أبي الطيب أن الدنيا لا فضل فيها للشجاعة والندى وبذل اللهى، لولا الموت غير صحيح، لأن الناس لو كانوا مخلدين لم تنقص فضيلة الجود وغيره من الأشياء المحمودة. ومثال ذلك الشجاع لو علم أنه مخلد لجاز أن يعرض له شيء يخاف من كونه، وإقدامه عليه فضيلة، وكذلك الجود لا يمنع التخليد أن يحمد جوادا إلا أنه قد يجوز أن ينحل بأشياء كثيرة. لا يؤثر أن يكون لغيره من الأحياء. وقال محمد العجلي: الناس على الحقيقة العقلية إنما يرغبون في جمع المال لتقوى به نفوسهم على المكاره التي تلحقهم في الحياة، ولا يحتاجون إليه بعد الموت، أو ربما افتقر الإنسان فأصابه من الشدائد ما يتمنى الموت معه، وربما حمل الفقير نفسه أنفة من الفقر والحاجة على الأمور التي يطلب فيها، وربما مات الإنسان هزلا، فإذا كان الأمر كذلك فأن بذل الإنسان لماله يعدل بذل نفسه في الحرب، ولولا الموت لما حمد الكرم أيضا، وكان الإنسان لو بقي حولا لا يأكل الطعام لما فكر في ذلك إذا أمن الموت.
ولولا أيادي الدَّهرِ في الجمع بَينَنا ... غَفَلنا فَلَمْ نَشعُرْ لَهُ بِذُنُوبِ
قال ابن جني: يقول لولا إحسان الدهر في الجمع بيننا لما شعرنا بذنوبه، تارة يحسن الدهر وتارة يسيء، وما أحسن ما اعتذر للدهر ونفح عنه.
قال ابن فورجة: وقد فسر هذا المعنى بالبيت الذي يليه، إلا أنه عاد مستقبحا لفعل الدهر وذاما له بعد نفح عنه، وبعد ما ذكر أن له عندنا، فقال:
ولَلتَّركُ لِلإحسانِ خَيرٌ لُمحسنٍ ... إذا جَعَلَ الإحسانَ غَيرَ رَبيبِ
وفي الأوراق المنسوبة إلى الصاحب بن عباد، يهزأ بهذا البيت مستظرفا قال: ومن تعقيده الذي لا يشق غباره ولا تدرك آثاره قوله:
ولَلتَّركُ للإحسانِ خَيرٌ لُمحسنٍ ... إذا جَعَلَ الإحسانَ غيرَ ربيبِ
ولا أشك أن هذا البيت أوقع عند حملة عرشه من قول حبيب:
فَقلتُ للحادِثَاتِ استَنبِطي نَفَقًا ... فقد أظَلَّكَ إحسَانُ ابن حَسَانِ
فما أدري أمن قوله تعقيده الذي لا يشق غباره تعجب، أم من تشبيهه هذا بيت أبي تمام، وكلا الأمرين عجيب، أما زعمه أنه قد عقد فوجه التعقيد ما لا نعلمه، فأنه لم يقدم لفظة ولا آخر أخرى عن موضعها، ولا أغرب في اللفظ ولا في المعنى، وإنما قال ترك الإحسان خير للمحسن إذا لم يرب إحسانه، ألا تراه حين فككنا النظم، وجعلناه نثرا، أتينا بمثل لفظه سواء من غير زيادة، ولا نقصان، ولا تقديم، ولا تأخير، فليت شعري أين التعقيد؟ وما قوله ما أشك أن هذا البيت أوقع عندهم من قول حبيب. ولا أعلم ما التجاور بينهما والتشارك، ولعله رأى اشتراكهما في لفظة الإحسان تشابها، والسلامة من هذا القول أسلم لكل لبيب.
إذا استَقبلَتْ نفسُ الكريم مُصَابَهَا ... بِخُبثٍ ثَنَتْ فاستَدبَرته بِطيبِ
قال ابن فورجة: أراد بالخبث الجزع، وبالطيب الصبر، أي إذا جزع الكريم لمصيبته في أولها، راجع أمره فعاد إلى الصبر والتسليم لله. ولفظ البيت مستهجن، إذا أقام الخبث مقام الجزع، ولم يتقدمه ما يوجبه وهو معنى قول أبي تمام:
أتَصبِرُ للبَلوىَ عَزَاءً وحِسبَةً ... فَتُؤجَرَ أم تَسلُو سُلُوَّ البهائم
وكم لكَ جَدًّا لم تَرَ العَينُ وَجهَهُ ... فلم تَجرِ في آثارِهِ بِغُروُبِ
قال الشيخ أبو العلاء: الغروب جمع غرب، وأصل الغرب حدة الشيء، وأصحاب النقل سيتجوزون في العبارة، فيقولون الغروب الدمع، وقيل ألا ترقا الدمعة قال الراجز:
مالَكَ لا تذكر أمَّ عَمرو ... إلاّ لِعينيكَ غُروبٌ تَجري
والمعنى أن الإنسان إنما يحزن لمن يعرف ويشاهد، فأما جدوده الذاهبون فلا يدركه عليهم البكاء، وهو أبي خراش:
ولكنَّها تعفو الكلومُ وإنَّما ... نُوكَّل بالأدنى وإن جَلَّ ما يمضي
ومن التي أولها: فَديناك مِن رَبعٍ وإن زِدتَنا كَرَبا
ذَكرْتُ به وَصلًا كأن لم أُفز به ... وعَيشًا كأني كنتُ أقطَعُهُ وَثبا
قال ابن فورجة: أراد بالمصراعين جميعا قصر زمان الوصل، فأما المصراع الأول فأنه يقول كأنه لم يكن لقصره، كما قال عبد الصمد بن المعذل:
شَبابٌ كأن لم يكُنْ ... وشَيبٌ كأن لم يَزَلْ
1 / 15
وأما المصراع الثاني فيقول كأن قصر أوقات كل نعمة فيه، قصر وقت الوثب، وكأن كل زيادة من الحبيب وثبة، وكل ساعة من اللقاء وثبة، وكل يوم من الاجتماع وثبة، ولعمري لئن كان القائل:
وَيَومٍ كإبَهامِ القَطاةِ مُزّيَّنٍ ... إليَّ صِباهُ غالِبٍ ليَ باطِلُهْ
أجاد، والقائل:
ظَلِلنا عِندَ دَارِ أبي نُعيمٍ ... بيومٍ سالِفَةِ الذُّبابِ
بالغ، فالوثب في هذا المعنى الذي قصده أبلغ واحسن، وقد وقع في هذا البيت سهو على القاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، فأنه ذكره في كتابه الموسوم) بالوساطة (فأدعى أنه أخذه من الهذلي حيث يقول:
عَجِبتُ لسَعي الدَّهرِ بيني وبينَها ... فلمَّا انقضَى ما بيننا سَكَن الدَّهرُ
قال أخذه منه، فجعل أبو الطيب السعي وثبا، وقد ملح في اللفظ، وهذا قول القاضي وهذا عجب منه مع علمه بالشعر وغوصه على المعاني الدقيقة. وكونه في النقد في الذروة العليا، فإذا زل الشيخ أبو الفتح في معنى بيت عذرناه، لكونه عن صناعة الشعر بمعزل، فأما القاضي أبو الحسن فلا عذر له، وإنما هو من جناية العجلة، وحاشا لله أن أدعي الفضل على أحد تلامذتهما، فكيف عليهما! ولعل السهو يتفق علي في كثير مما أظنني أحرزت أطرافه من هذا الكتاب، فضلا عما سواه، إلا أن الدلالة على السهو واجبة بوقف البغي على من به اقتديت، مما أعوذ بالله منه، وبحوله وقوته أعتصم، وهو حسبي ونعم الوكيل. وأقول أن الهذلي لم يرد بالسعي المشي الصريح. فيجعله أبو الطيب وثبا وإنما أراد من قولهم سعيت بفلان إلى الأمير سعيا وسعاية، ولعمري أن السعاية في مصادر هذا الفعل أشهر، إلا أن السعي القياس الذي لا محيص عنه، ويضطرنا إلى ذلك أن معنى البيت لا يتم، وغرض قائله لا يحصل، إلا بما ذكرناه.
يقول لم يزل الدهر يسعى بي إليها، ويسعى بالمكروه بيننا، فلما انقضى ما بيننا بالفراق سكن الدهر من تلك السعاية، ألا ترى أنه أراد السعي الذي هو المشي، لم يكن له معنى، وليكن ما ظنه القاضي أبو الحسن سائغا، فما يصنع بقوله) فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر (أترى الزمان لما وقع الفراق سكن عن المضي. ومل الفلك من الدوران. والزمان إنما هو استمرار دورانه، فلا مجاورة بين بيت الهذلي وبيت أبي الطيب في شيء مما ذكره.
فيا شَوقُ ما أبقَى ويَا لي من النَّوى ... ويا دَمعُ ما أجَرى ويا قلبُ ما أصْبَى
قال أبو العلاء: حذف الياءات التي للإضافة، وهي اللغة الجيدة وقوله) يالي (يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون أراد اللام المفتوحة التي للاستغاثة، كما يقال يا لفلان ويا لبكر والآخر: أن يكون أراد اللام المكسورة التي تكون في المستغاث من أجله كأنه قال يا قوم أعجبوا لي من النوى، وقوله) ما أبقى وما أجرى وما أصبى (كله على إرادة الكاف.
لَقَدْ لَعِبَ البَينُ المُشِتُّ بِها وبِي ... وزَوَّدَنِي في السَّيرِ ما زَوَّدَ الضَّبَّا
قال ابن جني: أراد لم يزودني البين شيئا أستعين به على السير ضربه مثلا يردي شدة البين.
قال أبو العلاء: يجب أن يكون خص البين لفرق بينه وبين غيره، وإلا فلا فائدة لذكره وقد زعموا أن الضب لا يشرب الماء، فيحتمل أنه أراد فزودني صبرا عن الماء، كأني أصبر به ضبا: وقيل أن الضب إذا خرج من بيت فبعد لم يهتد للرجوع إليه، وضربوا به المثل في الحيرة، فيجوز أن يكون قصد هذا المعنى.
فحُبُّ الجَبانِ النَّفسَ أورَدَهُ التُّقَى ... وحُبُّ الشَّجاعِ النَّفسَ أورَدَهُ الحَرْبا
قال ابن جني: أي لم يرد الشجاع الحرب إلا ليبلي بلاء، يتشرف ذكره به في حياته، أو يقتل فيذكر بالصبر والأنفة بعد موته وأحسن ما جاء في هذا قول الحصين بن الحمام المري:
تأخّرتُ أستَبقِي الحَياة فلم أجِدْ ... لنَفسِي حَياةً مثلَ أن أتَقَدَّما
ومن التي أولها: ألا ما لِسَيفِ الدَّولَة اليَومَ عاتِبَا
وقدْ كانَ يُدنِي مَجلِسي من سَمائِهِ ... أحادِثُ فيها بَدرَها والكَواكِبا
قال ابن جني: شبه مجلسه، فجعله كالبدر وجعل خصاله سماء، وأفعاله كالكواكب حوله وهو قوله:
أٌقَلِّبُ فِيكَ طَرفي في خِصالٍ ... وإن طَلَعتْ كَواكِبُها خِصَالا
قال أبو العلاء: عني بالكواكب جلساء سيف الدولة وغلمانه وأقاربه.
1 / 16
أهَذا جَزاءُ الصَدقِ إن كنتُ صَادِقًا ... أهَذا جَزاءُ الكِذبِ إن كنتُ كاذِبَا
قال الشيخ أبو العلاء: هذا عتب شديد على سيف الدولة، يقول هذا الفعل الذي فعلت بي من الإبعاد والإخافة جزاء مدحي لك، فأن كنت صادقا فما يجب أن تجازيني على صدقي بقبيح، وأن كنت كاذبا فإكرامي أكثر مما يحب على الصدق لأني تقولت لك من المكارم ما ليس فيك.
ومن التي أولها: مُنىً كُنَّ لي أنَّ البَياضَ خِضابُ
فكيفَ أذُمُّ اليومَ ما كنتُ أشتَهِي ... وأدعُو بما أشكُوُه حِينَ أُجابُ
قال ابن جني: يقول كيف أذم الشيب وقد كنت أشتهيه، وكيف أدعو بما إذا أجبت إليه شكوته، هذا مستحيل أي كيف أدعو بالشيب وأنا اكرهه.
وَعَن ذَملان العِيسِ إن سامَحَتْ بهِ ... وإلاَّ ففي أكوارِهِنَّ عُقابُ
قال أبو العلاء: الكلام يستغني عند قوله:) وعن ذملان العيس (. كأنه قال عني وعن الأوطان وعن ذملان العيس. ثم ابتدأ كلاما فقال أن سامحت العيس بذملانها ركبتها وإلا تسامح به ففي أكوارهن عقاب. أي أنا أقدر من السير والتصرف في الأسفار على ما يقدر عليه العقاب.
وغَيرُ فُؤادِي للغَواني رَمِيَّةٌ ... وغَيرُ بَنانِي للزُّجاجِ رِكابُ
قال الأحسائي: الرواية الصحيحة للزجاج يعني أوعية الخمر. مثل الكأس والجام والقنينة وما أشبه ذلك وهي تجعل على البنان كما قال أبو تمام:
رَاحَ إذا مَا الرَّاحُ كُنَّ مَطِيَّها ... كانَتْ مطايَا الشَّوقِ في الأحشَاءِ
فالحشا والركاب واحد.
وأكثَرُ ما تَلقَى أبا المِسكِ بِذلةً ... إذا لمْ تَصُنْ إلاَّ الحَديدَ ثِيابُ
قال أبو علي: هذا البيت قد ذكرناه في كتاب) التجني على ابن جني (، وقد سها أبو الفتح فيه سهوا بينا قال في تفسيره: يقول إذا تكفرت الأبطال فلبست الثياب فوق الحديد خشية واستظهارا. فذلك الوقت أشد ما تكون تبذلا للضرب والطعن، وهذا أيضا من جناية العجلة، ولو تثبت لم يضرب عنه هذا القدر، وما الحاجة بنا إلى هذا التعسف، بل ما الحاجة بالأبطال أن تلبس الثياب فوق دروعها، وإنما يفعل ذلك من يحتال لحرب من يخشى حربه، إذا كان يكاتمه أو هم بغيلة وهو يخشى ظهور أمرها، فسيظهر لحرب من يدفع أن يدفع، ونما معنى البيت ما أقول: وهو أنه إذا لم يصن البدن إلا الحديد ثياب، فحذف البدن لعلم المخاطب به، يعني في الحال التي لا يصون الإنسان ثيابه عن وخز الرماح وضرب السيوف، بل يحتاج بها إلى الحديد فالحديد على هذا نصب لأنه استثناء مقدم، وظن الشيخ أبو الفتح أنه يقول إذا لم يصن الثياب إلا الحديد، فهلا خصم نفسه وقال قد تصون الثياب بدن لابسها أيضا، في الحال التي تظاهر بها على درعه، ولعمري أن اللفظ مزلة، والإنصاف بنا وبه أولى وترك اللجاج أحسن.
ومن التي أولها:
آخِرُ ما المَلكُ مُعَزٍّى بِهِ ... هذَا الذّي أثَّر في قَلبِهِ
وأنَّ جَدَّ المَرءِ أوطانُهُ ... مَن لَيسَ منها ليسَ مِن صُلبِه
قال أبو الفتح ابن جني: أي لعل الأيام تحسب أن عمتك لما لم تكن قاطنة عندك في وطنك. الذي عادتك وعادة أجدادك أن يكونوا فيه، لأنه بلدكم ومستقركم، أنه لا نسب بينك وبينها فلذلك أقدمت عليها.
وروى الأحسائي: أو لعل الأيام تعتقد أن جد الإنسان وطنه، فمن لا يكون في وطنه فليس من صلب جده، ولا بينه وبينه نسب.
وكانَ مَنْ حَدَّدَ إحسانَهُ ... كأنَّهُ أسرَفَ في سَبِّهِ
قال ابن جني: أي كان يكره أن تحصى تناسيا للمعروف.
وقال أبو العلاء: كلام أبي الفتح على أن المرثاة كانت تكره أن توصف مكارمها وإحسانها، وأحسن من هذا الوجه أن تكون المذكورة غير موصوفة بالكراهة ويكون معنى البيت أن هذا الشخص من حدد إحسانه أو عدده فكأنه ساب له، لن فعله الأجمل كثير لا يدخل تحت الحدود ولا العدد، ويجوز أن يكون المعنى أن المذكور كان يكره أن يحمد لاحتقاره ما يسدي من الأيادي وأصل السب القطع، وإنما يقال سبب الرجل إذا شتمته لأن السب قطع ما بينكما من المودة. ومن ذلك قول الشاعر:
فما كان ذَنبُ بني دَارمٍ ... بأن سُبَّ منهم غُلامٌ فَسَبْ
بأبيضَ ذِي شُطَبٍ بَاتَرٍ ... يَقُدُّ العِظامَ ويَفري العَصَبْ
1 / 17
قوله) بأن سب منهم غلام (أي شتم وسب في القافية، بمعنى القطع كذلك ذكر ابن دريد، ودق يجوز أن يكون سب في القافية في معنى الشتم، كأنه لما سب جعل جزاء سبه أن عقر إبله، فأعلمهم أنهم لا يقدرون على مثل ما فعل، فكأنه شتمهم ويروي حدد وعدد.
يا عَضُدَ الدَّولَةِ مَنْ رَكنُها ... أبوهُ والقَلبُ أبُو لُبِّهِ
قال ابن جني: اللب العقل، والعقل زين القلب، فكذلك أنت زين أبيك كأنه فضله على أبيه.
وَمَنْ بَنُوهُ زَينُ آبائِهِ ... كأنَّها النَّورُ على قُضبِهِ
قال أبو الفتح: أي أبناؤك زين آبائك، لأنهم يدنون بكرمهم عليهم، ولم يجعل أولاده زينا له كما جعله هو زين أبيه، لما ذكرت قبل من أنه فضله عليه ولأجل هذه اللطائف التي تأتي في شعره قال:
لا تَجسُرُ الفُصَحاءُ تُشِيدُ هَاهنا ... بَيتًَا ولكِنّي الهِزَبرُ الباسِلُ
ومن التي أولها: لَحَا اللهُ وَردَانًا وأمًّا أتَت بِهِ
أهَذَ اللَّذّيَّا بنتُ وَردَانَ بِنتُهُ ... هُمَا الطَّالِبانِ الرَزقَ مِن شرِّ مَطلَبِ
قال ابن جني: اللذيا تصغير الذي، يستفهم فيقول أهذا الذي ينسب إليه الحشرة الدنية، يقول فهي وهو يطلبان الرزق من شر مطلب، لأنها تطلبه من المخازي، وهو يطلبه من هن عرسه، يظهر تجاهلا بالأمر وهزءا به.
قال أبو العلاء: معنى هذا البيت أنه أراد تشبيه بيت الرجل الذي هو وردان بالدويبة التي يقال بنت وردان، وهي تكون في مواضع الوسخ المكروه وهذا أشبه من المعنى الأول.
حرف التاء
سِربٌ مَحَاسِنُه حُرِمتُ ذَوَاتِهَا ... دَانِي الصِّفاتِ بَعيدُ مَوصُوفاتِها
قال أبو الفتح كنى بالسرب عن النساء يقول: هواي سرب حرمت ذوات محاسنها أي صواحب محاسنه، وذوات محاسن السرب هذا السرب فكأنه قال هواي سرب حرمته، أي حيل بيني وبينه، وداني الصفات لأن الوصف قول وهو قادر عليه متى أراده، إلا أن الموصوف بهذه الصفة وهو السرب بعيد مني.
وفي هذا البيت شيء من الإعراب لطيف المذهب منع سيبويه منه البتة وهو إضافة) ذو وأخواتها (إلى المضمر لأنه لا يجيز) هذا رجل ضرب ذاه (.
قال أبو العلاء: أما قول سيبويه في أن) ذو (لا تضاف إلى الضمير، فعلى ذلك ورد مسموع كلامهم، وإنما امتنع في الإضافة لأن) ذو (كناية عن شيء والهاء كناية، فكره الجمع بين كنايتين، وقوى ذلك أن) ذو (كلمة ناقصة لا قوة لها فتحتمل أن تضاف إلى الضمير، فإذا دخلها الجمع والتثنية قويت بذلك لأن حروفها تزيد، فقوله ذواتها يزيد في القوة على قولهم) هذا ذوه (. وقد أضاف كعب بن زهير فيما روي ذوي إلى الهاء وهي أضعف من ذوات لأنها أقل حروفا منها وذلك قوله:
صحبنا الخَزرَجِيَّةَ مُرهَفاتٍ ... أبَادَ ذَوِي أُرومِيَتها ذَوُوها
وقال أبو علي كأنه لاحظ قول القائل:
فَقلتْ لأصحَابِي هي الشَّمسُ ضَوءُها ... قَرِيبٌ ولكنْ في تَناوُلَها بُعدُ
وقد ألم هذا المعنى إلا أنه غيره إلى باب آخر الشيخ أبو العلاء أحمد بن عبد الله ابن سليمان المعري، أنشد فيه لنفسه:
قَد يَبعُدُ الشَّيءُ من شَيءٍ يُشَابِهُهُ ... إنَّ السماءَ نَظيرُ المَاءِ في الزَّرقِ
وَمقانِنٍ بمقَانِبٍ غادَرتُهُا ... أقوَاتَ وَحشٍ كُنَّ مِنْ أقَوَاتِها
قال أبو العلاء: يعني أنه قتلهم فأكلتهم الوحوش كالأسد، والنمور، والذئاب والضياع، وكان هؤلاء القوم يصيدون هذه الوحوش فيأكلونها، كأنه يصفهم بالنجدة والشدة وأنهم كانوا يأكلون هذه الأجناس التي لم تجر العداة بأكلها.
أقبَلتُها غُرَرَ الجِيادِ كأنَّما ... أيدِي بَنِي عِمرَانَ في جَبَهاتِها
قال ابن جني: أقبلتها أي حملتها عليها وكلفتها لقاءها وما أحسن ما خلط الخروج بالتشبيه.
وقال ابن فورجة: أقبلتها الخيل أي أقبلت بها إليها، وسيرتها مستقبلة لها كما قال الشاعر:
يمشينَ مشيَ الهجان الأُدمِ أقبلها ... خلّ الكوود هدان غير مهتاجِ
وعنى بالأيدي هنا النعم، من قولهم لفلان عندي يد بيضاء، وقد جرت العادة في جمع يد النعمة بالأيادي وهي جمع الجمع، وفي يد الأعضاء بالأيدي، وقد إستعمل أبو الطيب هذه في مكان تلك فقال: فُتلِ الأيادِي رَبِذاتِ الأرجُلِ وقد جاء ذلك عن العرب في كثير من أشعارها فمنها قول عدي:
1 / 18
نُحسِنُ الهِناءَ إذا استهنأتَنا ... ودفَاعًا عَنكَ بالأيدي الكِبارِ
يعني بالنعم الضخام وبياض يد النعمة مجاز لا حقيقة.
الثَّابِتينَ فُرُوسَةً كَجُلُودِها ... في ظَهرِها والطَّعنُ في لَبَّاتِها
قال أبو العلاء: قوله في ظهرها كقول الآخر:
كُلُو في نِصفِ بطنِكُمُ تَعِيشُوا ... فإنَّ زمانكُم زَمَنٌ خَمِيصُ
وقول علقمة:
بها جيفُ الحسري فأما عظامُها ... فبيضٌ وأمّا جلدُها فَصليبُ
والمعنى أنه وصفهم بالثبات على ظهور الخيل وهي الطعن في لباتها.
العارِفينَ بِهَا كَما عَرَفتْهُمُ ... والرَّاكبينَ جُدُودُهُم أُمَّاتِها
قال أبو العلاء: لو كان الكلام منثورا لكان الواجب أن يقال والراكب جدودهم على التوحيد لأن أسم الفاعل إذا تقدم جرى مجرى الفعل فيقال) مررت بالراكب الخيل جدوده وجدودهم (لأن الألف واللام تنوب عن الذي واللذين والذين فإذا جمعت أو ثنيت فهو على قول من قال) قمن النساء. وأكلوني البراغيث (وقال أبو علي: هذا البيت يحتمل معنيين، أحدهما وهو الظاهر أن هذه الخيل تعرفهم وهم يعرفونها لأنها من نتاجهم. والثاني: أنها تناسلت عندهم. فجدود هؤلاء الممدوحين كانت تركب أمات هذه الخيل، وهم اليوم يركبون بناتها، ولو ساعده الوزن لقال والراكبين آباؤهم ليكون أصح في التقابل وهذا المعنى سواء وقوله:
بَنُو قَتلَى أبيكَ بأرضِ نَجدٍ ... وَمَن أبقَى وأبقَتهُ الحِرَابُ
وقوله في أخرى:
لَعلَّ بَينَهمُ لِبَنيكَ جُندٌ ... فَأوَّلُ قُرَّحِ الخَيلِ المِهارُ
وأنشدني أبو العلاء لنفسه في هذا المعنى:
بَناتِ الخَيلِ تَعرفُها دَلُوكٌ ... وَصارِخةٌ وآلسُ واللُّقَانُ
هذه كلها من بنات الروم، يقول أبوك.... بأماتها في هذه الديار فهي تعرفها. وهذا المعنى على ظهوره وإظهار أبي الفتح إياه في كتاب الفسر ليس بذلك السائغ عندي. لما أذكره وهو أن توالي الأبيات تدل على غير ما حكى.
يقول:
ومَقانبٍ بمقَانبٍ غادَرتُها ... أقوَاتَ وَحشٍ كُنَّ من أقَواتِها
أقبَلتُها غُررَ الجِيادِ كأنَّما ... أيدِي بَني عِمرانَ في جَبَهاتِها
الثَّابتينَ فُرُوسةً كجُلُودِها ... في ظَهرِها والطَّعن في لَبَّاتِها
العارِفينَ بها كما عَرَفتهُم ... والرَّاكبِينَ جُدُودُهمْ أُمَّاتِها
فهذا يصف خيل نفسه التي قاتل عليها عدوه، وليس يصف خيل الممدوحين اللهم إلا أن يدعي مدع أنه قاتل على خيل الممدوحين، وفي هذا) نبو (أو يعني أنه قادها إليه. والمعنى جيد لأنه يريد أن يقود الخيل إلى الشعراء من نتائجه، والمعنى عندي هو الذي أورده، وهو أنه يصف معرفتهم بالخيل ولا يعرفها إلا من طال مراسه لها، والخيل أيضا تعرفهم لأنهم فرسان، وقد قال أبو الطيب في بيت آخر: فالخَيلُ واللّيلُ والبَيداءُ تَعرِفُني وهذا ظاهر من أمثال العرب:) الخيلُ تُعرفُ من فُرسانها البُهُم (وقوله) والراكبين جدودهم أماتها (يريد بذلك أن جدودهم أيضا كانوا من ركاب الخيل، أي أنهم عريقون في الفروسية، ويوضح معنى ذلك ما أنشده أبو العلاء نفسه:
يا ابن الأُلى غيرَ زَجر الخَيلِ ما عَرَفوا ... إذ تعرفُ العُربُ زَجر الشاءِ والعَكرِ
فهذا هو الأشبه والمعنى الأول غير ممتنع.
سُقِيَتْ مَنابِتُها الَّتِي سَقَتِ الوَرَى ... بِيَدي أبِي أُيوبَ خَيرِ نَباتِها
قال ابن جني: جعل النفوس منيات لما أراد أن يدعو لها بالسقي، إذا كانت المنابت محتاجة إلى السقي اتساعا فيقول سقى منابت هذه النفوس بيدي أبي أيوب هذا الممدوح الذي هو خير نباتها، أي نفسه أشرف هذه النفوس المذكورة، أي لا زال ظله وعرفه على أهله وذويه، لأنه إذا أفاض عرفه فقد أفاضه على كافة الورى، لأنهم معاط مساميح هذا مع ما يتولاه هو من إعطائه كافة الناس، والهاء في نباتها تعود على المنابت، فجعل النبات هو الذي يسقي المنبت قلبا لعادة وإغرابا في القول وتغلغلا في الصنعة.
قال ابن فورجة: الهاء في قوله منابتها، عائدة على النفوس في البيت الذي تقدمه وهو:
تِلكَ النُّفوسُ الغالِباتُ على العُلا ... والمجدُ يَغلِبُها على شَهَواتِها
1 / 19
يدعو لهذه النفوس ومنابتها بالسقايا، ويقول أن منابتها لم تزل تسقي الورى، يعني أن أبا الممدوح وقومه كانوا كلهم مفضلين على الناس، فسيقت منابت هذه النفوس، كما لم يزالوا يسقون الناس، وجعل النفوس منابت لما أراد أن يدعو لها بالسقي، ثم قال سقيت بيد أبي أيوب، يريد بذلك أن سقيا يديه أعظم السقيا، وهو أفضل قومه وخير من نبت فيهم، وليس الغرض أن يدعو لقوم أبي أيوب بإفضال أبي أيوب عليهم، ولكن الغرض تعظيم شأن إعطائه، كأنه لو دعا بأن يسقيهم الغيث لكان دون سقيا أبي أيوب، وهذا ظاهر ولقد أحسن في هذا النحو القائل:
سقى الجِيرَةَ الغَادِينَ وَسمِيُّ عَارِضٍ ... هزيمَ الحَيا سبط الرِوَاقين مُمرِعِ
بسُحبٍ كأجفَانِي وَبرقٍ كَحُرقَتِي ... ورَعدٍ كإعَوالي وغَيثٍ كأدمُعِي
يريد بذلك تعظيم شان ركابه، وقد قال الشيخ أبو الفتح غير ما قلناه، ولم يعد الصواب لكنا قلنا برأينا
تكبُو وَرَاءَكَ يا بنَ أحمَدَ قُرَّحٌ ... ليسَتْ قَوَائِمُهُنَّ مِن آلاتِهَا
قال أبو العلاء: الهاء في آلاتها راجعة على وراء، لأنها مؤنثة، وكذلك قدام وأمام، وهذا ما لا يحتمل البيت غيره، وقد روي هذا التفسير عن قائل البيت وإنما أشكل على السامع لأن) وراء (لفظها لفظ المذكر، ولم يعد تأنيث وراء وقدام إلا بالتصغير لأنهم قالوا) قديدمة وورية (قال القطامي:
قُدَيدمِة التَّجرِيبِ والحِلمِ أنّني ... أرى غَفَلاتِ العَيش قَبلَ التَّجارِبِ
وقال آخر:
قد طَرقتْ وُريَّةَ الشَبابِ ... فمَرحبًا بطَيفِها المُنتَابِ
وقال الأحسائي: يقول ليست قوائم المتبعين لك من آلات مجازاتك، فإذا تبعوك وقصروا عن إتباعك.
غَلِتَ الَّذي حَسَبَ العُشُورَ بآيَةٍ ... تَرتِيلُكَ السَّورَاتِ من آياتِها
قال أبو العلاء: ذهب إلى أن الغلت في الحساب خاصة والغلط واحد كأن أحد الحرفين مبدل من الآخر، وذهب أبو عبيدة إلى أن الغلت في الحساب خاصة والغلط في غير ذلك. والعشور جمع عشر، والمعنى أن الذي حسب العشور غلط في العدد، لأن ترتيل هذا الممدوح إذا قرأ السور يجب أن يحسب آية فتكون الآيات العشر بترتيله إحدى عشرة آية، وهذا من الغلو الذي يقصده الشعراء، وهو كذب صراح.
وقال الأحسائي: يقول أن الذي قاس مناقبك غيرك، وقدر أنك تزيد عليهم حتى يحسب كل آية لهم بعشر آيات من مناقبك لا عشر آيات بآية.
فإذا نَوَتْ سَفَرًا إلَيكَ سَبقتَها ... فأضَفتَ قَبلَ مُضَافِها حالاتِها
قال أبو الفتح: يقول ليس ينبغي أن نعذل المرض الذي بك، وكان قد اعتل لأنك تشوق أمراضها معها فقد شقت المرض حتى زارك، كما شقت صاحبه فإذا أرادت الرجال إليك السفر سبقتها بإضافتك أحوالها قبل إضافتك إياها.
قال ابن فورجة: هكذا رواه الشيخ أبو الفتح، وكذا رويته أيضا عن دعة مشايخ إلا أن الصواب عندي أن يروي) سبقتها (بالنون لما أنا اذكره وهذا البيت بعد قوله:
لا نَعزُلُ المرضَ الذي بكَ، شائِقٌ ... أنتَ الرّجالَ وشَائِقٌ عِلاَّتِها
والهاء في سبقتها عائدة إلى الرجال، يقول أنت تشوق الرجال وتشوق علاتها، لأنك فرد عجيب في جميع محاسنك، وإنما يريد بذلك إقامة العذر للحمى، وتحسين أمرها كما يفعل الشعراء بالأحوال الذميمة للممدوحين، فيقول إذا نوت الرجال السفر إليك سبقت العلات الرجال فجاءتك قبلها، إلا أنها أعراض وأولئك جسوم، والأعراض أخف فأضفتها قبل أن تضيف الرجال، فلهذا، قلت الصواب) سبقنها (والمضاف مصدر أضفت كما أن المقام مصدر أقمت، والمصاب مصدر أصبت.
حرف الحاء
ومن حرف الحاء قوله من القصيدة التي اولها:
جَلَلًا كَما بِي فَليَكُ التَّبريجُ ... أغِذَاءُ الرَّشَأِ الأغَنِّ الشِّيحُ
قال ابن جني: معنى البيت إذا كان أحد في شدة فليكن كما أنا عليه، تعظيما لما هو فيه من الشدة فتم الكلام. ثم استأنف قولا آخر في النصف الثاني فقال متعجبا من حسن المشبب به: أغذاء ذا الرشا الأغن الشيح أي كأنه ظبي في الحقيقة من حسنه ورشاقته، وهو كقول ذي الرمة:
أيا ظَبيةَ الوَعساءِ بينَ جُلاجلٍ ... وبينَ النَّقا آأنتِ أم أمُّ سالمِ
1 / 20