[1 - سورة الفاتحة]
[1.1]
النزول: روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال:
" لم ينزل { بسم الله الرحمن الرحيم } على أحد قبلي الا على سليمان ".
[1.2]
الكلام: في التفسير للحمد: { الحمد } والمدح اخوان وهو الثناء الحسن على الجميل من نعمه وغيرها، تقول: حمدت الرجل على انعامه، وحمدته على حسبه وشجاعته، وأما الشكر فهو على النعمة خاصة وهو بالقلب واللسان والجوارح، قال:
افادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا
{ رب } الرب السيد المالك، وقيل: سيد الخلق ومالكهم، وقيل: منشئهم ومربيهم. { العالمين } هم الجن والانس والملائكة. وروي عن زيد بن علي (عليه السلام) أنه قال: " لله تعالى أربعة عشر ألف عالم: الجن والإنس منها عالم واحد " وعن وهب: " لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم: الدنيا منها عالم واحد " وقيل: كل ذي روح لأن لفظ الرب يدل عليه، وقيل: الخلق جميعهم، وقيل: أهل كل زمان.
[1.3-7]
{ الرحمن } المنعم بنعم الدنيا والدين. { الرحيم } واسع الرحمة. { ملك } قرأ عاصم مالك بالألف. { يوم الدين } يوم الجزاء، وقيل: يوم القهر، وقيل: يوم الحساب، ومنه: " كما تدين تدان ". { إياك نعبد } أي نخضع لك بالعبادة والاستعانة، لا نعبد غيرك ولا نستعينه، إلتفات خرج من الغيبة إلى الخطاب، والإلتفات يكون من الغيبة الى الخطاب مثل هذا، ومن الخطاب الى الغيبة مثل قوله تعالى:
حتى اذا كنتم في الفلك وجرين بهم
[يونس: 22] ومن الغيبة الى المتكلم مثل قوله تعالى:
والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه الى بلد ميت
[فاطر: 9] وقد التفت امرئ القيس ثلاثة التفاتات في ثلاثة أبيات وهو قوله:
تطاول ليلك بالاثمد
ونام الخلي ولم يرقد
وبات وباتت له ليلة
كليلة ذي العابر الارمد
وذلك من نبإ جاءني
وخبرته عن أبي الاسود
العابر: انسان العين، والرمد: وجع العين، وكان من حقه ان يقول: تطاول ليلي بالاثمد، لأنه يخاطب نفسه. { واياك نستعين } اي نطلب المعونة منك على عبادتك.
{ اهدنا } اي دلنا { الصراط المستقيم } الطريق الواضح، ومنه:
ولا تقعدوا بكل صراط توعدون
[الأعراف: 86] وقيل: طريق الإسلام، وقيل: القرآن، وقيل: طريق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واصحابه، قال أمير المؤمنين على صراط:
إذا اعوج الموارد مستقيم
وقيل: الدين الذي لا يقبل الله من العباد غيره. { صراط الذين أنعمت عليهم } قرأ ابن مسعود صراط من أنعمت عليهم، وقرأ حمزة الزراط بالزاي، وابن كثير بالسين عليهم: قرأ حمزة برفع الها حيث وقع وهم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وعن ابن عباس هم أصحاب موسى قبل ان يغيروا، وقيل: هم الانبياء. { غير المغضوب عليهم } هم اليهود. { ولا الضالين } هم النصارى، وقيل: المغضوب عليهم هم اليهود والنصارى، ولا الضالين هم الكفار، وقيل: هم اهل البدع، يستحب للقارئ أن يقول بعد فراغه من قراءة الفاتحة: آمين، بعد سكتة على نون ولا الضالين، ليميز ما هو قرآن بما ليس بقرآن، تجريد.
[2 - سورة البقرة]
[2.1-3]
الكلام: في أوائل السور مثل { الم } و { الر } و { حم } و { طس } و { طسم } و { المص } و { كهيعص } قيل: هي أسماء للسور، وقيل: أسماء لله تعالى، روي: ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) انه كان يقول في دعائه: " يا حم يا طس يا كفها " ، وقيل: مأخوذة من اسماء الله تعالى، وقيل: أسماء كانت العرب تكاتب بها فنزل القرآن عليها فلم يأتوا بمثله فدل على انه معجز. { ذلك الكتاب } اشارة الى ما تقدم إنزاله، وقيل: ذلك بمعنى هذا. { لا ريب فيه } اي لا شك فيه، قال الشاعر:
ليس في الحق يا أميمة ريب
انما الريب ما يقول الكذوب
{ هدى للمتقين } قيل: جمع التقوى في قوله تعالى:
إن الله يأمر بالعدل والإحسان
[النحل: 90] الآية. وعن ابن عباس: المتقي الذي يتقي الشر والكبائر والفواحش، قال في الثعلبي عن ابن عمر: المتقي ان لا ترى نفسك خيرا من أحد، وقال أيضا: المتقي الذي يقول لكل من رآه من المسلمين هو خير مني، وقال بعض الحكماء: لا يبلغ الرجل سنام التقوى الا اذا كان يحب لو جعل ما في قلبه على طبق فيطاف به في السوق لم يستح من شيء عليه، روي ذلك في الثعلبي ايضا وخص المتقون بالذكر لانتفاعهم، وقيل : المتقي الذي يحب للناس ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه من الشريك لشريكه قال الشاعر:
حل الذنوب صغيرها وكبيرها فهو التقى
كن شبه ماش فوق ارض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى
{ بالغيب } قيل: هو اللوح، وقيل: هو القرآن وسائر ما اخبر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من البعث وغيره، وقيل: قول لا اله الا الله، وقيل: الآخرة وما فيها، وقيل: خوف الله بالسر والعلانية. { ويقيمون الصلاة } اقامتها تعديل أركانها وحفظها من ان يقع الزيغ في فرائضها وسننها، وقيل: انه ادامتها. { ومما رزقناهم ينفقون } من الزكاة، وقيل: على سبيل البر.
[2.4-13]
{ والذين يؤمنون بما أنزل إليك } يعني يؤمنون بنبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويصدقونه ولا يكذبونه. { وما أنزل من قبلك } من الكتب على لسان كل نبي. { وبالآخرة هم يوقنون } يعرفونها بالأدلة. { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } والمفلح الفائز بالغنيمة، وقيل: الظافرون بالمراد، وقيل: الفائزون بالجنة الناجون من النار.
{ إن الذين كفروا } الآية، قيل: نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، وقيل: في اليهود، وقيل: في قوم من المنافقين، وقيل: في مشركي العرب، وقيل في قادة الاحزاب، وقيل: في حيي بن اخطب، وقيل: هو عام في جميع الكفار. { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } قيل: هو ذم لهم لأنها كالمختوم عليها، وقيل: نكتة سوداء جعلها الله في قلوبهم علامة للملائكة انه لا يفلح، وقيل: هو ذم لهم كما قال الشاعر:
ختم الاله على لسان عذافر
ختما فليس على الكلام بقادر
يعني فلم يختم. { ومن الناس من يقول آمنا بالله } الآية، نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه المنافقين، افتتح سبحانه أول سورة البقرة بالذين اخلصوا دينهم فيه، وثنى بالذين كفروا ظاهرا وباطنا، وثلث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، ووصف حال الذين كفروا في آيتين، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية وبين فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم، واستهزأ بهم، ودعاهم صما بكما عميا وضرب لهم الأمثال الشنيعة ، وقصة المنافقين معطوفة على قصة الذين كفروا كما يعطي دلالة على الجملة. { يخادعون الله } قيل: تقديره يخادعون رسول الله، وقيل: ذكر الله هنا للتعظيم والانكار. { وما يشعرون } اي لا يعلمون انهم يخدعون انفسهم لأن وبال ذلك عليهم والشعور علم مشقق من الشعار. { في قلوبهم مرض } المرض الغل والحسد والميل الى المعاصي والعزم عليها كما قال:
حامل اقواما حياء وقد أرى
قلوبهم تغلي على مراضها
{ وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس } قيل: هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن تبعه. { قالوا } هؤلاء المتقدم ذكرهم عبد الله بن أبي وأصحابه. { أنؤمن كما آمن السفهاء } فرد الله عليهم بقوله: { ألا إنهم هم السفهاء } وقيل: اراد كما آمن الناس عبد الله بن سلام وأصحابه، قال اليهود: أنؤمن كما آمن السفهاء.
[2.14-20]
{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } الآية، نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه. روي عن ابن عباس ان عبد الله بن ابي وأصحابه خرجوا فاستقبلهم نفر من الصحابة (رضي الله عنهم) فقال: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم، وأخذ بيد عمر وقال مرحبا بالفاروق وسيد بني عدي، واخذ بيد أبي بكر وقال مرحبا بسيد بني تميم وثاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار، واخذ بيد علي (عليه السلام) وقال: مرحبا بابن عم رسول الله وحبيبه وسيد بني هاشم ما خلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فقال له علي (عليه السلام): " يا عبد الله اتق الله ولا تنافق فإن المنافقين في النار وانهم شر خلق الله ". فقال: مهلا يا ابا الحسن لا تقل هذا فوالله ان إيماننا كإيمانكم، فتفرقوا فقال لأصحابه: كيف رأيتم ما فعلت؟ فأثنوا عليه وقالوا: لا نزال بخير ما دمت فينا، ورجع المسلمون فأخبروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية. { وإذا خلوا إلى شياطينهم } مضوا معهم، يقال: خلا معه وإليه وبه، قال الاخفش: يقال: خلا به اذا انفرد به، قال الحسن: " الشياطين مردة الجن وابليس أصلهم، وشياطين الانس مردتهم، وآدم أبوهم ". { الله يستهزئ بهم } أي يجازيهم على استهزائهم. { ويمدهم } يعني يمهلهم. { في طغيانهم يعمهون } قيل: يحادون، وقيل: يترددون. { اولئك الذين اشتروا الضلالة } مجاز بالشراء لما مالوا اليها قال الشاعر:
كما اشترى المسلم اذا تبصر
{ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } الآية: اي هؤلاء المنافقون مثلهم في كونهم من جملة المسلمين في الدنيا وتميزهم عنهم في الآخرة كمثل رجل بقي هو وأصحابه في الطريق في ليلة مظلمة فأوقد نارا لينظر هو واصحابه الطريق. { فلما أضاءت } النار { ما حوله } أطفأ الله تلك النار فعادت الظلمة كما كانت فكذلك اذا مات هؤلاء المتقدم ذكرهم عادوا الى الظلمة، وبقوا في العقاب الدآئم أجارنا الله منه. { صم بكم عمي فهم لا يرجعون } يعني هؤلاء المنافقين، قيل: صم عن استماع الحق، بكم عن التكلم به، عمي عن الابصار له. { أو كصيب } قيل: مثل ثان للمنافقين. { من السماء } قيل: سحاب من السماء ذا مطر، وقيل: كمطر من السماء. { فيه } يعني في الصيب. { ظلمات ورعد } قيل: صوت ملك يزجر السحاب، وقيل: الرعد هو الملك. { وبرق } قيل: محاريق من حديد، وقيل: سوط من نار، رواه أمير المؤمنين علي (عليه السلام). { يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } أي مخافة الموت أن تناله الصاعقة فتهلكه، فيجعل اصبعه في أذنه كيلا يسمع منه شيئا كذلك هذا الجاهل يفر عن سماع القرآن والحق. { يكاد البرق يخطف أبصارهم } أي تكاد الدلائل والآيات تخطف قلوب هؤلاء، المتقدم ذكرهم لما فيها من الازعاج الى النظر، والدعاء الى الحق كما يكاد البرق يخطف أبصار أولئك. { كلما أضاء لهم مشوا فيه } قيل: اذا آمنوا صار الإسلام لهم نورا، واذا ماتوا عادوا الى الظلمة.
[2.21-25]
{ يأيها الناس } قيل: هم أهل مكة، وقيل: هو عام. { اعبدوا ربكم } اي وحدوه وأطيعوه. { لعلكم تتقون } أي لكي تتقوا الله تعالى. { الذي جعل لكم الأرض فراشا } اي بساطا. { والسماء بناء } أي سقفا. { فلا تجعلوا لله أندادا } أي أضدادا. { وأنتم تعلمون } انه الخالق دون الأوثان، وقيل: تعلمون أنه المنعم عليكم دون الأوثان فإنها لا تنفع ولا تضر فكيف تستحق العبادة. { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } الآية، اعلم ان الله عز وجل تحدى العرب بأن يأتوا بمثله ثم حطهم مرتبة أخرى فقال: { فأتوا بسورة من مثله } وبالاتفاق ان العرب كانوا في النهاية من الفصاحة بحيث لا يكون قبلهم ولا بعدهم أفصح منهم وأقل سورة ثلاث آيات. { وادعوا شهداءكم } يعني واستعينوا بآلهتكم التي تعبدونها. { من دون الله إن كنتم صادقين } بأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) افتراه، وقيل: أعوانكم، وقيل: ناس يشهدون لكم. { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا } فنفى عنهم انهم لم يفعلوا كما هو عالم لما فيه من الاعجاز فارجعوا الى عقولكم. { واتقوا الله } بفعل طاعتكم لله ولرسوله. { التي وقودها الناس } اي حطبها. { والحجارة } قيل: هي الاصنام، وقيل: هي الكبريت، وقيل: هي حجارة يعذبون بها، وقيل: هي كنوز الذهب والفضة. { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قيل: اخلصوا الأعمال. وعن علي (عليه السلام): " اقامة الصلاة المفروضة " ، وقيل: الطاعة فيما بينهم وبين ربهم، وقيل: العمل الصالح الذي يكون فيه أربعة أشياء: العلم، والنية، والصبر، والاخلاص. { من تحتها الانهار } أي من تحت أشجارها فحذف المضاف، وقيل: من تحت منازلها وهم في الغرفات. { قالوا هذا الذي رزقنا من قبل } قيل: في الجنة من قوله: { بكرة وعشيا } ، وقيل: في الدنيا. { وأتوا به متشابها } قيل: مشبها في الصورة واللون مختلفا في الطعم، وقيل: متشابها في الأسماء، وعن ابن عباس (رضي الله عنه): ليس في الدنيا مما في الجنة الا الأسماء. { ولهم فيها أزواج } قيل: الحور العين، وقيل: نساء الدنيا المؤمنات مطهرات من الحيض والبول والغائط وجميع الأقذار.
[2.26-29]
{ إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة } الآية، قيل: نزلت في اليهود وذلك ان الله تعالى لما ذكر في كتابه الكريم الذباب والعنكبوت ضحكوا وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله تعالى، قال جار الله: والحياء تغير وانكسار يعتري الانسان من خوف ما يعاب به او يذم، واشتقاقه من الحياة، قال: فإن قلت: كيف جاز وصف القديم سبحانه به ولا يجوز عليه التغير والذم؟ قلت: مجاز. وفي حديث:
" ان العبد اذا رفع يده الى الله تعالى يطلب داعيا اليه، استحيى الله ان يرد يده صفرا حتى يهب فيهما خيرا "
وهو مجاز على سبيل المثل، وكذلك معنى قوله: { إن الله لا يستحي } أن يترك ضرب المثل بالبعوضة، او هو جواب للكفرة، وفي خلقه ما هو أصغر منها ف
سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون
[يس: 36] والبعوضة النهاية في الصغر وهي النامس وانشد لبعضهم:
يا من يرى مد البعوض جناحها
في ظلمة الليل البهيم الأليل
ويرى عروق نياطها في نحرها
والمخ في تلك العظام النحل
اغفر لعبد تاب من فرطاته
ما كان منه في الزمان الأول
{ الذين ينقضون عهد الله } العهد ما ركبه في عقولهم من الحجة على توحيده واتباع نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجوز ان تكون الآية في اليهود. { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } قيل: هو عام في كل ما أمر الله ان يوصله. { أولئك هم الخاسرون } الخاسر ضد الرابح، وأصل الخسران النقص، ومنه خسر الصبي سنه اذا قلعها. { كيف تكفرون بالله } استفهام معناه التوبيخ. { وكنتم أمواتا } يعني نطفا. { فأحياكم } في الدنيا. { ثم يميتكم } عند انقضاء آجالكم. { ثم يحييكم } في القبور والنشور، وقيل: يحييكم في القبور. { ثم إليه ترجعون } بالبعث والنشور. { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا } يعني لأجلكم وانتفاعكم به في دينكم ودنياكم، فالانتفاع الدنيوي ظاهر بأنواع المشتهيات والمستلذات وما يتبعها، والديني من وجهين: أحدهما النظر في المخلوقات من عجائب الصنع الدالة على الصانع القادر العالم، وثانيهما مما يرى من العقارب والحنشان ونحوها مما يقع بمشاهدته بذكر أهوال الآخرة وما فيها من هذه الأنواع، فكان المنة بهذه أبلغ وأوضح، انه خلق بعضه للانتفاع، وبعضه للاعتبار لا كما يزعم من استدل بها على إباحة كل الحيوانات، لأن الاجماع على خلافه. { ثم استوى الى السماء } اي قصد اليها بإرادته ومشيئته بعد خلق الارض من غير ان يريد خلق شيء آخر ، والمراد بالسماء جهات العلو. { وهو بكل شيء عليم } فمن ثم خلقهن خلقا مستويا محكما من غير تفاوت مع خلق ما في الأرض على حسب حاجات أهلها ومنافعهم ومصالحهم.
[2.30-39]
{ وإذ قال ربك للملائكة } قيل: هو خطاب لجميع الملائكة، وقيل: هو عام لمن كانوا سكان الأرض من الملائكة. { إني جاعل في الأرض } قيل: هي الأرض التي عليها مستقر الخلق، وقيل: هي مكة. { خليفة } اي قوما يخلف بعضهم بعضا اذا مات واحد خلفه الآخر، وقيل: خليفة عليكم، وقيل: خليفة عني يأمر وينهي ويحكم، ويجري الانهار، ويغرس الاشجار. { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } أي من يفسد ذريته لأن آدم (عليه السلام) لم يكن بهذه الصفة، ولا رسل الله وأنبياؤه (عليهم السلام) والمؤمنون، وفي معرفتهم بذلك أقوال: قيل: رأوا ذلك في اللوح المحفوظ، وقيل: قاسوا وكانت الجن على هذه الصفة واول من قاس الملائكة، وقيل: عرفوا ذلك من لفظ الخليفة فان الخليفة من يقوم مقام الاول. { ونحن نسبح بحمدك } قال الحسن: " يقولون سبحان الله وبحمده " ويدل عليه الخبر المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
" انه سئل أي الكلام أفضل؟ فقال: " ما اصطفاه الله تعالى للملائكة سبحان الله وبحمده "
{ ونقدس لك } اي ننزهك فقال الله تعالى: { إني أعلم ما لا تعلمون } اي اعلم من المصالح في ذلك ما هو خفي عليكم. قال جار الله: فإن قلت: فهلا يتولهم تلك المصالح؟ قلت: كفى العباد أن يعلموا أن افعال الله كلها حسنة وحكمة وان خفي عليهم وجه الحسن، والحكمة على انه تعالى قد بين لهم بعض ذلك بما اتبعه بقوله: { وعلم آدم الأسماء كلها } في تسميته بآدم أقوال: أحدها لأنه خلق من أديم الارض، وقيل: من الآدمة في اللون، وقيل: لاجتماعة بحواء، { الأسماء } أي اسماء المسميات، أراد الأجناس التي خلقها الله تعالى وعلمه ان هذا اسم فرس، وهذا اسم بعير، وهذا اسم كذا، وهذا اسم كذا، وقيل: علمه أسماء الملائكة وذريته وكان آدم (عليه السلام) يتكلم بسبع مائة الف لغة أفضلها العربية. { ثم عرضهم على الملائكة } أي المسمين بالاسماء، لأن العرض على الاسماء لا يصح. { فقال أنبئوني } قال جار الله: وانما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الانباء على سبيل السكت. { إن كنتم صادقين } يعني في زعمكم اني استخلف في الارض مفسدين سافكين للدماء أراد الرد عليهم وانه اعلم منهم بذلك. { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } السجود لله على سبيل العبادة، ولغيره على وجه التكرمة كما سجدت الملائكة لآدم (عليه السلام) وابوا يوسف واخوته له، وقيل: كان انحناء يدل على التواضع. { إلا إبليس } استثناء متصل وكان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن وكان اسمه عزرايل، وكان من ذوي الأجنحة الأربعة، وقيل: استثناء منقطع فان الله تعالى لما خلق الارض أسكن الجن فيها فعصوا وسفكوا الدماء، وأفسدوا فيها، فبعث الله عليهم جندا من الملائكة فقتلوهم، وأسروا عدو الله ابليس، نعوذ بالله منه، وأقام يعبد الله تعالى معهم تارة في الارض وتارة في السماء، قيل: خمسة آلاف عام، وقيل: ثلاثة آلاف عام، وكان أشد الملائكة عبادة واجتهادا، وهو معنى قوله:
كان من الجن
[الكهف: 50] ومعنى قوله: { وكان من الكافرين }. { اسكن انت وزوجك الجنة } هي حواء خلقت من باقي الطين الذي خلق منه آدم (عليه السلام) وقيل: من ضلع آدم وهي القصيرة، { الجنة } قيل: كانت جنة في السماء غير جنة الخلد، وقيل: كانت جنة في الأرض. { ولا تقربا هذه الشجرة } قيل: هي الحنطة، وقيل: العشب، وقيل: التين، وقيل: النخلة. { وقلنا اهبطوا } خطاب لآدم وحواء وابليس. { فتلقى آدم من ربه كلمات } قيل: تلقن، وقيل: قبل، واختلفوا في هذه الكلمات على أقوال: فالذي ذكره الفقيه احمد بن مفضل رحمه الله ورواه ايضا في الثعلبي وهو ايضا رواية اهل البيت (عليهم السلام): " ان آدم لما خرج من الجنة رأى عن يمين العرش أشباحا خمسة، فقال آدم: يا رب ما هؤلاء؟ قال: صفوة من نوري فأنا الله المحمود وهذا محمد، وأنا المتعالي وهذا علي، وأنا الفاطر وهذه فاطمة، وأنا المحسن وهذا الحسن، ولي الاسماء الحسنى وهذا الحسين، قال آدم (عليه السلام): فبحقهم اغفر لي ". وقيل: هو قوله تعالى:
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
[الأعراف: 23] وقيل: ثلاثة أشياء الحياء والدعاء والبكاء. ذكر الثعلبي: أن آدم (عليه السلام) لما هبط الى الارض مكث في الارض ثلاثمائة سنة لا يرفع له رأسا حياء من الله. قال ابن عباس: بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنة مائة سنة، ولم يقرب آدم حواء مائة سنة. { فتاب عليه } وتجاوز عنه. { إنه هو التواب الرحيم } يقبل توبة عباده، رحيم بخلقه، وانما جرى على آدم ما جرى تعظيما لخطيئته، ولطفا لذريته في اجتناب الخطايا، وان آدم خرج من الجنة بذنب واحد فكيف يدخلها من له خطايا جمة ولله القائل:
يا ناظرا يريق بعيني راقد
وشاهدا للأمر غير شاهد
تصل الذنوب الى الذنوب وترتجي
درك الجنان بها وفوز الخالد
أنسيت ان الله اخرج آدما
منها الى الدنيا بذنب واحد
[2.40-46]
{ يا بني اسرائيل } اي يا أولاد يعقوب، قال في الثعلبي معنى اسرائيل صفوة الله تعالى، وقيل: معناه عبد الله، وقيل: سمي بذلك لأن يعقوب وعيصا كانا توأمين، فأراد يعقوب ان يخرج فمنعه عيص، وقال: والله لئن خرجت قبلي لأعترضن في بطن امي ولأقتلها، فتأخر يعقوب وخرج عيص قبله ويعقوب بعده، فسمي يعقوب وأولاد يعقوب نسبهم إلى الاب كما قال تعالى:
يا بني آدم
[الأعراف: 26] { اذكروا نعمتي } يعني ما أنعم الله به عليهم في الدنيا والدين، وما يصل إليهم من الرزق حالا بعد حال، وما أنعم عليهم وعلى آبائهم مما عد عليهم من الانجاء من فرعون وعذابه، ومن الغرق، ومن العفو عند اتخاذ العجل والتوبة عليهم وغير ذلك، وما أنعم الله عليهم من ادراك محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) المبشر به في التوراة والانجيل. { وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم } الآية، نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه من أحبار اليهود، وكان لهم مال يأخذونه من عوامهم كل سنة، فخافوا ان صدقوا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يفوتهم ذلك، فكتموا أمره وأظهروا عداوته ، فنزل قوله تعالى: { ولا تشتروا بآياتي } الآية. { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } الآية، نزلت في اليهود، قيل: بالتمسك بكتابكم، وتتركون التمسك به انتم لانكاركم ما فيه من صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقيل: بالطاعة، وقيل: بالصدقة، وقيل: هو عام في كل من أمر بالشيء ولا يفعله. { واركعوا مع الراكعين } خطاب لليهود لأنه لم يكن في صلاتهم ركوع. { واستعينوا بالصبر والصلاة } يعني الصلاة والصبر، وقيل: اجابة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
[2.47-54]
{ واتقوا يوما لا تجزي نفس } الآية، نزلت في اليهود حيث انهم ادعوا انهم أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: سيشفع لنا آباؤنا، فأنكر الله عليهم، وقيل: الآية عامة. { وإذ أنجيناكم من آل فرعون } يعني قومه وأهله وأتباعه وأهل دينه. { يسومونكم } يعذبونكم. { سوء العذاب } أي أشده ونهايته وهو ذبح العيال. { وإذ فرقنا بكم البحر } يعني اذكروا ما أنعم الله به على آبائكم مما عدد عليهم من الانجاء من فرعون وعذابه، ومن الغرق، ومن العقوبة من اتخاذ العجل والتوبة عليهم وغير ذلك، وما أنعم عليهم من إدراك زمن محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) المبشر به التوراة والانجيل، وفيه حذف والكلام فيه يطول وذكر الثعلبي ان أصحاب موسى الذين فرق بهم البحر ستمائة ألف مقاتل وعشرون ألف مقاتل، وفرعون وأصحابه يقدمهم هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف، وكان فيهم سبعون ألفا من دهم الخيل والله أعلم، أهلكهم الله تعالى على يد موسى في البحر. { وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة } وذلك أن بني اسرائيل لما أمنوا عدوهم دخلوا مصرا بعد هلاك فرعون وجنوده، ولم يكن لهم كتاب يهتدون به، فوعد الله موسى (عليه السلام) أن ينزل عليهم التوراة فقال موسى لقومه: إني ذاهب لميقات ربي، وآتيكم بكتاب فيه بيان لكم ووعدهم أربعين ليلة: ثلاثين من ذي القعدة وعشرا من ذي الحجة، واستخلف عليهم هرون (عليه السلام) وقوله تعالى: { ثم اتخذتم العجل } وكان العجل من ذهب يخور احتاله السامري، وقيل: هو من قوله:
فقبضت قبضة من أثر الرسول
[طه: 96] { من بعده } اي من بعد مضيه الى الطور. { وأنتم ظالمون } بإشراككم. { ثم عفونا عنكم } حين تبتم من بعد ارتكابكم الامر العظيم، وهي عبادة البقر التي هي أمثلة للعرب: أبلد من ثور. { وإذ آتينا موسى الكتاب } التوراة. { والفرقان } هو النصر الذي فرق بينه وبين عدوه، وقيل: الفرقان القرآن، تقديره: آتينا موسى الكتاب ومحمد الفرقان، وقيل: التوراة والانجيل. { وإذ قال موسى لقومه } عند ان رجع من جبال الطور وذلك ان موسى (عليه السلام) صار بين امرين فأصحابه من بعده عبدوا العجل، وقالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى، فرجع موسى وتابوا فأوحى الله اليه أن { اقتلوا أنفسكم } وقيل: الذين لم يعبدوا العجل قتلوا الذين عبدوا العجل، وموسى وهارون يقولان يا رب البقية هلك بنو اسرائيل، وكانت القتلى سبعين ألف. { بارئكم } البارئ الخالق الذي خلق الخلق.
[2.55-60]
{ واذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } يعني عيانا، وفي هذا الكلام دليل واضح على ان من اجاز على الله الرؤية فقد جعله من جملة الاجسام والاعراض تعالى الله عن ذلك، القائلون بالرؤية هم السبعون الذين صعقوا لقوله تعالى: { فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون } قيل: اماتهم، وقيل نار من السماء وقعت عليهم فأحرقتهم، فخروا صعقين ميتين يوما وليلة، وموسى (عليه السلام) لم تكن صعقته موتا ولكن غشي عليه، وذلك ان موسى (عليه السلام) لما صعقوا جعل يتضرع ويبكي ويقول: يا رب ماذا أقول لبني اسرائيل اذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم، ويقولوا أفتهلكنا بما فعل السفهاء منا، ولم يزل موسى يتضرع حتى احياهم الله جميعا رجلا بعد رجل، ينظر بعضهم الى بعض كيف يحيون. { وظللنا عليكم الغمام } في التيه تقيكم حر الشمس، وذلك انهم كانوا في التيه، وليس لهم كن من الشمس، فشكوا ذلك الى موسى فأنزل الله تعالى عليهم غماما ابيض، فقالوا لموسى: هذا الظل حصل فأين الطعام فأنزل الله تعالى { المن } قيل هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار وطعمه كالشهد وقيل: الخبز الرقاق، وقيل: المن العسل، وقيل: ماء يشربونه، وقيل: شيء يقع على الأشجار بالأسحار، فقالوا: يا موسى هذا المن فأين اللحم؟ فدعا الله موسى فأنزل الله تعالى عليهم { السلوى } قال عكرمة: هو طير اكبر من العصفور. { وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم } يعني ظلموا بأن كفروا هذه النعم. { وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } قيل: بيت المقدس، وقيل: اريحا، وقيل: الاردن، وقيل: فلسطين. { وادخلوا الباب سجدا } امروا بالسجود عند الانتهاء الى الباب تواضعا لله تعالى، وقيل: بخشوع. { حطة } يعني حط عنا ذنوبنا. وعن ابن عباس قول لا اله الا الله فانها تحط الذنوب. { فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم } قيل: قالوا: مكان حطة حنطة حمراء استهزاء منهم. { فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا } قيل: الرجز العذاب، وروي انه مات منهم أربعة وعشرون ألفا في ساعة، وقيل: سبعون، وقيل: سبعون ألفا عطشا. { فقلنا اضرب بعصاك الحجر } الالف واللام في الحجر، قيل: للجنس أي حجر كان، وقيل: للعهد وكان حجرا مربعا، وقيل: مدورا، وقيل: كان مربعا له أربعة وجوه كان ينبع من كل وجه ثلاث أعين لكل سبط عين، وكانوا ستمائة ألف وسبعة، وقيل: اهبط آدم من الجنة واهبط معه الحجر وتوارثوه حتى وصل الى شعيب، فدفعه الى موسى مع العصا، وقيل: هو الحجر الذي وضع عليه ثوبه حين اغتسل اذ رموه بالأدرة. روي ان موسى ذهب يغتسل فوضع ثيابه على حجر فمر الحجر بثوبه، فخرج موسى في أثره يقول: ثوبي ثوبي يا حجر، حتى نظرت بنو اسرائيل الى موسى فقالوا: والله ما بموسى من بأس، قال: فقام بعدما نظروا اليه فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا وهو من قوله عز وجل:
آذوا موسى
[الأحزاب: 69] الآية والله أعلم بصحة الخبر.
[2.61-66]
{ يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها } البقل المعروف. { وفومها } قيل: الحنطة، وقيل: الثوم، ويدل عليه قراءة ابن مسعود وثومها. { تستبدلون الذي هو أدنى } أدون منزلة، وأدون قدرا. { اهبطوا مصرا } قيل: هي مصر المعروفة، وقيل: انها مصر من أمصار الشام. { وضربت عليهم الذلة والمسكنة } جعلت الذلة محطية بهم، مشتملة عليهم، والمسكنة هي الفقر. { إن الذين آمنوا } بألسنتهم وهم المنافقون. { والذين هادوا } وهم اليهود وسموا بذلك لأنهم يهودون اي يتحركون اذا قرأوا التوراة، وقيل: نسبوا الى يهود بن يعقوب. { والنصارى } قيل: سموا بذلك لأن الحواريين قالوا: نحن أنصار الله، وقيل: نسبوا الى بلدهم قرية يقال لها ناصرة. { والصابئين } وهم قوم عدلوا عن دين اليهودية والنصرانية وعبدوا الملائكة. { من آمن بالله } من هؤلاء. { وعمل صالحا } ايمانا خالصا ودخل في ملة الإسلام. { فلهم أجرهم } الآية، { وإذ أخذنا ميثاقكم } بالعمل على ما في التوراة. { ورفعنا فوقكم الطور } وهو الجبل وذلك ان الله تعالى أنزل التوراة على موسى فأمر قومه بالعمل بها فقالوا: يا موسى تكليفها شديد وأبوا، فأمر الله تعالى جبرائيل فقطع جبلا على قدر معسكرهم فرفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة. وعن ابن عباس أمر الله جبلا فقطع من أصله حتى قام على رؤوسهم حتى كأنه ظلة فلما رأوا ذلك قبلوا وقالوا: سمعنا وأطعنا ولولا الجبل ما أطعنا، روي ذلك في الثعلبي. { خذوا ما آتيناكم } من الكتاب { بقوة } اي بجد وعزيمة. { ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } لأن ناسا منهم اعتدوا فيه أي جاوزوا ما حد لهم، وذلك ان الله تعالى ابتلاهم فما كان يبقى حوت في البحر الا أخرج خرطومه يوم السبت، فإذا مضى تفرقت كما قال تعالى:
تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم
[الأعراف: 163] فاتخذوا حياضا عند البحر وكان الحيتان يدخلها يوم السبت فيصطادوها يوم الاحد فذلك اعتداءهم. { فقلنا لهم كونوا قردة } قيل: صاروا قردة لم يأكلوا ولم يشربوا حتى ماتوا، وقيل: عاشوا وصار لهم أولاد ونسل، وقيل: الخاسئون هم الذين لا يتكلمون، وقيل: الخاسئ المتباعد بطرد، قيل: قرية السبت ايلة، وقيل: الطبرية وكانوا سبعين ألفا. { فجعلناها } يعني المسخة. { نكالا } عبرة. { لما بين يديها } لما قبلها. { وما خلفها } وما بعدها من الأمم والقرون، وقيل: عقوبة منكلة لما بين يديها يعني لأجل ما يقدمها من ذنوبهم. { وموعظة للمتقين } الذين نهوهم عن الاعتداء من صالحي قومهم.
[2.67-74]
{ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } الآية، قال الثعلبي: وذلك أنه وجد قتيل من بني اسرائيل اسمه عاميل ولم يدروا من قتله واختلفوا في سبب قتله، قيل: كان رجلا كثير المال وله ابن عم مسكين لا وارث له غيره فلما طال عليه موته قتله ليرثه، وقيل: كان لعاميل هذا ابنة يضرب بها المثل في بني اسرائيل في الحسن والجمال فقتل ابن عمها أباها لينكحها، وقيل: قتله ابن أخيه لينكح ابنته فلما قتل حملوه من قرية الى قرية أخرى وألقوه هناك، وقيل: بل بين قريتين فسألوا موسى عن ذلك فسأل ربه وأمرهم بذبح بقرة فقال لهم موسى: { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } قالوا: يا موسى أتهزأ بنا سألناك عن القتيل وتأمرنا بذبح بقرة؟! وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لو اعترضوا أدنى بقرة لكفتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم "
والاستقصاء شؤم. قال جار الله: السبب في البقرة ان كان في بني اسرائيل شيخ فقتلوه بنو اخيه ليرثوه فطرحوه على باب مدينة ثم جاؤوا يطالبون بدمه فأمرهم الله تعالى على لسان موسى أن يذبحوا بقرة، قيل: أقاموا يطلبون البقرة أربعين سنة وأراد الله ما أراد من غلاء هذه البقرة عليهم لأن رجلا صالحا خلفها لولده فبارك الله فيها حتى استغنى اليتيم، وقيل: وجدوا البقرة مع رجل كان بارا بوالدته، وقيل: مع رجل كان بارا بوالديه، وقيل: اشتروا البقرة بملء مسكها ذهبا. { لا فارض } الفارض المسنة وسميت فارضا لأنها فرضت أي بلغت. { ولا بكر } البكر: الفتية { عوان } العوان: النصف. { فاقع } هي أشد ما يكون من الصفرة. { لا ذلول } يعني بقرة غير ذلول لم تكن تحرث ولا لشيء. { مسلمة } سلمها الله تعالى من العيوب. { لا شية فيها } اي لا لمعة فيها من لون اخر سوى الصفرة فهي صفراء كلها حتى قرنها وظلفها. { قالوا الآن جئت بالحق } أي بحقيقة وصف البقرة. { فذبحوها } اي فحصلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف فذبحوها. { وما كادوا يفعلون } قيل لغلاء ثمنها لأن صاحبها قال: لا يبيعها إلا بملء مسكها ذهبا، وقيل: لوزنها ، وقيل: ما كادوا يفعلون لخوف الفضيحة في ظهور القاتل، وقيل: لخشية العار. { وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها } فاختلفتم واختصمتم، وهو ما تقدم ذكره. { اضربوه ببعضها } اي ببعض البقرة، واختلفوا، فقيل: لسانها، وقيل: فخذها اليمنى، وقيل: الاذن، وقيل: غير ذلك. وروي أنهم لما ضربوه قام بإذن الله تعالى وأوداجه، تشخب دما، وقال: قتلني أبناء أخي فلان وفلان ثم سقط ميتا كما كان فقتلوهما به ولم يورث قاتل من ذلك اليوم. { ويريكم آياته } على انه قادر على كل شيء. { ثم قست قلوبكم } استعاد القسوة من بعد ذكر ما يوجب لين القلب ورقته { من بعد ذلك } أشار الى إحياء ذلك القتيل أو الى جميع ما تقدم من الآيات. { فهي كالحجارة } أي فهي في قسوتها مثل الحجارة. { أو أشد قسوة.. وان من الحجارة لما يشقق فيخرج منه الماء } فينبع منه الماء. { وإن منها لما يهبط } يتردى من أعلى الجبل، والخشية في الحجارة مجاز عن انقيادها لأمر الله تعالى.
[2.75-82]
{ أفتطمعون } الخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين. { أن يؤمنوا لكم } اي يحدثون الايمان لأجل دعوتكم. { وقد كان فريق منهم } طائفة ممن سلف منهم. { يسمعون كلام الله } يعني ما يتلونه من التوراة ثم يحرفونه كما حرفوا صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وآية الرجم، وقيل: كان قوم من السبعين المختارين سمعوا كلاما حين كلم الله تعالى موسى بالطور وما أمر الله به ونهى ثم قالوا: سمعنا الله تعالى يقول في آخر كلامه: ان استطعتم ان تفعلوا هذه الاشياء فافعلوا وان شئتم فلا تفعلوا ولا بأس عليكم. { وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا } الآية،
" نزلت في بني قريظة قال لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا اخوان القردة والخنازير " ، قالوا: من أخبر محمدا بهذا ما خرج إلا منكم "
عن مجاهد، وقيل: كان ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا فكانوا يحدثون المؤمنين بما عذب به أسلافهم، فقال بعضهم لبعض: أتقولون ذلك لهم ليقولوا نحن أكرم على الله منكم، وقيل: ان قوما من اليهود قالوا للشيخين أبا بكر وعمر: انا آمنا لأنا نعلم أنه نبي ونجد صفته في التوراة فلما خلوا الى رؤسائهم قالوا لهم: { قالوا أتحدثونهم بما } قص { الله عليكم } من صفة محمد لتكون الحجة عليكم لهم. { ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني } والكتاب التوراة، الأماني ما هم عليه من أمانيهم من ان النار لا تمسهم الا اياما معدودة، وقيل: أكاذيب مختلفة. { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } الآية، قيل: نزلت في أحبار اليهود وعلمائهم الذين حرفوا التوراة على العوام وذلك انهم عرفوا زوال رئاستهم فغيروا صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). { وويل لهم مما يكسبون } من الرشا. { وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } قيل: أربعين يوما عدد أيام عبادة العجل، وقيل: كانوا يقولون مدة الدنيا عندهم سبعة آلاف سنة وانما نعذب مكان كل سنة يوما. { بلى } أي بلى تمسكم أبدا بدليل قوله تعالى: { هم فيها خالدون }. { من كسب سيئة } من السيئات يعني كبيرة من الكبائر. { وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وسأل رجل الحسن عن الخطيئة فقال: " سبحان الله ألا أراك ذا لحية وما تدري ما الخطيئة انظر في المصحف فكل آية نهاك الله تعالى عنها واخبرك انه من عمل بها دخل النار فهي الخطيئة المحبطة ".
[2.83-88]
{ وقولوا للناس حسنا } قيل: هو عام في جميع الأفعال، وقيل: في بيان صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم } على طريق الالتفات أي توليتم عن الميثاق ورفضتموه. { إلا قليلا منكم } هم الذين أسلموا منهم. وأنتم معرضون وأنتم قوم عادتكم الاعراض عن المواثيق والتولية. { وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم } معناه لا يسفك بعضكم دم بعض، وقيل: اذا قتل غيره فكأنما قتل نفسه لأنه يقتص منه. { ولا تخرجون أنفسكم } لا يفعل ذلك بعضكم ببعض. { ثم أقررتم } بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه. { وأنتم تشهدون } عليها كقوله: فلان مقر على نفسه بكذا. { ثم انتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } قيل: ان الله عز وجل أخذ على اليهود عهودا منها ترك القتال، وترك الاخراج وترك المظاهرة، فأعرضوا عن كل ما أمر الله به إلا الفداء وهو قوله تعالى: { أفتؤمنون ببعض الكتاب } اي بالفداء. { وتكفرون ببعض } اي بالقتل والإجلاء وذلك ان بني قريظة كانوا حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، وكان كل فريق يقاتل مع حلفائه فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم واذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فعيرتهم العرب وقالت: كيف تقاتلونهم: ثم تفدونهم؟! فيقولون: أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكنا نستحيي أن نذل حلفاءنا. { فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا } والخزي هو قتل بني قريظة وأسرهم واجلاء بني النضير، وقيل: الجزية وانما رد من فعل ذلك منهم. { إلى أشد العذاب } لأن عصيانه أشد. { وما الله بغافل عما تعملون } قرئ بالياء والتاء. { أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب } يعني عذاب الدنيا بنقصان الجزية ولا ينصرهم احد بالدفع، وكذلك عذاب الآخرة. { ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل } يعني اتبعنا على اثره الكثير من الرسل يعني رسولا بعد رسول. { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } المعجزات الواضحات والحجج كاحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص. { وأيدناه بروح القدس } قيل: يعني روحه وصفها بالطهارة، وقيل: الاسم الأعظم الذي كان يحي به الموتى عن ابن عباس، وقيل: بجبريل، وقيل: بالانجيل. { أفكلما جاءكم رسول } بالحق. { أستكبرتم } عن الإيمان { ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون } { وقالوا قلوبنا غلف } يعني مغطاة عما جاء به محمد (عليه السلام). { فقليلا ما يؤمنون } يعني إيمانا قليلا يؤمنون ويجوز أن يكون القلة بمعنى العدم.
[2.89-95]
{ ولما جاءهم كتاب من عند الله } وهو القرآن. { مصدق لما معهم } من كتابهم. { وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا } يستنصرون على المشركين، نزلت الآية في بني قريظة والنضير اذا قاتلوهم قالوا: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي نجد نعته وصفته في التوراة، فلما بعث من العرب ولم يكن منهم كفروا به وجحدوه كما قال تعالى: { فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين } فقال لهم معاذ بن جبل وبشير: يا معاشر اليهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن اهل شرك، وتصفونه وتذكرونه أنه مبعوث، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو الذي كنا نذكره لكم فنزلت الآية عن ابن عباس، وقيل: معناه تستفتحون تفتحون عليهم وتعرفونهم ان نبيا منهم يبعث قد قرب. { بئس ما اشتروا به انفسهم } يعني بئس شيئا اشتروا به انفسهم، والمخصوص بالذم { ان يكفروا } ، واشتروا بمعنى باعوا. { بغيا } حسدا، وطلبا لما ليس لهم. { ان ينزل الله من فضله } الذي هو الوحي. { على من يشاء } وتقتضي حكمته. { فباؤوا بغضب على غضب } فصاروا أحقاء بغضب مترادف لانهم كفروا بنبي الحق وبغوا عليه، وقيل: معنى فباؤوا بغضب على غضب الاول بكفرهم بعيسى ابن مريم والثاني بكفرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتبديل نعته في كتابهم. { واذا قيل لهم آمنوا بما انزل الله قالوا نؤمن بما انزل علينا } ارادوا التوراة. { ويكفرون بما وراءه } وهو القرآن. { وهو الحق مصدقا لما معهم } غير مخالف له. { ولقد جاءكم موسى بالبينات } بالمعجزات. { ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون } وانتم عادتكم الظلم. { ورفعنا فوقكم الطور } وكرر رفع الطور لما نيط به من زيادة ليست مع الأولى مع ما فيه من التوكيد. { خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا } ما امرتم به. { قالوا سمعنا } قولك. { وعصينا } امرك. { وأشربوا في قلوبهم العجل } أي حبه، والحرص على عبادته، وقد تقدم الكلام فيه. { قل بئس ما يأمركم به إيمانكم } بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة عجل. { قل إن كانت لكم الدار الاخرة عند الله خالصة } الآية نزلت في اليهود لما ادعوا انهم أبناء الله واحباؤه، وقولهم:
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
[البقرة: 80] فقال تعالى: { فتمنوا الموت } لانه من أيقن انه من اهل الجنة اشتاق اليها، وتمنى سرعة الوصول الى دار النعيم، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" لو تمنوا الموت ما بقي على وجه الأرض يهودي "
{ ولن يتمنوه أبدا بما قدمت ايديهم } بما سلف من موجبات الكفر بمحمد وما جاء به وتحريف كتاب الله وسائر انواع الكفر. { والله عليم بالظالمين } تهديد لهم. { ولن يتمنوه أبدا } من المعجزات لانه اخبار بالغيب وكان كما اخبر به كقوله تعالى:
فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا
[البقرة: 24].
[2.96-102]
{ قل من كان عدوا لجبريل } الآية، قيل:
" ان حبرا من أحبار اليهود يقال له عبد الله بن صوريا من فدك جاء الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يسأله عن أشياء فلما اتجهت الحجة عليه قال اي ملك يأتيك من السماء قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " جبريل ". قال: ذلك عدونا من الملائكة فلو كان ميكايل مكانه لآمنا بك "
هذا عن ابن عباس، فإن جبريل ينزل علينا بالعذاب والشدة، ويطلع محمد على أسرارنا، وهو صاحب كل خسف، وقيل: نزلت في اليهود وذلك انهم قالوا: ان جبريل عدونا امر ان يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا، وميكايل يجيء بالخصب والسلام، فقال لهم: وما منزلتهما من الله؟ قالوا: أقرب منزلة جبريل عن يمينه، وميكايل عن يساره وميكايل عدو لجبريل فقال لهم عمر: لئن كان كما تقولون لأنتم اكفر من الحمير، من كان عدوا لأحدهما كان عدوا للآخر، ومن كان عدوا لهما كان عدوا لله. { من كان عدوا لله } الآية معنى ذلك
" أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سأله اليهود: من الذي يأتيه؟ فقال لهم: " جبريل " فقالوا له: نحن أعداء جبريل وهو عدونا لأنه لا ينزل عليك الا بالابطال لأمرنا "
، ومعنى { عدو للكافرين } فإنه مهلكهم ومحريهم، ومعنى ميكايل فانهم سألوا: من اين يأخذ جبريل الوحي؟ فقال: من ميكايل فقالوا: وهو ايضا عدونا. { ولقد أنزلنا إليك آيات بينات } الآية، نزلت في اليهود، وقيل نزلت في عبد الله بن صوريا، قيل: قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما كان بينهما من المحاجة وفي حديث جبريل (عليه السلام): ما جئتنا بشيء نعرفه، وما انزل عليك من آية بينة فنتعبك، فنزلت الآية { ولقد أنزلنا إليك } يا محمد. { آيات } معجزات قيل: القرآن، وقيل: علم التوراة والانجيل ، كما قال تعالى:
يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب
[المائدة: 15]. { وما يكفر بها إلا الفاسقون } المتمردون في كفرهم. { وكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم } نزلت في بني قريظة، عاهدوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عهودا منها ان لا يعينوا عليه الكفار ثم نقضوا العهد يوم الخندق، واعانوا قريشا وارادوا ان يلقوا عليه حجرا، فاخبر الله تعالى بذلك، { نبذ فريق } هذا مثل لمن يستخف الشيء والعمل به، والنبذ هو الطرح، وقيل: نبذوا العمل به، ولم يحلوا حلاله، ولا حرموا حرامه. { كأنهم لا يعلمون } انه كتاب الله تعالى. { واتبعوا ما تتلوا الشياطين } أي نبذوا كتاب الله، واتبعوا ما تتلوا الشياطين يعني اتبعوا كتب السحرة التي كانوا يقرؤونها. { على ملك سليمان } أي على عهد ملكه في زمانه، وذلك ان الشياطين كانوا يسترقون السمع ثم يضمون الى ما سمعوا أكاذيب، ويلقونها الى الكهنة، وقد دونوها في كتب يقرؤونها، ويعلمونها الناس، وفشا ذلك في زمن سليمان حتى قالوا: ان الجن تعلم الغيب، وكانوا يقولون: هذا علم سليمان، وما تم لسليمان ملكه الا بهذا العلم، وبه يسحر الانس والجن والرياح { وما كفر سليمان } تكذيب للشياطين.
{ ولكن الشياطين كفروا } باستعمال السحر. { يعلمون الناس السحر } ويقصدون به اغواءهم وإضلالهم. { وما أنزل على الملكين } عطف على السحر، أي يعلمونهم ما انزل الله على الملكين. { ببابل هاروت وماروت } عطف بيان للملكين والذي انزل عليهما هو علم السحر، ابتلاء من الله للناس من تعلمه منهم وعمل به كان كافرا، ومن تجنبه أو تعلمه لا ليعمل به ولكن ليتوقاه وان لا يعتريه كان مؤمنا، قال الشاعر:
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لم يعرف الشر من الخير يقع فيه
روى ذلك جار الله وقرأ الحسن الملكين بكسر اللام، وهو ايضا قراءة ابن عباس، وقال ابن عباس: وهما رجلان ساحران كانا ببابل لأن الناس لا يعلمون الناس السحر، وقيل: انهما نزلا ليعلمان الناس كيفية السحر وابطاله، لانك لا تعلم بابطال الشيء مهما لم تعلمه في نفسه. { ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم } دليل على انهم استعملوه على خلاف ما أمروا به من تعليمه، وقد روي في سبب نزولهما وجوه: أحدها: ان السحر كثر في زمن ادريس واستنبطت ابوابا غريبة، فأنزل الله تعالى ملكين يعلمان الناس السحر، وقد قيل: ان ما نافية. { ولقد علموا لمن اشتراه } بمعنى علم هؤلاء اليهود لمن اشتراه، أي استبدل ما تتلوا الشياطين على كتاب الله تعالى. { ما له في الآخرة من خلاق } اي من نصيب، وقيل: من وجه عند الله، وقيل: كذا عن دين. { ولبئس ما شروا به أنفسهم } أي باعوها. { لو كانوا يعلمون } اي ثواب الله خير مما هم فيه، ولقد علموا لكنهم لجهلهم لترك العمل بالعلم كأنهم منسلخون عنه.
[2.103-105]
{ ولو انهم آمنوا } برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). { واتقوا } بترك ما هم عليه من نبذ كتاب الله، واتباع كتب الشياطين. { لمثوبة } يعني لكان ثواب الله خيرا لهم. { يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا } الآية، قيل: كان المسلمون يقولون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اذا ألقي عليهم شيئا من العلم راعنا يا رسول الله، وكانت بلغة اليهود شيئا معناه اسمع لا سمعت فلما سمعوا بقول المؤمنين فرحوا بذلك وخاطبوا به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم يعنون بذلك تلك السبة فنهى المؤمنين عنها، وامروا بما هو في معناها وهو { انظرنا } أي امهلنا حتى نحفظ { واسمعوا } اي احسنوا سماع ما يكلمكم به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويلقي عليكم بآذان واعية وأذهان حاضرة { أن ينزل عليكم من خير } من الوحي. { والله يختص برحمته } بالنبوة.
[2.106-110]
{ ما ننسخ من آية أو ننسها } روي ان المشركين قالوا: ألا ترون الى محمد يأمر اصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ويأتي بخلافه من تلقاء نفسه، فنزلت الآية، ونسخ الآية ازالتها بانزال اخرى مكانها، وهو أن يأمر جبريل أن يجعلها منسوخة بالاعلام. { بخير منها } للعباد أي بآية العمل بها اكثر للثواب { أو مثلها } في ذلك، واجماع المسلمين على ان في القرآن ناسخا ومنسوخا ، والكلام فيه يطول. والمعهود انه يأتي على ثلاثة أوجه: احدها: ما نسخ حكمه وبقي لفظه وهو كثير في القرآن، وقد قيل ان آية السيف وهي قوله تعالى:
اقتلوا المشركين
[التوبة: 5] الى آخرها، نسخت كذا آية قيل: مائة وأربعة وعشرين آية. الثاني: ما نسخ لفظه وبقي حكمه، وذلك ما روي عن عمر أنه قال: الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة نكالا من الله والله تعالى عزيز حكيم. روي ايضا: انه كان في القرآن لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا، ولا على خوف ابن آدم الا التراب ويتوب الله على من تاب. والثالث: ما نسخ لفظه وحكمه والله اعلم. والنسخ برفعك لشيء قد كان يلزم العمل به من قول العرب: نسخت الشمس الظل، أي أزالته وقرأ ابن كثير وابو عمرو أو ننساؤها بالفتح والهمزة، ومعنى ننسها نذهبها من قلبك من النسيان، ومن همزها فمعناه نؤخرها ولا ننسخها، وقيل: ما ننسخ من آية من اللوح المحفوظ للانزال عليك، أو نؤخر انزالها، { نأت بخير منها } ذكره في الغرائب. { له ملك السموات والارض } فهو يملك امرهم. { أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى } الآية: نزلت في عبد الله بن أمية المخزومي، وفي رهط من قريش قالوا: يا محمد اجعل لنا الصفا ذهبا، ووسع لنا ارض مكة، وفجر الانهار تفجيرا نؤمن لك، فنزلت الآية { كما سئل موسى } سأله قومه فقالوا:
أرنا الله جهرة
[النساء: 153] وقيل: انهم يا محمد آتينا بكتاب من السماء جملة واحدة، كما نزلت التوراة نؤمن بك. { ود كثير من اهل الكتاب لو يردونكم } الآية: نزلت في حيي بن أخطب واخيه ياسر دخلا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قدم المدينة، فلما خرجا من عنده قال حيي لأخيه أهو نبي؟ قال: هو نبي، قال: فما له عندك؟ قال: العداوة الى الموت، وهو الذي أثار الحرب يوم الأحزاب عن ابن عباس، وقيل
" في قوم من اليهود قالوا لعمار وحذيفة بعد يوم أحد: لو كان دين محمد حقا ما اصابه هذا فارجعا الى ديننا، فقال عمار: رضيت بالله ربا وبمحمد نبيا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن اماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين اخوانا، وقيل: هو حذيفة الذي قال ذلك، ثم آتيا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبراه بذلك، فقال: أصبتما الخير "
، فنزلت الآية. { حتى يأتي الله بأمره } الذي هو قتل بني قريظة، واجلاء بني النضير واذلالهم بضرب الجزية عليهم.
[2.111-116]
{ وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا او نصارى } لأن اليهود قالوا: لن يدخل الجنة الا من كان على دين اليهودية، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة الا من كان على دين النصرانية { تلك أمانيهم } قيل: أباطيلهم، وقيل: شهواتهم التي اشتهوها وتمنوها على الله تعالى { قل هاتوا برهانكم } اي حجتكم على ذلك، ثم قال ردا عليهم وتكذيبا لهم: { بلى } اي ليس الامر كما قالوا: { من أسلم وجهه لله } قيل: نفسه بأن سلك طريق مرضاته، وقيل: وجهه لطاعته، وقيل: اخلص امره الى الله وهو محسن في عمله فله اجره الذي يستوجبه. { وقالت اليهود ليست النصارى على شيء } الآية وقوله: { وهم يتلون الكتاب } الواو للحال، والكتاب للجنس، أي قالوا ذلك وحالهم انهم من اهل العلم والتلاوة للكتب، وحق من حمل التوراة أو غيرها من كتب الله تعالى ان لا يكفر بالثاني لان كل واحد من الكتابين مصدق للثاني وشاهد بصحته، وكذلك كتب الله تعالى جميعا متواردة في تصديق بعضها بعضا. { كذلك قال الذين } أي مثل ذلك الذي سمعت به عن ذلك المنهاج قال الجهلة الذين { لا يعلمون } ولا كتاب لهم كعبدة الأوثان، روي ان وفد نجران لما قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أتاهم أحبار اليهود فناظروا حتى ارتفعت أصواتهم فقالت اليهود: ما انتم على شيء من الدين وكفروا بعيسى والانجيل، وقالت النصارى لهم نحوه: وكفروا بموسى والتوراة. { فالله يحكم بينهم } اي بين اليهود والنصارى { يوم القيامة } بالقسم لكل فريق منهم من العذاب الذي يستحقه، وعن الحسن: حكم الله بينهم ان يكذبهم ويدخلهم النار. { ومن أظلم ممن منع مساجد الله } الآية نزلت في بخت نصر وأصحابه غزوا اليهود، وخربوا بيت المقدس، وأعانهم على ذلك النصارى، وقيل: هم قريش منعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واصحابه البيت، واخرجوهم من مكة. { وسعى في خرابها } بانقطاع الذكر وتخريب البنيان وينبغي ان يراد ممن منع العموم كما أراد بمساجد الله، ولا يراد بأعيانهم من اولئك النصارى او المشركين. { أولئك } المانعون { ما كان لهم أن يدخلوها } اي ما كان ينبغي لهم ان يدخلوا مساجد الله { إلا خائفين } والمعنى ما كان الحق والواجب الا ذلك لولا ظلم الكفرة وغيرهم، وقيل: ما كان لهم في حكم الله تعالى يعني ان الله تعالى قد حكم وكتب في اللوح انه ينصر المؤمنين، ويقويهم حتى لا يدخلوها الا خائفين، وروي ان بيت المقدس لا يدخله أحد من النصارى الا متنكرا مسارقة، وقال قتادة: لا يوجد نصراني في بيت المقدس الا أبلغ اليه في العقوبة ضربا، وقيل: نادى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان "
قوله تعالى: { ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله } اي فثم القبلة التي أمر الله بالتوجه اليها فعبر عن القبلة بلفظ الوجه، وقيل: هناك الله فادعوا كيف شئتم، وقيل: هناك رضوان الله، وسبب نزول الآية ان جماعة من اصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اصابهم ظلمه في بعض أسفارهم فصلوا فلما اصبحوا نظروا فاذا هم صلوا الى غير قبلة، وقيل: نزلت ردا على المشبهة فيما ذهبوا اليه في اعتقادهم ان الله تعالى في جهة دون جهة. { وقالوا اتخذ الله ولدا } الآية نزلت في اليهود حيث قالوا: عزير ابن الله، وفي نصارى نجران حيث قالوا عيسى ابن الله تعالى.
[2.117-123]
{ وقال الذين لا يعلمون } قيل: هم اهل الكتاب وانما نفى العلم عنهم لأنهم لم يعملوا به، وقيل: هم المشركون. { لولا يكلمنا الله } اي هلا يكلمنا الله بانك رسول الله مثل ما كلم موسى والملائكة استكبارا منهم وعتوا { كذلك قال الذين من قبلهم } أي كفار الامم الماضية. { مثل قولهم تشابهت قلوبهم } اي اشبه بعضها بعضا في الكفر والفسق. { قد بينا الآيات لقوم يوقنون } ينصفون، ويقرون أنها آيات يجب الاعتراف بها، والاذعان لها، والاكتفاء بها عن غيرها. { إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا ولا تسأل } الآية روي انه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" ليت شعري ما فعل أبواي "
، فنهي عن السؤال عن احوال الكفرة والاهتمام بأعداء الله تعالى، وقيل: معناه تعظيم ما وقع فيه الكفار من العذاب، وقيل: { لا تسأل عن أصحاب الجحيم } ما لهم لا يؤمنون بعد أن ابلغت جهدك في دعوتهم، فانك كذا عليك البلاغ وعلينا الحساب. { قل إن هدى الله هو الهدى } يعني ان هدى الله الذي هو الإسلام هو الهدى بالحق والذي يصح ان يسمى هدى الهدى كله ليس وراءه هدى، وما يدعون الى اتباعه ما هو بهدى انما هو هو. { ولئن اتبعت اهواءهم } اي أقوالهم التي هي أهواء وبدع. { بعد الذي جاءك من العلم } أي من الدين المعلوم. { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته } قيل: نزلت في اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آمنوا بالقرآن وصدقوا به، وقيل: فيمن آمن من اهل الكتاب كعبد الله بن سلام وغيره، وقيل: في اهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن ابي طالب من الحبشة وكانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية من رهبان الشام. { حق تلاوته } أي يحلون حلاله ويحرمون حرامه ولا يحرفونه. { ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون } الخاسر ضد الرابح.
[2.124-132]
{ وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات } قيل: خمس في الرأس وخمس في الجسد، فالتي في الرأس قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، والتي في الجسد تقليم الأظفار ونتف الابطين وحلق العانة والختان والاستنجاء، وقيل: عشر في براءة
التائبون العابدون
[التوبة: 112] الى آخر الآية، وعشر في
قد أفلح المؤمنون
[المؤمنون: 1] من أول السورة، وعشر في الأحزاب
إن المسلمين والمسلمات
[الأحزاب: 35] الآية، وقيل: ابتلاه الله بذبح ابنه فصبر على ذلك وابتلاه في ماله بان يجعله للضيفان، وقيل: مناسك الحج، وقيل: هي سبعة أشياء ابتلاه بالكوكب والقمر والشمس فأحسن في ذلك وعلم ان ربه دائم لا يزول وابتلاه بالنار فصبر على ذلك، وابتلاه بالهجرة فصبر، وفي ذبح ابنه فصبر على ذلك، وبالختان فصبر على ذلك. { فأتمهن } اي عمل بهن، وقيل: قام بهن، قال: { إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي } عطف على الكاف كأنه قال: وجاء على بعض ذريتي. { قال لا ينال عهدي الظالمين } وقرئ الظالمون أي من كان ظالما من ذريتك لا يناله استخلاف عهدي اليه بالإمامة، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه ولا شهادته ولا يجب طاعته ولا يقبل خبره ولا يقدم للصلاة فلا يكون الظالم اماما قط؟! وكيف يجوز نصبه للإمامة والإمام انما هو لكف المظالم. { جعلنا البيت مثابة } يثوبون اليه أي يأتونه. { وأمنا } موضع أمان لقوله حرما امنا { واتخذوا } قرئ واتخذوا بكسر الخاء مقام ابراهيم الحجر الذي فيه اثر قدمه وعن عطاء مقام ابراهيم عرفة والمزدلفة والجمار لانه قام في هذه المواضع ودعا فيها، وقيل: الحرم كله مقام ابراهيم. { وعهدنا } أي امرناهما والزمناهما ان { طهرا بيتي } قيل: من الاصنام، وقيل: من الأنجاس، وقيل: من الفرث والدم، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أوحى الله الي يا اخا المرسلين، يا اخا المنذرين، أنذر قومك الا يدخلوا بيتا من بيوتي ولأحد عليهم مظلمة فان اللعنة لا تزال عليهم حتى ترد تلك المظلمة "
روى هذا الخبر في الثعلبي. { للطائفين } هم اليراع اليه من آفاق الارض { والعاكفين } هم المقيمون { والركع السجود } هم المصلون. { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت } القواعد جمع قاعدة وهي الاساس ومعنى رفع القواعد هو رفعها بالبناء فبنى { وإسمعيل } يناوله. وروي انه كان مؤسسا قبل إبراهيم فبنى على البناء، وروي ان الله تعالى انزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زمرد شرقي وغربي، وقال: يا آدم اهبطت لك ما يطاف به كلما يطاف حول عرشي، فتوجه آدم من أرض الهند ماشيا وتلقته الملائكة، فقالوا: بر حجك يا آدم وحج اربعين سنة من أرض الهند الى مكة على رجليه وكان ذلك الى ان رفعه الله أيام الطوفان الى السماء الرابعة وهو البيت المعمور، ثم ان الله تعالى أمر ابراهيم ببنائه وعرفه جبريل مكانه.
{ وأرنا مناسكنا } أي وبصرنا متعبداتنا في الحج، وقيل: الذبائح. { ربنا وابعث فيهم } في الأمة المسلمة. { رسولا } الآية، روي انه قيل له: قد استجيب لك وهو نبي في آخر الزمان فبعث الله فيهم محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" انا دعوة ابي ابراهيم وبشرى عيسى ابن مريم "
{ يتلو عليهم آياتك } يقرأ عليهم ويبلغهم ما يوحى اليه { ويعلمهم الكتاب } القرآن { والحكمة } الشريعة { ويزكيهم } يطهرهم من الشرك وسائر الارجاس. { ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } قيل: ان عبد الله بن سلام دعا ابني اخيه سلمة ومهاجر الى الإسلام وقال: لقد علمتم ان صفته في التوراة فأسلم سلمة وأبى مهاجر فنزلت الآية { ولقد اصطفيناه في الدنيا } اي اخترناه. { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } الفائزين، وقيل: الانبياء. { وأوصى بها إبراهيم بنيه } قيل: بالملة، وقيل: بالإسلام. { ويعقوب } معطوف: على ابراهيم. { يا بني إن الله اصطفى لكم الدين } اعطاكم الدين الذي هو صفوة الأديان، وهو دين الإسلام { فلا تموتن } يعني فلا يكون موتكم الا على كونكم ثابتين على الإسلام.
[2.133-141]
{ أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت } روي ان اليهود قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ان يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية فنزلت الآية { تلك أمة } اشارة الى الأم المذكورة التي هي ابراهيم ويعقوب وبنوهما الموجودون والمعنى ان احدا لا ينفعه كسب غيره متقدما كان أو متأخرا فكما أن أولئك لا ينفعهم الا ما كسبوا كذلك انتم لا ينفعكم الا ما كسبتم. { ولكم ما كسبتم } وذلك انهم افتخروا باوائلهم، ونحوه قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يا بني هاشم لا يأتوني الناس باعمالهم وتأتوني بأنسابكم "
{ ولا تسألون عما كانوا يعملون } ولا تؤاخذون بسيئاتهم كما لا ينفعكم حسناتهم. { قل بل ملة إبراهيم حنيفا } والحنيف المائل عن كل دين باطل الا دين الحق { وما كان من المشركين } تعريض بأهل الكتاب وغيرهم. { قولوا آمنا بالله } الآية، خطاب للمؤمنين ويجوز ان يكون خطابا للكافرين والأسباط السبط الحافد وكان الحسن والحسين (عليهما السلام) سبطي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والاسباط حفدة يعقوب ابناؤه الاثني عشر { لا نفرق بين أحد منهم } أي لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى { فان آمنوا بمثل ما آمنتم به } أي ان آمنوا بالله والنبي والقرآن { فقد اهتدوا وإن تولوا } عما يقولون لهم ولم ينصفوا فما هم الا { في شقاق } اي معاندة لا غير وليسوا من طلب الحق في شيء، أو فإن تولوا عن الشهادة والدخول في الايمان { فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } ضمان من الله لاظهار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد انجز له ما وعده بقتل بني قريظة وسبيهم واجلاء بني النضير بوعده { صبغة الله } الاصل فيه ان النصارى كانوا يغمسون اولادهم في ماء يسمونه العمودية ويقولون: هو تطهير لهم فاذا فعل الواحد منهم ذلك قال: الآن صار نصرانيا حقا، وصبغة الله هي الايمان { ومن أحسن من الله صبغة } يعني أنه يصبغ عباده بالايمان ويطهرهم { ونحن له مخلصون } قيل: ان يخلص العبد عمله ودينه ولا يرائي، ولا يشرك به في دينه ولا يرائي بعمله، وقيل: ان يستوي أفعال العبد في الظاهر والباطن، وفي الحديث:
" لكل حق حقيقة وما بلغ احد حقيقة الإخلاص حتى لا يحب ان يحمد على شيء مما عمله لله تعالى "
، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال:
" سألت جبريل عن الإخلاص ما هو؟ قال: سر من أسراري أستودعه قلب من احب من عبادي "
{ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } يعني التي شهد بها لإبراهيم في قوله:
ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين
[آل عمران: 67] وقيل: ما احد أظلم من اليهود حيث كتموا شهادة الله تعالى لمحمد (عليه السلام) بالنبوة في كتبهم فكتموها .
[2.142-143]
{ سيقول السفهاء من الناس } قال جار الله: السفهاء هم اليهود لكراهتهم التوجه الى الكعبة، وقوله: { ما ولاهم } أي ما صرفهم { عن قبلتهم } وهي بيت المقدس.
النزول: روي انها لما حولت القبلة الى الكعبة عاب الكفار المسلمين على ذلك فنزلت الآية واعلم ان اول ما نسخ من امور الشريعة امر القبلة وذلك ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واصحابه كانوا يصلون بمكة الى القبلة، وقيل: الى بيت المقدس فلما هاجر الى المدينة أمر بالصلاة الى بيت المقدس ليكون أقرب الى تصديق اليهود لأنهم يجدون نعته عندهم كذلك فصلى الى بيت المقدس سبعة عشر شهرا، وقيل: ثمانية عشر شهرا، وقيل: ستة عشر شهرا ونزل عليه جبريل (عليه السلام) فأمره بالصلاة الى الكعبة فقال اهل مكة: يا محمد رغبت عن ملة ابائك ثم رجعت اليها فليرجعون الى دينهم، فلما حولت القبلة الى الكعبة، قالت اليهود: يا محمد ما امرت بهذا او ما هو الا شيء منك تارة تصلي الى بيت المقدس وتارة تصلي الى الكعبة { لتكونوا شهداء على الناس } روي ان الامم يوم القيامة يجحدون تبليغ الانبياء اليهم فيطالب تعالى الانبياء بالبينة على انهم قد ابلغوا وهو اعلم فيؤتى بأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيشهدون فتقول الامم: من اين عرفتم ذلك؟ فيقولون: علمنا ذلك باخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق فيؤتى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله تعالى:
فكيف اذا جئنا من كل امة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا
[النساء: 41] { وما جعلنا القبلة التي كنت عليها } قيل: بيت المقدس الذي كانوا يصلون اليه، وقيل: مكة والكعبة، والمراد التي انت عليها ويحتمل ذلك بمعنى صرت عليها يعني الكعبة { إلا لنعلم من يتبع الرسول } قيل: لنعلم حزبنا من النبي والمؤمنين، وقيل: معناه لنجعل العلم موجودا { ممن ينقلب على عقبيه } قيل: ان قوما ارتدوا عن الإسلام لما حولت القبلة ومعنى على عقبيه انه يكفر بالله ورسوله، وقيل: المراد به كل مقيم على الكفر { وإن كانت لكبيرة } الضمير يعود الى القبلة، قيل: كانت التولية، وقيل: كانت القبلة، وقيل: الصلاة اليها الثقيلة إلا على الذين { هدى الله } مثل علي (عليه السلام) وأتباعه، قال جار الله: الا على الثابتين الصادقين في اتباع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لطف الله بهم وما كان الله ليضيع ايمانكم في ثباتكم على الايمان، وقيل: من صلى الى بيت المقدس قبل التحول فصلاته غير ضائعة.
[2.144-150]
{ وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره } يعني اينما كنتم من مشارق الارض ومغاربها فولوا وجوهكم شطره يعني جهته، وقيل: بعضه { وإن الذين أوتوا الكتاب ليلعمون أنه الحق من ربهم } يعني اليهود اهل التوراة والانجيل انه الحق، قيل: التوجه الى الكعبة حق لانها قبلة ابراهيم (عليه السلام)، وقيل: النبي حق ودينه حق لأنه مذكور في كتبهم، روي ان يهود المدينة ونصارى نجران قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ائتنا بآية كما اتى الانبياء قبلك، فأنزل الله تعالى: { ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية } يعني بكل برهان { ما تبعوا قبلتك } لان تركهم اتباعك ليس عن شبهة انما هو عن مكابرة وعناد { وما أنت بتابع قبلتهم } حسم لأطماعهم لأنهم كانوا يقولون لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو ان يكون صاحبنا { وما بعضهم بتابع قبلة بعض } يعني أنهم مع اتفاقهم على مخالفتك مختلفون وذلك ان اليهود تستقبل بيت المقدس والنصارى مطلع الشمس { ولئن اتبعت أهواءهم } يا محمد في المداراة حرصا على ان يؤمنوا { إنك إذا لمن الظالمين } لنفسك اي قد علمت انهم لا يؤمنون، وقيل: الخطاب للنبي والمراد كل من كان بتلك { الذين آتيناهم الكتاب } الآية نزلت في عبد الله بن سلام، قال له عمر: كيف تعرف نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني اذا رأيته مع الصبيان يلعب وانه لنبي حق { فاستبقوا الخيرات } يعني امر القبلة وغيرها من الطاعات { ومن حيث خرجت } اي ومن اي بلد خرجت للسفر { فول وجهك شطر المسجد الحرام } اذا صليت وهذا التكرار لتأكيد امر القبلة وتشديده، وقيل: الاولى في مسجد المدينة، والثانية خارج المسجد، والثالثة خارج البلد { إلا الذين ظلموا منهم } وهم اهل مكة حين قالوا: بدا له فرجع الى قبلة آبائه وهو اهله رجع الى دينهم، وقيل: هم اليهود قالوا لما انحرف الى الكعبة قالوا: ما هو يعمل الا برأيه وهم يعلمون انه حق { فلا تخشوهم } فلا تخافوا مطاوعتهم في ملتهم فانهم لا يضروكم مطامعهم { واخشوني } فلا تخالفوا أمري { ولأتم نعمتي عليكم } في الآخرة بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بارسال الرسل، وفي الحديث:
" تمام النعمة دخول الجنة "
وعن علي (عليه السلام): " تمام النعمة الموت على الإسلام ".
[2.151-158]
{ كما أرسلنا } اما ان يتعلق بما قبله اي ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بارسال الرسل وبما بعده اي كما ذكرتكم بارسال الرسل { ويعلمكم الكتاب } القرآن { والحكمة } الشرائع والاحكام { فاذكروني } بالطاعة { اذكركم } بالثواب، وقيل: اذكروني بطاعتي اذكركم بمغفرتي، وقيل: اذكروني بالشكر اذكركم بالزيادة، وقيل: اذكروني في النعمة والرخاء اذكركم في الشدة والبلاء { يأيها الذين آمنوا استعينوا } اطلبوا المعونة { بالصبر والصلاة } وانما خصهما لما فيهما من المعونة والصبر وحبس النفس عما تدعو اليه وكذلك الصبر على مشاق الطاعات { إن الله مع الصابرين } يعني بالمعونة والنصر، وقيل: بالتوفيق بالتسديد { ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله } قيل: الآية نزلت في شهداء بدر وكانوا اربعة عشر رجلا وكانوا يقولون مات فلان وانقطع عنه نعيم الدنيا، قيل: هم احياء في قبورهم، وقيل: احياء في الجنة، وقيل: احياء في السماء عند سدرة المنتهى { ولنبلونكم } اي لنختبرنكم ومعناه نعاملكم معاملة المختبر ليظهر المعلوم منكم بشيء قليل من كل واحد من هذه البلايا { من الخوف } خوف العدو { ونقص من الأموال } هلاك المواشي ونقصان الاموال { والأنفس } قيل: بالموت، وقيل: بالقتل، وقيل: بالامراض، وقيل: بالشيب، وقال الشافعي (رحمه الله): الخوف خوف الله والجوع صوم رمضان ونقصان الاموال الزكاة { وبشر الصابرين الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون } المسترجعين عند البلاء،
" وروي انه طفئ سراج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " انا لله وانا اليه راجعون " فقيل: أمصيبة هي؟ قال: " نعم كل شيء يؤذي المؤمن فهو مصيبة "
{ أولئك عليهم صلوات من ربهم } يعني ثناء ومدح وتعظيم { ورحمة } يعني عليهم رأفة بعد رحمة أو رحمة بعد رحمة { وأولئك هم المهتدون } قيل: بهذه الطريقة، وقيل: الى الجنة والثواب { إن الصفا والمروة } روي عن ابن عباس انه كان على الصفا والمروة صنمان وكان اهل الجاهلية يطوفون بينهما فكره المسلمون الطواف بينهما، وقيل: كانت اصناما يعبدونها منصوبة فكره المسلمون الطواف بينهما فنزلت الآية { من شعائر الله } قيل: المناسك، وقيل: من دين الله.
[2.159-169]
{ إن الذين يكتمون } الآية، وقيل: نزلت في اليهود والنصارى، وقيل: هو عام في كل من كتم { ويلعنهم اللاعنون } قيل: الملائكة والمؤمنون، وقيل: دواب الأرض { وإلهكم إله واحد } قيل: قال المشركون: كيف يسع الناس اله واحد فأنزل الله تعالى: { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار } واعتقابهما لأن كل واحد منهما يعقب الآخر، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ويل لمن قرأ هذه الآية فمح بها ولم يتفكر فيها ولم يعتبر بها "
وقيل: اختلافهما في الجنس واللون والطول والقصر، ويقال: لم قدم الليل؟ قلنا: لأن الليل هو الأصل والضياء طارئ عليه لأنه تعالى خلق الارض مظلمة ثم خلق الشمس والقمر، وروي ان المشركين قالوا: أرنا يا محمد آية فنزلت هذه الآية وهي قوله تعالى: { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار } الى قوله: { لآيات لقوم يعقلون } وقيل: لما نزل قوله تعالى: { والهكم اله واحد } قال المشركون: كيف يسع الناس اله واحد فأنزل الله تعالى: { ان في خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر } يعني السفن التي تجري في البحر { بما ينفع الناس } بركوبها والحمل عليها في التجارات والمكاسب { وما انزل الله من السماء من ماء } يعني المطر واختلفوا في الماء المنزل فقيل: انه ينزل من السماء على الحقيقة ولا مانع من ذلك وهو الظاهر، وقيل: انه ينزل من السحاب ، وقال بعضهم: انه تعالى بقدرته يحيل السحاب مياه البحر مع ملوحته ثم ينزل من السحاب بقدر الحاجة عذبا فراتا { فأحيى به الارض بعد موتها } يعني أحيى الارض بالنبات { وتصريف الرياح } تقلبها شمالا وجنوبا وقبولا ودبورا، وقيل: مجيئها مرة بالرحمة ومرة بالعذاب { والسحاب المسخر } أي المذلل يصرفها { بين السماء والارض } كيف يشاء، ان في ذلك { لآيات } يعني لحجج ودلالات { لقوم يعقلون } ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون لانها دلائل على عظيم القدرة وباهر الحكمة { ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا } قيل: أشباها، وقيل: أضدادا { يحبونهم كحب الله } يعني يحبون اصنامهم كحب المؤمنين لله تعالى { ولو يرى الذين ظلموا } قيل: خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد غيره يعني ولو ترى هذا الظالم عند رؤية العذاب كيف يتجادلون لعجبت، وقيل: لو تراهم حين يتبرأ بعضهم من بعض { اذ تبرأ الذين اتبعوا } الآية، قيل: القادة والرؤساء من المشركين، وقيل: هم الشياطين الذين اتبعوا بالوسوسة من الجن، وقيل: شياطين الانس والجن، وقيل: من كان يدعونه شريكا وإلها { بهم الاسباب } قيل: الوصلات التي كانت بينهم { وقال الذين اتبعوا } يعني الاتباع للقادة { لو ان لنا كرة } أي عودة ورجعة إلى الدنيا { يأيها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا } الآية، خطاب لجميع المكلفين من بني آدم، وقيل: الطيب الحلال، وقيل: المستلذ واعلم وفق الله الجميع لما يرضيه أن الله تعالى لما اذن في الحلال كان ذلك منعا من الحرام { خطوات الشيطان } قيل: اعماله، وقيل: خطاياه، وقيل: طاعتكم له { انه لكم عدو مبين } اي ظاهر العداوة.
[2.170-173]
{ واذا قيل لهم اتبعوا ما انزل الله } قيل: نزلت في كفار قريش، وقيل: في اليهود قالوا: ان اباءنا كانوا اعلم منا { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق } الآية روي انها نزلت في اليهود، وقيل: هو عام يعني انهم دعوا الى الاسلام فلم يجيبوا وركنوا الى التقليد ضرب لهم مثلا قال تعالى: { ومثل الذين كفروا } صفتهم { كمثل الذي ينعق } بصوت { بما لا يسمع } من البهائم، قيل: { مثل الذين كفروا } في دعائك اياهم كمثل الناعق في دعائه البهائم التي لا تفهم كالابل والبقر والغنم، وقيل: مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من الاوثان كمثل الناعق في دعائه ما لا يسمع، وقيل: مثل الذين كفروا في قلة فهمهم وعقلهم كمثل الراعي يكلم البهائم وهي لا تعقل، وقيل: مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم كمثل الناعق في دعائه الصدى في الجبل وغيره كذلك يخيل الى هؤلاء المشركين ان دعاءهم للاصنام مستجاب { يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } من مستلذاته لان كل ما رزقه الله لا يكون الا حلالا، وقيل: الطيب الحلال { واشكروا لله } الذي رزقكم اياه { ان كنتم اياه تعبدون } يعني ان كنتم عارفين به وبنعمته يعني لان التمسك بعبادته وحده هو الذي عرفه، وقيل: ان كنتم مخلصين له في العبادة فان قيل: أيجب الشكر بهذا الشرط على المؤمنين أم يجب على الكافرين والفاسقين؟ قلنا: يجب على الجميع { انما حرم عليكم الميتة } وهي ما يموت من الحيوان { والدم } قيل: الدم المسفوح، وقيل: كل دم واختلفوا في دم السمك { ولحم الخنزير } وهو حيوان معروف { وما أهل به لغير الله } قيل: ما ذبح لغير الله، قال جار الله: في معنى ما اهل به اي رفع به الصوت للصنم وذلك قول الجاهلية بسم اللات والعزى { فمن اضطر } قيل: ضرورة مجاعة عند الأكثر، وقيل: اكره { غير باغ ولا عاد } بل غير باغ للذة اي طالب لها { ولا عاد } متجاوز سد الجوعة، وقيل: غير باغ على امام المسلمين من البغي ولا عاد بالمعصية.
[2.174-177]
{ ان الذين يكتمون ما انزل الله من الكتاب ويشترون به } الآية، نزلت في رؤساء اليهود كعب ابن الأشرق وحيي بن اخطب وغيرهم وكانوا يصيبون الهدايا من عوامهم ويرجون كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم فلما بعث من غيرهم خافوا زوال ما كانوا عليه فغيروا صفته وكتموا ما في التوراة فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية، وروي عن ابن عباس: ان الملوك كانوا يسألون اليهود عن صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم ) فيحدثوهم فلما بعث سألوهم فأنكروا طمعا في مالهم وأعطاهم الملوك الأموال فنزلت الآية { اولئك } يعني الذين كتموا ذلك { ما يأكلون في بطونهم الا النار } يعني ان أكلهم في الدنيا وان كان حسنا طيبا في الحال فعاقبته النار كقوله تعالى:
ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا
[النساء: 10] ولا يكلمهم الله اي لا يكلمهم بما يحبون ويسرهم، وقيل: هو كناية عن غضبه عليهم ثم السؤال يقع من الملائكة بأمره تعالى { ولا يزكيهم } اي لا ينسبهم الى التزكية ولا يثني عليهم { فما اصبرهم على النار } قيل: في الآخرة، وقيل: في الدنيا ما أجرأهم على النار أي على العمل المؤدي اليها، وقيل: ما أعملهم بأعمال أهل النار { ذلك بان الله نزل الكتاب بالحق } قيل: هو القرآن، وقيل: هو التوراة { وان الذين اختلفوا } قيل: هم الكفار قالوا: هو سحر، وقيل: هم اليهود والنصارى حرفوا وكتموا قوله تعالى { ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } الآية نزلت في اليهود قيل: ان رجلا سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن البر فانزل الله تعالى هذه الآية وكان الرجل قبل الفرائض اذا اتى بالشهادتين ثم مات يطمع في الجنة فلما هاجر وفرضت الفرائض انزل الله هذه الآية وانه زعم كل واحد من الفريقين أن البر التوجه إلى قبلته فرد عليهم، وقيل: ليس البر ما أنتم عليه فانه منسوخ خارج من البر { ولكن البر } ما نبينه الذي يجب الاهتمام به وصرف الهمة اليه بهذه الأعمال. { والكتاب } جنس كتب الله والقرآن { واتى المال على حبه } يعني مع حب المال والشح به، وقيل: على حب الله تعالى { والموفون بعهدهم اذا عاهدوا } يعني عوهدوا امورا لزمتهم بعقودهم ونذورهم وأيمانهم، وقيل: ما عاهدوا الله تعالى عليه من الطاعات، وقيل: الأيمان وإيفاؤها في كفاراتها { والصابرين في البأساء } يعني الفقر والشدة { والضراء } المرض { وحين البأس } يعني حين القتال.
[2.178-182]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص } روي عن ابن عباس ان الآية نزلت في حيين من العرب اقتتلوا قبل الإسلام وكان بينهم قتلا وجراحات ولأحدهما على الآخر طولا في الكبر والشرف فكانوا ينكحون نساءهم بغير مهور واقسموا لنقتلن بالعبد حرا وبالمرأة منا الرجل منهم وبالولد اثنين وجعلوا جراحاتهم ضعفين على جراحات أولئك فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى جاء الإسلام فرفعوا امرهم الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وظنوا ذلك فانزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: نزلت في حيين من الانصار قوله تعالى: { كتب عليكم } اي فرض عليكم وهذا يقتضي الوجوب فيجب على القاتل تسليم النفس وليس له الامتناع { الحر بالحر } قيل: الحر لا يقتل بالعبد والذكر لا يقتل بالانثى يأخذ بهذه الآية مالك والشافعي وقالوا هي مفسرة لما أبهم في قوله: { النفس بالنفس } وعند أبي حنيفة واصحابه انها منسوخة بقوله تعالى: { النفس بالنفس } والقصاص ثابت بين الحر والعبد والذكر والانثى فاستدلوا بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" المؤمنون تتكافأ دماؤهم "
{ واداء اليه باحسان } ، قيل: على العافي الاتباع باحسان وعلى المعفو عنه الأداء إليه بإحسان { ذلك تخفيف من ربكم ورحمة } قيل: كان اهل التوراة يقتلون ولا يأخذون الدية فجعل الله تعالى لهذه الأمة التخفيف ان شاء قتل وان شاء اخذ الدية وان شاء عفى { فمن اعتدى بعد ذلك } بأن قتل بعد الدية والعفو، وقيل: قتل غير قاتله، قوله تعالى: { ولكم في القصاص حياة يا اولي الالباب } يأيها المخاطبون { حياة } لأن من هم بالقتل فذكر القصاص ارتدع ففيه حياة اي بقاء { والألباب } العقول { لعلكم تتقون } قيل: تتقوا القتل خوف القصاص، قال جار الله: وهي الحاصلة بالارتداع من القتل من وقوع العلم بالقصاص من القاتل لأنه اذا هم بالقتل فعلم انه يقتص منه فارتدع سلم صاحبه من القتل وسلم هو من القود فكان القصاص هو سبب الحياة، وقيل: تتقون ربكم باجتناب معاصيه،قوله تعالى: { كتب عليكم اذا حضر أحدكم الموت } الآية، قيل: كانوا يوصون للأبعد طلبا للفخر ويعدلون عن الأقربين فلما نزلت آية المواريث قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ان الله قد اعطى كل ذي حق حقه ولا وصية لوارث "
ذكر ذلك في نزول الآية، وقوله { اذا حضر احدكم الموت } يعني اسباب الموت من مرض وغيره، وقيل: فرض عليكم الوصية في حال الصحة { ان ترك خيرا } يعني مالا قيل: تجب { الوصية } في الكثير والقليل، وقيل: الف درهم، وقيل: خمسمائة درهم، وعن علي (عليه السلام): " اربعة آلاف درهم " { للوالدين والاقربين } قيل: كانت الوصية لهم واجبا ثم نسخ، وقيل: هي محكمة، وقيل: منسوخة فيمن يرث ثابتة فيمن لا يرث، وقيل: نسخت بآية المواريث وأولو الارحام بعضهم اولى ببعض الآية، وقيل: بالسنة وهي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ألا لا وصية لوارث "
{ بالمعروف } بالعدل وهو ان لا يوصي للغني ويدع الفقير ولا يجاوز الثلث، وقوله: { حقا } مصدر مؤكد اي ذلك حق { فمن بدله بعد ما سمعه } من الوصي والشهود { فمن خاف من موص جنفا } اي خشي، وقيل: علم يعني الذي اوصى له هو الميت ويحتمل اذا اوصى ومال عن الحق، قيل: حيث يوصي بأكثر من الثلث، وقيل: ان يعدل عن الطريق المشروعة { فأصلح بينهم } ، قيل: الوصي، وقيل: الولاة، بينهم: بين أهل الوصايا وأهل الميراث، والإصلاح ان يرد الأمر الى حقه.
[2.183-186]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام } النزول: ذكر اهل التفاسير ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قدم المدينة فرض عليه صوم يوم عاشوراء وثلاثة ايام في كل شهر ثم نسخ ذلك وفرض صيام شهر رمضان قبل بدر بشهر وايام، وعن ابي ذر الغفاري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" نزلت صحف ابراهيم (عليه السلام) في ثلاث ليال مضين من رمضان وتوراة موسى (عليه السلام) في ست وانجيل عيسى (عليه السلام) في ثلاث عشرة وزبور داوود في ثماني عشرة والفرقان في الرابعة والعشرين "
، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه خطب في آخر يوم من شعبان وقال:
" ايها الناس انه قد اطلكم شهر عظيم مبارك فيه ليلة خير من ألف شهر جعل الله تعالى صيامه فريضة وقيامه تطوعا فمن تقرب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة والمواساة وشهر يزاد فيه في رزق المؤمن وشهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل أجره من غير ان ينقص من أجره شيئا " قلنا: يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم، قال: " يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على مذقة لبن أو تمرة أو شربة ماء ومن اشبع فيه صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها ابدا حتى يدخل الجنة وكان كمن اعتق رقبة "
{ وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين } قيل:هو الشيخ الهم، وقيل: هو منسوخ { فمن تطوع خيرا } قيل: تطوع بزيادة الطعام وذلك يكون على وجهين احدهما ان يطعم مسكينا او اكثر والثاني ان يطعم المسكين الواحد اكثر من الكفاية حتى يزيده على نصف صاع، وقيل: صام مع الفدية { وان تصوموا خير لكم } يعني ان الصوم خير من الافطار والفدية { شهر رمضان } سمي رمضان لان رمضان اسم من أسماء الله تعالى كأنه قيل: شهر الله { الذي أنزل فيه القرآن } قيل: ان القرآن انزل كله في ليلة القدر إلى سماء الدنيا ثم أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مفرقا، وقيل: ابتداء إنزاله في ليلة القدر من شهر رمضان { هدى للناس } يتضمن بينات من الهدى والفرقان للناس يعني دلالة لهم فيما كلفوه من العلوم { وبينات } فبين انه مع كونه هدى يتضمن { بينات من الهدى والفرقان } فوجب حمله على غير ما تقدم، وقيل: المراد بالهدى الاول الهدى من الضلالة وبالثاني بيان الحلال والحرام عن ابن عباس، ثم وصف القرآن بأنه فرقان يعني يفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام، وقيل: ذلك ترغيب في تدبره { فمن شهد منكم الشهر فليصمه } الالف واللام في الشهر للعهد والمراد به شهر رمضان، وقيل: " من شهد اول الشهر فليصمه جميعه " عن علي (عليه السلام)، ومعنى شهد قيل: شاهد الشهر وهو مكلف فليصمه حتما { ومن كان مريضا او على سفر } بين الترخيص للمريض والمسافر فمن العلماء من قال: الفطر للمسافر عزيمة، ومنهم من قال: رخصة وهو قول الفقهاء، ثم اختلفوا فمنهم من قال: الصوم أفضل وعليه الأكثر، ومنهم من قال: الفطر أفضل { فعدة من أيام أخر } أي فان أفطر فعليه عدة من أيام أخر، واختلفوا هل للعدة وقت ام لا، فقال ابو حنيفة: لا وهو موسع، وقيل: مؤقت بين رمضانين وان فطر لزمته الفدية { يريد الله بكم اليسر } في الرخصة للمريض والمسافر { ولتكبروا الله على ما هداكم } قيل: اراد بالتكبير الفطر ويوم الفطر، وقيل: التعظيم لله والثناء عليه، قوله تعالى: { واذا سألك عبادي عني فإني قريب } الآية، نزلت في رجل من العرب قال: يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه ام بعيد فنناديه فنزلت: فاني قريب السماع، وقيل: قريب بالعلم والقدرة { فليستجيبوا لي } اذا دعوتهم للايمان والطاعة كما اني اجيبهم اذا دعوني لحوائجهم وليؤمنوا بي اي يصدقوا بجميع ما انزلته { لعلهم يرشدون } والراشد المصيب للخير ومنه رجل رشيد، وقد روي عن ابراهيم بن ادهم انه قيل له: ما لنا [ما بالنا] ندعو اله فلا نجاب؟! قال: لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته وعرفتم القرآن فلم تعملوا به واكلتم نعم الله فلم تشكروه وعرفتم الجنة فلم تطلبوها وعرفتم النار فلم تهربوا منها وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ولم تخالفوه وعرفتم الموت فلم تستعدوا له ودفنتم الاموات فلم تعتبروا بهم وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس.
[2.187-189]
قوله تعالى: { احل لكم ليلة الصيام الرفث الى نسائكم } كان الرجل اذا امسى حل له الأكل والشرب والجماع الى ان يصلي العشاء الآخرة او يرقد فاذا صلاها ورقد ولم يفطر حرم عليه الطعام والشراب والنساء إلى الليلة الثانية، ثم ان عمر واقع اهله بعد صلاة العشاء الآخرة فندم واخذ يبكي ويلوم نفسه واخبر بذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقام رجال فاعترفوا بمثل ذلك فنزلت الآية، وقيل: نزلت في ابي قيس ضمرة بن انس " اتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: عملت في النخل نهاري فاتيت أهلي ليطعموني فأبطات ونمت وقمت وقد حرم علي الطعام ولهذا ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له قبل ان يسأله: " ما لي أراك يا أبا قيس طلحا - وهو المهزول - " فنزل قوله تعالى: { كلوا واشربوا } في قيس { وابتغوا ما كتب الله لكم } ، قيل: ما اباحه لكم، وقيل: اراد به الولد، وقيل: ابتغوا هذا المباح وهو الجماع { حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود } وهو كناية عن بياض اول النهار وسواد اخر الليل وهذا هو الذي يجب ان يراعيه الصائم { ثم أتموا الصيام الى الليل } قالوا: فيه دليل على جواز النية بالنهار في صوم رمضان وعلى جواز تأخير الغسل إلى الفجر وعلى النهي عن صوم الوصال { ولا تباشروهن وانتم عاكفون في المساجد } نزلت في ناس من الصحابة كانوا يعتكفون في المساجد فاذا عرضت لهم حاجة الى منازلهم خرج الرجل فجامع اهله ثم اغتسل وعاد الى المسجد فنهوا عن ذلك { ولا تأكلوا أموالكم بينكم } أي لا يأكل بعضكم مال بعض { بالباطل } أي من غير الوجه الذي أباحه الله لكم { وتدلوا بها الى الحكام } يعني تلقونها إلى القضاة، قيل: هي الودائع وما لا يقام عليه بينة، وقيل: يقيم شهادة الزور، وقيل: ان يدفع إلى الحاكم الرشوة { لتأكلوا فريقا } أي قطعة حرام { يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج } روي ان معاذ بن جبل ورجلا من الانصار قالا: يا رسول الله ما بال الهلال يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يزيد حتى يستوي ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ألا يكون على حالة واحدة؟ فنزلت: { قل هي مواقيت للناس } وانما يسمى هلال لليلتين، وقيل: لثلاث، وقيل: حتى يحجر اي يستدير، مواقيت: يعني معالم يوقت بها الناس مزارعهم ومتاجرهم وديونهم وصومهم وفطرهم ومعالم للحج يعرفون بها وقته وغير ذلك { واتوا البيوت من ابوابها } قيل: كانت قريش في وقت احرامها لا تدخل بيتا إلا من ظهره ولا تستظل بسقف، والثاني أنهم كانوا اذا خرج الرجل لحاجة فاذا رجع وهي غير معصية نقب في الجدار، وقيل: هم الانصار، وقيل: قريش وكنانة وخزاعة فأنزل الله تعالى { وأتوا البيوت من أبوابها } ، وقيل: هو مثل يعني آتوا الأمور من جهاتها.
[2.190-196]
قوله تعالى: { وقاتلوا في سبيل الله } قيل: هي اول آية نزلت في القتال { ولا تعتدوا } فتبدأوا بالقتال، وقيل: لا تقتلوا النساء والصبيان، وقيل: الآية منسوخة بما في براءة، وقيل: بالآية الثانية وهي قوله تعالى: { واقتلوهم } ، { والفتنة أشد من القتل } قيل: البلاء والمحن التي تنزل بالإنسان أشد عليه من القتل، وقيل: الشرك أعظم من القتل في الحرم { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } الآية تدل على المنع من الابتداء بالقتال في الحرم وانهم اذا بدأوا جاز بعد ذلك، وقيل: الآية منسوخة بقوله تعالى: { وقاتلوهم } وهي غير منسوخة { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } اي شرك { ويكون الدين لله } خالصا ليس للشيطان فيه نصيب { فان انتهوا } من الشرك فلا تعتدوا على المنتهيين { الشهر الحرام بالشهر الحرام } أي هذا الشهر الحرام بذلك الشهر وهتكه بهتكه يعني تهتكون حرمته عليهم كما هتكوا حرمته عليكم وهو ذو القعدة قبائلهم المشركون عام الحديبية وهو ذو القعدة { والحرمات قصاص } يعني كل حرمة اي حرمة كانت اقتص منه، وقيل: القتال بالشهر الحرام بالقتال في الشهر الحرام، وقيل: حرمة الشهر وحرمة البلد وحرمة الاحرام قصاص يعني قضاء عما فات واكد ذلك بقوله تعالى: { فمن اعتدى عليكم } الآية { ولا تلقوا بايديكم الى التهلكة } قيل: بالبخل، وقيل: بارتكاب المعاصي، وقيل: بترك الانفاق في سبيل الله ولهذا عقبه بقوله تعالى: { واحسنوا ان الله يحب المحسنين واتموا الحج والعمرة لله } أتوا بهما تامين كاملين بمناسكهما وشرائطهما لوجه الله تعالى { ولا تحلقوا رؤوسكم } خطاب للمحضرين اي لا تحلقوا حتى تعلموا ان الهدي الذي بعثتموه الى الحرم قد بلغ الى محله أي مكانه الذي نحر فيه { فمن كان منكم مريضا } أي فمن كان به مرض يحوجه الى الحلق { او به اذى من رأسه } وهو القتل أو الجراحة فعليه اذا حلق { فدية من صيام ثلاثة ايام { او صدقة } على ستة مساكين كل مسكين نصف صاع { او نسك } وهو شاة { فاذا أمنتم } الاحصار يعني فاذا لم تحصروا وكنتم في حال سعة { فمن تمتع } اي استمتع { بالعمرة الى وقت الحج } انتفاعه بالتقرب بها الى الله تعالى { فما استيسر من الهدي } هو هدي المتعة وهو نسك { فمن لم يجد } الهدي فعليه { صيام ثلاثة ايام في الحج وسبعة اذا رجعتم } بمعنى اذا قدمتم وفرغتم من اعمال الحج، عند أبي حنيفة وعند الشافعي هو الرجوع الى اهاليهم ذلك اشارة الى التمتع عند أبي حنيفة واصحابه المتعة ولا قران ل { حاضري المسجد الحرام } وعند الشافعي اشارة الى الحكم الذي هو وجوب الهدي والصوم.
[2.197-202]
{ الحج اشهر معلومات } يعني ان الاحرام فيها أفضل والأشهر هي شوال والقعدة وعشر من ذي الحجة عن ابن عباس { فمن فرض فيهن الحج } أي أوجب، قيل: بالاحرام، وقيل: بالتلبية، وقيل: بالعزم، وعند الشافعي بالنية { فلا رفث } قيل: اراد مواعدة النساء والتعريض للجماع { ولا فسوق } قيل: ما نهي عنه المحرم من قتل الصيد وغيره، وقيل: هو السباب والتنابز بالألقاب لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" سب المسلم فسق وقتاله كفر "
{ ولا جدال } قيل: لا مراء مع الرفقاء والخدم، وقيل: لا شك في الحج { وتزودوا فان خير الزاد التقوى } قيل: من الطعام، وقيل: من الطاعات، وقيل: من الأعمال الصالحة قال:
اذا انت لم ترحل بزاد من التقى
ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله
وانك لم ترصد كما كان راصدا
وقيل: نزلت في أهل اليمن كانوا لا يتزودون ويقولون نحن متوكلون ونحن نحج بيت الله أفلا يطعمنا ويكونون كلا على الناس فنزلت فيهم { يا أولي الالباب } يا أولي العقول { ليس عليكم جناح } الآية، قيل: كانوا يتأثمون بالتجارة في الإحرام في صدر الإسلام ويمتنعون منها فنزلت الآية، وقيل: ان قوما قالوا: ليس للتاجر ولا للأجير ولا للجمال حج فنزلت { فاذا أفضتم من عرفات } سميت عرفات لتعريف جبريل (عليه السلام) المناسك ابراهيم (عليه السلام)، أو لمعرفة آدم حواء هناك، أو لتعارف الناس هناك، أو لاعترافهم بذنوبهم، قوله تعالى: { فاذكروا الله عند المشعر الحرام } هو جانبا جبل المزدلفة قيل: بالتلبية والدعاء، وقيل: الجمع بين صلاة المغرب والعشاء { واذكروه كما هداكم } لدينه { وان كنتم من قبله لمن الضالين } قيل: من قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { ثم افيضوا من حيث افاض الناس } قيل: الخطاب لقريش وحلفائها وهم الحمس، وكانوا يقفون بالمزدلفة ويفيضون منها وسائر الناس بعرفة ويقولون نحن أهل الله وخاصته فلا نخرج من حرمه فأمرهم الله تعالى بالوقوف بعرفة وان يفيضوا كما افاض الناس قيل: الناس آدم { واستغفروا الله } من مخالفتكم في الموقف ونحو ذلك من جهلكم { فاذا قضيتم مناسككم } وما امرتم به من حجكم ومتعبداتكم، وقيل: الذبح { فاذكروا الله } قيل: بالتكبير أيام منى، وقيل: بسائر الادعية، وقيل: بالتوحيد { كذكركم آباءكم } قيل: كانوا يذكرون آباءهم ومفاخرهم كان الرجل يقول: كان ابي يقري الضيف ويطعم الطعام وينحر الجزر فاعطني مثله فنزلت الآية، وقيل: كما يذكر الصبي أبويه { ربنا آتنا في الدنيا } اعطنا من أموال الدنيا ابلا وبقرا وغنما وعبيدا ونحوه { وما له في الآخرة من خلاق } أي حظ ونصيب { ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة } ، وقيل: نعم الدنيا ونعم الآخرة، وقيل: العلم والعبادة في الدنيا والجنة في الآخرة، وقيل: في الدنيا حسنة المرأة الصالحة { وفي الآخرة حسنة } الحور العين.
[2.203-211]
{ واذكروا الله في أيام معدودات } هي ايام التشريق يوم النحر ويومان بعده { فمن تعجل في يومين } قيل: في النفر، وقيل: في الرمي بأن يرمي في اليوم الثاني، قوله تعالى: { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } الآية نزلت في الأخنس الثقفي وسمي الأخنس لانه خنس في جماعة من بني زهرة عن قتال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر وكان رجلا حلو الكلام يجلس الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويظهر الإسلام ورسول الله يقبل عليه ولا يعلم باطنه ثم انه كان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلا واهلك مواشيهم واحرق زروعهم وكان حسن العلانية سيء السريرة، وقيل: نزلت في سرية وذلك ان كفار قريش بعثوا الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انا قد اسلمنا فابعث الينا نفرا من علماء اصحابك يعلمونا دينك وكان ذلك مكرا منهم فبعث اليهم جماعة فنزلوا بطن الرجيع واتى قريشا الخبر، فركب سبعون راكبا وأحاطوا بهم وقتلوهم وأسروا خبيبا ثم قتلوه وصلبوه وفيهم نزلت الآية ولهم قصة طويلة، وقيل: نزلت في المنافقين، وقيل: نزلت في الزانين { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } قيل: نزلت في صهيب، وقيل: في رجل أمر بمعروف ونهى عن منكر، وقيل: نزلت في المهاجرين والانصار، وقيل: نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: نزلت في علي (عليه السلام) بات على فراش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة خرج الى الغار عن ابن عباس، وروي انه لما نام على فراشه قام جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل ينادي بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة، قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم } الآية نزلت في اليهود، وقيل: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه لما أبقوا السبت، وقيل: نزلت في جميع المؤمنين، والسلم بمعنى الإسلام { فان زللتم } اي عصيتم، وزل عن الطريق اذا مال { من بعد ما جاءتكم البينات } وهي الحجج والمعجزات { فاعلموا ان الله عزيز حكيم } قادر على عقوبتكم ولا يعجزه الإنتقام منكم { هل ينظرون إلا ان يأتيهم الله في ظلل من الغمام } والمراد العذاب الذي يأتيهم في الغمام مع الملائكة ظلل، قيل: سترة من الغمام، وقيل: قطعا من السحاب { وقضي الأمر } قيل: وجب العذاب، وقيل: فرغ من الحساب وأمور القيامة { وإلى الله ترجع الأمور } بأن يكون هو الحاكم والمدبر لا حكم لأحد معه قوله تعالى: { سل بين إسرائيل } ، قيل: سل يا محمد وقيل: أيها السامع، بني إسرائيل أولاد يعقوب، وقيل: علماءهم، وذلك سؤال تقريع وتبكيت { كم اتيناهم } أي اعطيناهم { من آية } يعني حجة { بينة } واضحة من فلق البحر وتظليل الغمام وغير ذلك من آيات موسى (عليه السلام)، وقيل: كم معهم من آية واضحة على نبوتك.
[2.212-214]
{ زين للذين كفروا الحياة الدنيا } نزلت في أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعمون في نعيم الدنيا { ويسخرون من الذين آمنوا } كابن مسعود وعمار وبلال وصهيب وخباب ويقولون: لو كان محمد نبيا لاتبعه أشرافنا وما تبعه إلا الفقراء، وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي واصحابه المنافقين، وقيل: نزلت في رؤساء اليهود، قال جارالله: المزين هو الشيطان زين لهم الدنيا وحسنها في أعينهم بوساوسه وحببها إليهم ويجوز أن يكون الله قد زينها لهم حتى احبوها { والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة } لأنهم في عليين في السماء وهم في سجين تحت الأرض او حالهم عالية لأنهم في كرامة وهم في هوان { والله يزرق من يشاء بغير حساب } قال جارالله يعني: انه يوسع على من يوجب الحكمة التوسع عليه كما وسع على قارون وغيره فهذه التوسعة عليكم من جهة الله تعالى ولو كانت كرامة لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها منكم، وقال الحاكم: قوله: { بغير حساب } يريد ما يشاء، وقيل: بغير حساب لأنه دائم لا نهاية له، وقيل: بغير حساب يعني كثيرا لأن ما دخله الحساب فهو قليل، وقيل: بغير حساب الأعمال بل أضعافا مضاعفة بقدر الاستحقاق { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } الآية، قيل: أهل ملة واحدة على دين واحد وهو الكفر، عن ابن عباس وهو الوجه لان قوله تعالى: { فبعث الله النبيين } لا يليق إلا بذلك، وقيل: كانوا على الحق، وظاهر الآية أنهم كانوا أمة واحدة وليس فيها أنهم كانوا على الإيمان أو الكفر فهو موقوف على الدليل واختلفوا متى كانت هذه الأمة فقيل: بعد وفاة آدم (عليه السلام) الى زمان نوح (عليه السلام) كانوا كفارا، وقيل: من وقت آدم إلى نوح كانوا مؤمنين واختلفوا في وقته، { أم حسبتم ان تدخلوا الجنة } قيل: معناه صفتهم بقوله تعالى: { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } ولما تمتحنوا بالجهاد والصبر عليه كما امتحن الذين من قبلكم فصبروا عليه ولا يحصل الثواب والجنة والكرامة الا بطريقة الامتحان والصبر عليه والآية نزلت يوم الخندق، وقيل: نزلت في حرب أحد لما قال عبدالله بن أبي لأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): علام تقتلون أنفسكم وتمنون الباطل لو كان محمد نبيا لما سلط الله عليه القتل والأسر، قال جارالله: { حتى يقول الرسول } الى الغاية التي قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن { معه متى نصر الله } أي بلغوا الضجر ولم يبق لهم صبر حتى قالوا ذلك، ومعناه طلب النصر وتمنيه واستطالت زمان الشدة فلم يبق لهم صبر حتى ضجوا { الا ان نصر الله قريب } على ارادة القول، يعني فقيل لهم اجابة لهم الى طلبهم من عاجل النصرة.
[2.215-220]
قوله تعالى: { يسألونك ماذا ينفقون } الآية نزلت في عمرو بن الجموح وكان شيخا كبيرا ذا مال كثير فقال: يا رسول الله بماذا أتصدق وعلى من أنفق؟ وقيل: ان الآية وردت في التطوع وهو قول الأكثر، وقيل: الآية وردت في الزكاة فنسخت ببيان مصارف الزكاة، وقيل: هي عامة في التطوع والزكاة فهي في الوالدين تطوع وفي من عداهم زكاة { وما تفعلوا من خير } أي من عمل بر يقربكم الى الله تعالى { فان الله بذلك عليم } يجزيكم عليه { كتب عليكم القتال وهو كره لكم } كتب بمعنى فرض القتال أي الجهاد { وهو كره لكم } أي شاق عليكم { وعسى } يعني قد { تكرهوا شيئا وهو خير لكم } لأنكم بين الخشيتين اما الغلبة والغنيمة او الجنة { وعسى ان تحبوا شيئا وهو شر لكم } اي قد تحبوا شيئا وهو شر لكم وهو القعود عن الجهاد بمحبة الحياة، قوله تعالى: { يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير } الآية نزلت في قتل عمرو بن الحضرمي مشركا وذلك ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث عبدالله بن جحش وجماعة من المهاجرين الى بطن نخلة بين مكة والطائف فأخذوا عيرا وقتلوا ابن الحضرمي وجاؤوا بالعير والأسرى الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في اول رجب فعيرهم المشركون بانهم استحلوا الشهر الحرام فانزل الله تعالى هذه الآية: { وكفر به } وكفرهم بالله { واخراج } أهل المسجد الحرام وهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون { أكبر عند الله } مما فعلته السرية { والفتنة } اي الكفر، وقيل: الاخراج { اكبر من القتل } يعني في الشهر الحرام { ان الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله } نزلت في عبدالله بن جحش وأصحابه على ما تقدم قاتلوا في رجب، قوله تعالى: { يسألونك عن الخمر والميسر } قيل: نزلت الآية في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل ونفر من الانصار جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: افتنا في الخمر والميسر فانهما مذهبة للعقل مسلبة للمال، فأنزل الله تعالى الآية، والميسر هو القمار { قل فيهما إثم كبير } وزر عظيم { ومنافع للناس } من اللذة بشربها وفي القمار ما يصيبون من الأموال من غير نصب ولا نكد، وقيل: منافع للناس التجارة { ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو } قيل: هو الفضل عن النفس والعيال ليكون عن ظهر غنى، وقيل: الوسط من غير سرف، وقيل: الصدقة المفروضة { يبين الله لكم الآيات } يعني أمر النفقة والخمر والميسر { ويسألونك عن اليتامى } ، قيل: كانت العرب في الجاهلية يعظمون شأن اليتيم ويشددون في أمره فلما جاء الإسلام سألوا عن ذلك فنزلت الآية، وقيل: لما نزل قوله تعالى:
ولا تقربوا مال اليتيم
[الإسراء: 34] وقوله تعالى:
ان الذين يأكلون اموال اليتامى ظلما
[النساء: 10] اجتنبوا مخالطتهم في كل شيء وكانوا لا يواكلونهم فاشتد عليهم فسألوا عنه فنزلت الآية، قيل: يسألونك عن أموالهم، وقيل: عن القيام عليهم لأن السؤال لم يقع على أشخاصهم { قل } يا محمد { اصلاح لهم خير وان تخالطوهم } المخاطب ولي اليتيم يعني اصلاح لأموالهم بغير غوص، وقيل: إصلاحهم بتأديبهم وتقريبهم مثل ما يفعله بولده، وقيل: أتشاركونهم في أموالهم ونفقاتهم { والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم } يعني كما وسع عليكم بهذه الرخصة لو شاء شدد عليكم وضيق.
[2.221-223]
قوله تعالى: { ولا تنكحوا المشركات } الآية، قيل: نزلت في مرثد بن ابي مرثد بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الى مكة ليخرج ناسا منها من المسلمين وكان رجلا قويا شجاعا فرأته إمرأة تسمى عناق من اصحاب الرايات الى نفسها فأبى وقال لها: ان الله تعالى حرم الزنا، قالت: فانكحني، قال: حتى أستأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية وهي تدل على تحريم نكاح المشركة { ولا تنكحوا المشركين } الآية تدل على تحريم تزويج الكفار بالمسلمة والاجماع على ذلك { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى } الآية، قيل: كانوا في الجاهلية يجتنبون مواكلة الحائض ومشاربتها ومجالستها كفعل اليهود والمجوس فسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فنزلت الآية، وقيل: كانوا يأتون النساء في أدبارهن أيام الحيض فلما سألوا عنه بين تحريمه، قوله تعالى: { نساؤكم حرث لكم } الآية نزلت في اليهود لما قالوا: إذا أتى الرجل المرأة من خلفها في قبلها خرج الولد أحول فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكذبهم الله ونزلت الآية: { فأتوا حرثكم أنى شئتم } جامعوا كيف شئتم من حيث امركم الله عبر بالحرث عن الفرج مجازا والنطفة بالبذر والولد بالزرع والآية تدل على أن للرجل أن يأتي المرأة في قبلها كيف شاء وتدل على بطلان من أباح اتيان النساء في أدبارهن على ما يحكى عن مالك لأنه ليس بموضع حرث وقد وردت السنة بتحريمه وتعظيم الأمر فيه { وقدموا لأنفسكم } ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة، وقيل: هو طلب الولد، وقيل: التسمية عند الوطء.
[2.224-229]
قوله تعالى: { ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم } قيل: نزلت في عبدالله بن رواحة الأنصاري حلف ان لا يدخل على أخيه بشر لشيء بينهما ولا يصلح بينه وبين خصم له وكان يقول حلفت بالله فلا أفعل فنزلت الآية، وقيل: نزلت في أبي بكر حين حلف ان لا ينفق على مسطح بن أثاثة حين خاض في الافك، أي لا تجعلوا اليمين بالله حجة في المنع من البر والتقوى ، وقيل: لا تجعلوا اليمين عذرا وعلة وتقولوا حلفنا بالله ولم تحلفو { ان تبروا } بمعنى ان لا تبروا فحذف، قال امرئ القيس:
فقلت يمين الله أبرح قاعدا
ولو قطعوا رأس لديك وأوصالي
وقيل: هو من البر يعني ينهاكم عن كثرة الايمان لما في توقي ذلك من البر والتقوى والاصلاح واتقوا الآثام في الأيمان { وتصلحوا بين الناس } يعني اذا عرفتم بقلة الأيمان تصلحوا بقولكم، ثم بين الله اقسام الأيمان فقال تعالى: { لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم } قيل: اللغو ان يحلف وهو يرى انه صادق، وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وهو قول العترة (عليهم السلام) وح وأصحابه، وقيل: ما يصله بكلام من غير قصد كقوله لا والله بلى والله عن عائشة وهو قول الشافعي، وقيل: هو يمين العصيان عن سعيد بن جبير وروي نحوه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) غير انه قال: " يحنث ويكفر " ، وقيل: هو اليمين في المعصية، وقيل: هو ان يحلف ثم يحنث ناسيا لا يؤاخذ به { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } أي عزمتم وقصدتم وفيه حذف أي من أيمانكم { والله غفور } يغفر الذنوب { حليم } يمهل ولا يعجل بالعقوبة { للذين يؤلون من نسائهم } قيل: كان الإيلاء طلاق الجاهلية وفي ابتداء الإسلام كان الرجل لا يريد المرأة ويكره ان يتزوجها غيره ويحلف ان لا يقربها فنزلت الآية وجعل حده { اربعة اشهر } وفيه حذف أي يعتزلون عن وطء النساء فحذف لدلالة الثاني عليه { وان عزموا الطلاق } فتربصوا الى مضي المدة { فان الله سميع عليم } هذا وعيد على اصرارهم وتركهم الفيئة، وعلى قول الشافعي: معناه فإن فاؤوا وان عزموا بعد مضي المدة، قوله: { تربص اربعة أشهر } التوقف والتلبث في اربعة اشهر فكل يمين يمتنع به من الجماع اربعة اشهر فما فوقها فهي ايلاء وما كان دون اربعة اشهر فليس بايلاء، وقيل: الايلاء الحلف على الامتناع من الجماع على جهتي الغضب والضرار عن علي (عليه السلام) وابن عباس وهو الظاهر، وعن سعيد بن المسيب هو الجماع من الضرار نحو ان يحلف ان لا يكلمها { فان فاءوا } رجعوا الى امر الله تعالى بالفيء وهو الجماع في أربعة أشهر ويدل قوله: { فان فاءوا } على حق لها عليه يجب رفع الايلاء لأجله { والمطلقات } روي عن مقاتل انه كان الرجل في ابتداء الإسلام اذا طلق إمرأته فهو أحق برجعتها ما لم تضع ولدها ففسخ ذلك بآية الطلاق وذكر القاضي ان الآية نزلت وكانوا يطلقون فاذا شارفت انقضاء العدة راجعها ضرارا بذلك في طلاق بعد طلاق فنزلت الآية وبين ثلاثة أحكام أحدها حد الطلاق والثاني في تحريم المراجعة على وجه الضرار والثالث وقت المراجعة { الطلاق مرتان } قيل: كان الرجل في الجاهلية يطلق إمرأته ثم يراجعها قبل إنقضاء عدتها ولو طلقها الف مرة ولم يكن للطلاق حد فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية وجعل حد الطلاق ثلاثا، واما الثالثة فقيل: هي في قوله تعالى:
فان طلقها
[البقرة: 230] وقيل: هي قوله تعالى: { فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما اتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله } الآية وسبب نزولها
" ان إمرأة ثابت بن قيس جميلة اتت الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله ما افقد على ثابت في دين ولا خلق ولكن لا أطيقه بغضا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أتريدين حديقته " قالت: نعم وأزيد فقال: " أما الزيادة فلا "
وطلقها بإذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان أول خلع في الإسلام { حدود الله } أوامره ونواهيه وهو نشوز الزوجة بغضا للزوج.
[2.230-232]
{ فان طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } الآية
" نزلت في تميمة بنت عبد الرحمن إمرأة عبدالله بن الزبير اتت الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: كنت تحت رفاعة بتطليقتين فبث طلاقي فتزوجت عبدالله بن الزبير وانما معه مثل هدنة الثوب وانه طلقني قبل ان يمسني أفأرجع الى ابن عمي رفاعة فنكس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: " أتريدين أن ترجعي الى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق من عسيلتك " العسيلة يعني الجماع كني به بالعسيلة فلبثت ما شاء الله ثم عادت اليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: ان زوجي مسني، فقال لها: " كذبت قولك الاول فلا نصدقك في الاخر "
ثم لبثت حتى قبض (صلى الله عليه وآله وسلم) واستأذنت أبا بكر فلم يأذن لها ثم لبثت حتى قبض عمر فلم يأذن لها. { واذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف } الآية نزلت في إمرأة ثابت بن قيس الأنصاري طلق إمرأته حتى اذا شارفت انقضاء العدة راجعها ثم طلقها ففعل ذلك حتى مضت تسعة اشهر مضاره لها فانزل الله تعالى هذه الآية قوله: { واذا طلقتم النساء } خطاب للازواج { فبلغن اجلهن } أي بلغن انقضاء العدة ومعناه قاربن وأشرفن أجلهن لأنه بعد انقضاء العدة ليس له الامساك يقال: بلغت البلد اذا قاربت منها، والاجل الذي تنقضي به العدة، الأقراء في ذات الحيض والاشهر فيمن لا تحيض او الوضع فيمن بها حمل { فامسكوهن بمعروف } يعني راجعوهن قبل انقضاء العدة { ولا تتخذوا آيات الله هزوا } وقوله تعالى: { واذا طلقتم النساء فبلغن اجلهن فلا تعضلوهن } الآية، قيل: نزلت في جابر بن عبدالله الأنصاري عضل بنت عم له ومنع عن المراجعة وكانت تحب ذلك فنزلت الآية، وقيل: نزلت في معقل بن يسار عضل اخته.
[2.233-235]
{ والوالدات يرضعن اولادهن حولين } الآية، قيل: هو عام في جميع الزوجات، وقيل: المطلقات، قيل: معناه الامر وإن كانت صيغته صيغة الخبر، قوله تعالى: { حولين كاملين } يعني عامين تامين اربعة وعشرين شهرا وقد اختلف العلماء في هذا الحد هل هو لكل مولود ولكن اذا اتت به لستة اشهر فحولين وان ولدت لسبعة اشهر فثلاثة وعشرين شهرا في الحمل وان ولدت لتسعة اشهر فاحدى وعشرين يطلب بذلك الجملة ثلاثين شهرا، وقيل: هو حد لكل مولود ويأتي وقت يولد لا ينقص ولا يزيد الا ان يتراضيا قبل الحولين فحينئذ فطماه فان اختلفا لم يفطماه وروي ذلك عن ابن عباس أيضا، وقال جماعة: المراد به بيان التحريم الواقع بالرضاع في الحولين يحرم وفيما بعده لا يحرم، وروي ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام) وابن عمر وابن مسعود والزهري والشعبي، وقال قتادة: فرض الله تعالى على الوالدات ان يرضعن أولادهن حولين كاملين ثم انزل الله تعالى الرخصة بعد ذلك فقال تعالى: { لمن اراد ان يتم الرضاعة } يعني ان هذا يسمى الرضاع وليس فيما دونه حد محدود وانما هو على مقدار صلاح الصبي { وعلى المولود له } يعني الاب { رزقهن } يعني الطعام والادام { وكسوتهن بالمعروف } يعني على قدر اليسار لان الله تعالى عالم باختلاف الناس في الغنى والفقر وجعل حق الحضانة للأم والنفقة على الاب { لا تكلف نفس الا وسعها } يعني لا تلزم الا دون طاقتها { لا تضار والدة بولدها } يعني لا يلحق بالأم ضرر لأجل ولدها بنزع الولد منها ودفعه الى غيرها بعد أن رضيت بارضاعه { ولا مولود له بولده } يعني الأب لا يضار بولده بالقائه اليه مضارة، وقيل: لا تضار والدة بان تكره على الرضاع والاب بان يلزم اكثر مما يجب عليه، قوله تعالى: { وعلى الوارث مثل ذلك } قيل: أراد وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث، وقيل: على الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم، وقيل: على الوارث يعني الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه يعني ان اجرة الرضاع في ماله فان لم يكن له مال أجبرت الأم على الرضاع { فان أرادا } يعني الوالدين { فصالا } يعني فطاما قبل الحولين فان لم يتراضيا رجع الى الحولين، وقيل: فصالا مفاصلة بين الوالد والوالدة، قوله تعالى: { عن تراض منهما وتشاور } لان الأم تعلم من تربي الصبي ما لا يعلم الاب بشرط التراضي والمشاورة { وان اردتم } ايها الآباء { ان تسترضعوا اولادكم } يعني تطلبوا مراضع لهم غير امهاتهم لإباء الام الرضاع او لعلة بهن او لانقطاع او طلب نفقة فوق الوسع او طلب النكاح او خوف الضيعة { فلا جناح عليكم } أي لا حرج عليكم ولا ضيق في ذلك { اذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف } قيل: أجرة الأم بمقدار ما ارضعت، وقيل: أجرة المسترضعة اي لا حرج عليكم { واتقوا الله } يعني معاصيه وعذابه { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا } الآية تدل على ان عدة الوفاة { أربعة اشهر وعشرا } وهذا عام الا في قوله تعالى:
وأولات الأحمال أجهلن أن يضعن حملهن
[الطلاق: 4] وروي عن ابن مسعود ان سورة النساء القصرى نزلت بعد الآية في سورة البقرة، وقيل: " عدتها أبعد الأجلين " عن علي (عليه السلام) وعن جماعة { يتربصن } اي ينتظرن انقضاء العدة، وقيل: انما زاد عشرا لأن الروح ينفخ في الجسد فيها { فلا جناح عليكم } يعني الاولياء { فيما فعلن في أنفسهن } من الزينة، قوله تعالى: { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم } اي اسررتم واضمرتم { ولكن لا تواعدوهن سرا } والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء لانه مما يسر، وقيل: الزنا، وقيل: السر عقد النكاح، وقيل: السر الجماع يعني لا تصفو انفسكم بكثرته { إلا أن تقولوا قولا معروفا } قيل: هو التعريض من غير تصريح، قوله تعالى: { ولا تعزموا عقدة النكاح } قيل: لا تضمروا النكاح، وقيل: لا تعزموا النكاح { حتى يبلغ الكتاب أجله } يعني تنقضي العدة ومعنى الكتاب القرآن ومعناه فرض الكتاب اجله، وقيل: الكتاب الفرض ومثله { كتب عليكم الصيام } يعني فرض الله اجله { واعلموا ان الله يعلم ما في أنفسكم } يعني يعلم ضمائرهم وما يسرونه { فاحذروه } اي احذروا عقابه ولا تخالفوا امره.
[2.236-239]
{ لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } الآية
" نزلت في رجل من الانصار تزوج إمرأة ولم يسم لها مهرا ثم طلقها قبل ان يمسها فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " بيعها ولو بقلنسوتك "
لما قدم ذكر المطلقة والدخول بها وعدتها وايتاء المفروض بين حكم الطلاق قبل الفرض والمسيس فقال تعالى: { لا جناح عليكم } اي لا حرج ولا مأثم { إن طلقتم النساء } قبل المس كناية عن الوطء، ثم الخلوة تقوم مقام الوطء وقال الشافعي: لا تقوم، قوله تعالى: { أو تفرضوا لهن فريضة } يعني لم توجبوا ولم تقدروا لهن مهرا مقدرا، وقيل: لا سبيل عليكم لهن في هذا الموضع بمهر ولا نفقة { ومتعوهن } اي اعطوهن من اموالكم ما يتمتعن به { على الموسع قدره } يعني على الغني الذي في سعة والفقير { المقتر } الذي في ضيق قدره { متاعا بالمعروف } اي متعوهن متاعا بالمعروف بما أمركم الله به من غير ظلم { حقا على المحسنين } أي حقا يلزم المحسنين ولكن خص المحسنين توكيدا ليقوموا به ولا يضيعوه، وقيل: معناه من اراد ان يحسن فهذا حقه وحكمه ولما تقدم حكم المطلقة قبل الفرض والمسيس بين حكم المطلقة بعد الفرض قبل المسيس، فقال تعالى: { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } خطاب للازواج { وقد فرضتم لهن فريضة } يعني اوجبتم لهن صداقا وقدرتم لهن مهرا { فنصف ما فرضتم } أي فعليكم نصف ما قدرتم وهو المهر المسمى { إلا أن يعفون } يعني بترك المسمى نصف صداقهن فلا يطالبن الازواج بذلك { أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح } وهو الزوج وعفوه ان يسوق اليها المهر كاملا، وقيل: هو الولي وتسمية الزيادة على الحق عفوا فيه نظر قال جارالله: الا ان يقال كان الغالب عندهم الا ان يسوق اليها المهر عند التزوج فاذا طلقها استحق ان يطالبها نصف ما ساق إليها المهر فإذا ترك المطالبة فقد عفى أو سماه عفوا على طريق المشاكلة وعن جبير بن مطعم انه تزوج إمرأة ثم طلقها قبل ان يدخل بها واكمل لها الصداق وقال: انا احق بالعفو، ومذهب الشافعي هو الولي الذي بيده عقدة نكاحهن، وقيل: هو الزوج وعفوه ان يسوق اليها المهر كاملا وهو مذهب ابي حنيفة، قال جارالله: فالاول ظاهر الصحة { ولا تنسوا الفضل بينكم } أي لا تتركوا الإحسان بينكم ولا تنسوا أن يتفضل بعضكم على بعض والفضل من جهته اتمام الصداق ومن جهتها اسقاط النصف فحثهما على الافضل { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } الصلاة الوسطى هي العصر، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال يوم الاحزاب:
" شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر "
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" انها الصلاة التي شغل عنها سليمان ابن داوود (عليه السلام) "
وعن حفصة انها قالت لمن كتب لها المصحف: اكتب والصلاة الوسطى صلاة العصر، وقيل: هي الظهر، وقيل: الجمعة، وقيل: غير ذلك.
[2.240-245]
قوله تعالى: { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا } الآية اتفق العلماء على ان هذه الآية منسوخة نسخت المدة بقوله تعالى
أربعة اشهر وعشرا
[البقرة: 234] ونسخت النفقة بالارث الذي هو الربع والثمن { وللمطلقات متاع بالمعروف } الآية تدل على وجوب النفقة للمطلقات وتدل على ان المبتوتة لها النفقة والسكنى وهو مذهب ابي حنيفة واصحابه واختاره ابو علي خلاف ما يقوله الشافعي { بالمعروف } يعني على قدر اليسار والاعسار من دون اسراف حقا { على المتقين } من اتقى مخالفة امر الله وعذابه { ألم تر الى الذين خرجوا من ديارهم } الآية المعنى الم تر يا محمد او أيها السامع الى الذين خرجوا من ديارهم وهم قوم من بني إسرائيل قوم حزقيل روي ان اهل داوردان قرية وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين فأماتهم الله تعالى ثم احياهم ليعتبروا ويعلموا ان لا مفر من حكم الله تعالى وقضائه، قيل: مر عليهم حزقيل بعد زمان طويل وقد تفرقت أوصالهم فأوحى الله تعالى اليه ان ناد فيهم فنادى فيهم ان قوموا بإذن الله تعالى فنظر اليهم قياما يقولون سبحانك اللهم وبحمدك لا اله الا انت، وقيل: هم قوم من بني اسرائيل دعاهم ملكهم الى الجهاد فهربوا فأماتهم الله تعالى ثمانية أيام ثم احياهم { وهم ألوف } فيه دلالة على الكثرة، قيل: كانوا عشرة آلاف، وقيل: ثلاثين الفا، وقيل: اربعين، وقيل: كانوا سبعين الفا والله اعلم. { وقاتلوا في سبيل الله } يعني في دين الله خطاب للصحابة حثا على الجهاد، وقيل: انه خطاب للذين جرى ذكرهم على هذين، وقيل لهم: قاتلوا، قيل: امروا بالجهاد ففروا فأماتهم الله ثم أحياهم ثم أمروا بالجهاد { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } قيل:
" لما نزل قوله تعالى: { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " رب زد أمتي " فنزل قوله تعالى: { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } "
ومعنى يقرض الله ينفق في طاعته وسبيله { أضعافا كثيرة } الحسنة بسبع مائة { والله يقبض ويبصط } قيل: يمسك ويضيق على من يشاء ويوسع على من يشاء في الرزق بحسب المصلحة، وقيل: يقبض الصدقات بالقبول ويبصط الجزاء عليها عاجلا وآجلا، وقيل: يقبض بموت واحد ويبصط للورثة.
[2.246-248]
قوله تعالى: { ألم تر الى الملأ } ألم تر معناه ألم تعلم يا محمد أو أيها السامع، { إلى الملإ } جماعة الأشراف { من بني اسرائيل من بعد موسى } أي من بعد موته { اذ قالوا لنبي لهم } أي لرسول اليهم، قيل: هو يوشع بن نون، وقيل: اسمه شمعون وهو من ولد لاوي بن يعقوب عن السدي، وقيل: اشمويل من ولد هارون عن وهب وعليه اكثر المفسرين وهو الذي رواه الفقيه شهاب الدين احمد بن مفضل رحمه الله تعالى { ابعث لنا ملكا } معناه اميرا يتصدر في تدبير الحرب عن رأيه وينتهى الى امره في تدبير الحرب وكذلك كان يفعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من التأمير على الجيوش يعني لقتال الجبابرة الذين كانوا في زمانهم، وقيل: قتال العمالقة { قال هل عسيتم } يعني لعلكم { إن كتب عليكم القتال } اذا فرض القتال مع ذلك { ألا تقاتلوا } تقولون ولا تقاتلون معه، وقيل: هل ظننتم ان كلفتم الجهاد ان لا تقوموا بحقه، قوله تعالى: { وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا } وذلك ان قوم جالوت اسروا من ابناء ملوكهم اربع مائة واربعين رجلا { فلما كتب عليهم القتال } بعث الله لهم ملكا وكتب عليهم القتال { تولوا } أعرضوا عن الجهاد { إلا قليلا منهم } كان القليل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدر { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا } قيل: سمي طالوت لطوله، وقيل: أميرا على الجيش، وروي ان الرجل القائم كان يمد يده فينال رأسه، قيل: كان دباغا، وقيل: كان مكاريا { أنى يكون له الملك علينا } هذا اول اعتراضهم وانما قالوا ذلك لان النبوة كانت من سبط لاوي بن يعقوب (عليه السلام) ومنه موسى وهارون والملك من سبط يهودا ومنه داوود وسليمان ولم يكن طالوت من احد السبطين وقد قيل: ان طالوت من ولد بنيامين، قوله تعالى: { بسطة في العلم } بالحرب، وقيل: كان اعلم بني اسرائيل في وقته، وروي انه اوحي اليه، وقيل: كان اجمل بني اسرائيل في وقته { والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم } قيل: جواد، وقيل: واسع الفضل { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } الآية، التابوت صندوق التوراة وكان موسى (عليه السلام) اذا قاتل به تسكن نفوس بني اسرائيل ولا يفرون { فيه سكينة } السكينة هي السكون، وقيل: هي صورة فيه كانت من زبرجد او ياقوت لها رأس كرأس الهر وذنب كذنبه، وعن علي (عليه السلام): " لها وجه كوجه الانسان وفيها ريح هفافه " { وبقية } هي رصاص الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وكان رفعه الله تعالى بعد موسى فنزلت به الملائكة تحمله وهم ينظرون اليه فكان { ذلك آية } لاصطفاء الله طالوت، وقيل: كان مع موسى ومع بني اسرائيل بعده فلما عبرت بنو اسرائيل غلبهم عليه الكفار فكان في أرض طالوت فلما اراد الله تعالى ان يملك طالوت أصابهم ببلاء حتى هلك خمس مدائن فقالوا: هذا بسبب التابوت فوضعوه على ثورين فساقتهما الملائكة الى طالوت، وقيل: حجب به الملائكة بين السماء والأرض الى طالوت، وقيل: كان التابوت من الجنة وكان عند آدم ثم عند الانبياء حتى وصل إلى اسماعيل وروي ان طالوت لما انقادوا اليه قال لقومه: لا يخرج معي احد ممن هو مشغول بالتجارة ولا متزوج بامرأة قريبة ولا ابتغي الا الشباب الفراغ فاجتمع اليه ممن اختار ثمانون الفا، وقيل: سبعون الفا.
[2.249-251]
{ فلما فصل طالوت بالجنود } قيل: خرج بالعساكر فسألوا ان يجري الله تعالى نهرا فقال: { إن الله مبتليكم بنهر } مما اقترحتموه من النهر، وقيل: أنهم شكوا قلة الماء وخوف القتل وخوف التلف من العطش، وقيل: اراد التشديد للتكليف لمصلحة لهم، قوله تعالى: { فمن شرب منه فليس مني } اي ليس من أهل ديني { إلا من اغترف غرفة بيده } اي مرة او ملأ الكف، روي انه كان من استكثر منه عطش ومن اغترف غرفة روي، وروي ان الغرفة كانت تكفي الرجل ودوابه والذين شربوا منه اسودت شفاههم وغلبهم العطش { إلا قليلا منهم } قيل: كانوا عدد أهل بدر، { فلما جاوزه } يعني جاوز النهر { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } قيل: هم أهل الكفر والدين انخزلوا من طالوت { قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله } أي ملاقوا جزائه { كم من فئة قليلة } الآية { والله مع الصابرين } بالنصر والحفظ { ولما برزوا لجالوت وجنوده } جالوت جبار من العمالقة من اولاد عمليق بن عاد وكانت بيضته فيها ثلاثمائة رطل، قوله تعالى: { ربنا افرغ علينا صبرا } يعني وفقنا للصبر على الجهاد { وثبت أقدامنا } أي وفقنا للثواب { وانصرنا على القوم الكافرين } أي على جهادهم ويدل على ان الواجب علينا أي نقتدي بهم في ذلك، قوله تعالى: { فهزموهم بإذن الله } يعني بنصره، قوله تعالى: { وقتل داوود جالوت } قيل: كان إيشى ابو داوود في عسكر طالوت مع ستة من بنيه وكان داوود سابعهم وهو صغير يرعى الغنم فاوحى الله الى النبي اشمويل ان داوود بن إيشى هو الذي يقتل جالوت فطلبه من أبيه فجاء وقد مر في طريقه بثلاثة احجار دعاه كل واحد منهما ان يحمله وقالت له: انك تقتل بنا جالوت فحملها في مخلاته ورمى بها جالوت فقتله، وقيل: رماه بحجر فوقع بين عينيه وخرج من قفاه واصاب جماعة من عسكره { وآتاه الله الملك } في مشارق أرض بيت المقدس ومغاربها { والحكمة } وهي النبوة { وعلمه مما يشاء } من صنعة الدروع وكلام الطير والنمل، وقيل: امور الدنيا، وقيل: الزبور والحكم، قوله تعالى: { ولولا دفع الله الناس } لولا ان الله دفع بعض الناس ببعض يعني لولا دفع الله بجنود المسلمين الكفار، وقيل: لولا ان ينصر الله تعالى المسلمين على الكفار { لفسدت الارض }.
[2.252-254]
قوله تعالى: { تلك آيات الله } يعني القصص التي قصها من حديث الالوف ونزول التابوت من السماء وغلبة الجبارين على يدي صبي، قوله تعالى: { تلك الرسل } التي تقدم ذكرها { منهم من كلم الله } وهو موسى (عليه السلام) { ورفع بعضهم درجات } ومنهم من رفعه في الفضل على سائر الانبياء (عليهم السلام) والظاهر انه اراد تعالى نبينا وسيدنا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث أوتي ما لم يؤت احد من الآيات الى الغاية او اكثر ولو لم يؤت إلا القرآن وحده لكان كافيا لأنه المعجزة الباقية على وجه الدهر، قوله تعالى: { وآتينا عيسى ابن مريم البينات } أي الحجج وهو ما أتاه من المعجزات والكتاب، قوله تعالى: { وأيدناه بروح القدس } قيل: الروح جبريل (عليه السلام)، وقيل الاسم الذي كان يحيي به الموتى { ولو شاء الله ما اقتتلوا } قيل: أي مشيئة الاكراه اي لو شاء ان يجيرهم ويمنعهم لفعل من بعدهم أي من بعد موسى وعيسى واتباعهم، وقيل: اليهود والنصارى فمنهم من آمن لالتزامه دين الانبياء ومنهم من كفر باعراضه عنه { ولو شاء الله ما اقتتلوا } مكرر للتوكيد { يأيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } اراد الانفاق الواجب لاتصال الوعيد به { من قبل أن يأتي يوم } يعني قدموا ليوم القيامة قبل اتيانه { لا بيع فيه } أي لا تجارة { ولا خلة } أي لا صداقة لأنهم بالمعاصي يصيرون أعداء، وقيل: شغله بنفسه يمنع من صداقة غيره والله أعلم.
[2.255-257]
فصل في آية الكرسي
نفع الله بها منقول من الكشاف روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال:
" من قرئت هذه الآية في بيته إلا هجرته الشياطين ثلاثين يوما ولا يدخله ساحر ولا ساحرة اربعين ليلة يا علي علمها اهلك وولدك وجيرانك فما نزلت آية أعظم منها "
وعن علي (عليه السلام):
" سمعت نبيكم على اعواد المنبر وهو يقول من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة الا الموت ولا يواظب عليها الا صديق أو عابد ومن قرأها اذا اخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والابيات حوله "
وتذاكر الصحابة أفضل ما نزل من القرآن فقال لهم علي (عليه السلام): " اين انتم عن آية الكرسي " ثم قال: " قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
" يا علي سيد البشر آدم وسيد العرب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا فخر وسيد الفرس سلمان وسيد الروم صهيب وسيد الحبشة بلال وسيد الجبال جبل طور سيناء وسيد الايام يوم الجمعة وسيد الكلام القرآن وسيد القرآن البقرة وسيد البقرة آية الكرسي "
وعن علي (عليه السلام) انه قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" فيها خمسون كلمة في كل كلمة خمسون بركة "
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من قرآ آية الكرسي صرف الله عنه ألف مكروه الدنيا وألف مكروه الآخرة أيسر مكروه الدنيا الفقر وايسر مكروه الآخرة عذاب القبر "
وعن ابي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من خرج من منزله فقرأ آية الكرسي بعث الله سبعين الفا من الملائكة يدعون له ويستغفرون له فإذا رجع الى منزله وقرأها نزع الله الفقر من بين عينيه "
قوله تعالى: { الله لا اله الا هو } أي لا أحد يستحق الالهية وتحق العبادة له غيره { الحي } الباقي { القيوم } القائم على كل نفس بما كسبت { لا تأخذه سنة } أي نعاس { ولا نوم } يعني مضجع نومه تعالى { إلا بإذنه } أي بأمره { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ما كان قبلهم وما يكون بعدهم، وقيل: ما بين أيديهم ما مضى من الدنيا وما خلفهم من الآخرة، وقيل: ما بين أيديهم من الآخرة لأنهم يقدمون عليها وما خلفهم يعني من الدنيا لانهم خلفوها وراء ظهورهم { ولا يحيطون بشيء من علمه الا بما شاء } أي من علومه الا بما شاء ان يعلمهم به ويطلعهم عليه { وسع كرسيه السموات } يعني كرسيه أوسع من السموات والارض واختلفوا في الكرسي فقيل: علمه ومنه الكراسة لما ركبت فيها من العلم وقد يسمى العلماء كراسي، وقيل: هو العرش، وقيل: ملكه وقدرته وسلطانه { ولا يؤوده } أي لا يثقله ولا يشق عليه { حفظهما } أي حفظ السموات والارض { وهو العلي } عن الانداد والاشباه { العظيم } عظيم الشأن { لا اكراه في الدين } أي ليس في الدين اكراه من الله تعالى ولكن العبد مخير فيه، وقيل: معناه ليس في الدين ما يكرهه اهله وانما يكرهه المنافق، وقيل: انها نزلت في رجل من الانصار كان له غلام اسود وكان يكرهه على الإسلام { قد تبين الرشد من الغي } قد تبين الايمان من الكفر بالدلائل الواضحة { فمن يكفر بالطاغوت } قيل: هو الشيطان نعوذ بالله منه، وقيل: هو الكاهن، وقيل: الساحر، وقيل: هو كعب بن الاشرف لعنه الله تعالى، وقيل: كل ما يطغى { فقد استمسك بالعروة الوثقى } العظيمة الوثيقة وهي الايمان بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) { لا انفصام لها } أي لا انقطاع لها وهذا تمثيل { الله ولي الذين آمنوا } أي ناصرهم { يخرجهم من الظلمات إلى النور } قيل: يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام، وقيل: من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى، وقيل: من الذل إلى العز في الدارين، وقيل: من النار إلى الجنة { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } قيل: الشيطان، وقيل: كعب بن الاشرف وحيي بن اخطب، وقيل: سائر رؤساء الضلالة.
[2.258]
{ الم تر الى الذي حاج ابراهيم في ربه ان اتاه الله الملك } الهاء في اتاه تعود الى الذي حاج، وقيل: الى ابراهيم (عليه السلام) والملك ملك النبوة ومعنى { الم تر } الم تعلم يا محمد هذا هو النمرود بن كنعان وهو اول من وضع التاج على رأسه وادعى الربوبية فإن قيل: متى كانت محاجته لإبراهيم (عليه السلام)؟ قيل: عند كسر الاصنام، وقيل: عند ألقي في النار وقد روي ان النمرود لعنه الله لما فلجه ابراهيم وقطع حجته بالآيات العظيمة قال: هل يستطيع ربك ان يقابلني فقد طالت المحاجة بيني وبينك فاوحى الله تعالى الى ابراهيم ان عده غدا عند طلوع الشمس فقال له ابراهيم (عليه السلام): إن ميعادك فيما سألت غدا عند طلوع الشمس فبات الملعون يجمع عساكره حتى أصبح وقد حشد خلقا كثيرا لا يحصى ثم أرسل إلى إبراهيم حين أصبح فأتاه فقال: يا إبراهيم أين ما وعدتني؟ فقال له (عليه السلام): اتاك الأمر مع طلوع الشمس، فلما طلعت الشمس طلعت متغيرة اللون لا يرى ضوؤها فقال له: ما بال الشمس اليوم؟ فقال له: انه قد ذهب بنورها كثرة الجند الذين وجههم الله تعالى إليك أنه قد أرسل إليك اضعف جنده وهي الفراش تغشي الملعون وأصحابه فجعل الفراش يدخل في أفواههم وآذانهم فيقتلهم والملعون ينظر ما نزل به وأصحابه من الأمر العظيم الذي لا حيلة فيه حتى اهلكهم وهو ينظر ثم دخلت في رأسه فأقبلت تأكل دماغه وهو ينطح برأسه الجدار حتى هلك لا رحمه الله على اشر حال روي ذلك في تفسير الهادي (عليه السلام)، فان قيل: كيف جاز ان يؤتي الله الملك الكافر؟ فيه قولان: اتاه ما علا به وتسلط من الخدام والاتباع، وقيل: ملكه امتحانا لعباده ولان أهل مملكته كانوا كفارا ومعنى المحاجة المجادلة يعني جادله وخاصمه، وقال: يا إبراهيم من ربك الذي تدعو اليه؟ { قال ابراهيم ربي الذي يحي ويميت قال انا احيي وأميت } روي انه جاءه برجلين قتل احدهما وأبقى الآخر فانتقل إبراهيم الى حجة أخرى، وقيل: من مثال إلى مثال، وقال: { فان الله يأتي بالشمس من المشرق } الآية، قيل: انه لما قتل احد الرجلين، وقال: أنا احيي وأميت، قال له ابراهيم: ليس هكذا ولكن ادخل الروح في جسد الذي قتلته واحييه وانزع روح الحي من جسده { فبهت الذي كفر } إي انقطعت حجته روي ان الله اهلكه وجنوده على يدي ابراهيم (عليه السلام).
[2.259-264]
{ أو كالذي مر على قرية } الآية معناه أرأيت مثل الذي كان كافرا بالبعث وهو الظاهر لانتظامه مع نمرود و بقوله { أنى يحي هذه الله بعد موتها } قيل: هو عزير، وقيل: الخضر اراد أن يعاين احياء الموتى لتزداد بصيرته والقرية بيت المقدس حين خربه بخت نصر، وقيل: هي التي خرج منها الالوف { خاوية على عروشها } قيل: ساقطة، وعروشها سقوفها، أي سقطت السقوف ثم سقطت عليها الجدر، وقيل: عروشها أبنيتها من قوله: { يعرشون } قوله تعالى: { لبثت يوما أو بعض يوم } نام اول النهار ثم احياه الله تعالى اخر النهار بعد المئة فقال: { لبثت يوما } ثم التفت فرآى بقية الشمس فقال: { أو بعض يوم فانظر إلى طعامك } روي ان طعامه كان تينا وعنبا وشرابه عصيرا ولبنا فوجده على حاله { لم يتسنه } لم يتغير { وانظر إلى حمارك } كان معه حمار فهلك وبليت عظامه، وقيل: كان حماره مربوطا فقام وهو حي كما كان وذلك من أعظم الآيات ان يعيشه الله مائة عام من غير علف ولا ماء، وقد قيل: انه أتى قومه راكبا حماره فقال: أنا عزير فكذبوه فقال: هاتوا التوراة فأخذها يهذها هذا عن ظهر قلبه وهم ينظرون في الكتاب فما حرم حرفا فقالوا: هذا ابن الله، وقيل: رجع الى منزله فرأى اولاده شيوخا وهو شاب فاذا حدثهم بحديث: قالوا حديث مائة سنة [ولم احدا قرأ] التوراة ظاهرا قبل عزير فذلك كونه آية { وانظر الى العظام } هي عظام الحمار، وقيل: عظام الموتى الذي تعجب من احيائهم { كيف ننشزها } كيف نحييها وقرأ ننشرها من نشر الله الموتى اذا احياهم. { وإذ قال إبراهيم رب أرني } من رؤية العين { ولكن ليطمئن قلبي } ليزداد سكونا ويقينا وطمأنينة واختلفوا في سبب سؤال ابراهيم هذا على أقوال: قيل: احب ان يعلم ذلك علم عيان دون علم استدلال، وقيل: سأل عن قومه وان اضاف السؤال إلى نفسه كما فعل موسى في سؤال الرؤية، وقيل: بشر الملك ابراهيم بأن الله اتخذه خليلا والله يجيب دعوته ويحي الموتى بدعائه، قوله تعالى: { فخذ أربعة من الطير } قيل: طاووس وديكا وغرابا وحمامة { فصرهن إليك } أي قطعهن، وقيل: بالضم املهن اليك وبالكسر قطعهن، وقيل: المراد بالآية قطعهن وهو قوله الاكثر لان إبراهيم (عليه السلام) قطع أعضاءها ولحمها وريشها ودمها وخلط بعضها ببعض { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا } قيل: على اربعة جبال، وقيل: سبعة، وقيل: تسعة جبال ففعل ذلك إبراهيم وأمسك رؤوسهم عنده ثم دعاهن فذلك قوله تعالى: { ثم ادعهن } وقل لهن: تعالين بإذن الله تعالى فجعل أمر الطير يطير بعضها إلى بعض ثم أتته { سعيا } على أرجلهن ويلقى كل طائر رأسه فذلك قوله تعالى: { يأتينك سعيا } يعني ساعيات مسرعات { مثل الذين ينفقون } الآية يعني مثلهم { كمثل } باذر { حبة } والمنبت هو الله تعالى ولكن الحبة لما كانت سببا اسند إليها النبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء ومعنى انباتها { سبع سنابل } يخرج ساقها يبدو فيها سبع لكل واحدة سنبلة وهذا موجود في الدخن والذرة، قوله تعالى: { في سبيل الله } يعني دينه اراد النفقة في الجهاد، وقيل: في جميع أبواب البر ويدخل فيه الواجب يعني ان النفقة في سبيل الله بسبع مائة ضعف والله يضاعف لمن يستوجب ذلك، قوله تعالى: { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } نزلت الآية في عبد الرحمن تصدق بنصف ماله اربعة آلاف دينار { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى } وهو ان يذكر نعمته عليه بما ينقصه، وقيل: يمن على الناس بنفقته، قوله تعالى: { ولا أذى } يعني ما يؤذي به الفقير، قوله تعالى: { قول معروف } أي رد جميل { ومغفرة } عفو عن السائل اذا وجد منه ما يثقل على المسؤول، وقيل: المغفرة بالعفو عن ظالمه { كالذي ينفق ماله رئاء الناس } أي لا تبطلوا صدقاتكم كإبطال المنافق الذي ينفق ماله رئاء الناس لا يريد بها رضاء الله وثواب الآخرة { فمثله كمثل صفوان } أي مثله ونفقته بصفوان حجر أملس { عليه تراب فأصابه وابل } مطر عظيم القطر { فتركه صلدا } أي أجردا نقيا من التراب الذي كان عليه { لا يقدرون على شيء } ممن ثابه { مما كسبوا } حيث أعطوه بالرياء، وقيل: هو قوله تعالى:
فجعلناه هباء منثورا
[الفرقان: 23].
[2.265-268]
قوله تعالى: { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله } أي طلبا لرضائه { وتثبيتا من أنفسهم } لقوة اليقين والبصيرة في الدين ومعناه وتثبتوا منها ببذل المال الذي هو شقيق الروح وبذله أشق شيء على النفس { كمثل جنة } وهو البستان { بربوة } بمكان مرتفع مستوي تجري فيه الانهار وخص ذلك لأن نبتها أحسن { أصابها وابل } أي مطر عظيم القطر { فأتت أكلها ضعفين } أي مثلين، وقيل: أربعة أمثاله { فإن لم يصبها وابل فطل } أي مطر صغير القطر يكفيها، وقيل: هو النداوهة أمثل لعمل المؤمن يعني كما ان الجنة تروح في كل حال قل المطر أو كثر كذلك يضعف الله ثواب صدقة المؤمن قلت نفقته أو كثرت { أيود أحدكم } أي أيحب أحدكم ويريد ويتمنى جنة بستان { تجري من تحتها الأنهار } يعني المياه الجارية من تحت الاشجار، وقيل: من تحت الأبنية { له فيها من كل الثمرات } من جميع أنواعها { وأصابه الكبر } أي الشيب { وله ذرية ضعفاء } أولاد صغار عجزة { فأصابها } أي الجنة وما فيها { إعصار فيه نار } أي ريح شديدة فيها نار، وقيل: هي السموم المحرقة للثمار { فاحترقت } هي وما فيها وبقي هو وهم فقراء عجزة محتاجون متحيرون لا يقدرون على شيء هذا مثل للمرائي في النفقة انه ينقطع عنه احوج ما يكون إليه، وقيل: هو مثل للمفرط في الطاعة بملاذ الدنيا، وقيل: مثل للمؤمن يختم عمله بفساد، وقيل: هو مثل لمن يعمل الأعمال الحسنة لا يبتغي بها وجه الله تعالى فاذا كان يوم القيامة وجدها محبطة فيتحسر عند ذلك من كانت له جنة من أبهى الجنان وأجمعها للثمار، وعن عمر انه سأل عنها أصحابه فقالوا: الله أعلم، فغضب وقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: منها شيء في نفسي، فقال: قل يابن أخي ولا تحقرن نفسك، قال: ضرب مثلا لعمل قال: لأي عمل؟ قال: لرجل غني يعمل الحسنات ثم انه عمل المعاصي حتى اغرق عمله كله، قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا أنفقوا } الآية نزلت في الأنصار وكانوا يأتون بتمر الصدقة يضعونه في المسجد ليأكل منها فقراء المسلمين المهاجرين وكان بعضهم يأتي بالحضون فيدخله فيه، وقيل: كان بعضهم يتصدق بشرار تمرة { ولستم بآخذيه } أي أنكم لا تأخذونه في حقوقكم { إلا أن تغمضوا فيه } يعني الا ان تسامحوا فيه وترخصوا في أخذه من قولهم: أغمض فلان عن فلان اذا غض بصره { الشيطان } قيل: ابليس، وقيل: سائر الشياطين من الجن والانس، قوله تعالى: { يعدكم الفقر } في النفقة في وجه الله ويقولان: تصدقت افتقرت { ويأمركم بالفحشاء } أي بالبخل ومنع الزكاة، وقيل: بالمعاصي.
[2.269-273]
{ يؤتي الحكمة من يشاء } قيل: هو العلم والعمل ، وقيل: هو علم القرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه وحلاله وحرامه، وقيل: النبوة، وقيل: علم الدين { إلا أولو الألباب } قيل: العلماء الحكماء العمال، وقيل: أولو العقل { وما أنفقتم من نفقة } في سبيلي أو سبيل الشيطان { أو نذرتم من نذر } في طاعة الله أو معصيته { فإن الله يعلمه } أي لا يخفى عليه ذلك وهو مجازيكم عليه، وروي أنهم سألوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزل قوله تعالى: { إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } أي فالاخفاء خير لكم والمراد هنا الصدقات المتطوع بها فان الافضل في الفرائض ان يجاهر بها، وعن ابن عباس (رضي الله عنه): صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفا وصدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفا، قوله تعالى: { ليس عليك هداهم } أي لا يجب عليك ان تجعلهم مهتدين الى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والاذى والانفاق من الخبيث وغير ذلك وما عليك الا ان تبلغهم النواهي فحسب { ولكن الله يهدي من يشاء } يلطف به { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } وطلب ما عنده فما بالكم تمنون به { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } ثوابه أضعافا مضاعفة { وأنتم لا تظلمون } أي لا ينقص من ثواب أعمالكم شيء { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } احصرهم الجهاد، وقيل: منعهم الكفار، وقيل: منعوا أنفسهم عن طلب المعاش، قوله تعالى: { لا يستطيعون ضربا في الأرض } لا يمكنهم التصرف في الأرض للتجارة خوفا للكفار والآية نزلت في فقراء المهاجرين وكانوا نحو اربع مائة فقير، وقيل: هم اصحاب الصفة لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر وكانوا في صفة المسجد وهي سقيفة يتعلمون القرآن بالليل ويرضخون النوى بالنهار وكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمن كان عنده فضل اتاهم به، وعن ابن عباس انه وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما على اصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال:
" الا ابشروا يا أصحاب الصفة فمن بقي من أمتي على التعب الذي انتم فيه راضيا بما هو فيه فانه من رفقائي "
قوله تعالى: { يحسبهم الجاهل } لأحوالهم { أغنياء من التعفف } أي مستغنيين من أجل تعففهم عن المسألة { تعرفهم بسيماههم } من صفر الوجوه { لا يسألون الناس إلحافا } الإلحاف الإلحاح ومعناه انهم سألوا بتلطف ولم يلحوا، وقيل: هو نفي السؤال عنهم.
[2.274-280]
قوله تعالى: { الذي ينفقون أموالهم بالليل والنهار } الآية نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يملك الا اربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا ودرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية، وقيل: لأنه (عليه السلام) بعث إلى أهل الصفة بسويق تمر ليلا، وقيل: نزلت في عبد الرحمان بن عوف، { الذين يأكلون الربا لا يقومون } الآية أي إذا بعثوا من قبورهم لا يقومون { إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان } يعني المصروع، قوله تعالى: { من المس } أي من الجنون، وقيل: مسه الشيطان بالاذاء والوسوسة لأن العرب يزعمون ان الشيطان يتخبط الانسان وان الجني يمسه فيختلط عقله ولو كان يقدر على ذلك لكان يتخبط جميع المؤمنين مع شدة عداوته لهم { ذلك } العقاب سبب قولهم { إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } انكار لتسويتهم بينهما عفى الله عما سلف أي لا يؤاخذ بما مضى منه لانه اخذه قبل نزول التحريم { ومن عاد } يعني إلى الربا { فأولئك } الآية، قوله تعالى: { يمحق الله الربا } يعني يهلك المال الذي يدخل فيه الربا، وعن ابن مسعود: الربا وان كثر الى قل { ويربي الصدقات } يعني ما يتصدق به بمعنى يضاعف عليه الثواب ويزيد في المال الذي اخرجت منه الصدقة وبارك فيه، وفي الحديث:
" ما نقص مال من زكاة قط "
{ والله لا يحب كل كفار اثيم } تغليظا في امر الربا { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا } الآية نزلت في ثقيف وكان لهم على قوم من قريش دين فطالبوا بالمال والربا، وقيل: نزلت في العباس وعثمان، وقيل: في العباس وخالد بن الوليد وكانا مشركين في الجاهلية { فأذنوا بحرب } الاذن الاعلام وقرأ الحسن فأيقنوا من الله ورسوله واعلموا من فعل ذلك { بحرب من الله ورسوله } ، قوله: { وإن تبتم } من الربا واخذ ما بقي لكم { فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون } المديونين بطلب الزيادة { ولا تظلمون } بالنقصان منها، قوله تعالى: { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } العسر والاعسار ضيق ذات اليد، والمناظرة الامهال، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من انظر معسرا او وضع له اظله الله في ظل عرشه يوم لا ظل الا ظله "
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من أحب ان تجاب دعوته وتكشف كربته فلييسر على المعسر "
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ارفقوا وترافقوا ولييسر بعضكم على بعض "
{ وأن تصدقوا خير لكم } قيل: تصدقوا برؤوس اموالكم على من اعسر أو بعضها، وقيل: اراد بالتصدق الانظار { إن كنتم تعلمون } ان ثواب الله خير من اخذها والآية تدل على وجوب انظار المعسر.
[2.281]
قوله تعالى: { واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } الآية عن ابن عباس (رضي الله عنه): انها اخر آية نزلت نزل بها جبريل (عليه السلام) وقال: ضعوها رأس المائتين والثمانين من سورة البقرة وعاش رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) احدى وعشرين يوما، وقيل: سبعة أيام، وقيل: أحد وثلاثين يوما، وقيل: ثلاثة ساعات قيل: اتقوا بالطاعة فيما امركم به شر ذلك اليوم الذي ترجعون فيه إلى الله يغني إلى ثوابه أو عقابه.
[2.282-283]
{ يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } يعني اذا داين بعضكم بعضا والمعنى اذا عامل بعضكم بعضا بدين مؤجل { فاكتبوه } أي فاكتبوا الدين لئلا يقع فيه نسيان أو جحود والامر للندب، وقيل: للوجوب، وقيل: كانت الكناية والاشهاد واجبا فنسخ بقوله فان أمن بعضكم بعضا والوجه هو الاول ان الامر للندب وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ان الله مع صاحب الدين حتى يقضي دينه ما لم يكن فيما يكره الله تعالى "
وكانت عائشة تأمر من يتدين لها وتقول: أحب ان الله لا يزال معي، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" اياكم والدين فانه هم بالليل مذلة بالنهار "
وفي الحديث:
" رأيت على باب الجنة مكتوبا القرض بثمانية عشر والصدقة بعشر قلت: يا جبريل ما بال القرض أعظم أجرا من الصدقة؟ قال: لأن صاحب القرض لا يأتيك الا محتاجا وربما وقعت الصدقة في غير اهلها "
{ وليكتب بينكم كاتب بالعدل } يعني وليكتب كتاب المداينة والمبيع كاتب بالعدل بالحق لا يزيد فيه ولا ينقص ولا يكتب شيئا يضر بأحدهما { ولا يأب كاتب } اي لا يمتنع كاتب { أن يكتب كما علمه الله } اي مثل ما علمه الله قيل: الكتابة واجبة على الكفاية أي فرض كفاية { فليكتب وليملل الذي عليه الحق } يعني المطلوب المديون يقر على نفسه بلسانه { وليتق الله ربه } أي يتقي مخالفة امره { ولا يبخس منه شيئا } أي لا ينقص، ثم بين تعالى حال من لا يصح منه الاملاء فقال: { فإن كان الذي عليه الحق } يعني المديون { سفيها } أي جاهلا بالاملاء، وقيل: صغيرا، وقيل: عاجزا { او ضعيفا } قيل: مريضا، وقيل: شيخا خرفا { أو لا يستطيع أن يمل هو } أي لا يقدر على الاملاء بخرس او عجمه، وقيل: السفيه المجنون، والضعيف الصغير، ومن لا يستطيع الاخرس، قوله: { فليملل وليه بالعدل } أي ولي السفيه يملي بما عليه فيقوم مقامه، وقيل: ولي الحق لانه اعلم بدينه { واستشهدوا } اي واطلبوا ان يشهد لكم { شهيدان } على الدين { من رجالكم } يعني من رجال المؤمنين والحرية والبلوغ شرط مع الإسلام عند عامة العلماء وعن علي (عليه السلام): " لا تجوز شهادة العبد في شيء " قوله: { فان لم يكونا رجلين فرجل وامرتان } اي فليشهد رجلان وامرأتان { ان تضل احداهما } أي لا يهتدي بان ينسى من ضل الطريق، قوله: { فتذكر احداهما الاخرى } هو من الذكر اي تذكرها الشهادة، قوله تعالى: { ولا يأب الشهداء } أي لا يمتنعوا { اذا ما دعوا } ليقيموا الشهادة، وقيل: يستشهدوا، قوله تعالى: { ولا تسأموا } كني بالسأم عن الكسل { ان تكتبوه صغيرا او كبيرا إلى اجله } يعني على أي حال كان الحق من صغير وكبير ويجوز ان يكون الضمير للكتاب إلى اجله أي إلى اجل الدين الذي اتفق الغريمان على تسميته { ذلكم } اشارة إلى ان تكتبوه { أقسط } واعدل { وأقوم للشهادة } اي اعون على اقامة الشهادة، قوله: { وأدنى ألا ترتابوا } أي واقرب الا تشكوا، قوله: { الا ان تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم } تعاطيكم اياها يدا بيد، قوله تعالى: { فليس عليكم جناح الا تكتبوها } يعني فلا بأس الا تكتبوها لانه لا يتوهم فيه مما يتوهم في الدين، قوله تعالى: { وأشهدوا إذا تبايعتم } امروا بالاشهاد على السامع مطلقا لأنه احوط، وعن الحسن: ان شاء اشهد وان شاء لم يشهد، قوله تعالى: { ولا يضار كاتب ولا شهيد } المعنى نهى الكاتب والشاهد عن التحريف والزيادة والنقصان { وان تفعلوا } أي وان تضاروا فإن الضرر { فسوق بكم } ، { وان كنتم على سفر } اي مسافرين { ولم تجدوا كاتبا } يكتب الكتاب والشهود { فرهان مقبوضة } فالوثيقة هو ان يأخذ ممن داينه رهنا مقبوضا { فان أمن بعضكم بعضا } يعني الذي له الحق يأتمن من عليه الدين فلا يرتهن ولا يكتب ولا يشهد { فليؤد } خطاب للمديون يعني فليؤد المؤتمن أمانته، وقيل: خطاب للمرتهن يؤدي الرهن عند ان يستوفي حقه لأنه أمانة والأول الوجه { وليتق الله ربه } يعني يتقي مخالفة امره { ولا تكتموا الشهادة } خطاب يعود الى الشهود والمعنى لا تكتموا الشهادة اذا طلبتم اقامتها { فإنه آثم قلبه } يعني فاجر عاصي وانما قال قلبه لان القلب رئيس الاعضاء وهو المضغة التي ان صلحت صلح البدن الجسد وان فسدت فسد، وعن ابن عباس (رضي الله عنه): اكبر الكبائر الاشراك بالله وشهادة الزور وكتمان الشهادة.
[2.284-286]
{ لله ما في السموات وما في الأرض } اختلفوا في الآية فالذي رواه ابن عباس أنها منسوخة،
" وروي انها لما نزلت جاء عدة من الصحابة وقالوا: يا رسول الله ما نزلت آية اشد علينا من هذه الآية وان احدنا يحدث نفسه بما لا يفعله فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " فهكذا نزلت " قالوا: هلكنا يا نبي الله "
، وروي انهم لما قالوا هلكنا قال:
" فتقولوا كما قال بنو اسرائيل سمعنا وعصينا او تقولوا سمعنا وأطعنا "
ومكثوا حولا نزل قوله تعالى: { لا يكلف الله نفسا الا وسعها } فنسخت ما قبلها واما الذي اشار اليه في الكشاف وهو الذي صححه الحاكم ان الآية محكمة قال: والوجه في ذلك ان الله تعالى يؤاخذ بأفعال القلوب التي تجرد العزم عليها والله أعلم { فيغفر لمن يشاء } لمن استوجب المغفرة بالتوبة { ويعذب من يشاء } من استوجب العقوبة بالاصرار، وروي انها لما انزلت { آمن الرسول } الخ قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" حق له ان يؤمن "
يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) صدق { والمؤمنون } يعني اصحابه، وقيل: هو عام { كل آمن بالله } هذا راجع الى الرسول والمؤمنين أي كلهم { آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله } المذكورين أي يؤمنون بجميع الانبياء انهم مبعوثون وأنهم معصومون { لا نفرق بين احد من رسله } يعني انا نصدق بجميعهم ولا نكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، قوله تعالى: { وقالوا سمعنا وأطعنا } يعني الرسول والمؤمنين سمعنا كتابك، وقيل: قبلناه { وأطعنا } ما امرتنا { غفرانك ربنا } أي قالوا: غفرانك اللهم ربنا هب لنا غفرانك { واليك المصير } أي إلى حكمك المصير والمرجع، وقوله: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } أي إلا ماهم له في وسعهم مستطيعون { لها ما كسبت } اي لكل نفس جزاء ما عملت من الخير والعمل الصالح { وعليها ما اكتسبت } أي وزر ما عملت من المعاصي، قال جارالله: فان قلت: لم خص الخير بالكسب والشر بالاكتساب؟ قلت: بالاكتساب اعتمال، فلما كان الشر مما تشتهيه النفس وهي منجذبة إليه وأمارة به كانت في تحصيله اعمل وأجد فجعلت لذلك مكتسبة فيه، ولما لم تكن كذلك في الخير وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال، قوله تعالى: { ربنا لا تؤاخذنا } أي قالوا ربنا لا تؤاخذنا بالنسيان والخطأ ان فرط منا { ولا تحمل علينا إصرا } يعني ثقلا، يعني لا تشدد الأمر علينا { كما حملته } شددته على الذين من قبلنا يعني اليهود { ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } نحو ما كلفت به بنو اسرائيل من أن يقتلوا أنفسهم، وقيل: المراد به الميثاق { واعف عنا واغفر لنا } أي اعف عن صغائر ذنوبنا واغفر كبائرها { وارحمنا } في الدنيا بالرزق وفي الآخرة بالجنة { أنت مولانا } سيدنا وناصرنا ونحن عبيدك { فانصرنا على القوم الكافرين } بالحجة والغلبة، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أوتيت خواتم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يؤتهن نبي قبلي "
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أنزل الله تعالى آيتين من كنوز الجنة كتبهما الرحمان بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة، من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام الليل "
اللهم اغفر لنا وارحمنا يا أرحم الراحمين.
[3 - سورة آل عمران]
[3.1-5]
{ ألم } قد بينا ما قيل فيه، وقيل: أنه من أسماء الله تعالى، وقيل: اسم للسورة، ومنهم من قال: إشارة إلى حدوث القرآن حيث كان مؤلفا من هذه الحروف، وقيل: الألف لله واللام جبريل والميم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يعني جاء بهذا القرآن جبريل من عند الله الى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { الحي } لذاته { القيوم } أي القائم على كل نفس بما كسبت { نزل عليك } يا محمد الكتاب { بالحق } أي القرآن، التنزيل والانزال واحد، وقيل: التنزيل لما جاء متفرقا، والانزال لما جاء مجتمعا { مصدقا لما بين يديه } إني مصدقا لما قبله من كتاب ورسول، قوله: { وأنزل التوراة } على موسى (عليه السلام) دفعة واحدة، قوله: { وأنزل الفرقان } قيل: الكتب المتقدمة، وقيل: القرآن، وقيل: الأدلة الفاصلة بين الحق والباطل { إن الذين كفروا بآيات الله } يعني كتبه المنزلة، وقيل: هم النصارى جحدوا ما أنزل الله تعالى من الآيات في حديث عيسى (عليه السلام) { لهم عذاب شديد } وصفه الله تعالى بالشدة لمداومته { والله عزيز } أي قادر لا يعجزه شيء { ذو انتقام } أي ذو قدرة على الانتقام من الكفار { إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء } لأنه عالم لذاته يعلم السر والعلانية.
[3.6-12]
{ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء } الصور المتفاوتة المختلفة من ذكر وأنثى، وأبيض وأسود، وقصير وطويل، وتام وناقص { لا إله إلا هو } لما ذكر الدلالة عقبه بذكر المدلول عليه وهو الله عز وجل لا إله إلا هو، وهو { العزيز } الذي لا يمتنع عليه شيء { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب } هو الذي أنزل عليك يا محمد الكتاب، وهو القرآن هن أم القرآن المحكم، كقوله تعالى:
ألر كتاب أحكمت آياته
[هود: 1] أي أحكمت بالنظم العجيب، وقيل: أحكمت عباراتها بأن حفظت، قوله تعالى: { هن أم الكتاب } أي هن أصل الكتاب بحمل المتشابهات عليها ولردها إليها { وأخر متشابهات } يعني أن بعضه يشبه بعضا، كقوله تعالى:
الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها
[الزمر: 23] أي يشبه بعضه بعضا في جزالة الألفاظ وجودة المعاني لا تناقص فيه ولا فساد، وروي في الكشاف أن المتشابه مثل قوله تعالى:
لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار
[الأنعام: 103]
وإلى ربها ناظرة
[القيامة: 23] و
لا يأمر بالفحشاء
[الأعراف: 28]
أمرنا مترفيها
[الإسراء: 16] { فأما الذين في قلوبهم زيغ } نزلت في المنافقين، وقيل: في وفد نجران، زيغ: قيل: شك، وقيل: ميل، وهم أهل البدع والعقائد الفاسدة، قوله: { فيتبعون ما تشابه منه } يعني يتعلقون بالمتشابه { ابتغاء الفتنة } أي طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم ويضلونهم { وابتغاء تأويله } أي وطلب أن يتأولونه التأويل الذي يشتهونه { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } أي لا يهتدي إلى تأويل الحق الذي يجب أن يحمل عليه إلا الله سبحانه وعباده الذين سبحوا في العلم يقولون ويفسرون المتشابه { كل من عند ربنا } أي يقولون أن محكمه ومتشابهه من عند ربنا { ربنا لا تزغ قلوبنا } أي لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا { بعد إذ هديتنا } وأرشدتنا لدينك، ولا تمنعنا ألطافك بعد إذ لطفت بنا، { إن الذين كفروا } يعني من كفر برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: بنو قريظة وبني النضير، { لن تغني عنهم أموالهم } لا تنفعهم ولا تكفر عنهم شيئا من عذاب الله تعالى { كدأب آل فرعون } يعني دأب هؤلاء الكفار، كدأب آل فرعون وغيرهم حل بهم العقاب، والدأب العادة، وقيل: كعادة الله عز وجل في آل فرعون أنزل بهم العذاب لما سلف من إجرامهم { والذين من قبلهم } كفار الأمم الماضية { كذبوا بآياتنا فأخذهم الله } أي عاقبهم الله تعالى { بذنوبهم } أي بإجرامهم ومعاصيهم { والله شديد العقاب } لمن يعاقبه، فاحذروا عقابه { قل للذين كفروا ستغلبون } الآية نزلت في اليهود، وقيل: لما هلكت قريش يوم بدر جمع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اليهود بسوق بني قينقاع فدعاهم إلى الإسلام وحذرهم ما نزل بقريش من الإنتقام، فأبوا وقالوا ألسنا كقريش الأغمار الذين لا يعرفون القتال، لو حاربتنا لتعرف الناس فنزلت الآية، وقيل: نزلت في مشركي قريش يوم بدر.
[3.13-17]
{ قد كان لكم آية في فئتين التقتا } نزلت في قصة بدر والخطاب لمشركي قريش، وقيل: إلى اليهود وكان عدد المشركين ألفا عن علي (عليه السلام) وابن مسعود، وأما عدد المسلمين فثلاثمائة وبضع عشرة، وقيل: ثلاثة عشر على عدد أصحاب طالوت، تسعة وتسعين من المهاجرين والباقي من الأنصار، وصاحب راية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان في الجيش سبعون بعيرا وفرسان، فرس للمقداد، وفرس لمرثد بن أبي مرثد، وستة أدرع، وثمانية سيوف. وكان رئيس المشركين عتبة بن ربيعة، وهو أول مشهد شهده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة وخروجه يلتقي عير أبي سفيان، فبعث أبو سفيان إلى مكة يعلمهم بذلك، فخرجوا والتقوا ببدر، وشهد الوقعة الملائكة وحاربوا ولم يحاربوا غيرها، وشهدها من مؤمني الجن سبعون نبيا، وحضر في عسكر الكفار ابليس نعوذ بالله منه ومعه سبعون ألفا، وكان الذي قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبعين رجلا من المشركين وأسر منهم سبعين رجلا { يرونهم مثليهم رأي العين } أي قريبا من العين، أو مثلي عدد المسلمين ستمائة ونيفا وعشرين أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم، وكان ذلك إمدادا لهم من الله تعالى كما أمدهم بالملائكة، وقيل: ترون يا مشركي قريش المسلمين كمثلي فئتكم الكافرة أو مثلي أنفسهم، قوله تعالى: { زين للناس حب الشهوات } المزين الله تعالى للابتلاء كقوله تعالى:
إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها
[الكهف: 7] ويدل عليه قراءة مجاهد زين للناس على تسمية الفاعل، وعن الحسن المزين هو الشيطان، قيل: كان أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في فقر وشدة والكفار في غنى وسعة، فنزلت الآية تسلية لهم، وإن ما أعد لهم خير مما أعطي هؤلاء، فرتب تعالى هذه الأشياء على وفق ما يعلمه من الترتيب قال تعالى: { حب الشهوات من النساء } ثم { والبنين } { والقناطير المقنطرة } جمع قنطار، والقنطار ألف دينار، أو اثني عشر ألف درهم، وقيل: ألف ومائتا أوقية، وقيل: ملء مسك ثور ذهبا أو فضة ثم: { والخيل المسومة } المعلمة، ثم { والأنعام } ثم { والحرث } الزرع، فرتبها الله تعالى على منازلها في قلوب خلقه الأزواج الثمانية. { الصابرين } على الطاعة وعن المعصية { والصادقين } في أفعالهم وأقوالهم واعتقادهم في السر والعلانية { والقانتين } قيل: المطيعين، وقيل: الدائم على العبادة، وقيل: القنوت القيام بالواجب على التمام { والمنفقين } المؤدون الزكاة، قيل: في السر { والمستغفرين بالأسحار } قيل: هم المصلون وقت السحر، وقيل: السائلون المغفرة، وقيل: المصلون الفجر جماعات، روي أن داوود (عليه السلام) سأل جبريل (عليه السلام): أي الليل أفضل؟ فقال: لا أدري إلا أن العرش يهتز عند السحر.
[3.18-22]
وروي أنها لما نزلت: { شهد الله أنه لا إله إلا هو } الآية، كان عند الكعبة ثلاثمائة وستون صنما فخرجت كلها على وجهها لشهادة الله تعالى بأنه لا إله إلا هو، ومعنى شهد: قضى وحكم، وقيل: اعلم وأمر، روي أن اسم الله الأعظم في هذه الآية { إن الدين عند الله الإسلام } هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } قيل: هم أهل التوراة، وقيل: هم النصارى اختلفوا في أمر عيسى (عليه السلام) { إلا من بعد ما جاءهم العلم } قيل: العلم بأن دين الله الإسلام، وقيل: العلم الحق بأن محمدا نبي، وقيل: بأن عيسى عبد الله ورسوله { بغيا } أي ظلما وحسدا { ومن يكفر بآيات الله } أي بحججه، قيل: التوراة والإنجيل، وما فيهما من صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { فإن الله سريع الحساب } سريع الجزاء { فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله } قيل: إن اليهود والنصارى قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لسنا على ما سميتنا وإنما نحن على دين الإسلام، فنزلت هذه الآية، وقيل: حاجوا في عيسى (عليه السلام) فنزلت هذه الآية، قوله: { فإن حاجوك } جادلوك في الدين، قيل: وفد نجران، وقيل: اليهود والنصارى، وقيل: جميع الكفار، وقوله: { أسلمت وجهي لله } أي أخلصت نفسي وجملتي لله وحده، وقيل: وجهي عملي أي أخلصت قصدي وعملي لله تعالى، قوله تعالى: { وقل للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى والأميين } الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب { أسلمتم } يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب إسلامكم ويقتضي حصوله لا محالة، فهل أسلمتم أم أنتم على كفركم { فإن أسلموا فقد اهتدوا } نفعوا أنفسهم حيث خرجوا من الضلال إلى الهدى، ومن الظلمة إلى النور، قوله: { وإن تولوا } فلن يضروك فإنك رسول الله { فإنما عليك البلاغ } أن تبلغ الرسالة، قوله تعالى: { ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون } وهم أهل الكتاب، وعن أبي عبيدة بن الجراح قال:
" سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيا، أو رجلا أمر بمعروف ونهى عن منكر ثم قرأ هذه الآية، قال يا أبا عبيدة: قتلت بنو اسرائيل ثلاثة واربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة واثني عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، فقتلوا جميعا من آخر النهار ".
[3.23-27]
{ ألم تر الى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } الآية نزلت في اليهود،
" وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل مدراسهم فدعاهم، فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت؟ قال: " على ملة إبراهيم ". قالا: إن إبراهيم كان يهوديا، قال لهما: " إن بيني وبينكما التوراة " ، فأبيا "
، وقيل: نزلت في الرجم.
" روي عن ابن عباس أن رجلا وامرأة زنيا وكانا ذا شرف وكان في كتابهم الرجم فكرهوا رجمهما لشرفهما، فرجعوا في أمرهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورجوا أن تكون عنده رخصة فأمر بالرجم، فقالوا: ليس عليهما الرجم، فقال: " بيني وبينكم التوراة فمن أعلمكم بالتوراة؟ " فقالوا: عبد الله بن صوريا فأتوا به ودعوا بالتوراة، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها، فقال عبد الله بن سلام: يا رسول الله قد جاوز موضعها فرفع يده فوجدوا آية الرجم، فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهما فرجما، فغضب اليهود غضبا شديدا "
{ ما كانوا يفترون } في قولهم قالوا: إن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، قوله تعالى: { فكيف إذا جمعناهم } كيف يكون حالهم { قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء } تعطي من تشاء النصيب الذي قسمته له واقتضته حكمتك، وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حين فتح مكة وعد أمته ملك فارس والروم، فقال اليهود والمنافقون: من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ فنزلت الآية، وقيل:
" نزلت يوم الخندق فظهر حجر عظيم وجاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فضربها ثلاث ضربات وكسرها بمعول وكان يبرق منها بكل ضربة برق عظيم، فكبر تكبيرة الفتح، فسئل عن ذلك، فقال: " أخبرني جبريل أن أمتي ستظهر على ملك فارس والروم " فاستبشر المسلمون، فقال المنافقون: إنه يعدكم الباطل إنما نحفر الخندق من الفرق "
فنزلت الآية، قال جارالله:
" وروي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما خط الخندق عام الأحزاب وقطع لكل عشرة أربعين ذراعا وأخذوا يحفرون خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فخرج سلمان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبره فأخذ المعول من سلمان فضربها ضربة صدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، وكبر وكبر المسلمون وقال: " أضاء لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب " ، ثم ضرب الثانية فقال: " أضاءت لي منها البقور، الخمر من الروم " ثم ضرب الثالثة وقال: " أضاءت لي منها قصور صنعاء وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة علي كلها فابشروا " فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنيكم الباطل ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، وأنها تفتح لكم مدائن كسرى، وأنكم إنما تحفرون الخندق من الفرق، ولا تستطيعون أن تبرروا "
، فنزلت الآية: { وتعز من تشاء } قيل: بعز القناعة، وقيل: بعز الطاعة { بيدك الخير } تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك خير الدنيا والآخرة { تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل } وذلك بقدرته الباهرة، بذكر حال الليل والنهار بالمعاقبة بينهما وحال الحي والميت في إخراج أحدهما من الآخر، وهو أن يخرج المؤمن من الكافر وعكسه، وفي بعض ما رواه في الكشاف أن الله ملك الملوك قال: " قلوب الملوك ونواصيهم بيدي فإن العباد أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة وإن العباد عصوني جعلتهم عليهم عقوبة فلا تشتغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إلي أعطفهم عليكم " ، وهو معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" كما تكونوا يولى عليكم ".
[3.28-34]
{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين } الآية نزلت في خاطب بن أبي بلتعة، وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه { ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء } ومن يوالي الكفرة فليس من ولاية الله في شيء يقع عليه اسم الولاية، يعني أنه ينسلخ عن ولاية الله رأسا { إلا أن تتقوا منهم تقاة } إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاءه { ويحذركم الله نفسه } فلا تتعرضوا لسخطه بموالاة أعدائه، وهذا وعيد شديد، ومعنى نفسه ذاته المتميزة عن سائر الذوات { قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه } من ولاية الكفار وغيرها مما لا يرضاه الله تعالى { يعلمه الله } ولم يخف عليه وهو الذي { يعلم ما في السموات وما في الأرض } لا يخفى عليه شيء منه قط، ولا يخفى عليه سركم وعلانيتكم { والله على كل شيء قدير } قادر على عقوبتهم. قوله تعالى: { يوم تجد } منصوب بتود والضمير في بينه إلى اليوم أي يوم القيامة حين تجد { كل نفس } خيرها وشرها حاضرين يتمنى { لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا } { والله رؤوف بالعباد } ، وعن الحسن من رأفته بهم أن حذرهم نفسه، قوله تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا: نحن الذين نحب ربنا، وجعل تصديق ذلك اتباع رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل:
" وقف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قريش في المسجد الحرام وقد نصبوا الأصنام وزينوها وسجدوا لها، فقال: " لقد تركتم ملة إبراهيم وإسماعيل " فقالوا: إنما نعبد هذه حبا لله تعالى "
، فنزلت الآية، وقيل: نزلت في نصارى نجران حين قالوا: إنما نعظم المسيح حبا لله تعالى، ومن ادعى محبة الله تعالى وخالف سنة رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو كاذب وكتاب الله تعالى يكذبه { إن الله اصطفى آدم ونوحا } يعني أخبار آدم ونوحا { وآل إبراهيم } إسماعيل وإسحاق وأولادهما { وآل عمران } موسى وهارون أبناء عمران بن يصهر، وقيل: عيسى ابن مريم بنت عمران بن ماثان، وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة، وقد دخل في آل إبراهيم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { ذرية بعضها من بعض } في الدين.
[3.35-39]
{ إذا قالت امرأة عمران } يعني عمران بن ماثان جد عيسى (عليه السلام): { رب إني نذرت لك ما في بطني } أي أسلمت وأخلصت لك ذلك في عبادتك لا أشغله بشيء من خدمتي { محررا } معتقا لخدمة بيت المقدس، وكان هذا النوع من النذر مشروعا عندهم، وروي أنهم كانوا ينذرون هذا النذر، وإذا بلغ الغلام خير بين أن يفعل أو أن لا يفعل { إني وضعتها } الضمير في وضعتها لما في بطني، وإنما أتت على المعنى لأن ما في معاني بطنها كان أنثى في علم الله تعالى أو على تأويل الحبلة أو النفس أو التسمية { والله أعلم بما وضعت } تعظيم لموضوعها { فتقبلها ربها بقبول حسن } أي رضي بها في النذر مكان الذكر، وروي أنها حين ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأخيار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة، وقالت: دونكم هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم وكان بنو ماثان رؤساء بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم، فقال لهم زكريا أنا أحق بها عندي خالتها، قالوا: لا حتى نقترع فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر الأردن، فألقوا فيه اقلامهم، فارتفع قلم زكريا فوق الماء ورسيت أقلامهم، فكفلها زكريا { وأنبتها نباتا حسنا } مجاز عن التربية الحسنة { وكفلها زكريا } يعني ضمها إليه وجعله كافلا لها، وقيل: بنى لها (عليه السلام) محرابا في المسجد غرفة يصعد إليها بسلم، وقيل: المحراب أشرف المجالس ومقدمها كأنه وضعها في أشرف موضع من بيت المقدس، وقيل: كانت مساجدهم تسمى المحاريب، وقيل: كان لا يدخل عليها إلا هو وحده، وكان إذا خرج غلق عليها سبعة أبواب { وجد عندها رزقا } كان رزقها ينزل عليها من الجنة، ولم ترتضع ثديا قط، وكان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، قوله تعالى: { أنى لك هذا } من أين لك هذا الرزق الذي لا يشبه أرزاق الدنيا وهو في غير حينه، والأبواب مغلقة عليك { قالت هو من عند الله } فلا تستبعد، قيل: تكلمت وهي صغيرة كما تكلم عيسى وهو في المهد { إن الله يرزق من يشاء بغير حساب } هذا من جملة كلام مريم (عليها السلام) أو من كلام رب العزة يعني تقديرا لكثرته أو تفضلا بغير محاسبة، { هنالك } أي في ذلك المكان حيث هو قاعد عند مريم (عليها السلام) في المحراب أي في ذلك الوقت لما رأى من حال مريم في كرامتها على الله ومنزلتها رغب أن يكون له ولد { ذرية } ولدا والذرية تقع على الواحد والجمع { سميع الدعاء } أي مجيبه { فنادته الملائكة } قيل: هو جبريل (عليه السلام) { في المحراب إن الله يبشرك بيحيى } قيل: سمي يحيى لأنه أحياه الله تعالى بالإيمان والحكمة والعلم، أو لأنه قتل شهيدا والشهداء أحياء، قوله تعالى: { مصدقا بكلمة من الله } مصدقا بعيسى مؤمنا به، وقيل: هو أول من آمن به، وسمي عيسى كلمة لأنه لم يوجد إلا بكلمة الله تعالى وهي قوله: كن من غير سبب آخر، قوله تعالى: { وسيدا } السيد: هو الذي يسود قومه، أي يفوقهم في الشرف، وكان يحيى فائقا لقومه وللناس كلهم { وحصورا } الحصور: الذي لا يقرب النساء، من حصر نفسه: منعها من الشهوات، وقيل: الذي لا يدخل في اللعب والباطل.
[3.40-43]
قوله تعالى: { وقد بلغني الكبر } وقد كان له تسع وتسعون سنة ولامرأته ثماني وتسعون سنة { قال آيتك أن لا تكلم } لا تقدر على كلام { الناس ثلاثة أيام } وإنما خص كلام الناس ليعلمه أنه يحبس لسانه عن القدرة على تكليمهم خاصة مع إبقاء قدرته على الثناء بالذكر لله تعالى { إلا رمزا } يعني إلا إشارة بيدك أو غيرها { وسبح بالعشي } من حين تزول الشمس إلى حين تغيب { والإبكار } من حين طلوع الفجر إلى وقت الضحى.
قال في تفسير الهادي: يحيى بن الحسين (عليه السلام) وسألت عن يحيى (عليه السلام) والخبر الذي بلغ عنه هو أن اليهود لعنهم الله تعالى لما أن طلبوه دخل الشجرة فلحقوه فنشروه بالمنشار وأما الذي نوثق به ونصححه فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما وصل إلى الأكانع يدعوهم إلى الله تعالى كان فيهم ملك جبار عنيد، فلما كان ذات يوم وهو يدعو الخلق إلى الله تعالى ويحضهم على طاعته ويقيم عليهم حجج ربه، إذ جاءت إليه امرأة على فرس ذات جمال وهيئة، قاصدة إلى الملك فقيل ليحيى (عليه السلام): إن هذه المرأة يفسق بها هذا الظالم وهي تختلف إليه كذلك فوثب إليها (عليه السلام) ورماها بالحصى وقال: يا عدوة الله تجاهرين بمعصية الله ووعظها مع كلام طرحه (عليه السلام) لها، فلما دخلت على الملك دخلت غضبانة فسألها عن خبرها فأخبرته بما فعل يحيى بن زكريا (عليه السلام) وامتنعت من الوقوف عنده والانبساط إليه حتى يقتل لها يحيى (عليه السلام)، فأرسل الطغاة له فنشروه بالمنشار طلبا لرضى الفاجرة لما كان من فعله بها، فلم يمنع الطغاة عنه أحد من أهل ذلك الدهر منه، ولم ينكر فعله عليه، فأقام دمه يعلو على الأرض جهرا، فلما أن قال بخت نصر وظهر على البلد قال: ما بال هذا الدم يعلو؟ فقيل له: إنه على ما تعاين دهرا وحينا طويلا وأعلموه بالسبب، فقال: إن لهذا الدم لأمرا وشأنا فلأقتلن جميع أهل البلد فأقبل يقتلهم على الدم والدم يطفح على دمائهم ويعلو حتى قتل مائة ألف إلا واحدا والدم يعلو على حاله يعلو على الدماء، فقال: اطلبوا فقيل له: لم يبق من القوم أحد، فأمر بالطلب فلم يزالوا يطلبوا حتى وجدوا رجلا متحيزا في غار فضربوا عنقه على الدم، فلما أن قتل سكن الدم عند كمال مائة ألف، هذا ما كان من خبره (عليه السلام) رواه في تفسير الهادي (عليه السلام).
{ اصطفاك } أولا حين تقبلك من أمك وربك { وطهرك } مما قذفك به اليهود { واصطفاك } آخرا { على نساء العالمين } بأن وهب لك عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من نساء العالمين، قوله تعالى: { يا مريم اقنتي لربك واسجدي } أمرت بذلك لكونها من هيئة الصلاة وأركانها، ثم قيل لها: { واركعي مع الراكعين } يعني ولتكن صلاتك مع المصلين في الجماعات ويحتمل أن يكون في زمانها من لا يركع فأمرت بالركوع مع الراكعين، ذلك إشارة إلى ما سبق من نبأ زكريا ويحيى ومريم وعيسى { أقلامهم } أي أزلامهم وهي قداحهم التي طرحوها في النهر مقترعين، وقيل: هي الأقلام التي كتبوا بها التوراة اختاروها للقرعة تبركا بها، قوله تعالى: { يختصمون } في شأنها تنافسا في التكفيل بها.
[3.44-51]
{ وجيها في الدنيا والآخرة } في الدنيا بالنبوة، وفي الآخرة بالشفاعة وعلو الدرجات في الجنة، قوله تعالى: { ومن المقربين } رفعه الله إلى السماء وصحبته الملائكة { ويكلم الناس في المهد } ما يمهد للصبي في مضجعه { وكهلا } المعنى ويكلم الناس في هاتين الحالين كلام الأنبياء من غير تفاوت في حال الطفولية وحال الكهولية { ويعلمه الكتاب } قيل: الخط { والحكمة } سنن الأنبياء (عليهم السلام)، وقيل: قسم الله الخط عشرة أجزاء جعل للمخلوقين جزءا ولعيسى (عليه السلام) تسعة أجزاء ولما رفع عيسى (عليه السلام) بكت عليه مريم بكاءا عظيما فهبط بعد سبعة أيام وأخبرها بحاله وعاشت أمه بعد رفعه ثلاث سنين، وقيل: ستا وحملت به ولها ثلاث عشرة سنة ورفع (عليه السلام) وله ثلاث وثلاثون سنة { ورسولا } أي جعله رسولا إلى بني إسرائيل وكان أول أنبياء بني إسرائيل موسى (عليه السلام) وآخرهم عيسى (عليه السلام) { إني قد جئتكم } أي قال لهم لما بعث: إني قد جئتكم { بآية } أي بحجة وعلامة ودلالة على نبوتي { كهيئة الطير } أي كصورة الطير { فانفخ فيه } قيل: في المهيا، وقيل: في الطين، قيل: أخذ طينا فجعل منه خفاشا ثم نفخ فيه فطار { فيكون } طائرا حيا يطير، وروي أنه (عليه السلام) نفخ فيه فطار والناس ينظرون حتى غاب عن أعينهم ثم سقط ميتا بإذن الله تعالى وإنما أحياه عند نفخ عيسى معجزة له { وأبرئ الأكمه } هو الذي يولد أعمى، وقيل: هو الممسوح العين، وروي أنه ربما اجتمع عليه خمسون ألفا من المرضى من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى (عليه السلام) وما كانت مداواته إلا بالدعاء وحده { وأحيى الموتى } روي أنه أحيى سام بن نوح وهم ينظرون فقالوا: هذا سحر فأرنا آية، فقال: يا فلان أكلت كذا، ويا فلان خبئ لك كذا { وما تدخرون } يعني ما معكم في بيوتكم { إن في ذلك لآية } لحجة عظيمة { إن كنتم مؤمنين } مصدقين بما جئت به { ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم } في شريعة موسى الشحوم ولحم الابل وكل ذي ظفر { وجئتكم بآية من ربكم } شاهدة على رسالتي، وهي قوله: { إن الله ربي وربكم } لأن جميع الرسل (عليهم السلام) كانوا على هذا القول وآية أخرى من خلق الطين وإبراء الأكمة وإحياء الموتى.
[3.52-58]
{ قال الحواريون نحن أنصار الله } يعني أنصار دينه، قيل: سموا حواريين لنقاء قلوبهم وإخلاص سرائرهم في طاعة الله تعالى أعلم أن الحواريين كانوا أصفياء عيسى وأولياءه وأنصاره ووزراءه، وكانوا إثني عشر رجلا، واختلف العلماء فيهم ومن هم ولم سموا بهذه الأسماء فقال ابن عباس: كانوا صيادين يصيدون السمك فمر بهم عيسى، فقال: " من أنصاري إلى الله؟ " فقالوا: من أنت؟ قال: " أنا عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله " قالوا: فهل يكون أحد من الأنبياء فوقك؟ قال: " نعم النبي العربي فاتبعوه وآمنوا به وانطلقوا معه " وقيل: كانوا ملاحين، وقيل: كانوا قصارين يجورون الثياب أي يبيضونها، وقيل: كان الحواريون اثني عشر رجلا تبعوا عيسى ابن مريم، وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح الله جعنا فيضرب بيده إلى الأرض سهلا كان أو جبلا فيخرج لكل واحد منهم رغيفين فيأكلهما، وإذا عطشوا قالوا: يا روح الله عطشنا فيضرب بيده إلى الأرض فيخرج لهم ما يشربون، وقيل: الحواريون هم الأنصار، وروي أنهم قالوا: يا روح الله من افضل منا؟ قال: " الذي يعمل بيده ويأكل من كسبه " فصاروا يغسلون الثياب بالكرى ويأكلون، وقيل: صنع ملك من الملوك طعاما فدعا الناس إليه وكان عيسى (عليه السلام) على قصعة وكانت القصعة لم تنقص، فقال الملك: من أنت؟ قال: " أنا عيسى ابن مريم " فقال: إني أترك ملكي وأتبعك، فانطلق بمن اتبعه منهم فهم الحواريون { فاكتبنا مع الشاهدين } قيل: مع الأنبياء الذين يشهدون لأممهم، ومع الذين يشهدون بالوحدانية، وقيل: مع أمة محمد لأنهما شهداء على الناس { ومكروا } يعني بني إسرائيل الذي أحس منهم بالكفر، ومكرهم أنهم وكلوا به من يقتله غيلة { ومكر الله } أي رفع عيسى إلى السماء، وألقى شبهه على من أراد اغتياله حتى قتل { والله خير الماكرين } أي أقواهم وأنفذهم كيدا وأقدرهم على العقاب من حيث لا يشعر المعاقب { إني متوفيك } أي مستوفي أجلك، ومعناه عاصمك من أن يقتلك الكفار ومؤخرك إلى أجل أكتبه لك، قوله تعالى: { ورافعك إلي } أي إلى سمائي ومقر ملائكتي { ومطهرك من الذين كفروا } من سوء جوارهم وخبث صحبتهم، وقيل: متوفيك قابضك من الأرض، وقيل: متوفي نفسك بالنوم من قوله تعالى:
الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها
[الزمر: 42] ورافعك وأنت نائم حتى لا يلحقك خوف { وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة } يعلونهم بالحجة والسيف ومتبعوه هم المسلمون، لأنهم متبعوه في الإسلام وإن اختلفت الشرائع دون الذين كذبوا من اليهود والنصارى { ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم } تفسير قوله تعالى: { فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين } قوله تعالى: { وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم } ، { ذلك } إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى (عليه السلام) وغيره { من الآيات } الخبر { والذكر الحكيم } القرآن، لأنه ينطق بالحكمة، وعن بعض العلماء أنه أسر بالروم فقال لهم: لم تعبدون عيسى (عليه السلام)؟، قالوا: لأنه لا أب له، قال: فآدم أولى لأنه لا أبوين له، قالوا: كان يحيي الموتى، قال: فحزقيل أولى، لأن عيسى (عليه السلام) أحيى أربعة نفر وحزقيل (عليه السلام) أحيى ثمانية آلاف، قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص، قال: فجرحيش أولى، لأنه طبخ وأحرق، ثم قام سليما.
[3.59-64]
قوله تعالى: { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب } الآية نزلت في وفد نجران، والعاقب وأصحابه قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هل رأيت ولدا من غير أب؟ فنزلت، عن ابن عباس: فلما دعاهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المباهلة أخذ بيد الحسن والحسين وعلي وفاطمة (عليهم السلام) وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا أنا دعوت فآمنوا " ثم دعا النصارى إلى المباهلة فأحجموا عنها، وأقروا بالذلة، وقبلوا الجزية، وروي أنهم استشاروا العاقب وكان ذا رأيهم، فقال: إنه نبي مرسل وما لاعن قوم شيئا قط فعاش كبيرهم ولا ثبت صغيرهم فوادعوه وانصرفوا، وروي أن أسعف نجران قال لهم: إني لأرى وجوها لو سألوا الله تعالى أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة وسألوا الصلح، فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل سنة ألفي حلة، ألف في رجب وألف في صفر، وثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين رمحا، فدفعوها إلى واليه، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " والذي نفسي بيده لو باهلوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليه الوادي نارا وما حال الحول على النصارى حتى هلكوا { إن هذا لهو القصص الحق } أي هذا الذي قص عليك من نبأ عيسى لهو القصص الحق، قوله تعالى: { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم } لا يختلف فيها التوراة والانجيل والقرآن وتفسير الكلمة قوله تعالى: { ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } يعني تعالوا إليها حتى لا تقولوا عزير ابن الله، وقيل: اجتمعت أحبار اليهود ونصارى نجران عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتنازعوا في إبراهيم، فقال اليهود: ما كان إلا يهوديا، وقالت النصارى: ما كان إلا نصرانيا، فنزلت الآية،
" وروي أنهم لما اختلفوا سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك، فقال: " بل كان بريئا من الفريقين وكان حنيفا مسلما وأنا على دينه " فقالت اليهود: والله يا محمد والله ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت النصارى في عيسى "
، فنزلت الآية ونزل قوله تعالى:
ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا
[آل عمران: 67] الخ { ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله } يعني نطيع أحبارنا فيما أحدثوا من التحريم والتحليل، من غير رجوع إلى ما شرع الله تعالى كقوله تعالى:
اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحد
[التوبة: 31]، وعن عدي بن حاتم
" أما كنا نعبدهم يا رسول الله، قال: " أليس كانوا يحلون لكم ويحرمون عليكم فتأخذون بقولهم " ، قال: نعم، قال: " هو ذاك فإن تولوا عن التوحيد "
{ فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } أي لزمتكم الحجة ووجب عليكم أن تعترفوا وتسلموا بأنا مسلمون دونكم كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما، أعترف بأني أنا الغالب وسلم لي الغلبة، ويجوز أن يكون من باب التعريض ويكون معناه اشهدوا واعترفوا بأنكم كافرون حيث توليتم عن الحق بعد ظهوره.
[3.65-74]
قوله تعالى: { يا أهل الكتاب لم تحاجون } الآية، زعم كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان منهم وجادلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، فقيل لهم: أن اليهودية إنما حدثت بعد نزول التوراة، والنصرانية بعد نزول الإنجيل، وبين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبينه وبين عيسى ألفان، فكيف يكون إبراهيم على دين لم يحدث إلا بعد عهده بزمان { أفلا تعقلون } حتى لا تجادلون بمثل هذا الجدال، قوله تعالى: { ها أنتم هؤلاء حاججتم } جادلتم { فيما لكم به علم } فيما نطق التوراة والإنجيل { فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم } ولا ذكر له في كتابكم من دين إبراهيم، قوله تعالى: { ولكن كان حنيفا } منقادا لله تعالى { مسلما وما كان من المشركين } وأراد بالمشركين اليهود والنصارى لإشراكهم في عزير والمسيح { إن أولى الناس بإبراهيم } أي أخصهم به وأقربهم إليه { للذين اتبعوه } في زمانه وبعده { وهذا النبي } خصوصا { والذين آمنوا } من أمته { ودت طائفة } وهم اليهود، دعوا حذيفة وعمار ومعاذ إلى اليهودية { وما يضلون إلا أنفسهم } يعني وما يعود وبال الاضلال إلا عليهم لأن العذاب يضاعف لهم بضلالهم وإضلالهم وما يقدرون على إضلال المسلمين، وإنما يضلون أمثالهم من أشياعهم، قوله تعالى: { يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } أي التوراة والإنجيل وكفرهم بها أنهم لا يؤمنون بما نطقت به من صحة نبوة محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { وأنتم تشهدون } نعته في الكتابين، أو تكفرون بآيات الله جميعا وأنتم تعلمون أنها حق، قوله تعالى: { وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره } والمعنى أظهروا الإيمان بما أنزل على المسلمين في أول النهار واكفروا آخره بهم، لعلهم يشكون في دينهم ويقولون ما رجعوا وهم أهل كتاب إلا أنهم قد تبين لهم فيرجعون برجوعكم، وقيل: نزلت في اثني عشر من أحبار يهود خيبر، قال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار من غير اعتقاد واكفروا به في آخره، وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس كذلك النبي المبعوث، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه، فإن فعلتم ذلك شك اصحابه في دينه، وقيل: هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة، قال كعب بن الأشرف لأصحابه: آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة وصلوا إليها في أول النهار ثم اكفروا به آخره وصلوا إلى الصخرة، لعلهم يقولون هم أعلم منا فيرجعون يحاجونكم بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة، أو يحاجوكم عند ربكم يعني يوم القيامة { قل إن الفضل بيد الله } يريد به الهداية والتوفيق.
[3.75-78]
{ ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار يؤده إليك } نزلت في عبدالله بن سلام، أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه، وفي فنحاص اليهودي أودعه رجل قريشي دينارا فجحده عن ابن عباس، وقيل: نزلت في اليهود والنصارى، فالذي يؤدي الأمانة النصارى، والذي لا يؤديها اليهود، وقيل: قالت اليهود: الأموال كلها لنا فيما في أيدي العرب لنا ظلمونا وغصبونا، فلا سبيل علينا في أخذنا إياه منهم { إلا ما دمت عليه قائما } إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائما على رأسه متوكلا عليه بالمطالبة أو بالرفع إلى الحاكم وإقامة البينة { ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين } يعنون الذين ليسوا من أهل الكتاب وما فعلنا بهم من حبس أموالهم والاضرار بهم، لأنهم ليسوا على ديننا وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم ويقولون ما لم يجعل له في كتابنا حرمة، وقيل: بايع اليهود رجالا من قريش فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا: ليس علينا حق { ويقولون على الله الكذب } بادعائهم أن ذلك في كتابهم { وهم يعلمون } أنهم كاذبون { بلى } إثبات لما نفوه من السبيل { من أوفى بعهده } لأنهم إذا وفوا بالعهود وفوا أول شيء بالعهد الأعظم، وهو ما أخذ عليهم في كتبهم من الايمان برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مصدقا لما معهم { فإن الله يحب المتقين } نزلت في عبد الله بن سلام { إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا } نزلت في أبي رافع بن حيي بن اخطب حرفوا التوراة وبدلوا صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخذوا الرشوة على ذلك، وقيل: جاءت جماعة من اليهود إلى كعب بن الأشرف في سنة أصابتهم ممتارين، فقال لهم: هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله؟ قالوا: نعم، قال: لقد هممت أن أميركم وأكسوكم فحرمكم الله خيرا كثيرا، فقالوا: لعله شبه علينا فانطلقوا وكتبوا صفته غير صفته، ثم رجعوا وقالوا: قد غلطنا وليس هو الذي بعث ففرح وأمارهم { أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله } بكلام يسرهم { ولا ينظر إليهم } أي لا يرحمهم ولا يحسن إليهم { ولا يزكيهم } أي لا يريد بهم خيرا ولا يثني عليهم، وقوله تعالى: { ولا ينظر إليهم } مجاز عن الاستهانة والسخط عليهم، { وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب } يعني يحرفونه { ويقولون هو من عند الله } فأكذبهم الله بقوله: { وما هو من عند الله } وفي الآية دليل واضح على أن أفعال العباد منهم وبطلان قول المحبرة لأن عندهم أنها مخلوقة، والآية نزلت في كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وجماعة من أحبار اليهود وأشرافهم.
[3.79-89]
{ ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة }
" قيل: أن أبا رافع ورئيس وفد نجران قالا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أتريد أن نعبدك ونتخذك الها، قال: " معاذ الله أن نعبد غير الله فما لذلك بعثني ولا بذلك أمرني "
فنزلت الآية، قال تعالى: { ولكن كونوا ربانيين } فقهاء علماء، وعن محمد بن الحنفية أنه قال: حين مات ابن عباس (رحمه الله تعالى) اليوم مات رباني هذه الأمة، قوله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } قيل: هو على ظاهره من أخذ الميثاق على النبيين، وقيل: أراد ميثاق أولاد النبيين، وهم بنو إسرائيل، وقيل: أراد النبيين وأممهم { إصري } يعني عهدي { فاشهدوا } فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار وأنا على ذلكم من إقراركم وشهادتكم من الشاهدين، وقيل: فاشهدوا فاعلموا ذلك، وقيل: فاشهدوا على أممكم وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم عن علي (عليه السلام)، وقيل: يشهد بعضكم على بعض، وقيل: قال الله تعالى لملائكته: اشهدوا عليهم { فمن تولى } أعرض بعد هذا العهد، وقيل: بعد الإقرار { فأولئك هم الفاسقون } الخارجون عن الإسلام، وقيل المتمردون في الكفر، قوله تعالى: { أفغير دين الله يبغون }
" روي أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم (عليه السلام) كل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " كل الفريقين بريء من دين إبراهيم " فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك "
، فنزلت الآية { طوعا } بالنظر في الادلة والانصاف من النفس { وكرها } بالسيف أو بمعاينة ما يلجئ إلى الإسلام كنتق الجبل على بني إسرائيل وإدراك الغرق فرعون والاشفاء على الموت { ونحن له مسلمون } مخلصون أنفسنا له موحدون { كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم } أي كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف { وشهدوا أن الرسول حق } وبعد ما جاءتهم الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التي ثبت بمثلها النبوة وهم اليهود، كفروا بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن كانوا مؤمنين به، وقيل: نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم رجعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة { والله لا يهدي القوم الظالمين } يعني لا يلطف بالقوم الظالمين المعاندين الذين علم أن اللطف لا ينفعهم { إلا الذين تابوا من بعد ذلك } الكفر العظيم والارتداد { وأصلحوا } ما أفسدوا ودخلوا في الصلاح، قيل: نزلت في الحرث بن سويد حين ندم على ردته وأرسل إلى قومه أرسلوا هل لي من توبة، فأرسل إليه أخوه بالآية، فأقبل إلى المدينة فتاب وقبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) توبته.
[3.90-97]
{ إن الذين كفروا } هم اليهود كفروا بعيسى والإنجيل بعد إيمانهم بموسى والتوراة { ثم ازدادوا كفرا } بكفرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والقرآن وكفروا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن كانوا مؤمنين به قبل بعثه، وقيل: نزلت في الذين ارتدوا ولحقوا بدار الحرب { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به } يعني جعله فدية، قوله تعالى: { لن تنالوا البر } أي لن تبلغوا حقيقة البر وهو الثواب { حتى تنفقوا مما تحبون } أي حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها، قوله تعالى: { كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل } الآية قيل:
" نزلت لما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لليهود والنصارى: " أنا علي دين إبراهيم " قالوا: كيف وأنت تأكل لحم الإبل وتشرب ألبانها؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحله " فقالت اليهود: كل شيء أصبحت اليوم تحرمه فإنه كان محرما على نوح وإبراهيم وهلم جرا حتى انتهى الينا "
، فنزلت الآية: { إلا ما حرم } والذي حرم { إسرائيل على نفسه } وهو يعقوب لحوم الإبل، وقيل: العروق، وكان به عرق النساء، فنذر إن شفي أن يحرم على نفسه أحب الطعام إليه وكان ذلك أحب إلي، وإنما حرم ذلك على اليهود عقوبة لهم، قوله تعالى: { قل } يا محمد { فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } وروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة من بعد ما لزمتهم الحجة القاطعة { فأولئك هم الظالمون } المكابرون الذين لا ينصفون من أنفسهم ولا يلتفتون إلى البينات، قوله تعالى: { قل صدق الله } تعريض لكذبهم { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا } وهي ملة الإسلام التي عليها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن اتبعه، قوله تعالى: { إن أول بيت وضع للناس } صفة للبيت والواضع هو الله تعالى، جعله متعبدا للناس،
" وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن أول مسجد وضع للناس؟ فقال: " المسجد الحرام ثم بيت المقدس " وسئل كم بينهما؟ فقال: " أربعون سنة وأول من بناه إبراهيم (عليه السلام)، ثم بناه من العرب جرهم، ثم هدم فبناه العمالقة، ثم هدم فبنته قريش "
وعن ابن عباس هو أول بيت حج بعد الطوفان، وقيل: هو أول بيت ظهر على وجه الماء حين خلق الله السماء والأرض، خلقه قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الماء، فدحيت الأرض تحته، وقيل: أول بيت بناه آدم (عليه السلام) { ببكة } بكة ومكة لغتان، وقيل: لأنها تبك أعناق الجبابرة، لم يقصدها جبار إلا قصمه الله تعالى { مباركا } كثير الخير لما يحصل لمن حجه من الثواب، قوله تعالى: { مقام إبراهيم } قيل: إنه لما ارتفع بنيان الكعبة وضع إبراهيم رجله على هذا الحجر فغاصت فيه قدمه، وقيل: أنه جاء زائرا من الشام إلى مكة، فقالت له امرأة اسماعيل: إنزل حتى تغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بهذه الحجر فوضعته على شقه الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت شق رأسه، ثم حولته على شقه الأيسر فغسلت شقه الآخر، فبقي أثر قدمه عليه، قوله تعالى: { من دخله كان آمنا } قيل: من القتل، وقيل: من النار، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من مات في احد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا "
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام "
{ من استطاع إليه سبيلا } عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه فسر الاستطاعة بالزاد والراحلة وعليه أكثر العلماء { ومن كفر } أي لم يحج تغليظا على تارك الحج، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من مات ولم يحج مات إن شاء يهوديا أو نصرانيا "
ونحوه من التغليظ من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر بالله مجتهدا.
[3.98-103]
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب } يعني اليهود والنصارى { يردوكم بعد إيمانكم كافرين } ، { ومن يعتصم بالله } يعني ومن يتمسك بدينه { فقد هدي الى صراط مستقيم } أي فقد حصل له الهدى إلى طريق الحق، قوله تعالى: { حق تقاته } قيل: هو أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، روي هذا مرفوعا، وقيل: هو أن لا تأخذه في الله لومة لائم، ويقوم بالقسط ولو على أبيه وابنه، قوله تعالى: { واعتصموا بحبل الله } الحبل: استعارة للعهد، والإعتصام: لوثوقه بالعهد، والمعنى: فاجعلوا استعانتكم بالله والإعتصام به والطاعة له والإيمان به وبكتابه لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" القرآن حبل الله المتين لا تنقضي عجائبه "
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله حبل ممدود وعترتي أهل بيتي أن اللطيف الخبير نبأني أنهما لم يفترقا حتى يردا علي الحوض "
{ ولا تفرقوا } عن الحق موقوع الاختلاف بينكم كما اختلفت اليهود والنصارى. { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } يعني أنكم كنتم أعداء فألف الله بين قلوبكم ورضيتم بالإسلام والتمسك به، وكانوا في الجاهلية بينهم الحروب والعداوات فألف الله بينهم في الإسلام وقذف في قلوبهم المحبة، فصاروا إخوانا متراحمين وهو الأخوة في الله تعالى، وقيل: هم الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم، فوقعت بينهم العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام، وألف بين قلوبهم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { وكنتم على شفا حفرة } يعني وكنتم مستضمين على أن تقفوا في نار جهنم لما كنتم عليه من الكفر { فأنقذكم منها } بالاسلام، والضمير للحفرة أو للنار أو للشفاة.
[3.104-112]
قوله تعالى: { ولتكن منكم أمة } للتبعيض لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات، وقيل: من للتبيين، يعني كونوا أمة تأمرون، قوله تعالى: { وأولئك هم المفلحون } هم الأخصاء بالفلاح دون غيرهم،
" وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سئل وهو على المنبر: من خير الناس؟ قال: " آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر "
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله "
وعن علي (عليه السلام): " أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر " قوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } هم اليهود والنصارى { من بعد ما جاءهم البينات } الموجبة للاتفاق، وقيل: هم مبتدعو هذه الأمة، وهم المحبرة والمشبهة والحشوية، قوله تعالى: { يوم تبيض وجوه } البياض من النور، والسواد من الظلمة، فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وابيضت صحيفته وأشرقت، ويسعى النور بين يديه وبيمينه، ومن كان من أهل الظلمة وسم بسواد اللون وأحاطت به الظلمة من كل جانب، قيل: هم بنو قريظة والنضير، وقيل: هم أهل البدع والأهواء { أكفرتم بعد إيمانكم } فيقال لهم: أكفرتم والهمزة للتوبيخ والتعجيب من حالهم، والظاهر أنهم أهل الكتاب وكفرهم بعد الإيمان تكذيبهم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد اعترافهم به قبل مجيئه، وعن عطا: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار وتسود وجوه بني قريظة والنضير، وقيل: هم المرتدون، وقيل: هم أهل البدع والأهواء، وقيل: هم الخوارج، قوله تعالى: { ففي رحمة الله هم فيها خالدون } أي ففي نعمة الله وهي الثواب المخلد، قوله تعالى: { تلك آيات الله } الواردة في الوعد والوعيد { نتلوها عليك } بما يستوجبانه المحسن والمسيء { وما الله يريد ظلما للعالمين } على معنى ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه، فسبحان من يحلم على من يصفه بإرادة القبائح والرضى بها، قوله تعالى: { كنتم خير أمة } قيل: كنتم في علم الله خير أمة، وقيل: كنتم في أمم من قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة، والآية نزلت في المهاجرين، وقيل: في أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله تعالى: { لن يضروكم إلا أذى } الآية نزلت في اليهود يقول لمن طعن في دين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار } منهزمين ولا يضرونكم { ثم لا ينصرون } لا نصر لهم، وعاقبة أمرهم إلى الذل والخذلان، قوله تعالى: { ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس } المعنى: ضربت عليهم الذلة في جميع الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس يعني: ذمة الله وذمة المسلمين { وباءو بغضب من الله } أي رجعوا بغضب من الله استوجبوه، قوله تعالى: { وضربت عليهم المسكنة } كما تضرب البيت على أهله فهم ساكنون في المسكنة غير ضاعنين عنها، وهم اليهود عليهم لعنة الله وغضبه لأنهم كفروا بنبي الحق، قوله تعالى: { ذلك بأنهم } أي ذلك { كانوا } بسبب عصيانهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء.
[3.113-117]
قوله تعالى: { ليسوا سواء من أهل الكتاب } الآية، قيل: لما أسلم عبد الله بن سلام وجماعة معه، قال أحبار اليهود: ما آمن بمحمد إلا أشرارنا ولو كان من أخيارنا ما ترك دين الآباء فنزلت، وقيل: إنها نزلت في قوم كانوا يصلون بين المغرب والعشاء، وقيل: أنها نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم وكانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون } يعني يجتهدون في تلاوة القرآن في ساعات الليل مع السجود، وقيل: أراد صلاة العشاء لأن أهل الكتاب لا يصلونها، وعن ابن مسعود:
" أخر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلاة العشاء، ثم خرج المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: " أما أنه ليس من الأديان أحد يذكر الله هذه الساعة غيركم " وقرأ هذه الآية "
، قوله تعالى: { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } أي لن تحرموا أجره { إن الذين كفروا لن تغني } نزلت في مشركي قريش، قيل: هو عام، قوله تعالى: { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح } الآية نزلت في أبي سفيان وأصحابه في يوم بدر عند تظاهرهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: نزلت في جميع الكفار في نفقاتهم وصدقاتهم في الدنيا، وقيل: هو عام وهو ما كانوا ينفقون من أموالهم في المفاخر والمكارم وكسب الثناء وحسن الذكر من الناس، لا يبتغون به وجه الله تعالى، وقيل: هو ما كانوا يتقربون به إلى الله تعالى مع كفرهم، وقيل: هو ما أنفقوه في عداوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فضاع عنهم، ومعنى: { حرث قوم } يريد زرع قوم شبهه بالزرع الذي يحسه الرد فذهب حطاما، { وما ظلمهم الله } بأن لم يقبل نفقاتهم { ولكن أنفسهم يظلمون } بأن لم يطلبوا ما عند الله ولأصحاب الحرث الذين ظلموا أنفسهم، أي وما ظلمهم بهلاك زرعهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة.
[3.118-122]
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة } نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ويخالطونهم فنهوا عن ذلك، وقيل: في قوم صافوا اليهود، قوله تعالى: { لا يألونكم خبالا } الخبال: الفساد { ودوا ما عنتم } أي تمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر، قوله تعالى: { قد بدت البغضاء من أفواههم } يعني أنه قد بدا منهم ما يعلم به بغضهم للمسلمين، قوله تعالى: { وما تخفي صدورهم } أكبر مما هم يظهرون في المؤمنين من الطلب لهلاكهم، قوله تعالى: { ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم } أخبر الله تعالى أنكم تعاملونهم بالنصيحة وليس في محبتكم لهم غش لأنكم دعوتهم إلى اتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قوله تعالى: { وتؤمنون بالكتاب كله } محكمه ومتشابهه { وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } البنان والأبهام، قوله تعالى: { قل موتوا بغيظكم } دعاء عليهم، قوله تعالى: { وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال } الآية نزلت يوم أحد، قال ابن اسحاق: كان مما أنزل الله تعالى يوم أحد من القرآن ستون آية من آل عمران بها صفة ما كان في يومهم ذلك ومعاتبة من عاتب، ومعنى من أهلك بالمدينة من بيت عائشة،
" وروي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء، فاستشار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه ودعا عبد الله بن أبي سلول ولم يدعه قط فاستشاره، فقال عبد الله وسائر الأنصار: يا رسول الله اقم بالمدينة ولا تخرج منها فوالله ما خرجنا منها الى عدو قط إلا أصاب منا، وما دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا، فإن جاؤوا قاتلناهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين، وقال بعضهم: يا رسول الله أخرج بنا إلى هؤلاء الأكلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إني رأيت في منامي بقرا مذبحة حولي فأولها خيرا ورأيت في ذباب سيفي ثلمة فأولته هزيمة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعونهم " فقال رجال من المسلمين قد فاتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد: أخرج بنا إلى أعدائنا، فلم يزالوا به حتى دخل فلبس لامة حربه، فلما رأوه ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا نشير على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والوحي يأتيه، فقالوا: يا رسول الله إصنع ما رأيت، فقال: " لا ينبغي لنبي أن يلبس لامة حربه فيضعها حتى يقاتل " فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الجمعة وأصبح في الشعب من أحد يوم السبت، وجعل يصف أصحابه للقتال، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وأمر عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم: " انضحوا عنا بالنبل لا يأتونا من ورائنا " وكان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألف والمشركون في ثلاثة آلاف، وقد وعدهم الله الفتح إن صبروا فانحرل عبد الله بن أبي وأصحابه ورجع من الطريق وقال: يا قوم علام نقتل أنفسنا وأولادنا، فتبعه رجل من الأنصار طلب برده، فقال: ما حكى الله لو نعلم قتالا لأتبعناكم "
، قوله تعالى: { إذ همت طائفتان منكم } وهم حيان من الأنصار، بنو سلمة، وبنو حارثة، والظاهر أنها ما كانت إلا همة وحديث نفس، وعن ابن عباس (رضي الله عنه): اظهروا أن يرجعوا فثبتوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
[3.123-133]
قوله تعالى: { ولقد نصركم الله ببدر } الآية وذللهم ما كان بهم من ضعف الحال وقلة السلاح والمال، وكانوا ثلاثمائة وبضع عشرة معهم فرسان وكان قريش ألف مقاتل، قوله: { مسومين } روي أنهم كانوا على خيل بلق، وقيل: معلمين، وروي أن عمامة الزبير كانت يوم بدر صفراء، فنزلت الملائكة كذلك، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لأصحابه:
" تسوموا فإن الملائكة تسومت "
وقرئ بفتح الواو وكسرها بمعنى معلمين ومعلمين أنفسهم أو حيلهم، قال الكلبي: معلمين بعمائم صفر مرخاة على أكتافهم، قوله تعالى: { وما جعله الله إلا بشرى } يعني النصر يوم بدر، قوله تعالى: { ليقطع طرفا من الذين كفروا } ليهلك طائفة منهم بالقتل والأسر، وهو ما كان يوم بدر من قتل سبعين وأسر سبعين من رؤساء قريش { أو يكبتهم } أو يخزيهم ويغيظهم بالهزيمة فينقلبوا خائبين غير ظافرين، قوله تعالى: { ليس لك من الأمر شيء } الآية نزلت يوم أحد، قيل لما كان من المشركين يوم أحد من كسر رباعية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشج وجهه وقتل المؤمنين وقتل أمير المؤمنين حمزة سيد الشهداء قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" كيف يفلح قوم نالوا هذا من نبيهم وهو مع هذا حريص على دعائهم إلى ربهم "
فنزلت، وقيل: هم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعو عليهم بأحد ويلعنهم، فنزلت الآية تسكينا له ويعلمه أن فيهم من يؤمن فكف، والمعنى أن الله مالك أمرهم فأما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا { أو يعذبهم } إن أصروا على الكفر وليس لك من أمرهم شيء، إنما أنت عبد مبعوث لإنذارهم، قوله تعالى: { يغفر لمن يشاء } لمن يتوب عليه { ويعذب من يشاء } من لقيه ظالما { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة } نهى عن الربا وكان الرجال منهم إذا باع الذين محله زاد في الأجل فاستغرق بالشيء اللطيف مال المديون، قوله تعالى: { سارعوا إلى مغفرة من ربكم } يعني سارعوا إلى عمل الطاعة كلها، وقيل: التكبيرة الأولى { وجنة عرضها السموات } أي عرضها عرض السموات والأرض والمراد: وصفها بالسعة، وعن ابن عباس (رضي الله عنه): كعرض سبع سموات وسبع أرضين لو وصل بعضها ببعض.
[3.134-138]
قوله تعالى: { الذين ينفقون في السراء والضراء } في حال الرخاء واليسر وحال الضيق والعسر { والكاظمين الغيظ } أي الحابسين له وأصل الكظم حبس الشيء عند امتلائه، وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ما من جرعة أكرم عند الله من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله "
وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" رأيت قصورا مشرفة على الجنة قلت: لمن هذه؟ قالوا: للكاظمين الغيظ "
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من كتم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا "
قوله تعالى: { والعافين عن الناس } إذا حيف عليهم أحد لم يؤاخذوه، وروي أنه ينادي منادي يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على الله، فلا يقوم إلا من عفى، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن هؤلاء في أمتي قليل إلا من عصم الله وقد كانوا كثيرا في الأمم الماضية "
قوله تعالى: { والله يحب المحسنين } إلى من أساء إليهم، وقيل: إلى الناس، وقيل: المحسنين، ومعنى محبة الله تعالى إكرامهم بالثواب، قوله تعالى: { والذين إذا فعلوا فاحشة } أراد الزنا والقبلة، وقيل: الفاحشة الكبيرة وظلم النفس الصغيرة، قوله: { أو ظلموا أنفسهم } قال جار الله: إذا أذنبوا أي ذنب كان مما يؤاخذون به، وقيل الفاحشة: الزنا وظلم النفس ما دونه من القبلة واللمسة ونحوها، { ذكروا الله } ذكروا عقابه ووعيده ونهيه { فاستغفروا لذنوبهم } تابوا عنها لقبحها نادمين { ولم يصروا على ما فعلوا } ولم يقيموا على ما فعلوا ولم يقيموا على قبح قولهم غير مستغفرين، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة "
وروي لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار، وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى (عليه السلام): " ما أقل حياء من يطمع في جنتي بغير عمل " وروي طلب الجنة بلا عمل ذنب من الذنوب، قوله تعالى: { أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات } قال الحسن البصري يقول الله تعالى يوم القيامة: " جوزوا الصراط بعفوي وادخلوا الجنة برحمتي واقتسموها بأعمالكم " وعن رابعة البصرية أنها كانت تنشد هذا البيت:
ترجوا النجاة ولم تسلك مسالكها
ان السفينة لا تجري على اليبس
قوله تعالى: { قد خلت من قبلكم سنن } يريد ما سنه الله في الأمم { المكذبين } من وقائعه، كقوله تعالى:
أخذوا وقتلوا تقتيلا
[الأحزاب: 61]
سنة الله في الذين خلوا من قبل
[الأحزاب: 38] قوله تعالى: { هذا بيان للناس } إيضاح لسوء عاقبة ما هم عليه من التكذيب، يعني حثهم على النظر في سوء عواقب المكذبين قبلهم والإعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم، قوله تعالى: { وهدى وموعظة للمتقين } يعني أنه مع كونه بيانا وتنبيها للمكذبين فهو زيادة تثبيت وموعظة للذين اتقوا من المؤمنين.
[3.139-144]
قوله تعالى: { ولا تهنوا ولا تحزنوا } الآية نزلت يوم أحد تسلية من الله تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وللمؤمنين يعني لا تضعفوا عن الجهاد لما أصابكم ولا تحزنوا على من قتل منكم، وأنتم الأعلون، وحالكم أنكم أعلا منهم وأغلب لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد، قوله تعالى: { وأنتم الأعلون } شأنا لأن قتالكم لله ولإعلاء كلمته وقتالهم للشيطان ولإعلاء كلمة الكفر، وقيل: لأن قتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار، قوله تعالى: { ان يمسسكم قرح } قيل: هو الجراح والمعنى أن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر { وتلك الأيام نداولها بين الناس } تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء { وليعلم الله الذين آمنوا } وليتميز الثابتون على الإيمان من الذين آمنوا، وهذا من باب التمثيل بمعنى: فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت منكم على الإيمان من غير الثابت، وإلا فالله عز وجل لم يزل عالما بالأشياء، وقيل: معناه وليعلمهم علما يتعلق به الجزاء وهو أن يعلمهم موجودا منهم الثبات { ويتخذ منكم شهداء } يعني وليكرم ناسا منكم بالشهادة يريد المستشهدين يوم أحد { والله لا يحب الظالمين } أي والله لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان المجاهدين، قوله تعالى: { وليمحص الله الذين آمنوا } التمحيص: التطهير، وقيل: الإختبار، { ويمحق الكافرين } اي يهلكهم، قوله تعالى: { ولقد كنتم تمنون الموت } خوطب به الذين لم يشهدوا بدرا، فكانوا يتمنون أن يحضروا مشهدا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، { فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } أي رأيتموه معاينين مشاهدين حتى قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا وهذا توبيخ لهم، قوله تعالى: { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } الآية نزلت يوم أحد لما نودي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قتل وصرخ صارخ ألا أن محمدا قد قتل، قيل: أن الصارخ الشيطان نعوذ بالله منه ففشا في الناس خبر قتله فانكفوا وجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعوا: " إلي عباد الله " حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه، فلامهم على هزيمتهم، فقالوا: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا أتانا خبر قتلك، فرعبت قولبنا فولينا هاربين، فنزلت الآية، وقيل: أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين: ليت عبد الله بن أبي يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان، وقال ناس من المنافقين: لو كان نبيا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك يا قوم: إن كان قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ثم شهر سيفه فقاتل حتى قتل رحمه الله تعالى، قوله تعالى: { فلن يضر الله شيئا } يعني فما ضر إلا نفسه وسيجزي الله الشاكرين الذين لم ينقلبوا كأنس بن النضر واضرابه، وسماهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام.
[3.145-151]
قوله تعالى: { وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله } الآية نزلت يوم أحد فيمن ترك المركز طلبا للغنيمة، وقيل: نزلت في المنافقين جوابا لقولهم: لو أطاعونا ما قتلوا، يعني أن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله { كتابا مؤجلا } مصدر مؤكد لأن المعنى كتب الموت كتابا مؤجلا مؤقت له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته } منها يعني الذين شغلتهم الغنائم يوم أحد نؤته منها اي من ثوابها وسنجزي الشاكرين الجزاء المبهم، وقيل: الجزاء المهم الذين شكروا نعمة الله فلم يشغلهم عن الجهاد شيء، قوله تعالى: { وكأين من نبي قتل } قرئ قاتل، وقيل: بالتشديد والفاعل ربيون أو ضمير النبي { ومعه ربيون } حال عنه ومعنى ربيون علماء وزهاد يعني قتل ومعه ربيون { فما وهنوا } عند قتل النبي { وما ضعفوا وما استكانوا } للعدو، وهذا تعريض بما أصابهم من الوهن والإنكسار عند الارجاف بقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبضعفهم عند ذلك، عن مجاهدة المشركين واستكانتهم لهم حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافقين عبد الله بن أبي في طلب الأمان، قوله تعالى: { وما كان قولهم } إلا هذا القول وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم، قال جار الله: والدعاء بالاستغفار وفيها مقدما على طلب ثبوت الاقدام في مواطن الحرب والنصرة على العدو وليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة وخضوع أقرب إلى الإجابة مع كونهم ربانيين هضما لها واستقصارا، قوله تعالى: { فأتاهم الله ثواب الدنيا } من النصرة والغنيمة وطلب الذكر وخص ثواب الآخرة بالحسن دلالة على فضله، قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا } قال علي (عليه السلام): " نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وارحلوا في دينهم " وعن الحسن: " ان تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم " قوله تعالى: { بل الله مولاكم } أي ناصركم لا تحتاجون معه إلى نصرة أحد، قوله تعالى: { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } الآية نزلت في يوم أحد لما ارتحل أبو سفيان والقوم معه نحو مكة ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا قتلناهم حتى بقي منهم اليسير ارجعوا فاستأصلوهم فقذف الله في قلوبهم الرعب حتى هربوا خائفين.
[3.152-154]
قوله تعالى: { ولقد صدقكم الله وعده } وعدكم النصر بشرط الصبر والتقوى في قوله تعالى:
أن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم
[آل عمران: 125] والآية نزلت في يوم أحد وذلك أنه لما رجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أصابه ما أصاب قال أناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا ولقد وعدنا النصر فنزلت وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل أحد خلفه وأقام الرماة عند الجبل وأمرهم أن يثبتوا مكانهم ولا يبرحوا كانت الدولة للمسلمين أو عليهم فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على أثرهم { إذ تحسونهم } أي تقتلونهم قتلا ذريعا { حتى إذا فشلتم وتنازعتم } والفشل الجبن وضعف الرأي وتنازعوا فقال بعضهم: قد انهزم المشركون فما وقفتنا هذا، وقال بعضهم: لا نخالف أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فما ثبت مكانه غير عبد الله بن جبير أمير الرماة في نفر دون العشرة وهم المعنيون بقوله تعالى: { ومنكم من يريد الآخرة } ونفرا أرادوا الدنيا هم الذين نزلوا من الرماة فكر المشركون على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأقبلوا على المسلمين حتى هزموهم وقتلوا من قتلوا، وروي أنه قتل يوم أحد حمزة بن عبد المطلب ومعه سبعون رجلا وهو قوله تعالى: { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } أي ليمتحن صبركم { ولقد عفا عنكم } لما علم من ندمكم، قوله تعالى: { إذ تصعدون } يعني الجبل { والرسول يدعوكم في أخراكم } يقول: " إلي عباد الله من كر فله الجنة الاخرة المتأخرة " يعني جماعتكم الأخرى، قوله تعالى: { فأثابكم } أي جزاكم { غما بغم } حين صرفكم عنهم وابتلاكم بسبب غم أذقتموه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو غما مضاعفا بعد غم { لكيلا تحزنوا } لئلا تحزنوا { على ما فاتكم } من نصرة الله ولا على ما أصابكم من غلبة العدو، وأنزل الله الأمن على المؤمنين، وأزال عنهم الخوف الذي كان بهم حتى نعسوا وغلبهم النوم، قوله تعالى: { نعاسا يغشى طائفة منكم } هم أهل الصدق واليقين { وطائفة } وهم المنافقون { قد أهمتهم أنفسهم } ما بهم إلا هم أنفسهم لا هم الدين ولا هم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين { يظنون بالله غير الحق } في حكم المصدر معناه يظنون بالله غير ظن الحق الذي يجب ألا يظن به مثل ذلك و { ظن الجاهلية } بدل منه ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية ظن أهل الشرك الجاهلين بالله، قوله تعالى: { يقولون } لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { هل لنا من الأمر من شيء } معناه هل لنا معاشر المسلمين من أمر الله من نصيب قط يعنون النصر والإظهار على العدو، قوله تعالى: { قل ان الأمر كله لله } ولأوليائه المؤمنين المسترشدين وهم أهل النصر والغلبة { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } وأن جندنا لهم الغالبون { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } معناه يقولون لك فيما يظهرون { هل لنا من الأمر من شيء } سؤال المؤمنين وهم فيما يظنون على النفاق يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض منكرين لقولك لهم: { ان الأمر كله لله } { لو كان لنا من الأمر شيء } أي لو كان الأمر كما قال محمد: " أن الأمر كله لله ولأوليائه وأنهم الغالبون " ، لما غلبنا قط ولما قتل من المسلمين قتل في هذه المعركة، { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين } يعني في علم الله أن يقتل ويصرع في هذه المصارع وكتب ذلك في اللوح المحفوظ لم يكن بد من وجوده، قوله تعالى: { كتب عليهم القتل } الذي علم الله أنهم يقتلون { إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدروكم } أي صدور المؤمنين { وليمحص ما في قلوبكم } من وسواس الشيطان.
[3.155-159]
قوله تعالى: { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجمع أبا سفيان بأحد يعني الذين انهزموا بأحد، وقيل: أراد به الرماة { إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } طلب منهم الزلل ودعاهم إليه ببعض ما اكتسبوا من ذنوبهم، ومعناه أن الذين انهزموا يوم أحد كان السبب في توليتهم أنهم أطاعوا الشيطان فافترقوا، فلذلك منعهم التأييد حتى تولوا، وقيل: استزلال الشيطان إياهم هو التولي وإنما دعاهم إليه بذنوب قد تقدمت لهم، لأن الذنب يجر إلى الذنب كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة، وقيل: تركهم المركز الذي أمرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالثبات فيه فجرهم ذلك إلى الهزيمة، قوله تعالى: { ولقد عفى الله عنهم } لتوبتهم واعتذارهم، قوله تعالى: { إذا ضربوا في الأرض } يعني إذا سافروا فيها للتجارة أو غيرها { أو كانوا غزى } يعني غزاة للكفار { والله يحيي ويميت } رد لقولهم أي الآمر بيده قد يحيي المسافر والغازي ويميت المقيم والقاعد { والله بما تعملون بصير } فلا تكونوا مثلهم، قوله تعالى: { مما يجمعون } من الدنيا ومنافعها، وعن ابن عباس خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء، قوله تعالى: { ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون } لإلى الرحيم الواسع الرحمة تحشرون، قوله تعالى: { ولو كنت فظا غليظ القلب } قاسيه { لانفضوا من حولك } تفرقوا عنك، قوله تعالى: { فاعف عنهم } فيما يختص بك { واستغفر لهم } فيما يختص بحق الله سبحانه إتماما للشفقة عليهم، قوله تعالى: { وشاورهم في الأمر } يعني أمر الحرب ونحوه مما لم ينزل عليك فيه وحي ولما فيه من تطييب نفوسهم، وعن الحسن: " قد علم الله أن ما به اليهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده " وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ما شاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمورهم "
وعن أبي هريرة: ما رأيت أحدا أكثر مشاورة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كل ذلك يتعطف الله نبيه مما جرى من أصحابه من الهزيمة والعصيان يوم أحد، قال الشاعر:
شاور صديقك في الحفا المشكل
واقبل نصيحة ناصح متفضل
فالله قد أوصى بذاك نبيه
في قوله شاورهم وتوكل
فإذا { عزمت فتوكل على الله } يعني: فإذا قطعت الرأي على شيء بعد المشاورة فتوكل على الله في إمضاء أمرك.
[3.160-168]
قوله تعالى: { إن ينصركم الله فلا غالب لكم } كما نصركم يوم بدر فلا أحد يغلبكم { وإن يخذلكم } كما خذلكم يوم أحد { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } وهذا تنبيه على أن الأمر كله لله وعلى وجوب التوكل عليه، قوله تعالى: { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ، قيل: هو خبر يعني أن المؤمن يتوكل على ربه، وقيل: هو أمر يعني فليكن اعتمادكم على ربكم وعلى وعده، قوله تعالى: { وما كان لنبي أن يغل } والغلول: الخيانة، قرأ ابن كثير وأبو عمرو يغل بفتح الياء وضم الغين على أن الفعل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أي: ما كان له ذلك وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الغين أي ما كان لنبي أن يخان أي تخونه أمته، وما كان أن يخون أي ينسب إلى الخيانة " والآية نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذها، وقيل:
" نزلت يوم أحد في الغنائم حين ترك الرماة المركز وطلبوا الغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أخذ شيئا فهو له ولا يقسم لنا شيئا، فقال لهم (صلى الله عليه وآله وسلم): " أظننتم أنا نغلل؟! "
ومعنى الغل الخيانة، ومعنى يغل بالضم يتهم، قوله تعالى: { أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله } الآية، قيل: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر باتباعه يوم أحد فتبعه المؤمنون وتخلف عنه جماعة من المنافقين، فنزلت الآية، قوله تعالى: { هم درجات عند الله } أي هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات، وقيل: ذو درجات والمعنى تفاوت منازل المثابين منهم ومنازل المعاقبين، والتفاوت بين الثواب والعقاب { والله بصير بما يعملون } عالم بأعمالهم ودرجاتهم فيجازيهم بها، قوله تعالى: { لقد من الله على المؤمنين } على من آمن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من قومه وخص المؤمنين لأنهم المنتفعون ببعثه (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنفسهم من جنسهم عربيا مثلهم، وقرأت فاطمة (عليها السلام) من أنفسهم بفتح الفاء أي من أشرفهم { يتلو عليهم آياته } بعد ما كانوا أهل جهالة { ويزكيهم } ويطهرهم من دنس القلوب، وقيل: يأخذ منهم الزكاة { ويعلمهم الكتاب والحكمة } القرآن والسنة بعد ما كانوا أجهل الناس وأبعدهم عن دراسة العلوم { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } ظاهر لا شبهة فيه، قوله تعالى: { أولما أصابتكم مصيبة } الآية نزلت يوم أحد يريد: ما أصابهم يومئذ من قتل سبعين { قد أصبتم مثليها } من قتل سبعين وأسر سبعين { قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم } يعني أنتم السبب لذلك لترككم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمركز، وقيل: لخروجكم من المدينة، وعن علي (عليه السلام): " لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم " قوله تعالى: { وما أصابكم يوم التقى الجمعان } يعني: يوم أحد يوم التقى جمعكم وجمع المشركين فهو كائن بإذن الله يعني بعلمه { وليعلم المؤمنين } يعني: ليتميز المؤمنون من المنافقين وليظهر إيمان هؤلاء { وليعلم الذين نافقوا } الآية نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه وقيل لهم: { تعالوا قاتلوا في سبيل الله } أي دينه، قوله تعالى: { أو ادفعوا } دفعا عن أنفسهم وأهليهم وأموالهم فأبوا القتال، و { قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم } الآية، وقيل: أو ادفعوا العدو بتكثيركم سواد المجاهدين ولو لم تقاتلوا، لأن السواد مما يروع العدو { والله أعلم بما يكتمون } من النفاق، وقوله تعالى: { الذين قالوا لإخوانهم } الآية نزلت في عبد الله بن أبي لأجل إخوانهم من جنس المنافقين المقتولين يوم أحد وإخوانهم في النسب وفي سكنى الدار، قوله تعالى: { وقعدوا } اي قالوا وقد قعدوا عن القتال { لو أطاعونا } إخواننا فيما أمرناهم من القتال وقعدوا لما قتلوا { قل فادرأوا عن أنفسكم الموت } معناه قل: { إن كنتم صادقين } في أنكم وجدتم إلى دفع القتل سبيلا وهو القعود عن القتل فجدوا إلى دفع الموت سبيلا يعني أن ذلك الدفع غير مغن لكم، وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا.
[3.169-174]
قوله تعالى: { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله } الآية، قيل: نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلا ثمانية من الأنصار وستة من المهاجرين. وقيل: نزلت في شهداء أحد وكانوا سبعين رجلا أربعة من المهاجرين، منهم: حمزة بن عبد المطلب (رضي الله عنه) وباقيهم من الأنصار وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر تدور في أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها وتسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل من ذهب تحت العرش فلما رأوا طيب مقيلهم ومطعمهم ومشربهم وما أعد الله لهم من الكرامة قالوا: يا ليت قومنا يعلمون ما نحن فيه حتى يرغبوا في الجهاد فقال الله: " أنا أبلغ عنكم إخوانكم ففرحوا واستبشروا "
فنزلت، وقيل: أحياء في قبورهم، وقيل: في الجنة، وقيل: أحياء في السماء، قوله تعالى: { ويستبشرون } يعني بإخوانهم المجاهدين { الذين لم يلحقوا بهم } أي لم يقتلوا، وقيل: لم يدركوا فضلهم، وقيل: أحياء وصف لحالهم التي عليها من النعم برزق الله { فرحين بما آتاهم الله من فضله } وهو التوفيق في الشهادة وما ساق إليهم من الكرامة والتفضل على غيرهم من كونهم أحياء مقربين، قوله تعالى: { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح } الآية نزلت يوم أحد روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء وهموا بالرجوع فبلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرجع هو وأصحابه وقالوا: لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس، وكان بأصحابه القروح، فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر وألقى الله في قلب أبي سفيان وأصحابه الرعب فنزلت الآية، قوله تعالى: { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } الآية نزلت في أبي سفيان روي أن أبا سفيان نادى عند انصرافه من أحد يا محمد موعدنا موسم بدر للقتال إن شئت، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم ): " إن شاء الله " فلما كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكة حتى نزل مر الظهران فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له وخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سبعين راكبا يقولون { حسبنا الله ونعم الوكيل } وقيل: هي الكلمة التي قالها ابراهيم (عليه السلام) حين ألقي في النار حتى وافوا بدرا وأقاموا بها ثمان ليال وكان معهم تجارات فباعوها وأصابوا خيرا ثم انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين من بدر الصغرى، وقيل: الناس الأول نعيم بن مسعود الأشجعي، والناس الثاني أبو سفيان قيل: لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حمراء الأسد كما تقدم مر به سعد الخزاعي وهو يومئذ مشرك وكانت خزاعة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسلمهم وكافرهم فقال: يا محمد لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك ثم خرج حتى لقي أبا سفيان ومن معه الروحاء، وقد أجمعوا على الرجعة فقال: يا معبد ما وراءك؟ قال: أن محمدا خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله يتحرقون عليكم تحرق قد اجتمع إليه كل من تخلف عنه يومكم وندموا على ما صنعوا قال: ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترحل حتى ترى نواصي الخيل فقال: انا اجتمعنا الكرة لنستأصلهم، قال: فإني أنهاك عن هذا، ففر أبو سفيان ومن معه فمر به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ قالوا: المدينة، قال.
هل تبلغون محمدا رسالة حتى أحمل إبلكم هذه زبيبا بعكاظ، قالوا: نعم، قال: فإن جئتموه فأخبروه أنا قد اجتمعنا اليوم لنستأصل بقيتهم، فمر الركب برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم بحمراء الأسد فأخبروه بقول أبي سفيان فقالوا: { حسبنا الله ونعم الوكيل } عن ابن عباس وابن اسحاق، وقيل: أن أبا سفيان لما خرج من مكة لموعد بدر الصغرى وبدا له فلقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال له: إني خرجت لموعد محمد وقد بدا لي فالحق بالمدينة وأعلمهم أني في جمع كثير، وضمنوا جعلا فخرج إلى المدينة والناس يتأهبون لميعاد أبي سفيان فأخبرهم بما أعد أبو سفيان فقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
[3.175-178]
قوله تعالى: { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه } أي يخوفهم بأوليائه، قيل: هو أبو سفيان. وقيل: برسوله، قوله تعالى: { ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم } نزلت في مشركي مكة، وقيل: في بني قريظة والنضير والمعنى ولا يحسبن أن الإملاء خير لهم من منعهم أو قطع آجالهم إنما نملي لهم ما هذه حقها أن تكتب متصلة لأنها كافة دون الأولى وهذه جملة مستأنفة تعليلا للجملة قبلها فكأنه قيل: ما لهم لا يحسبون الاملاء خيرا لهم؟ فقيل لهم: { أنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين }.
[3.179-184]
قوله تعالى: { ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه } من اختلاط المؤمن المخلص والمنافق { حتى يميز الخبيث من الطيب } حتى يعزل المنافق عن المخلص { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } وروي أن المشركين قالوا لأبي طالب: إن كان محمد صادقا فيما يزعم يخبرنا من يؤمن منا ومن يكفر فإن وجدناه صادقا آمنا به، فذكر ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية: { وما كان الله ليطلعكم على الغيب } ، وقيل: سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق فنزلت، قال جار الله: المعنى ما كان الله ليؤتي أحدا منكم علم الغيب فلا تتوهموا عند إخبار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بنفاق الرجل وإخلاص الآخر أنه يطلع على ما في القلوب اطلاع الله تعالى فيخبر عن إيمانها وكفرها ولكن الله يرسل الرسول فيوحي إليه ويخبره أن في الغيب كذا، وأن فلانا في قلبه النفاق، وفلانا في قلبه الإيمان، فيعلم ذلك من إخبار الله لا من جهة إطلاعه، قوله تعالى: { ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء } فيخبر ببعض المغيبات { فآمنوا بالله ورسله } بأن تقدروه حق قدره وتعظموه وحده مطلعا على الغيوب، قوله تعالى: { ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله }: نزلت في مانع الزكاة روي أنه يجعل ما بخل به من الزكاة حية يطوقها في عنقه يوم القيامة، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مانع الزكاة:
" ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مثل له شجاع أقرع يفر منه وهو يتبعه "
ثم تلا هذه الآية: { سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } يطوق بشجاع أقرع، وعن النخعي: سيطوقون بطوق من نار، قوله تعالى: { ولله ميراث السموات والأرض } أي وله ما فيهما مما يتوارثه أهلها من مال وغيره فما بالهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله، وقيل: نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا صفة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، قوله تعالى: { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } الآية نزلت في فنحاص اليهودي وذلك أنه لما نزل قوله تعالى:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا
[البقرة: 245] قال فنحاص اليهودي: إن الله فقير يحتاج الى قرض فنزلت الآية، ومعنى { سمع الله قولهم } أنه لم يخف عليه وأنه أعد له كناية من العقاب { سنكتب ما قالوا } في صحائف اعمالهم وهذا على جهة الوعيد { ونقول لهم } يوم القيامة { ذوقوا عذاب الحريق } كما أذقتم المسلمين الغصص { ذلك } إشارة إلى ما تقدم من عقابهم، وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال يقع بها، قوله تعالى: { الذين قالوا إن الله عهد إلينا } الآية نزلت في جماعة من اليهود منهم كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب قالوا: يا محمد إن الله عهد إلينا في التوراة { ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار } فإن زعمت أن الله بعثك إلينا فجئنا به نصدقك، فنزلت الآية، وعن الكلبي والسدي قال: أن الله تعالى: أمر بني إسرائيل في التوراة من جاءكم يزعم أنه نبي فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار، حتى يأتيكم المسيح ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا أتياكم فآمنوا بهما فإنهما يأتيان بغير قربان وقد ألزمهم الله تعالى أن أنبياءهم جاؤوهم بالبينات الكثيرة وبالذي قالوا القربان حتى أوجب عليهم التصديق، وجاؤوهم بالبينات أيضا بهذه الآية التي اقترحوها { فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين } ، قوله تعالى : { فإن كذبوك } تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { فقد كذب رسل من قبلك جاؤوا بالبينات } الكثيرة التي توجب الصدق { والزبر } وهي الصحائف { والكتاب المنير } للتوراة والإنجيل والزبور.
[3.185-189]
قوله تعالى: { كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم } على طاعتكم ومعاصيكم { يوم القيامة فمن زحزح عن النار } الزحزحة التنحية والابعاد، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر "
{ فقد فاز } أي فقد حصل له الفوز العظيم، قوله تعالى: { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام المشتري والشيطان نعوذ بالله منه هو المدلس والغرور، وعن سعيد بن جبير: إنما هو لمن آثر الدنيا على الآخرة فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ قوله تعالى: { لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب } الآية نزلت في كعب بن الأشرف كان يهجو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويحرض المشركين عليه حتى أذاهم فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " من لي بابن الأشر " فقال محمد بن سلمة: أنا، فخرج محمد بن سلمة مع جماعة فقتلوه غيلة وأتوا برأسه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آخر الليل وهو قائم يصلي، وقيل: نزلت في فنحاص اليهودي سيد بني قينقاع لما قال: قد احتاج رب محمد إلى القرض، قوله تعالى: { فإن ذلك من عزم الأمور } أي من معزومات الأمور، أي مما يجب العزم عليه من الأمور، أو مما عزم الله أن يكون بمعنى أن ذلك عزمة من عزمات الله سبحانه لا بد لكم { أن تصبروا وتتقوا } ، قوله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } يعني اليهود { لتبيننه للناس } يعني تبينوا الكتاب { ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم } دليل على أن القوم عملوا به على غير ما أمروا وكفى به دليلا على أنه مأخوذ به على العلماء ان يبينوا الحق وما علموه للناس ولا يكتموا منه شيئا، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ):
" من كتم علما عن أهله ألجمه الله بلجام من نار "
، وعن محمد بن كعب: لا يحل لأحد من العلماء ان يسكت على ما علمه ولا يحل لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل، وعن علي (عليه السلام): " ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا " ، وقرئ ليبيننه للناس ولا يكتمونه بالياء فيهما لأنهم غيب، قوله تعالى: { ولا تحسبن } خطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } الآية قيل: نزلت في أهل النفاق لأنهم كانوا يجتمعون في التخلف عن الجهاد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا رجعوا اعتذروا { ويحبون } أن تقبل منهم ليحمدوا بما ليس لهم عليه من الايمان، وقيل: نزلت في أهل الكتاب فرحوا بالاجتماع على التكذيب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكتمان أمره، وأحبوا أن يحمدوا بما ليس فيهم، وقيل: فرحوا بما فعلوا من كتمان نعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا } من اتباع دين ابراهيم (عليه السلام) حيث ادعوا أن إبراهيم كان على اليهودية وأنهم على دينه، وقيل: هم قوم تخلفوا عن الغزو مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قوله تعالى: { ولله ملك السموات والأرض } فهو يملك أمرهم { وهو على كل شيء قدير } فهو يقدر على عقابهم.
[3.190-195]
قوله تعالى: { إن في خلق السموات والأرض } الآية، روي عن ابن عباس جاءت قريش إلى اليهود وقالوا: ما جاءكم به موسى؟ قالوا: العصا ويده البيضاء، فأتوا النصارى وقالوا: ما جاءكم به عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى، فأتوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا فنزلت الآية، وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" ويل لمن لاكها بين فكيه ولم يتأملها "
، يعني هذه الآيات، وروي:
" ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها "
وعن علي (عليه السلام):
" أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) كان إذا قام من الليل تسوك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: إن في خلق السموات والأرض الآية "
وحكي أن الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد الله ثلاثين سنة أظلته سحابة فعبد واحد منهم فلم تظله فقالت له أمه: لعل فرطة فرطت منك في مدتك؟ قال: ما أذكر: قالت: لعل نظرت مرة في السماء فلم تعتبر؟ قال: لعل، قالت: فما أتيت إلا من ذلك، قوله تعالى: { الذين يذكرون الله قياما } ذكرا دائما على أي حال من قيام وقعود واضطجاع لا يخلون من الذكر، وعن ابن عمر وعروة بن الزبير وجماعة أنهم خرجوا يوم العيد إلى المصلى فجعلوا يذكرون الله فقال بعضهم: أما قال الله: { الذين يذكرون الله قياما وقعودا } فقاموا يذكرون الله على إقدامهم، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله "
وقيل: معناه يصلون في هذه الأحوال على حسب استطاعتهم { ويتفكرون في خلق السموات والأرض } وما يدل عليه اختراع هذه الاجرام العظام وإبداع صنعتها وما دبر فيهما مما تكل الأفهام عن إدراك بعض عجائبه على عظم شأن الصانع وعن سفيان الثوري أنه صلى خلف المقام ركعتين ثم رفع رأسه إلى السماء فلما نظر إلى الكواكب غشي عليه وكان يبول الدم من طول حزنه وفكرته وقال (عليه السلام): " لا عبادة كالتفكر " وقال: " الفكرة تذهب الصلة وتجلب في القلب الخشية " وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له كل يوم مثل عمل أهل الأرض "
وإنما كان ذلك بالتفكر في أمر الله الذي هو عمل القلب لأن أحدا لا يقدر أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض، قوله تعالى: { ربنا ما خلقت هذا باطلا } على إرادة القول أي يقولون ذلك، قوله تعالى: { ربنا إننا سمعنا مناديا } قيل: هو الرسول، وقيل: القرآن، قوله تعالى: { وتوفنا مع الأبرار } أي العاملين البر، قوله تعالى: { فاستجاب لهم ربهم } ، أي المؤمنين الذين تقدم ذكرهم، وعن الحسن: ما زالوا يقولون ربنا حتى استجاب لهم ربهم، { إني لا أضيع عمل عامل منكم } أي وقال لهم لا أبطل عمل عامل منكم أيها المؤمنون، وروي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء فنزلت { لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى } وروي في الكشاف عن جعفر الصادق (عليه السلام): " من أحزنه أمر فقال خمس مرات ربنا أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد " وعن الحسن: حكى الله عنهم أنه قال خمس مرات ربنا ثم أخبر أنه استجاب لهم، { بعضكم من بعض } قيل: حكم جميعكم في الثواب واحد، وقيل: كلكم من آدم وحواء، وقيل: المؤمنين من المؤمنات والمؤمنات من المؤمنين في الموالاة، وقيل: رجالكم شكل نسائكم في الطاعة ونساؤكم شكل رجالكم، قوله تعالى: { فالذين هاجروا } يعني هاجروا عن أوطانهم فارين الى الله بدينهم، قوله تعالى: { وأوذوا في سبيلي } يعني سبيل الدين { وقاتلوا } يعني حاربوا الكفار في الدين { وقتلوا } قيل: قتلوا بعد المحاربة، وقيل: قاتل بعضهم وقتل بعضهم { لأكفرن عنهم سيئاتهم } لأمحون عنهم ذنوبهم { ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار } أي من تحت أبنيتها وأشجارها { ثوابا من عند الله } أي: أثيبهم بذلك ثوابا، وقيل: هو ثواب لهم { والله عنده حسن الثواب }.
[3.196-200]
قوله تعالى: { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } قال جار الله: خطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لكل أحد أي لا ينظر إلى ما هم عليه من سعة الرزق والآية نزلت في أهل مكة، وقيل: في اليهود وروي أن ناسا من المسلمين كانوا يرون ما كانوا عليه من الرخاء والخصب ولين العيش ويقولون: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجهد والجوع، قوله تعالى: { متاع قليل } وهو التقلب في البلاد أراد قلته في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة، أو في جنب ما أعد الله من المؤمنين من الثواب، وأراد أنه قليل في نفسه لانقضائه وكل زائل فهو قليل { وبئس المهاد } ما مهدوا لأنفسهم ، قوله تعالى: { لكن الذين اتقوا ربهم } نزلت في من كان مؤمنا من أهل المدينة { نزلا } النزل: ما يقدم للنازل، قال جار الله: { وما عند الله } من الكثير الدائم، { خير للأبرار } مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل، قوله تعالى: { وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه المؤمنين، وقيل: في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم، وكانوا على دين عيسى (عليه السلام) أسلموا، وقيل: في أصحمة النجاشي ملك الحبشة، قوله تعالى: { وما أنزل إليكم } من القرآن وما أنزل إليهم من الكتابين { لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا } أي لا يأخذون عوضا على تحريف الكتاب، وكتمان الحق { أولئك لهم أجرهم عند ربهم } أي ما يختص بهم من الأجر وهو ما وعدوا في قوله تعالى:
أولئك يؤتون أجرهم مرتين
[القصص: 54]
ويؤتكم كفلين
[الحديد: 28]، قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اصبروا } على الدين وتكاليفه { وصابروا } أعداء الله في الجهاد غالبوهم بالصبر على شدائد الحرب ولا تكونوا أقل منهم صبرا وثباتا { ورابطوا } أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو قال الله تعالى:
ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم
[الأنفال: 60] وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه ".
[4 - سورة النساء]
[4.1-3]
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم } يعني يا بني آدم وقيل: يا أيها الناس أراد أهل مكة أين ما جاءت ويا أيها الذين آمنوا أراد أهل المدينة، وقوله: { اتقوا ربكم } قيل: أطيعوه، وقيل: اخشوه { الذي خلقكم من نفس واحدة } فرعكم من أصل واحد، قوله تعالى: { وخلق منها زوجها } من ضلع آدم، وقيل: من بقية طينة آدم { وبث منهما } نوعي جنس الانس وهم الذكور والإناث، قوله تعالى: { واتقوا الله الذي تساءلون به } يسأل بعضكم بعضا بالله وبالرحم، وعن الحسن: إذا سألك بالله فاعطه وإذا سألك بالرحم فاعطه، وقرئ: { والأرحام } بالحركات الثلاث، قوله تعالى: { إن الله كان عليكم رقيبا } قيل: شاهدا، وقيل : حافظا، قوله تعالى: { وآتوا اليتامى أموالهم } قيل: نزلت في رجل من غطفان كان معه مال لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه عمه حقه فرفع ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية، فقال الرجل: سمعنا وأطعنا نعوذ بالله من الحوب الكبير، ودفع إليه ماله، فلما قبض اليتيم ماله أنفقه في سبيل الله تعالى، وقيل: هم أهل الكتاب لا يورثون النساء والصغار ويأخذ الميراث الأكبر فنهوا عن ذلك، قوله تعالى: { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } قيل: لا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو أموالكم، قوله تعالى: { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم } يعني مع أموالكم أي مصطفين لها إلى أموالكم { حوبا كبيرا } الحوب الذنب العظيم، قوله تعالى: { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } الآية، روي أنها نزلت في أهل المدينة يكون الرجل عنده الأيتام وفيهم من يحل له تزويجها فيقول: لا أدخل في رباعي أحدا كراهة أن يدخل غريب فيشاركه في مالها، فربما يتزوجهن لمالهن ويسيء صحبتهن ويتربص بهن أن يمتن فيرثهن، فنهى الله تعالى عن ذلك، وقيل: كان الرجل من قريش يتزوج العشر من النساء، وأكثر وأقل، فإذا صار معدما يلزمه من مؤن نسائه مال على مال اليتامى الذي معه وأنفقه فنزلت الآية، وأمرهم الله بالاقتصار على أربع وأن لا ينفقوا من مال اليتامى، قوله تعالى: { ما طاب لكم } أي ما حل لكم من النساء لأن منهن من يحرم كالأجنبيات واللاتي في آية التحريم { فإن خفتم ألا تعدلوا } بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها { فواحدة } فالزموا أو فاختاروا واحدة وذروا الجمع رأسا، قوله تعالى: { أو ما ملكت أيمانكم } قال جار الله: سوى في السهولة واليسر بين الحرة الواحدة وبين الاماء من غير حصر ولا توقيت عدد، لا عليك أكثرت منهن أو أقللت، عدلت بينهن في القسم أم لم تعدل، قوله تعالى: { ذلك أدنى ألا تعولوا } أقرب من أن تميلوا، من قولهم عال الميراث عولا إذا مال، أو ميراث فلان عائل، وعال الحاكم في حكمه إذا جار، وروت عائشة (رضي الله عنها) معنى أن لا تعولوا أن لا تجوروا، وروي عن الشافعي (رضي الله عنه) أنه فسر ألا تعولوا أن لا يكثر عيالكم.
[4.4-6]
قوله تعالى: { وآتوا النساء صدقاتهن نحلة } قيل: كان الرجل يتزوج وليته ولا يعطيها مهرها فنهوا عن ذلك، وقيل: كان الرجل يزوج أخته من الرجل ويزوجه أخته على أن لا مهر بينهما وهو الشعار فنهوا عن ذلك نحلة من الله عطية من عنده وتفضلا منه عليهن وانتصابها على المصدر لأن النحلة والايتاء بمعنى الاعطاء فكأنه قيل: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهرهن عن طيب أنفسكم { فكلوه } وأنفقوه، قالوا: فإن وهبت له ثم طلبته منه علم أنها لم تطب عنه نفسا { هنيئا مريئا } والهنيء والمريء صفتان من هنوء الطعام ومروئه إذا كان سائغا لا تنغيص فيه، وقيل: الهنيء ما يلذه الأكل والمريء ما تحمد عاقبته، وقيل: هو ما ينساغ في مجراه، قوله تعالى: { ولا تؤتوا السفهاء أموالكم } روي أن رجلا دفع إلى امرأته مالا فوضعته في غير الحق فنزلت الآية، وقيل: نزلت في أموال الصبيان والمجانين والسفهاء المبذرين بأموالهم الذين ينفقونها في ما لا ينبغي والخطاب للأولياء وأضاف الأموال إليهم لأنها من حسن ما يقيم به الناس معائشهم كما قال الله تعالى:
ولا تقتلوا أنفسكم
[النساء: 29] قوله تعالى: { التي جعل الله لكم قياما } أي تقومون بها وتعيشون ولو ضيعتموها لضعتم، قوله تعالى: { وارزقوهم فيها } واجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الأرباح { وقولوا لهم قولا معروفا } عدة جميلة ان صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم، قوله تعالى: { وابتلوا اليتامى } أي واختبروا عقولهم { حتى إذا بلغوا النكاح } الحلم في الغلام والحيض في الجارية { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا } وهو الرشد في التصرف والتجارة دفعتم { إليهم أموالهم } من غير تأخير من حد البلوغ، قوله تعالى: { إسرافا وبدارا } أي مسرفين ومبادرين { ومن كان غنيا فليستعفف } ثم قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنيا أو بين أن يكون فقيرا، فالغني يستعفف عن أكلها بما رزقه الله من الغنى والفقير يأكل قوتا مقدرا محتاطا في تقديره على وجه الأجرة، قوله تعالى: { فأشهدوا عليهم } بأن تسلموها وتقبضوها وبرئت عنها ذممكم، وذلك أبعد عن التخاصم والتجاحد وأدخل في الأمانة وبراءة الساحة { وكفى بالله حسيبا } أي كافيا بالشهادة.
[4.7-10]
{ للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون } الآية نزلت في الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث والصغار، وقيل:
" إنها نزلت في قصة أوس بن الثابت الأنصاري فإنه توفي وترك امرأة يقال لها: أم كحة وثلاث بنات وعمهن فأخذ المال وجاءت امرأة أوس إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورفعت إليه القصة فقال لها: " ارجعي حتى أنظر ما يحدث الله " فنزلت الآية، فبعث اليهما أن لا يفرق من مال أوس شيئا فإن الله قد جعل لهن نصيبا ولم يتبين حتى نزل قوله تعالى: { يوصيكم الله } الآية فأعطى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المرأة الثمن والبنات الثلثين والباقي للعم "
، قوله تعالى: { وإذا حضر القسمة } أي قسمة التركة { أولو القربى } ممن لا يرث { فارزقوهم منه } الضمير لما ترك الوالدان والأقربون وهو أمر للندب، قال الحسن: كان المؤمنون يفعلون ذلك إذا اجتمعت الورثة وحضرهم هؤلاء رضخوا لهم بالشيء من تركة الميت من رفه المتاع فحضهم الله على ذلك تأديبا من غير أن يكون فريضة قالوا: ولو كان فريضة ضرب له حدا، وروي أن عبد الله بن عبد الرحمن قسم ميراثا فلم يدع في الدار أحدا إلا أعطاه، وقيل: هو منسوخ بآية المواريث، وعن سعيد بن جبير: والله ما نسخت ولكنها مما تهاون به الناس، قوله تعالى: { وقولوا لهم قولا معروفا } أي لطفوا لهم القول، وتقولوا: خذوا بارك الله عليكم، وتعتذروا إليهم، وتستقلوا ما أعطوهم لا تستكثروه ولا تمنوا عليهم { وليخشى الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا } قال أبو علي: نزلت في قوم إذا حضروا الموصي وله ذرية ضعاف قالوا: ارضخ لفلان بكذا أو لفلان بكذا حتى يستغرق المال فنهوا عن ذلك، قال جار الله : ومن المستحب الجالسين إلى المريض أن يقولوا له إذا أراد الوصية لا تسرف في وصيتك فتجحف بأولادك، وفي قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أن تترك أولادك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون الناس "
وكان الصحابة يستحبون أن تبلغ الوصية الثلث، وأن الخمس أفضل من الربع والربع أفضل من الثلث، قوله تعالى: { إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما } نزلت في المشركين الذين كانوا لا يورثون النساء ويأكلونها بغير حق، وقيل: نزلت في الأوصياء والحكام والقائمين بأموال اليتامى، وقيل: نزلت في مرثد أكل مال ابن أخيه وهو صغير.
[4.11-14]
قوله تعالى: { يوصيكم الله في أولادكم } عن عطاء
" نزلت في سعد بن الربيع وذلك أنه استشهد يوم أحد وترك ابنين وامرأة وأخا فأخذ الأخ المال فأتت المرأة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: إن هاتين ابنتا سعد وأن سعدا قتل وأن عمهما أخذ مالهما، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إرجعي فلعل الله أن يقضي في ذلك " فأقامت حينا ثم عادت وبكت فنزلت الآية فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عمهما وقال: " اعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فلك "
فهذا أول ميراث قسم في الاسلام، وعن ابن عباس (رضي الله عنه): كانت المواريث للأولاد وكانت الوصية للوالدين والأقربين فنسخ ذلك وأنزل الله آية المواريث فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن الله لم يرض لملك مقرب ولا لنبي مرسل حتى تولى قسمة التركات ويعطي كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث "
قوله تعالى: { فإن كن نساء فوق اثنتين } ذهب بعضهم إلى أن فوق زائدة وفيه ضعف لقوله تعالى: { فلهن } والمعنى فإن كن جماعات بالغات ما بلغن من العدد فلهن ما للابنتين وهو الثلثان وميراث الابنتين مقيس على الاختين بطريق الأولى قوله: { ولأبويه } الضمير للميت ولكل واحد منهما بدل من لأبويه بتكرير العامل والسدس مبتدأ ولأبويه خبره، قوله تعالى: { إن كان له ولد } والولد يقع على الذكر والأنثى { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } لأن الأخوة يحجبون الأم من الثلث إلى السدس وإن كانوا لا يرثون مع الأب فيكون لها السدس، قوله تعالى: { آباؤكم وأبناؤكم } الذين يموتون أمن أوصي منهم أمن لم يوصي يعني أن من أوصى ببعض ماله فعرضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب نفعا ممن ترك الوصية ووفر عليكم عرض الدنيا، وقيل: نفعا في الآخرة بالشفاعة وقيل: في الدنيا، وقيل: بالموت فينتفعون بالتركة، وقيل: فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة، وقيل: الأب يجب عليه النفقة للابن إذا احتاج وكذلك الابن، قال جار الله: وليس شيء من هذه الأقاويل موافق للمعنى والقول ما تقدم { فريضة من الله } يعني ما قسم لكل واحد شيئا معلوما واجبا لهم والمراد الميراث، وقيل: الميراث والنفقة { إن الله كان عليما } بمصالح خلقه { حكيما } فيما قدر لهم، قوله تعالى: { ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع } خطاب للأزواج، قوله تعالى: { وإن كان رجل يورث كلالة } قيل: الكلالة القرابة إذا لم يكونوا الوالدين ولا الأولاد، وقيل: كلالة الميت إذا لم يكن له والدان ولا ولد، وعن عطاء والضحاك أن الكلالة هو الموروث، وعن أبي بكر أنه سئل عن الكلالة، فقال: أقول فيه برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني والله منه بريء، الكلالة ما خلا الوالد والولد، قوله تعالى: { وله أخ أو أخت } يعني لأم وهكذا وفيه إجماع، قوله تعالى: { غير مضار } لورثته أن يوصي بما ليس عليه أو بزيادة على الثلث { وصية من الله } أي: يوصيكم الله بجميع ذلك وصية { والله عليم } بمن يعمل بحدوده وفرائضه حليم عمن يتجاوز حده فإنه يمهله، وقيل: عليم بمصالح خلقه حليم يمهل العصاة { تلك حدود الله } إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث وسماها حدودا لأن الشرائع كالحدود { ومن يطع الله } فيما أمر به من الأحكام، وقيل: فيما فرض من المواريث { يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } دائمين فيها { ذلك الفوز العظيم } الظفر باليغيه، قوله تعالى: { ومن يعص الله ورسوله } فيما أمر ونهى { ويتعد حدوده } يتجاوز ما حد له { يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين } يعني يهان في ذلك العذاب، واختلفوا في قوله تعالى: { يدخله نارا } قيل: من تعدى جميع الحدود، وقيل: من عصى الله وتعدى ما حد له، والآية تدل على تخليد الفساق في النار لأن الوعد متوجه إليهم كذلك الوعيد والحدود وهم فساق أهل الصلاة وإن كان عموما ويدل عليه ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" لو أن رجلا عبد الله سبعين سنة ثم ختم وصيته بضرار لأحبط الضرار عمله ثم أدخله النار "
وهو ما تقدم في آية المواريث.
[4.15-18]
قوله تعالى: { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } الفاحشة الزنا { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } الخطاب للأزواج أي اطلبوا ممن قذفهن أن يأتي بأربعة شهداء، وقيل: الخطاب للحكام أي فاسمعوا شهادة أربعة عليهن { فأمسكوهن في البيوت } قيل: معناه فاجلدوهن في البيوت محبوسات وكان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ بقوله تعالى:
الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة
[النور: 2] فلم يبق إلا الجلد للبكر والرجم للمحصنة ويجوز أن يكون غير منسوخة بأن يترك ذكر الجلد لأن ذلك معلوم في الكتاب والسنة، ويريد إمساكهن في البيوت بعد الحد صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج والتعرض للرجال، قوله تعالى: { أو يجعل الله لهن سبيلا } وهو النكاح الذي يستغنين به عن السفاح، وقيل: السبيل هو الحد لأنه لم يكن مشروعا ذلك الوقت، قوله تعالى: { واللذان يأتيانها منكم } يريد بها الزنا { فآذوهما } فوبخوهما وذموهما { فإن تابا وأصلحا } وغيرا الحال { فأعرضوا عنهما } واقطعوا التوبيخ والمذمة فإن التوبة تمنع استحقاق الذم والعقاب، قوله تعالى: { إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة } أولا الآية نزلت في المؤمنين، ووسطها في المنافقين، وآخرها في الكفار الذين يموتون على كفرهم مصرين، قوله تعالى: { ثم يتوبون من قريب } القريب : ما قبل حضور الموت ألا ترى إلى قوله تعالى: { حتى إذا حضر أحدهم الموت } فبين أن وقت الاحضار هو الذي لا تقبل فيه التوبة، وروى أبو أيوب الأنصاري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر "
وعن ابن عباس: من قبل أن ينزل به سلطان الموت، وعن الضحاك: كل توبة قبل الموت قريب.
[4.19-22]
قوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } قيل: نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها فيتزوجها لمالها ويعزل فراشها وهو يتوقع وفاتها ليرثها، وقيل: هو الرجل تكون تحته المرأة فيكره صحبتها ويضادها ليفتدي بمهرها فنهوا عن ذلك، وقيل: كان الرجل إذا مات له قريب من أخ أو حميم عن امرأة ألقى ثوبه عليها وقال: أنا أحق بها من كل أحد، فقيل: { لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها } أي تأخذوهن على سبيل الإرث، وقيل: كان يمسكها حتى تموت { ولا تعضلوهن } العضل: الحبس والتضييق، وقيل: كان الرجل إذا تزوج امرأة ولم تصلح له حبسها مع سوء العشرة والقهر لتفتدي منه بمالها وتختلع فقيل: { لا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } وهو النشوز وشكاسة الخلق، وإيذاء زوجها فإن فعلت ذلك حل لزوجها أن يسألها الخلع، وقيل: كانوا إذا أصابت امرأة فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها، وعند قتادة: لا يحل أن يحبسها ضرارا حتى تفتدي منه يعني وإن زنت، وعن الحسن: الفاحشة الزنا فإن فعلت حل لزوجها أن يسألها الخلع، قوله تعالى: { فإن كرهتموهن } لكراهة الأنفس فربما كرهت الأنفس ما هو الأصلح في الدين، وكان الرجل إذا طمحت عينه إلى استطراق امرأة بهت التي هي تحته ورماها بالزنا حتى يلجئها إلى الإفتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزويج غيرها، قوله تعالى: { وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج } الآية والقنطار المال العظيم من قنطرت الشيء إذا رفعته، ومنه القنطرة لأنها بناء مشيد، قال:
كقنطرة الرومي أقسم ربها
ليكتنفن حتى يشاد بقرمد
وعن عمر أنه قام خطيبا فقال: أيها الناس لا تغالوا بصداق النساء فلو كانت مكرمة في الدماء أو تقوى عند الله لكان أولاكم به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ما أصدق امرأة من نسائه أكثر من اثني عشر أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت: يا أمير المؤمنين لم تمنعنا حقا جعله الله لنا والله يقول: { وآتيتم إحداهن قنطارا } فقال عمر: كل أحد اعلم من عمر، قوله تعالى: { أتأخذونه بهتانا } البهتان أن يستقبل الرجل بأمر قبيح كان يقذفه وهو يرى أنه يبهت عند ذلك أي يتحير قوله تعالى: { وكيف تأخذونه } أي عجبا من فعلكم تأخذوا ذلك منهن { وقد أفضى بعضكم إلى بعض } قيل: المراد به الجماع كنى الله عنه، وقيل: المراد به الخلوة الصحيحة { وأخذن منكم ميثاقا غليظا } وصفه بالغلظ للقوة والعظمة، وهو قول الولي: " أنكحك على ما في كتاب الله عز وجل من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " ، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان في أيديكم "
قوله تعالى: { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء } الآية عن ابن عباس نزلت في امرأة أبي قيس وذلك أنه توفي أبو قيس وكان من صالح الأنصار فخطب ابنه قيس امرأة أبيه فقالت: إني أعدك ولدا وأنت من صالح قومك ولكني آتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتته وأخبرته فنزلت الآية.
[4.23-25]
قوله تعالى: { حرمت عليكم أمهاتكم } حرم الله من النسب سبعا وهن إلى قوله تعالى: { وبنات الأخت } وقالوا: تحريم الرضاع كتحريم النسب، ومن النسب سبع إلى قوله تعالى: { والمحصنات } أي ذوات الأزواج فلا يحللن لغير أزواجهن { وحلائل أبنائكم } قيل: نزلت حين تزوج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) امرأة زيد بن حارثة فقال المشركون في ذلك وكما نزل قوله:
وما جعل أدعياءكم أبناءكم
[الأحزاب: 4] و
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم
[الأحزاب: 40] { الذين من أصلابكم } دون من تبنيتم كما تزوج (صلى الله عليه وآله وسلم) امرأة زيد حين فارقها زيد وهي زينب بنت جحش، قوله تعالى: { وأن تجمعوا بين الأختين } أي وحرم عليكم أن تجمعوا، والمراد: تحريم النكاح لأن التحريم في الآية تحريم النكاح وأما الجمع بينهما في ملك اليمين فعن علي (عليه السلام) أنه قال: " أحلتها آية وحرمتها آية " يعني هذه الآية، وقوله تعالى: { أو ما ملكت أيمانكم } فرجح علي (عليه السلام) التحريم، وعثمان التحليل { إلا ما قد سلف } ولكن ما قد مضى مغفور بدليل قوله: { إن الله كان غفورا رحيما } ، قوله تعالى: { والمحصنات من النساء } وهن ذوات الأزواج لأنهن أحصن فروجهن بالتزويج فهن محصنات والآية نزلت في نساءكن يهاجرن إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولهن أزواج فيتزوجن بعض المسلمين ثم يقدم أزواجهن مهاجرين فنهوا عن ذلك، والاحصان: العفة وتحصين النفس من الوقوع في الحرام، والمسافح: الزاني من السفح وهو صب المني، قوله تعالى: { إلا ما ملكت أيمانكم } يريد ما ملكت أيمانكم من السبايا ولهن أزواج في دار الكفر فهن حلال بعد العدة للمسلمين { كتاب الله عليكم } أي كتب الله ذلك عليكم كتابا وفرضه فرضا وهو تحليل ما أحل وتحريم ما حرم والآية نزلت في نساءكن يهاجرن إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قوله تعالى: { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } أي مهورهن، وقيل: هو نكاح المتعة ثم نسخ بإجماع المسلمين، قوله تعالى: { فمن لم يستطع منكم طولا } الطول: المال والسعة، إذا لم يبلغ نكاح الحرة فلينكح أمة، قال ابن عباس: من ملك ثلاثمائة درهم فقد وجب عليه الحج وحرم عليه نكاح الإماء وهو ظاهر وعليه مذهب الشافعي (رحمه الله)، وأما أبو حنيفة فيقول: الفقير والغني سواء في جواز نكاح الأمة، قوله تعالى: { من فتياتكم المؤمنات } أي فلينكح من الاماء المؤمنات، والمراد اماء الغير لأنه لا يجوز أن يتزوج بأمة نفسه لا من فتيات غيركم وهم المخالفون في الدين، قال جار الله: فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: { والله أعلم بإيمانكم }؟ قلت: معناه الله أعلم بتفاضل ما بينكم وبين أرقائكم في الإيمان ورجحانه ونقصانه وربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرة، قوله تعالى: { بعضكم من بعض } أي أنتم وأرقائكم متواصلون متناسبون لاشتراككم في الإيمان قوله تعالى: { فانكحوهن بإذن أهلهن } اشتراط لإذن الموالي في نكاحهن، قوله تعالى: { وآتوهن أجورهن بالمعروف } يعني وأدوا إليهن مهورهن بغير مطل وضرار وإحواج إلى الاقتضاء، قال جار الله: فإن قلت: الموالي هم ملاك مهورهن لا هن والواجب آداؤها إليهم فلم قيل: { وآتوهن }؟ قلت: لأنهن وما في أيديهن مال الموالي، فكان آداؤها إليهن آداء مال الموالي أو على أن أصله فآتوا مواليهن فحذف المضاف { محصنات } عفائف { غير مسافحات } زواني، وقيل: نكاح لا سفاح، { ولا متخذات أخذان } والأخدان الاخلاء في السر، قوله تعالى: { فإذا أحصن } بالتزويج { فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } أي ما على الحرائر من الحد كقوله تعالى:
وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين
[النور: 2]
ويدرأ عنها العذاب
[النور: 8] ولا رجم على الاماء لأن الرجم لا يتنصف { ذلك } إشارة إلى نكاح الاماء، قوله تعالى: { لمن خشي العنت منكم } لمن خاف الاثم الذي تؤدي إليه غلبة الشهوة، وأصل العنت: إنكسار العظم بعد الجبر فاستعير لكل مشقة وضرر ولا ضرر أعظم من مواقعة المآثم، وقيل: أريد به الحد وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الحرائر صلاح البيت والاماء هلاك البيت "
قوله تعالى: { وأن تصبروا خير لكم } يعني وصبركم عن نكاح الإماء متعففين خير لكم.
[4.26-28]
قوله تعالى: { يريد الله ليبين لكم } يعني يريد الله أن يبين لكم ما هو خفي عنكم من مصالحكم وفاضل أعمالكم { و } أن { يهديكم } مناهج من كان قبلكم من الأنبياء والصالحين، والطرق التي سلكوها في دينهم، ليقتدوا بهم { ويتوب عليكم } يرشدكم إلى الطاعات إن قمتم بها كانت كفران لسيئاتكم فيتوب عليكم ويكفر لكم، قوله تعالى: { ويريد } الفجرة { الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما } وهو الميل عن القصد والحق فلا ميل أعظم منه لموافقتهم ومساعدتهم، وقيل: هم اليهود، وقيل: المجوس كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرمهن الله قالوا: فإنكم تحلون بنت العمة والخالة والعمة عليكم حرام فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت يقول: يريدون أن تكونوا مثلهم، قوله تعالى: { يريد الله أن يخفف عنكم } يعني بنكاح الأمة وغيره من الرخص { وخلق الإنسان ضعيفا } لا يصبر عن الشهوات ولا على مشاق الطاعات، وعن سعيد بن المسيب: ما آيس الشيطان من بني آدم قط إلا أتاهم من قبل النساء نعوذ بالله منه، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ثمان آيات في سورة النساء هي لهذه الأمة خير مما طلعت عليه الشمس وغربت "
{ يريد الله ليبين لكم } { والله يريد أن يتوب عليكم } { يريد الله أن يخفف عنكم }
أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه
[النساء: 31]
إن الله لا يغفر أن يشرك به
[النساء: 48]
إن الله لا يظلم مثقال ذرة
[النساء: 40]
ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه
[النساء: 110]
ما يفعل الله بعذابكم
[النساء: 147] الآية.
[4.29-33]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ما لم تبحه الشريعة من نحو السرقة والقمار وعقود الربا، قوله تعالى: { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } يعني إلا أن يقع تجارة وخص التجارة بالذكر لأن أسباب الرزق أكثرها متعلق بها والتراضي رضى المتبايعين بما تعاقدا عليه في حال البيع وقت الايجاب والقبول وهو مذهب أبو حنيفة، وعند الشافعي بفرقهما عن مجلس العقد متراضيين { ولا تقتلوا أنفسكم } يعني من كان من جنسكم من المؤمنين، وعن الحسن: لا تقتلوا إخوانكم ولا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض أهل الجاهلية، وعن عمرو بن العاص أنه تأوله في التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقرأ علي (عليه السلام) ولا تقتلوا أنفسكم بالتشديد، قوله تعالى: { ومن يفعل ذلك عدوانا } إشارة إلى القتل ومن يقدم على قتل النفس ظلما وعدوانا لا خطأ ولا اقتصاصا { وكان ذلك على الله يسيرا } لأن الحكمة تدعو إليه، قوله تعالى: { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } وقرئ كثير ما تنهون عنه أي ما كبر من المعاصي التي ينهاكم الله والرسول عنها، { نكفر عنكم سيئاتكم } أي ما تستحقونه من العقاب في كل وقت على صغائركم ونجعلها كأن لم تكن، وقال علي (عليه السلام): " الكبائر سبع: الشرك بالله، والقتل، والقذف، والزنا، ومال اليتيم، والفرار من الزحف، والتعرب بعد الهجرة " وزاد عمر: السحر، واستحلال البيت الحرام، وعن ابن عباس: أن رجلا قال: الكبائر سبع قال: هي إلى سبعمائة، وروي إلى سبعين، وروي: " لا صغيرة مع الاصرار ولا كبيرة مع الاستغفار " قوله تعالى: { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } يعني من الجاه والمال لأن ذلك التفضيل قسمة من الله صادرة عن حسن وتدبير وعلم بأحوال العباد وبما يصلح المقسوم له من بسط الرزق أو قبضه، ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له، وروي أنها أتت وافدة النساء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: رب الرجال والنساء واحد وأنت رسول الله إلينا وإليهم وأبونا آدم وأمنا حوى فما بالنا يذكر الله الرجال ولا يذكر النساء فنزلت، وروي أنها قالت: وقد سبقنا الرجال بالجهاد فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن للحامل منكن أجر الصائم القائم فإذا ضربها الطلق لم يدر أحد ما لها من الأجر فإن أرضعت كان لها بكل مضغة أجر نفس تحيها "
قوله تعالى: { للرجال نصيب مما اكتسبوا } جعل ما قسم لكل واحد من الرجال والنساء على حسب ما عرف الله من حاله الموجبة للبسط والقبض، قوله تعالى: { واسألوا الله من فضله } ولا تتمنوا أنصباء غيركم من الفضل، ولكن سلوا الله من خزائنه التي لا تنفد، وقيل: كان الرجال قالوا: إن الله فضلنا على النساء في الدنيا لنا سهمان ولهن سهم واحد فنرجو أن يكون لنا أجران في الآخرة على الأعمال فلهن أجر، قالت أم سلمة ونسوة معها: ليت الله كتب علينا الجهاد كما كتب على الرجال فيكون لنا من الأجر مثل ما لهم، قوله تعالى: { ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون } جعلنا موالي وراثا يلونه ويحرزونه { والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم } الآية نزلت في الذين آخا بينهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المهاجرين حين قدم المدينة وكانوا يتوارثون بالمؤاخاة ثم نسخ ذلك بالفرائض.
[4.34-35]
قوله تعالى: { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض }
" وروي أن سعد بن الربيع نشزت عليه امرأته فلطمها فانطلق بها أبوها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: افرشيه كريمتي فلطمها ورفع إليه الخبر فقال: " تقتص منه " فنزلت الآية فقال: " أردنا أمرا فأراد الله أمرا والذي أراد الله خير "
، ورفع القصاص واختلف في ذلك، قيل: لا قصاص بين الرجل وامرأته فيما دون النفس ولو شجها لكن يجب العقل، وقيل: لا قصاص إلا في الجراح والقتل وأما اللطمة ونحوها فلا { قانتات } مطيعات قائمات بما عليهن للأزواج { حافظات للغيب } الغيب خلاف الشهادة أي حافظات لمواجيب الغيب إذا كان الأزواج غير شاهدين حفظهن ما يجب عليهن حفظه في حال الغيبة من البيوت والفروج والأموال، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في نفسها ومالها "
وتلا الآية قوله تعالى: { بما حفظ الله } قال جار الله: بما حفظهن حين أوصى بهن الأزواج في كتابه، وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:
" استوصوا بالنساء خيرا "
أو بما حفظهن الله عصمهن ووفقهن لحفظ الغيب، أو بما حفظهن حين وعدهن الثواب الجزيل على حفظ الغيب وأوعدهن العذاب الشديد على الخيانة { واللاتي تخافون نشوزهن } قيل: النشوز عصيان المرأة الزوج والاستعلاء عليه، وأن لا تجيبه إلى فراشه، أو تخرج من بيته بغير إذنه، ذكره ابن عباس، وقيل: إذا لم تطمئن عنده، قوله تعالى: { فعظوهن } أي رهبوهن بتقوى الله وطاعته وخوفه واستحقاق الوعيد في معصية الزوج، وفي الحديث:
" أيما امرأة عبدت عبادة مريم بنت عمران ولم يرض منها زوجها ما قبل الله منها وأدخلها النار مع المنافقين "
{ واهجروهن في المضاجع } أي في المراقد، أي لا تداخلوهن تحت اللحف وهو كناية عن الجماع { واضربوهن } أمر تعالى بوعظهن أولا ثم بهجرهن في المضاجع ثم بالضرب وقالوا: يجب أن يكون ضربا غير مبرح لا يجرحها ولا يكسر لها عظما ويتجنب الوجه، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" علق سوطك حيث يراه أهلك "
قوله تعالى: { إن الله كان عليا كبيرا } فاحذروه واعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على من تحت أيديكم، قوله تعالى: { وإن خفتم شقاق بينهما } أي يفعل كلاهما ما يشق على صاحبه، ويميل إلى شق غير شقه، والموافقة والمساواة والتوفيق اللطف، { فابعثوا حكما } والحكم رجل يصلح للحكومة وإنما اختير من الأقارب لأنه أعرف ببواطن الأحوال، وعن الحسن: يجمعان ولا يفرقان، وعن الشعبي: ما قضى الحكمان جار { إن الله كان عليما خبيرا } يعلم كيف يوافق بين المختلفين ويجمع بين المفترقين
لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم
[الأنفال: 63].
[4.36-42]
قوله تعالى: { وبالوالدين إحسانا } يعني وأحسنوا إليهما إحسانا { وبذي القربى } أي وبكل من بينكم وبينه قرابة من أخ أو عم أو غيرهما { والجار ذي القربى } الذي قرب جواره { والجار الجنب } الذي جواره بعيد، وقيل: القريب في النسب، وقيل: المسلم، وقيل: الجار الجنب البعيد في النسب، وقد جاء عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إلى أربعين دار جوار "
{ والصاحب بالجنب } قيل: الرفيق في الطريق، وقيل: المرأة، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره "
، { كان مختالا } المختال التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه ولا يلتفت إليهم، قوله تعالى: { الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل } نزلت في اليهود بخلوا بما أوتوا من الرزق وكتموا ما أوتوا من العلم بصفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: نزلت في مشركي مكة المنفقي أموالهم في عداوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويأمرون الناس أن يبخلوا، قوله تعالى: { والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس } نزلت في المنافقين وكانوا ينفقون ويصلون الأرحام، وقيل: نزلت في اليهود، وقيل: في قريش، رئاء الناس ليقال ما أسخاهم وما أجودهم: { ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا } حيث حملهم على البخل والرئاء { وماذا عليهم لو آمنوا بالله } أي فأي تبعة ووبال عليهم في الإيمان والإنفاق في سبيل الله؟ والمراد الذم والتوبيخ { وكان الله بهم عليما } وعيد، وقوله تعالى: { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } الذرة النملة الصغيرة، وفي قراءة عبد الله مثقال نملة، وعن ابن عباس: أنه أدخل في يده التراب فرفعه ثم نفخ فيه، وقال: كل واحدة من هؤلاء ذرة، وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء في الكوة ذرة، وفيه دليل على أنه لا ينقص من الأجر أدنى شيء، قوله تعالى: { وإن تك حسنة يضاعفها } أي وإن تك مثقال الذرة حسنة يضاعفها، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" إن الله تعالى يعطي عبده المؤمن ألف ألف حسنة "
قال أبو هريرة: لا بل سمعته يقول:
" إن الله يعطي ألفي ألفي حسنة "
ثم تلا هذه الآية والمراد الكثرة لا التحديد، قوله تعالى: { ويؤت من لدنه أجرا عظيما } أي يعطي صاحبها من عنده على سبيل التفضل عطاء عظيما، قوله تعالى: { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم كقوله تعالى:
وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم
[المائدة: 117] قوله تعالى: { وجئنا بك على هؤلاء } المكذبين { شهيدا } وعن ابن مسعود أنه قرأ سورة النساء على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى بلغ قوله: { وجئنا بك على هؤلاء شهيدا } فبكى (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: " حسبنا " قوله تعالى: { لو تسوى بهم الأرض } لو يدفنون فتسوى بهم الأرض تغيبهم كما تستوي بالموتى، وقيل: يودون أنهم لم يبعثوا وأنهم كانوا والأرض سواء، وقيل: تصير البهائم ترابا فيودون حالها { ولا يكتمون الله حديثا } ولا يقدرون على كتمانه لأن رجوعهم يشهد عليهم، وقيل: الواو للحال أي يودون أنهم يدفنون تحت الأرض وأنهم لا يكتمون الله حديثا ولا يكذبون في قولهم والله ربنا ما كنا مشركين لأنهم إذا قالوا ذلك وجحدوا شركهم ختم الله على أفواههم عند ذلك وتكلمت أيديهم وأرجلهم بتكذيبهم والشهادة عليهم بالشرك فلشدة الأمر عليهم يودون أن تسوى بهم الأرض.
[4.43-46]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى } يعني لا تغشوها ولا تقربوها، كقوله تعالى:
لا تقربوا الفواحش
[الأنعام: 151]
ولا تقربوا الزنى
[الإسراء: 32]، وقيل: لا تقربوا مواضعها وهي المساجد وهذا حين كانت الخمر مباحة، وروي أن عبد الرحمن بن عوف (رضي الله عنه) صنع طعاما وشرابا ودعا نفرا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين كانت الخمر مباحة فأكلوا وشربوا فلما ثملوا وجاء وقت الصلاة قدموا أحدهم ليصلي بهم فقرأ: قل يأيها الكافرون أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، فنزلت هذه الآية فكانوا لا يشربون في أوقات الصلاة فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون ثم نزل تحريمها، وقيل: هو سكر النعاس، وغلبة النوم، قوله تعالى: { ولا جنبا إلا عابري سبيل } استثناء من عامة أحوال المخاطبين كأنه قال: لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة إلا ومعكم حال أخرى تعتذرون فيها وهي حال السفر، وقيل: لا تقربوا المسجد جنبا إلا مجتازين فيه إلى الماء إذا كان الطريق فيه إلى الماء أو كان الماء فيه، وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يأذن لأحد أن يمر بالمسجد ويجلس فيه وهو جنب إلا لعلي بن أبي طالب، قوله تعالى: { فتيمموا صعيدا طيبا } قيل: هو وجه الأرض ترابا كان أو غيره وإن كان صخرا لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك طهورا وهو مذهب أبي حنيفة قال ذلك جار الله، { إن الله كان عفوا غفورا } كناية عن الترخيص والتيسير، قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب } نزلت في اليهود، نصيبا: حظا في علم التوراة { يشترون الضلالة } يعني يستبدلونها بالهدى وهو البقاء على اليهودية بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنه هو النبي المبعوث العربي المبشر به في التوراة والإنجيل، قوله تعالى: { ويريدون أن تضلوا } أنتم أيها المؤمنون { السبيل } { والله أعلم بأعدائكم } وقد أخبركم بعداوة هؤلاء { وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا } فثقوا بولايته ونصرته دونهم أو لا تبالوا بهم فإن الله ينصركم عليهم، قوله تعالى: { من الذين هادوا } بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب لأنهم يهود ونصارى، وقيل: نزلت في ناس من اليهود كانوا يأتون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخبرهم بما سألوه فإذا انصرفوا حرفوا كلامه (عليه السلام)، قوله تعالى: { واسمع غير مسمع } كانوا يقولون دعا له والمعنى اسمع لا سمعت، وقيل: معناه اسمع أصمك الله، وقيل: اسمع غير مجاب إلى ما تدعو { وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين } يريدون بذلك ذم رسول الله (صلى الله عليه وآله سلم } وتهزئته وسخرية في الدين، ليا بألسنتهم: فتلا بها وتحريفا: أي يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون، راعنا موضع أنظرنا أو يلقون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا { ولكن لعنهم الله بكفرهم } أي طردهم من الجنة وأبعدهم عنها { إلا قليلا } فيه قولان: أحدهما يريد عبد الله بن سلام وأصحابه، والثاني يريد إيمانا قليلا ضعيفا ركيكا.
[4.47-50]
قوله تعالى: { يأيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم } الآية عن ابن عباس أنها
" نزلت في اليهود وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلم جماعة من أحبار اليهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب بن الأشرف وعبد الله بن سلام فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أني جئتكم بالحق " فقالوا: لا نعرف ذلك يا محمد، وقيل: لما نزلت أتى عبد الله بن سلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: ما كنت أراني أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي، وسمع كعب بن الأشرف بهذه الآية فقال: يا رب آمنت يا رب أسلمت "
، { من قبل أن نطمس وجوها } فننكسها الوجوه إلى خلف والقفا إلى قدام، قيل: أراد بالطمس القلب والتغيير كما طمس أموال القبط وغيرها فقلبها، قوله تعالى: { أو نلعنهم } أو نخزيهم بالمسخ كما مسخنا { أصحاب السبت } قال جار الله: فإن قلت: فأين وقوع الوعيد؟ قلت: هو مشروط بالإيمان وقد آمن منهم ناس، وقيل: هو منتظر ولا بد من طمس ومسخ لليهود قبل يوم القيامة ولأن الله تعالى أوعدهم بأحد الأمرين نطمس وجوه منهم أو يلعنهم فإن الطمس تبديل أحوال رؤسائهم واجلائهم إلى الشام فقد كان ذلك والظاهر اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان، ألا ترى إلى قوله تعالى:
هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير
[المائدة: 60] { وكان أمر الله مفعولا } الآية فلا بد أن يقع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا، قوله عز وجل: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية، قيل: نزلت في وحش وأصحابه، وقيل: لا يغفر لليهود { ويغفر ما دون ذلك } لأهل التوحيد { ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما } أي ارتكبه، قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } نزلت في اليهود أتوا بأطفال لهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: يا محمد هل على هؤلاء ذنب؟ قال: " لا " ، قالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل وما عملنا بالليل كفر عنا بالنهار، فنزلت الآية تكذيبا لهم، قال جار الله: هم اليهود والنصارى، قالوا: هم أبناء الله وأحباؤه، وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى { بل الله يزكي من يشاء } إعلام بأن تزكية الله عز وجل هي التي يعتد بها لا تزكية غيره لأنه العالم بمن هو أهل للتزكية، ومعنى يزكي من يشاء: يزكي المرتضين من عباده الذين عرف منهم الزكاء فوصفهم به قوله تعالى: { ولا يظلمون فتيلا } أي الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم أو من يشاء يثابون على جزائهم ولا ينقص من ثوابهم ونحوه فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى، قوله تعالى: { انظر كيف يفترون على الله الكذب } في زعمهم أنهم عند الله أزكياء { وكفى } بزعمهم هذا { إثما مبينا } من بين سائر آثامهم.
[4.51-58]
قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت } الآية نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه وذلك أنه خرج إلى مكة في سبعين راكبا من اليهود يحالفون قريشا على محاربة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونقضوا عهده ونزلوا على أبي سفيان فقال لهم أهل مكة: أنتم أهل كتاب ومحمد صاحب كتاب ولا نأمن أن يكون هذا منكم سكرا فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين ففعلوا، فهذا إيمانهم بالجبت { والطاغوت } لأنهم سجدوا للأصنام، والطاغوت: الشيطان، قال كعب: أنتم منا ونحن منكم وتعاقدوا على حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال أبو سفيان لكعب: إنك لتقرأ الكتاب فبين لنا أنحن أهدى سبيلا أم محمد؟ قال كعب: ماذا يقول محمد؟ قالوا: يأمر بعبادة الله وحده وينهى عن الشرك، قال: وما دينكم؟ قالوا: نحن ولاة البيت نسقي الحاج ونقري الضيف ونفك العاني وذكروا أفعالهم، فقال: أنتم أهدى سبيلا، وعن ابن عباس (رضي الله عنه): الجبت حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف، وقيل: الجبت الأصنام وهو الظاهر والطاغوت الشيطان لعنه الله تعالى، وصف اليهود بالبخل والحسد وهما شر خصلتين، قوله تعالى: { أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا } أحدا مقدرا نقير: لفرط بخلهم، والنقير: النقرة في ظهر نواة التمر وهو مثل في القلة، كالفتيل والقطمير، والمراد بالملك أما ملك أهل الدنيا وإما ملك الله تعالى كقوله تعالى:
قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق
[الإسراء: 100] قوله تعالى: { أم يحسدون الناس } يعني يحسدون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين على ما آتاهم من النصرة والغلبة، قوله تعالى: { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة } الذين هم أسلاف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنه ليس ببدع أن يؤتيه الله مثل ما أوتي أسلافه، وعن ابن عباس: الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداوود وسليمان، قوله تعالى: { فمنهم } فمن اليهود { من آمن به ومنهم من } أنكر نبوته، أو من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من كفر، قوله تعالى: { بدلناهم جلودا غيرها } بدلناهم إياها، قال جار الله، فإن قلت: كيف يعذب بالجلود العاصية جلودا لم تعص؟ قلت: العذاب للجملة الحساب لله وهي التي عصت لا للجلد، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" تبدل جلودهم كل يوم سبع مرات "
، وعن الحسن (رضي الله عنه): كل يوم سبعين مرة يبدلون جلودا بيضا كالقراطيس، قوله تعالى: { ليذوقوا العذاب } أي ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع { وندخلهم ظلا ظليلا } يريد ظل الجنة، قوله تعالى: { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } الخطاب عام لكل أحد في كل أمانة، وقيل: نزلت في عثمان بن طلحة بن عبد الدار وكان سادن الكعبة وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب الكعبة وصعد السطح فأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال: لو علمت أنه رسول الله لم أمنعه فلوى علي بن أبي طالب يده وأخذ المفتاح منه وفتح ودخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الكعبة وصلى ركعتين فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت الآية فأمر عليا (عليه السلام) أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه فقال عثمان لعلي: أكرهت وأذيت ثم جئت تترفق، فقال: " لقد أنزل الله في شأنك قرآنا " وقرأ عليه الآية، فقال عثمان: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فهبط جبريل (عليه السلام) وأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن السدانة في أولاد عثمان أبدا، وقيل: هو خطاب للولاة بأداء الأمانات والحكم بالعدل، قوله تعالى: { إن الله نعما يعظكم به } قال جار الله: قيل: نعم شيء يعظكم به أو نعم الشيء الذي يعظكم به، والمخصوص بالمدح محذوف أي نعما يعظكم به ذلك وهو المأمور به من أداء الأمانات والعدل في الحكم.
[4.59-63]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث خالد بن الوليد في سرية فيهم عثمان فلما دنوا هربوا غير رجل كان قد أسلم فأتى العسكر فاستجار عمارا فأجاره عمار وأمره أن يقيم وإذا بخالد أخذ ذلك الرجل وماله فقال عمار: خل سبيله فإنه مسلم وقد أمنته، فقال خالد: أنت تجير علي وأنا الأمير وجرى بينهما كلام وانصرفوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبروه القصة فأجاز أمان عمار ونهى أن يجير على أمير بغير إذنه فنزلت الآية، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ومن يطع أميري فقد أطاعني "
وقيل: هم العلماء الذين يعلمون الناس الدين ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، قوله تعالى: { فإن تنازعتم في شيء } فإن اختلتفم أنتم وأولو الأمر منكم في شيء من أمور الدنيا والدين، قوله تعالى: { فردوه إلى الله } أي ارجعوه إلى الكتاب والسنة { ذلك خير } إشارة إلى الرد إلى الكتاب والسنة { وأحسن تأويلا } أحسن عاقبة، وقيل: أحسن تأويلا من تأويلكم أنتم ولا تلزم الطاعة لأمراء الجور، قوله تعالى: { ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك } الآية قيل: نزلت في رجل من المنافقين اسمه بشر كان بينه وبين يهودي خصومية فقال اليهودي: انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق: إلى كعب بن الأشرف، وكان يسمى الطاغوت، فأبى اليهودي فأتيا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقضى لليهودي، فلما خرجا قال المنافق لليهودي لا أرضاه وأتيا عمر فقصا عليه القصة فقال عمر للمنافق: كذلك هو، قال: نعم، قال: رويدكما حتى أخرج فدخل بيته وأخذ سيفه وخرج فقتل المنافق، وقال: هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فاجتمع قوم وشكوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما صنع عمر فقال: " لم قتلته؟ " فقال: لأنه لم يرض بقضائك فنزلت الآية، قوله تعالى: { وقد أمروا أن يكفروا به } قرأ عباس بن الفضل (رضي الله عنه ): أن يكفروا بها ذهابا بالطاغوت إلى الجمع والله أعلم { فكيف } يكون حالهم فكيف يصنعون يعني أنهم يعجزون عند ذلك فلا يصدرون أمرا ولا يوردونه { إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم } من التحاكم إلى غيرك واتهامهم لك في الحكم { ثم جاؤوك } حين يصابون فيعتذرون إليك { ويحلفون } ما { أردنا } بتحاكمنا إلى غيرك { إلا إحسانا } لا إساءة { وتوفيقا } { فأعرض عنهم } لا تعاقبهم لمصلحة في استبقائهم ولا ترد على كفرهم بالموعظة ولا النصيحة عما عليه قاله جار الله { وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا } يعني أبلغهم أن ما في نفوسهم معلوم عند الله وأن الله يعلم ما في قلوبكم لا يخفى عليه شيء ولا يغني عنكم ابطانه فأصلحوا أنفسكم.
[4.64-68]
{ وما أرسلنا من رسول } قط { إلا ليطاع بإذن الله } سبب إذن الله في طاعته وبأنه أمرا للمبعوث إليهم بأن يطيعوه ويتبعوه { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك } قيل:
" إن قوما من المنافقين ائتمروا على مكيدة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتاه جبريل فأخبره فقال: ان قوما دخلوا يريدون أمرا لا ينالوه فليقوموا فليستغفروا الله حتى نستغفر لهم فلم يقوموا فقال: ألا تقومون؟ فلم يفعلوا، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " قم يا فلان " حتى عد اثني عشر رجلا فقاموا وقال: " إخرجوا عني "
قال جار الله: { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } بالتحاكم إلى الطاغوت { جاؤوك } تائبين من النفاق { فاستغفروا الله } من ذلك بالاخلاص وبالغوا في الاعتذار إليك من إيذائك برد قضائك حتى انتصبت شفيعا لهم إلى الله ومستغفرا { لوجدوا الله توابا } أي فتاب عليهم { فلا وربك } معناه فوربك كقوله: فوربك لنسألنهم ولا مزيد للتأكيد معناه القسم، وقيل: معناه فلا وربك أي خالقك ورازقك يا محمد وهي قسم { لا يؤمنون } أي لا يكونوا مؤمنين بنبوتك { حتى يحكموك } يجعلوك حكما أي يقرون أن الحكم إليك { فيما شجر بينهم } فيما اختلط من أمورهم وفيما اختلفوا فيه من المنازعات، والآية نزلت في اليهودي والمنافق الذين قالوا: يحتكمون إلى الطاغوت { ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا } إذا حكمت بينهم لا يجدون في قلوبهم ضيقا، وقيل: شكا { ويسلموا تسليما } وينقادون يذعنون لما تأتي به من قضائك لا يعارضونه بشيء، قال جار الله: سلم لأمر الله وأسلم له حقيقة سلم نفسه له وأسلمها إذا جعلها سالمة له خالصة وتسليما تأكيدا للفعل بمنزلة تكرير كأنه قيل: تنقادون لحكمه انقيادا لا شبهة فيه بظاهرهم وباطنهم، وقيل: نزلت في شأن المنافق واليهودي، وقيل:
" في شأن الزبير وحاطب بن أبي بلتعة حين اختصما إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سراح من الحرة كانا يسقيان به النخل فقال: " إسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك " فغضب خاطب وقال: لئن كان ابن عمتك فتغير وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال: " اسق يا زبير ثم احبس حتى يبلغ الجدار واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك " كان على الزبير برأي فيه السعة ولخصمه فلما احفظ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) استوعب الزبير حقه في صريح الحكم ثم خرجا إلى المقداد فقال قائل: إن هؤلاء يشهدون به رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم "
{ ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم } أي لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتل أنفسهم أو خروجهم من ديارهم حتى استتيبوا من عبادة العجل ما فعلوه { إلا } ناس { قليل منهم } وهذا توبيخ عظيم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به من اتباع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبحكمه وطاعته والانقياد لما يراه { لكان خيرا } في عاجلهم وآجلهم { وأشد تثبيتا } لإيمانهم { وإذا } جواز السؤال مقدر كأنه قيل: وماذا يكون لهم بعد التثبت، فقيل: { وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم } وللطفنا بهم ووفقناهم.
[4.69-74]
{ ومن يطع الله والرسول }
" الآية نزلت في ثوبان مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان شديد الحب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قيل: قليل الصبر عنه فأتاه ثوبان وقد تغير وجهه ونحل جسمه فسأله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حاله فقال : يا رسول الله ما بي من وجع غير أني إذا لم أراك اشتقت إليك فاستوحشت حتى ألقاك فذكرت الآخرة فخفت ألا أراك لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة كنت في منزل دون منزلتك فإن لم أدخل فذاك حين لا أراك فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وولده والناس أجمعين " ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أبشر يا ثوبان فإن المرء مع من أحب "
{ والصديقين } قال جار الله: هم أفاضل صحابة الأنبياء الذين تقدموا في تصديقهم { وحسن أولئك رفيقا } فيه معنى التعجب عليهم كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقا { ذلك الفضل من الله } والمعنى إنما أعطى المطيعون من الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الله لأنه تفضل به عليهم تبعا لثوابهم { وكفى بالله عليما } يجزي من أطاعه { يأيها الذين آمنوا خذو حذركم } يعني إحذروا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم وإذا نفرتم إلى العدو { فانفروا ثبات } جماعات متفرقة سرية بعد سرية وأما مجتمعين { وإن منكم لمن ليبطئن } الآية نزلت في المنافقين كانوا يبطئون الناس عن الجهاد فإذا أصابتهم مصيبة قالوا قول الشامت بهم لأنهم كانوا يفرون معهم نفاقا ومعنى ليبطئن ليتثاقلن وليتخلفن عن الجهاد كما فعل عبد الله بن أبي وهو الذي شط الناس يوم أحد لعنه الله وأخزاه { فإن أصابتكم مصيبة } من قتل أو هزيمة، قال: { قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا } { ولئن أصابكم فضل من الله } فتح أو غنيمة { ليقولن كأن لم يكن بينكم وبينه مودة } لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقوهم في الظاهر { فليقاتل في سبيل الله } الآية، قيل: نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن أحد، وقيل: نزلت في المؤمنين المخلصين { الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة } هم المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويخلصوا الإيمان لله ورسوله ويجاهدوا في سبيل الله حق الجهاد والذين يتبعونهم هم المؤمنون الذين يستحبون الآجلة عن العاجلة.
[4.75-79]
{ وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله } أي في دينه أي ليس لكم عذر في ترك القتال أيها المؤمنون { والمستضعفين من الرجال والنساء } هم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم مستذلين يلقون منهم الأذى الشديد وكانوا يدعون الله بالإخلاص ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة وبقي بعضهم إلى الفتح حتى جعل الله لهم من لدنه خير ولي وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فتولاهم أحسن التولي ونصرهم أقوى النصر ولما خرج استعمل على أهل مكة عياض بن أسد قال ابن عباس كان ينصر الضعيف من القوي حتى كانوا أعز بها من الظلمة { الذين يقولون } هؤلاء المستضعفين يقولون في دعائهم { ربنا أخرجنا من هذه القرية } أي سهل لنا الخروج وانقذنا من أيدي الظلمة من هذه القرية يعني مكة { الظالم أهلها } الذين ظلموا المؤمنين وصدوهم عن دينهم ومنعوهم من الهجرة { واجعل لنا من لدنك وليا } قيل: اجعل لنا بألطافك { واجعل لنا من لدنك نصيرا } { الذين آمنوا } صدقوا الله ورسوله { يقاتلون } يجاهدون { في سبيل الله } أي في دينه وطاعته { والذين كفروا } كذبوا الله ورسوله { يقاتلون في سبيل الطاغوت } قيل: طريق الشيطان، وقيل: كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، وقيل هو الكاهن، وقيل: في طاعة كبرائهم { فقاتلوا } جاهدوا أيها المؤمنون { أولياء الشيطان } يعني الذين يتولونه ويطيعونه، وقيل: حزب الشيطان { إن كيد الشيطان } مكره وتدبيره { كان ضعيفا } قيل: تضعف نصرته لأوليائه وكيد الشيطان للمؤمنين إلى حيث كيد الله الكافرين أضعف شيء وأهونه، وقيل: انه أخبرهم بظهور المؤمنين عليهم فلذلك كان كيده ضعيف، وقيل: سماه ضعيفا لضعف دواعي أوليائه إلى القتال لأنه لا نصرة لهم وقوة دواعي المسلمين لأنه تعالى ناصرهم { ألم تر الى الذين قيل لهم كفوا أيديكم } الآية قيل: نزلت في ناس من الصحابة استأذنوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة في قتال المشركين لما ينالهم من أذاهم فلم يأذن لهم فلما كتب عليهم القتال بالمدينة كع فريق منهم لا شك في الدين ولا رغبة عنه ولكن نفورا عن الاخطار بالروح وخوفا من الموت وقال فريق منهم ما حكى الله تعالى: { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } وقيل: نزلت في المنافقين { يخشون الناس } معناه: يخشون الناس مثل أهل خشية أي مشبهين لأهل خشية الله { أو أشد خشية } من أهل خشيته وأشد معطوف على الحال { لولا أخرتنا إلى أجل قريب } استزادة في مدة الكف واستمهال إلى وقت آخر كقوله: لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق { ولا تظلمون فتيلا } ولا تنقصون أدنى شيء من أجوركم على ميثاق القتال، وقيل: لا تنقصون شيئا مما كتب من آجالكم ثم رد عليهم فقال تعالى: { أينما تكونوا } في ملاحم حروب أو غيرها ثم ابتدأ قوله: { يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } الوقف على هذا الوجه على أينما تكونوا والبروج: الحصون المشيدة مرتفعة، وقيل: مشيدة بكسر الياء { وإن تصبهم حسنة } والمعنى وان تصبهم نعمة من خصب ورخاء نسبوها إلى الله { وإن تصبهم سيئة } بلية من قحط وشك أضافوها إليك وقالوا: هي من عندك وما كانت إلا سوءتك كما قال الله عن موسى:
وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه
[الأعراف: 131] وعن قوم صالح
قالوا اطيرنا بك وبمن معك
[النمل: 47] والسيئة تقع على البلاء والمعصية والحسنة تقع على الطاعة والنعمة قال تعالى:
وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون
[الأعراف: 168] وقال:
إن الحسنات يذهبن السيئات
[هود: 114] وقيل: إن الآية نزلت في اليهود تشاءموا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمنافقين وذلك أنهم لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة قالوا: ما زلنا نعرف النقصان في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم الرجل علينا فنزلت الآية، ورد الله عليهم { قل كل من عند الله } يبسط الأرزاق ويقبضها على حسب المصالح { فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } فيعلمون أن الله هو القابض والباسط وكل ذلك عن حكمة وصواب ثم قال: { ما أصابك } يا إنسان خطابا عاما { من حسنة } أي من نعمة وإحسان { فمن الله } تفضلا منه وإحسانا وامتنانا وإمتحانا { وما أصابك من سيئة } أي: من بلية ومصيبة فمن عندك لأنك السبب فيها، وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" ما يصيب ابن آدم خدش عود ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يغفر الله أكثر "
{ وأرسلناك للناس رسولا } أي رسولا للناس جميعا العرب والعجم { وكفى بالله شهيدا } على ذلك، فما ينبغي لأحد أن يخرج عن طاعتك واتباعك ".
[4.80-84]
{ من يطع الرسول فقد أطاع الله } لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به ولا ينهى إلا عن ما ينهي الله عنه { ومن تولى } عن الطاعة فأعرض { فما أرسلناك } إلا نذيرا لا حافظا ومهيمنا عليهم تحفظ عليهم أعمالهم وتحاسبهم عليها وتعاقبهم، كقوله:
وما أنت عليهم بوكيل
[الأنعام: 107] { ويقولون } إذا أمرتهم بشيء { طاعة فإذا برزوا من عندك } ، الآية، نزلت في المنافقين، ومعنى: { بيت طائفة } زورت طائفة وسوت { غير الذي تقول } خلاف ما قلت وما أمرت به { والله يكتب ما يبيتون } يبيته في أعمالهم ويجازيهم عليه أو يكتبه في جملة ما يوحي إليك فيطلعك على أسرارهم { فأعرض عنهم } ولا تحدث نفسك بالانتقام منهم { وتوكل على الله } في شأنهم { أفلا يتدبرون القرآن } يعني هلا تأملوا في تفسيره وتدبروا في تأويله وتفكروا في حججه ودلائله { لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } يعني لو كان من عند غير الله لكان الكثير منه مختلفا متناقضا، { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف اذاعوا به } الآية نزلت في المنافقين روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يبعث بالسرايا فإذا غلبوا أو غلبوا بادر المنافقين بالاستخبار عن حال السرايا فيفشونه ويتحدثون به قبل أن يتحدث به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولو ردوا ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلى أولي الأمر منهم وهم كبار الصحابة البصراء بالأمور والذين كانوا يؤمرون منهم { لعلمه } يعني لعلم تدبير ما أخبروا { الذين يستنبطونه } الذين يستخرجون تدبره بفطنهم وتحاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } وهو إرسال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنزال الكتاب والتوفيق { لاتبعتم الشيطان } لبقيتم على الكفر { إلا قليلا } منكم { فقاتل في سبيل الله } إن أفردوك أو تركوك وحدك { لا تكلف إلا نفسك } وحدها أن تقدمها إلى الجهاد فإن الله ناصرك، وقيل: نزلت الآية في بدر الصغرى وذلك أن أبا سفيان كان وعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بدر فخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وما معه إلا سبعون حتى أتى موسم بدر فكفاهم الله بأس العدو ولم يوافقهم أبو سفيان للميعاد ولم يكن فتالا ولو لم يتبعه أحد لخرج { عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا } وهم وفد كف بأسهم، وقيل: هو عام { والله اشد بأسا } من قريش { وأشد تنكيلا }.
[4.85-87]
{ من يشفع } الآية الشفاعة الحسنة هي التي روعي بها حق المسلم ودفع عنه بها شرا وجلب اليه خيرا إذا ابتغى بها وجه الله وفي الحديث:
" أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر "
والسيئة ما كان خلاف ذلك، وقيل: الشفاعة الحسنة هي الدعوة للمسلم لأنها في معنى الشفاعة والكفل النصيب أيضا، وعن الحسن: الحسنة المشي في المصالح والسيئة المشي بالنمائم، وقيل: الكفل المثل وعن مسروق أنه شفع شفاعة فاهدى إليه المشفوع له جارية، فغضب وردها وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك ولا أتكلم فيما بقي منها { وكان الله على كل شيء مقيتا } مقتدرا، وقيل: حافظا، وقيل: شاهدا { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها } الأحسن أن تقول وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، والآية تدل على أن السلام مشروعا ولا خلاف فيه والابتداء سنة والجواب واجب عند جمهور العلماء وهذا إذا كان الرد على مسلم فإن كان فاسقا أو كافرا لم يرد بالرحمة والبركة ورد بما كان فيه الدعاء.
فصل
ولا يرد السلام في الخطبة وقراءة القرآن وعند رواة الحديث وعند مذاكرة العلم والآذان والإقامة رواه جار الله: { بأحسن منها } يريد أهل الملة { أو ردوها } ، يريد أهل الذمة
" وروي أن رجلا قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): السلام عليك، قال: " وعليك السلام " ، قال آخر: السلام عليك ورحمة الله وبركاته قال: " وعليك السلام ورحمة الله وبركاته " وقال: عليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: " وعليك مثل ذلك " فقال الرجل: تقضيني يا رسول الله؟ وتلا الآية، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " لم تترك لي شيء "
وعن ابن عباس الرد واجب وما من رجل يرد على قوم مسلمين ولم يردوا عليه إلا نزع منهم روح القدس وردت عليه الملائكة، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من قال لأخيه المسلم سلام عليك، كتب الله له عشر حسنات، فإن قال: ورحمة الله كتب الله له عشرين حسنة، فإن قال: وبركاته، كتب له ثلاثين حسنة ".
{ إن الله كان على كل شيء حسيبا } أي محاسبكم على كل شيء من التحية وغيرها.
[4.88-91]
{ فما لكم في المنافقين فئتين } روي أن قوما من المنافقين استأذنوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الخروج من المدينة فأذن لهم فلما خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين فاختلفت المسلمون فيهم فقال بعضهم: هم كفار، وقال بعضهم: هم مسلمون، وقيل: كانوا قوما هاجروا من مكة ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا على دينك، وقيل: هم قوم خرجوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد، وقيل: قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة والمعنى ما لكم اختلفتم في شأن قوم نافقوا { والله أركسهم } أي ردهم في حكم المشركين ويجوز أركسهم في الكفر بأن خذلهم لما علم مرض قلوبهم { أتريدون أن تهدوا من أضل الله } من حكم عليه بالضلال وخذله حتى ضل { ودوا لو تكفرون } والمعنى ودوا كفركم وكونكم معهم شرعا واحدا فيما هم عليه من الضلال واتباع دين الآباء فلا تولهم وان آمنوا متى يظاهروا إيمانهم بهجرة صحيحة هي لله ورسوله لا لعرض من أعراض الدنيا فإن تولوا عن الآيات الظاهر بالهجرة الصحيحة المستقيمة فحكمهم حكم سائر المشركين يقتلون حيث وجدوا في الحل والحرم وجانبوهم مجانبة كلية الولاية والنصرة فلا تقبلوا منهم { إلا الذين يصلون } استثناء من قوله: { فخذوهم واقتلوهم } ومعنى { يصلون إلى قوم } ينتهون إليهم ويتصلون بهم والقوم هم الأسلميون كان بينهم وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهود وذلك أنه وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال، وقيل: القوم بنو بكر بن زيد كانوا في الصلح { أو جاؤوكم } قال جارالله: لا يخلو اما أن يكونوا معطوفا على صفة قوم كأنه قيل: إلا الذين يصلون قوما معاهدين أو قوما ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم، أو على صلة الذي كأنه قيل: إلا الذين يتصلون بالمعاهدين والذين يقاتلونكم، والوجه العطف على الصلة لقوله: { فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم } وجعله المرد صفة لموصوف محذوف على أو جاؤوكم قوما حصرت صدورهم، وقيل: هو بيان لجاؤوكم وهم بنو مدلج ولو شاء الله لمصلحة يراها من ابتلاء ونحوه كانوا مسلطين مقاتلين غير كافين فذلك معنى التسليط أي الانقياد والاستسلام { فما جعل الله لكم عليهم سبيلا } فما أذن لكم في قتلهم وأخذهم { ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم } الآية، قيل: نزلت في قوم من أهل مكة أسلموا بها، وقيل: هم قوم من أهل تهامة قالوا: يا رسول الله لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا، وقيل: فيمن ينقل الحديث بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والكفار، وقيل: هم قوم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا فإن رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم { كلما ردوا إلى الفتنة } كلما دعاهم قوم إلى قتال المسلمين { أركسوا فيها } قلبوا قبح قلب وأشنعه، والفتنة: الشرك رجعوا إليه وعادوا فيه مصرين عليه، وقيل: كلما ردوا إلى الامتحان والاختبار ظهر الكفر ورجعوا إليه، ومعنى أركسوا فيها قيل: يرتكسون إلى الكفر ويرجعون إليه { فإن لم يعتزلوكم } يعني قتالكم ويكفوا أيديهم عنكم { فخذوهم } أين ما ظفرتموهم { واقتلوهم } والآية تدل على وجوب الكف عنهم ان عملوا في المسألة / روي في الحاكم، { حيث ثقفتموهم } حيث تمكنتم منهم { وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا } حجة واضحة لظهور عذابهم وانكشاف حالهم في الكفر أو سلطانا ظاهرا حيث أذنا لكم في قتلهم.
[4.92-93]
{ وما كان لمؤمن } وما صح له ولا استقام ولا لاق بحاله { أن يقتل مؤمنا } ابتداء غير قصاص { إلا خطأ } إلا على وجه الخطأ والآية نزلت في عياش بن ربيعة وكان أخا لأبي جهل لأنه أسلم وهاجر خوفا من قومه قبل هجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأقسمت أمه لا تأكل ولا تشرب ولا دخلت تحت سقف حتى يرجع فخرج أبو جهل ومعه الحارث بن زيد وقال أبو جهل: ليس محمد يحثك على صلة الرحم انصرف وترى أمك وانت على دينك، حتى نزل وذهب معهما فلما خلفا المدينة كفتاه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة فقال عياش للحارث: هذا أخي فمن أنت يا حارث؟ لله علي إن وجدتك خاليا لأقتلنك، وقدما به على أمه فحلفت لا يحل كفاته حتى يرتد فقعد ثم هاجر بعد ذلك واسلم الحارث وهاجر ولقيه عياش بظهر قبا ولم يشعر باسلامه فقتله ثم خبر بإسلامه فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: قتلته ولم اشعر بإسلامه، فنزلت { فتحرير رقبة } فعليه تحرير رقبة والتحرير العتق والمراد رقبة مؤمنة كل رقبة كانت على علم الإسلام، وعن الحسن لا يجوز إلا رقبة قد صلت وصامت ولا يجزي الصغير، وقاس عليها الشافعي كفارة الطهارة واشترط الايمان { مسلمة الى اهله } مراده إلى اهله يقتسمونها كما يقتسمون الميراث لا فرق بينهما وبين سائر التركة { الا أن يصدقوا } عليه بالدية، ومعناه العفو لقوله:
إلا أن يعفون
[البقرة: 237] ونحوه وأن يصدقوا وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" كل معروف صدقة "
{ فان كان من قوم عدو لكم } من قوم كفار أهل حرب وذلك نحو رجل أسلم في قومه الكفار وهو بين أظهرهم ولم يفارقهم فعلى قاتله الكفارة إذا قتله خطأ وليس على قاتله لأهله شيء لأنهم كفار محاربون { وان كان من قوم } كفرة لهم ذمة كالمشركين الذين عاهدوا المسلمين واهل الذمة من الكتابيين فحكمه حكم مسلم من المسلمين { فمن لم يجد } رقبة فعليه { صيام شهرين متتابعين توبة من الله } قبولا من الله ورحمة منه إذا قبل توبته { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } الآية نزلت في قيس وجد اخاه قتيلا في بني النجار وكان مسلما فأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الى بني النجار فدفعوا ديته فلما انصرف ومعه الفهري فقتله ورجع إلى مكة وخبره يطول. قال جار الله: وفي هذه الآية من التهديد والايعاد والارعاد امر عظيم، ومن ثم روي عن ابن عباس: ان توبة قاتل المؤمن عمدا توبة غير مقبولة، وفي الحديث:
" لزوال اهل الدنيا أهون على الله من قتل امرء مسلم "
وفيه
" لو قتل رجل بالمشرق وآخر راضي في المغرب لأشرك في دمه "
وعن سفيان: كانوا اهل العلم إذا سئلوا قالوا: لا توبة له، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ان من اعان على قتل مؤمن ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله "
قال جار الله: العجب من قوم يقرأون هذه الآية ويرون ما فيها ويسمعون ما في هذه الأحاديث العظيمة ثم يطمعون بالعفو عن قاتل المؤمن
أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها
[محمد: 24].
[4.94-96]
{ يأيها الذين امنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا }
" الآية نزلت في رجل من أهل فدك اسلم لم يسلم من قومه غيره لقيته سرية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعه غنيمات له فقال: السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا مسلم، فبدر اليه بعضهم فقتله، فلما اخبروا بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " لم قتلته وقد أسلم؟ " قال: انما قالها متعودا، فقال: " هل شققت عن قلبه؟ " ثم حمل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ديته الى اهله ورد عليهم غنمه واختلفوا في اسم القاتل فقيل: هو أسامة، قال أسامة يا رسول الله استغفر لي قال: " فكيف بلا إله إلا الله " قال أسامة: فما زال يعيدها حتى وددت اني لم أكن اسلمت إلا يومئذ ثم استغفر لي وقال اعتق رقبة "
رواه في الكشاف، وأما الذي رواه شهاب الذين أحمد بن مفضل رحمه الله وذكره في الحاكم
" وروي أيضا في النزول أن اسم القاتل يحكم وكان بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيمن بعث فلقيه عامر بن الاصبط فحياه بتحية الاسلام وكان بينهما احنة فرماه بسهم فقتله فلما جاء الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جلس بين يديه فقال له (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا غفر الله لك " وما مضت ساعة حتى مات ودفنوه فلفظته الأرض فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ان الارض تقبل من هو شر منه ولكن الله اراد أن يعظم حرمتكم "
فلما نزلت الآية حلف أسامة لا يقتل رجلا قال لا إله إلا الله { تبتغون عرض الحياة الدنيا } تطلبون الغنيمة التي هي حطام سريع النفاد فهو الذي يدعوكم الى ترك التثبيت { فعند الله مغانم كثيرة } تغتنم عن قتل رجل يظهر الاسلام { كذلك كنتم من قبل } أول ما دخلتم الإسلام سمعت منكم كلمة الشهادة فحقنت دماؤكم وأموالكم { فمن الله عليكم } بالاستقامة والاشهار بالإيمان والتقدم وإن صبرتم على ما فيه فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الاسلام كما فعل بكم وأن تعتبروا ظاهر الاسلام { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } لما نزلت الآية في فضل الجهاد جاء ابن أم مكتوم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: قد نزلت في الجهاد وما علمت وأنا لا الجهاد فهل لي رخصة؟ فنزل { غير أولي الضرر } روي ذلك عن ابن عباس يعني أولي العذر { والمجاهدون في سبيل الله } يعني الذين جاهدوا في سبيل الله ونصروا نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) { فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة } أي منزلة { وكلا وعد الله الحسنى } يعني المؤمنين القاعدين لعذر، والحسنى قيل: كل خير، وقيل: الحسنة { وفضل الله المجاهدين على القاعدين } غير أولي الضرر { أجرا عظيما درجات منه } قيل: منازل بعضها أعلى من بعض منازل الكرامة لأن النعم على مراتب بعضها أعلى من بعض، وقيل: هي الدرجات.
[4.97-104]
{ إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم } الآية نزلت في قوم من المنافقين كانوا يظهرون الشرك لقومهم والإيمان للمسلمين، وقيل: نزلت في ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام ولم يهاجروا ثم خرجوا إلى بدر لقتال المسلمين فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: غر هؤلاء دينهم فقتلوا ببدر فبكتهم الملائكة بقولهم: { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا } أراد أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمنعون فيها من إظهار دينكم ومن الهجرة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة وهذا دليل على ان الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيها من إظهار دينه وعلم أنه في بلد أقوم وأدوم على العبادة حقت عليه الهجرة { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } قال ابن عباس: كنت وأمي من الذين { لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا } وكنت غلاما صغيرا { ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة } الآية قيل: لما نزلت آيات الهجرة سمعها رجل من خزاعة يقال له جندب بن ضمرة وكان مريضا فأمر أهله أن يفرشوا له على سريره ويحملونه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ففعلوا فمات في الطريق، وروي أنه لما خرج ومات وبلغ خبره المسلمين فقالوا: لو بلغ المدينة لكان أتم أجره، وقال المشركون: ما أدرك ما طلب فنزلت، وروي أن جندب بن ضمرة لما أدركه أخذ بيمينه على شماله ثم قال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك، وقيل: نزلت في أكثم بن صيفي فلما بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أرسل ولده إليه فآمن به فلما رجع إلى أبيه وأخبره بخبره كما كرامة لقومه ودعاهم إليها ثم قال لهم: أطيعوني يكن لكم شرف الدنيا والآخرة، فقالوا: خرف الشيخ فلما عصوه ركب راحلته وتوجه الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) فلحقه رجل من سفهاء قومه فذعر الناقة فسقط منها فانكسرت رقبته فنزلت، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) "
من { يجد في الأرض مراغما كثيرا } يعني طريقا يراغم فيه أي يفارقهم فيه على رغمهم والرغم الهون فقد وقع أجره على الله فقد وقع ثوابه عليه { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } الآية نزلت في صلاة الخوف، وقيل: في صلاة السفر عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهما أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى بأصحابه الظهر ورأى المشركون ذلك فندموا لو كانوا واقعوهم وعزموا على الايقاع بالمسلمين أن اشتغلوا بصلاتهم، فاطلع الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) على أسرارهم، وروي أن بعضهم قال لبعض: دعوهم فإن لهم صلاة أحب إليهم من آبائهم وأمهاتهم يعنون صلاة العصر فإذا رأيتموهم قاموا إليها فشدوا عليهم فاقتلوهم فنزل جبريل بصلاة الخوف، وقيل: كان سبب اسلام خالد بن الوليد، وقيل: رفع الجناح في وضع الأسلحة نزل في عبد الرحمن بن عوف ومن خرج في تلك الوقعة، ثم بين تعالى صلاة الخوف فقال: { وإذا كنت فيهم } يا محمد { فأقمت لهم الصلاة } يعني في أصحابك الضاربين في الأرض الخائفين { فلتقم طائفة منهم معك في الصلاة } وفيه حذف تقديره وطائفة تجاه العدو { وليأخذوا أسلحتهم } قيل: المأمور بأخذ السلاح الطائفة المأمورة بالصلاة معه تأخذ السيف والخنجر والدرع فتلبسته الطائفة التي تكون تجاه، وتقديره: { وليأخذوا } الطائفة الأخرى { أسلحتهم } ويكونوا بأزاء العدو واختلفوا إذا سجدت الطائفة الأولى وفرغوا من ركعة كيف يصنعون على أقوال: تسلم وتمضي إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأخرى وتصلي بهم ركعة وتصلي بهم هذا مذهب من يرى صلاة الخوف ركعة والإمام ركعتان مذهب جائز عن مجاهد، الثاني أن يتم الصلاة لكل طائفة فيصلي بهم ركعتين بكل طائفة مرة وهذا مروي عن الحسن، الثالث يصلي بالطائفة الأولى بركعة أخرى والإمام قائم حتى تأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة ثم يجلس في التشهد إلى أن يتموا ركعة أخرى ثم يسلم وهذا مذهب أهل البيت (عليهم السلام) والشافعي، الرابع أن الطائفة الأولى يصلي بهم ركعة ويعودون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأخرى فيكبرون ويصلي بهم الركعة الثانية ويسلم الإمام ويعودون هم إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأولى فيقضون ركعة بغير قراءة لأنهم لاحقون ويسلمون ويرجعون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الثانية ويقضون ركعة بغير قراءة لأنهم مسبوقون عن ابن مسعود وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وذكر ذلك في الحاكم { ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا } وهم الذين كانوا بإزاء العدو { فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم } أي ثم ليكونوا حذرين من عدوكم { ود الذين كفروا } تمنى الكفار { لو تغفلون عن أسلحتكم } عن آلات الحرب { وأمتعتكم } ما بها بلاغكم { فيميلون عليكم ميلة واحدة } أي يحملون عليكم حملة واحدة { ولا جناح عليكم } أي لا حرج ولا إثم { إن كان بكم أذى من مطر } أو أنتم بازاء العدو { أو كنتم مرضى } أي بكم علة أو جراح وضعفتم عن حمل السلاح { أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم } أي كونوا على حذر { فإذا قضيتم الصلاة } فإذا صليتم في حال الخوف والقتال فصلوها { قياما } مشايفين ومقارعين { وقعودا } جاثمين على الركب مرامين { فإذا اطمأننتم } حين تضع الحرب أوزارها { فأقيموا الصلاة } فاقضوا ما صليتم في تلك الأحوال التي هي أحوال القلق { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا } محدودا بأوقات لا يجوز إخراجها عن أوقاتها { ولا تهنوا } ولا تضعفوا ولا تنافوا { في ابتغاء القوم } في طلب الكفار بالقتال والتعرض لهم ثم ألزمهم الحجة بقوله تعالى: { إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون } أي ليس ما تكابدون من الألم مختصا بكم إنما هو مشترك بينكم وبينهم يصيبكم كما يصيبهم وأنتم ترجون النصر من الله وإظهار الدين والثواب العظيم { وكان الله عليما حكيما } لا يكلفكم شيئا ولا يأمركم ولا ينهاكم إلا بما هو عالم به فيما يصلحكم ويحسن عاقبته بكم.
[4.105-113]
{ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } الآية نزلت في درع كانت وديعة عند طعيمة بن أبيرق فجحدها، وقيل: أن طعيمة بن أبيرق سرقها ووضعها في وعاء دقيق واشترى الدقيق من مكان سرقته إلى بيته فخاصموه في أمره فمضى بالدرع إلى يهودي فأودعه فطلب عنده فحلف فدعوا اليهودي بالسرقة وشهد جماعة من اليهود أنه أودعها طعيمة وجاء قوم طعيمة يجادلون عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهم بمعاقبة اليهودي فأنزل الله تعالى: { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } الآية { بما أراك الله } بما عرفك وأوحى به إليك، وعن عمر: لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكن لتجتهدوا به { ولا تكن للخائنين خصيما } ولا تكن لأهل الخائنين مخاصما يعني لا تخاصم اليهودي لأجل بني ظفر واستغفر الله بما هممت به من عقاب اليهودي يختانون أنفسهم يخونوها بالمعصية كقوله:
علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم
[البقرة: 187] قال جار الله: فإن قلت: لم قيل للخائنين: ويختانون أنفسهم وكان السارق طعيمة واحدة؟ قلت: لوجهين أحدهما أن بني ظفر شهدوا له بالبراءة ونصروه وكانوا شركاء له في الإثم، والثاني أنه جمع ليتناول طعيمة وكل من خان خيانته { يستخفون من الناس } يستترون منهم حياء منهم وخوفا من ضررهم { ولا يستخفون من الله وهو معهم } وهو عالم بهم مطلع عليهم لا يخفى عليه شيء من سرهم وكفى بهذه الآية ناعتة على الناس ما هم فيه من قلة الحياء والخشية من ربهم { إذ يبيتون } يزورون ويديرون وأصله أن يكون بالليل { ما لا يرضى من القول } وهو تدبير طعيمة { ها أنتم هؤلاء جادلتم } خاصمتم عن طعيمة وقومه في الدنيا فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه { أم من يكون عليهم وكيلا } حافظا من بأس الله وانتقامه { ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } قوله سوءا قبيحا متعديا يسوء به غيره كما فعل طعيمة، وقيل: من يعمل سوءا من ذنب دون الشرك أو يظلم نفسه بالشرك وهذا نعت لطعيمة على الاستغفار والتوبة، وقيل: يظلم نفسه بما يختص به كالحلف الكاذب { ومن يكسب إثما } أي يعمل ذنبا { فإنما يكسبه على نفسه } يعني وبال فعله يعود عليه { وكان الله عليما حكيما } عليما بكسبه حكيما في عقابه، وقيل: عليما بأفعال عباده حكيما بقضاءه فيهم، وقيل: عليما بالظالم والمظلوم، ومن يكسب خطيئة صغيرة { أو إثما } كبيرة، وقيل: يعمل ذنبا على عمد أو غير عمد أو إثما تعمده، وقيل: الخطيئة الشرك والإثم ما دون الشرك { ثم يرم به بريئا } ثم يضف ذنبه إلى بريء قيل: هو اليهودي طرح عليه الدرع ابن ابيرق { فقد احتمل بهتانا } أي كذبا عظيما { وإثما مبينا } أذى ظاهرا { ولولا فضل الله عليك ورحمته } أي عصمته وما أوحي إليك من الاطلاع على سرارهم { لهمت طائفة } من بني ظفران { يضلوك } عن القضاء بالحق، وقيل: هم الذين يشهدون للخائنين من بني أبيرق، والآية: نزلت في بني أبيرق، وقيل: هم من بني ظفر لما أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وشهدوا ببراءة صاحبهم، وقيل: نزلت في وفد من ثقيف قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أن يمتعهم بالعزاء سنة فهم يحسون إلى ذلك { وما يضلون إلا أنفسهم } يعني ما يهلكون إلا أنفسهم لأن وبال ذلك يعود عليهم { وما يضرونك من شيء } لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما كان يخطر ببالك أن الحقيقة على خلاف ذلك { وعلمك ما لم تكن تعلم } من حقيقات الأمور وضمائر القلوب أو من أمور الدين والشرائع.
[4.114-121]
{ لا خير في كثير من نجواهم } مما يناجي به الناس { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله } شرط في استيجاب الأجر العظيم أن ينوي فاعل الخير عبادة الله والتقرب إليه وأن يبتغي به وجه الله خالصا لأن الأعمال بالنيات { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى } الآية نزلت في شأن طعيمة وسرقه للدرع، وروي أنه نقب بيتا يسرقه فانهدم عليه الجدار فقتله، وقيل: أنه ركب سفينة فسرق كيسا فيه دراهم فأخذ وألقي في البحر، وقيل: نزلت في نفر من قريش أسلموا ثم ارتدوا وعبدوا الأصنام { ويتبع غير سبيل المؤمنين } هو السبيل الذي عليه الدين القيم { نوله ما تولى } فجعله واليا لما تولى من الضلال بأن يخلي بينه وبين ما اختاره، وقيل: هو طعيمة لأنه ارتد { إن الله لا يغفر أن يشرك به } تكرير للتأكيد، وقيل: كرر لقصة طعيمة، وروي أنه مات مشركا، وقيل: نزلت في شيخ أتى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يا رسول الله أنا شيخ منهمك بالذنوب إلا أني لم أشرك بالله منذ آمنت، ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أواقع المعاصي جراءة وإني لنادم تائب مستغفر لما جاءني عند الله فنزلت الآية { إن يدعون } يعني يعبدون { من دونه } الله { إلا إناثا } هي اللات والعزى ومنات، وعن الحسن لم يكن حي من العرب إلا ولهم صنم يعبدونه يسمونه أنثى بني فلان، وقيل: كانوا يقولون في أصنامهم هي بنات الله { وإن يدعون } وان يعبدون عبادة الأصنام { إلا شيطانا مريدا } لأنه هو الذي أغواهم على عبادتها فأطاعوه فجعلت طاعتهم له عبادة لعنه الله تعالى { وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا } مقطوعا واجبا فرضته لنفسي قال الحسن من كل ألف تسع مائة وتسع وتسعون إلى النار { ولأمنينهم } الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال ورحمة الله للمجرمين من غير توبة والخروج من النار بعد دخولها بالشفاعة { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام } هي البحيرة كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكر وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } قيل: هو الخصي وهو المباح في البهائم وأما في بنو آدم فمحظور عند أبي حنيفة يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم، وقيل: فطرة الله التي هو دين الإسلام، وعن ابن مسعود هو الوشم، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لعن الله الواشرات والمنتمصات والمستوشمات المغيرات خلق الله "
وقيل: دين الله وهو اللواط { ومن يتخذ الشيطان وليا } أي ربا { من دون الله } فيطيعه { فقد خسر خسرانا مبينا } قيل: هلاكا بينا إذا حرم نفسه الثواب واستوجب العقاب الدائم { يعدهم } قيل: يعدهم أن يكون ناصرا لهم ممن أرادهم بسوء، وقيل: يعدهم الفقر إن أنفقوا أموالهم في أبواب البر، وقيل: يعدهم أن ينالوا الدنيا والآخرة بالمعاصي، وقيل: لا بعث ولا جزاء { ويمنيهم } الأباطيل والأكاذيب { وما يعدهم الشيطان إلا غرروا } يعني ما يعدهم إلا باطل، وقيل: وعدهم الظفر وكان للمسلمين عليهم الغلبة { أولئك مأواهم } يعني مصيرهم ومرجعهم { جهنم ولا يجدون عنها محيصا } قيل: معدلا، وقيل: مقرا وخلاصا.
[4.122-126]
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات } الطاعات، وقيل: الصلوات الخمس { سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار } قيل: من تحت أشجارها وأبنيتها { خالدين فيها أبدا } لا تقطع حياتهم ولا تمتعهم { وعد الله حقا } يعني وعده حق لا خلف فيه لا كوعد الشيطان { ومن أصدق من الله قيلا } ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } الآية قيل: تفاخر المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم، وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم نبينا خاتم النبيين وديننا دين الإسلام، فنزلت الآية، وقيل: قالت قريش: لا نبعث ولا نحاسب، وقالت اليهود:
لن تمسنا النار إلا أياما معدودة
[البقرة: 80]، وعن الحسن: ليس الإيمان ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل، وعن مجاهد: ان الخطاب للمشركين وأبطل الله الأماني وأثبت الأمر كله معقودا بالعمل وإن من أصلح عمله فهو الفائز وان من أساء عمله فهو الهالك { ولا يظلمون نقيرا } والنقير: النقرة ذي في قفا النواة، قال جار الله: فإن قلت: كيف خص الصالحين بأنهم لا يظلمون نقيرا وغيرهم مثلهم في ذلك قلت: هو راجع ولا يظلمون للعمل والأعمال الصالحات { ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه } أخلص نفسه { لله } وجعلها سالمة لا تعرف ربا ومعبودا سواه { وهو محسن } وهو عامل بالحسنات تاركا للسيئات حسنا حال من المنعم أو من إبراهيم كقوله:
بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين
وهو الذي يحنف أي مال عن الأديان كلها إلى دين الاسلام { واتخذ الله إبراهيم خليلا } مجاز عن اصطفائه واختصاصه شبهه بالخليل عند خليله قال أهل اللغة: الخليل المحب الذي ليس في صحبته نقص ولا خلل، وفي سبب اتخاذ الله إبراهيم خليلا أقوال: أحدها لإطعامه الطعام، روى ابن عمر أن النبي (صلى الله عليه وله وسلم) قال:
" يا جبريل بما اتخذ الله إبراهيم خليلا؟ قال: لإطعامه الطعام "
، وقيل: لكسره الأصنام، وقيل: ان إبراهيم بعث إلى خليل له إلى مصر في أزمة اصابت الناس يمتار منه فقال خليله: لو طلب الميرة لنفسه لفعلت ولكنه يريدها لأضيافه فاجتاز غلمانه ببطحاء فملأوا منها الغرائر حياء من الناس فلما أخبروا إبراهيم ساءه الخبر فحملته عيناه فنام وعمدت امرأته إلى غرارة فأخرجت أحسن حوارى فاختبزت فانتبه ابراهيم فشم رائحة الخبز فقالت امرأته: من خليلك المصري، فقال: بل من عند خليلي الله عز وجل، فسماه الله خليلا.
[4.127-130]
{ يستفتونك في النساء } الآية نزلت في امرأة أوس مات عنها زوجها وعصبته من الأنصار رجلان فأخذ المال فأخبر بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ، وقيل: القرآن { في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن } أي ما فرض لهن من الميراث وكان الرجل منهم يضم اليتيمة إلى نفسه ومالها فإن كانت جميلة تزوجها وأكل المال وإن كانت دميمة عضلها عن التزويج حتى تموت فيرثها { وترغبون أن تنكحوهن } لجمالهن، وقيل: كانوا جاهلية لا يورثون النساء والأطفال، وقيل: كان ذلك في باب الصداق فكان أولياء اليتامى لا يؤتونهن صداقهن { وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا } الآية نزلت في خولة وزوجها سعد بن أبي الربيع أراد أن يطلقها فقالت: لا تطلقني ودعني أقيم على ولدي وأقسم لي في كل شهر عشرا، فقال: إن كان هذا يصلح فهو أحب إلي، وقيل: نزلت في السائب وامرأته، والنشوز أن يمنعها نفسه ونفقته { وأحضرت الأنفس الشح } أي جعل حاضرا لها لا يغيب عنها أبدا ولا تنفك عنه يعني أنها مطبوعة عليه، والغرض أن المرأة لا تكاد تسمح والرجل لا يكاد يسمح بقسمه لها، وقيل: الآية نزلت حين أراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طلاق سودة فوهبت قسمها لعائشة فتركها { وأن تحسنوا } بالاقامة على نسائكم وإن كرهتموهن وأحببتم غيرهن وتصبروا على ذلك مراعاة لحق الصحبة { وتتقوا } إلى النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة { فإن الله كان بما تعملون } من الإحسان { خبيرا } { ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم } ومحال أن تستطيعوا العدول بين النساء والتسوية حتى لا يقع ميل البتة ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن فرفع ذلك عنكم بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم لأن تكليف ما لا يطاق داخل في حد الظلم
وما ربك بظلام للعبيد
[فصلت: 46]، وقيل: معناه أن تعدلوا في المحبة، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: " هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك "
وقيل: إن العدول بينهن أمر صعب بالغ من الصعوبة لأنه يجب أن يسوي بينهن في القسمة والنفقة والتعهد والنظر والإقبال { فلا تميلوا كل الميل } أي لا تميلون عن التسوية فيما تقدرون عليه من النفقة والكسوة والقسم والمعاشرة بالمعروف { فتذروها كالمعلقة } أي كالمسجونة، وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من كان له امرأتان يميل مع أحدهما جاء يوم القيامة وشقه مائل "
وقيل: تتقوا الله بالتوبة فيما سلف منكم { وأن تصلحوا } قيل: تصلحوا أعمالكم { وتتقوا } المعاصي، وقيل: تصلحوا بالعدل في الصحبة وتتقوا الله في أمرها، وقيل: تتقوا الله بالتوبة فيما سلف منكم من الميل، وقيل: تصلحوا امر النساء على ما تراضون { فإن الله كان غفورا رحيما } يغفر ما سلف منكم { وان يتفرقا } الزوج والزوجة إذا عجز كل واحد عن إيفاء حق صاحبه قحافا ألا يقيما حدود الله فطلقها وخالعها جاز { يغن الله كلا من سعته } أي يغني كل واحد برزقه وأما بزوج هو أصلح لها أو برزق واسع وأما الزوج فإما ان كان يغنيه بزوجة صالحة أو برزق واسع، ومتى قيل: لم شرط تفرقهما في الرزق وهو يرزقهما اجتمعا أو تفرقا؟ فجوابنا لوجهين: أحدهما تسلية لها، الثاني أنه أغنى كل واحد من الزوجين بالآخر فإذا تفرقا فالله تعالى القيم بأمرهما وأمر كل واحد وسمي الطلاق فرقة لأنه ينافي الاجتماع الذي كان قبله.
[4.131-135]
{ ولقد وصينا } التوصية في معنى القول، وقوله: و { الذين أوتوا الكتاب } اسم للجنس تناول الكتب السماوية { من قبلكم وإياكم } يعني أمرناهم وأمرناكم بالتقوى وقلنا لهم قيل: ولكم { وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض } يعني الخلق كله وهو خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم فحقه أن يكون مطاعا، ويعني بالذين أوتوا الكتاب من الأمم السالفة ووصيناكم أن تتقوا الله بمعنى أنها وصية ما زال يوصي الله بها عباده { وكان الله غنيا } عن خلقه وعن عبادتهم جميعا { حميدا } مستحقا للحمد { ان يشأ يذهبكم } يفنيكم ويعذبكم كما أوجدكم وأنشأكم { ويأت بآخرين } ويوجد المتأخرين مكانكم أو خلقا آخر من غير الإنس { وكان الله على ذلك } من الاعدام والايجاد { قديرا } لا يمتنع عليه شيء { من كان يريد ثواب الدنيا } كالمجاهد يزيد بجهاده الغنيمة { فعند الله ثواب الدنيا والآخرة } فما له طلب أحدهما دون الأخرى لأن من جاهد لله خالصا لم تحتطه الغنيمة وله من الثواب في الآخرة ما الغنيمة في جنبه كلا شيء { يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } مجتهدين في إقامة العدل { شهداء لله } يقيمون شهادتكم كما أمرتم بإقامتها { ولو على أنفسكم } ولو كانت الشهادة على أنفسكم وآبائكم وأقاربكم وهو أن يقر على نفسه بما عليها لأنه في معنى الشهادة { إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى } بالغني والفقير أي بالنظر لهما { فلا تتبعوا الهوى } يعني هوى أنفسكم { أن تعدلوا } عن الحق { وأن تلووا أو تعرضوا } يعني وأن تلووا ألسنتكم عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها.
[4.136-141]
{ يأيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله }
" الآية نزلت في مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزيرا ونكفر بما سواه من الكتب، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " آمنوا بكل كتاب منزل على نبي مرسل "
فنزلت الآية فقالوا: نؤمن بك وبكل كتاب منزل ولا نفرق بين أحد منهم، وقيل: نزلت في المسلمين ومعنى آمنوا أثبتوا على الإيمان وداوموا عليه قال جار الله: فإن قلت: كيف قيل لأهل الكتاب { والكتاب الذي أنزل من قبل } وكانوا مؤمنين بالتوراة والانجيل؟ قلت: كانوا مؤمنين بهما بحسب، فإن قلت: لم قيل نزل على رسوله وأنزل من قبل؟ قلت: لأن القرآن نزل مفرقا بخلاف الكتب قبله { ومن يكفر بالله } الآية يعني يكفر بشيء من ذلك { فقد ضل ضلالا بعيدا } { إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا } الآية هؤلاء قوم ممن آمن مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم رجعوا إلى قريش وارتدوا عن الإسلام ثم رجعوا ثم هفوا ثانية إلى الكفر ثم ارتدوا وماتوا عليه، وقيل: نزلت في أهل الكتاب اليهود والنصارى، وقيل: هم اليهود آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا بالإنجيل وبعيسى، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: هم المنافقون آمنوا ثم ارتدوا ثم آمنوا ثم ارتدوا ثم ماتوا ويدخلهم النار { ولا ليهديهم سبيلا } طريقا طريق الجنة ولا يغفر لهم من حيث أن إيمانهم غير صحيح وإنما يغفر للتائب ولا يهديهم سبيلا إلى النجاة من النار { بشر المنافقين } وضع بشر مكان أخبر تهكما بهم والبشارة التي يظهر به السرور في بشرة وجهه ثم يستعمل في الذي يغم أيضا، وقيل: أصله الخبر الذي يظهر بشرة الوجه إما سرور أو غم، إلا أنه أكثر في الخبر الساري ذكره في الثعلبي { الذين يتخذون الكافرين أولياء } أنصارا { من دون المؤمنين } قيل: هم اليهود، وقيل: مشركي العرب بمكة وقيل: سائر الكفار { أيبتغون } أيطلبون { عندهم } أي عند الكفار { العزة } أي العزة والنصرة على محمد والغلبة عليه { فإن العزة لله جميعا } يريد لأوليائه الذين كتب لهم العزة والغلبة على اليهود وغيرهم، قال تعالى:
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين
[المنافقون: 8] { وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله } الآية نزلت في المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن ويحرفونه عن مواضعه والمنزل عليهم في الكتاب هو ما أنزل عليهم بمكة من قوله:
وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره
[الأنعام: 68]، قال جار الله: وذلك أن المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم ويستهزئون به فنهي المسلمون عن القعود معهم ما داموا خائضين فيه فكان أحبار اليهود يفعلون نحو فعل المشركين فنهوا أن يقعدوا معهم { الذين يتربصون بكم } أي ينتظرون بكم ما يحدد لكم من ظفر أو غيره { فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم } مظاهرين فأسهموا لنا من الغنيمة { وإن كان للكافرين نصيب } يعني حظ ودولة وظهور على المسلمين قالوا: يعني المنافقين الذين يقولون للكافرين: { ألم نستحوذ عليكم } ، قيل: ألم نستولي عليكم بالنصرة والمعونة ولكن من جهة من أرسلنا إليك بأخبار عدوك، وقيل: ألم نطلعكم على أسرار محمد وأصحابه { فالله يحكم بينكم يوم القيامة } يعني بين المؤمنين والمنافقين { ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا } حجة قيل: في الآخرة، وقيل: في الدنيا في قتالهم وأخذ أموالهم.
[4.142-149]
{ إن المنافقين يخادعون الله } يفعلون ما يفعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطان الكفر وهو خادعهم وهو فاعل بهم ما يفعل المغالب في الخداع { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } كما ترى من يفعل شيئا على كره { يراؤون الناس } يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة { ولا يذكرون الله إلا قليلا } ولا يصلون إلا قليلا لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به قليل أيضا ولا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا قليلا وهكذا ترى كثيرا من المتظاهرين بالإسلام { مذبذبين } إما حال نحو قولك: ولا يذكرون، يراؤون أي ترونهم غير ذاكرين مذبذبين أو منصوب على الذم، ومعنى مذبذبين ذبذبهم الشيطان والهوى بين الإيمان والكفر فهم يترددون بينهما متحيرون لا من الكفار ولا من المسلمين { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } الطبق الذي في قعر جهنم والنار سبع دركات، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ثلاث من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى: من إذا حدث كذب، وإذا وعد خلف، وإذا أؤتمن خان "
وقيل لحذيفة: من المنافق؟ قال: الذي يصف الاسلام ولا يعمل به { إلا الذين تابوا } يعني تابوا من النفاق بالندم عليه { وأصلحوا } يعني أصلح قولهم وفعلهم { واعتصموا بالله } أي بطاعته من كل ما يخاف عاجلا وآجلا { وأخلصوا دينهم لله } قيل: عبدوا الله وحده دون من سواه { فأولئك مع المؤمنين } ، قيل: معهم في الجنة، وقيل: معهم في الولاية والكرامة في الدنيا والآخرة { وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما } أي ثوابا دائما { ما يفعل الله بعذابكم } قيل: الخطاب للمنافقين كأنه قال: لا حاجة لي في جعلكم في الدرك الأسفل من النار إذا تبتم وشكرتم، وقيل: خطاب لجميع المكلفين وبيان أنه لا حاجة به وأنه يعاقب لا لحاجة لكن لحكمة وأنه يعاقب المسيء فإن آمنتم به فقد أبعدتم عن أنفسكم استحقاق العذاب { وكان الله شاكرا } مبينا موفيا لأجوركم، وقيل: شاكرا يشكر عباده على طاعتهم بأن يثيبهم عليها { عليما } بأعمالكم فيجازيكم عليها { لا يحب الله بالجهر بالسوء من القول إلا من ظلم } قال جار الله: إلا جهر من ظلم استثنى من الجهر الذي لا يحبه الله جهر المظلوم وهو أن يدعو عليه ويذكره بما فيه من السوء، وقيل: هو أن يبدأ بالشتيمة فيرد على الشاتم { ولمن انتصر بعد ظلمه } ، وقيل: نزلت في الضيف إذا أساء إضافته فله أن يشكر مضيفه، وقيل: نزلت في الدعاء على الغير، فليس لأحد أن يدعو على غيره إلا المظلوم، وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" اتقوا دعوة المظلوم "
وقيل: لا يدعو على من ظلمه عن ابن عباس، وقيل: يكره رفع الصوت بما يسوء غيره إلا المظلوم يدعو على من ظلمه، وقيل: لا يخبر بظالم ظلمه، وقيل: ضاف رجل قوما فلم يطعموه فأصبح شاكيا فعوقب على الشكاية فنزلت وذكر ابداء الخير وإخفاءه تشبها للعفو لأن العفو هو الغرض المقصود { فإن الله كان عفوا قديرا } أي يعفو عن الجانبين مع قدرته على الانتقام.
[4.150-155]
{ إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض } أي نصدق ببعض { ونكفر ببعض } والآية نزلت في اليهود والنصارى { أولئك هم الكافرون حقا } أي هم الكاملون في الكفر، حقا تأكيد { والذين آمنوا بالله ورسله } صدقوا الله بتوحيده وعدله وصفاته الواجبة وجميع أنبيائه { ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف نؤتيهم أجورهم } { يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم } الآية في كعب بن الأشرف وفنحاص وجماعة من اليهود قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا كنت نبيا صادقا فائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى فنزلت { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } معناه إذا استكثرت ما سألوه منك { فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة } الآية ولما نزلت هذه الآية غضبت اليهود وقالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء فنزل قوله:
إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده
[النساء: 163] { فأخذتهم الصاعقة بظلمهم } هم بنو إسرائيل سألوا موسى إذ يريهم الله جهرة فأنزل الله عليهم الصاعقة، فأهلكتهم وهم الذين خرجوا مع موسى إلى جبل الطور الذي ذكر الله تعالى في قوله:
واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا
[الأعراف: 155] فأحياهم الله تعالى بدعاء موسى وقد تقدم كلامهم في سورة البقرة، وكذلك ثم ذكر الله تعالى اتخاذهم العجل من بعد أن أنقذهم من آل فرعون، وما رأوا من الآيات العظام من انفلاق البحر طريقا ومشيهم في قعره يبسا فلم ينفعهم ذلك، { وآتينا موسى سلطانا مبينا } ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم وأطاعوه والسيوف تساقط عليهم يا لك من سلطان { وقلنا لهم ادخلوا الباب } يعني وقلنا لهم والطور مظل عليهم { لا تعدوا في السبت } وقد تقدم الكلام في سورة البقرة وهو يأتي انشاء الله تعالى في سورة الأعراف { وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } على ذلك { فبما نقضهم ميثاقهم } وما مزيدة للتوكيد أي منقض هؤلاء الذين تقدم ذكرهم من أهل الكتاب، ميثاقهم عهودهم قيل: هم الذين كانوا في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { وكفرهم بآيات الله } أي حججه ومعجزاته التي أظهرها على أنبيائه ، وقيل: كفرهم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { وقتلهم الأنبياء بغير حق } من غير استحقاق القتل كزكريا ويحيى (عليهما السلام) { وقولهم قلوبنا غلف } قيل: ذات غلف مما تدعونا إليه لأنا لا نفهم منه شيء، وقيل: غلف أوعية للعلم وهي مع ذلك لا تفهم احتجاجك بما تحتج به، وقيل: أوعية للعلم فلا تحتاج إلى علمك { بل طبع الله عليها } ، قيل: الطبع علامة جعلها الله تعالى على قلوبهم تدل الملائكة أنهم كفار، وقيل: ذم { بكفرهم } أي بسبب كفرهم { فلا يؤمنون إلا قليلا }.
[4.156-161]
{ وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما } { وقولهم إنا قتلنا المسيح } سمي مسيحا لأنه مسح بالبركة، وقيل: لأنه يسيح في الأرض، وقولهم عيسى ابن مريم رسول الله قال جار الله: فإن قلت: كانوا كافرين بعيسى (عليه السلام) أعداء له عامدين لقتله يسمونه الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة، فكيف قالوا: { إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله }؟ قلت: قالوا على وجه الاستهزاء كقول فرعون:
إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون
[الشعراء: 27] ويجوز أن يضع الله الذكر الحسن مكان الذكر القبيح في الحكاية عنهم، وروي أن رهطا من اليهود سبوه وسبوا أمه ودعا عليهم: اللهم أنت ربي وخلقتني بكلمتك، اللهم العن من سبني وسب والدتي، فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير فاجتمعت اليهود على قتله فأخبره الله بأنه يرفعه إلى السماء ويطهره من اليهود فقال لأصحابه: " أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل ويصلب ويدخل الجنة؟ " فقال رجل منهم: أنا، فألقى الله عليه شبهه فقتل وصلب، وقيل: كان رجلا منافق لعيسى (عليه السلام) فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلكم عليه فدخل فرفع الله عيسى وألقى شبهه على المنافق فدخلوا عليه فقتلوه وهم يظنون أنه عيسى، ثم اختلفوا فقال بعضهم: إنه إله لا يصح قتله، وقال بعضهم: أنه قتل وصلب، وقال بعضهم: هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان صاحبنا فأين عيسى؟ وقال بعضهم: رفع إلى السماء، وقال بعضهم: الوجه وجه عيسى والبدن بدن صاحبنا { إلا اتباع الظن } يعني قال جار الله: استثناء منقطع لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم ولكن يتبعون الظن { وما قتلوه يقينا } وما قتلوه قتلا يقينا وما قتلوه كما ادعوا ذلك في قولهم: إنا قتلنا المسيح { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته } يعني اليهود والنصارى ما منهم أحد إلا ليؤمنن به قبل موته بعيسى وأنه عبد الله ورسوله يعني إذا عاين حين لا ينفعه إيمانه، وقيل: ليؤمنن به يرجع الضمير إلى الله، وقيل: إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وروي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام ويهلك الله في زمانه الدجال ويقع الأمنة حتى يرتع الأسد مع الإبل، والذئاب مع الغنم، والنمران مع البقر، وتلعب الصبيان بالحيات، ويلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه، قال جار الله: ويجوز أن يريد أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ويعلمهم نزوله وما أنزل به ويؤمنوا حين لا ينفعهم الإيمان { فبظلم من الذين هادوا } الآية والألبان حرمت عليهم الطيبات إلا لظلم عظيم ارتكبوه من الكفر والكبائر العظيمة والطيبات التي حرمت عليهم ما ذكره في قوله: { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } الآية والألبان حرمت عليهم وقد قدمنا كلامهم.
[4.162-170]
{ لكن الراسخون في العلم } الثابتون فيه المتقنون المستبصرون، والآية نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه { منهم } أي من أهل الكتاب الذين علموا ما جاء به الأنبياء { والمؤمنون يؤمنون } يصدقون { بما أنزل إليك } من القرآن والشرائع إنه حق { وما أنزل من قبلك } من الكتب { والمقيمين الصلاة } هو صفة للراسخين على ما تقدم، وقيل: هم غيرهم والمراد به الأنبياء، وقيل: هم الملائكة، وقيل: هم المؤمنون، وإقامة الصلاة آداؤها بشرائطها { والمؤتون الزكاة } المعطون { والمؤمنون بالله } وحده من غير تشبيه { واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما } أي ثوابا جزيلا وهو الجنة جزاء بما عملوا { إنا أوحينا إليك } قيل : لما نزل قوله:
يسألك أهل الكتاب
[النساء: 153] وما تقدم من ذمهم غضبوا وقالوا:
ما أنزل الله على بشر من شيء
[الأنعام: 91] فأنزل الله تعالى هذه الآية وما بعدها { إنا أوحينا إليك } والأسباط هم أولاد يعقوب { وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا } كتابا يسمى زبورا، ثم أجمل تعالى ذكر الرسل بعد تسمية بعضهم فقال: { ورسلا } أي أرسلنا { رسلا قد قصصناهم عليك من قبل } أي حكينا لك أخبارهم هود وصالح وشعيب وموسى وعيسى وغيرهم ممن ذكر الله في القرآن { ورسلا لم نقصصهم عليك } لم نحك أخبارهم لك لما كان مصلحة { وكلم الله موسى تكليما } والمراد كلمة بغير واسطة رسلا أي أرسلنا من سميناهم ومن أجملنا ذكرهم { رسلا مبشرين } مخوفين بالعقاب { لئلا يكون للناس على الله حجة } يعني ولكن لا يحتج من كفر فيقولون لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك فقط هذا العذر { لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون } قيل:
" أن جماعة من اليهود دخلوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لهم: " والله إني أعلم أنكم تعلمون أني رسول الله " قالوا: ما نعلم ذلك، فنزلت "
، وقيل: إن قريشا قالت له: من يشهد لك بما تقول؟ فنزلت { أنزله بعلمه } معناه: أنزله ملتبسا بعلمه الخالص الذي لا يعلمه غيره بالثقة على علم أو أسلوب يعجز عنه كل بليغ وصاحب بيان { إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقا } أي لا يلطف بهم أو لا يهديهم يوم القيامة طريق { إلا طريق جهنم } التي استحقوها بأعمالهم، وقيل: كفروا بالله وظلموا محمد بالتكذيب، وقيل: كفروا بالله وظلموا بمحاربتهم عباد الله. { يأيها الناس } خطاب عام لجميع المكلفين { قد جاءكم الرسول } يعني محمد (صلى الله عيه وآله وسلم) { بالحق } يريد الاسلام { فآمنوا خيرا لكم } مما أنتم فيه من الكفر.
[4.171-175]
{ يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم } الآية نزلت في النصارى واليهود وذلك ان اليهود غلت في حظ المسيح عن منزلته حيث جعلته مولودا لغير رشده وغلت النصارى في رفعته حيث جعلوه إلها { وكلمته ألقاها إلى مريم } أوصلها { وروح منه } سمي روح لأنه أوجده بكلمة الله من غير أب { ولا تقولوا ثلاثة } قال جار الله: فإن صحت الرواية عنهم أنهم يقولون هو جوهر واحد ثلاثة أقانيم أقنوم الأب وأقنوم الإبن وأقنوم روح القدس، وأنهم يريدون بأقنوم الأب الذات، وبأقنوم الابن العلم، وبأقنوم روح القدس الحياة، فتقديره الله ثلاثة وإلا تقديره الآلهة ثلاثة والذي يدل عليه القرآن الصريح منهم بأن الله والمسيح ومريم ثلاثة آلهة وأن المسيح ولد الله ابن مريم ألا ترى إلى قوله:
أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله
[المائدة: 116]
وقالت النصارى المسيح ابن الله
وقوله: { سبحانه أن يكون له ولد } حكاية الله أوثق من حكاية غيره { له ما في السموات وما في الأرض } بيان لتنزيه مما نسب إليه يعني أن كل ما فيه خلقه وملكه { وكفى بالله وكيلا } بأمور خلقه فهو الغني عنهم وهم الفقراء إليه { لن يستنكف المسيح } لن يأنف ولن يذهب { أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون } ولا من هو أعلى منه قدرا وأعظم منه خطرا وهم الملائكة الذين حول العرش كجبريل وميكائيل وإسرافيل ومن في طبقتهم
" وروي أن وفد نجران قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لم تعيب صاحبنا؟ قال: " ومن صاحبكم؟ " قالوا: عيسى، قال: " وأي شيء أقول؟ " قالوا: تقول هو عبد الله ورسوله؟ قال: " إنه ليس بعار أن يكون عبد الله " قالوا: بلى "
، فنزلت الآية أي لا يستنكف عيسى من ذلك فلا تستنكفوا له ولا الملائكة المقربون أن يكونوا عباد الله رد على مشركي العرب قولهم: أن الملائكة بنات الله وعلى من قال أنهم آلهة { ومن يستنكف عن عبادته } أي يأنف عن الإقرار بالعبودية { ويستكبر } عن الطاعة { فسيحشرهم إليه } أي يبعثهم ويجمعهم إليه، أي إلى حكمه يوم القيامة { فأما الذين آمنوا } بالله ورسوله { وعملوا الصالحات } أي الطاعات { فيوفيهم } أي يعطيهم تاما وافيا { أجورهم } جزاء أعمالهم { ويزيدهم من فضله } زيادة نعيم على ما استحقوه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت { وأما الذين استنكفوا } عن الإقرار بالعبودية { واستكبروا } عن العبادة والخضوع { فيعذبهم عذابا أليما } وجيعا { ولا يجدون لهم من دون الله } أي سواه ينجيهم من عذابه { وليا } أي من يلي أمرهم في الدفع عنه { ولا نصيرا } { يأيها الناس } خطاب لجميع المكلفين { قد جاءكم برهان من ربكم } قيل: البرهان والنور المبين القرآن، وقيل: البرهان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والنور القرآن { وفضل } من ثواب مستحق { ويهديهم إليه } في عبادته { صراطا مستقيما } وهو طريق الاسلام والمعنى يوفقهم ويثبتهم.
[4.176]
{ يستفتونك } يعني يطلبون منك الفتيا { قل } يا محمد { الله يفتيكم } أي يبين لكم { إن امرؤ هلك ليس له ولد } ولا والد، الحكم في الكلالة قيل: هو سوى الوالد والولد وعليه الأكثر { وله أخت } لأب وأم أو لأب بالاتفاق { فلها نصف ما ترك } من الميراث { وهو يرثها } يعني الأخ من الأب والأم أو من الأب يرث أخته إذا ماتت فإنه يرث جميع المال لأنه عصبة، وعن جابر قال: مرضت فعادني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: كيف أقضي في مالي وكان لي تسع أخوات ولم يكن لي والد ولا ولد؟ فلم يجيبني بشيء حتى نزلت الآية، وروي أنه آخر ما نزل من الأحكام كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في طريق مكة عام حجة الوداع { إن لم يكن لها ولد } أي ابن لأن الإبن يسقط الأخ دون البنت { فإن كانتا اثنتين } أي كانت الاختين اثنتين { فلهما الثلثان مما ترك } الأخ من التركة { وإن كانوا أخوة رجالا ونساء } مجتمعين لأب وأم { فللذكر مثل حظ الأنثيين } سهم للأخت وسهمان للأخ { يبين الله لكم } مواريثكم { أن تضلوا } أي ألا تضلوا، وقيل: أراد بالضلال الجهل { والله بكل شيء عليم } فيعلمكم ما تحتاجون إليه.
[5 - سورة المائدة]
[5.1-2]
{ يأيها الذين آمنوا } خطاب للمؤمنين { أوفوا بالعقود } أراد المواثيق يقال وفاء بعهده وهي عقود الله التي عقدها على عباده وألزمهم إياها من وجوب التكليف، وقيل: هي ما يعقدون بينهم من عقود الأمانات ويتحالفون عليه ويمسون من المبايعات ونحوها ، والظاهر أنها عقود الله عليهم في دينهم من تحليل حلاله وتحريم حرامه، والعقد العهد الموثوق منه بعقد الحبل { أحلت لكم بهيمة الأنعام } أراد الأزواج الثمانية، وقيل: أراد الضبا وبقر الوحش ونحوها، والبهيمة كل ذات أربع في البر والبحر، وسميت بهيمة لأنها أبهمت أن تميز وكل حي لا يميز فهو بهيمة، وروي عن ابن عباس (رضي الله عنه) أنه وجد في بطن بقرة ذبحت جنين فأخذه بيده وقال: هذا من بهيمة الأنعام { إلا ما يتلى عليكم } من القرآن من نحو قوله:
حرمت عليكم الميتة والدم
[المائدة: 3] { غير محلي الصيد وأنتم حرم } أي لا تحلوا الصيد وأنتم حرم أي محرمون { إن الله يحكم ما يريد } يعني يحكم في خلقه ما يريد من التحريم والتحليل على ما يعلم من المصلحة { يأيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } من مواقيت الحج ورمي الجمار والطواف والسعي وأفعال علامات الحج { ولا الشهر الحرام } شهر الحج واختلفوا في الشهر قيل: الأشهر الحرم، وقيل: ذا القعدة، وقيل: رجب، وقيل: الآية منسوخة بقوله:
فاقتلوا المشركين
[التوبة: 5]
فلا يقربوا المسجد المسجد الحرام
[التوبة: 28] وقيل: إنها محكمة والمراد بها المؤمنون، وقد قيل: لا نسخ في المائدة { ولا الهدي } الهدي ما أهدي إلى البيت وتقرب به إلى الله من النسائك { ولا القلائد } القلائد جمع قلادة وهو ما قلد به الهدي من نعل أو غيره { ولا آمين البيت الحرام } قاصدوه وهم الحجاج والعمار وإحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمة الشعائر، يعني لا تحلوا قوما قاصدين المسجد الحرام { يبتغون فضلا من ربهم } وهو الثواب، وقيل التجارة { ولا يجرمنكم شنآن قوم } والشنآن شدة البغض، ومعنى لا يحملكنم ومعنى صدهم إياهم { عن المسجد الحرام } منع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل مكة يوم الحديبية { أن تعتدوا } عليهم فتقتلوهم { وتعاونوا على البر والتقوى } يعني على العفو والإغضاء { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } على الانتقام.
[5.3]
{ حرمت عليكم الميتة والدم } الآية قيل: كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات التي تموت { ولحم الخنزير } وكل شيء منه حرام وإنما خص اللحم لأنه أعظم منافعه { وما أهل لغير الله به } وهو قولهم عند الذبيحة بسم اللات والعزى { والمنخنقة } وهي التي خنقوها حتى ماتت بسبب ذلك { والموقوذة } التي ضربت بعصا أو حجر حتى ماتت { والمتردية } التي تردت من جبل أو بئر { والنطيحة } التي نطحتها أخرى فماتت منه { وما أكل السبع } بعضه { إلا ما ذكيتم } ذكاة وهو يضطرب اضطراب المذبوح { وما ذبح على النصب } كانت لهم حجارة حول البيت يذبحون لها ويشرخون اللحم عليها يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها تسمى الأنصاب والنصب { وأن تستقسموا بالأزلام } وحرام عليهم الاستقسام بالأزلام كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا من معاظم الأمور ضرب الأقداح، قيل: ثلاثة مكتوب على واحد منها أمرني ربي، وعلى واحد نهاني ربي، والثالث عقل، فإذا أرادوا أمرا أحالوها فإن خرج أمرني لم يكن له بد من فعله، وإن خرج نهاني لم يكن له بد من تركه، وإن خرج العقل حالوها ثانية، وقيل: هي أزلام الحرور وهي عشرة، وقيل: هي كعار فارس والروم، التي يتقامرون بها { ذلكم فسق } إشارة إلى الاستقسام، أو إلى تناول ما حرم عليهم، لأن المعنى: حرم عليكم تناول الميتة { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } أي يغلبوك لأن الله تعالى وفى بما وعد من إظهاره على الدين كله { فلا تخشوهم واخشون } بعد إظهار الدين، وقيل: الآية نزلت يوم عرفة عام حجة الوداع سنة عشر لما نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم ير مشركا ولا عريانا ولم ير إلا موحدا حمد الله وأثنى عليه فنزلت الآية قال الحسن: ذلك اليوم أكمل الله فيه الدين كقوله: { اليوم أكملت لكم دينكم } الآية يعني أن الكفار قطعوا أطماعهم عنكم وآيسوا منكم بأن ترجعوا إلى دينهم { فمن اضطر } إلى الميتة أو إلى غيرها { في مخمصة } في مجاعة { غير متجانف لإثم } غير منحرف إليه كقوله:
غير باغ ولا عاد
[البقرة: 173].
[5.4-5]
{ يسألونك ماذا أحل لهم } من المطاعم كأنهم حين تلا عليهم ما حرم عليهم من خبائث المأكل سألوا عما أحل لهم منها، فقيل: { أحل لكم الطيبات } أي ما ليس بخبيث منها، وهو كل ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد { وما علمتم من الجوارح } عطف على الطيبات والجوارح الكواسب من سباع البهائم والطيور والكلب والفهد والنمر والعقاب { مكلبين } ، المكلب مؤدب الجوارح ومضربها بالصيد ورائضها لذلك بما علم من الجبل وطرق التأديب، وإنما خص الكلب لأن التأديب أكثر ما يكون فيه، أو لأن السبع يسمى كلبا، ومنه قوله (عليه السلام):
" اللهم سلط عليه كلبا من كلابك "
فأكله الأسد { تعلمونهن مما علمكم الله } من علم التكليب لأنه الهام من الله، ومكتسب بالعقل، وقيل: مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد، وإرسال صاحبه، وانزجاره بزجرة، وانصرافه بدعائه. قال جار الله: فإن قلت: إلى ما يرجع الضمير في قوله: { واذكروا اسم الله عليه }؟ قلت: إما أن يرجع إلى ما أمسكن على معنى وسموا عليه إذا أدركتم ذكاته أو إلى: { ما علمتم من الجوارح } أي سموا عليه عند إرساله اليوم، قيل: أراد الوقت يوم نزوله { أحل لكم الطيبات } يعني أبيح لكم الحلال من الذبائح والمطاعم { وطعام الذين أوتوا الكتاب } قيل: هو ذبائحهم، وقيل: جميع مطاعمهم، وقيل: لا تحل ذبائحهم، والمراد بالمطاعم الحنطة والشعير عن القاسم ويحيى (عليهم السلام) { وطعامكم حل لهم } فلا عليكم أن تطعمونهم، وقيل: أراد الذبائح { والمحصنات } الحرائر العفائف وتخصيصهن نعت على تخيير المؤمنين لنطفهم والإماء من المسلمين يصح نكاحهن بالاتفاق { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } هم اليهود والنصارى، واختلفوا في معناه قيل: نساء أهل الكتاب عن أكثر المفسرين والذين آمنوا منهم إزالة الشبهة أي من كانت يهودية فآمنت يجوز أن يتزوج بها عن يحيى والقاسم (عليهم السلام)، وقيل: أراد الحرائر من أهل الكتاب فتحل الحرائر، ولا تحل الإماء عن مجاهد وجماعة، وإليه ذهب الشافعي { ولا متخذي أخدان } ، حرائر والخدن يقع على الذكر والأنثى { ومن يكفر بالإيمان } الذي أنزل على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { وهو في الآخرة من الخاسرين }.
[5.6-11]
{ يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } وأنتم على غير طهور، وقيل: إذا قمتم إلى الصلاة من نوم، وقيل: هو كل قيام إلى الصلاة على سبيل الندب، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من توضى على طهور كتب الله له عشر حسنات "
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه كان يتوضأ لكل صلاة، وقيل: كان ذلك واجب فنسخ { وامسحوا برؤوسكم } الباء زائدة والمراد الالصاق بالرأس { وأرجلكم إلى الكعبين } الواو للعطف والكعبان هما الناتئان على أسفل الساق { وإن كنتم جنبا } عند القيام إلى الصلاة { فاطهروا } بأن تغسلوا جميع أبدانكم { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء } يعني جامعتم، وقيل: مسستم باليد { فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا } قيل: وجه الأرض، وقيل: التراب { طيبا } طاهرا { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه } يعني من الصعيد { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } يعني من ضيق في الوضوء والتيمم والغسل { ولكن يريد ليطهركم } قيل: من النجاسات، وقيل: من الذنوب { وليتم نعمته عليكم } قيل: بأخذ التيمم، وقيل: يريد ليدخلكم الجنة، وقيل: بالألطاف { لعلكم تشكرون } نعمته فيثيبكم { واذكروا نعمة الله عليكم } وهي نعمة الإسلام { وميثاقه الذي واثقكم به } أي عاقدكم به عقودا وهو الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على السمع والطاعة في حال اليسر والعسر، وقيل: الميثاق ليلة العقبة في بيعة الرضوان { يأيها الذين آمنوا } اسم تعظيم { كونوا قوامين لله } أي ليكن من عادتكم للقيام لله الحق في أنفسكم وغيركم بالعمل الصالح وفي غيركم بالأمر بالمعروف ومعنى بعد أن تفعلوا ذلك ابتغاء مرضاة الله { شهداء } بالعدل، وقيل: تقيموا الشهادة بالحق والصدق، وقيل: شهداء الله بنعمته على الناس ومخالفتهم لأمره { ولا يجرمنكم } قيل: لا يحملنكم { شنئان قوم } قيل: بغض عداوتهم { على أن لا تعدلوا } أي على أن تجوروا عليهم وتتركوا العدل { اعدلوا } اعملوا بالعدل أيها المؤمنون في أوليائكم وأعدائكم { هو أقرب للتقوى } أي إلى التقوى، وقد قيل: أن الآية نزلت في قريش لما صدوا المسلمون عن المسجد الحرام { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الحسنات من الواجبات والمندوبات { لهم مغفرة } أي يكفر سيئاتهم { وأجر } ثواب { عظيم } دائم { والذين كفروا } بمحمد { وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } { يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم } الآية نزلت في قوم من اليهود هموا بقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { فكف أيديهم عنكم } منعهم عن الفتك بكم { واتقوا الله } أي مخالفة أمره.
[5.12-13]
{ ولقد أخذ الله ميثاق بني اسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا } ، قيل: لما استقر بنو إسرائيل بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله بالمسير إلى أريحا أرض الشام وكان سكانها الكنعانيون الجبابرة، وقال لهم: إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها وإني ناصركم، وأمر موسى أن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه فاختار النقباء وأخذ الميثاق على بني إسرائيل، فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون عن أحوال القوم فرأوا أجراما عظيمة وقوة وشوكة فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم، وقد نهاهم موسى أن يحدثوا أحدا من العسكر، فنكثوا الميثاق إلا كابون بن يوقنا من سبط يهود، أو يوشع بن نون من سبط افرايم بن يوسف وكانا من النقباء والنقيب الذي ينقب عن أحوال القوم، وقيل: أن موسى لما خرج من مصر إلى أريحا جعل على كل سبط نقيبا { وقال الله إني معكم } أي ناصركم ومعينكم { لئن أقمتم الصلاة } قيل: خطاب للنقباء، وقيل: لبني اسرائيل الذين أخذ منهم الميثاق، ويجوز أن يدخل فيه النقباء وغيرهم { لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة } اعطيتموها مستحقيها { آمنتم برسلي } أي صدقتم جميع رسلي { وعزرتموهم } قيل: نصرتموهم، وقيل: عظمتموهم، والعزر أصله المنع يعني منعتموهم من أيدي العدو قال الفراء: أعزرته عزرا إذا أرددته عن الظلم ومنه التعزير لأنه يمنع صاحبه عن معاودة القبيح { فمن كفر بعد ذلك } يعني بعد ذلك الشرط { فقد ضل سواء السبيل } قال جار الله: فإن قلت: من كفر قبل ذلك أيضا فقد ضل سواء السبيل؟ قلت: أجل ولكن الضلال بعده أظهر، ولأن الكفر إنما عظم لأجل النعمة المكفرة فإذا زادت النعمة زاد قبيح الكفر { فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية } يعني منعناهم الألطاف حتى قست قلوبهم وأملينا لهم ولم نعاجلهم بالعقوبة { يحرفون الكلم عن مواضعه } بيان لقسوة قلوبهم { ونسوا حظا } وتركوا نصيبا جزيلا { مما ذكروا به } من التوراة لأنهم حرفوها، وقيل: تركوا نصيب أنفسهم مما أمروا به من الإيمان بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيان بعثه { ولا تزال تطلع } أي هذه عادتهم ومحيراهم وكان عليها أسلافهم فكانوا يخونون الرسل وهؤلاء يخونوك ينكثون عهدك ويظاهرون المشركين على حربك ويهمون الفتك بك { على خائنة منهم } على نفس خائنة أو على فرقة خافية منهم { إلا قليلا منهم } وهم الذين آمنوا منهم لم ينقضوا العهد ولم يخونوا { فاعف عنهم } يا محمد، وقيل: الذين هموا ببسط أيديهم إليك وهو منسوخ { إن الله يحب المحسنين } قيل: من أحسن بالعفو والصفح، وقيل: أنه يرجع إلى القليل إذا حمل على أنهم مؤمنون إن الله يحبهم لأنهم محسنون، وقيل: المحسنين يرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
[5.14-17]
{ ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم } قيل: بالاقرار بتوحيد الله، وأن عيسى عبده ورسوله، وبجميع الأنبياء، وقيل: بجميع ما أمرهم به من الميثاق وغيرهم فنقضوا ذلك { فنسوا } أي تركوا { حظا } نصيبا { مما ذكروا به } من الميثاق، وقيل: من الكتاب { فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء } وقيل: بين اليهود والنصارى { إلى يوم القيامة } يعني عداوة تبقى بينهم إلى يوم القيامة { وسوف ينبئهم الله } أي يخبرهم { بما كانوا يصنعون } يجازيهم { يا أهل الكتاب } خطاب لليهود والنصارى ولما أخبرهم تعالى عن الفريقين مما تقدم جمعهم في المخاطبة وذكرهم ما أتاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أسرار كتبهم احتجاجا عليهم فقال سبحانه: { يا أهل الكتاب } يا معشر اليهود والنصارى { قد جاءكم رسولنا } يعني محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب } يعني يظهر لكم كثيرا مما أخفيتم من التوراة والإنجيل، وقيل: صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ووجوب الإيمان به، وقيل: رجم الزانيين وقد كانوا أخفوا أشياء قد كانوا حرفوها، وقيل: أسرار كتبهم لبلاء يكون حجة عليهم كالبشارة بمحمد، وحديث عيسى، وحديث المسيح الذي كان فيهم، ولم تكن العرب تعرفه { ويعفوا عن كثير } يصفح عن كثير منهم بالتوبة أو يعفو عن كثير مما تخفونه لا يبينه { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } النور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والكتاب القرآن، وقوله: { يهدي به الله } قيل: بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: بالقرآن { من اتبع رضوانه } يعني الإيمان وتصديق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، { سبل السلام } هو دين الله الذي شرعه للعباد وهو الإسلام، وقيل: يهديه إلى طريق الجنة وهو دار الإسلام { ويخرجهم من الظلمات إلى النور } يعني يخرج بالقرآن وبالرسول عباده من ظلمة الكفر إلى نور الإسلام { بإذنه } بأمره { ويهديهم إلى صراط مستقيم } قيل: طريق وهو دين الإسلام، وقيل: إلى طريق الجنة { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } قال جار الله: معناه بت القول على أن الله هو المسيح ابن مريم لا غير قيل: كان في النصارى قوم يقولون ذلك ما صرحوا به ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث اعتقدوا أنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر أمر العالم { قل فمن يملك من الله شيئا } فمن يمنع قدرته، ومشيئته شيئا { إن أراد أن يهلك } من دعوه إلها { المسيح ابن مريم وأمه } دلالة على أن المسيح عبد مخلوق كسائر العباد { و } أراد بعطف { من في الأرض } على { المسيح ابن مريم وأمه } انهما من جنسهم لا تفاوت بينهما في البشرية { يخلق ما يشاء } أي يخلق ما يشاء من ذكر وأنثى ويخلق من انثى من غيره، كما خلق عيسى ويخلق من غير ذكر ولا أنثى كما خلق آدم ويخلق ما يشاء كما خلق الطير على يد عيسى معجزة له وكان يحي الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص.
[5.18-26]
{ وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله } أشياع أبناء الله عزير والمسيح { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } فإن صح أنكم أبناؤه فلم يعذبكم بذنوبكم وتعذبون وتمسخون وتمسكم النار على زعمكم، ولو كنتم أبناء الله لكنتم من جنس الأب غير فاعلين القبائح ولا مستوجبين العقاب، ولو كنتم أحباؤه لما أغضبتموه ولما عاقبكم { بل أنتم بشر ممن خلق } من جملة من خلق من البشر { يغفر لمن يشاء } من أهل الطاعة { ويعذب من يشاء } وهم العصاة { يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم } الدين والشرائع { على فترة } أي جاءكم على حين فترة { من } ارسال { الرسل } وانقطاع من الوحي { أن تقولوا } كراهة { أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير } قيل: كان بين عيسى ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسمائة وستون سنة، وقيل: ستمائة، وكان بين موسى وعيسى ألف وسبع مائة سنة وألف نبي، وبين عيسى ومحمد أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي قال ذلك جار الله، والمعنى الامتنان عليهم وإن الرسل تبعث إليهم حين انطمست آثار الوحي أحوج ما يكون إليه { إذ جعل فيكم أنبياء } لأنه لا يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء { وجعلكم ملوكا } لأنهم ملكهم بعد فرعون وبعد الجبابرة، وقيل: لأن الملوك تكاثرت فيهم، وقيل: كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذ الله قسما إنقاذهم ملكا، وقيل: الملك من له مسكن واسع فيه نهر جاري، وقيل: من له بيت وخدام، وقيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلف الأعمال وعمل المشاق { وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين } من فلق البحر وإغراق العدو وإنزال المن والسلوى، وقيل: أراد عالمين زمانهم { يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة } أرض بيت المقدس، وقيل: الطور وما حوله، وقيل: الشام، وقيل: فلسطين ودمشق وكانت بيت المقدس قرار الأنبياء ومساكن المؤمنين { التي كتب الله } فيها { لكم } وسماها أو خط في اللوح أنها لكم { ولا ترتدوا على أدباركم } ولا تنكصوا على أعقابكم مدبرين من جور الجبابرة لما حدثهم النقباء بجور الجبابرة رفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا ليتنا بمصر { ولا ترتدوا على أدباركم } في دينكم بمخالفتكم أمر ربكم وعصيانكم نبيكم { فتنقلبوا خاسرين } ثواب الدنيا والآخرة { قالوا يا موسى أن فيها قوما جبارين } أي ممتنعين من أن يقهروا ويغلبوا، قيل: طوال الأجسام عظامها وذلك أن موسى (عليه السلام) بعث اثني عشر نقيبا يتجسسون أخبارهم فلما رأوهم عادوا وأخبروا قومهم وقد عاهدهم موسى ألا يخبروا أحدا منهم كيلا يجبنوا عن لقائهم فخالفوا وأخبروا إلا رجلين منهم يوشع بن نون، وكالب بن يوقنا، قوله تعالى: { إنا لن ندخلها } نفي لدخولهم في المستقبل على جهة التوكيد { حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } فلما قالوا ذلك وهموا بالانصراف إلى مصر خر موسى وهارون لله ساجدين، وحزن يوشع بن نون، وكالب، وهما اللذان أخبر الله تعالى عنهما بقوله: { قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب } بالايمان قالا لهم أن العمالقة أجسام لا قلوب فيها فلا تخافوهم وارجعوا إليهم فإنكم غالبون، وأراد بالباب قرية الجبارين، وروي عن الفقيه شهاب الدين أحمد بن مفضل نور الله ضريحه أنه لقي مرة رجل من الجبارين يقال له عوج بن عنق، كان يتحجر بالسحاب أن يبلغ السحاب منه حجره السراويل ويشرب من السحاب، ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس ثم يأكله، ولم يبلغ الماء من طوفان نوح ركبتي عوج، روى الثعلبي أن طوله ثلاثة آلاف وعشرون ألفا وثلاثمائة وثلاث وثلاثون ذراعا، وعاش ثلاثة آلاف سنة وأهلكه الله على يدي نبيه موسى (عليه السلام) وكان عسكر موسى فرسخ في فرسخ فجاء عوج حتى نظر إليهم ثم جاء الجبل وقدر منه صخرة على قدر العسكر، ثم حملها ليطبقها عليهم، فأقبل موسى (عليه السلام) وكان طوله عشرة أذرع وطول عصاه عشرة وصد في السماء عشرة، فما أصاب إلا كعب فقتله قال: فلما قتل وقع على نيل مصر فحصرهم سنة وكانت أمه عنق، وقيل: عناق إحدى بنات آدم (عليه السلام) ويقال أنها كانت أول بغية على وجه الأرض، قال: وكان كل اصبع من أصابعها ثلاثة أذرع في ذراعين وكان موضع مجلسها حربيا وروي أن عوج لقي النقباء وعلى رأسهم حزمة حطب فأخذ الاثني عشرة وحملهم في حجرته وانطلق بهم إلى امرأته، قال: انظري إلى هؤلاء القوم يزعمون أنهم يريدون قتالنا، وطرحهم بين يديها، وقال لأطحنهم برجلي، فقالت امرأته له: لا بل خلهم حتى يخبروا قومهم، ففعل ذلك، فلما خرج النقباء قال بعضهم لبعض: يا قوم أنكم إن أخبرتم بني اسرائيل خبر القوم ارتدوا عن نبي الله ولكن اكتموا وأخبروا موسى وهارون، فلما بلغوا إلى موسى وهارون أخبروا قومهم إلا رجلان، قوله تعالى: { إنا لن ندخلها أبدا } نفي لدخولهم في المستقبل على وجه التوكيد وهذا دليل على كفرهم ومخالفتهم له ولم يبق معه مطيع إلا هارون (عليه السلام) { فاذهب أنت وربك } قالوا ذلك استهانة بالرسول واستهزاء وقصدوا ذهابهما حقيقة لجهلهم وخطابهم وجفائهم وقسوة قلوبهم، ولما عصوه وخالفوه وقالوا ما قالوا من كلمة الكفر { قال رب إني لا أملك } لنصر دينك { إلا نفسي وأخي } وهذا من البث والحزن والشكوى إلى الله تعالى والحسرة ورقة القلب، وعن علي (عليه السلام): " أنه كان يدعو الناس على منبر الكوفة على قتال البغاة فما أجابه إلا رجلان " { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } اي فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لنا بما نستحق وتحكم عليهم بما يستحقون وهو في معنى الدعاء { قال فإنها محرمة } يعني الأرض المقدسة { عليهم } لا يدخلونها ولا يملكونها، قال جار الله: فإن قلت كيف يوافق بين هذا وبين قوله تعالى: { التي كتب الله لكم }؟ قلت: فيه وجهان أحدهما أنه كتبها لهم بشرط أن يجاهدوا اهلها فلما أبوا الجهاد قيل: { أنها محرمة عليهم أربعين سنة } فإذا مضت الأربعون كان ما كتب، فقد روي أن موسى سار بمن بقي من بني اسرائيل وكان يوشع بن نون على مقدمته ففتح أريحا وأقام بها ما شاء الله ثم قبض، وقيل: لما مات موسى (عليه السلام) بعث يوشع نبيا فصدقوه وبايعوه وسار بهم إلى أريحا وقتل الجبارين وأخرجهم، وصار الشام كله لبني إسرائيل، وقيل: لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال أنا لن ندخلها أبدا، وأهلكوا في التيه ونشأت نواشئ من ذراريهم فقاتلوا الجبارين ودخلوها، قوله تعالى: { يتيهون في الأرض } يعني يسيرون فيها متحيرين لا يهتدون طريقا، روي أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون كل يوم حادين حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا منه، وكان الغمام يظلهم من حر الشمس، ويطلع عليهم عمود من نور بالليل يضيء لهم وينزل عليهم المن والسلوى، ولا يطول شعرهم، فإذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول طوله، قال جار الله: فإن قلت: كيف كان ذلك نعمة عليهم وهم يعاقبون؟ قلت: كما يقول بعض النوازل على بعض العصاة عركا لهم وعليهم مع ذلك النعمة متظاهرة وروي أن هارون مات في التيه، ومات موسى بعده، ودخل يوشع أريحا، ومات النقباء في التيه إلا الرجلان، وروي أن موسى وهارون لم يكونا في التيه.
[5.27-32]
قوله تعالى: { واتل عليهم نبأ ابني آدم } هما قابيل وهابيل أوحى الله تعالى إلى آدم (عليه السلام) أن يزوج كلا منهما توأمة الآخر وكانت توأمة قابيل أجمل فحسد أخوه وسخط، وقال لهما آدم: قربا قربانا فمن قبل قربانه تزوجها، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأحرقته فازداد قابيل حسدا وغيظا وتوعده بالقتل، قوله تعالى: { ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك } قيل: كان أقوى من القاتلة وأبطش منه ولكن عرج عن قتل أخيه واستسلم له خوفا من الله تعالى، لأن الدفع لم يكن مباحا في ذلك الوقت قال ذلك جار الله عن مجاهد { فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله } قيل: قتله وهو ابن عشرين سنة، وروي أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض من بني آدم فلما قتله تركه على وجه الأرض لا يدري ما يصنع فخاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى أروح، وعكفت عليه السباع { فبعث الله } غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجله ثم ألقاه في الحفرة، قوله تعالى: { قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب } وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه عليه وكيلا فقاله: بل قتلته ولذلك اسود جسدك، وروي أن آدم (عليه السلام) بعث بعد قتله مائة سنة لا يضحك وأنه رثاه بشعر وهو كذب، لأن الأنبياء معصومون من الشعر، قوله: { ليريه } أي ليريه الغراب { كيف يواري سوءة } أخيه أي عورة أخيه فأصبح من النادمين على قتله لما تعب فيه من حمله وتحيره في أمره واسوداد لونه وسخط أبيه آدم (عليه السلام) ولم يندم ندم التائبين، قوله تعالى: { من أجل ذلك } يعني بسبب ذلك، يعني من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه، قال جار الله: من لابتداء الغاية أي ابتدينا الكتب ونشأ من أجل ذلك معنى { كتبنا } فرضنا { على بني إسرائيل } ذلك ليردع به عن القتل، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" من سن سنة حسنة كان له أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيء "
قوله: { بغير نفس } أي بغير قتل نفس لا على وجه الاقتصاص { أو فساد في الأرض } قيل: هو الشرك وقطع الطريق { فكأنما قتل الناس جميعا } أي يقتل كما لو قتلهم، وقيل: أراد تعظيم ذلك لأنه إذا هم بقتل نفس تصور له قتل الناس جميعا فعظم ذلك عليه ومن أحياها ومن استنقذها ومنها ستنقذها من بعض أسباب الهلكة من قتل أو غرق، أو حرق أو هدم، أو عفو عن قود، وعن مجاهد: قاتل النفس جزاؤه جهنم وغضب الله والعذاب الأليم { ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك } يعني بعدما كتبنا عليهم ذلك وبعد مجيء الرسل بالبينات { لمسرفون } يعني في القتل لا يبالون بعظمته.
[5.33-39]
{ إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } ومحاربة المسلمين في حكم محاربته { ويسعون في الأرض فسادا } يعني مفسدين، الآية نزلت في قوم هلال بن عويمر وكان بينه وبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهود فمر به قوم يريدون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقطعوا عليهم الطريق، وقيل: في قوم من عونه نزلوا المدينة مظهرين الإسلام فاستوخموها واصفرت ألوانهم فبعثهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها وأبوالها فصحوا ومالوا على قتلهم واستاقوا الإبل وارتدوا فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من يردهم وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وثمل أعينهم وتركهم في الحر حتى ماتوا، قيل: من جمع بين القتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن أفرد القتل قتل، ومن أفرد أخذ المال قطعت يده لأخذ المال ورجله، ومن أفرد الإخافة نفي من الأرض، قال جار الله: وهذا حكم كل قاطع طريق كافرا كان أو مسلما ومعناه: أن يقتلوا من غير صلب ان افردوا القتل وأن يصلبوا مع القتل إن جمعوا بين القتل والأخذ للمال، قوله تعالى: { أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف } ان أخذوا المال { أو ينفوا من الأرض } ان لم يزيدوا على الاخافة، وعن الحسن: أن الإمام مخير بين هذه الوجوه وقد قيل في النفي: أنه يحبس، وقيل: يطرد، وقيل: ينفى من بلده وكانوا ينفونهم { ذلك لهم خزي في الدنيا } أي ذل وفضيحة { ولهم في الآخرة عذاب عظيم } { إلا الذين تابوا } استثناء من المعاقبين عقاب قاطع الطريق خاصة قاله جار الله، وأما حكم القتل والجراح وأخذ المال فإلى الأولياء إن شاؤوا عفوا وإن شاؤوا استوفوا، وعن علي (عليه السلام): أن الحرث بن زيد جاءه تائبا بعد ما كان يقطع الطريق فقبل توبته ودرأ عنه العقوبة، قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } خطاب لجميع المؤمنين والوسيلة هي ما يتوسل به من قراءته أو صنيعه أو غير ذلك وما يتوسل به إلى الله تعالى من فعل الطاعات وترك المعاصي، قوله تعالى: { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض } أي لو ملكوا جميع ما في الأرض ومثل ذلك: { ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم } قوله: { يريدون أن يخرجوا من النار } قيل: يريدون أن يخرجون منها ولا يتمكنون من ذلك، وقيل: يتمنون الخروج { وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم } ثابت لا يزول، قوله تعالى: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } والمقدار الذي يجب القطع عليه عشرة دراهم، وعن مالك والشافعي ربع دينار، وعن الحسن درهم { فمن تاب من بعد ظلمه } يعني من بعد سرقته { وأصلح } أمره فإن الله يتوب عليه بسقوط عذاب الآخرة وأما القطع فلا يسقط عند أبي حنيفة، وعن الشافعي في أحد قوليه يسقط، وقيل: نزلت الآية في طعمة بن أبيرق، وقيل:
" في امرأة سرقت فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقطع يدها فقال قومها: نحن نفديها بخمس مائة دينار فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " اقطعوا يدها اليمنى " فقالت المرأة: هل لي من توبة؟ قال: " نعم "
فنزل قوله: { فمن تاب من بعد ظلمه } الآية، وقيل: من تاب رجع، قيل: تاب قبل إقامة الحد عليه، وقيل: برد السرقة قبل القدرة عليه لم يقطع، وقيل: بالتوبة وهو الندم على ما فعل والعزم على أن لا يعود، وقوله: { فإن الله يتوب عليه } أي يقبل توبته { إن الله غفور } لمن تاب { رحيم } يقبل توبته.
[5.40-42]
{ ألم تعلم } خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والمراد به غيره، وقيل: خطاب لكل مكلف على تقدير ألم تعلم أيها السامع أو أيها الإنسان { أن الله له ملك السموات والأرض } خلقا وملكا { يعذب من يشاء } من يجب في الحكمة تعذيبه { ويغفر لمن يشاء } من التائبين { يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر } الآية نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر حين حاصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بني قريظة فأرسل اليهم واستشاروه فقال: لا تنزلوا على حكم سعد فإنه الذبح وأشار بيده إلى حلقه يعني لا تبال بمشارعة المنافقين في الكفر أي في إظهاره بما يلوح منهم في آثار الكيد للاعلام ومن موالاة المشركين فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم، يقال: أسرع الشيب فيه وأسرع فيه الفساد بمعنى وقع فيه سريعا فكذلك مسارعتهم في الكفر وقوعهم فيه أسرع شيء إذا وجدوا فرصة، قوله تعالى: { ومن الذين هادوا } أي من اليهود قوم { سماعون للكذب } يعني قائلون لما تفتريه الأخبار من الكذب على الله تعالى وتحريف كتابه من قولك الملك يسمع كلام فلان ومنه سمع الله لمن حمده { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } يعني اليهود الذين لم يصلوا إلى مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من شدة البغضاء والتبالغ في العداوة، وقيل: سماعون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأجل أن يكذبوا عليه بأن ينسخوا ما سمعوا عنه بالزيادة والنقصان والتبديل والتغيير، وقيل: سماعون بني قريظة والقوم الآخرين قوم من اليهود يهود خيبر { يحرفون الكلم } يميلونه ويزيلونه { عن مواضعه } التي وضعه الله عليها فيهملونه بغير مواضع بعد أن كان ذا مواضع، قوله تعالى: { يقولون أن أوتيتم هذا فخذوه } قال جار الله: إن أوتيتم هذا المحرف المزال عن مواضعه فخذوه واعلموا أنه الحق واعملوا به { وإن لم تؤتوه } وأفتاكم محمد بخلافه { فاحذروا } يعني فإياكم وإياه فهو الضلال والباطل،
" وروي أن شريفين من خيبر زنيا بشريفة وهم محصنان وحدهما الرجم في التوراة فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطا منهم إلى بني قريظة يسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك وقالوا: إن أمركم بالجلد فاقبلوا وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا، وأرسلوا الزانيين معهم فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل (عليه السلام): اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " هل تعرفون شابا أمرد أعور أبيض يسكن فدكا يقال له ابن صوريا؟ " قالوا: نعم هو أعلم يهودي على وجه الأرض، ورضوا به حكما، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه هل تجدون الرجم على من أحصن؟ " فقال: نعم فوثب عليه سفلة من اليهود، فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب، ثم سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبي الأمي الذي بشر به المرسلون، وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالزانيين فرجما عند باب المسجد "
{ ومن يرد الله فتنته } تركه مفتونا وخذلانه { فلن تملك له من الله شيئا } فلن تستيطع له من لطف الله وتوفيقه شيئا، قوله تعالى: { أن يطهر قلوبهم } يعني يمنحهم من الألطاف ما يطهر قلوبهم به لأنهم ليسوا من أهلها { أكالون للسحت } كما لا يحل كسبه، وعن الحسن: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه أحد بالرشوة جعلها في كمه، فأراه إياها وتكلم بحاجته فسمع منه ولا ينظر إلى خصمه فيأكل الرشوة ويسمع الكذب وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" كل لحم أنبته السحت فالنار أولى به "
قوله تعالى: { فلن يضروك شيئا } لأنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأبر والأهون عليهم كالجلد مكان الرجم، قوله: { بالقسط } أي بالعدل والاحتياط كما حكم بالرجم.
[5.43-45]
قوله تعالى: { وكيف يحكمونك } تعجب من تحكيمهم لمن لا يؤمنون به ولا بكتابه مع أن الحكم منصوص في كتبهم { ثم يتولون من بعد ذلك } يعني ثم يعرضون من بعد حكمك الموافق لما في كتبهم لا يرضون به { وما أولئك بالمؤمنين } بكتابهم كما يزعمون أو { وما أولئك } بالكاملين في الايمان على سبيل التهكم بهم، قوله تعالى: { الذين أسلموا } صفة للنبيين على سبيل المدح، قوله تعالى: { للذين هادوا والربانيون والأحبار } الرهبان والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا دين اليهود، وقيل: الربانيون العلماء، والأحبار القراء، وقيل: الربانيون الولاة والأحبار العلماء، وقيل: الربانيون علماء اليهود والأحبار علماء النصارى، قوله تعالى: { بما استحفظوا من كتاب الله } أي حفظوه من التبديل والتغيير { وكانوا عليه شهداء } أي رقباء لئلا يبدل والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبييون بين موسى وعيسى وكان بينهما ألف نبي { للذين هادوا } يحملونهم على أحكام التوراة ولا يتركونهم أن يعدلوا عنها كما فعل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم بما استحفظهم أنبياءهم من كتاب الله والقضاء به وبسب كونهم شهداء، وكذلك حكم الزانيين والأحبار المسلمين { فلا تخشوا الناس } نهي للحكام { ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا } وهي الرشوة وابتغاء الجاه ورضى الناس كما عرف اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه طمعا في الدنيا وطلبا للرئاسة، قوله تعالى: { ومن لم يحكم بما أنزل الله } مستهينا به { فأولئك هم الكافرون } وفي الثانية: { الظالمون } وفي الثالثة: { الفاسقون } قيل: كلها بمعنى الكفر وعبر عنها بألفاظ مختلفة اجتناب صورة التكرار، وقيل: الكافرون نزلت في حكام المسلمين، والظالمون في اليهود، والفاسقون في النصارى، وقيل: أراد بالظالمين والكافرين والفاسقين اليهود، وقيل: هم حكام أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعن ابن مسعود هو عام في اليهود وغيرهم { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } الآية، يعني النفس مأخوذة بالنفس مقتولة بها إذا قتلها بغير حق وكذا العين مفقوءة بالعين، والأنف مجدوعة بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسن مقلوعة بالسن { والجروح قصاص } يعني ذوات قصاص، ومعناه ما يكون فيه القصاص ويعلم المساواة { فمن تصدق } من أصحاب الحق { به } أي بالقصاص وعفى عنه { فهو كفارة له } يكفر الله به من سيئاته، قيل: يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به.
[5.46-50]
{ وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم } أي اتبعنا بعيسى ابن مريم على آثار من تقدم ذكره { مصدقا لما بين يديه من التوراة } أي مصدقا أنها حق، وقيل: تصديقه العمل بها، قوله تعالى: { وآتيناه الانجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه } يعني الانجيل مصدق التوراة، قال جار الله: وآتيناه الانجيل يعني أمرناه بأن يحكم أهل الانجيل، وقيل: أن عيسى (صلوات الله عليه) كان متعبدا بما في التوراة من الأحكام لأن الانجيل مواعظ وزواجر فالأحكام فيه قليلة قال: وظاهر قوله تعالى: { وليحكم أهل الانجيل بما أنزل الله فيه } يرد ذلك قوله تعالى: { فأولئك هم الفاسقون } الخارجون عن أمر الله تعالى { وأنزلنا إليك } يا محمد الكتاب يعني القرآن من الكتاب أي من الكتب، قوله تعالى: { ومهيمنا عليه } أي رقيبا على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة والثبات، وقيل: الأمين، وقيل: الشاهد قال الشاعر:
إن الكتاب مهيمنا لنبينا
والحق تعرفه ذووا الألباب
{ فاحكم بينهم بما أنزل الله } يعني في القرآن { ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق } متبعا أهواءهم { لكل جعلنا منكم } أيها الناس { شرعة } أي شريعة { ومنهاجا } طريقا واضحا في الدين يجوزون عليه، وقيل: أن هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا، وقيل: المنهاج السنة { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } جماعية متفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمة واحدة و ذوي دين واحد لا اختلاف فيه { ولكن ليبلوكم } أي ليختبركم { فيما آتاكم } على جنب الأحوال والأوقات فيما آتاكم من الكتب وبين لكم من الملك { فاستبقوا الخيرات } أي فبادروا بالطاعات وتسارعوا إلى الأعمال الصالحات { إلى الله مرجعكم } قال جار الله: هذا استئناف في معنى التعليل لاستباق الخيرات { فينبئكم } أي يخبركم بما لا تشكون معه من الخبر الفاصل بين محقكم ومبطلكم وعاملكم ومفرطكم في العمل، قوله تعالى: { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } الآية نزلت في اليهود وذلك أن كعب بن الأشرف وعبد الله بن صوريا وحيي بن أخطب وجماعة منهم قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد لنفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود، وأنا إن اتبعناك اتبعك اليهود كلهم ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين أصحابك خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية، وقوله: { واحذرهم أن يفتنوك } يعني هؤلاء المتقدم ذكرهم أن يضلوك، وقيل: يصدوك عن الحكم، وقيل: يضلوك بالكذب على التوراة بما ليس فيها، وقيل: واحذرهم أن يزلوك عن بعض أحكام الله تعالى { فإن تولوا } أعرضوا عن الايمان والحكم بالقرآن ولم يقبلوا { فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } قال جار الله: بذنب التولي عن حكم الله تعالى، وقيل: يعاقبهم ببعض إجرامهم { وإن كثيرا من الناس لفاسقون } لخارجون عن أمر الله تعالى { أفحكم الجاهلية يبغون } يعني هؤلاء المتقدم ذكرهم، وذلك أنهم كانوا إذا وجب الحق على ضعفائهم ألزموهم ذلك وإن وجب على أغنيائهم لم يلزموهم، وقيل لهم أفحكم عبدة الأوثان تطلبون وأنتم أهل الكتاب، وقيل: أن بني قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى، وعن الحسن: هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله تعالى، والحكم حكمان: حكم بعلم وهو حكم الله تعالى، وحكم بجهل وهو حكم الشيطان { ومن أحسن من الله حكما } أي لا أحد حكم أحسن من حكم الله تعالى { لقوم يوقنون } أي يصدقون.
[5.51-52]
{ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } الآية نزلت يوم بني قينقاع في عبادة بن الصامت قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن لي موالي من اليهود، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من موالاتهم، وعبد الله بن أبي، وذلك أن عبد الله بن أبي أتى إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأدخل يده حيث ورعه وقال: أحسن في موالي أربع مائة حاسر وثلاثمائة دارع أحصدهم في عداة واحدة ثم قال: هم يمنعوني من الأبيض والأحمر وإني امرء أخشى الدوائر، وفي عبد الله بن أبي نزل قوله تعالى: { فترى الذين في قلوبهم مرض } الآية، المرض الشك، قال جار الله: لا يتخذوهم أولياء ينصرونهم ويؤاخونهم ويعاشرونهم ويصافونهم مصافاة المؤمنين، ثم علل النهي بقوله: { بعضهم أولياء بعض } يعني إنما يوالي بعضهم بعضا، قوله تعالى: { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } يعني من جملتهم، وحكمه حكمهم فهذا تغليظ من الله تعالى وتشديد في وجوب مجانبة المخالف في الدين { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } أي الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة يمنعهم الله ألطافه، وقوله تعالى: { يسارعون فيهم } في موالاة اليهود، وقوله تعالى: { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } أي حوادث تدور، نحتاج إليهم فيها، وقيل: دائرة أن يهلك محمد وأصحابه ويرجع الأمر إلى ما كان عليه في الجاهلية فنحتاج إلى اليهود { فعسى الله } عسى من الله واجب { أن يأتي بالفتح } قيل: الفصل، وقيل: فتح بلاد المشركين، وقيل: فتح مكة { أو أمر من عنده } قيل: إذلال المشركين وظهور الاسلام، وقيل: قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير، وقيل: أن يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإظهار اسرار المنافقين وقتلهم فيبدو نفاقهم، وقيل: أوامر من عنده لا يكون للناس فيه فعل كبني النضير الذي طرح الله في قلوبهم الرعب { فيصبحوا } يعني يصبح المنافقون { نادمين } على ما حدثوا به أنفسهم وذلك أنهم كانوا يشكون في أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقولون ما نظن أن يتم له أمر.
[5.53-56]
قوله تعالى: { يقول الذين آمنوا } قال جار الله: قرئ بالنصب عطفا على أن يأتي وبالرفع على أنه كلام مبتدأ { ويقول الذين آمنوا } في ذلك الوقت قال: فإن قلت لم يقولون هذا القول؟ قلت: إما أن يقوله بعضهم لبعض تعجبا من حالهم واغتباطا بما من الله به عليهم من التوفيق في الاخلاص { أهؤلاء الذين أقسموا } لكم بأغلظ الايمان أنهم أولياؤهم ومعاضدوكم على الكفار وأما أن يقولوه لليهود لأنهم حلفوا لهم بالمعاهدة والنصر كما حكى الله عنهم وان قوتلتم لننصرنكم، قوله: { حبطت أعمالهم } من جملة قول المؤمنين أي بطلت أعمالهم، قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } فيرجع إلى الكفر وهذا من إعجاز القرآن إذا خبر عن ارتدادهم ولم يكن ذلك في عهده وكان على ما أخبر، وقيل: كان أهل الردة إحدى عشر فرقة ثلاث في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنو مدلج ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسي تنبأ باليمن وكان كاهنا فأخرج عمال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبنو مسيلمة قوم مسيلمة نبيا وكتب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من رسول الله مسيلمة إلى محمد رسول الله، أما بعد... فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك، فأجاب: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد... فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " ، فحاربه أبو بكر وقتل على يدي وحشي قاتل الحمزة وكان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام، وبنو أسد وغطفان وغيرهم { فسوف يأتي الله بقوم } قيل:
" لما نزلت أشار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أبي موسى الأشعري، وقال: " قوم هذا " وقيل: ضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على عاتق سلمان وقال: " هذا وذووه " ، وقال: " لو كان الايمان معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس "
وقيل: هم ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة، وثلاثة آلاف من أبناء الناس، وجاهدوا يوم القادسية، وقيل: هم الأنصار، وقيل: نزلت في علي (عليه السلام)، وقوله تعالى: { يحبهم ويحبونه } محبة العباد لربهم طاعته وابتغاء مرضاته ومحبته لهم أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم { أذلة على المؤمنين } أي رحماء بهم غير متكبرين عليهم { يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } كانوا يجاهدون لوجه الله تعالى، قوله تعالى: { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } يوفق له من يشاء ممن يعلم أن له لطفا { والله واسع عليم } كثير الفواضل والألطاف لمن هو أهلها قوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون } نزلت في علي (عليه السلام) حين تصدق بخاتمه وهو راكع في صلاته حين سأله سائل فطرح إليه بخاتمه ذكره في الحاكم والثعلبي والكشاف، قال جار الله: عقب النهي عن موالاة من يحب معاداته وذكر من يحب موالاته، بقوله تعالى: { إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا } ومعناه إنما وجوب اختصاصهم بالموالاة، فإن قلت: كيف يصح أن يكون لعلي واللفظ لجماعة؟ قلت: جيئ به على لفظ الجمع وإن كان السبب فيه رجلا واحدا للترغيب في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه قال في تفسير الثعلبي: قال أبو ذر الغفاري: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهاتين وإلا فصمتا ورأيته بهاتين والا فعميتا يقول: " علي قائد البررة وقاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله " أما اني صليت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما من الأيام فسأله سائل في المسجد فلم يعطه شيئا وعلي (عليه السلام) كان راكعا فأومى اليه بخنصره، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره فنزل فيه { إنما وليكم الله } الآية { فإن حزب الله هم الغالبون } الحزب القوم يجتمعون لأمر وأراد بحزب الله الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون ويكون المعنى من يتولهم فقد تولى حزب الله واعتضد بمن لا يغالب.
[5.57-64]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا } الآية نزلت في رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث وكانا أظهرا الإسلام منافقين ثم ارتدا وكان رجال من المسلمين يوادونهما وفيهما نزل قوله تعالى: { وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به } { واتقوا الله } في موالاة الكفار { إن كنتم مؤمنين } حقا، قوله تعالى: { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا } قال جار الله: الضمير للصلاة والمناداة، قيل: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذن يقول: أشهد ان محمدا رسول الله قال: حرق الكاذب، فدخلت خادمته بنار ذات ليلة وهو نائم فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله، فنزلت الآية، وقيل: فيه دليل على وجوب الآذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده، وقيل: كانت اليهود إذا أذن المسلمون يقولون: قاموا لا قاموا، صلوا لا صلوا، على طريق الاستهزاء، فنزلت الآية { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } لأن لعبهم وهزوهم من أفعال السفهاء والجهلة فكأنه لا عقل لهم، وروي أن اليهود والنصارى كانوا إذا سمعوا المؤذن يتضاحكون بينهم، قال الحاكم: ذلك بأنهم قوم لا يعقلون، يعني هؤلاء الكفار لا يعقلون أي لا يعلمون ما لهم في استهزائهم، قيل: لا يعلمون فضل الصلاة وما على تاركها من العقاب، قوله تعالى: { قل } يا محمد { يا أهل الكتاب } وهم اليهود والنصارى { هل تنقمون منا } أي تنكرون، وقيل: تعيبون وتهزؤون { إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا } وهو القرآن { وما أنزل من قبل } على الأنبياء { وان أكثركم فاسقون } خارجون عن الدين،
" وروي أنه أتى الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفر من اليهود فسألوه عن من يؤمن به من الرسل فقال: " أؤمن بالله وما أنزل إلينا إلى قوله ونحن له مسلمون " فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى: ما نعلم أهل دين أقل حظا من الدنيا والآخرة منكم ولا دينا أشر من دينكم "
فنزلت: { قل } يا محمد { هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله } ، الآية نزلت في اليهود وذلك أنهم قالوا: ما نعلم أمة جاءها رسول أضيق عيشا ولا أشقى من أمة محمد، فنزلت: { بشر من ذلك } بشر خرا مما تنقمون منا، وقيل: معناه ان كان ذلك عندكم شرا فأنا أخبركم بشر منه عاقبة { مثوبة } جزاء { عند الله } قال جار الله: فإن قلت: المثوبة مختصة بالإحسان كيف جاز في الإساءة؟ قلت: وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله: تحية بينهم ضرر وجيع، ومنه قوله: { فبشرهم بعذاب أليم } قوله تعالى: { من لعنه الله } أبعده من رحمته { وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير } حين مسخوا { وعبد الطاغوت } منهم وبينهم بمعنى صار معبودا من دون الله { وقرئ } برفع العين، وروي أنها لما نزلت كان المسلمون يعيرون الممسوخون { شر مكانا وأضل عن سواء السبيل } كان أهل السبت وأهل مائدة عيسى (عليه السلام) مسخوا قردة وخنازير، قوله تعالى: { وإذا جاؤوكم قالوا آمنا وقد دخلوا بالكفر } الآية نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيظهرون له الايمان فأخبره الله تعالى بشأنهم وأنهم يخرجون من عنده (صلى الله عليه وآله وسلم) مثل ما دخلوا أي دخلوا كافرين وخرجوا كافرين، وقيل: نزلت في المنافقين، قوله تعالى: { وترى كثيرا منهم } يعني من اليهود { يسارعون في الاثم } الكذب والعدوان الظلم، وقيل: الاثم الشرك، وهو قولهم عزير ابن الله والمسارعة في الشيء الشروع فيه بسرعة { وأكلهم السحت } هو الحرام، وقيل: الرشوة، قوله تعالى: { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار } قيل: العلماء، وقيل: الربانيون علماء النصارى، والأحبار علماء اليهود { عن قولهم الاثم } الآية عن ابن عباس والضحاك أنها أشد آية في القرآن، وعن الضحاك ما في القرآن آية هي أخوف عندي منها وهذه أشد آية على تاركي النهي عن المنكر حيث أنزله منزلة من يكسبه وجمع بينهم في التوبيخ، روي في تفسير الثعلبي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ما من رجل يجاور قوما يعمل بالمعاصي فلا يأخذون على يديه إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب "
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" مثل الفاسق في القوم مثل قوم ركبوا سفينة فاقتسموها فصار لكل واحد منهم نصيب فأخذ رجل منهم فأسا فجعل ينقر في موضعه، فقال له أصحابه: أي شيء تصنع تريد أن تغرق وتغرقنا؟ قال: هو مكاني، فإن أخذوا على يديه نجوا ونجى وإن تركوه غرق وغرقوا "
قال مالك بن دينار: أوحى الله تعالى إلى الملائكة أن عذبوا قرية كذا فصاحت الملائكة إلى ربها: يا رب إنها فيها عبدك العابد!! قال: اسمعوني ضجيجه فإن وجهه لم يتغير غضبا لمحارمي، وأوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون: إني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم وثمانين ألفا من أشرارهم، فقال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ قال: لأنهم لم يغضبوا لغضبي، وآكلوهم وشاربوهم، قوله تعالى: { وقالت اليهود يد الله مغلولة } قال جار الله: على اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، ومنه قوله:
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط
[الإسراء: 29] وقيل: إنما قال ذلك فنحاص اليهودي ولم ينهه الآخرون ورضوا به فأشركهم الله تعالى فيها، قال جار الله: فإن قلت: كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما هو قبيح وهو البخل والنكد؟ قلت: المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم { غلت أيديهم } أي أمسكت أيديهم عن الخيرات { ولعنوا بما قالوا } أي وعذبوا بما قالوا { بل يداه مبسوطتان } قيل: قوته، وقيل: قدرته كقوله أولي الأيدي والأبصار، وقيل: هو ملكه، وقيل: أراد نعمتاه مبسوطتان نعمته في الدنيا، ونعمته في الآخرة { ينفق كيف يشاء } تأكيدا للوصف بالسخاء ودلالة على أنه لا ينفق إلا على مقتضى الحكمة والمصلحة { وليزيدن } أي يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } يعني اليهود والنصارى، قوله تعالى: { كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله } كلما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله تعالى على أحد قط، وقيل: خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بخت نصر، وروي عن قتادة لا تلقى اليهود في بلد إلا وجدتهم من أذل الناس { ويسعون في الأرض فسادا } يعني ويجتهدون في الكيد للاسلام ومحوا ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتبهم.
[5.65-68]
قوله تعالى: { ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا } برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما جاء به وقرنوا ايمانهم بالتقوى التي هي الشريطة في الفوز بالإيمان { لكفرنا عنهم سيئاتهم } ولم نؤاخذهم { ولأدخلناهم جنات النعيم } { ولو أنهم أقاموا التوراة والانجيل } الآية، أقاموا أحكامها وحددوهما وما فيهما من بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، { وما أنزل اليهم } من سائر الكتب من الله تعالى لأنهم مكلفون بالايمان بجميعها فكأنها أنزلت إليهم، وقيل: هو القرآن { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } أي تفيض عليهم بركات من السماء وبركات من الأرض، وان تكثروا الأشجار والثمرة والزروع المغلة، وأن يرزقهم الجنات، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم { منهم أمة مقتصدة } مستقيمة على طريقة مؤمنة بعيسى وبمحمد (عليهم السلام) كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود، وقيل: المقتصدة العادلة { وكثير منهم ساء ما يعملون } قيل: هو كعب بن الأشرف وأصحابه والروم { يأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } قال جار الله: جميع ما أنزل الله اليك، وقيل: نزلت في عبد اليهود قال في الثعلبي: يعني بلغ في فضل علي بن أبي طالب (عليه السلام) ولما نزلت الآية أخذ بيد علي (عليه السلام) وقال:
" من كنت مولاه فعلي مولاه "
وروي في الحاكم أنها نزلت في علي (عليه السلام)، قال في الثعلبي:
" لما نزلت أخذ بيد علي (عليه السلام) فقال: " ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟ " قالوا: بلى، قال : " هذا مولى من أنا مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه " قال: فاستقبله عمر بن الخطاب فقال: هنيئا لك يابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة "
، قوله تعالى: { والله يعصمك من الناس } أي يضمن العصمة من أعدائك يعني يمنعك من أعدائك أن ينالوك بسوء، فإن قيل: فما وجه هذه الآية وقد شج جبينه وكسرت رباعيته وأوذي عن عدة مواطن؟ فالجواب: أن معناها: { والله يعصمك من الناس }: من القتل ولا يصلون إلى قتلك، وقيل: نزلت هذه الآية بعدما شج جبينه وكسرت رباعيته، وقيل: نزلت في صلة الرحم، وقيل: بلغ سائر الأحكام وما يوحي إليك { والله يعصمك من الناس } يعني يمنعك لأن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا { إن الله لا يهدي القوم الكافرين } يعني لا يمكنهم مما يريدون إنزاله بك من الهلاك، وعن أنس قال:
" كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحرس حين نزلت هذه الآية فقال: " انصرفوا أيها الناس قد عصمني الله من الناس "
{ قل يا أهل الكتاب لستم على شيء } من الدين ما لم تقرؤا بالكتاب وبالقرآن { وما أنزل إليكم } من صفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
[5.69-75]
قوله تعالى: { إن الذين آمنوا } يعني صدقوا واستقاموا على الدين، وقيل: المراد به الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وهم المنافقون، وقيل: من آمن أي داوم على الايمان والاخلاص { والذين هادوا } اليهود { والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } { لقد أخذنا ميثاق بني اسرائيل } بالتوحيد { وأرسلنا إليهم رسلا كلما جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم } بما يخالف أهواءهم { فريقا كذبوا وفريقا يقتلون وحسبوا الا تكون فتنة } يعني حسب بنو إسرائيل أنهم لا يصيبهم من الله فتنة أي بلاء وعذاب في الدنيا والآخرة { فعموا } عن الدين { وصموا } حين عبدوا العجل ثم تابوا عن ذلك فتاب الله عليهم { ثم عموا وصموا } مرة ثانية بطلبهم المحال في صفات الله سبحانه وهو الرؤية، قوله تعالى: { لقد كفر الذين قالوا ان الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني اسرائيل اعبدوا الله } الآية وهذا احتجاج على النصارى أنه من يشرك بالله في عبادته وفيما هو مختص به من صفاته ومن أفعاله فقد حرم الله عليه الجنة التي هي دار الموحدين أي حرمه دخلوها ومنعه منها كالمنع من المحرم عليه { ومأواه النار } أي مصيره { وما للظالمين من أنصار } من معين ينجيهم من عذاب الله تعالى، قال جار الله: هذا من كلام الله تعالى على أنهم ظلموا أنفسهم وعدلوا عن سبيل الحق فيما يقولون على عيسى (عليه السلام)، فلذلك لم يساعدهم عليه وإن كانوا معظمين له بذلك ورافعين، أو من قول عيسى (عليه السلام) على معنى ولا ينصركم أحد فيما تقولون علي ولا يساعدكم عليه لاستحالته وبعده عن المعقول أو ولا ينصركم ناصر في الآخرة من عذاب الله تعالى { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } أي أحد ثلاثة قيل: هؤلاء صنف آخر، وقيل: هو جمهورا لفرق الملائكة والنسطورية واليعقوبية لأنهم يقولون ثلاثة أقانيم جوهر واحد أب وابن وروح القدس إله واحد ولا يقولون ثلاثة آلهة وهو معنى قولهم، قال جار الله في معنى قوله: { وما من إله إلا إله واحد } للاستغراق المقدرة وهي المقدرة مع لا التي لنفي الجنس في قوله:
لا إله إلا هو
[البقرة: 163] أي لا إله في الوجود قط إلا الله موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله وحده لا شريك له { وإن لم ينتهوا } يمتنعوا ويكفوا { عما يقولون } من المذاهب الفاسدة { ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } ، قيل: في الدنيا، وقيل: في الآخرة { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه } عن هذه الشهادة المقررة عليهم بالكفر وهذا الوعيد الشديد، ويرجعون عما يقولون ويطلبون المغفرة منه بالتوبة { والله غفور رحيم } ولما تقدم ذكر مقالة النصارى عقبه بالاحتجاج عليهم والرد فقال سبحانه: { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } أي مضت من قبله الرسل، يعني لم يكن المسيح وإن آتاكم بالأعاجيب من الآيات والمعجزات إلا كسائر الأنبياء قبله فكما أنهم لم يكونوا آلهة كذلك عيسى (عليه السلام) أحيى الميت وأبرأ الأكمه والأبرص، وموسى ألقى العصا فصارت حية وفلق البحر وإن خلقه من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر وأنثى، وإبراهيم ألقي في النار فلم يحرق والجميع سواء في الاعجاز، قوله تعالى: { وأمه صديقة } أي وما أمه إلا كسائر النساء المصدقات للأنبياء فما منزلتهما إلا منزلة بشرين أحدهما أنثى والآخر صحابي فمن أي اشتبه عليكم أمرهما حتى وصفتموهما بما لو يوصف به سائر الأنبياء، وقيل: بصدق رسول الله ومنزلة ولدها ومنزلتها وما أخبرها به، قوله تعالى: { كانا يأكلان الطعام } لأن من احتاج إلى الغذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم والنفض لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وعصب ودم وأخلاط وأمزجة مع شهوة وقرم وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام، قوله تعالى: { انظر كيف نبين لهم الآيات } أي الاعلام من الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم: { ثم انظر أنى يؤفكون } كيف يصرفون عن استماع القول وتأمله.
[5.76-81]
{ قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا } وهو عيسى لا يضرك بمثل ما يضركم الله من المصائب والبلايا في الأنفس والأموال، ولا ينفعكم بمثل ما ينفعكم به من صحة الأبدان والخصب والسعة، ولأن كلما يستطيعه البشر من المنافع والمضار فبأقدار الله تعالى وتمكينه، فكأنه لا يملك منه شيئا، قال جار الله: وهذا دليل قاطع على أن أمره مناف للربوبية حيث جعله لا يستطيع ضرا ولا نفعا وصفة الرب أن يكون قادرا على كل شيء { والله هو السميع العليم } يعني أتشركون بالله ولا تخشونه وهو الذي يسمع ما تقولون ويعلم ما تعتقدون ويعلم ما تعبدون { قل يا أهل الكتاب } يعني النصارى { لا تغلوا في دينكم غير الحق } يعني لا تجاوزوا الحق إلى غيره غلوا باطلا { ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل } هم أئمتهم في النصرانية كانوا على الضلال قبل مبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { وأضلوا كثيرا } ممن شايعهم على التثليث { وضلوا } لما بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { عن سواء السبيل } حتى حسدوه وكذبوه، قوله تعالى: { لعن الذين كفروا من بني إسرائيل } يعني نزل لعنهم في الزبور { على لسان داوود } وفي الانجيل على لسان عيسى (عليه السلام)، وقيل: إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داوود: اللهم العنهم واجعلهم آية، فمسخوا قردة، ولما كفروا أصحاب عيسى (عليه السلام) بعد المائدة قال عيسى (عليه السلام): اللهم عذب من كفر بعدما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير، وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي { ذلك بما عصوا } قال جار الله: لم يكن ذلك اللعن الشنيع الذي كان بسبب المسيح إلا لأجل المعصية والاعتداء لا لأجل سبب آخر غير المعصية والاعتداء بقوله: { كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه } يعني لا ينهي بعضهم بعضا، ثم قال: { لبئس ما كانوا يفعلون } للتعجب من فعلهم مؤكدا لذلك بالقسم، فيا حسرتا على المسلمين في اعراضهم عن التناهي عن المناكير، قال جار الله: وما فيه من المبالغات في هذا الباب، قوله تعالى: { ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا } الآية نزلت في اليهود الذين كانوا يوالون المشركين، وقيل: في المنافقين الذين كانوا يوالون اليهود، قال جار الله: هم منافقو أهل الكتاب كانوا يوالون المشركين ويصافونهم { أن سخط الله عليهم } والمعنى يوجب سخط الله { ولو كانوا يؤمنون بالله } إيمانا خالصا من غير نفاق ما اتخذوا المشركين { أولياء } يعني أن موالاة المشركين كفى بها دليلا على نفاقهم وأن إيمانهم ليس بإيمان بالله تعالى والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } يعني اليهود، وقيل: معناه أنهم لو كانوا يؤمنون بالله تعالى وموسى كما يزعمون ما اتخذوا المشركين أولياء، وقيل: هذه موالاة التناصر والمعاونة على معاداة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { ولكن كثيرا منهم فاسقون } متمردون في كفرهم ونفاقهم.
[5.82-89]
{ لتجدن } يا محمد أو أيها السامع { أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا } يعني مشركي العرب بمظاهرتهم لليهود على معاداة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا للذين قالوا إنا نصارى } لم يرد فيه جميع النصارى مع ما هم فيه من عداوة المسلمين وإنما نزلت هذه الآية في النجاشي، قال المفسرون: ائتمر المشركون على أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم فافتتن منهم من افتتن وعصم الله من شاء ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يؤمر بالجهاد بعد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال: " إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحدا فأخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا " وأراد به النجاشي، قال في الثعلبي: فخرج إليه سرا إحدى عشر رجلا وأربع نسوة وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذه الهجرة الأولى، ثم خرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون اليها فكان جميع من هاجر إليها اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان فأقام المسلمون هنالك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلا أمره، وقدم جعفر من الحبشة ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا أدري أنا أشد فرحا بفتح خيبر أم بقدوم جعفر " وكتب النجاشي الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني أشهد أنك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صادق مصدق وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت لله رب العالمين، فنزلت: { ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا انا نصارى } يعني وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب السبعون وكانوا أصحاب الصوامع، وقيل: هم ناس من أهل الكتاب، والثاني أنهم المتمسكون بالنصرانية عن أبي علي، قيل: لأنهم سمعوا الحق ولم ينكروا خلاف اليهود، وقيل: إذا أسلموا حسن إسلامهم ، وقيل: هم أقل عداوة ولذلك قال: { أقربهم مودة } قوله: { ذلك بأن منهم قسيسين } أي من النصارى { ورهبانا } أي علماء وعباد { وأنهم لا يستكبرون } قوله تعالى: { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } الآية نزلت في النجاشي وأصحابه وذلك أنه قال لجعفر بن أبي طالب حين اجتمع في مجلسه المهاجرون: هل في كتابكم ذكر مريم؟ فقال جعفر: فيه سورة تنسب إليها فقرأ إلى قوله:
ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون
[مريم: 34] وقرأ سورة طه إلى قوله:
وهل أتاك حديث موسى
[طه: 9] فبكى النجاشي وكذلك فعل قومه الذين قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قرأ عليهم سورة يس فبكوا، ومعنى { تفيض من الدمع } تمتلئ من الدمع حتى تفيض { ربنا آمنا } والمراد به إنشاء الايمان والدخول فيه { فاكتبنا مع الشاهدين } أي مع أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين هم الشهداء على سائر الأمم يوم القيامة بقوله:
لتكونوا شهداء على الناس
[البقرة: 143] وإنما قالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الانجيل { وما لنا لا نؤمن بالله } إنكار واستبعاد لابتغاء الايمان مع قيام موجبه وهو في الطمع إنعام الله تعالى عليهم بصحبة { الصالحين } وقيل: لما دخلوا إلى قومهم لاموهم فأجابوهم بذلك وأرادوا { وما لنا لا نؤمن بالله } وحده لأنهم كانوا مثلثين وذلك ليس بالايمان بالله { يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم }
" الآية نزلت في جماعة اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون منهم علي (عليه السلام) وابن مسعود وأبي ذر وسلمان والمقداد وسالم وأبي بكر وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصف القيامة لأصحابه يوما فبالغ في الانذار فقال: نقوم الليل ونصوم النهار ولا نأكل اللحم ولا ننام ولا نقرب النساء والطيب ونلبس المسوح ونسيح في الأرض ويجبوا مذاكيرهم، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " إني لم أؤمر بذلك فصوموا وافطروا وقوموا وناموا فإني أصوم وأقوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني "
فنزلت الآية، وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأكل لحم الدجاج وكان يعجبه الحلوى والعسل، ومعنى { لا تحرموا } لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم ولا تقولوا حرمناها على أنفسنا ولا تعتدوا حدود { ما أحل الله لكم } إلى ما حرم عليكم أو جعل تحريم الطيبات اعتداء أو أراد { ولا تعتدوا } بذلك، قوله تعالى: { وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا } أي من الطيبات التي تسمى رزقا حلالا واتقوا الله تأكيدا للوصية بما أمر الله به، قال ابن عباس: لما نزل { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } إلى آخر الآيتين، فقالوا: يا رسول الله كيف نعمل بايماننا التي حلفنا فأنزل الله تعالى قوله: { لا يؤاخذكم الله باللغو في ايمانكم } وعن مجاهد هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن وهو قول أبي حنيفة والهادي، وعن عائشة أنه قول الرجل لا والله بلى والله، وهو مذهب الشافعي، واللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم قوله: { ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان } أي بتعقيدكم الايمان وهو توكيدها بالقصد والنية، والمعنى ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم { فكفارته } أي فكته، والكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة، قوله: { من أوسط ما تطعمون أهليكم } أي من أقصده لأن من يسرف في طعام أهله ومنهم من قتر وهو عند أبي حنيفة نصف صاع من بر أو صاع من غيره لكل مسكين أو يغديهم ويعشيهم، وعند الشافعي مد لكل مسكين، قوله: { أو كسوتهم } يعني ما يغطي العورة وعن ابن عباس: كانت العباءة تجزئ يومئذ، وعن مجاهد: ثوب جامع، وعن الحسن: ثوبان أبيضان، وقيل: أراد قميصا أو رداء أو كساء، قوله: { أو تحرير رقبة } شرط الشافعي الايمان قياسا على كفارة القتل وأما أبو حنيفة وأصحابه فقد جوزوا تحرير الرقبة الكافرة في كل كفارة سوى القتل، قوله: { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } متتابعات { واحفظوا ايمانكم } فبروا ولا تحنثوا، أراد الحنث في الإيمان التي الحنث فيها معصية لأن الايمان اسم جنس يجوز إطلاقه على بعض الجنس، وقيل: احفظوها كيف حلفتم بها ولا تنسوها تهاونا بها { كذلك يبين الله لكم آياته } أعلام شرائعه وأحكامه { لعلكم تشكرون } نعمته.
[5.90-93]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر } قيل: لما نزل قوله تعالى:
لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى
[النساء: 43] قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزل قوله تعالى: { إنما الخمر والميسر } الآية، والخمر أصله الستر يقال: خمرت الإناء إذا غطيته ومنه سمي الخمار لأنه يغطي الرأس، والميسر القمار، وكانوا يصيبون في القمار الأموال العظيمة من غير كد ولا نصب { والأنصاب } حجارة ينصبونها للعبادة { والأزلام } السهام { رجس من عمل الشيطان } الآية، قال جار الله: أكد تحريم الخمر والميسر وجوها من التأكيد منها: أنه جعله رجسا كما قال:
فاجتنبوا الرجس من الأوثان
[الحج: 30] ومنها: أنه جعلها من عمل الشيطان وهو لا يأتي إلا بالشر، ومنها: أنه جعله الاجتناب من الفلاح، ومنها: أنه ذكر ما نسخ منها من الوبال وهو وقوع التعادي والتباغض بين أصحاب الخمر والقمار، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله تعالى، وعن مراعاة أوقات الصلاة، وقوله: { فهل أنتم منتهون } من أبلغ ما ينهي عنه، كأنه قيل: قد تلي عليكم ما فيهما من أنواع الصوارف والموانع فهل أنتم مع هذه منتهون، قال جار الله: فإن قلت: إلى ما يرجع الضمير في قوله: { فاجتنبوه }؟ قلت: إلى المضاف المحذوف، كأنه قيل: إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما أو ما أشبه ذلك ولذلك قال: { رجس من عمل الشيطان } ، قوله تعالى: { واحذروا } يعني كونوا حذرين خاشيين لأنهم إذا كانوا حذرين دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة ويجوز أن يكون المراد واحذروا ما عليكم في الخمر والميسر في ترك طاعة الله والرسول { فإن توليتم فاعلموا } أنكم لم تضروا الرسول بتوليكم لأن الرسول ليس عليه إلا { البلاغ المبين } وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه، قوله تعالى: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح } قال جار الله : رفع الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذات المطاعم { إذا ما اتقو } ما حرم عليهم { وآمنوا } وثبتوا على التقوى والايمان والعمل الصالح { ثم اتقوا وآمنوا } ثم ثبتوا على التقوى والايمان { ثم اتقوا وأحسنوا } أي وثبتوا على اتقاء المعاصي، قال تعالى: { وأحسنوا } أعمالهم إلى الناس، وقيل: فيما بينهم وبين الله تعالى أي أخلصوا أعمالهم إلى الله تعالى، وقيل: لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ويأكلون الميتة فنزلت الآية، يعني أن المؤمنين لا جناح عليهم في أي شيء طعموا من المباحات إذا ما اتقوا المحارم وآمنوا { ثم اتقوا وأحسنوا } على معنى أن أولئك كانوا على هذه الصفة ثناء عليهم.
[5.94-96]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد } نزلت الآية وما بعدها بالحديبية ابتلاهم الله تعالى بالوحش وهم محرمون فنهوا عن قتلها فبينما هم كذلك إذ عرض لهم حمار وحش فقتله بعضهم فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية، قوله: { ليعلم الله من يخافه بالغيب } ليتميز من يخاف عقاب الله وهو غائب، قوله تعالى: { فمن اعتدى بعد ذلك } الابتلاء { فله عذاب أليم } { يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } يعني وأنتم محرمون قيل: ابتلى الله أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بصيد البر كما امتحن بني إسرائيل بصيد البحر واختلفوا في هذه الآية، فقيل: صيد البر كله عن ابن عباس، وقيل: صيد الحرم المحرم، فهذه الآية فيها الخلاف، قوله تعالى: { ومن قتله منكم متعمدا } وهو ذاكر لإحرامه أي عالم إنما يقتله مما يحرم عليه قتله، قال جار الله: فإن قتله وهو ناسي لإحرامه أو رمى صيدا وهو يظن أنه ليس بصيد، فإذا هو صيد وقصد برميه غير صيد فعدل السهم عن رميته فأصاب صيدا فهو مخطئ، فإن قيل فمحظورات الاحرام يستوي فيها العمد والخطأ فما بال العمد مشروطا في الآية؟ قلت: لأن مورد الآية فمن تعمد، فقد روي أنه عن لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه ابو اليسر فقتله برمحه فقيل له: إنك قتلت الصيد وأنت محرم؟ فنزلت لأن الأصل فعل المتعمد والخطأ لاحق به للتغليظ ويدل عليه قوله تعالى: { ليذوق وبال أمره... ومن عاد فينتقم الله منه } وعن الزهري: نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ، وعن سعيد بن جبير: لا أرى في الخطأ شيئا آخذا باشراط العمد في الآية، وعن الحسن روايتان، قوله تعالى: { فجزاء مثل ما قتل من النعم } بمثل ما قتل من الصيد أي يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد وإن شرى طعاما يعطي كل مسكين نصف صاع { يحكم به ذوا عدل منكم } يعني بمثل ما قتل حاكمان عادلان من المسلمين قالوا: وفيه دليل على أن المثل القيمة، لأن التقويم مما يحتاج إلى النظر والاجتهاد وإن صام عن طعام، أو أطعم عن كل مسكين يوما، هذا هو مذهب أبي حنيفة ومذهب أصحاب الشافعي والناصر المماثلة والمقصود في الآية مما يليه في الحلقة الإلهية أيضا والله أعلم، قوله تعالى: { ليذوق وبال أمره } قيل: هو ما لزمه من الجزاء، وقيل: عقوبة فعله في الآخرة إن لم يتب عفى الله عما سلف لكم في الصيد في حال الإحرام قبل أن يراجعوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويسألوه، وقيل: عما سلف لكم في زمن الجاهلية، لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرما، وقوله { ومن عاد فينتقم الله منه } يعني ومن عاد الى قتل الصيد وهو محرم فينتقم الله منه في الآخرة، وذلك بعد نزول النهي، واختلف في وجوب الكفارة على العائد فعن عطا وإبراهيم وسعيد بن جبير والحسن وجوبها وعليه عامة العلماء، وعن ابن عباس: أنه لا كفارة عليه أحدا تعلقا بالظاهر وإن لم يذكر الكفارة، قوله تعالى: { أحل لكم صيد البحر } مما يؤكل ومما لا يؤكل { وطعامه } مما يؤكل، والمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصاد في البحر وأحل لكم المأكول منه وهو السمك، ولسيارتكم أي يتزودونه قديدا كما تزود موسى الحوت في مسيره إلى الخضر، قوله تعالى: { وحرم عليكم صيد البر } أي وحرم الله عليكم صيد البر { ما دمتم حرما } محرمين.
[5.97-102]
قوله تعالى: { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس } يعني إصلاحا وقواما في مناسكهم وتجارتهم وأنواع منافعهم، وروي أنه لو تركوه عاما واحدا لم ينظروا ولم يؤخروا { والشهر الحرام } يعني الشهر الذي يؤدون فيه الحج وهو ذو الحجة لاختصاصه من بين الأشهر بإقامة موسم الحج فيه { والهدي والقلائد } والمقلد منه خصوصه وهو البدن لأن الثواب فيه أكثر { ذلك } اشارة إلى جعل الكعبة قياما للناس أو إلى ما ذكره من حفظ الاحرام بترك الصيد { لتعلموا أن الله بكل شيء عليم } أي عالم بما يصلحكم { اعلموا أن الله شديد العقاب } لمن انتهك محارمه { وان الله غفور رحيم } لمن حافظ عليها { ما على الرسول إلا البلاغ } تشديد في وجوب الامتثال لما أمر به (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم }
" روي أن سراقة بن مالك، وقيل: عكاشة، قال: يا رسول الله الحج علينا كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعاد عليه مسألته ثلاث مرات، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ويحك وما يؤمنك أن أقول: نعم والله لو قلت: نعم لوجبت ولو وجبته ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالكم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فخذوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه "
قوله تعالى: { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن } يعني وأن تسألوا عن هذه التكاليف الشديدة في زمان الوحي وهو ما دام النبي بين أظهركم يوحى اليه { تبد لكم } تلك التكاليف الشديدة التي تسوءكم وتؤمرون بتحملها فتعرضون أنفسكم لغضب الله { عفى الله عنها } أي عفى الله عنكم عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا إلى مثلها { والله غفور حليم } لا يعاجلكم فيما يفرط منكم، قوله تعالى: { قد سألها قوم من قبلكم } يعني قد سأل هذه المسألة قوم من الأولين { ثم أصبحوا بها كافرين } وذلك أن بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا.
[5.103-105]
قوله تعالى: { ما جعل الله من بحيرة } قال جار الله: كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها وحرموها، لا تركب ولا يحمل عليها شيء ولا تطرد عن ماء ولا مرعى، واسمها البحيرة، وقوله: { ولا سائبة } قال: وكان الرجل يقول: إذا قمت من سفري أو شفيت من مرضي فناقتي سائبة وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، وقيل: كان الرجل إذا اعتق عبدا قال: هو سائبة فلا عقل بينهما ولا ميراث، وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، وإذا ولدت ذكر فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكر وأنثى قالوا وصلت: أخاها، ولم يذبحوا الذكر لآلهتهم، وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع عن ماء ولا مرعى، وهو الحام عندهم، ومعنى: { ما جعل الله } ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك، قوله تعالى: { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } فلا ينسبون التحريم الى الله تعالى ولكنهم يقلدون في تحريمها كبارهم، قال جار الله والواو في قوله: { أو لو كان آباؤهم } واو الحال فدخلت عليها همزة الانكار والمعنى ان الاقتداء إنما يصلح بالعالم للمهتدي، قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } يعني التزموا صلاح أنفسكم بما ينجيها من عذاب الله تأمنوا من العذاب، وتستحقوا جزيل الثواب، وقوله: { عليكم أنفسكم } يقول: أصلحوها بطاعة الله تعالى { لا يضركم من ضل إذا اهتديتم } يريد الله سبحانه أنه لا يضركم ضلال المضلين، ولا تحاسبون بفعل المبطلين، وروي أن اليهود قالوا للمسلمين: كيف تطمعون في النجاة وآباؤكم مشركون ولستم بناجين من فعلهم؟ فنزلت هذه الآية، وقال أيضا:
ولا تزر وازرة وزر أخرى
[الأنعام: 164] أخبر الله تعالى أنه لا يعذب أحدا بذنب أحد والدا كان أو ولدا، قال جار الله: كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العتو والعناد من الكفرة ويتمنون دخولهم في الاسلام فقيل لهم: عليكم أنفسكم، وليس المراد به ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن ابن مسعود أنها قرئت عنده هذه الآية فقال: ليس هذا بزمانها إنها اليوم مقبولة ولكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا تقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم، فعلى هذا هي تسلية لمن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، فلا تقبل، وعنه ليس هذا بزمانها، قيل: فمتى هو؟ قال: إذا جعل دونها السوط والسيف والحبس.
[5.106-109]
{ يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم } أمر بالاشهاد { إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية } الآية نزلت في ثلاثة نفر من التجار خرجوا من المدينة إلى الشام وهم: تميم بن أوس الداري، وعدي بن زيد وكانا نصرانيين، ومعهما بديل بن أبا مرية الرومي وكان مسلما مولى لبني سهم، فلما قدموا الشام مرض بديل وكتب صحيفة فيها جميع ما معه وطرح الصحيفة بين متاعه، فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي الذميين وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله، ومات بديل، فنقضا تركته وأخذا منها إناء من فضة منقوشا بالذهب وزنه ثلاثمائة مثقال، فلما رجعا المدينة ودفعا المتاع إلى أهل البيت، ثم أنهم فتشوا المتاع وأصابوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه وفقدوا الإناء وأتوهما بنو سهم فقالوا: هل باع صاحبنا شيئا من متاعه؟ أو هل طال مرضه فأنفق على نفسه من ماله؟ فقالوا: لا، فقالوا: إن وجدنا صحيفة فيها جميع متاعه وفيها إناء قيمته ثلاثمائة مثقال ولم يدفع إلينا، فقالا: لا ندري وما لنا من علم، فرفعوهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية فصلى رسول الله العصر واستحلفهما أنهما ما خانا شيئا، قوله تعالى: { إن أنتم ضربتم في الأرض } يعني إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من عشيرتكم فاستهشدوا أجنبيين على الوصية، وقيل: منكم من المسلمين أو من غيركم من أهل الذمة، وقيل: هو منسوخ ولا يجوز شهادة الذمي على المسلم وإنما جاز في أول الاسلام لقلة المسلمين، قوله: { تحبسونهما } أي تنفقونهما وتصرفونهما للحلف { من بعد الصلاة } يعني صلاة العصر لأنه وقت اجتماع الناس { إن ارتبتم } في شأنهما واتهمتموهما فحلفوهما، وقيل: إن أريد بهما الشاهدان فقد نسخ تحليف الشاهدين، وإن أريد الوصيان فليس منسوخا تحليفهما، وعن علي (عليه السلام): " أنه كان يحلف الشاهد إذا اتهم " { ولو كان ذا قربى } يعني ولو كان قريبا من قوله تعالى:
ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين
[النساء: 135] { ولا نكتم شهادة الله } أي الشهادة التي أمر الله بحفظها وتعظيمها { فإن عثر } اطلع { على أنهما استحقا إثما } أي فعلا ما يوجب الاثم وذلك أنهما أظهرا الاناء، فبلغ ذلك بني سهم فأتوهما فقالوا لهما: ألم تزعما أن صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه؟ قالا: بلى، قالوا: فما بال هذا الإناء معكم؟ فقالوا: إنا ابتعناه منه ولم يكن معنا بينة فكرهنا أن نقر به فتأخذوه منا، فرفعوا أمرهما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت { فإن عثر على أنهما استحقا إثما فآخران } شاهدان آخران { يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان } أي من الذين استحق عليهم الإثم ومعناه من الذين جنى عليهم الاثم وهم أهل الميت وعشيرته، قال جار الله: في قصة بديل أنه لما ظهر خيانة الرجلين حلف رجلان من ورثته أنه إلى صاحبهما وأن شهادتهما أحق من شهادة الأوليين، وقيل: أن ورثة بديل قد ادعوا على النصرانيين أنهما اختانا فحلفا فلما ظهر كذبهما ادعيا الشراء فيما كتماه فأنكر الورثة فكان اليمين على الورثة لإنكارهم الشراء وقد قيل: أن الآية منسوخة، قوله: { ذلك } الذي تقدم من بيان الحكم { أدنى أن يأتوا } الشهداء على تلك الحادثة { بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد ايمان بعد ايمانهم } قال جار الله: إن تكرر ايمان شهود آخرين بعد ايمانهم فيفتضحوا بظهور كذبهم كما جرى في قصة بديل { واسمعوا } سمع إجابة وقبول، قوله تعالى: { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم } ، قال جار الله: فإن قلت: ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم كما كان سؤال المودة توبيخ للموائد، فإن قلت: كيف يقولون لا علم لنا وقد علموا ، ثم أجيبوا؟ قلت: يعلمون أن الغرض بالسؤال توبيخ لأعدائهم فيكون الأمر إلى علمه، وقيل: { لا علم لنا } بما كان منهم بعدنا وإنما الحكم للخاتمة، وقيل: معناه علمنا ساقط مع علمك لأنك { علام الغيوب } ومن علم الخفيات لم تخف عنها الظواهر التي منها إجابة الأمم للرسل وكيف يخفي عليه أمرهم وقد رأوهم سود الوجوه زرق العيون، قال جار الله: والمعنى به توبيخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم.
[5.110-115]
قوله تعالى: { إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك } وما أظهره عليك من الآيات العظام { وعلى والدتك إذ أيدتك } أي قويتك { بروح القدس } ، قيل: هو جبريل، وقيل: الاسم الأعظم الذي كان يحيي به الموتى { تكلم الناس في المهد } وهو طفل { وكهلا } وهو عند كمال العقل وبلوغ الأشد والوقت الذي تستنبأ فيه الأنبياء، قال جار الله: فإن قلت: ما معنى قوله: { في المهد وكهلا }؟ قلت: معناه كلمهم في هاتين الحالتين من غير أن يتفاوت كلامه في حال الطفولية وحال الكهولية، قوله تعالى: { وإذ علمتك الكتاب } الخط { والحكمة } الكلام المحكم الصواب، قوله تعالى: { كهيئة الطير } أي هيئة مثل هيئة الطير { بإذني } بتسهيلي { فتنفخ فيها } قال جار الله: الضمير للكاف لأنها صفة للهيئة التي كان يخلقها عيسى (عليه السلام) وينفخ فيها فلا يرجع إلى الهيئة المضاف اليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء وكذلك الضمير في فيكون { وتبرئ الأكمه والأبرص } ، قيل: الذي يخرج أعمى، وقيل: الأعمش { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } هم اليهود حين هموا بقتله { وإذ تخرج الموتى بإذني } تخرجهم من القبور وتبعثهم قيل: اخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية { وإذ أوحيت إلى الحواريين } أمرتهم على ألسنة الرسل { واشهد بأننا مسلمون } ، من قوله: { من أسلم وجهه لله } ، وقوله: { مسلمون } مخصلون والحواريون خواص أصحاب عيسى (عليه السلام) قال الحسن: كانوا قصارين، وقال مجاهد: كانوا صيادين، قوله تعالى: { إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك } قال جار الله: فإن قلت: كيف قالوا: { هل يستطيع } بعد إيمانهم وإخلاصهم؟ قلت : ما وصفهم الله بالايمان والاخلاص وإنما حكى ادعاءهم لذلك، وقوله: { هل يستطيع ربك } كلام لا يرد مثله عن مؤمنين مطيعين لربهم، ولذلك قال (عليه السلام): { اتقوا الله إن كنتم مؤمنين } ، ولا تشكوا في اقتداره واستطاعته ولا تقترحوا عليه الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها { إن كنتم مؤمنين } أي كانت دعواكم للإيمان صادقة { قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا } ، قال جار الله: من الشاهدين نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل { ونكون عليها من الشاهدين } لله تعالى بالوحدانية ولك بالنبوة عاكفين عليها وكانت دعواهم لارادة ما ذكروا كدعواهم للإيمان والإخلاص وإنما سأل عيسى (عليه السلام) وأجيب ليلتزموا الحجة بكمالها ويرسل عليهم العذاب إذا خالفوا { قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا انزل علينا مائدة من السماء } قال جار الله: أصله يا الله فحذف حرف النداء { تكون لنا عيدا } أي يكون يوم نزولها عيدا، قيل: هو يوم الأحد ومن ثم اتخذه النصارى عيدا، وقيل: العيد السرور العائد، ولذلك يقال: يوم عيد فكان معناه يكون لنا سرورا وفرحا { لأولنا وآخرنا } أي لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا، وقيل: يأكل منها آخر الناس كما يأكل منها أولهم، قال الله مجيبا لعيسى (عليه السلام): { إني منزلها عليكم } يعني المائدة { فمن يكفر بعد منكم } أي بعد نزولها { فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين } عالمي زمانهم، فجحد القوم، وكفروا بعد نزول المائدة، فمسخوا قردة وخنازير، وروي أن عيسى (عليه السلام) لما أراد الدعاء لبس صوفا ثم قال: { اللهم انزل علينا مائدة من السماء } والمائدة الخوان عليها الطعام، فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين غمامة فوقها وأخرى تحتها وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى (عليه السلام) وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة، فقال لهم: ليقم أحسنكم عملا فيكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها، قال شمعون كبير الحواريين: أنت أولى بذلك يا روح الله، فقام عيسى (عليه السلام) فتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل فقال: بسم الله خير الرازقين فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما، وعند رأسها ملح، وعند ذنبها خل، وحولها البقول ما خلا الكراث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد، قال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ فقال: ليس شيء منهما، ولكنه شيء اخترعه الله تعالى بالقدرة الغالبة، كلوا مما سألتم، واشكروا الله يمددكم ويزدكم من فضله، قال الحواريون: يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى، فقال عيسى (عليه السلام): يا سمكة أحيي بإذن الله تعالى، فاضطربت، ثم قال لها: عودي كما كنت، فعادت مشوية، ثم طارت المائدة، روي ذلك في الكشاف المتقدم، وقيل: تنزل كل يوم مرة، وقيل: كانت بكرة وعشيا، وقيل: كانت غبا تنزل يوم دون يوم، قيل: أقامت أربعين يوم يأكل منها خمسة آلاف نفس كل يوم فخانوا وادخروا فرفعت، وقيل: كانت فيها جبن وسكر، وقيل: ثمار من ثمار الجنة، وقيل: كان عليها من كل الطعام إلا اللحم، وقيل: كان في السمكة طعم كل شيء، وروي: أن ما أحد أكل منها من أهل العلل إلا برئ ثم عصوا بعدها فمسخوا قردة وخنازير، وروي: أنهم لما سمعوا بالشريطة وهي قوله: { فمن يكفر بعد منكم } قالوا: لا نريد فلم تنزل، وعن الحسن: والله ما نزلت ولو نزلت لكانت عيد إلى يوم القيامة، لقوله: { وآخرنا } ، قال جار الله: والصحيح أنها نزلت، وروى الثعلبي: أنها أقبلت الملائكة بمائدة يحملونها عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات حتى وضعوها بين أيديهم أكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم، وروي فيه أيضا: كانت المائدة إذا وضعت بين يدي بني إسرائيل اختلفت عليهم الأيدي من السماء بكل طعام إلا اللحم، وروي: أن ما أحد أكل منها من أهل العلل إلا برئ، ولا فقير إلا استغنى، وروي أنها كانت إذا نزلت اجتمع اليها الناس الكبار والصغار والفقراء والأغنياء والرجال والنساء، فأوحى الله تعالى إلى عيسى (عليه السلام) أن اجعل رزقي ومائدتي للفقراء لا الأغنياء فعظم ذلك على الأغنياء حتى شكوا فقال لهم عيسى (عليه السلام): هلكتم فشمروا لعذاب الله تعالى، وروي أنه مسخ منهم ثلاثمائة وثلاثون رجلا أصبحوا خنازير يسعون في الكناسات، وقيل: كانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم من امرأة ولا صبي، فلما نظرت الخنازير إلى عيسى (عليه السلام) بكت وجعل عيسى (عليه السلام) يدعوهم بأسمائهم واحدا واحدا فيبكون ولا يقدرون على الكلام، روى ذلك الثعلبي.
[5.116-120]
{ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله } قيل: هذا السؤال يكون في القيامة، وقيل: حين رفعه الله تعالى إلى السماء، فإن قيل: فما وجه سؤال الله تعالى عيسى (عليه السلام) مع علمه أنه لم يقل ذلك؟ فالجواب عنه: إن هذا توبيخ لقوم عيسى (عليه السلام) وتحذير لهم عن هذه المقالة ونهيا له، وإعلاما بذلك فأعلمه بصنع قومه على جهة التحذير له والتوبيخ لهم، ثم قال عيسى (عليه السلام) مجيبا له: { سبحانك } تنزيها وتعظيما من أن يكون لك شريك { ما يكون لي } ما ينبغي لي { أن أقول ما ليس لي بحق } قولا لا يكون لي أن أقول به، قوله تعالى: { إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي } أي في قلبي والمعنى تعلم معلومي ولا أعلم معلومك، ولكنه سلك في الكلام طريق المشاكلة { علام الغيوب } ما كان وما يكون { أن اعبدوا الله ربي وربكم } وحدوه وأطيعوه ولا تشركوا به شيئا { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } أي قمت فيهم، قال جار الله: شهيدا رقيبا كالشاهد على المشهود عليه امنعهم من أن يقولوا ذلك { فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم } أي الحفيظ تمنعهم من القول بما نصبت لهم من الأدلة، وأنزلت عليهم من البينات، وأرسلت اليهم من الرسل، قال الحسن: الوفاة في القرآن على ثلاثة أوجه: وفاة الموت وذلك قول الله
يتوفى الأنفس حين موتها
[الزمر: 42] يعني وقت انقضاء أجلها، ووفاة النوم قال تعالى:
وهو الذي يتوفاكم بالليل
[الأنعام: 60]، ووفاة الرفع، قال تعالى:
يا عيسى إني متوفيك ورافعك
[آل عمران: 55]، قوله تعالى: { إن تعذبهم فإنهم عبادك } الذي عرفتهم عاصيين جاحدين لآياتك مكذبين لأنبيائك { وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز } القوي القادر على الثواب والعقاب { الحكيم } الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب، قال جار الله: فإن قلت: المغفرة لا تكون للكافرين، فكيف تقول وأن تغفر لهم؟ قلت: ما قال إنك تغفر لهم ولكنه بنى الكلام على أن غفرت فقال: ان تعذبهم عدلت لأنهم أحقاء بالعذاب وإن غفرت لهم لم تعدم في المغفرة من وجه حكمة لأن المغفرة حسنة لكل مجرم في المعقول، بل متى كان المجرم أعظم جرما كان العفو عنه أحسن، قوله: { قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } يعني النبيين، وقيل: ينفع المؤمنين إيمانهم، وقيل: ينفع الصادقين صدقهم في الدنيا والآخرة، قال جار الله: فإن قلت: ما معنى قوله: { ينفع الصادقين صدقهم } ان أريد صدقهم في الآخرة فليست الآخرة بدار عمل وان أريد صدقهم في الدنيا فليس بمطابق لما أورد فيه لأنه في معنى الشهادة لعيسى (عليه السلام) بما يصدق فيما يجيب به يوم القيامة؟ قلت: معناه الصدق المستمر بالصادقين في دنياهم وآخرتهم، وعن قتادة متكلمان يتكلمان يوم القيامة أما إبليس فيقول: ان الله وعدكم وعد الحق فصدق يومئذ وكان قبل ذلك كاذبا فلم ينفعه صدقه، وأما عيسى (عليه السلام) فكان صادقا في الحياة وبعد الممات فينفعه صدقه (عليه السلام).
[6 - سورة الأنعام]
[6.1]
قوله تعالى: { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض } قال مقاتل: قال المشركون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من ربك؟ قال: " الذي خلق السموات والأرض " فكذبوه فأنزل الله تعالى حامدا لنفسه دالا بصفته على وجوده وتوحيده، قوله تعالى: { وجعل الظلمات والنور } ، قيل: ظلمة الليل ونور النهار، وقيل: ظلمة النار ونور الجنة، وقدم الظلمات لأنها خلقت قبل النور، قال قتادة: خلق الله السموات قبل الأرض، وقال في الثعلبي عن وهب: أول ما خلق الله مكانا مظلما ثم خلق جوهرة فأضاءت ذلك المكان ثم نظر إلى الجوهرة نظرة الهيبة فصارت ماء، فارتفعت بخارها وزبدها فخلق من البخار السماوات، ومن الزبد الأرضين، قوله تعالى: { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } يعني بعد هذا البيان يعدلون إلى عبادة الأوثان، أي يشركون، يقال عدلت الشيء بالشيء إذا سويت به غيره.
[6.2-11]
قوله تعالى: { هو الذي خلقكم من طين } يعني خلق آدم (عليه السلام) فأخرج مخرج الخطاب لهم، قال في الثعلبي: بعث الله جبريل إلى الأرض ليأتيه بطينة منها فقالت الأرض: إني أعوذ بالله منك أن تقبض مني فرجع، فقال: يا رب انها عاذت، فبعث الله ميكائيل فاستعاذت، فبعث الله ملك الموت فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذ بالله أن أخالف أمره، فأخذ من وجه الأرض فخلط الأسود والأبيض والأحمر فلذلك اختلفت أخلاقهم، قوله تعالى: { ثم قضى أجلا } المقضي أجل الموت، والمسمى: أجل القيامة، وعن ابن عباس: هو أجلا بقضاء الدنيا، والأجل المسمى هو أجل ابتداء الآخرة، وقيل: الأول النوم، والثاني الموت { ثم أنتم تمترون } تشكون في البعث { وهو الله في السموات وفي الأرض } يعني وهو إله السموات وإله الأرض { ويعلم ما تكسبون } من الخير والشر { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم } يعني كفار أهل مكة والآيات من انشقاق القمر وغيره { إلا كانوا عنها معرضين } تاركين لها مكذبين بها { فقد كذبوا بالحق لما جاءهم } يعني القرآن، وقيل: النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } وهو القرآن أي أخباره وأحواله يعني سيعلمون بأي شيء استهزأوا وذلك عند ارسال العذاب عليهم في الدنيا ويوم القيامة أو عند ظهور الاسلام وعلو كلمته، قوله تعالى: { ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن } يعني الأمم الماضية والقرون الخالية، والقرون الجماعة من الناس { مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم } يعني لم نعط أهل مكة نحو ما أعطينا عادا وثمودا وغيرهم من البسط في الأجسام، والسعة في الأموال { وأرسلنا السماء عليهم } أي المطر { مدرارا } أي غزيرا كثيرا روى ذلك الثعلبي { فأنشأنا من بعدهم } أي وجعلنا وابتدأنا { قرنا آخرين } قوله تعالى: { ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم } الآية نزلت في النضر بن الحرث، وعبد الله بن أمية، ونوفل بن خالد، قالوا: لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة أملاك يشهدون لك بالنبوة يعني لو فعلنا ذلك { لقال الذي كفروا إن هذا إلا سحر مبين } ، قوله تعالى: { ولو أنزلنا ملكا } الآية، يعني: ولو أننا نزلنا اليهم الملائكة لم يكن بد من إهلاكهم كما أهلكنا أصحاب المائدة، وقيل: إنهم إذا شاهدوه في صورته زهقت أرواحهم، من هول ما يشاهدون { لقضي الأمر } يعني أمر هلاكهم { ثم لا ينظرون } بعد نزوله طرفة عين لأنهم إذا عاينوا الملك في صورته زهقت أرواحهم قوله تعالى: { ولو جعلناه ملكا } يعني لو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون لولا أنزل على محمد ملك، وتارة يقولون ما هذا إلا بشر مثلكم ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة { لجعلناه رجلا } لأرسلناه في صورة رجل كما كان جبريل (عليه السلام) ينزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صورة دحية الكلبي { وللبسنا عليهم ما يلبسون } أي ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ، فإنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة الانسان هذا إنسان وليس بملك، فإن قال لهم الدليل على أني ملك جئت بالقرآن المعجز وهو ناطق بأني ملك لا بشر كذبوه كما كذبوا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا فعلوا ذلك خذلوا كما هم مخذولون الآن { ولقد استهزئ برسل من قبلك } تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عما كان يلقى من قومه { فحاق بالذين سخروا منهم } يعني أحاط بهم الشيء الذي كانوا يستهزئون به وهو الحق الذي أهلكوا من أجل الاستهزاء { قل سيروا في الأرض } ، قال جار الله: معناه إباحة السير في الأرض للتجارات وغيرها من المنافع، وإيجاب النظر في آثار الهالكين ونبه على ذلك بثم ليباعد ما بين الواجب والمباح.
[6.12-18]
قوله تعالى: { قل لمن ما في السموات والأرض } قال جار الله: هذا سؤال تبكيت و { قل لله } تقريرا لهم أي هو الله لا خلاف بيني وبينكم ولا يقدرون أن يضيفوا منه شيئا إلى غيره { كتب على نفسه الرحمة } أي أوجبها على ذاته في هدايتكم إلى معرفته ونصب الأدلة على توحيده بما أنتم مقرون به من خلق السموات والأرض، ثم أوعدهم على إغفالهم النظر بقوله: { ليجمعنكم إلى يوم القيامة } فيجازيكم على شرككم { الذين خسروا أنفسهم } قال جار الله: نصب على الذم أو أنتم الذين خسروا أنفسهم في علم الله لاختيارهم الكفر، قوله: { وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم } سكن أي استقر من خلق الله قال أبو روق: من الخلق ما يستقر ليلا وينشر نهارا، ومنه ما يستقر نهارا وينشر ليلا، قيل: كلما طلعت عليه الشمس وغربت فهو من ساكني الليل والنهار، والمراد جميع ما في الأرض، وقيل: معناه وله ما يمر عليه الليل والنهار، وقيل: له ما سكن وتحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر، وهو السميع لأصواتهم، العليم بأسرارهم، { قل أغير الله اتخذ وليا } الآية قيل: إن مشركي قريش قالوا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): تركت ملة سادة قومك إن كانت لك حاجة إلى النساء لنزوجك، وإن كان بك جنون لنداويك، وإن كان بك فقر لنجمع لك مالا حتى تكون من أغنيائنا، فإنما يحملك على ما تدعو إليه الحاجة، فنزلت الآية { قل } يا محمد { أغير الله أتخذ وليا } ومعبودا وناصرا ومعينا { فاطر السموات والأرض } أي فالقهما ومبتدعهما وأصل الفطر الابتداع، قال مجاهد: سمعت ابن عباس يقول: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض حتى اتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدأتها { وهو يطعم ولا يطعم } أي وهو يرزق ولا يرزق. ومنه { وما أريد أن يطعمون } والمعنى أن المنافع كلها منه { قل } يا محمد { إني أمرت أن أكون أول من أسلم } لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سابق أمته في الإسلام كقوله تعالى:
وأنا أول المسلمين
[الأنعام: 163] { ولا تكونن من المشركين } يعني نهيت عن الشرك وأمرت بالإسلام { قل } يا محمد { إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } وهو يوم القيامة { من يصرف عنه } ذلك العذاب { يومئذ } يعني يوم القيامة { فقد رحمه } الرحمة العظمى وهي النجاة، قال جار الله: وقرئ { من يصرف عنه } ، على البناء للفاعل، والمعنى من يصرف الله عنه في ذلك اليوم فقد رحمه بمعنى من يدفع الله عنه { وإن يمسسك الله بضر } من مرض أو فقر أو غير ذلك فلا قادر على كشفه { إلا هو وإن يمسسك بخير } من غنى أو صحة { فهو على كل شيء قدير } { وهو القاهر فوق عباده } بالقهر والغلبة والقدرة والعلو.
[6.19-24]
{ قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم } ، قيل: قالت مشركو قريش لقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر، فأرنا من يشهد لك فنزل قوله تعالى: { وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به } وأنذر كل من بلغه من العرب والعجم، وقيل: من الثقلين، وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة، وعن سعيد بين جبير: من بلغه القرآن فكأنما رأى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { أئنكم لتشهدون } تقرير لهم مع استنكار واستبعاد { قل لا أشهد } بشهادتكم، قوله تعالى: { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } هؤلاء هم اليهود يعرفون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يعرفون أبناءهم وهذا استشهاد لأهل مكة بمعرفة أهل الكتاب، وبصحة نبوته، ثم قال: { الذين خسروا أنفسهم } من المشركين ومن أهل الكتاب والجاحدين { فهم لا يؤمنون } به، قال جار الله: جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله تعالى، وكذبوا رسوله حيث قالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا وقالوا: والله أمرنا بها، وقالوا: الملائكة بنات الله، وقالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } أي كفر، قال الحسن: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا فأشرك به غيره { أو كذب بآياته } وهي القرآن { إنه لا يفلح الظالمون } { ويوم نحشرهم جميعا } العابدين والمعبودين { ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم } أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله { الذين كنتم تزعمون } أنها تنفعكم وإنما قال لهم ذلك على جهة التوبيخ { ثم لم تكن فتنتهم } كفرهم { إلا أن قالوا } والمعنى { ثم لم تكن } عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به، وقيل: لم يكن جوابهم إلا أن قالوا تسمى فتنة لأنه كذب، وقيل: الآية نزلت في المنافقين مروا على عادتهم في الدنيا، وقيل: هو عام في المنافقين والكفار وهو الصحيح، وقيل: { فتنتهم } خلاصهم يعني المحنة التي يتوهمون أنهم يتخلصون بها، وقيل: معذرتهم { إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين } يعني لم يكن اعتذارهم إلا هذا، وقيل: قالوا ذلك لعظيم ما يرون من الأهوال { انظر } يا محمد { كيف كذبوا على أنفسهم } في الدنيا بقولهم انا مصيبون في قولنا، انا غير مشركين، واختلفوا هل يجوز في الآخرة أن يكذبوا فالأكثر قالوا لا يجوز لأنها ليست دار تكليف، وقيل: يجوز ذلك لما يلحقهم من الدهش، قال جار الله: فإن قلت: كيف يصح أن يكذبوا حين يطلعون على حقائق الأمور على أن الكذب والجحود لا وجه لمنفعته؟ قلت: الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة ودهشا، ألا تراهم يقولون ربنا أخرجنا فإن عدنا فانا ظالمون وقد أيقنوا بالخلود ولم يشكوا فيه وقالوا: يا مالك ليقض علينا ربك وقد علموا أنه لا يقضي عليهم، وأما قول من يقول معناه ما كنا مشركين عند أنفسنا، وما علمنا انا على خطأ في معتقدنا، وحمل قوله: { أنظر كيف كذبوا على أنفسهم } يعني في الدنيا متحمل وتعسف وتحريف، وقد قال تعالى:
يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون
[المجادلة: 18] بعد قوله:
ويحلفون على الكذب وهم يعلمون
[المجادلة: 14] فشبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا.
[6.25-28]
قوله تعالى: { ومنهم من يستمع اليك } حين تتلوا القرآن { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه } الآية، قيل: اجتمع جماعة من قريش أبو سفيان بن حرب، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحرث، وأبو جهل، وعتبة وشيبة ابنا ربيعه وغيرهم، وكانوا يسمعون تلاوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا للنضر: ما تقول؟ قال: لا أدري والذي أراه يحرك شفتيه يتكلم بأساطير الأولين كالذي كنت أحدثكم به من أخبار القرون الأولين، وكان النضر يكثر الأحاديث على الأمم الماضية، فقال أبو سفيان: إني لا أدري إن بعض ما يقوله حق، فقال أبو جهل: كلا، فنزلت الآية، والأكنة على القلوب والوقر في الآذان، مثل في نبو قلوبهم ومسامعهم { حتى إذا جاؤوك يجادلونك } ويناكرونك، وفسر مجادلتهم أنهم يقولون { ان هذا إلا أساطير الأولين } { وهم ينهون عنه وينأون عنه } نزلت في أبي طالب حيث كان يمنع الناس عن إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا يتبعه عن ابن عباس، وقيل: في كفار مكة يعني وهم ينهون عنه الناس، يعني عن القرآن وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأتباعه ويثبطونهم عن الإيمان به { وينأون عنه } بأنفسهم فيضلون ويضلون { وان يهلكون إلا أنفسهم } بذلك وإن كانوا يظنون أنهم يضرون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: هو أبو طالب، قال جار الله: ورواه أيضا في الحاكم لأنه كان ينهي قريشا عن التعرض لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وينأى عنه فلا يؤمن به، وروي أنهم اجتمعوا إلى أبي طالب وأرادوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سوءا فقال شعرا:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
فأصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وأبشر بذاك وقر منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصح
ولقد صدقت وكنت ثم أمينا
لولا الملامة أو حذارى سبة
لوجدتني سمحا بذاك مبينا
وعرضت دينا لا محالة أنه
من خير أديان البرية دينا
{ ولو ترى } يا محمد جوابه محذوف تقديره ولو ترى أرأيت أمرا شنيعا { إذ وقفوا على النار } حين عاينوها واطلعوا عليها وادخلوها { فقالوا يا ليتنا نرد } تمنيهم الرد إلى الدنيا، ثم ابتدأوا { ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين } واعدين الايمان كأنهم قالوا ونحن لا نكذب ونؤمن على وجه الاثبات، قوله تعالى: { بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل } من قبائحهم وفضائحهم في صحفهم، وشهادة جوارحهم عليهم، فلذلك تمنوا ما تمنوا ضجرة إلا أنهم عازمون على أنهم لو ردوا لآمنوا، وقيل: هم المنافقون وأنه يظهر نفاقهم الذي كانوا يسرونه، قيل: هم أهل الكتاب وأنهم يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحة نبوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قوله تعالى: { ولو ردوا } إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار { لعادوا لما نهوا عنه } من الكفر والعصيان { وانهم لكاذبون } فيما وعدوا به من أنفسهم، وكفى به دليلا على كذبهم.
[6.29-34]
{ ولو ترى } يا محمد { إذ وقفوا } مجاز عن الحسن للتوبيخ، كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه، وقيل: وقفوا على جزاء ربهم، وقيل: عرفوا حق التعريف { قال أليس هذا بالحق } وهذا تعييرا من الله لهم على الكذب، بقولهم لما كانوا يسمعون من البعث والجزاء: ما هو بحق وما هو إلا باطل { قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } بلقاء الله تعالى، قوله تعالى: { قد خسر } قد غبن وهلك { الذين كذبوا بلقاء الله } يعني بالبعث بعد الموت { حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة } يعني فجأة { قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها } يعني على ما فرطنا في الدنيا من طاعة الله، ومنه ما فرطت في جنب الله { وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم } آثامهم وأثقالهم كقوله تعالى:
فبما كسبت أيديكم
[الشورى: 30] والأوزار عبارة عن جملة الذنوب { ألا ساء ما يزرون } بئس شيئا يزرون وزرهم كقوله تعالى: { ساء مثلا القوم } ، وقيل: المؤمن إذا خرج من قبره جاءه عمله فيركب ظهر الكافر، والوزر الثقيل من الإثم، وجمعه أوزار، ومنه حتى تضع الحرب أوزارها أي أثقالها، قوله تعالى: { وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو } يعني أن أعمال الدنيا لعب ولهو واشتغال بما لا يغني ولا ينفع كما ينفع أعمال الآخرة المنافع العظيمة { وللدار الآخرة خير للذين يتقون } دليل على أن ما سوى أعمال المنافقين لعب ولهو { قد نعلم أنه ليحزنك } بفتح الياء وضمها و { الذي يقولون } هو قولهم هو ساحر كذاب { فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون } يعني أن تكذيبك أمر راجع الى الله تعالى لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله تعالى بجحود آياته، وقيل: لا يكذبونك بقولهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم، وقيل: لأنهم لا يكذبونك لأنك عندهم الصادق ولكنهم كانوا يجحدون بآيات الله تعالى، وعن ابن عباس: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون، وكان أبو جهل يقول: ما نكذبك ولكن نكذب بما جئتنا به، وقيل: نزلت الآية في أبي جهل حين قال له الأخنس: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحد غيرنا؟ فقال: والله ان محمدا لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فنزلت، وقيل: نزلت في الحرث بن عباس بن نوفل بن عبد مناف وكان يكذب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في العلانية فإذا خلى بأهله قال: ما محمد بأهل للكذب، ويقول للنبي: إنك لصادق وانا لا نتبعك خوفا من العرب، وقيل: نزلت في المشركين، وقيل: في أهل الكتاب، قوله تعالى: { ولقد كذبت رسل من قبلك } الآية تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { فصبروا على ما كذبوا وأوذوا } يعني صبروا على تكذيبهم وإيذائهم { ولا مبدل لكلمات الله } يعني لمواعيده { ولقد جاءك من نبإ المرسلين } يعني بعض أنبائهم وقصصهم وما كابدوا من مصابرة المشركين.
[6.35-45]
{ وإن كان كبر عليك إعراضهم } أي عظم وشق ذلك أنه عظم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إعراض الخلق عن الله تعالى، ومعصيتهم له، ومخالفتهم لحكمه، فلما كبر ذلك عنده وعظم عليه أنزل الله هذه الآية، والنفق هو المحتقر في الأرض، حتى يطلع لهم آية يؤمنون بها { أو سلما } أي درجة ومصعدا { في السماء } يصعد فيه { فتأتيهم بآية } منها فافعل يعني انك لا تستيطع ذلك والمعنى إنما أنت عبد مأمور وأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء لايمانهم { ولو شاء الله لجمعهم على الهدى } بأن يأتيهم بآية ملجئة ولكنه لا يفعل لعلمه بالمصلحة { فلا تكونن من الجاهلين } من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه قوله تعالى: { إنما يستجيب } أي يجيب، وقد يكون ذلك بالقبول { الذين يسمعون } يعني يجيب من سمع الحق سماع مسترشد طلبا للحق، فأما من لا يسمع أو يسمع منكرا أو معاندا فإنه لا يؤمن { والموتى } يعني الكفار، وقيل: الموتى { يبعثهم الله ثم إليه يرجعون } { ولكن أكثرهم لا يعلمون } ما لهم في نزولها، قوله تعالى: { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } على التأكيد يعني كل ذي روح إما أن تدب وإما أن يطير { إلا أمم أمثالكم } مكتوبة أرزاقها وآجالها وأعمالها كما كتبنا آجالكم وأرزاقكم وأعمالكم { ما فرطنا في الكتاب من شيء } ما تركنا في اللوح المحفوظ من شيء من ذلك لم نكتبه بل كتبناه { ثم إلى ربهم يحشرون } يعني الأمم كلها من الدواب والطير فيعرضون وينصف بعضها من بعض، كما روي أنه يأخذ للجماء من القرناء، وقيل: أمثالكم في الآجال وفي الأرزاق، وقيل: في إنها تولد { والذين كذبوا بآياتنا } بمحمد والقرآن { صم } لا يسمعون الحق { وبكم } لا ينطقون { في الظلمات } يعني ظلمات الكفر فهم غافلون عن تأمل ذلك والتفكر فيه { من يشإ الله يضلله } أي يخليه وضلالته لا يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف { ومن يشإ يجعله على صراط مستقيم } أي يلطف به { أغير الله تدعون } بمعنى أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضر أو تدعون الله دونها { بل إياه تدعون } بل تخصونه بالدعاء دون الالهة { فيكشف ما تدعون إليه } أي ما تدعونه لكشفه { إن شاء } إن أراد أن يتفضل عليكم ولم يكن فيه مفسدة { وتنسون ما تشركون } يعني وتتركون آلهتكم ولا تذكرونها في ذلك الوقت، قوله تعالى: { فأخذناهم بالبأساء } يعني الجوع والقحط { والضراء } الأمراض، وقيل: البأساء شدة الفقر، وقيل: البأساء القتل والضراء احتياج المال، وقيل: البأساء الخوف والضراء المرض وموت الأولاد { لعلهم يتضرعون } يعني فعلنا ذلك لعلهم يتذللون لربهم ويتوبوا، قوله تعالى: { فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } معناه نفي التضرع عنهم ولم يكن إلا لقسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم، وقيل: معناه هل لا تضرعوا إلى الله من ذنوبهم إذ جاءهم بأسنا أي نزل بهم البلاء { فلما نسوا ما ذكروا به } من البأساء والضراء أي تركوا الاتعاظ ولم ينفع فيهم ولم يزجرهم، وقيل: تركوا ما ذكروا به من الأوامر والنواهي { فتحنا عليهم أبواب كل شيء } أي أبدلناهم مكان الشدة الرخاء في العيش والصحة وصنوف النعمة { حتى إذا فرحوا بما أوتوا } من الخير { أخذناهم بغتة } أي فجأة امن ما كانوا وأعجب ما كانت الدنيا لهم { فإذا هم مبلسون } ، قيل: خرجوا من الدنيا آيسين من رحمة الله، وقيل: هالكون آيسون متحيرون، وقيل: مخذولون { فقطع دابر القوم } آخرهم لم يترك منهم أحد يعني استوصلوا وأهلكوا { والحمد لله رب العالمين } عند هلاك الظلمة، فإنه من أجل النعم حيث منعهم من زيادة الكفر والمعاصي، وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" إذا رأيت الله سبحانه وتعالى يعطي العباد ما يسألون على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم "
، وتلا هذه الآية: { فلما نسوا ما ذكروا به }.
[6.46-52]
{ قل } يا محمد { أرأيتم } قد علمتم { إذ أخذ الله سمعكم وأبصاركم } أي ذهب بها فصرتم عميا { وختم على قلوبكم } أي طبع عليها وسلب عنها التمييز والعقل، وقيل: أراد الأمانة { من إله غير الله يأتيكم به } أي بذلك المقدم ذكره من الحواس { أنظر } يا محمد { كيف نصرف الآيات } نبينها { ثم هم يصدفون } أي هؤلاء الكفار يعرضون { قل } يا محمد { أرأيتم } أعلمتم { ان أتاكم عذاب الله } أي عذبكم بعد اعذاره إليكم وإرساله الرسل { بغتة } فجأة { أو جهرة } علانية { هل يهلك } بالعذاب { إلا القوم الظالمون } ، قوله تعالى: { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح } بأن يعمل صالحا في الدنيا بأن يأتي بالواجبات ويجتنب الكبائر { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } في الآخرة { والذين كذبوا بآياتنا } قيل: بالقرآن، وقيل بالنبي ومعجزاته { يمسهم } يصيبهم { العذاب } الآية { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله } يعني: رزق الله { ولا أعلم الغيب } ما خفي على الناس، قيل: إن أهل مكة قالوا: يا محمد هل أنزل عليك كنز أو جعل لك جنة؟ فنزلت الآية، وقيل: لما قالوا لولا انزل عليه آية من ربه نزلت الآية منها أنه عبد ليس الله شيء من ذلك إنما هو إلى الله تعالى { ولا أقول لكم إني ملك } فتنكرون قولي { إن اتبع إلا ما يوحى إلي } وذلك غير منكر ولا مستحيل في العقل مع قيام الدلائل والحجج البالغة { قل هل يستوي الأعمى والبصير } مثل للضال والمهتدي، وقيل: مثل لمن اتبع الوحي ومن لم يتبع { وأنذر به } يعني القرآن { الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم } يعني قوم داخلون في الإسلام مقرون بالبعث إلا أنهم مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه { لعلهم يتقون } أي يدخلون في زمرة أهل التقوى من المسلمين، وقيل: أراد أهل الكتاب لأنهم مقرون بالبعث { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه }
" الآية نزلت حين قال المشركون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو طردت هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين وهم عمار بن ياسر وصهيب وخباب وسلمان وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين وكان عليهم جباب من صوف فقالوا: لو نفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم جلسنا إليك وحادثناك فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما أنا بطارد المؤمنين "
وروي أن عمر قال: لو فعلت حتى تنظر إلى ما يصيرون فنزلت، واعتذر عمر عما قال فقال سلمان وخباب: فينا نزلت وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقعد معنا ويدنو منا وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزل قوله تعالى: { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } قيل: هو الدعاء والثناء، وقيل: ذكر الله، وقيل: العبادة، وقيل: الصلاة المكتوبة { يريدون وجهه } طاعته ورضاه { ما عليك من حسابهم من شيء } قيل: ما عليك من حساب عملهم، وقيل: من حساب رزقهم وفقرهم، وقيل: حساب هؤلاء الكفار إن لم يؤمنوا فتركهم فتطردهم جواب لقوله: { ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين }.
[6.53-55]
قوله تعالى: { وكذلك فتنا بعضهم ببعض } يعني الفقير بالغني والغني بالفقير امتحانا من الله تعالى أليس الله بأعلم بالشاكرين يعني المؤمنين وهذا جواب لقولهم: { أهؤلاء من الله عليهم من بيننا } فقال: { أليس الله بأعلم بالشاكرين } من يشكر على الاسلام، قوله تعالى: { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا } الآية نزلت في القوم الذين طلبت مشركوا مكة طردهم، وقيل: في جماعة من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم علي (عليه السلام) ومصعب بن عمير وجعفر وحمزة، وعمار وأبو بكر وعمر، وقال عكرمة: جاء عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، ونوفل بن الحرث من أشراف بني عبد مناف إلى أبي طالب فقالوا: يا ابا طالب لو أن ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا كنا نجالسه، فأتى أبو طالب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكلمه بالذي حدثوه، فقال عمر: لو فعلت ذلك حتى تنظر الذي يريدون وإلى ما يصيرون فنزلت الآية وجاء عمر فاعتذر من مقالته رواه في تفسير الثعلبي،
" وروي أنهم قالوا: إن كنت أرسلت إلينا فاطرد هؤلاء عنك فنكون من أصحابك فنزلت الآية، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم يقو أمتي معكم المحيى ومعكم الممات "
فكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقعد ويدنو منهم يؤمنون بآياتنا يصدقون بالقرآن، وقيل: بمحمد ومعجزاته { فقل سلام عليكم } أمره أن يسلم عليهم، وقيل: السلام هو الله تعالى، ومعناه الله مطلع عليكم، حافظ لكم { كتب ربكم على نفسه الرحمة } قيل: أوجب على نفسه إيجابا مؤكدا، وقيل: كتبه في اللوح المحفوظ، وقيل: في القرآن { وكذلك نفصل الآيات } ، قيل: الحجج والتفصيل التبيين { ولتستبين سبيل المجرمين } بالرفع أي لتظهر طريق المجرمين وبالنصب لتظهر طريق الحق والباطل.
[6.56-60]
{ قل } يا محمد { إني نهيت } صرفت وزجرت بما ركب في من أدلة العقل وبما أوتيت من أدلة السمع عن عبادة ما يعبدون، قوله تعالى: { قل إني على بينة من ربي } أي على حجة ومعجزة { وكذبتم به } ، قيل: بالقرآن، وقيل: بالبينات، وقيل: بربكم { ما عندي ما تستعجلون به } الآية نزلت في النضر بن الحرث حين قال:
فأمطر علينا حجارة من السماء
[الأنفال: 32] وقيل: في الذين اقترحوا الآيات { إن الحكم إلا لله } الحكم الذي يفصل بين المحقين والمبطلين { يقص الحق } بالصاد معناه بقوله ويخبر وبالضاد المعجمة من القضاء، أي يفصل بالحق من الباطل { وهو خير الفاصلين } قوله تعالى: { لقضى الأمر بيني وبينكم } أي لفرغ من العذاب وهلكتم { والله أعلم بالظالمين } { وعنده مفاتح الغيب } قيل: خزائنه، وقيل: عنده ما يفتح للعباد من علم الغيب، وقيل: علم الغيب في قوله تعالى:
إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام
[لقمان: 34]، إلى آخر السورة، وقيل: علم نزول العذاب، وقال عطاء: ما غاب عنكم من الثواب والعقاب، وقيل: هي الآجال وقت انقضائها، وعن ابن مسعود: أوتي نبيكم علم كل شيء إلا علم الغيب { ويعلم ما في البر والبحر } قال مجاهد: البر القفار، والبحر كل قرية فيها ماء { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها } ، قيل: ما تسقط من ورق الأشجار، وما يبقى، وقيل: يعلم ما يؤكل وما يسقط { ولا حبة في ظلمات الأرض } ، قيل: حبة في أسفل الأرضين، وقيل: ما زرع { ولا رطب ولا يابس } قيل: هو مثل أراد به تعالى أنه عالم بجميع المعلومات، وقيل: الرطب الماء، واليابس الأرض، وقيل: ما نبت وما لم ينبت، وقيل: الرطب لسان المؤمن رطب بذكر الله تعالى، واليابس لسان الكافر، وقيل: الأشجار والنبات رطبها ويابسها، وروي في تفسير الثعلبي عن محمد بن اسحاق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" ما من زرع على أرض ولا أثمار على أشجار إلا مكتوب عليها بسم الله الرحمن الرحيم رزق فلان بن فلان "
وذلك قوله في محكم كتابه: { وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } في اللوح المحفوظ، وقيل: ما تكتبه الملائكة من الأعمال، قوله تعالى: { وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار } يعني ما كسبتم من الإثم { ثم يبعثكم فيه } أي يبعثكم من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الاثم بالنهار، وقيل: يبعثكم فيه يعني في النهار من النوم { ليقضى أجل مسمى } أي يبلغ المدة من الحياة والأجل { ثم إليه مرجعكم } وهو المرجع إلى الموقف والحساب { ثم ينبئكم } يخبركم ويجازيكم { بما كنتم تعملون }.
[6.61-69]
قوله تعالى: { وهو القاهر فوق عباده } بالقدرة { ويرسل عليكم حفظة } يعني الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم { حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا } يعني هم أعوان ملك الموت يقبضونه ثم يدفعونه إلى ملك الموت رواه في الثعلبي { وهم لا يفرطون } لا يقصرون ولا يضيعون وقرئ: لا يفرطون بالتخفيف يعني لا يجاوزن الحد { ثم ردوا إلى الله } يعني الملائكة وقيل: العباد { ألا له الحكم } يومئذ لا حكم فيه لغيره { وهو أسرع الحاسبين } لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره، روي أنه يحاسب جميع خلقه يوم القيامة بمقدار حلب شاة { قل } يا محمد { من ينجيكم من ظلمات البر والبحر } مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما، وقيل: أراد بالظلمات الشدائد والأهوال { تدعونه تضرعا وخفية } قرئ برفع الخاء وكسره وهما لغتان (تقولون لئن أنجيتنا من هذه الظلمات لنكونن من الشاكرين)، قوله تعالى: { قل الله ينجيكم منها } أي ينعم عليكم بالنجاة والفرح ويخلصكم من تلك الظلمات { ومن كل كرب } ومن كل غم { ثم أنتم تشركون } { قل } يا محمد { هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم } ، قيل: الذي من فوقكم هو الرجم كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة، وأرسل على قوم نوح الطوفان والرياح، كما أرسل على قوم عاد وثمود وقوم شعيب وقوم لوط { أو من تحت أرجلكم } كما أغرق فرعون وخسف بقارون، وقيل: من فوقكم من قبل أكابركم وسلاطينكم ، أو من تحت أرجلكم من قبل سفلتكم وعبيدكم { أو يلبسكم شيعا } يعني أو يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى، واللبس اختلاط الأمر، يقال: لبست عليه الأمر خالطته والشيع: الفرق { ويذيق بعضكم بأس بعض } بأن يقتل بعضكم بعضا يعني بالسيوف المختلفة، فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف "
{ أنظر } يا محمد أو أيها السامع { كيف نصرف الآيات } نردد ونظهر مرة بعد أخرى { لعلهم يفقهون وكذب به قومك وهو الحق } ، قيل: القرآن، وقيل: العذاب { قل } يا محمد { لست عليكم بوكيل } أي بحافظ لأعمالكم لأجازيكم عليها إنما أنا منذر والله المجازي { لكل نبأ مستقر } أي لكل خبر وقت وحين، وقيل: وقت استقرار وحصول لا بد منه { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا } في الاستهزاء بها والطعن فيها، وكانت قريش يفعلون ذلك والآية نزلت فيهم وكانوا يستهزئون بالقرآن { فأعرض عنهم } أي اتركهم ولا تجالسهم على سبيل الإنكار { حتى يخوضوا في حديث غيره } ، قيل: يدخلون في حديث غير القرآن والاستهزاء به { واما ينسينك الشيطان } يعني يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم { فلا تقعد بعد الذكرى } يعني بعد أن تذكر النهي عنه { مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء } أي ليس على المؤمنين الذين اتقوا معاصي الله تعالى شيء من حساب الكفرة { ولكن ذكرى } ، قيل: لكن ليلزمهم القيام عنهم ليصير ذلك معوضة، وقيل: لكن عليهم أن يذكروهم وعد الله ووعيده ويأمرونهم بذلك وينهوهم عن المنكر والآية تدل على النهي عن مجالسة الظلمة والفسقة إذا أظهروا المنكر.
[6.70-73]
قوله تعالى: { وذر الذين اتخذوا دينهم } الآية نزلت في الكفار الذين إذا سمعوا آيات الله استهزؤوا بها { وذكر به } أي عظ بالقرآن، وقيل: بيوم الدين { أن تبسل نفس بما كسبت } أصله الارتهان يعني ترتهن كل نفس بما عملت، وقيل: تسلم للهلكة ، وقيل: تسلم للعذاب، وقيل: معناه أن لا تبسل كقوله تعالى:
يبين الله لكم أن تضلوا
[النساء: 176] يعني ذكرهم ليؤمنوا كيلا تبسل نفس ليس لها { من دون الله ولي } ناصر ينجيها من العذاب { وان تعدل كل عدل } أي تفتدي بكل فداء من جهة المال، وقيل: هو من جهة الاسلام والتوبة { لا يؤخذ منها } لا يقبل منها الفداء، وقيل: التوبة { أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا } أهلكوا، وقيل: ارتهنوا { لهم شراب من حميم } ماء حار { و } لهم { عذاب أليم } موجع { بما كانوا يكفرون } { قل } يا محمد { أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا } الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أبويه إلى الكفر، وقيل: في قوم دعوا المسلمين إلى عبادة الأصنام، والمعنى قل يا محمد أو أيها السامع لهؤلاء الذين يدعون إلى عبادة الأوثان والمراد الانكار لعبادة من لا ينفع ولا يضر، ولا يملك لنا ثوابا ولا عقابا، وندع عبادة الملك القادر عن النفع والضر { بعد إذ هدانا الله } بالاسلام، قوله تعالى: { كالذي استهوته الشياطين في الأرض } أي كالذي ذهب به مردة الجن والغيلان في المهمة { حيران } لا يدري كيف يصنع { له أصحاب } رفقة { يدعونه إلى الهدى } أي يهدونه إلى الطريق المستوي يعني لهذا الحيران في الأرض الذي أضلته الشياطين أصحاب يدعونه إلى الهدى، يعني إلى الطريق، ويقولون له: { ائتنا } ، فلا يقبل منهم ولا يصير إليهم، وقيل له: أصحاب يعني أبويه، وقيل: أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون } ، قيل: يوم القيامة، وقيل: أراد يوم خلق السموات والأرض، وقيل: هو مثل، وقيل: إنه يقول عند إحداث الأمر كن علامة للملائكة { قوله الحق } أي ما أخبر به من الوعد والوعيد { وله الملك } يعني ملك الدنيا والآخرة { يوم ينفخ في الصور } يعني يوم القيامة وينفخ الملك في الصور، وقيل: ينفخ الروح في الصور فيصيرون أحياء.
[6.74-79]
{ وإذ قال ابراهيم لأبيه آزر } ، قيل: هو اسم أبيه على أكثر الأقوال، وقيل: معناه الشيخ إلهم بالفارسية، وعن سعيد بن المسيب ومجاهد آزر اسم صنم، رواه في تفسير الثعلبي، قوله تعالى: { وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض } ، قيل: أراد به رؤية العين، وقيل: العلم، قوله: { ملكوت السموات والأرض } ، قيل: ملكهما، وقيل: خلقهما، وقيل: الملكوت الشمس والقمر، وقيل: عرج بإبراهيم (عليه السلام) كما عرج بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا بعد النبوة { فلما جن عليه الليل } أي أظلم { رأى كوكبا } ، قيل: هي الزهرة، وقيل: المشتري { فلما أفل } غرب { قال لا أحب الآفلين } يعني لا أحب عبادة الأرباب المتغيرين من حال إلى حال، وقد اختلف المفسرون في تفسير قوله: { هذا ربي } في هذه الآية على أقوال: الأول أنه ليس من كلام إبراهيم وإنما هو من كلام آزر وتقديره رأى كوكبا قال آزر: هذا ربي، فلما أفل قال إبراهيم: لا أحب الآفلين، وروي أنهم كانوا يعبدون النجوم، وقيل: أنه من كلام إبراهيم قبل البلوغ فإنه خطر بباله قبل البلوغ إلى حد التكليف إثبات الصانع وحدوث العالم فتفكر في طلب الصانع فرأى النجم، فقال: هذا ربي، فلما أفل، قال: لا يجوز أن يكون هذا ربا لما جاز عليه من الحركات والسكنات، وكذلك الشمس والقمر، حتى عرف أن له صانعا مخالفا للأجسام { قال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي } قيل: وجهت عبادتي، وقيل: وجهت نفسي { للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين } ، قيل: يعني مخلصا.
قيل: إن إبراهيم (عليه السلام) ولد زمن نمرود بن كنعان وكان نمرود أول من وضع التاج على رأسه ودعى الناس إلى عبادته، وكان له كهان ومنجمون فقالوا له: إنه يولد في بلدك هذه السنة غلام بغير دين أهل الأرض يكون هلاك ملكك على يديه، وقيل: إنهم وجدوا ذلك في كتب الأنبياء (عليهم السلام) فعند ذلك أمر بقتل كل غلام يولد في تلك السنة وأمر بعزل الرجال عن النساء، خوفا من المولود فبدت له حاجة في مصر فلم يأمن على ذلك إلا آزر أب إبراهيم (عليه السلام) فدعاه وحلفه ألا يقرب أهله فدخل البلد فواقع أهله فحبلت بإبراهيم (عليه السلام) فقال الكهنة للنمرود: أن الغلام الذي كنا نقول لك قد حبلت به أمه، فأمر بذبح الغلمان، فلما دنت ولادة إبراهيم (عليه السلام) خرجت أمه هاربة فولدته ولفته في خرقة، ثم أخبرت زوجها فانطلق إليه وأخذه وانطلق به إلى سرب فكانت أمه تختلف إليه، وقيل: حمل آزر امرأته إلى سرب فولدت، ثم وقيل: نظرت أمه إلى أصابعه فوجدته يمص من إصبع تمرا، ومن إصبع ماءا، ومن إصبع لبنا، ومن إصبع عسلا، ومن إصبع سمنا، وروي أن أمه ولدته في مغارة وكانت تختلف إليه فسألها آزر فقالت ولدت غلاما ومات، فشب ولم يلبث إلا خمسة عشر يوما حتى رجع إلى أبيه، وقال: أنا ابنك، وقالت أمه: هو ابنك، ففرح بذلك، وروي أن إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) لما شب قال لأمه: من ربي؟ قالت: أنا، قال: فمن ربك؟ قالت: أبوك، قال: فمن رب أبي؟ قالت: النمرود، قال: فمن رب النمرود؟ قالت: اسكت، ثم رجعت إلى آزر فقالت: أرأيت هذا الغلام الذي كنا نحذر منه أنه بغير الذي هو ابنك، فأتاه آزر فقال إبراهيم: يا أبه من ربي؟ قال: أمك، قال: فمن رب أمي؟ قال: أنا، قال: فمن ربك؟ قال: النمرود، قال: فمن رب النمرود؟ فلطمه وقال: اسكت، ثم أخرجاه من السرب، فرأى الإبل والغنم والخيل فقال: ما هذا؟ فقال: إبل وخيل وغنم، فقال: لا بد أن يكون لها رب ثم نظر إلى الكوكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس فقال ما تقدم ذكره، روي الخبر المتقدم في الحاكم والثعلبي وهو أيضا كلام الفقيه شهاب الدين أحمد بن مفضل (رحمه الله)، قال ابن عباس: لما حملت به قال الكهنة للنمرود: ان الغلام الذي أخبرناك به قد حملت به أمه الليلة، فأمر النمرود بذبح الغلمان، فلما دنت ولادة إبراهيم وأخذها المخاض خرجت هاربة مخافة أن يطلع عليها فيقتل فولدته وأخبرت زوجها بأنها قد ولدت، وأن المولود في موضع كذا، فانطلق أبوه فأخذه من ذلك المكان وحفر له سربا عند نهر فواراه به، وسد عليه بابه بصخرة مخافة السباع، وكانت أمه تختلف إليه وترضعه، وقال ابن إسحاق: لما وجدت الطلق أم ابراهيم خرجت ليلا إلى مغارة كانت قريبا منها ثم سدت عليه المغارة ورجعت إلى بيتها، وكانت تختلف إليه.
[6.80-88]
قوله تعالى: { وحاجه قومه } أي خاصموه وما دلوه وقالوا له: كيف خالفت دين آبائك وقومك وجئت بدين لا يعرف، وقيل: قالوا فلتخاف آلهتنا أن تصيبك { إلا أن يشاء ربي شيئا } ، قيل: الاستثناء منقطع ومعناه لكن أخاف ربي أن يعاقبني إذا أذنبت، وقيل: لا أخاف الا أن يشاء ربي فيما يفعله من ضرر لأنه القادر عليه، وقيل: الاستثناء حقيقة ومعناه لا أخاف الأصنام إلا أن يشاء ربي بأن يجعلهم أحياء متمكنين من ظلمي فحينئذ أخافهم { وكيف أخاف ما أشركتم } يعني الأصنام وهي لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع { ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا } أي حجة وبرهانا، وهو القاهر القادر على كل شيء، قال: { فأي الفريقين أحق بالأمن } يعني فريق الموحدين والمشركين { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم } بمعصية توجب الفسق { أولئك لهم الأمن } من عذاب الله تعالى { وهم مهتدون } ، قيل: إلى الجنة، وقيل: إلى الحق والدين، قوله تعالى: { وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه } إشارة إلى ما احتج على قومه من قوله:
فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي
[الأنعام: 76] إلى قوله: { وهم مهتدون } ، ومعنى { آتيناها } أرشدناه إليها { نرفع درجات من نشاء } يعني في الحلم والحكمة، قوله تعالى: { ووهبنا له اسحاق } أي اعطينا إبراهيم اسحاق وهو ابنه من سارة { ويعقوب } بن اسحاق { كلا هدينا } وفقنا وأرشدنا، وقيل: هدينا بالنبوة، وقيل: بالكرامة والمدح والثواب { ونوحا هدينا من قبل } أي من قبل إبراهيم وولده { ومن ذريته } أي من ذرية نوح (عليه السلام) لأنه أقرب المذكورين، وقيل: من ذرية ابراهيم ولوطا لم يكن من ذرية ابراهيم { داوود } ابن آشا { وسليمان } ابنه { وأيوب } ابن أموص { ويوسف } ابن يعقوب { وموسى } هو موسى بن عمران بن يصهره { وهارون } هو أخو موسى وأكبر منه سنا بسنة { وكذلك } أي وكما جزينا إبراهيم على توحيده كذلك { نجزي المحسنين } { وزكريا } ابن أذف بن كنا { ويحيى } ، وهو ابنه { وعيسى } ابن مريم بنت عمران { وإلياس } قيل: هو إدريس { كل من الصالحين } يعني الأنبياء { واسماعيل } ابن ابراهيم من هاجر الذي أنزله مكة وهو جد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: هو الذبيح { واليسع ويونس } ابن متى { وكلا فضلنا على العالمين } عالمي زمانهم روي ذلك في الثعلبي { واجتبيناهم } اخترناهم واصطفيناهم { وهديناهم } أرشدناهم { ولو أشركوا لحبط } يعني ولو أشركوا هؤلاء الأنبياء الذين سميناهم فعبدوا غيره { لحبط عنهم ما كانوا يعملون }.
[6.89-92]
قوله تعالى: { فإن يكفر بها هؤلاء } يعني الكتاب والحكم والنبوة هؤلاء يعني أهل مكة { فقد وكلنا بها قوما } وهم الأنبياء المذكورون ومن تابعهم، وقيل: هم أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكل من آمن به، وقيل: هم الملائكة وادعى الأنصار أنها لهم رواه في الحاكم، وقوله: { وكلنا بها } يعني أنهم وفقوا للايمان بها والقيام بحقوقها { فبهداهم اقتده } والمراد: بطريقتهم في الايمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع فانها مختلفة { قل } يا محمد { لا أسألكم عليه أجرا } جعلا ورزقا { إن هو } ، يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: القرآن { إلا ذكرى للعالمين } قوله تعالى: { وما قدروا الله حق قدره } يعني وما عرفوه حق معرفته أو ما عظموه حق تعظيمه والآية نزلت في مالك بن الصيف كان يخاصم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون في التوراة ان الله يبغض الحبر السمين " وكان هو حبرا سمينا فغضب، وقال: والله { ما أنزل الله على بشر من شيء } فقال له أصحابه: ويحك ولا على موسى؟ فقال: { ما أنزل الله على بشر من شيء } وكان يومئذ بمكة فلما رجع إلى المدينة عزلته اليهود، وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف لأنه كان حاكمهم، وقيل: نزلت في فنحاص اليهودي، وقيل: في علماء اليهود، وقيل: القائلون قريش، قوله تعالى: { تجعلونه قراطيس } أي كتبا وصحفا { تبدونها وتخفون كثيرا } أي تظهرون بعضا وتكتمون بعضا مثل آية الرجم وذكر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { وعلمتم ما لم تعلموا } ، قيل: هو خطاب للمسلمين تذكيرا لهم نعمة الله تعالى، وقيل: خطاب لليهود أي جعل لهم علما فضيعوه ولم ينتفعوا به، قال جار الله: الخطاب لليهود أي علمتم على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مما أوحى إليه { ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم } وأنتم حملة التوراة ولم يعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كذبوا وكانوا أعلم منكم
إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون
[النمل: 76]، وقيل: الخطاب لمن آمن من قريش كقوله تعالى:
لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم
[يس: 6]، قوله تعالى: { قل الله } أي الله أنزله فإنهم لا يناكرونك { ثم ذرهم في خوضهم } يعني في باطلهم الذي يخوضون فيه { وهذا كتاب } يعني القرآن { مصدق الذي بين يديه } يعني الكتب التي أنزلها الله تعالى { ولتنذر أم القرى } أي لتخوفهم، وأم القرى مكة لأن الخلق يجتمعون إليها، ولأن الأرض دحيت من تحتها { والذين يؤمنون بالآخرة } يعني يصدقون بالنشأة الآخرة { يؤمنون به } قيل: بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: بالقرآن { وهم على صلاتهم يحافظون } يعني الصلوات الخمس يداومون عليها.
[6.93-96]
قوله تعالى: { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحى إلي ولم يوح إليه شيء } يعني يزعم ان الله تعالى بعثه نبيا وهو مسيلمة الكذاب أو كذاب صنعاء الأسود العنسي، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" رأيت فيما يرى النائم كان في يدي سوارين من ذهب فكبرا علي فأوحى الله إلي أن أنفخهما فنفختهما فطارا عني فأولت ذلك كذاب اليمامة مسيلمة وكذاب صنعاء الأسود العنسي "
{ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله } ، " الآية نزلت في عبد الله بن أبي سرح القرشي، وكان يكتب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان إذا أملى عليه سميعا عليما كتب عليما حكيما، وإذا قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليما حكيما كتب غفورا رحيما، فلما نزل قوله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } إلى آخر الآية عجب عبد الله من تفصيل خلق الانسان فقال: تبارك الله أحسن الخالقين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اكتبها فهكذا نزلت " فشك عبد الله فقال: لئن كان صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، وإن كان قاله لقد قلت كما قال، وارتد عن الاسلام، وروي أنه أسلم قبل الفتح، وقيل: مات منافقا { ولو ترى } يا محمد، أو أيها السامع { إذ الظالمون في غمرات الموت } أي شدائد الموت عند النزاع، وقيل: في أشد العذاب { والملائكة باسطوا أيديهم } قيل: بالعذاب، وقيل: بالضرب يضربون وجوههم وأدبارهم، يقال بسط اليه يده بالمكروه، وقيل: عند قبض الأرواح، قوله: { اخرجوا أنفسكم } ، قيل: من عذاب النار على جهة التوبيخ، وقيل: المراد يخرجون أرواحهم على كره منهم لأن نفس المؤمن تنشط للخروج، والجواب محذوف، يعني فلو تراهم في هذه الأحوال لرأيت أمرا شنيعا، قوله تعالى: { وكنتم عن آياته تستكبرون } يعني عن محمد وعن القرآن { ولقد جئتمونا فرادى } يعني تقول الملائكة لهم ذلك فرادى لا مال معكم ولا ولد ولا خدام أو كل واحد على حدته { كما خلقناكم أول مرة } على الهيئة التي ولدتم عليها من الانفراد حفاة عراة غرلا { وتركتم ما خولناكم } يعني ما أعطيناكم من الخدم والنعم والعبيد ومن الأموال { وراء ظهوركم } في الدنيا،
" وروي عن عائشة في قوله تعالى: { ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة } ، فقالت: يا رسول الله واسوأتاه النساء والرجال يحشرون جميعا ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال شغل بعضهم عن بعض "
قوله تعالى: { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } وهي الأصنام { لقد تقطع بينكم } أي انقطع ما بينكم من الموادات والمواصلات { وضل عنكم ما كنتم تزعمون } { ان الله فالق الحب والنوى } بالنبات، وقيل: المراد الشق الذي في النواة والحنطة { يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي } ، قيل: الانسان من النطفة والنطفة من الانسان، وقيل: الطائر من البيض والبيض من الطائر، وقيل: الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر { ذلكم الله فأنى تؤفكون } أي كيف تصرفون عن الحق، وقيل: تكذبون في جعل الأوثان الهة والمراد أنى تصرفون عن عبادته وتعدلون عنه، قوله تعالى: { فالق الإصباح } أي شاق عمود الصبح من ظلمة الليل وسواده، وقيل: خالق الاصباح { وجاعل الليل سكنا } أي جعل الليل لسكون الخلق فيسكن فيه كل متحرك { والشمس والقمر حسبانا } أي جعلهما يجريان بحسبان فتقطع الشمس جميع البروج في ثلاثمائة وخمسة وستين يوما، والقمر في ثمانية وعشرين يوما فبنى عليهما الليالي والأيام والشهور والأعوام { ذلك تقدير العزيز العليم }.
[6.97-103]
قوله تعالى: { وهو الذي جعل لكم النجوم } أي خلقها { لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر } قوله تعالى: { وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة } يعني من آدم (عليه السلام) { فمستقر ومستودع } مستقر في الأرض ومستودع في الصلب، وقيل: مستقر في الرحم ومستودع في القبر، وقيل: مستقر على وجه الأرض ومستودع عند الله، وقال الحسن: المستقر في الأرض القبر والمستودع في الدنيا وكان يقول ابن آدم أنت وديعة في أهلك ويوشك أن تلحق بصاحبك وأنشد قول لبيد:
وما المال والأهلون إلا وديعة
ولا بد يوما أن ترد الودائع
قوله تعالى: { فأخرجنا منه خضرا } قيل: من الماء، وقيل: من النبات يعني ورقا خضرا وهو رطب البقول { نخرج منه } أي من الخضرة { حبا متراكبا } يعني سنابل الحبوب تركب بعض الحبوب بعضا { ومن النخل } أي ونخرج من النخل { من طلعها قنوان } أي: من ثمرها وهو جمع قنو وهو العذق مثل صنو وصنوان قال أبو عبيدة: ولا نظير لها في كلام العرب { دانية } أي قريبة ينالها القائم والقاعد { وجنات } يعني وأخرجنا منه جنات { من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه } ، قيل: متشابها ورقه مختلفا ثمره، وقيل: متشابها في المنظر مختلفا في المطعم، قوله تعالى: { إذا أثمر وينعه } يعني نضجه وأدركه { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } قوله تعالى: { وجعلوا لله شركاء الجن } الآية نزلت في الزنادقة، قالوا: الله تعالى وابليس شريكان فالله تعالى خلق النور والناس والدواب وكل خير والشيطان خلق الظلمة والسباع والحيات والعقارب، وقال بعضهم: ان الله خالق الأجسام النافعة وابليس خالق الأجسام الضارة وهذا كقوله
وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا
[الصافات: 158]، وقيل: نزلت في المشركين قالوا: الملائكة بنات الله، وقيل: في اليهود وفي النصارى
قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله
[التوبة: 30]، وقوله: { الجن } لاستتارهم عن العيون، وقيل: أراد بالجن الشياطين لأنهم أطاعوهم في عبادة الأوثان { وخلقهم } أي خلقهم جميعا الجن والانس { وخرقوا له } أي اختلفوا له { بنين وبنات بغير علم } بأن قالوا ما لم يعلموا من الكذب على الله تعالى وهم كفار العرب، قالوا: الملائكة بنات الله تعالى، واليهود قالوا: عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله ثم نزه نفسه فقال عز من قائل: { سبحانه وتعالى عما يصفون } { بديع السموات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } ، يعني كيف يكون له ولد ولا صاحبة له، قوله تعالى: { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } والآية تدل على أنه لا يرى بالأبصار لا في الدنيا ولا في الآخرة لأنه يمدح بنفي الرؤية عز وجل عما يقول المبطلون وهو يدرك الأبصار لا يخفى عليه شيء ولا يفوته { وهو اللطيف الخبير } واللطف من الله الرحمة والرأفة والرفق واللطف في الأعمال الرفق فيها، الخبير بجميع الأشياء.
[6.104-109]
{ قد جاءكم بصائر من ربكم } يعني الحجج البينة { فمن أبصر فلنفسه } أي من عرف الحق وآمن به واتبع البصائر فلنفسه { ومن عمي فعليها } أي من لم ينظر فيها ولا يعرف الحق فعلى نفسه { وما أنا عليكم بحفيظ } أي رقيب على أعمالكم، قوله تعالى: { وكذلك نصرف الآيات } على وجوه مختلفة وترددها { وليقولوا درست } ، وقرئ دارست العلماء علينا ذلك، وقيل: لئلا يقولوا أن هذا من الأكاذيب التي درست وامتحيت وذهبت { ولنبينه } يعني القرآن { لقوم يعلمون } يعني العلماء { اتبع ما أوحي إليك } الآية، نزلت في المشركين قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ارجع الى دين آبائك، قيل: أراد بالإعراض الهجران دون ترك الإنذار والموعظة، وقيل: أراد الإعراض عن محاربتهم ثم نسخ { ولو شاء الله ما أشركوا } أي لو شاء لأخبرهم على ذلك { وما جعلناك عليهم حفيظا } رقيبا، قوله تعالى: { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } الآية نزلت في المشركين، قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون إلهك، فنزلت ونهاهم الله عن ذلك، وقيل: كان المسلمون يسبون أصنامهم فنهوا عن ذلك لئلا يسبوا الله تعالى لأنهم قوم جهلة { كذلك زينا لكل أمة عملهم } أي خليناهم وشأنهم ولم نكفهم حتى حسن عندهم سوء عملهم، وأمهلنا الشياطين حتى زين لهم { وأقسموا بالله } اي حلفوا بالله، قيل: من حلف بالله فقد جهد يمينه { لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها } ،الآية نزلت في المشركين طلبوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحول لهم الصفا ذهبا، وان ينزل الملائكة يشهدون، أو تأتينا بالله والملائكة قبيلا، أو تكون لك آية كعصى موسى، أو تبعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك أحق ما تقول أم باطل، كما أحيى عيسى ناقة صالح، فنزل جبريل (عليه السلام) فقال: إن شئت أن يصبح الصفا ذهبا ولكن إن لم يصدقوك عذبتهم، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " بل يتوب تائبهم " وقيل: نزلت فيمن سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تفجر لنا من الأرض ينبوعا، وقيل: علم الله أنهم لا يؤمنون، قوله تعالى: { لئن جاءتهم آية } كما جاءت قبلهم من الأمم، قوله تعالى: { قل إنما الآيات عند الله } ، وهو القادر عليها { وما يشعركم } أي ما يدريكم قيل: الخطاب للمشركين.
[6.110-114]
{ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } على لهب جهنم عقوبة لهم { كما لم يؤمنوا به أول مرة } في الدنيا، وقيل: نقلب أفئدتهم وأبصارهم بالحجج والأدلة التي نوردها عليهم، يعني أنهم لا يشعرون على ما هم عليه { ونذرهم في طغيانهم يعمهون } أي نخليهم وما اختاروا من الطغيان ولا نحول بينهم وبينه، ويعمهون يعني يترددون، قوله تعالى: { ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى } بإحيائنا إياهم فيشهدون لك بالنبوة كما سألوه (صلى الله عليه وآله وسلم) والآية نزلت في الذين سألوه الآيات، وروي أنهم سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتي بهذه الآيات ليؤمنوا فنزلت الآية، وبين أنهم لا يؤمنون، وإن جاءتهم الآيات { وحشرنا عليهم كل شيء قبلا } يعني جمعنا عليهم كل آية، وقيل: كلما سألوا قبلا مقابلة ليروها معاينة { ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله } قيل: إلا إن يشاء الله أن يخبرهم على الإيمان، وقال أبو علي: إلا أن يلجئهم الله بالعلم إن راموا خلافه منعوا منه { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا } يعني كما خلينا بينهم وبين أعدائهم، كذلك نخلي بينك وبين أعدائك، وقيل: الجعل الحكم أي حكمنا بأنهم أعداء للأنبياء عن أبي علي، وقيل: الجعل بترك المنع والتخلية { شياطين الإنس والجن } ، قيل: مردة الكفار من الإنس وشياطين الجن كفار الجن { يوحي بعضهم إلى بعض } أي يوسوس بعضهم إلى بعض أي يلقي الشياطين إلى الانس والجن، قال في الثعلبي: عن عكرمة والضحاك: شياطين الانس التي مع الإنس وشياطين الجن التي مع الجن، وليس للإنس شياطين ولا للجن شياطين، ولكن ابليس قسم جنده فريقين فبعث منهم فريقا إلى الجن، وبعث فريقا إلى الانس، فشياطين الجن والإنس أعداء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأوليائه فيقول شياطين الجن لشياطين الإنس أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله، ويقول شيطان الإنس لشيطان الجن كذلك يوحي بعضهم إلى بعض، وقال آخرون: من الإنس شيطان ومن الجن شيطان والشيطان العاتي المتمرد في كل شيء { زخرف القول } والزخرف المزين زخرفه إذ زينه والزخرف كمال حسن الشيء { غرورا } الغرور هو الاطماع الكاذبة، وقيل: زخرف القول هو عداوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين { ولو شاء ربك ما فعلوه } هو قادر على أن يحول بينهم وبينه ولو شاء لفعل حبرا وقسرا ولكن خلا بينهم وبين أفعالهم، قوله تعالى: { ولتصغى اليه } أي لتميل إليه قلوب هؤلاء { الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه } قال ابن عباس: يرجع، يقال: صغى يصغي صغيا { وليقترفوا ما هم مقترفون } أي ليكتسبوا ما هم مكتسبون في عداوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين، يقال: اقترف فلان مالا أي اكتسبه، قال تعالى:
ومن يقترف حسنة
[الشورى: 23] وقال الشاعر:
وإني لآتي ما أتيت وإنني
لما اقترفت نفسي إلي لراهب
{ أفغير الله أبتغي حكما } فيه إضمار، أي قل يا محمد: أفغير الله أطلب حاكما يحكم بيني وبينكم { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب } ، يعني القرآن { مفصلا } بين الحلال والحرام والكفر والإيمان، وقيل: يفصل بين الصادق والكاذب { والذين آتيناهم الكتاب } هم أهل التوراة والانجيل { يعلمون أنه } نبي وأن القرآن { منزل } وقيل: هم كبراء الصحابة، وأصحاب بدر والكتاب القرآن.
[6.115-121]
قوله تعالى: { وتمت كلمت ربك } ، قيل: هو القرآن { صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته } يعني لا مغير لها { وهو السميع العليم } { وان تطع أكثر من في الأرض يضلوك } قيل: الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: المراد هو وغيره { يضلوك عن سبيل الله } يعني عن دين الله تعالى { وان هم إلا يخرصون } أي يكذبون، قوله تعالى: { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } الآية نزلت قيل: إنه لما نزل تحريم الميتة كتب مجوس فارس إلى مشركي العرب أن محمد يزعم أنه متبع لأمر الله تعالى، وما ذبح الله لا يأكلونه وما ذبحوه يأكلونه، فكتب المشركون بذلك إلى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية، وقيل لهم: أحلوا ما أحل الله وحرموا ما حرم الله، وقوله: { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } الخطاب للمؤمنين، وقيل: هو عام مما ذكر اسم الله عليه يعني عن ذبحه ذكر اسم الله دون الميتة وما ذبح وسمي عليه الأصنام واسم الله قيل: هو بسم الله، وقيل: هو كل قول ذكر الله فيه تعظيم كقول الله أو بذكر الرحمن كقوله تعالى:
ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها
[الأعراف: 180]، وقوله: { إن كنتم بآياته مؤمنين } فكلوا مما أحل دون ما حرم { وما لكم } أي ما الذي يمنعكم { ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } عند الذبح { وقد فصل لكم ما حرم عليكم } أي بين، قيل: هو ما ذكره تعالى في سورة المائدة في قوله تعالى:
حرمت عليكم الميتة
[المائدة: 3] إلى آخرها { إلا ما اضطررتم اليه } من الجوع وخاف على نفسه حل أكله { وان كثيرا ليضلون بأهوائهم } يضلون أنفسهم وغيرهم باتباع أهوائهم بالتحليل والتحريم دون اتباع الأدلة والشريعة { بغير علم } يعني أنهم لم يعتقدوا ذلك عن يقين وعلم { إن ربك هو أعلم بالمعتدين } من المجاوزين الحد في أمر الله تعالى ونهيه في الحلال والحرام { وذورا ظاهر الاثم وباطنه } ، قيل: قليله وكثيره، وقيل: ما ظهر تحريمه وما فيه شبهه، وقيل: افعال الجوارح وأفعال القلوب، وقيل: الظاهر ما يعمله الناس، والباطن ما لا يعلمه إلا الله تعالى، وقيل: الذنوب كلها لأنها لا تخلو من هذين الوجهين، وقيل: عن قتادة سره وعلانيته وقليله وكثيره { إن الذين يكسبون الاثم سيجزون } في الآخرة { بما كانوا يقترفون } أي يكتسبون في الدنيا { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه لفسق } نزلت في المشركين الذين قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبرنا عن الشاة إذا ماتت من قتلها، قال الله تعالى قالوا: ما قتل الله فلا تأكلوه وما قتلتم أنتم بأيديكم أكلتموه فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: ان قوما من مجوس فارس كتبوا إلى مشركي قريش وكانوا أولياءهم في الجاهلية أن محمدا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله، ثم يزعمون أن ما ذبحوه حلال، وما قتله الله حرام، فوقع في أنفس الناس من ذلك فأنزل الله تعالى هذه الآية { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } ، قيل: هو الميتة، وقيل: ما ذبح على النصب وأنه يعني الأكل لفسق، قوله تعالى: { وان الشياطين ليوحون إلى أوليائهم } أن يلقون إليهم الشبهة، قيل: أهل فارس يلقون إلى مشركي قريش، وقيل: شياطين الجن يوسوسون إلى أوليائهم من الإنس الكفار { وإن أطعمتموهم } في أكل الميتة { إنكم لمشركون }.
[6.122-125]
قوله تعالى: { أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها } الآية، قيل: نزلت في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحياه الله بالرسالة وأبو جهل كالميت بالكفر، وقيل: نزلت في حمزة وأبو جهل وذلك أن أبا جهل آذى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأخبر حمزة وهو على دين قومه فغضب ومعه قوس فضرب بها رأس أبي جهل، وآمن فنزلت الآية، وقيل: نزلت الآية في عمار بن ياسر حين آمن، وقوله: يمشي به في الناس، قيل: القرآن، وقيل: الايمان كمن مثله في الظلمات، قال بعضهم: المثل زائد تقديره كمن في الظلمات، وقال بعضهم: كمن مثله لو شبه بشيء كان يشبهه في الظلمات ظلمة الكفر والضلال ليس بخارج منها يعني لم يبصر رشدا ولم يعرف حقا { كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون } ، قيل: زينوا لأنفسهم كما يقال فلان معجب بنفسه { وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها } أي خلقناهم وجعلناهم كبراء عظماء بأن أنعمنا عليهم بالأموال والأولاد وأمهلناهم فصاروا مجرمين ماكرين، وقيل: معناه لئلا يمكروا فمكروا { وما يمكرون إلا بأنفسهم } لأن وبال ذلك يعود عليهم { وما يشعرون } أنه كذلك { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } الآية نزلت في الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني اكبر منك سنا وأكثر منك مالا فنزلت، وقيل: نزلت في أبي جهل قال والله لا نؤمن به ولا نتبعه حتى يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت { سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله } ، قيل: ذل وهوان، وقيل: قتل { و } في الآخرة { عذاب شديد } وقيل: صغار في الدنيا، وعذاب في الآخرة { بما كانوا يمكرون } قوله تعالى: { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام } يعني يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف وشرح صدره للإسلام فيلطف به حتى يرغب في الإسلام { ومن يرد أن يضله } أي يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له { يجعل صدره ضيقا حرجا } يمنعه ألطافه حتى يقسو قلبه { كأنما يصعد في السماء } أي كما يحاول أمرا غير ممكن لأن صعود السماء مثل مما يبعد ويمتنع يعني يشق عليه الايمان كما يشق عليه صعود السماء { كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون } ، قيل: أراد بالرجس العذاب في الآخرة، وقيل: فمن يرد الله أن يهديه إلى الثواب والجنة يوم القيامة جزاء على ما فعله لأنه مؤمن يستحق الثواب يشرح صدره في الدنيا بالالطاف وزيادة الهدى للإسلام أي لأجل الإسلام، ومن يرد أن يضله عن الثواب وطريق الجنة يوم القيامة جزاء على كفره لأنه يستحق العذاب يجعل صدره ضيقا شديد الضيق، والحرج الشديد: الضيق.
[6.126-131]
{ وهذا صراط ربك مستقيما } يعني القرآن { قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون لهم دار السلام } يعني لهؤلاء الذين تدبروا الحق وعرفوه وتبعوه دار السلام يعني السلامة الدائمة الخالصة من كل آفة، وقيل: أراد الجنة سماها الله دار السلام لسلامتها من الآفات والعاهات، وقيل: لأنها سلمت من أعداء الله تعالى، قوله: { وهو وليهم بما كانوا يعملون } ، قيل: في الدنيا بالتوفيق وفي الآخرة بالجزاء { ويوم نحشرهم جميعا } يعني الجن والإنس فيجمعهم الله تعالى في موقف القيامة فيقول: { يا معشر الجن } أي يا جماعات الجن { قد استكثرتم من الإنس } ، قيل: استكثرتم من اضلالهم وإغوائهم { وقال أولياؤهم من الانس } يعني من أطاعهم { بنا استمتع بعضنا ببعض } أي انتفع بعضنا ببعض مما حصل له من السرور، وقيل: تعاونا على ما كنا عليه من الإضلال في الدنيا { وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا } أي وقتنا ومدتنا الذي أجلت لنا، قيل: وقت الموت، وقيل: وقت الحشر، فقال تعالى: { النار مثواكم خالدين فيها } أي دائمين، قوله تعالى: { إلا ما شاء الله } من تجديد الجلود بعد إحراقها، وقيل: إلا ما شاء الله من بعثهم ووقت الحساب الى دخول جنهم، وقيل: إلا ما شاء الله الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب إلى عذاب { وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا } بمعنى نخليهم حتى يتولى بعضهم بعضا كما فعل الشياطين وغواة الانس، ويجعل بعضهم أولياء بعض يوم القيامة، وقرناء كما كانوا في الدنيا، أو نولي بعضهم بعضا في النار، وروى الثعلبي قال: يسلط بعضهم على بعض يدل عليه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من أعان ظالما سلطه الله عليه "
، وقال مالك بن دينار: قرأت في كتب الله المنزلة أن الله تعالى قال: أفني أعدائي بأعدائي ثم أفنيهم بأوليائي، قال: وروي أيضا في تفسيره: إن الله تعالى إذا أراد بقوم خيرا ولى أخيارهم، وإذا أراد بقوم شرا ولى عليهم أشرارهم، وفي الخبر: أن الله تعالى يقول: أنا الله لا إله إلا أنا مالك الملوك، قلوبهم ونواصيهم بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليهم رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليهم نقمة، فلا تشغلوا بسب الملوك ولكن توبوا إلي أعطفهم عليكم قوله تعالى: { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون } يقرأون { عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا } وهو يوم القيامة واختلف العلماء في الجن هل أرسل إليهم رسولا أم لا؟ وهل كان فيهم مؤمن قبل بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ فقال الضحاك: ألم تسمع إلى قوله تعالى: { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم } يعني بذلك رسلا من الإنس ورسلا من الجن، وقيل: كانت الرسل قبل مبعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يبعثون إلى الإنس والجن جميعا، وعن مجاهد: الرسل من الإنس والنذر من الجن، ثم قرأ قوله تعالى:
ولوا إلى قومهم منذرين
[الأحقاف: 29] وعن ابن عباس: هم الذين استمعوا القرآن خاصة رواه في الثعلبي والله اعلم { قالوا شهدنا على أنفسنا } إقرار منهم بأن حجة الله لازمة لهم وانهم محجوجون بها { وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين } { ذلك ان لم يكن ربك مهلك القرى بظلم } يعني من غير تذكير منه وتنبيه { وأهلها غافلون } عن الحجج، وقيل: بظلم منه حتى يبعث إليهم رسولا.
[6.132-139]
{ ولكل درجات } جزاءا من أجل ما عملوا يعني من الثواب والعقاب على قدر ما عملوا في الدنيا { وربك الغني } عن خلقه { ذو الرحمة } لهم { إن يشأ يذهبكم } يهلككم، وقيل: يميتكم ويستخلف من بعدكم ويأتي بقوم أطوع منكم { كما أنشأكم } خلقا { من ذرية قوم آخرين إن ما توعدون لآت } كائن لا محالة { وما أنتم بمعجزين } يعني بفائتين { قل } يا محمد { يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل } يعني على مكانتي بما أمرني ربي وهذا وعيد وتهديد لا أمر اباحة واطلاق، كقوله: اعملوا ما شئتم { إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار } يعني الجنة { إنه لا يفلح الظالمون } ، قوله تعالى: { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } الآية نزلت في المشركين قال المفسرون: كانوا يجعلون سائر أنعامهم وأموالهم نصفين نصيبا لله ونصيبا للأوثان فما كان لله أطعم الضيفان والمساكين وما كان للأوثان أنفق عليها، ولا يأكلون من ذلك كله شيئا وإن سقط من نصيب الأوثان شيء إلى نصيب الله ردوه وقالوا: إنه فقير وإن سقط شيء من نصيب الله تعالى إلى نصيب الأوثان لم يردوه وقالوا: انه غني وهو معنى قوله: { فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون } وإذا كثر الذي لله قالوا: ليس لآلهتنا بد من النفقة فأخذوا الذي لله وأنفقوه على آلهتهم، وإذا أجدب الذي لله وكثر الذي لآلهتم قالوا: لو شاء الله لأزكا الذي له فلا يردون عليه شيئا مما للآلهة، وإذا أصابتهم السنة استعانوا بما حرثوا لله تعالى ووفروا ما حرثوا لآلهتهم وذلك قوله تعالى: { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } يعني الأوثان، وقوله: بزعمهم قال في الثعلبي عن شريح القاضي: لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا والزعم أيضا الطمع، وقوله تعالى: { ساء ما يحكمون } أي يقصون، قوله تعالى: { وكذلك زين لكثير من المشركين } والمعنى أن شركاءهم من الشياطين هم الذين زينوا لهم بالوسوسة، وقيل: الذي زين لهم ذلك قوم كانوا يخدمون الأوثان، وقيل: كان الرجل في الجاهلية يحلف لأن ولد له كذا غلام لينحرن أحدهم كما فعل عبد المطلب، وكذلك دفنهم البنات { وليلبسوا عليهم دينهم } ، قيل: ليخلطوا وليوهموا عليهم { ولو شاء الله ما فعلوه } لو شاء أن يمنعهم قهرا ويلجئهم إلى تركه لفعل { وقالوا } يعني المشركين { هذه أنعام وحرث } يعني زرع { حجر } وأصل هذا المنع يقال حجرت على فلان كذا أي منعته { لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم } يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء { وأنعام حرمت ظهورها } يعنون البحائر والسوائب والحام { وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها } يعنون في الذبح وإنما يذكرون عليها اسماء الأصنام، وقيل: لا يحجون عليها، والمعنى أنهم قسموا أنعامهم تعالوا هذه انعام حجر، وهذه أنعام حرمت ظهورها، وهذه أنعام لا يذكرون اسم الله عليها { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا } ، قيل: الالبان، وقيل: الأجنة، ومعنى خالصة لذكورنا لا يشاركهم فيه أحد من النساء ومحرم على أزواجنا يريد النساء { وان يكن ميتة } يعني وإن ماتت النوق البحائر التي حرموا ألبانها على النساء اشتركوا في لحومها رجالهم ونساءهم عن ابن عباس، وقيل: ان يكن الأجنة ميتة { فهم فيه شركاء } الرجال والاناث { سيجزيهم وصفهم } الكذب على الله تعالى كقوله:
وتصف ألسنتهم الكذب
[النحل: 62] { إنه حكيم عليم }.
[6.140-141]
{ قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم } قيل: انها نزلت في ربيعة ومضر وغيرهم ممن دفن بناته خوف الفقر والسبي، وروي أن قيس بن عاصم قتل من بناته سبعين بنتا فسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فقال: هل لي من توبة؟ فقال له أبو بكر: لم قتلتهن؟ فقال: لا ينكحهن سفلة مثلك { وحرموا ما رزقهم الله } قيل: هو الحرث الذي زعموا أنه حجر، وقيل: الأنعام، وقيل: السائبة والوصيلة والحام { افتراء على الله } كذبا حيث قالوا: ان الله تعالى أمرهم بذلك { وهو الذي أنشأ } أي اخترع { جنات معروشات } أي مرفوعات بدعائم مسموكات { وغير معروشات } متروكات على وجه الأرض لم يعرش، وقيل: ما عرشه الناس من الكرم وغير معروشات ما خرج من البراري والجبال من الثمار والأشجار، وعن ابن عباس: معروشات ما انبسط على وجه الأرض وانتشر مما يعرش مثل الكرم والقرح والبطيخ وهي معروشات الكرم منها خاصة منها ما عرش ومنها ما لم يعرش وقرأ علي (عليه السلام) مغروسات بالغين والسين المهملة { والنخل والزرع مختلفا أكله } في اللون والطعم الحلو والحامض { والزيتون والرمان متشابها } في المنظر { وغير متشابه } في المطعم { وآتوا حقه يوم حصاده } أي وقت قطع الزرع، وقيل: غير الزكاة وقال مجاهد: إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم منه { ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين } والآية نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري أدخل المساكين على نخل له وكانت خمسمائة فأتوا على جميعها وعاد عليه من ذلك مكروه، وقيل: لا تسرفوا بأن تضعوه في غير موضعه، وقيل: لا تسرفوا بالأكل قبل الحصاد كي لا تؤدي إلى بخس حق الفقراء.
[6.142-145]
قوله تعالى: { ومن الأنعام حمولة وفرشا } أي وأنشأ من الأنعام ما تحمل الأثقال وما يفرش للذبح، وما ينسج من وبره وصوفه وشعره للفرش، وقيل: الحمولة الكبار الذي تصلح للحمل والفرش الصغار كالفصلان والغنم والعجاجيل { ولا تتبعوا خطوات الشيطان } في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية ثم بين الحمولة والفرش، فقال تعالى: { ثمانية أزواج } أي وأنشأنا من الأنعام ثمانية أزواج يريد الذكر والأنثى كالجمل والناقة والثور والبقرة والكبش والنعجة والتيس والعنز،وروي أنه أتى مالك بن عوف الجشمي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزول هذه الآيات وكان رجلا ذا رأي فقال: يا محمد انك تحرم أشياء كانت أباؤنا تحللها وتحل أشياء كانت تحرمها فلم ذلك؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من قبل الذكر أم من قبل الانثى أم من قبل ما اشتملت عليه أرحام الانثيين؟ "
فسكت مالك ثم تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { قل } يا محمد { آلذكرين حرم ام الانثيين } يعني ذكر الضأن والمعز حرمهما الله تعالى أو أنثاهما فان كانت الذكور حرمهما في مواكل ذكر وان كانت الأنوثة فحرموا كل انثى { أما اشتملت عليه أرحام الانثيين } وهو النعاج والماعز أم حرم ما خصهما الرحم من الانثيين ولا تشتمل الرحم إلا على اما ذكر أو انثى فلم تحرمون بعضا وتحلون بعضا؟ { نبئوني بعلم } أي أخبروني بأمر معلوم من جهة الله تعالى يدل على تحريم ما حرمتم { ان كنتم صادقين } في ان الله تعالى حرمه، وكانوا يقولون ان الله حرم هذا الذي نحرمه فقال تعالى: { أم كنتم شهداء } على معنى عرفتم الوصية مشاهدين على أنكم لا تؤمنون بالله ورسوله { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } ينسب إليه تحريم ما لم يحرم { ليضل الناس بغير علم } وهو عمرو بن لحي الذي بحر البحائر وسيب السوائب ثم بين سبحانه المحرمات فقال: { قل } يا محمد { لا أجد فيما أوحي إلي محرما } أي شيئا محرما { على طاعم يطعمه } أكل يأكله، قوله تعالى: { إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا } أي مصبوبا كدم العروق فأما الكبد والطحال فدم جامد غير مسفوح، وكذا الدم الذي يخالط اللحم فليس بمسفوح { أو لحم خنزير فانه رجس } اي نجس خبيث حرام { أو فسقا } معصية { أهل لغير الله به } يعني ما ذبح وذكر عنده اسم الأوثان { فمن اضطر } قيل: بلغ الضرورة في المجاعة { غير باغ } طالب التلذذ بأكله { ولا عاد } مجاوز قدر حاجته { فان ربك غفور رحيم }.
[6.146-152]
{ وعلى الذين هادوا حرمنا } الآية قيل: ان العرب قالوا: انا علمنا تحريم السائبة من أهل الكتاب فأكذبهم الله تعالى وبين ماحرم على اليهود ونزلت { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } هو ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطيور مثل الإبل والنعام والأوز والبط وكذلك شحوم البقر والغنم إلا ما استثنى وهو ما على الظهر { أو الحوايا } قيل: هي الامعاء التي عليها الشحم { أو ما اختلط بعظم } مثل شحم الالية { ذلك } التحريم { جزيناهم ببغيهم } بظلمهم عقوبة لهم بقتل الانبياء وصدهم عن سبيل الله واخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس، قوله تعالى: { سيقول الذين اشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا ءاباؤنا } وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم يعنون بكفرهم وتمردهم ان شركهم وشرك ابائهم وتمردهم وتحريم ما احل الله تعالى بمشيئته وارادته لولا مشيئته لم يكن شيء من ذلك وهذا مذهب المحبرة بعينه { كذلك كذب الذين من قبلهم } أي جاؤوا بالكذب لأن الله تعالى ركب في العقول وانزل في الكتب مادل على عباده وبراءته من مشيئة القبائح واخبرت الرسل بذلك { حتى ذاقوا بأسنا } يعني حتى أنزلنا عليهم العذاب بتكذيبهم { قل هل عندكم من علم } يعني من معلوم يصح الاحتياج به فيما قلتم { فتخرجوه لنا } وهذا امر آلهتكم { ان تتبعون إلا الظن } من غير علم ولا يقين { وان انتم إلا تخرصون } تكذبون في هذه المقالة { قل فلله الحجة البالغة } يعني الكافية على خلقه { فلو شاء لهداكم أجمعين } يعني لو شاء لألجأهم إلى ذلك قسرا { قل } يا محمد { هلم شهداءكم } أي احضروا شهداءكم على ما ادعيتم { الذين يشهدون ان الله حرم هذا } وقيل: احضروا حجتكم على ما قلتم { فإن شهدوا فلا تشهد معهم } يعني لا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم لأنه إذا سلم فكأنه شهد معهم { ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا } الآية، وقوله: { يعدلون } أي يشركون، قوله تعالى: { ألا تشركوا به شيئا } احكام هذه الآيات الظاهرة من قوله تعالى: { اتل ما حرم ربكم عليكم } إلى قوله تعالى: { وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون } { وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } عن إبن عباس هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب، وقيل: هن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار، وعن كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده ان هذه الآيات لأول شيء في التوراة { ولا تقتلوا أولادكم } أي لا تدفنوا بناتكم { من إملاق } يعني خوف الفقير { ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن } أي ما أعلنتم وما أسررتم { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } وهي كل نفس مؤمنة أو معاهدة إلا بالحق يعني ما أباح قتلها وهو الارتداد والقصاص والرجم ذلك المذكور لكم { وصاكم به لعلكم تعقلون } { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } أنفع وأعدل، وقيل: حفظ ماله إلى أن يكبر فيسلم إليه { وإذا قلتم فاعدلوا } أي أصدقوا في مقالتكم { ولو كان ذا قربى } أي ذا قرابة منكم { وبعهد الله أوفوا } ، قيل: عهده في فرائضه وما أوجب عليكم فافعلوا، وقيل: ما أوصى به في هذه الآيات.
[6.153-158]
قوله تعالى: { وان هذا صراطي مستقيما } مستويا { ولا تتبعوا السبل } وهي الطرق المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلال { فتفرق بكم عن سبيله } يعني إذا تركتم طريق الجنة يفتح عليكم الباطن { ذلكم } الذي تقدم ذكره { وصاكم به لعلكم تتقون } { ثم آتينا موسى الكتاب } يعني ثم قل لهم يا محمد آتينا موسى الكتاب لأن موسى قبل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: ثم بمعنى الواو وآتينا موسى الكتاب لأنه حرف عطف { تماما على الذي أحسن } يعني تماما على احسان الله تعالى الى أنبيائه. وقيل: تماما لكرامته في الجنة على احسانه في الدنيا، وقيل: تقديره من أحسن في الدنيا تمت عليه كرامة الله في الآخرة، وقيل: تماما على إحسان الله تعالى إلى موسى بالنبوة وغيرها { وتفصيلا } يعني بيانا { لكل شيء } يحتاج إليه من شرائع الدين { وهدى } يعني القرآن { كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه } واعملوا بما فيه { إن تقولوا } يعني لئلا تقولوا { إنما أنزل الكتاب على طائفتين } يعني أن تقولوا يا أهل مكة إنما أنزل الكتاب على طائفتين { من قبلنا } يعني اليهود والنصارى { وان كنا عن دراستهم } يعني قراءتهم الكتب { لغافلين } { او تقولوا } يا أهل مكة { لو أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } اهدى من الطائفتين إلى الحق تعالى { فقد جاءكم بينة } أي حجة وبيان يعني القرآن { فمن أظلم } أشد ظلما وعدوانا وأخطاء فعلا { ممن كذب بآيات الله } جحد بها يعني القرآن ومن آياته وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { وصدف عنها } يعني أعرض { سنجزي الذين يصدفون } يعرضون { عن آياتنا } وحجتنا مكذبين بها { سوء العذاب } أشده { بما كانوا يصدفون } أي يعرضون عن محمد والقرآن { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة } قيل: ملائكة الموت، وقيل: ملائكة العذاب { أو ياتي ربك } يعني أمر ربك { أو يأتي بعض آيات ربك } يعني طلوع الشمس من مغربها { يوم يأتي بعض آيات ربك } اراد تأتي القيامة والهلاك الكلي، وبعض الآيات أشراط الساعة كطلوع الشمس من المغرب وغير ذلك،
" وعن البراء بن عازب كنا نتذاكر الساعة اذ أشرف علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " ما تذكرون؟ " قلنا: نتذاكر أمر الساعة، فقال: " إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان ودابة الأرض وخسفا بالمشرق وخسفا بالمغرب وخسفا بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى (عليه السلام) ونار تخرج من عدن "
وهي آيات ملجئات مضطرة، قال في الثعلبي:
" وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " إذا غربت الشمس رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة فتحبس تحت العرش، فتستأذن من أين تؤمر بالطلوع، أمن مغربها أم من مطلعها؟ فلا يرد لها جواب حتى يوافقها القمر فيسجد معها، فيستأذن من أين يطلع فلا يرد له جواب حتى يحبسا مقدار ثلاث ليال أو ليلتين فلا يعرف مقدار تلك الليلة إلا المجتهدون المتعبدون في الأرض، وهم يومئذ عصابة قليلة فعند ذلك يأمر الله تعالى جبريل فيقول: ان الرب يأمركما أن ترجعا إلى مغربكما فتطلعان منه ولا ضوء ولا نور فيبكيان عند ذلك وجلا من الله تعالى وخوفا من يوم القيامة بكاء يسمعه أهل سموات ومن دونها ويتصارخ أهل الدنيا وتذهل الأمهات عن أولادها ثم لا يقبل لأحد بعد ذلك توبة "
فذلك قوله تعالى: { يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا انا منتظرون } وعيد لهم.
[6.159-165]
{ ان الذين فرقوا دينهم } إختلفوا فيه كما اختلفت اليهود والنصارى، وفي الحديث اختلفت اليهود احدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وقيل: فرقوا دينهم فآمنوا ببعض وقرئ فارقوا دينهم وهي قراءة حمزة والكسائي أي تركوه { وكانوا شيعا } أي فرقا كل فرقة تشيع اماما لها { لست منهم في شيء } قيل : عن السؤال عنهم، وقيل: عن تفريقهم، وقيل: عن عقابهم، وقيل: هي منسوخة بآية السيف، قوله تعالى: { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } وقد وعدنا سبحانه بالواحدة سبعمائة ومضاعفة الحسنات فضل ومكافأة السيئات عدل { وهم لا يظلمون } لا ينقصون من ثوابهم ولا يزاد على عقابهم { قل } يا محمد { إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم } قوله تعالى: { قل ان صلاتي ونسكي } ذبيحتي في الحج وإنما خص الذبيحة لأنهم كانوا يذبحون للأوثان، وقيل: نسكي ديني، وقيل: عبادتي { ومحياي } يعني حياتي { ومماتي } والمراد التسليم لأمر الله تعالى { لا شريك له } قوله: { وانا أول المسلمين } من هذه الأمة { ولا تكسب كل نفس إلا عليها } لا تؤاخذ بما اتت من المعصية، وركبت من الخطيئة سواها { ولا تزر وازرة وزر أخرى } يعني لا يجازى أحد بذنب غيره، قوله تعالى: { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } لأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم النبيين، فخلفت أمته جميع الأمم وجعلهم خلف بعضهم بعضا، وقيل: لأنهم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون، وكل من جاء من بعد من مضى فهو خليفة { ورفع بعضكم فوق بعض درجات } يعني وخالف بين احوالكم فجعل لبعضكم فوق بعض في القوة والرزق والبسطة والعلم والفضل والمعاش { ليبلوكم } أي ليختبركم فيما رزقكم من نعمة الجاه والمال كيف تشكرون تلك النعمة؟ وكيف يصنع الشريف بالوضيع والحر بالعبد والغني بالفقير { ان ربك سريع العقاب } لمن كفر نعمته، وقيل: لأن ما هو آت قريب غفور رحيم لمن قام بشكرها.
[7 - سورة الأعراف]
[7.1-7]
{ المص } قيل: إسم السورة، وقيل: هو كناية عن حروف الهجاء اشارة إلى ان القرآن مركب من هذه الحروف، وقيل: هو إسم لله تعالى { فلا يكن في صدرك حرج منه } قيل: ضيق، وقيل: شك، وسمي الشك حرجا لأن الشاك ضيق الصدر، وقيل: معناه لا يضيق صدرك بانذار من أرسلتك بانذاره وإبلاغ من أمرتك بإبلاغه { وذكرى للمؤمنين } أي موعظة { إتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم } يعني من القرآن والسنة { ولا تتبعوا من دونه } أي من دون الله تعالى أي لا تتبعوا من دونه من شياطين الانس والجن فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع وترك ما أنزل اليكم وأمركم باتباعه، وعن الحسن يابن آدم أمرت بإتباع كتاب الله تعالى وسنة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والله ما أنزلت من آية إلا وهو يحب ان يعلم فيمن أنزلت وما معناها { وكم من قرية } أي من أهل قرية { أهلكناها } بالعذاب، قوله تعالى: { فجاءها بأسنا } قيل: عذاب الله، وقيل: اهلكناها بإرسال الملائكة فجاءها العذاب { بياتا } أي ليلا { او هم قائلون } أي وقت القائلة وهو نصف النهار وإنما خص الوقتين لأنهما وقت راحة، قال: أخذ بالشدة فيه أعظم في العقوبة { فما كان دعواهم } أي قولهم ودعاءهم { إلا ان قالوا إنا كنا ظالمين } وعن إبن مسعود عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" ما هلك قوم حتى تعذروا من أنفسهم " قلت: كيف يكون ذلك؟ فتلا هذه الآية "
رواه في الثعلبي { فلنسألن الذين أرسل إليهم } يعني الأمم عن إجابتهم الرسل { ولنسألن المرسلين } الأنبياء عن تبليغهم الأمم قيل: نسأل الأمم ما أجبتم المرسلين؟ وما فعلتم في إجابة الرسل؟ وقيل: نسأل الأمم عن الإجابة والرسل عن التبليغ، وقيل: سؤال الأمم سؤال توبيخ وسؤال الرسل سؤال شهادة على الخلق { فلنقصن عليهم } على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم { وما كنا غائبين } عنهم وما وجد منهم.
[7.8-18]
{ والوزن يومئذ الحق } يعني وزن الأعمال والتمييز بين راجحها وخفيفها، واختلف في كيفية الوزن، فقيل: توزن صحائف الأعمال بميزان له لسان وكفتان ينظر إليه الخلائق، تأكيدا للحجة واظهارا للنصفة وقطعا للمعذرة { فمن ثقلت موازينه } قال مجاهد: حسناته { ولقد مكناكم في الأرض } مكانا وقرارا وملكناكم فيها واقدرناكم على التصرف فيها { وجعلنا لكم فيها معايش } جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب { قليلا ما تشكرون } على نعمه { ولقد خلقناكم } يعني خلقنا اباكم آدم { ثم صورناكم } أي صورنا اباكم { ثم قلنا } الآية، وقيل: خلقنا أباكم آدم ثم صورناكم في ظهره { ثم قلنا للملائكة } { اسجدوا لآدم فسجدوا إلا ابليس لم يكن من الساجدين } لآدم (عليه السلام) فقال الله تعالى لإبليس لعنه الله حين امتنع من السجود لآدم (عليه السلام): { ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه } ، قيل: قاله على لسان بعض ملائكته، وقيل: بل قاله الله سبحانه ودل المعجز على أنه كلامه { قال فاهبط } أي انزل وانحدر { منها } ، قيل: من السماء، وقيل: من الجنة، وقيل: من الدرجة الشريفة { قال انظرني } أي امهلني وأخرني ولا تميتني { إلى يوم يبعثون } من قبورهم وهو يوم القيامة { قال إنك من المنظرين } ومتى قيل: هل خاطبه بهذا؟ قيل: يحتمل ذلك، وقيل: أمر ملكا يخاطبه بذلك، قال في الحاكم: ومتى قيل: هل يجوز إجابة دعاء الكافر؟ قلنا: لا لأن ذلك اكرام وتعظيم ولذلك يقال: فلان مستجاب الدعوة، وقد قيل: إن إبليس الملعون سأل الانظار إلى يوم القيامة فمنعه الله تعالى ذلك وأنظره إلى يوم الوقت المعلوم وهو وقت موته، وقيل: النفخة الأولى، قال: { فبما أغويتني } ، قيل: جنبتني من رحمتك، وقيل: يجوز أن يكون هذا مذهب ابليس كما أنه مذهب المحبرة إضافة الاغواء إلى الله تعالى { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } طريقك المستوي { ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم } يعني من الجهات الأربع التي يأتي منها العدو في الأغلب وهذا مثل للوسوسة وقد قيل: لآتينهم من قبل دنياهم وآخرتهم، ولم يذكر من فوقهم لأن رحمة الله تنزل عليهم من فوقهم { ولا تجد أكثرهم } أكثر بني آدم { شاكرين } لنعمتك { قال أخرج منها } ، قيل: قاله على لسان بعض الملائكة، قيل: من الجنة، وقيل: من السماء، وقيل: من المنزلة الرفيعة التي كانت له { مذؤوما } ، قيل: مهانا، وقيل: لعينا، وقيل: مطرودا لمن تبعك أي أطاعك واقتدى بك منهم من بني آدم.
[7.19-25]
قوله تعالى: { ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة } أي آدم وحوى، والجنة قيل: هي جنة في السماء { فكلا من حيث شئتما } من نعيمها { ولا تقربا هذه الشجرة } ، قيل: هي العنب، وقيل: التين، وقيل: البر، وقيل: غير ذلك { فتكونا من الظالمين } لأنفسكما بأكلها وهذا وعيد من الله تعالى { فوسوس لهما الشيطان } يعني لآدم وحوى { ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوءاتهما } أي ليظهر ما ستر من عوراتهما { وقال } يعين إبليس: { ما نهاكما ربكما } يعني آدم وحوى { إلا ان تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين } يعني إن من أكل من هذه الشجرة ففي حكم الله تعالى أن يصير ملكا أو من الخالدين الدائمين الذين لا يموتون { وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } اقسم لهما بالنصيحة أي حلف لهما بالله تعالى حتى خدعهما، قال خالد بن زهير:
وقاسمهما بالله جهدا لأنتم
ألذ من السلوى إذا ما شورها
قال قتادة: حلف لهما بالله حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله وقال: إني خلقت قبلكما وإني أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما { فدلاهما } اي دلاهما من الجنة الى الارض، وقيل: أوقعهما بالمعصية يعني خدعهما { بغرور فلما ذاقا الشجرة } أكلا منها ووصلت إلى بطونهما { بدت لهما } ظهرت { سوءاتهما } أي عوراتهما، قيل: تهافت عنهما اللباس، وقيل: كان لباسهما من نور، وقيل: الأظفار وإنما يخدع المؤمن بالله { وطفقا } أقبلا { يخصفان } أي يرفعان ويلزقان { عليهما من ورق الجنة } ورقة فوق ورقة على عوراتهما ليستترا بهما كما يخصف النعل بأن يجعل طرفه على طرفه من ورق الجنة، قيل: كان من ورق التين، روي أنه كان كالثوب، فإن قيل: كيف وسوس لهما وهما في الجنة؟ قيل: وسوس وهو في الأرض فوصلت الوسوسة إليهما، وقيل: كانا يخرجان إلى السماء فلقاهما هناك، وقيل: خاطبهما من باب الجنة وقد تقدم ذكر هذه القصة والفائدة في إعادتها أن القرآن نزل في بضع وعشرين سنة والعوارض تعرض والوفود تفد فكانت القصة تعاد ليسمع من لا يسمع، قوله: { وناداهما ربهما الم أنهكما عن تلكما الشجرة } عتاب من الله تعالى: { وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } ، فقال: بلى وعزتك ولكن ما ظننت أن أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا، قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ثم لا تنال العيش إلا كدا، فأهبط وعلم صنعة الحديد، وأمر بالحرث فحرث وسقى وذرا وحصد وداس وعجن وخبز، قوله تعالى: { قالا ربنا ظلمنا أنفسنا } بالمعصية { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } { قال اهبطوا } خطاب لآدم وحوى وإبليس { بعضكم لبعض عدو } يعني آدم وذريته وابليس وحزبه عدو لآدم وذريته { ولكم في الأرض مستقر } يعني موضع استقرار { ومتاع إلى حين } إلى وقت انقضاء آجالكم { قال فيها تحيون وفيها تموتون } يعني في الأرض تعيشون وفيها تموتون { ومنها تخرجون } عند البعث.
[7.26-30]
{ يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا } الآية نزلت لما كانوا يطوفون بالبيت عراة فنهاهم الله تعالى عن ذلك، يا بني آدم خطاب عام، قد أنزلنا مع آدم وحوى حين أهبطا، وقيل: معناه أنه ينبت بالمطر الذي ينزل، وقيل: خلقنا لكم، وقيل: ألهمناكم صنعتها واللباس ما يلبس من الثياب وغيرها { يواري سوءاتكم } يعني عوراتكم { وريشا } الريش لباس الريشة، وقيل: هو المال استعير من ريش الطائر لأنه ريشه { ولباس التقوى ذلك خير } ، قيل: العمل الصالح ويدخل فيه جميع أنواع الخير، وقيل: هو الصوف والخشن من الثياب، وقيل: لباس الحرب والدرع وغيرها، وقيل: ستر العورة، وقيل: خشية الله تعالى { يا بني آدم } خطاب لجميع المكلفين وعظة لهم { لا يفتننكم الشيطان } لا يضلنكم عن الدين ولا يصرفنكم عن الحق، قوله تعالى: { إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم } قبيله: أتباعه، من الجن والإنس، ومتى قيل: لم يرونا ونحن لا نراهم؟ قيل: لأن الله تعالى جعل لأبصارهم قوة شعاع يرى بعضهم بعضا ويروننا وليس لأبصارنا تلك القوة، وعن مالك بن دينار: أن عدوا يراك ولا تراه لشديد الموتة إلا من عصمه الله تعالى { إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون } ، قيل: حكمنا وبينا أنهم يتناصرون على الباطل { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } ، إن قيل: من أين أخذها أباؤكم قالوا: الله أمرنا بها، وقيل: أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء، ويقولون: نطوف كما ولدنا، وعن الحسن: إن الله تعالى بعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى العرب وهم قدرية محبرة يحملون ذنوبهم على الله تعالى وتصديقه، قوله تعالى: { وإذا فعلوا فاحشة } والفاحشة اسم جامع لكل المعاصي والقبائح، وقيل: هو الشرك، وقيل: أن أهل الجاهلية أهل أخبار قالوا: لو كره الله منا ما نحن عليه من الدين لنقلنا عنه، فذلك قوله تعالى: { والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء } أي بالقبائح، وكفى به ردا على أهل الخير { أتقولون على الله ما لا تعلمون } { قل } يا محمد { أمر ربي بالقسط } اي بالعدل، وقيل: بالتوحيد { وأقيموا وجوهكم } بالاخلاص لله سبحانه عند الصلاة وفي السجود { وادعوه } واعبدوه { مخلصين له الدين } في الطاعة والعبادة { كما بدأكم } خلقكم أحياء لا من شيء أولا { تعودون } أحياء بعد الموت والفناء، وقيل: تعودون على ما أنتم عليه المؤمن على إيمانه والكافر على كفره { فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة } ، قيل: المراد بالهدى الدلالة وذلك أن المؤمن نظر فعرف وهؤلاء لم يعرفوا، وقيل: الهدى إلى طريق الثواب والضلال عنه بالعقاب في النار { إنهم اتخذوا الشياطين أولياء } يعني يوم القيامة بالطاعة فيما أمروهم به.
[7.31-36]
قوله تعالى: { يا بني آدم خذوا زينتكم } أي ريشكم ولباس زينتكم { عند كل مسجد } أي كلما صليتم، والآية نزلت فيمن كان يطوف عريانا ويدع ثيابه وراء المسجد وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت عنه، وقيل: إنما فعلوا ذلك تفاؤلا ليتعروا عن الذنوب كما تعروا عن الثياب، وقيل: الزينة المشط وقال مجاهد: هو ما يواري عورتك ولو عباءة، وقيل: الطيب، وكان بنو عامر لا يأكلون الطعام الا قوتا في أيام حجهم، ولا يأكلون دسما يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون: إنا أحق أن نفعل، فنزلت الآية فقيل لهم: { كلوا واشربوا } ، وعن ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة، وقيل: الإسراف ما قصرت به عن حق الله تعالى وأنفق في معصية الله تعالى، وقيل: { ولا تسرفوا } لا تحرموا الحلال ويروى أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين: ليس في كتابكم شيء من علم الطب، والعلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان؟! فقال له: قد جمع الله الطب كله في نصف آية فقال: ما هي؟ قال: قوله تعالى: { كلوا واشربوا ولا تسرفوا } فقال النصراني: لا يؤثر عن نبيكم شيء في علم الطب؟ فقال: قد جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الطب كله في ألفاظ يسيرة قال: ما هي؟ قال:
" المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء واعط كل بدن ما عودته "
فقال النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } الثياب وكل ما يتجمل به { والطيبات من الرزق } وهي المستلذات من المطاعم والمشارب، وقيل: هو الحلال والوجه الأول قاله الحاكم { قل } يا محمد { هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة } يعني انها في الدنيا مشتركة بين المؤمن والكافر وفي الآخرة خالصة لهم دون أعدائهم المشركين { قل } يا محمد { إنما حرم ربي الفواحش } يعني جميع القبائح والمحظورات، وقيل: هو الزنا، وقيل: هو الطواف عريانا، وقيل: { ما ظهر منها } أفعال الجوارح { وما بطن } أفعال القلوب، وقيل: ما ظهر ما جاهر، وما بطن ما استتر بعضهم عن بعض { والإثم } الذنوب والمعاصي { والبغي } الظلم، وقيل: البغاء لا يكون إلا مذموما { وإن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا } حجة وبرهانا { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } في تحريم الملابس والمآكل { ولكل أمة أجل } مدة، قوله تعالى: { يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم } ، قيل: هو خطاب لجميع المكلفين من بني آدم وهو معطوف على ما تقدم من خطاب آدم وبنيه يعني يقصون عليكم القرآن، قوله تعالى: { والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها } يعني تكبروا عن قبول الحق، وقيل: تكبروا عن الايمان والقرآن.
[7.37-41]
قوله تعالى: { أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } أي حظهم مما كتب لهم من الأرزاق قاله جار الله لا غير، وقيل: أعمالهم التي عملوها وكتب عليهم من خير أو شر فمن عمل شيئا من خير أو شر جزي به { حتى إذا جاءتهم رسلنا } يعني الملائكة { يتوفونهم } عند الموت { قالوا أين ما كنتم تدعون } يعني تعبدون { من دون الله قالوا ضلوا عنا } ضاعوا ولا ندري أين ذهبوا يعني الأوثان، وبطلت عبادتنا { قال ادخلوا في أمم } ، قيل: القائل لهم هو الملائكة، وقيل: القائل الله عز وجل والأمم الجماعات، قوله تعالى: { كلما دخلت أمة لعنت أختها } المشركة تلعن المشركة، واليهودية تلعن اليهودية، والنصرانية تلعن النصرانية، وكذلك المجوس والصابئون ويلعن الأتباع القادة يقولون: لعنكم الله أنتم غررتمونا، قال الله تعالى: { حتى إذا اداركوا فيها جميعا } أي تلاحقوا واجتمعوا في النار، وقيل: حطوا في درك من الدركات { قالت أخراهم لأولاهم } ، قيل: الأتباع للقادة، وقيل: أولاهم الذين يدخلون النار أولا وأخراهم الذين يدخلون آخرا { هؤلاء أضلونا } يعني هؤلاء القادة الرؤساء ومن شرع الضلال دعونا إلى الضلال، وقيل: منعونا من اتباع الحق { فآتهم } أي فاعطهم { ضعفا } من النار { قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون } أي كل واحد لا يعلم ما بصاحبه من العذاب وقالت أولاهم القادة لأخراهم الاتباع جوابا لهم: { فما كان لكم علينا من فضل } لأنكم كفرتم كما كفرنا، قوله تعالى: { واستكبروا عنها } ، قيل: عن القرآن، وقيل: هو عام { لا تفتح لهم أبواب السماء } ، قيل: انه يفتح لروح المؤمن ولا يفتح لروح الكافر، وقيل: لا تفتح لدعائهم وأعمالهم، وقيل: لا تصعد بها الملائكة لأن أرواحهم وكتبهم في سجين { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } ، قيل: حتى يدخل الجمل في ثقب الابرة وهذا مثل للبعد، والخياط المخيط الإبرة ذكره الثعلبي، قال الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي
وصار القار كاللبن الحليب
{ لهم من جهنم مهاد } يعني فراش من النار { ومن فوقهم غواش } ظلل منها، وقيل: الغواش اللحف { وكذلك نجزي الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بالمعاصي وغيرها.
[7.42-49]
قوله تعالى: { لا نكلف نفسا إلا وسعها } طاقتها وسعتها { ونزعنا } أي أذهبنا { ما في صدروهم من غل } غش وحقد وعداوة، وقيل: هو الحسد { تجري من تحتهم الأنهار } أي من تحت أبنيتهم { وقالوا الحمد لله الذي هدانا } أي وفقنا وأرشدنا { لهذا } يعني لطريق الجنة { لولا أن هدانا الله } أي وفقنا { ونودوا أن تلكم الجنة } يناديهم مناد من جهة الله تعالى أن تلكم أي هذه { أورثتموها } أعطيتموها، وقيل: صارت لكم إرثا كما يصير المال الميراث لأهله، وقيل: ورثتم منازل الكفار التي حرموها لكفرهم، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لكل مكلف موضع في الجنة فإذا كفر أعطي منزله المؤمن "
{ بما كنتم تعملون } فيقسم بين أهل الجنة منازلهم { قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا } من الثواب { فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا } من العقاب { قالوا نعم } وهو سؤال توبيخ وشماتة وتقرير وإلا فالجميع عالمون بذلك { فأذن مؤذن بينهم } أي نادى مناد من جهة الله تعالى أسمع الفريقين، قوله تعالى: { أن لعنة الله على الظالمين } يعني وجبت لعنة الله يعني عذابه { الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا } يعني يصدون عن دين الله ويطلبونها زيغا وميلا { وبينهما حجاب } أي بين الفريقين، قيل: بين أهل الجنة وأهل النار وهو السور المذكور، قوله تعالى: { فضرب بينهم بسور } { وعلى الأعراف رجال } وعلى ذلك الحجاب رجال وهو السور المضروب بين الجنة والنار وهي أعاليه، استعير من عرف الفرس أو عرف الديك فسمي أعرافا لارتفاعه، وقيل: لأن أهله يعرفون الناس { رجال يعرفون } أهل الجنة وأهل النار، قيل: هم ملائكة يرون في صور الرجال يعرفون أهل الجنة وأهل النار، وروي عن ابن عباس أن الأعراف موضع عال على الصراط عليه العباس وجعفر وحمزة وعلي (رضي الله عنهم) يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسوادها، وقيل: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم { يعرفون كلا بسيماهم } أي يعرفون كل أحد بعلامته قيل: سيماء أهل الجنة ببياض الوجوه وحسن العيون وسيماء أهل النار بسواد الوجوه وزرقة العيون { لم يدخلوها وهم يطمعون } يعني أهل الأعراف، وقيل: أهل الجنة قبل أن يدخلوها وهذا طمع يقين، قوله تعالى: { أهؤلاء الذين أقسمتم } أهؤلاء استفهام والمراد التوبيخ واختلفوا في القائل: أهؤلاء الذين أقسمتم؟ فقيل: هم أصحاب الأعراف يقولون: أهؤلاء يعني أهل الجنة الذين أقسمتم حلفتم يا أهل النار انهم { لا ينالهم الله برحمة } ، وروي: أنهم ينادون على السور علي (عليه السلام) وأصحابه يا وليد يا أبا جهل يا فلان يا فلان ثم ينظرون إلى أهل الجنة فيرون الفقراء الذين كانوا يشتمون فقالوا: أهؤلاء الذين أقسمتم في الدنيا، وقيل: هو كلام أهل الجنة، وقيل: كلام الملائكة ثم يقال لأصحاب الجنة: { ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون }.
[7.50-56]
قوله تعالى: { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة } أي سينادي، { أن أفيضوا علينا } أي صبوا وذكر لفظ الافاضة لأن أهل الجنة في أعلى مكان { قالوا } يعني أهل الجنة { إن الله حرمهما على الكافرين } وروي في تفسير الثعلبي عن ابن عباس أنه سئل: أي الصدقة أفضل؟ قال: الماء أما رأيت أهل النار بما استغاثوا بأهل الجنة فقالوا: أفيضوا علينا من الماء { الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا } وهو ما زين لهم الشيطان { وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم } نفعل لهم فعل الناسين الذين ينسون عبيدهم من الخير ولا يذكرونهم { كما نسوا لقاء يومهم هذا } يعني كما فعلوا بلقائه فعل الناسين له فلم يهتموا به { ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم } أي عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه { هل ينظرون إلا تأويله } يعني إلا عاقبة أمره وما يؤل إليه من تبيين صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد، قال قتادة: تأويله ثوابه، وقال مجاهد: جزاؤه، قوله تعالى: { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } من أيام الدنيا أولها الأحد وآخرها الجمعة، وإنما خلقها في ستة أيام لتشاهد الملائكة حدوث شيء بعد شيء، وقيل: ستة أيام من أيام الآخرة { ثم استوى على العرش } ، قيل: استولى، وقيل: أحدث خلق العرش كما قال تعالى: { ثم استوى إلى السماء } وقيل: العرش الملك، وهو في اللغة السرير { يغشي الليل النهار } أي يلحق الليل بالنهار ويلحق النهار بالليل { يطلبه حثيثا } أي سريعا { مسخرات بأمره } أي بارادته يعني أنها تجري على حسب ما يريد { ألا له الخلق والأمر } قوله تعالى: { ادعوا ربكم تضرعا وخفية } تضرعا تخشعا لله وتذللا في الدعاء وخفية قيل: سرا، وقيل: المتضرع والاخفاء السر يقول: ادعوه سرا وعلانية { إنه لا يحب المعتدين } ، قيل: هو الصياح بالدعاء، وقيل : هو الدعاء على المؤمنين { ولا تفسدوا في الأرض } بالشرك والمعصية والدعاء إلى عبادة غير الله تعالى بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل والامر بالحلال { وادعوه خوفا } من عقابه { وطمعا } في ثوابه بفعل الطاعات، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
" سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما يقرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما يقرب إليها من قول وعمل "
{ إن رحمة الله قريب من المحسنين } ، قيل: المحسنين أعمالهم، وقيل: المحسنين إلى الناس، وقيل: المحسنين إلى من أساء إليهم.
[7.57-64]
قوله تعالى: { وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } أي يجريه ارسالا قدام رحمته وهو المطر { حتى إذا أقلت سحابا ثقالا } يعني بالمطر { سقناه لبلد ميت } يعني إلى البلد الميت { فأنزلنا به } يعني بالسحاب، وقيل: بالبلد { الماء } يعني المطر { كذلك نخرج الموتى } أي كما نخرج النبات بعد أن لم يكن، كذلك نخرج الموتى من الأرض، وروي في الثعلبي عن ابن عباس: إذا مات الناس في النفخة الأولى مطر عليهم أربعين عاما كمني الرجال من تحت العرش يدعى ماء الحيوان فينبتون من قبورهم بذلك كما ينبتون في بطون أمهاتهم، وكما ينبت الزرع من الماء { والبلد الطيب يخرج نباته } يعني الأرض الطيب ترابها { بإذن ربه } يعني بأمره { والذي خبث لا يخرج إلا نكدا } يعني والنكد الذي لا خير فيه، هذا مثل ضربه الله تعالى للكافر والمؤمن والمنافق، لأن المؤمن يخرج منه العمل الصالح وهو عبادة الله تعالى مثل البلد الطيب، والمنافق خبيث لا يخرج منه إلا العمل الخبيث كمثل الأرض السبخة الخبيثة التي لا يخرج نباتها وغلتها إلا نكدا { لقد أرسلنا نوحا إلى قومه } وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس بن مهلايل بن نرد بن فينان بن أنوش بن شيث بن آدم (عليه السلام) قيل: بعث وهو ابن خمسين وقيل: بعث وهو ابن أربع مائة وثمانين سنة ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ثم كان الطوفان وأغرق قومه، وهو ابن ألف وثلاثمائة وسبعين سنة، وعاش بعد الطوفان تسعين سنة، وهو أول نبي بعد إدريس وكان نجارا { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } وهو يوم القيامة، وقيل: يوم نزول العذاب وهو الطوفان الذي أهلكهم الله به { قال الملأ } الأشراف والسادة { انا لنراك في ضلال مبين } أي في ذهاب عن الطريق والصواب، وروي أن الله تعالى بعث نوحا إلى الخلق كافة فدعاهم إلى الله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاما، وكانوا أصحاب أصنام وهي ما عد الله تعالى في سورة نوح: يغوث ويعوق ونسرا، فلما أيس من إيمانهم دعا عليهم فأمره الله تعالى باتخاذ السفينة، وروي أنه كان إذا صاح وهو بالمغرب سمعه من بالمشرق، قوله تعالى: { وأعلم من الله ما لا تعلمون } يعني أعلم من صفات الله تعالى يعني قدرته الباهرة وشدة بطشه على أعدائه، وأن بأسه لا يرد عن القوم المجرمين، وقيل: لم يسمعوا بقوم حل عليهم العذاب قبلهم وكانوا آمنين لا يعلمون ما علمه نوح (عليه السلام) بوحي الله تعالى إليه. { أو عجبتم } الهمزة للإنكار { أن جاءكم ذكر } موعظة { على رجل منكم } يعني على لسان رجل { ليذركم } عذاب الله إن لم تؤمنوا { ولتتقوا } أي ولكي تتقوا { فكذبوه فأنجيناه والذين معه } ، قيل: كان معه أربعون رجلا وأربعون امرأة، وقيل: تسعة بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به { إنهم كانوا قوما عمين } عمي القلوب غير مستبصرين.
[7.65-72]
قوله تعالى: { وإلى عاد } يعني وارسلنا إلى عاد وهو عاد بن عوص بن آدم بن سام بن نوح { أخاهم } في النسب لا في الدين { هودا } وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن آرم بن سام بن نوح، رواه الثعلبي { أفلا تتقون } الله فتوحدوه { إنا لنراك } يا هود { في سفاهة } جهالة { وإنا لنظنك من الكاذبين } إنك رسول الله إلينا وإن العذاب نازل بنا، قوله: { على رجل منكم } يعني نفسه، قوله تعالى: { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح } أي خلفتموهم في الأرض وجعلكم ملوكا في الأرض قد استخلفكم فيها بعدهم، وروي أن عادا كانوا ينزلون الأحقاف من حد اليمن إلى عمان إلى حضرموت، وكانوا ذات بسطة وقوة يعبدون الأصنام، وكان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستون ذراع، فبعث الله إليهم هودا، وكان مؤمنا من أوسطهم نسبا، وأفضلهم دينا وورعا، فدعاهم إلى عدل الله تعالى وتوحيده ووعده ووعيده فكذبوه، فأمسك الله تعالى عنهم المطر ثلاث سنين متواليات فجهدوا، وساق الله إليهم سحابة سوداء فاستبشروا وقالوا: هذا عارض ممطرنا فقال الله تعالى: بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها، روي أن أول من عرف أنها ريح امرأة من عاد فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت فلما أفاقت قالوا: ماذا رأيت؟ قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار، أمامها رجال يرددونها، فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما يعني دائمة فلم تدع من عاد أحدا إلا أهلكته، واعتزل هود ومن آمن معه، ومطرت على عاد وكانت تطير بالابل والرجال في الهوى فدخلوا البيوت فدخلت عليهم فأهلكتهم، واختلفوا في قبر هود فقيل: هو بمكة، وقيل: بحضرموت، وروي أن بين المقام والركن تسعة وتسعون نبيا، وقيل: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا هلك قومه أتى مكة يعبد الله تعالى حتى يموت { وزادكم في الخلق بصطة } أي طولا وقوة وشدة { فاذكروا آلاء الله } أي نعمه عليكم { قال } هود { قد وقع عليكم من ربكم } أي نزل وحل، وقيل: وجب عليكم { رجس } ، قيل: عذاب، وقيل: سخط { أتجادلونني في أسماء سميتموها } آلهة لا تضر ولا تنفع { أنتم وآباؤكم } من قبلكم، قوله تعالى: { ما نزل الله بها من سلطان } حجة وبيان { فانتظروا } نزول العذاب { إني معكم من المنتظرين } { فأنجيناه } يعني هودا عند نزول العذاب { والذين } آمنوا { معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا } أي استأصلناهم فأهلكناهم.
[7.73-79]
{ وإلى ثمود } أي وأرسلنا إلى ثمود، قال في الثعلبي: هو ثمود بن عامر بن أرم بن سام بن نوح { أخاهم صالحا } وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم } حجة ودلالة من ربكم على صدقي، قال جار الله: إنما سميت ثمود لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام، وروي أن عادا لما أهلكت عمرت ثمود بلادهم وخلفوهم في الأرض، فكثروا وعمروا أعمارا طوالا حتى إن الرجل منهم كان يبني المنزل المحكم فينهدم في حياته، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في سعة ورخاء من العيش فعتوا على الله تعالى وأفسدوا في الأرض، وعبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم صالحا (عليه السلام) وكانوا قوما عربا، وصالح من أوسطهم نسبا فدعاهم الى الله تعالى فلم يتبعوه إلا قليلا منهم مستضعفون، فحذرهم وأنذرهم، ولما ألح عليهم صالح بالدعاء والتبليغ وأكثر لهم التخويف سألوا آية فقال لهم: أي آية تريدون؟ فقالوا: أتخرج معنا إلى يوم عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا، فقال صالح: نعم، فخرج معهم ودعوا آلهتهم وسألوها الإجابة فلم تجبهم، ثم قال سيدهم جندع بن عمرو وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاتبة: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة فإن فعلت صدقناك، فأخذ صالح المواثيق: لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدقن؟ قالوا: نعم، فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة وانصدعت عن ناقة كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى من عظمها وهم ينظرون، ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فمكثت الناقة مع ولدها ترتعي الشجر وتشرب الماء، وكانت ترد غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر فتشرب كل ما فيها فما ترفع حتى تشرب كل ما فيها فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلئ أوانيهم ويشربون ويدخرون، وروي أن صدرها كان ستين ذراعا، ورورى الثعلبي: أن جندع بن عمرو آمن به، ورهط من قومه، وروي أن المواشي كانت تفر منها إذا رأتها وتهرب منها ابلهم وأغنامهم وبقرهم، وعن السدي: أوحى الله تعالى إلى صالح أن قومك سيعقرون ناقتك، فقال لهم ذلك فقالوا: ما كنا لنفعل، فقال لهم صالح: إنه سيولد في شهركم هذا غلام يعقرها ويكون هلاككم على يديه، وروي أن الذي زين لهم عقرها امرأة يقال لها عنيزة، والذي عقرها قذار بن سالف، فعقرها واقتسموا لحمها وطبخوه، وكان صالح قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه ورقى جبلا فرغا ثلاثا، وقال في الأول: يا رباه، وفي الثاني: يا أماه، وفي الثالث: يا صالحاه، فانفتحت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام تصبحوا غدا ووجوهكم مصفرة، وبعد غد ووجوهكم محمرة، والثالث ووجوهكم مسودة، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله تعالى إلى أرض فلسطين، ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا وتكفنوا فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا، وروي أنه لم يبق منهم إلا إمرأة مقعدة أطلقها الله تعالى لتخبر بما عاينت من العذاب، وقيل: توفي صالح بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وروي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء، ونزل بهم العذاب يوم السبت، وروي أنه خرج في مائة وعشرين من المسلمين فالتفت فرأى الدخان ساطعا فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفا وخمسمائة دار.
[7.80-84]
قوله تعالى: { ولوطا } أي وأرسلنا لوطا وهو ابن أخي ابراهيم (عليه السلام)، أرسله الله تعالى إلى المؤتفكات، وهي سبع مدائن، وقيل: خمس أعظمها سدوم وكان مسكنه فيها، وفي كل قرية منها مائة ألف مقاتل، فبعث الله تعالى لوطا إلى هذه المدائن فعصوا وفعلوا الفواحش كما قص الله تعالى عنهم
إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين
[العنكبوت: 28] { إنكم لتأتون الرجال } هم أول من فعل هذه الفاحشة اتيان الذكور فبعث الله جبريل مع جماعة من الملائكة لإهلاك قوم لوط، وأمرهم أن يبشروا إبراهيم بإسحاق، ثم خرجوا حتى أتوا لوطا (عليه السلام) فنزلوا عليه وهم على أحسن صورة، ودلت امرأته قومه عليهم حتى طمست أعينهم، وخرج جبريل ولوط ومن آمن معه وأهلكهم الله تعالى عند الصبح، ورفع تلك المدائن حتى قربت من السماء، ثم قلبها جبريل فهلكت امرأته مع من هلك، ورمت الحجارة من كان غائبا حتى لم يبق منهم أحد، وقيل: أمطرعليهم الكبريت والنار، وقيل: خسف بالمقيمين منهم وأمطر على مسافريهم، وقيل: مطرت عليهم ثم خسف بهم، وروي أن تاجرا منهم كان بالحرم فوقف له الحجر أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج فوقع عليه، وروى الثعلبي: أن بلاد قوم لوط أخصبت فانتجعها أهل البلاد، فتمثل لهم ابليس في صورة رجل شاب ثم دعا إلى دبره فنكح، ثم عبثوا بذلك العمل، فلما كثر ذلك فيهم عجت الأرض إلى ربها فسمعت السماء فعجت إلى ربها، ثم كذلك العرش، فأمر الله تعالى السماء أن تحصبهم وأمر الأرض أن تخسف بهم، وروي فيه أيضا: أن ابليس عرض لهم في صورة شيخ فقال: ان فعلتم بهم كذا فجرتم منهم فأبوا، فلما ألح الناس عليهم قصدوهم، فأصابوا غلمانا صباحا فافحشوا واستحكم ذلك فيهم، قال الحسن: كانوا لا ينكحون إلا الغرباء.
[7.85-93]
قوله تعالى: { وإلى مدين } أي وأرسلنا إلى مدين وهو مدين بن ابراهيم خليل الرحمن، وقيل: مدين اسم موضع، وقيل: اسم جد شعيب ( عليه السلام)، وقيل: هم أصحاب الأيكة، وقال عطاء: هو شعيب بن ثوبة بن ابراهيم (عليه السلام)، وقال ابن اسحاق: هو شعيب بن ثوبة بن إبراهيم فقال لهم: { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم } حجة وبرهان، وهو المعجزة الذي أظهرها الله عليه { فأوفوا الكيل والميزان } يعني ما يكيلون على الناس وما يزنون عليهم بالميزان { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } يعني لا تنقصوا حقوقهم، وقيل: البخس الظلم { ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } ، قيل: لا تفسدوا فيها بالعصيان من سفك الدماء، واستحلال المحارم بعد إصلاحها ببيان الدين وإرسال شعيب { ذلكم } الذي ذكرت { خير لكم إن كنتم مؤمنين } مصدقين بما أقول لكم، قوله تعالى: { ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } الناس، وقيل: كانوا يقعدون على طريق من قصد شعيبا للايمان فيخوفونه بالقتل وكانوا يقطعون الطريق { وتصدون عن سبيل الله } عن دين الله { وتبغونها عوجا } وذلك أنهم كانوا يقعدون على الطريق يخبرون من قصد شعيبا للايمان به ويقولون: إن شعيبا كذاب فلا يفتنك عن دينك، و { واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم } ، قيل: كثر عددكم بالغنى بعد الفقر { وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين }. قوله تعالى: { قال الملأ الذين استكبروا من قومه } ، يعني الرؤساء الذين تعظموا عن الإيمان به { أو لتعودن في ملتنا } أي شريعتنا أي تدعون دينكم وتصيرون إلى ديننا، فإن قيل: كيف؟ قال: تعودون في ملتنا ولم يكونوا فيها، قيل: لأن الذين اتبعوا شعيبا كانوا في دينهم وإلا فشعيب (عليه السلام) لم يكن على ملتهم، وقيل: قالوا هذا القول على وجه التلبيس والايهام على العوام يوهمون عليهم كانوا منهم، وقيل: أن شعيبا وقومه في بدء أمرهم كانوا يخفون أمرهم فكانوا يظنون أنهم على دينهم، قوله تعالى: { بعد إذ نجانا الله منها } أي خلصنا بلطفه وبيانه { وما يكون لنا أن نعود فيها } اختلفوا في قوله فيها الكناية إلى ماذا ترجع؟ قيل: إلى الملة عن أكثر المفسرين، وقيل: إلى القرية وقد تقدم ذكرها في قوله تعالى: { لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا } ، ومن قال الكناية راجعة إلى الملة اختلفوا في معنى الآية على أقوال: الأول أن المراد بالملة الشريعة وفي شريعتهم ما يجوز التعبد به كأنه قيل: ليس لنا أن ندخل فيها إلا أن يتعبدنا الله بها وينقلنا إليها وينسخ ما نحن فيه من الشريعة، وقيل: { إلا أن يشاء } متعبدنا بما يجوز، وقيل: هنا على وجه البعد كما يقال لا أفعل هذا حتى يبيض الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط { وسع ربنا كل شيء علما } أحاط علمه بكل شيء فلا يخفى عليه شيء { على الله توكلنا } ، فيما يوعدنا به { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } أي اقض بيننا، وقيل: افصل { وأنت خير الفاتحين } أي الحاكمين { وقال الملأ الذين كفروا من قومه } ، قيل: الجماعات، وقيل: الأشراف { لئن اتبعتم شعيبا } يعني في دينه وتركتم دينكم، قيل : خسرتم بما يلحقكم من جهتنا من الأداء، وقيل: خسرتم في الآخرة إذا تركتم دينكم ودين آبائكم { فأخذتهم الرجفة } قيل: الزلزلة، وقيل: أهلكوا بالنار يعني نزلت عليهم نار من السماء فأهلكتهم، وقيل: تزلزلت أرضهم وسقطت ديارهم، وقيل: زلزلوا فأحاطت بهم النار فهلكوا، وقيل: جاءهم حر شديد فدخلوا البيوت فدخل عليهم ثم جاءت سحابة فيها ريح طيب فخرجوا إلى البرية حتى اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم فألهبها الله تعالى نارا، وزلزلت الأرض، فاحترقوا وصاروا رمادا، وهو قوله تعالى:
فأخذهم عذاب يوم الظلة
[الشعراء: 189]، قوله تعالى: { كأن لم يغنوا فيها } كأن لم يعيشوا ولم ينزلوا ولم يقيموا، وقال: { يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي } ، قيل: قاله قبل نزول العذاب، وقيل: قاله لمن بقي معه من المؤمنين، قوله تعالى: { فكيف آسى } أي أحزن.
[7.94-102]
{ وما أرسلنا في قرية من نبي } فيه اضمار واختصار يعني فكذبوه { إلا أخذنا أهلها } حين لم يؤمنوا { بالبأساء } يعني البؤس والشدة وضيق العيش والفقر { والضراء } الضراء والمرض لاستكبارهم عن اتباع نبيهم { لعلهم يضرعون } يتذللون ويحطون رداء الكبر { ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة } أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة الرخاء والسعة والصحة { حتى عفوا } كثروا وسمنوا ونموا في أنفسهم وأموالهم { وقالوا قد مس آباءنا الضراء والسراء } وقالوا هذه عادة الدهر تعاقب في الناس من الضراء والسراء وقد مس آباءنا نحو ذلك. { فأخذناهم بغتة } أي فجأة أمن ما كانوا { وهم لا يشعرون } نزول العذاب { ولو أن أهل القرى } يعني أهل تلك القرى الذين كذبوا { آمنوا واتقوا } المعاصي { لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } يعني لآتيناهم الخير من كل وجه، وقيل: من السماء المطر، ومن الأرض النبات والخصب، ورفعنا عنهم القحط { ولكن كذبوا فأخذناهم } بالعقوبة { بما كانوا يكسبون } من المعاصي والأعمال الخبيثة { أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا } عذابنا { بياتا } ليلا { وهم نائمون } غافلون عن ذلك { أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى } عند ارتفاع النهار { وهم يلعبون } ساهون لاهون أراد ألا يأمنوا الليل والنهار، قوله تعالى: { أفأمنوا مكر الله } عذابه وأخذه من حيث لا يشعرون { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } من خسر في الدنيا دينه وفي الآخرة وجب له العذاب { أو لم يهد للذين يرثون الأرض } يعني للذين يخلفون من خلا من قبلهم في ديارهم ويرثونهم أرضهم { أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم } كما أصبنا من قبلهم وأهلكنا الوارثين كما أهلكنا الموروثين { ونطبع } نختم { على قلوبهم فهم لا يسمعون } الهدى ولا يقبلون الموعظة { تلك القرى } يعني التي أهلكنا وقد تقدم ذكرها { نقص عليك } أي نتلو عليك { من أنبائها } أخبارها ليعتبروا بأحوالهم ولا يغتروا كاغترارهم { ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات } بالحجج المزيلة للأشكال القاطعة للعذر { فما كانوا ليؤمنوا } فيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعظة للخلق، قال الثعلبي: فما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد هلاكهم كقوله تعالى:
ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه
[الأنعام: 28] وقيل: معناه أن كل نبي أنذر قومه بالعذاب { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } ، أوائلهم من الأمم الخالية بل كذبوا كما كذب أولهم { كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين } ، قيل: هي السمة والعلامة التي تحصل في قلوبهم علامة الكفر { وما وجدنا لأكثرهم } أي أكثر من تقدم ذكرهم، وقيل: هو على الاطلاق أي ما وجدنا لأكثر الناس { من عهد } بل أكثرهم نقض عهد الله وميثاقه { وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين } خارجين عن الطاعة والعهد وهو ما أمر الله به وأوصى به الأنبياء ألا تعبدوا إلا الله ولا تشركوا به شيئا.
[7.103-114]
{ ثم بعثنا من بعدهم موسى } من بعد الأنبياء تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقيل: بعد الأمم التي تقدم ذكرها بين تعالى قصة موسى وما جرى له من فرعون، فأما قصة العصا فقيل: كان أعطاه ملك حين توجه إلى مدين، وقيل: كان عصى آدم من آس الجنة تدور في أولاده حتى انتهت إلى شعيب، ثم إلى موسى (عليه السلام)، فخرج موسى بأمر الله تعالى متوجها إلى مصر وقال ما حكاه الله تعالى عند قوله تعالى: { وقال موسى يا فرعون إني رسول من رب العالمين } روي أنه لما قال موسى ذلك، قال: كذبت، فقال: { حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } ، قوله تعالى: { فأرسل معي بني اسرائيل } فخلهم حتى يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم وموالد آبائهم، وذلك أن يوسف (عليه السلام) لما توفى وانقرضت الأسباط غلب فرعون نسلهم واستبعدهم فأنقذهم الله تعالى بموسى (عليه السلام) وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف وبين اليوم الذي دخل فيه موسى (عليه السلام) أربع مائة عام، وروي في الثعلبي أيضا أن فرعون موسى كان فرعون يوسف فقال فرعون مجيبا لموسى (عليه السلام): إن كنت نبيا فأت بآية { إن كنت من الصادقين } ، قوله تعالى: { فألقى } الآية، وروي أنه كان ثعبانا ذكرا أشعرا فاغرا فاه بين لحيته ثمانون ذراعا، فوضع لحيه الأسفل في الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون ليأخذه، فوثب فرعون من سريره وهرب وأحدث ولم يكن أحدث قبل ذلك وهرب الناس وصاحوا، وحمل عليهم فانهزموا ومات منهم خمسمائة وعشرون ألفا قتل بعضهم بعضا، ودخل فرعون البيت وصاح: يا موسى خذه وأنا أؤمن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذه موسى فعاد عصا، وروي أنه أرى فرعون يده فقال: ما هذه؟ قال: يدي، ثم أدخلها في جيبه وعليه مدرعة من صوف ونزعها { فإذا هي بيضاء للناظرين } ، قيل: كان منها شعاع الشمس فعند ذلك { قال الملأ من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم } أي عالم بالسحر { يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون } هذا من قوم فرعون للملأ فأجابوه { قالوا أرجه وأخاه } يعني أخرهما وأصدرهما عنك، وقيل: احبسهما { وأرسل في المدائن حاشرين } وكان له مدائن فيها السحرة إذا أحزنه أمر أرسل اليهم قوله تعالى: { يأتوك بكل ساحر عليم } مثله في العلم فعند ذلك الأمر استدعى بالسحرة فقال تعالى: { وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وانكم لمن المقربين } وروي أنه قال لهم تكونوا أول من يدخل علي وآخر من يخرج وهو التقريب والتعظيم، وروي أنه دعا برؤساء السحرة ومعلمهم فقال لهم: ما صنعتم؟ فقالوا: قد فعلنا سحرا لا يطيقه سحرة الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء فلا طاقة لنا به، وروي أنه كانوا ثمانين ألفا، وقيل: سبعين ألفا، وقيل: بضعة وثلاثين ألفا.
[7.115-126]
{ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين } فيه ما يدل على أن رغبتهم أن يلقوا قبله { فلما ألقوا } يعني ألقت السحرة حبالهم وعصيهم وكانوا قد صوروا شبه الحياة العظيمة، وروي أنهم أتوا حبالهم وعصيهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة، قيل: جعلوا فيها الزئبق، وروي الثعلبي أنهم ألقوا حبالا غلاظا، وخشبا طوالا، فإذا هي حيات كأمثال الجمال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا { واسترهبوهم } أي أرادوا إرهابهم بذلك { وجاؤوا بسحر عظيم } أي تمويه لم يكن من جنسه أعظم منه، وقيل: عظيم عند الناس { وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف } أي تبتلع { ما يأفكون } أي ما يكذبون، وقيل: يعلمون ويزورون على الناس، وروي أنها لما تلقفت ملء الوادي من الخشب والحبال ورفعها موسى فعادت عصا كما كانت، وأعدم الله بقدرته تلك الأجرام العظيمة، وروي أن حبالهم وعصيهم كانت حمل ثلاثمائة بعير ولما أكلت سحرهم كله قالت السحرة: لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصينا فذلك قول الله تعالى: { فوقع الحق } أي ظهر { وبطل ما كانوا يعملون } من السحر { فغلبوا هنالك وانقلبوا } وانصرفوا { صاغرين } وصاروا أذلاء مقهورين { وألقي السحرة ساجدين } سجدوا لما عاينوا تلك الآية العظيمة، قوله تعالى: { قالوا آمنا برب العالمين } يعني صدقنا برب العالمين خالقهم ومدبرهم { رب موسى وهارون } يعني الذي يدعون إلى الإيمان به { إن هذا لمكر } صنع وخديعة { مكرتموه } وصنعتموه أنتم وموسى { في المدينة } أي مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع { لتخرجوا منها أهلها } بسحركم { فسوف تعلمون } ما أفعل بكم { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } وهو أن يقطع من كل شق طرفا، وقيل: أول من قطع وصلب فرعون، قالوا: يعني السحرة لفرعون مجيبين عن وعده { قالوا إنا إلى ربنا منقلبون } إلى جزائه وحكمه صائرون، وقيل: قالوا: لا بد لنا من موت، وقيل: الذي توعدنا به نحن صابرون اليه ثم فرعوا إلى الله تعالى فقالوا: { ربنا أفرغ علينا صبرا } أنزل علينا صبرا حتى لا نرجع { وتوفنا مسلمين } واقبضنا على دين موسى فأصبحوا كفارا سحرة وأمسوا شهداء بررة.
[7.127-132]
{ وقال الملأ من قوم فرعون } يعني الجماعات، وقيل: الأشراف { أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض } يعني لكي يفسدوا عليك خدمك وعبيدك، وروي أنهم قالوا ذلك لأنه وافقهم به على الايمان ستمائة ألف نفس { ويذرك وآلهتك } فلا يعبدك ولا يعبدها، قال ابن عباس: كان لفرعون بقرة يعبدها فإذا رأى بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها، فقال فرعون مجيبا بقوله: { سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم } يعني نعيد عليهم ما كانوا فيه من قتل الأبناء ليعلموا أنا على ما كنا عليه من الغلبة والقهر وانهم مقهورون تحت أيدينا وإن غلبة موسى لا أثر لها في ملكنا، قوله تعالى: { قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا } حين قال لهم فرعون سنقتل أبناءهم فجزعوا فوعدهم (صلى الله عليه وآله وسلم) النصر والغلبة وإهلاك القبط ويورثهم أرضهم وديارهم { والعاقبة للمتقين } ، قوله تعالى: { قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا } قالوا: يعني بني إسرائيل الذين آمنوا بموسى: أوذينا لحقنا الضرر من جهة فرعون بقتل ابنائنا واستخدام النساء من قبل أن تأتينا بالرسالة ومن بعد ما جئتنا، قيل: بالوعيد لهم ف { قال موسى عسى ربكم } وعسى من الله واجبة وقال أبو علي: عسى هذا يقين { أن يهلك عدوكم } قوم فرعون وقد فعل حين غرق فرعون وقومه وهم ينظرون { ويستخلفكم في الأرض } أي يملككم الأرض { فينظر كيف تعملون } أي كيف تشكرون الله على نعمه { ولقد أخذنا آل فرعون } خاصته وقومه وأتباعه { بالسنين } بالجدب والقحط عاما بعد عام { ونقص من الثمرات } والغلات بالآفات والعاهات، وقيل: كان في أمصارهم لا تحمل النخلة الا تمرة واحدة أو تمرتين، وعن كعب: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة واحدة { لعلهم يذكرون } فينتبهون على أن ذلك لإصرارهم على الكفر، وقيل: عاش فرعون أربع مائة سنة ولم ير مكروها في ثلاثمائة وعشرين سنة، ولو أصابه في تلك المدة وجع أو حمى لما ادعى الربوبية { فإذا جاءتهم الحسنة } من الخصب والرخاء { قالوا لنا هذه } أي هذه مختصة بنا ونحن مستحقوها ولم نزل في النعمة { وأن تصبهم سيئة } ، قيل: ضيق وجدب وبؤس وبلاء { يطيروا بموسى ومن معه } يقولون ما أصابنا بلاء ولا رأينا شرا حتى رأيناكم، لأنهم أقاموا في نعمة قبل موسى في الخبر المتقدم ثلاثمائة وعشرين سنة، قال الله تعالى: { ألا إنما طائرهم عند الله } يعني ما يصيبهم من الخصب والجدب يعني ألا إنما سبب شؤمهم عند الله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن الذي أصابهم من الله تعالى، قوله تعالى: { وقالوا } يعني قوم فرعون { مهما } ، قيل: معناه كلما تأتينا ومتى تأتينا، وقيل: معناه ما { تأتنا به من آية لتسحرنا بها } لتبطلنا عما نحن عليه من دين فرعون { فما نحن لك بمؤمنين } بمصدقين.
[7.133-136]
{ فأرسلنا عليهم الطوفان } ما طاف بهم وعليهم من مطر أو سيل، وعن ابن عباس: كان أول الآيات الطوفان وهو الماء، قيل: طفى الماء فوق حروثهم وذلك انهم مروا ثلاثة أيام في ظلمة شديدة لا يرون شمسا ولا قمرا ولا يقدر أحد أن يخرج من داره، وقيل: أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا يهلكون، وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة، فامتلأت بيوت القبط حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم ومن جلس غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة، وفاض الماء على وجه أرضهم فركد ومنعهم من الحرث ودام عليهم سبعة أيام، وقيل: هو الموت، وقيل: هو الطاعون، فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن لك، فدعا فرفع الله ذلك عنهم فما آمنوا، فنبت لهم تلك السنة من الكلأ والزرع ما لم يعهدوا بمثله، فأقاموا شهرا، فبعث الله عليهم { الجراد } فأكلت زرعهم وثمارهم، ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب وسقوف البيوت والنبات، ولم يدخل بيوت بني اسرائيل منها شيء، ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة، فكشف الله عنهم بعد سبعة أيام، فخرج موسى (عليه السلام) فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع الجراد إلى المواضع التي جاء منها، فقالوا: ما نحن بتاركي ديننا فأرسل الله عليهم { القمل } ، قيل: هو كبار القردان، وقيل: الدبا وهو أولاد الجراد التي لا أجنحة لها، وقيل: البراغيث، وقيل: السوس فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض، وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده وبين قميصه، وكان إذا أكل أحدهم طعاما يمتلئ طعامه قملا فصاحوا وفزعوا إلى موسى فرفع عنهم فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، وعزة فرعون لا نصدقك أبدا، فأرسل الله بعد شهر عليهم الضفادع فدخل المدنية حتى ملأ الدور والفرش والآنية، ودخلت طعامهم وشرابهم حتى كانوا يجلسون عليها، وربما كانت تدخل فم المتكلم وكانت تمتلئ منها مضاجعهم فلا يقدر أحد على الرقاد، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي، فأقامت سبعة أيام فشكوا إلى موسى (عليه السلام) وقالوا: ارحمنا هذه المرة فما بقي إلا أن نتوب التوبة النصوح، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد فأرسل الله عليهم { الدم } فصارت مياههم دما، فشكوا إلى فرعون فقال: إنه سحركم فكان يجتمع الإسرائيلي والقبطي على إناء فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما، ويستقيان من إناء واحد فيكون للقبطي الدم وللإسرائيلي الماء، وروي أن المرأة الاسرائيلية تمج في فم القبطية فيصير دما في فيها، أقاموا سبعة أيام كذلك، ثم أتوا موسى (عليه السلام) وعاهدوه وقالوا: { لئن كشفت عنا } إلى آخر الآية { آيات مفصلات } يتبع بعضها بعضا { فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين } وروي أن موسى (عليه السلام) نكث فيهم بعدما غلب السحرة يريهم هذه الآيات عشرين سنة { ولما وقع عليهم الرجز } يعني نزل بهم العذاب وهو ما ذكر الله سبحانه من الطوفان وغيره، وقال عكرمة: الزجر الدم { قالوا يا موسى ادع لنا ربك } الآيات { فأغرقناهم في اليم } وهو البحر الذي لا يدرك قعره.
[7.137-142]
{ وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون } وهم بني إسرائيل كان يستضعفهم فرعون وقومه يذبح الأبناء ويستخدم النساء { مشارق الأرض } مصر والشام ملكها بني اسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتصرفوا كيف شاؤوا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل } يعني وقعت كلمة الله تعالى وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين وهو قوله تعالى:
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض
[القصص: 5] إلى قوله:
منهم ما كانوا يحذرون
[القصص: 6] { بما صبروا } يعني بسبب صبرهم على دينهم قال جار الله: وحسبك هذا حاثا على الصبر ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله اليه ومن قابله بالصبر وانتظار النصر ضمن الله له الفرج { ودمرنا } أي أهلكنا { ما كان يصنع فرعون وقومه } يشيدون من العمارات والقصور { وما كانوا يعرشون } من الجنان وما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وغيره { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } قطعنا بهم بأن جعلنا لهم فيه طريقا يابسة حتى عبروه وغرق فرعون، وروي أنه عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعد أن أهلك الله فرعون وقومه فصاموا شكرا لله تعالى { فأتوا على قوم } فمروا على قوم { يعكفون على أصنام لهم } يواظبون على عبادتها، قيل: كانت تماثيل بقر وذلك أول شأن العجل، وقيل: كانت أوثان، وقيل: كان القوم من الكنعانيين { قالوا يا موسى اجعل لنا إلها } صنما نعتكف عليه { كما لهم آلهة } أصنام يعكفون عليها { قال } لهم موسى { إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء } يعني القوم الذين عبدوا الأصنام { متبر } مهلك مدمر { ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون } ثم بين تعالى النعم التي فضلهم بها على العالمين فقال سبحانه: { وإذ أنجنياكم } خلصناكم { من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب } الآية، قوله تعالى: { وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم } يعني مما فعل من النجاة نعمة عليكم عظيمة لربكم، وقيل: ابتلاء عظيم، وقيل: في تخليته إياهم وقوم فرعون محنة عظيمة { وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر } ، روي أن موسى (عليه السلام) وعد بني اسرائيل وهو بمصر ان أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه الكتاب فأمره الله تعالى بصيام ثلاثين يوما وهو شهر ذي القعدة فلما أتم الثلاثين أنكر خلوف فيه فتسوك، فقالت الملائكة: كنا نشم فيك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، وقيل: أوحى الله تعالى إليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من شهر ذي الحجة، وقيل: أمره الله تعالى بأن يصوم ثلاثين يوما وان يفعل فيه ما يقربه إلى الله تعالى، ثم أنزل الله عليه التوراة في العشر من ذي الحجة { فتم ميقات ربه } ما وقت له من الوقت { وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي } كن خليفتي فيهم { وأصلح } وكن مصلحا أو أصلح ما نحب أن يصلح من أمور بني إسرائيل.
[7.143-147]
{ ولما جاء موسى لميقاتنا } يعني الموضع الذي وقتنا له { وكلمه ربه } من غير واسطة كما يكلم الملك وتكلمه أن يخلق الكلام منطوقا به في بعض الاجرام كما خلقه مخطوطا في اللوح، وروي أن موسى (عليه السلام) كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة، وعن ابن عباس: كلمه أربعين يوما أو أربعين ليلة وكتب له الألواح، وقيل: إنما كله في أول الاربعين { قال رب أرني أنظر اليك } يعني اجعلني متمكنا من رؤيتك، فإن قيل: كيف طلب موسى (عليه السلام) ذلك وهو من أعلم الناس بالله تعالى وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز؟ فقد قيل: أن قومه طلبوا ذلك، وقيل: إنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم فقالوا: لا بد ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأراد أن يسمعوا النص من الله تعالى وهو قوله: { لن تراني } ليتيقنوا وينزاح عنهم ما داخلهم من الشبهة، فلذلك { قال رب أرني أنظر إليك } { فإن استقر مكانه فسوف تراني } تعليق لوجود الرؤية بوجود ما لا يكون من استقرار الجبل مكانه حين تركه دكا { فلما تجلى ربه للجبل } ظهر أمره وقدرته { جعله دكا } قيل: ترابا، وقيل: مستويا من الأرض، وقيل: ساح في الأرض، وقيل: تقطع أربع قطع قطعة ذهبت نحو المشرق وقطعة نحو المغرب وقطعة سقطت في البحر وقطعة طارت رملا { وخر موسى } أي سقط { صعقا } مغشيا عليه استعظاما لما رأى من الآيات الباهرة، وقيل: مبالغة في الزجر واستعظاما لما سألوا موسى، وروي أن الملائكة مرت عليه وهو مغشي عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم ويقولون يابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزة قاله جار الله، قوله تعالى: { وكتبنا له في الألواح } قيل: كان كنقش الخاتم عن وهب، وقيل: كتبنا أي فرضنا فيه الفرائض، وروي أن الألواح صحائف فيها التوراة، قيل: كانت عشرة ألواح، وقيل: سبعة، وقيل: لوحين، وقيل: كانت من زمرد جاء بها جبريل، وقيل: من زبرجدة خضراء وياقوتة حمراء، وقيل: أمر الله تعالى موسى يقطعها من صخرة، وقيل: كانت من خشب نزلت من السماء طولها كان عشرة أذرع { وتفصيلا لكل شيء } وقيل: يريد التوراة، وقيل: من كل شيء كان بني اسرائيل محتاجون اليه في دينهم من المواعظ وتفصيل الأحكام، وقيل: أنزلت التوراة وهي وقر سبعين بعيرا، يقرأ الجزء منها سنة، لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى ويوشع وعزير وعيسى، قيل: كتب في الألواح أني أنا الله لا إله إلا أنا الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئا، ولا تقطعوا السبيل، ولا تحلفوا باسمي كاذبا، ولا تقتلوا ولا تزنوا ولا تعقوا الوالدين { فخذها بقوة } ، قيل: بجد واجتهاد تبليغا وعلما وعملا { وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } أي يحملوا على أنفسهم بالأخذ بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب كقوله: اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم، وقيل: يأخذوا بما هو واجب أو ندب لأنه أحسن من المباح، وقيل: بالناسخ دون المنسوخ، وقيل: تأخذوا بحسنها وكلها حسن { سأوريكم دار الفاسقين } يريد دار فرعون وقومه وهو بمصر كيف دمروا لفسقهم، وقيل: منازل عاد وثمود والقرون التي أهلكهم الله بفسقهم، وقيل: أراد بدار الفاسقين نار جهنم { سأصرف عن آياتي } بالطبع على قلوب المتكبرين وخذلانهم ولا يتفكرون فيها، وقيل: سأصرف عن إبطالها وإن اجتهدوا كما اجتهد فرعون أن يبطل آية موسى بأن جمع لها السحرة { وأن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } يعني هؤلاء المتكبرين { وإن يروا سبيل الرشد } طريق الهدى والرشاد { لا يتخذوه سبيلا وإن يروا كل سبيل الغي } يعني الضلال والهلاك { ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا } بحجتنا { وكانوا عنها غافلين }.
[7.148-153]
قوله تعالى: { واتخذ قوم موسى } يعني السامري ومن أعانه، وقيل: أراد جميعهم لأن منهم من اطاع ومنهم من عبد ومنهم من رضي والقليل منهم أنكر ذلك، فخرج الكلام على الغالب منهم { من بعد } أي من بعد خروج موسى (عليه السلام) إلى الميقات { من حليهم } أي من زينتهم من الذهب والفضة وكانوا استعادوها بنو إسرائيل من القبط ليوم عيد لهم وخرج موسى من مصر ومعهم ذلك الحلي فلما غرق فرعون وقومه اتخذ السامري وقومه منها عجلا { جسدا } وقال: هذا إلهكم وإله موسى، وقيل: كان السامري من أشرافهم، قيل: جسدا لا روح فيه، وقيل: لحما ودما، وقيل: لم يصر لحما ودما كسائر الأجسام والخوار صوت البقر، قال الحسن: أن السامري قبض قبضة من أثر فرس جبريل يوم قطع البحر فقذفها في العجل فكان عجلا { له خوار ألم يروا } يعني الذين عبدوا العجل من دون الله { أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه } أي عبدوه { وكانوا ظالمين ولما سقط في أيديهم } يعني لما اشتد ندمهم وحسرتهم على ذلك والأصل فيه الندم { ورأوا أنهم قد ضلوا } يعني تبينوا أنهم قد ضلوا { قالوا لئن لم يرحمنا } الآية، { ولما رجع موسى } إلى قومه يعني من الميقات الذي وعده الله تعالى وكلمه وأعطاه التوراة { غضبان أسفا } يعني حزينا { قال بئس ما خلفتموني من بعدي } بئس الفعل فعلتم بعد ذهابي يعني فقمتم مقامي وخلفتموني من بعدي وهذا الخطاب إما أن يكون لعبدة العجل من السامري وأتباعه، أو يكون الخطاب لهارون (عليه السلام) والمؤمنين معه، بئس ما خلفتموني حيث عبدتم العجل مكان عبادة الله تعالى: { أعجلتم أمر ربكم } وعد ربكم الذي وعدني من الأربعين الليلة، وروي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل وقال لهم: وإلهكم وإله موسى، إن موسى لم يرجع وأنه قد مات، وروي أنهم عدوا عشرين يوما بلياليها { وألقى الألواح } غضبا على قومه حين عبدوا العجل، وطرحها لما لحقه من فرط الدهش وشدة الضجر من استماعه حديث العجل غضبا لله وحمية لدينه، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) شديد الغضب لله، وكان هارون ألين جنابا إلى بني اسرائيل من موسى { وأخذ برأس أخيه } يعني بشعر رأسه { يجره إليه } وذلك لشدة ما ورد عليه من الأمر { قال ابن أم } وكان أخاه من أبيه وأمه { إن القوم استضعفوني } يعني حين عبدوا العجل { وكادوا } أي هموا وقاربوا { فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني } ، الآية، قيل: لا تجمع الغضب بيني وبينهم، وقيل: لا تجعلني في زمرتهم، قوله تعالى: { قال رب اغفر لي ولأخي } ما صنعت الى أخي { وأدخلنا } جميعا أنا وأخي { في رحمتك } الآية { إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا } الغضب ما أمروا به من قبل أنفسهم، والذلة خروجهم من ديارهم، وقيل: الغضب من الله تعالى العقوبة، والذلة هو ما أمروا به من قبل نفوسهم، وقيل: هي الجزية، وقيل: هي ما أصاب أولادهم في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير { وكذلك نجزي المفترين } الكاذبين، وعن مالك بن انس ما من مبتدع إلا ويجد في رأسه ذلة، ثم قرأ: { إن الذين اتخذوا العجل } الآية.
[7.154-158]
{ ولما سكت عن موسى الغضب } ، قيل: زال غضبه لتوبتهم { أخذ الألواح } التي كان فيها التوراة { وفي نسختها } يعني ما نسخ وكتب فيها عن أبي مسلم، وقيل: في نسختها التي نسخ منها بنو إسرائيل { هدى ورحمة } قال ابن عباس: هدى من الضلالة ورحمة من العذاب { للذين هم لربهم يرهبون } أي يخشون فيعلمون بها { واختار موسى قومه سبعين رجلا } ، قيل: اختار من اثني عشر سبطا من كل سبط ستة حتى كانوا اثنين وسبعين فقعد كالب ويوشع، وروي أنه لم يصب الا ستين شيخا، فأوحى الله إليه أن يختار من الشباب عشرة فاختارهم، فأصبحوا شيوخا فأمرهم موسى أن يصوموا ويتطهروا ويطهروا ثيابهم حتى خرج بهم موسى إلى طور سيناء لميقات ربه وكان أمره ربه أن يأتيه في سبعين رجلا من بني إسرائيل فلما دنا موسى من الجبل وقعوا سجدا لله تعالى فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل فأقبلوا اليه فطلبوا الرؤية فوعظهم وزجرهم وأنكر عليهم فقالوا:
يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة
[البقرة: 55] ثم
قال رب أرني أنظر إليك
[الأعراف: 143] يريد أن يسمعوا الرد والإنكار من جهته فأجيب بلن تراني، ثم رجف بهم الجبل فصعقوا، وقيل: ماتوا فعند ذلك { قال } موسى { رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي } من قبل الميقات، وقيل: أن يرى ما يرى من تبعه طلب الرؤية، قوله تعالى: { أتهلكنا } يعني جميعا نفسه وإياهم إنما طلب الرؤية زجرا للسفهاء { إن هي إلا فتنتك } يعني محبتك وابتلاؤك حين كلمتني وسمعوا كلامك فاستدلوا به على الرؤية حتى افتتنوا فضلوا { تضل بها من تشاء } يعني تعاقب من تشاء وهم أهل المعصية، وقيل: تضل من تشاء بالترك { وتهدي من تشاء } بألطافك { أنت ولينا } ناصرنا وحافظنا { فاغفر لنا } الآية { واكتب لنا } يعني واثبت لنا { في هذه الدنيا حسنة } يعني عافية وحياة طيبة وتوفيقا في الطاعة { وفي الآخرة } الجنة { إنا هدنا إليك } أي تبنا إليك { قال عذابي أصيب به من أشاء } وهو من استحق العقوبة وقرأ الحسن من أساء الاساءة { ورحمتي وسعت كل شيء } أي نعمتي عمت كل شيء قيل: تعم البر والفاجر في الدنيا والآخرة للبر خاصة { فسأكتبها } أي أوجبها يعني الرحمة { للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون } قالت اليهود والنصارى: نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا فنزعها منهم وجعلها لهذه الأمة، فقال: { الذين يتبعون الرسول النبي الأمي } نزلت في المؤمنين لما نزلت الآية المتقدمة قالت اليهود والنصارى: هذه صفتنا، وقيل: هو من آمن من اليهود مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واختلف العلماء في معنى الأمي فقال ابن عباس: هو نبيكم كان أميا لا يقرأ ولم يكتب، قال الله تعالى:
وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك
[العنكبوت: 48]، وقيل: منسوب إلى أم القرى أي مكة { الذي يجدونه } أي صفته ونبوته ونعته { مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل } وعن عمر بن الخطاب: سألت ابن مالك عن صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان من علماء اليهود فقال: صفته التي لم تبدل ولم تحول أحمد من ولد اسماعيل بن ابراهيم، وهو آخر الأنبياء، وهو النبي العربي الذي يأتي بدين إبراهيم الحنيف، في عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوة، ليس بالقصير ولا بالطويل، يلبس الشملة، ويمشي في الأسواق، ومعه صلاة لو كانت في قوم نوح ما أهلكوا بالطوفان، ولو كانت في عاد ما أهلكوا بالريح، ولو كانت في ثمود ما أهلكوا بالصيحة، مولده بمكة ومنشأه ونبوته ودار هجرته بيثرب وهو أمي لا يكتب بيده، سلطانه بالشام، صاحبه من الملائكة جبريل، وعن كعب في صفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مولده بمكة وهجرته بيثرب وملكه بالشام وأمته الحامدون يحمدون الله على كل حال يصلون الصلاة حيث أدركتهم، روي ذلك في الثعلبي { يأمرهم بالمعروف } بالشريعة والسنة { وينهاهم عن المنكر } قيل: هو الكفر والمعاصي { ويحل لهم الطيبات } هو ما حرم عليهم من الأشياء الطيبة من الشحوم وغيرها، وما طاب في الشريعة، والحكم مما ذكر اسم الله عليه عند الذبح { ويحرم عليها الخبائث } كل ما يستخبث نحو الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، وما خبث في الحكم كالربا والرشوة وغيرها من الخبيثة { ويضع عنهم إصرهم } الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه، وقيل: هو العهد بأن يعملوا في التوراة، وقيل: التشديد الذي كان عليهم في الدين ونحو ذلك من الأفعال الشديدة كقتل النفس وتحريم السيب وتحريم العروق { والأغلال التي كانت عليهم } في شريعتهم الشاقة نحو قطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة من الجلد، والقضاء بالقصاص عمدا كان أو خطأ من شرع الدية { فالذين آمنوا به } يعني الذين آمنوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما جاء به كعبد الله بن سلام وغيرهم من أهل الكتاب { وعزروه } أي عانوه ووقروه { ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه } يعني القرآن { قل يأيها الناس إني رسول الله اليكم جميعا } ، قيل: بعث كل رسول إلى قومه خاصة وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى كافة الجن والإنس { النبي الأمي } ، قيل: الذي لا يكتب ولا يقرأ، وقيل: منسوب إلى أم القرى، وهي مكة كأنه قيل: النبي المكي { الذي يؤمن بالله وكلماته } آياته { واتبعوه لعلكم تهتدون }.
[7.159-164]
{ ومن قوم موسى أمة } هم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل { يهدون } الناس بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة ويرشدونهم { وبه } وبالحق { يعدلون } بينهم في الحكم، وقيل: ان بني اسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم، ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين، وهم هناك حنفاء مسلمون، وذكر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه ذهب به جبريل (عليه السلام) ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم، فقال لهم جبريل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا، قال: هذا محمد النبي الأمي، فآمنوا به، قالوا: يا رسول الله إن موسى أوصانا من أدرك منكم محمد فليقرأ عليه مني السلام، فرد محمد على موسى السلام ثم أقرأهم (صلى الله عليه وآله وسلم) عشر سور من القرآن وأمرهم أن يقيموا مكانهم وأن يجمعوا ويتركوا السبت، رواه جار الله { وقطعناهم } أي صيرناهم قطعا، أي فرقا { اثنتي عشرة أسباطا أمما } يعني اثني عشر قبيلة من اثني عشر ولدا من ولد يعقوب، أمما لأن كل سبط كان أمة عظيمة قوله تعالى: { وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر } ، قيل: كان له أربعة أوجه لكل وجه ثلاث أعين { فانبجست } أي فانفجرت وهو الانفتاح { قد علم كل أناس } أي كل سبط { مشربهم وظللنا عليهم الغمام } في التيه يقيهم حر الشمس { وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية } ، قيل: هي بيت المقدس { وكلوا منها } أي من نعيمها { حيث شئتم } أي أنى شئتم { وقولوا حطة } أي حط عنا ذنوبنا { وادخلوا الباب سجدا } ، قيل: ساجدين، وقيل: خاضعين { فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم } أي غيروه، فقالوا: حنطة، وقيل: قالوا: حنطة في شعيرة { فأرسلنا عليهم رجزا } أي عذابا { من السماء بما كانوا يظلمون } ، قوله تعالى: { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } ، قيل: سؤال توبيخ على ما كان منهم من الخطيئة، وقيل: سؤال تقرير عليهم، وقيل: سؤال تقريع، والقرية قيل: آيلة، وقيل: الطبرية، وحاضرة البحر أي تقرب من البحر { إذ يعدون في السبت }: أي يتجاوزون أمر الله تعالى يوم السبت، وكانوا نهوا عن صيد الحوت يوم السبت، وحرم عليهم صيدها فيه، فاصطادوا يوم السبت، وقيل: احتالوا بحبس الصيد يوم السبت وأخذوا يوم الأحد { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا } أي متتابعة، وقيل: من كل مكان { كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } أي نختبرهم، وعن الحسن بن الفضل: هل تجد في كتاب الله الحلال لا يأتيك إلا قوما والحرام يأتيك جرافا؟ قال: نعم في قصة داوود وآيلة { تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا } الآية، وعن ابن عباس: كان إذا قرأها يبكي رواه الثعلبي، وروي فيه أيضا: أن اليهود في زمان داوود (عليه السلام) حرم عليهم صيد الحيتان في يوم السبت، وذلك أن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم فيه يوم الجمعة فتركوه واختاروا يوم السبت فابتلوا فيه، وحرم عليهم فيه الصيد وأمروا بتعظيمه وكانت الحيتان تأتيهم يوم السبت على ما ذكر الله تعالى، وروي أنه إذا كان يوم السبت لا يرى الماء من كثرتها، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، روي أن الشيطان وسوس إليهم فقال: إنما نهيتم عن أخذها يوم السبت فاتخذوا الحياض فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم السبت فتبقى فيها ولا يمكنها الخروج منها لقلة الماء فيأخذونها يوم الأحد { وإذ قالت أمة } جماعة من أهل القرية من صلحائهم { لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم } وإنما قالوا ذلك لعلمهم أن الوعظ لا ينفع فيهم { قالوا معذرة إلى ربكم } أي موعظتنا إبلاء عذر إلى الله تعالى { ولعلهم يتقون } يعني ولطمعنا في أن يتقوا.
[7.165-169]
{ فلما نسوا } يعني أهل القرية تركوا ما ذكرهم به الصالحون { أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس } ، قيل: كان أهل القرية سبعين ألفا فصاروا أثلاثا: ثلث نهوا وكانوا نحو من اثني عشر ألفا، وثلث قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم الخ، وثلث هم أصحاب الخطيئة، فلما لم ينتهوا قال المسلمون: انا لا نساكنكم، فقسموا القرية بجدار للمسلمين باب وللمعتدين باب، فلعنهم داوود (عليه السلام) فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: ان للناس شأنا، فعلوا الجدار فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب فدخلوا عليهم فعرفت القردة أنسابها من الإنس، والإنس لم يعرفون أنسابهم من القردة، وجعل القرد يأتي نسبه فيشم ثيابه ويبكي فيقول له: ألم أنهك؟ فيقول برأسه: بلى، وقيل: صارت الشباب قردة والشيوخ خنازير { فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين } أي صاغرين، وقيل: الخاسئ الذي لا يتكلم، وقيل: مطرودين مبعدين، قيل: مكثوا ثلاثة أيام ينظر إليهم الناس ثم هلكوا، وقيل: عاشوا سبعة أيام ثم ماتوا، وقيل: عاشوا وتوالدوا عن الحسن والصحيح الأول، قوله تعالى: { وإذ تأذن ربك } ، قيل: اعلم، وقيل: أمر { ليبعثن } والمعنى وإذ حتم ربك وكتب على نفسه { ليبعثن عليهم } أي على اليهود { من يسومهم سوء العذاب } وكانوا يؤدون الجزية الى المجوس إلى أن بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فضربها عليهم فهي لا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر، والآية تدل على أنهم لا يكون لهم دولة ولا عز { وقطعناهم في الأرض } يعني بني إسرائيل فرقناهم فشتت أمرهم وذهب عزهم عقوبة لهم { منهم الصالحون } الذين آمنوا بالمدينة والذين وراء الصين { ومنهم } ناس { دون ذلك } الوصف وهم الكفرة والفسقة { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } النعم والنقم { لعلهم يرجعون } فينتهون ويتسننون لهم { فخلف من بعدهم خلف } وهم الذين كانوا في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { ورثوا الكتاب } وهو التوراة يقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم وهم لا يعملون بها { يأخذون عرض هذا الأدنى } أي حطام هذا الشيء الأدنى، والمراد الدنيا وما يمتع به منها، يريد بما كانوا يأخذونه من الرشا في الأحكام وعلى تحريف الكلام للتسهيل على العامة { ويقولون سيغفر لنا } لا يؤاخذنا الله بما أخذنا، وروي أنهم قالوا ما عملناه بالليل كفر عنا بالنهار، وما عملناه بالنهار كفر عنا بالليل تمنيا على الله الأباطيل { وأن يأتهم عرض مثله يأخذوه } ، قيل: وان عرض لهم ذنب آخر عملوا به، وقال مجاهد: ما أشرف لهم في اليوم من شيء من الدنيا من حلال أو حرام أخذوه، وقيل: معناه وان يأت يهود يثرب الذين كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غرض مثله يأخذوه { ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب } يعني قوله في التوراة: من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة { ودرسوا ما فيه } يعني ما في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب، والذي عليه المحبرة هو مذهب اليهود بعينه.
[7.170-174]
قوله تعالى: { والذين يمسكون بالكتاب } وهو العمل بما فيه والآية نزلت في أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: في اليهود الذين لا يحرفونه ولا يكتمونه مثل عبد الله بن سلام وأصحابه، يعني الكتاب الذي جاء به موسى لا يحرفونه ولا يكتمونه، وأحلوا حلاله وحرموا حرامه { وأقاموا الصلاة انا لا نضيع أجر المصلحين } ، قوله تعالى: { وإذ نتقنا الجبل فوقهم } أي قلعناه ورفعناه كقوله { ورفعنا فوقهم الطور } { كأنه ظلة } الظلة كل ما أظلك من سفينة أو سحاب { وظنوا أنه واقع بهم } أي ساقط عليهم وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لغلظها وثقلها فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم، وكان فرسخا في فرسخ، وقيل لهم: اقبلوها بما فيها وإلا ليقعن عليكم، فلما رأوا الجبل خر كل رجل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر، ويقولون: إنها السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة { خذوا ما آتيناكم } من الكتاب { بقوة } وعزم على احتمال الأوامر والنواهي لا تنسوه { واذكروا ما فيه } من ميثاقه وتكاليفه واذكروا التعرض للثواب العظيم { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم } ونظم الآية وإذ أخذ ربك من بني آدم ذريتهم لأن الله سبحانه أخرج ذرية آدم (عليه السلام) بعضهم من ظهور بعض يعني على نحو ما يتولد الأبناء من الآباء، وقوله تعالى: { ألست بربكم قالوا بلى شهدنا } ، قال جار الله: هذا من باب التمثيل والتخييل، ومعنى ذلك أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته، وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى، فكأنه أشهدهم على أنفسهم وفورهم فقال لهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك، وباب التمثيل واسع في كتاب الله تعالى وفي كلام العرب ونظيره قوله تعالى:
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون
[النحل: 40]
فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين
[فصلت: 11] وقوله: { قالوا بلى شهدنا } هذا خبر عن بني آدم أنهم قالوا: بلى شهدنا أنك خالقنا وربنا، وهو قول أكثر المفسرين { أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } أي لئلا تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين غير عالمين { أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم } فنشأنا على طريقتهم احتجاجا بالتقليد، فقد قطعنا العذر بما بينا من الآيات { أفتهلكنا بما فعل المبطلون } أي تهلكنا بما فعل آباؤنا المشركون { وكذلك نفصل الآيات } لقومك يا محمد { ولعلهم يرجعون } عن الكفر واتل عليهم يا محمد يعني على اليهود وهو كلام جار الله والذي روي في الحاكم.
[7.175-179]
{ واتل } يا محمد على قومك { نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان } هو عالم من علماء بني اسرائيل، وقيل: رجل من الكنعانيين اسمه بلعم بن باعورا أوتي علم بعض كتب الله تعالى فانسلخ منها أي من الآيات بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره، فاتبعه الشيطان فلحقه وأدركه وصار قريبا له { فكان من الغاوين } فصار من الضالين الكافرين، وروي أن قومه طلبوا إليه أن يدعو على موسى ومن معه فأبى، وقال: كيف أدعو على من معه من الملائكة فألحوا عليه ولم يزالوا حتى فعل { ولو شئنا لرفعناه بها } لعظمناه ورفعناه إلى منازل الأبرار من العلماء بتلك الآيات { ولكنه أخلد الى الأرض } مال إلى الدنيا { فمثله كمثل الكلب } فصفته التي هي مثل في الحسنة كصفة الكلب في أحسن أحواله، وقيل: معناه ان وضعته فهو ضال كالكلب إن طردته يلهث وإن تركته على حاله يلهث، وقيل: لما دعا بلعم على موسى خرج لسانه من فيه فوقع على صدره فجعلت تلهث كما يلهث الكلب، وقيل: نزلت الآية في قريش ذكره الحاكم أتاهم الله الآيات فلم يقبلوها ذكره في الحاكم، وقيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فجحدوه، وقيل: في عالم ارتد ومال الى الدنيا، وقيل: هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض وأبى أن يقبله { ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا } من اليهود بعدما قرأوا بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس به (صلى الله عليه وآله وسلم) { فاقصص القصص } أي قص عليهم يا محمد هذا الحديث، قيل: على بني إسرائيل، وقيل: على قومك { لعلهم يتفكرون } ، قوله تعالى: { ساء مثلا } أي بئس الصفة المضروب فيها المثل وروى الثعلبي أنها نزلت في رجل قد اعطي ثلاث دعوات مستجابة، وكان له امرأة وكان له منها ولد، فقالت: اجعل لي منها دعوة، فقال: ما تريدين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل، فدعا لها فرغبت عنه، فدعا عليها فصارت كلبة نباحة، فدعا الله أن يردها فردها والله أعلم { من يهدي الله فهو المهتدي } يمده بالألطاف قال تعالى: { والذين اهتدوا زادهم هدى } { ومن يضلل } ، قيل: بالعقوبة، وقيل: بالترك { ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس } الآية، قال جار الله: هم المطبوع على قلوبهم الذين علم الله أنه لا لطف لهم، وجعلهم في أنهم لا يلقون أذهانهم إلى معرفة الحق، ولا ينظرون بعيونهم إلى ما خلق الله نظر اعتبار، ولا يسمعون ما يتلى عليهم من آيات الله سماع تدبر، كأنهم عدموا فهم القلوب وابصار العيون واستماع الآذان، قال الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
وإنما قال: ذرأنا لأنهم يصيرون إلى جهنم بكفرهم بربهم واللام للعاقبة، كقوله تعالى:
فالتقطه آل فرعون ليكون لهم
[القصص: 8] الآية وأنشدوا:
أموالنا لذوي الميراث نجمعها
ودورنا لخراب الدهر نبنيها
ثم وصفهم تعالى فقال: { لهم قلوب لا يفقهون بها } أي لا يعلمون { ولهم أعين لا يبصرون بها } طريق الحق وسبيل الرشاد { ولهم آذان لا يسمعون بها } فيعرفون بذلك توحيد الله تعالى { أولئك كالأنعام بل هم أضل } في عدم الفقه والنظر للاعتبار والاستماع للتدبر، يعني هم أضل من الأنعام عن الفقه والتدبر والاعتبار { أولئك هم الغافلون } الكاملون في الغفلة.
[7.180-187]
{ ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها } يعني الأسماء التي يفيد المدح كعالم وقادر وحي وقديم وإله وسميع وبصير، وروي في الثعلبي: أن رجلا دعا في صلاته الرحمن فقال رجل من مشركي مكة: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو ربين؟ فأنزل الله: { ولله الأسماء الحسنى } هي الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام ونحوها، وروي فيه أيضا: أن لله تسعة وتسعين اسما من حفظها كلها دخل الجنة { وذروا الذين يلحدون في أسمائه } يميلون عن الحق والصواب بتسميتهم الأوثان آلهة، وعن ابن عباس: يكذبون { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق } ، قيل: يهدون إلى الرشد، وقيل: يهدون به { وبه يعدلون } ، أي بالحق يميلون، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" هي لأمتي بالحق يأخذون وبالحق يعطون "
، وقيل: هم مؤمنو أهل الكتاب، وقيل: هم الأنصار، وقيل: هم العلماء والأتقياء في كل عصر { والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } نزلت في المستهزئين أهلكهم الله تعالى جميعا، ومعنى استدراجهم من حيث لا يعلمون بأخذهم من أي طريق سلكوها حتى لا يفوت منهم أحد { وأملي لهم } أي أمهلهم ولا أعاجلهم بالعقاب { إن كيدي متين } أي عذابي شديد { أو لم يتفكروا ما بصاحبهم } وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { من جنة } من جنون لأنهم قالوا: شاعر مجنون { إن هو إلا نذير مبين } مخوف { أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله } فيهما { من شيء } يعني فيما يدلان عليه من عظم الملك، والملكوت الملك العظيم، فيعلمون أن من قدر على ذلك مع عجائب صفته قدر على البعث، ويتدبروا فيما خلق الله تعالى { وان عسى أن يكون قد اقترب أجلهم } فيهلكون { فبأي حديث بعده } أي بعد القرآن { يؤمنون } يصدقون لا حديث ينزل بعد القرآن { من يضلل الله فلا هادي له } قيل: من يحكم بضلالته بعد هذا البيان فلا أحد يحكم بهدايته، { يسألونك عن الساعة } الآية نزلت في اليهود قالوا: يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا فانا نعلم متى هي وكان ذلك امتحانا منهم مع علمهم أن الله تعالى قد استأثر بعلمها، وقيل: السائلون قريش { أيان مرساها } يعني متى ومنه قول الزاجر:
أيان تقضى حاجتي أيانا
مرساها أي بناؤها، وقال ابن عباس: منتهاها، وقيل: قيامها { قل } يا محمد { إنما علمها عند ربي } استؤثر بعلمها { لا يجليها } يطهرها ويكشفها { إلا هو ثقلت في السموات والأرض } يعني ثقلت واشتدت على أهل السموات والأرض لخفائها، وقيل: عظم وصفها على أهل السموات والأرض انتثار النجوم وتكوير الشمس { لا تأتيكم إلا بغتة } فجأة على غفلة { يسألونك كأنك حفي عنها } أي عالم بها { قل } يا محمد { إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن علمها عند الله حين سألوا محمدا عما لم يطلعه.
[7.188-193]
{ قل } يا محمد { لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله } الآية نزلت في أهل مكة قالوا: يا محمد لا يخبرك ربك عن الرخص والغلاء فتشتري في وقت الرخص وتبتاع في وقت الغلاء فتربح، وإذا كنت في أرض تريد أن تجدب ترحل إلى الخصيب فنزلت الآية، إلا ما شاء الله أن أملكه بتمليكه إياي تعالى { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } والمضار حتى لا يمسني منها شيء ولم آل في الحروب غالبا مرة ومغلوبا مرة ومغلوبا أخرى { إن أنا إلا } عبد أرسلت { نذير وبشير لقوم يؤمنون } يصدقون { هو الذي خلقكم من نفس واحدة } يعني آدم (عليه السلام) { وجعل منها } أي خلق منها { زوجها } وهي حوى خلقها الله من جسد آدم من ضلع من أضلاعه { ليسكن اليها } أي ليطمئن إليها ويميل { فلما تغشاها } والتغشي كناية عن الجماع { حملت حملا خفيفا } خف عليها لم تلق منه ما تلقى بعض الحبالى من حملهن من الكرب { والأذى فلما أثقلت } كبر الحمل في بطنها وتحرك { دعوا الله ربهما } يعني دعا آدم وحوى ربهما مالكهما الذي هو الحقيق بأن يدعى إليه قالا: { لئن آتيتنا صالحا } وهبت لنا ولدا صالحا في الدين { لنكونن من الشاكرين } قال في الثعلبي: وذلك أنهما أشفقا أن يكون بهيمة، وروي فيه أيضا: أن آدم وحوى لما أهبطا إلى الأرض ألقيت الشهوة في نفس آدم فأصابها فحملت، فلما تحرك ولدها في بطنها أتاها ابليس فقال: ما هذا إلا ناقة أو جمل أو بقرة أو ضائنة أو ماعز، وما يدريك ما في بطنك لعله كلب أو خنزير أو حمار، وما يدريك من أين يخرج من دبرك فيقتلك أو من عينك أو أذنك أو من فيك أو ينشق بطنك، فخافت حوى، فقال: أطيعيني وسميه عبد الحرث وكان اسمه في الملائكة الحارث تلدين، فذكرت ذلك لآدم (عليه السلام) فقال: لعله صاحبنا الذي قد علمت، فلم يزل بهما حتى سمياه عبد الحرث، وروي عن ابن عباس أيضا: كانت حوى تلد لآدم (عليه السلام) فتسميه عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن ونحو ذلك فيصيبهم الموت، فأتاهما ابليس فقال: إن شئتما يعيش لكما ولد فسمياه عبد الحرث، فولدت إبنا فسماه عبد الحرث { فلما آتاهما } ما طلباه من الولد الصالح السوي { جعلا له شركاء } أي جعلا أولادهما له شركا على حذف المضاف وإقامة المضاف اليه مقامه وكذلك { فيما آتاهما } أي أتى أولادهما، ويدل عليه قوله تعالى: { فتعالى الله عما يشركون } وآدم وحوى يريان من الشرك ومعنى اشركهم فيما أتاهم تسميتهم أولادهم بعبد العزى وعبد مناة وعبد شمس وما أشبه ذلك مكان عبد الله وعبد الرحمن { أيشركون ما لا يخلق شيئا } ، قيل: الأوثان يعني كفار مكة فإن الأوثان لا تخلق شيئا ولا تقدر عليه، وقيل: الشمس وسموا عبد شمس وهذا إنكار وتقريع { وهم يخلقون } يعني الشمس لا تخلق شيئا حتى يكون لها عبدا وإنما هي مخلوقة، وقيل: أولاد آدم { ولا يستطيعون لهم نصرا } يعني هذه الأوثان لا يقدرون على معونتهم على عدوهم { ولا أنفسهم ينصرون } يدفعون عن أنفسهم مكروها { وان تدعوهم إلى الهدى } ، قيل: ان تدعو المشركين إلى الهدى { لا يتبعوكم } ، وقيل: المراد الأصنام يعني ادعوا هذه الأصنام إلى الهدى، إلى ما هو هدى ورشاد، والمعنى ان تطلبوا منهم كما تطلبون من الله تعالى من الخير والهدى { لا يتبعوكم } إلى مرادكم ومطلبكم ولا يجيبونكم كما يجيبكم الله تعالى ويدل عليه قوله تعالى: { فادعوهم } الآية.
[7.194-200]
{ إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم } استهزاء بهم، وإنما قيل: إنما سميت الأوثان عباد إلا أنها مملوكة لله تعالى، وقيل: صارت مخلوقة أمثالكم، وقوله تعالى: { ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها } أي ليس لهم أي للأوثان هذه الحواس فأنتم أفضل منهم فلم عبدتموهم؟ روي ذلك في الحاكم عن أبي علي، { قل } يا محمد { ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون } روي أن المشركين خوفوه بآلهتهم فأجابهم بذلك، يعني ادعوا الأوثان ثم كيدون بأجمعكم، أي أمكروا بي فلا تنظرون أي لا تؤخروا لتعلموا أن كيدكم لا يضرني لأن الله تعالى يدفع عني { إن وليي الله } أي ناصري وحافظي { الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين } ، قوله تعالى: { والذين تدعون من دونه } يعني الأصنام { لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون } ، قيل: الأوثان، وقيل: الكفار لا ينصرون أنفسهم ولا معبودهم { وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون } ، قيل: هم عباد الأوثان ينظرون إليك كأنهم لا يبصرونك كراهة النظر إليك، وبغضا منهم لك لأنهم لا يتأملون حقائق ما ينظرون اليه من آيات الله ومعجزات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين } ، قيل: لما نزلت الآية سأل جبريل فقال: لا أدري حتى أسأل، ثم رجع فقال: يا محمد ان ربك يقول: أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك، وتعفوا على من ظلمك، وعن جعفر الصادق (عليه السلام): " أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن أجمع لمكارم الأخلاق منها " { واعرض عن الجاهلين } يعني لا تكافئ السفهاء بمثل سفههم ولا تمارهم، وقال بعضهم في قوله: { واعرض عن الجاهلين } نسختها آية السيف { وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } أي يعرض لك ويصيبك من وسوسة في خلاف ما أمرت به { فاستعذ بالله } أي استجر بالله من نزغه، { إنه سميع عليم }.
[7.201-206]
قوله تعالى: { إن الذين اتقوا } الكفر والكبائر { إذا مسهم } إذا أصابهم { طائف } قيل: وسوسة، وقيل: غضب { تذكروا } في الوعد والوعيد، وقيل: تذكروا الله تعالى فتركوا الذنب { فإذا هم مبصرون } ما عليهم من الخطيئة والعصيان، وما لهم من الثواب والرضوان { وإخوانهم } يعني إخوان الشياطين في الضلال { يمدونهم } الشياطين، وقيل: إخوان الشياطين المشركين، وإنما سماهم إخوانا لقبولهم منهم { ثم لا يقصرون } أي يكفون عن أغوائهم، وقيل: لا يمسكون، ومعنى: { لولا اجتبيتها } هلا اجتمعتها افتعالا من عند نفسك، لأنهم كانوا يقولون: { ما هذا إلا إفك مفترى } يعني القرآن { بصائر } حجج وبراهين { وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا } ظاهرة وجوب الاستماع والانصات وقت تلاوة القرآن وفي صلاة وغير صلاة، وقيل: كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت ثم صار سنة في غير الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرأ فيه القرآن، وقيل: معناه استمعوا له اعملوا بما فيه ولا تجاوزوه { واذكر ربك في نفسك } هو عام في الاذكار من قراءة القرآن وغيرها من الدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك، وقيل: هو أمر بالصلاة، وقيل: بالقراءة في الصلاة { تضرعا } تخشعا وتذللا، وقيل: المراد به الصلوات المكتوبات { وخيفة } خفا خوفا من عقابه { ودون الجهر من القول } ومتكلما كلاما دون الجهر لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص { بالغدو والآصال } ، قيل: أراد دوام الذكر ومعنى بالغدو وقت أول النهار، والآصال العشي { ولا تكن من الغافلين } الذين يغفلون عن ذكر الله تعالى: { إن الذين عند ربك } هم الملائكة (صلوات الله عليهم) قال الحاكم: والآية تدل على أن الملائكة أفضل من بني آدم { ويسبحونه } ينزهونه عما لا يليق عليه { وله يسجدون } ، قيل: يخضعون، وقيل: يهلون.
فصل
لا خلاف أن في آخر الأعراف سجدة، قال أبو حنيفة: كل موضع للسجود في آخر السورة أو قريبا منه فهو بالخيار إن شاء ركع وإن شاء سجد ورفع رأسه قام وقرأ القرآن ثم ركع، واختلفوا في حكمها فقال أبو حنيفة: سجدة التلاوة واجبة، شرط فيها من الطهارة والقبلة وغيرها ما يشرط في الصلاة، وقال الشافعي: سنة مؤكدة، قال أبو حنيفة: يكبر ويسجد ويكبر ويرفع رأسه مكبر ولا سلام، وقال الشافعي: فيه سلام.
[8 - سورة الأنفال]
[8.1-3]
{ يسألونك عن الأنفال } النفل الغنيمة لأنها من فضل الله تعالى وعطائه، وهو أن يقول الإمام في الحرب: " من قتل قتيلا فله سلبه " أو قال لسريته: " ما أصبتم فهو لكم ويلزم الإمام الوفاء بما وعد منه " وعند الشافعي في أحد قوليه: لا يلزم، ولقد وقع الاختلاف بين المسلمين في غنائم بدر وقسمتها فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف يقسم ولمن الحكم في قسمته أللمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا؟ فنزلت السورة وبين أن أمر ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليكم فيها كيف شاء ليس لأحد غيره فيها حكم،
" وعن سعد بن أبي وقاص: قتل أخي عمير يوم بدر، فقتلت به سعد بن أبي العاص، وأخذت سيفه فأعجبني، فجئت به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقلت: إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف، فقال: " ليس هذا لي ولا لك " فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد نزلت سورة الأنفال فقال لي: " يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وإنه قد صار لي فخذه "
وعن عبادة بن الصامت: نزلت فينا يا معشر أهل بدر { قل الأنفال لله والرسول } يعني أنها مختصة بالله ورسوله بأمر الله تعالى بقسمها على ما يقتضيه حكمه بأمر الله تعالى، وكان في ذلك تقوى الله، وطاعة رسوله، واصلاح ذات البين { إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله } ، قيل: ذكر بتوحيده وصفاته ووعده ووعيده { وجلت قلوبهم } يعني خافت، وقيل: فزعت استعظاما لذكره { وإذا تليت عليهم آياته } يعني القرآن { زادتهم إيمانا } تصديقا إلى تصديقهم { وعلى ربهم يتوكلون } أي يفوضون أمرهم إليه { الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون } يريد الزكاة المفروضة، وقيل: على سبيل البر.
[8.4-6]
{ أولئك هم المؤمنون حقا } يعني يقينا وتصديقا { لهم درجات عند ربهم } يعني درجات الجنة يرزقونها بأعمالهم { ومغفرة } من ربهم لذنوبهم { ورزق كريم } أي حسن عظيم وهو الجنة { كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون } وذلك
" أن عير قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام، فأخبر جبريل (عليه السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه، فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم فلما خرجوا بلغ أهل مكة خروجهم فنادى أبو جهل فقال: النجاء النجاء فوق الكعبة أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبدا، وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا، فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة فمضى بهم إلى بدر، وكانت العرب تجتمع فيها لسوقهم يوما في السنة، ونزل جبريل (عليه السلام) فقال: يا محمد إن الله وعدك إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا، فاستشار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه وقال: " ما تقولون إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحب إليكم أم النفير؟ " قالوا بل العير أحب إلينا من لقاء العدو، فتغير وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم رد عليهم وقال: " إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل " فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير وذر العدو، فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقام إليه رجال من الصحابة، ثم قام اليه سعد بن عبادة، ثم قام المقداد بن عمرو وقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فأنا معك حيث أحببت، ولا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى بن عمران: { اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا انا معكما مقاتلون ما دامت عين منا تطرف، فضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: " سيروا على بركة الله وابشروا ان الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أرى مصارع القوم " ، وروي أن سعد بن معاذ قال: امض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق نبيا لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، وما تخلف منا رجل واحد، وانا لصبر عند اللقاء والحروب، ولعل الله تعالى يريك منا ما تقر به عينك، ففرح بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: " سيروا على بركة الله وابشروا "
{ يجادلونك في الحق } يعني في القتال وذلك أن المؤمنين لما أيقنوا بالشوكة والحرب يوم بدر كرهوا ذلك، فقالوا: يا رسول الله لم تعلمنا بلقاء العدو حتى نستعد لقتالهم وإنما خرجنا للعير؟ فذلك الحق الذي جادلوا فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلقاء النفير لأنه كان غرضهم العير { بعدما تبين } يعني باعلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنهم ينصرون وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير { كأنما يساقون إلى الموت } تشبيه لما كان منهم من مجادلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وروي أنه ما كان فيهم إلا فرسان.
[8.7-14]
{ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين انها لكم } روى الثعلبي قال: ولما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قريبا من بدر سمع أبو سفيان بمسير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري وبعثه إلى مكة يخبرهم أن محمدا قد خرج لعيرهم، فأتى مكة فأخبرهم بذلك فغضبوا وانتدبوا وخرجوا وقالوا: لا يتخلف عنا أحد وخرج الشيطان في صورة سراقة { وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم } وهي العير لأنه لم يكن معها إلا أربعون فارسا، والشوكة النجدة مأخوذة من واحدة الشوك { ويريد الله أن يحق الحق بكلماته } يعني بأمره لكم بقتال الكفار { ليحق الحق } بظهور الإسلام { ويبطل الباطل } الكفر، وقيل: الحق القرآن { إذ تستغيثون ربكم } وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد لهم من القتال دعوا الله يقولون: اللهم انصرنا على عدونا يا غياث المستغيثين،
" وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة فاستقبل القبلة ومد يده يدعو وقال: " اللهم انجزني ما وعدتني "
{ فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } ، قيل: نزل جبريل (عليه السلام) في خمسمائة ملك على الميمنة وميكائيل (عليه السلام) على الميسرة في خمسمائة وفيها علي بن أبي طالب (عليه السلام)، روي أنها نزلت الملائكة يوم بدر على صورة الرجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم فقاتلوا، ولم يقاتلوا إلا يوم بدر ويوم الأحزاب، وعن أبي داوود المازني: تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي، وقيل: لما يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد، ويثبتون المؤمنين، وإلا فملك واحد كاف بأهل الدنيا، فإن جبريل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، وأهلك بلاد ثمود قوم صالح بصيحة واحدة { وما جعله الله } يعني الإمداد بالملائكة { إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله } فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين { إذ يغشيكم النعاس أمنة منه } وهي غاية الأمن لأن الخوف يسهر، قيل: لما أسهرهم الخوف أرسل الله عليهم النوم فأمنوا واستراحوا { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } من الجنابة { ويذهب عنكم رجز الشيطان } ، وروي أنه أصابهم الظمأ، فوسوس اليهم الشيطان أنهم يهلكون من العطش، فأرسل الله عليهم المطر فشربوا وتطهروا ولبدت الأرض وزالت وسوسة الشيطان ورجز الشيطان وسوسته ومطاياه، وقيل: هو الاحتلام { وليربط على قلوبكم } أي يشدها ويقويها بالأمن وزوال الخوف { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم بالمعونة والنصر فثبتوا الذين آمنوا } ، قيل: بقتالهم معهم يوم بدر، وقيل: بحضورهم معهم في الحروب { سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب } يعني الخوف أخبر به الملائكة ليخبر به المؤمنين { فاضربوا فوق الأعناق } ، قيل: هو أمر للملائكة، وقيل: بل هو للمؤمنين، قيل: ومعنى فوق الأعناق اضربوا الأعناق كقوله: { فضرب الرقاب } قال الأصم: سورة محمد نزلت بعد بدر، وقيل: معناه الأعناق فما فوقها، وقيل: فاضربوا الرؤوس فوق الأعناق { واضربوا منهم كل بنان } يعني اضربوا الرؤوس والأيدي { ذلك بأنهم شاقوا الله } يعني هؤلاء الكفار خالفوا الله فيما أمر الله به وخالفوا رسوله فيما شرع لهم { ذلكم فذوقوه } يعني هذا العذاب الذي عجله الله لكم أيها المشركون من القتل والأسر والخذلان جزاء لكم على فعلكم { وأن للكافرين } في القيامة { عذاب النار }.
[8.15-21]
{ يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا } الآية نزلت يوم بدر، وقيل: خطاب لجميع المؤمنين، وقوله: { زحفا } ، قيل: مجتمعين متراجعين بعضكم إلى بعض، والزحف التداني والتقارب { فلا تولوهم الأدبار } أي لا تولوهم ظهوركم هربا منهزمين { ومن يولهم يومئذ دبره } أي ظهره { إلا متحرفا لقتال }: يعني يعدل من جهة إلى جهة وهو ثابت على القتال { أو متحيزا إلى فئة } ، قيل: مائلا إلى جماعة، وقيل: الفئة الجماعة المنتصبة للقتال، وقيل: الإمام وجماعة المسلمين، وعن ابن عباس: الفرار من الزحف من أكبر الكبائر { فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم } لأنه الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وذلك أنهم لما كسروا أعداء مكة وأسروا وقتلوا اقبلوا على التفاخر فكان القائل منهم يقول: قتلت وأسرت، فنزلت: { فلم تقتلوهم } { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى }
" وذلك لما طلعت قريش قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " هذه قريش قد جاءت بخيلها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتني } فأتاه جبريل وقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فقال لما التقى الجمعان قال لعلي (عليه السلام): " اعطني قبضة من حصى الوادي " فرماهم بها في وجوههم، وقال: " شاهت الوجوه " فلم يبق مشرك إلا اشتغل بعينيه، فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم "
، وروي في تفسير الثعلبي عن قتادة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذ يوم بدر ثلاث حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم، وحصاة في ميسرتهم، وحصاة في قلبهم، وروي فيه أيضا: أن هذه الآية نزلت في قتل أبي بن خلف الجمحي يوم أحد، حين قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحربة في يده فرمى بها أبي بن خلف فكسرت ضلعا من أضلاعه، فانطلق به أصحابه ينعشونه حتى مات في الطريق فدفنوه فأنزل الله تعالى: { وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } أي لينعم عليهم نعمة عظيمة بالنصر والفتح والغنيمة، وقيل: ليختبرهم بذلك أي يعاملهم معاملة المختبر ليظهر المعلوم منهم { ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } أي مضعف { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } الآية نزلت في المشركين وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أقرانا للضيف، وأوصلنا للرحم، إن كان محمد على حق فانصره، وإن كنا على حق فانصرنا، وقيل: إن تستفتحوا خطاب للمؤمنين { وإن تنتهوا } خطاب للمشركين، يعني وان تنتهوا عن عداوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { فهو خير لكم } وأسلم روي في الثعلبي عن عكرمة قال المشركون: اللهم ما نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق، فأنزل الله هذه الآية { إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح } ، يعني ان تستقضوا فقد جاءكم القضاء { وان تعودوا } للمحاربة له { نعد } لنصرته { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون } يعني لا تعرضوا عن القرآن وأنتم تسمعون مواعظه وأوامره ونواهيه، وقيل: وأنتم تسمعون دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمره ونهيه { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } ، الآية نزلت في المنافقين، وقيل: في أهل الكتاب قالوا: سمعنا سماع عالم به قائل له وليسوا كذلك، وقيل: لم ينتفعوا بسماعه أي لم يتعظوا فكأنهم لم يسمعوا في الحقيقة.
[8.22-29]
{ ان شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون } ، قيل: نزلت الآية في بني عبد الدار بن قصي، قالوا: نحن صم بكم عما جاء به محمد فلا نسمعه ولا نجيبه، يعني أن شر ما يدب على الأرض من خلق الله عنده هؤلاء { ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم } العلم والقرآن { ولو أسمعهم لتولوا } عن القرآن { وهم معرضون } عن الإيمان { يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم } يعني إذا دعاكم إلى الإيمان والطاعات التي هي حياة النفوس، وقيل: الى الحق لما يحييكم من علوم الدين والشرائع لأن العلم حياة كما أن الجهل موت { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } يعني يحول بين المرء والانتفاع بقلبه وإذهاب اللب، وقيل: بالموت، وقيل: بالنوم، وقيل: أراد تبديل قلبه من حال إلى حال لأنه مقلب القلوب سبحانه وتعالى واعلموا أنكم { إليه تحشرون } تجمعون فيجازيكم بأعمالكم { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } أي العذاب لا يصيب ذلك الظالم وحده، بمعنى لا تفعلوا المعاصي وامروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإنكم إن لم تفعلوا أعمكم العذاب، وقيل: هو عذاب الاستئصال يصيب الظالم عقوبة وغيره محنة، وقيل: هو القحط، وقيل: هو الذنب، قال في الغرائب: هي الفتنة في زمن علي (عليه السلام) وقال فيه أيضا: هي إظهار البدع { واذكروا إذ أنتم قليل } يا معاشر المهاجرين { مستضعفون } يعني مكة قبل الهجرة { تخافون أن يتخطفكم الناس } لأن الناس كانوا لهم أعداء منافقين { فآواكم } إلى المدينة { وأيدكم بنصره } بمظاهرة الانصار وإمداد الملائكة يوم بدر { ورزقكم من الطيبات } من الغنائم { لعلكم تشكرون } { يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم } الآية نزلت في خاطب بن أبي بلتعة حين كتب الى أهل مكة أن محمدا يريدكم، وقيل: نزلت في أبي لبابة الأنصاري حين حاصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يهود بني قريظة إحدى وعشرون ليلة فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الصلح فلم يقبل منهم إلا حكم سعد بن معاذ، فاستشاروا أبي لبابة، فأشار عليهم أبو لبابة إلى حلقه وأنه الذبح فلا تفعلوا ثم مات أبو لبابة، وقيل: الخطاب للمؤمنين، وقيل: للمنافقين الذين آمنوا ظاهرا، قيل: لا تخونوا الله بترك فريضته والرسول بترك سننه وشرائعه، قال الحسن: من ترك شيئا من الدين وضيعه فقد خان الله، وقوله: { وتخونوا أماناتكم } ، قيل: إذا خانوا الله تعالى فقد خانوا أماناتهم، وقيل: الأموال أمانة في أيديكم { وأنتم تعلمون } ما في الخيانة من العقاب، وقال قتادة: واعلموا أن دين الله أمانة فأدوا إلى الله تعالى ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده، ومن كانت عليه أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها { يأيها الذين آمنوا ان تتقوا الله } بطاعته وترك معصيته { يجعل لكم فرقانا } ، قال في الثعلبي: مخرجا في الدنيا والآخرة، وقيل: نصرا، وقيل: فصلا بين الحق والباطل { ويكفر عنكم سيئاتكم } ، ويمحوا ما سلف من ذنوبكم { ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم }.
[8.30-33]
{ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } وذلك أن قريشا لما أسلمت الأنصار وبايعوه اجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره فدخل عليهم ابليس لعنه الله تعالى في صورة شيخ فقال: أنا شيخ من نجد دخلت مكة فسمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا، فقالوا: تحبسونه في بيت وتشدوا وثاقه، فقال ابليس: بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه، فقال هشام بن عمرو بن عروة: تخرجونه من بين أظهركم، فقال ابليس: بئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم، فقال أبو جهل: تأخذون من كل بطن غلاما فتضربونه ضربة رجل واحد، فيفترق دمه فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فقال الشيخ: صدق هذا الفتى هذا أجودكم رأيا، فتفرقوا على رأي أبي جهل مجمعين على قتله، فأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن الله له في الهجرة، ونام علي (عليه السلام) في مضجعه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " اتشح ببردتي فإنه لا يصل إليك أمرا تكرهه " ثم خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال في الثعلبي: وجعل (صلى الله عليه وآله وسلم) ينثر التراب على رؤوسهم ومضى إلى الغار في ثور وهو جبل فدخل فيه هو وأبو بكر وخلف علي (عليه السلام) بمكة حتى يؤدي الودائع وبات المشركون يحرسون عليا الى الصباح، وقالوا له: أين صاحبك؟ وقد رد الله مكرهم، فمكث في الغار ثلاثة أيام ثم قدم المدينة، وقوله: { ليثبتوك } أي يشدوك { وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا } الآية نزلت في النضر بن الحرث وكان النضر يختلف بتجارة له إلى الشام إلى بلاد فارس، وهو المعنى بقوله: { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } ، وقيل: نزلت في كفار قريش قالوا ذلك تمردا، وقولهم: { هذا أساطير الأولين } أي أخبار الأمم الماضية { فأمطر علينا حجارة من السماء } كما أمطرتها على قوم لوط { أو ائتنا بعذاب أليم } أي ببعض ما عذب به الأمم قال عطا: لقد نزل في النضر بن الحرث بضع عشر آية من كتاب الله تعالى، قال في الثعلبي:
" وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قتل يوم بدر ثلاثة من قريش صبرا: المطعم بن عدي، وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحرث، وكان النضر أسير المقداد فلما أمر بقتله قال المقداد، أسيري يا رسول الله؟ قالها ثلاثا: فقال: " اللهم أغن المقداد من فضلك " فقال المقداد: هذا الذي أردت "
{ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } الآية يعني فيهم بقية من المؤمنين يستغفرون الله تعالى بعد خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن عذاب الاستئصال يعم ولو عذب لعذاب هؤلاء المؤمنون المستغفرون، ولما خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عذبهم بالسيف { وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام } ، قيل: كانوا يصدون المؤمنين، وقيل: صدوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عام الحديبية وكانوا يقولون نحن ولاة البيت، قال في الثعلبي: وقوله: { وما كان الله معذبهم } الآية فأما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد مضى، وأما الاستغفار فهو كائن فيكم إلى يوم القيامة، وقال عكرمة: وهم يستغفرون أي يصلون.
[8.34-39]
{ وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون } المؤمنون يعني البيت حيث كانوا وأين كانوا { وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية } ، قيل: المكاء الصفير، والتصدية التصفيق. { إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله } الآية نزلت في المطعمين ببدر وكانوا اثني عشر رجلا من رؤساء قريش منهم: أبو جهل بن هشام، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والعباس بن عبد المطلب، والنضر بن الحرث، وأبي بن خلف، وربيعة بن الأسود، والحرث بن عمرو بن نوفل { فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون } فلا ينصرون { والذين كفروا إلى جهنم يحشرون } يجمعون إلى النار { ليميز الله الخبيث من الطيب } أي الفريق الخبيث من الكفار من الفريق الطيب من المؤمنين، وقيل: يميز في الدنيا بالغلبة والنصر وفي الآخرة بالثواب والجنة { ويجعل الخبيث بعضه على بعض } يعني الكفار يجمعهم في جهنم، وقيل: يجمعون وما انفقوا فيدخلون جهنم { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } الآية نزلت في أبي سفيان وأصحابه، وقيل: هو عام { وإن يعودوا } إلى الكفر وقتال المسلمين { فقد مضت سنة الأولين } في نصرة الدين وإهلاك الكفر { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } يعني الا أن لا يوجد فيهم شرك قط { وان تولوا فاعلموا أن الله مولاكم } أي ناصركم ومعينكم { نعم المولى ونعم النصير } الناصر.
[8.40-46]
{ واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه } عند الشافعي: سهم الله تعالى يقسم على خمسة أسهم للرسول يصرف إلى ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين، وسهم ذوي القربى من أغنيائهم وفقرائهم يقسم عليهم للذكر مثل حظ الانثيين، والباقي للفرق الثلاث، وعن علي (عليه السلام) أنه قيل له أن الله تعالى قال: واليتامى والمساكين فقال: هم يتامانا ومساكيننا، وعن الحسن: سهم رسول الله لأولي الأمر من بعده، وقيل: الآية نزلت ببدر، وقيل: كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام، قال في الثعلبي: كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس: فأربعة أخماس لمن قاتل عليها، ويقسم الخمس الباقي على خمسة أخماس خمس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخمس لذوي القربى، وخمس لليتامى، وخمس للمساكين، وخمس لابن السبيل، فسهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خمس الخمس، قوله تعالى: { إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان } يوم فرق فيه بين الحق والباطل { يوم التقى الجمعان } يوم بدر، والجمعان الفريقان من المسلمين والكفار، والمراد ما أنزل عليه من الآيات والملائكة والفتح يومئذ { إذ أنتم بالعدوة الدنيا } مما يلي المدينة { وهم بالعدوة القصوى } مما يلي مكة { والركب أسفل منكم } يعني الركب الأربعين الذين كانوا يقودون العير أسفل منكم بالساحل، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأعلى الوادي والمشركون بأسفله، والعير قد انحاز بها أبو سفيان على الساحل، وفي العدوة قرابات كسر العين وهي قراءة أهل مكة ورفقها { ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } لقلتكم وكثرة عدوكم { ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا } من إعزاز دينه وإعلاء كلمته حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين منهم غير مبينة حتى خرجوا ليأخذوا العير { ليهلك من هلك عن بينة } بما رآه يوم بدر، وقيل: قول لا إله إلا الله، وقيل: أراد بالهلاك فعل ذلك معجزة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونصرة لأوليائه عن بينة عن حجة أي بعد إقامة الحجة { ويحيى من حي عن بينة } بما أراه يوم بدر، وقيل: قول لا إله إلا الله، وقيل: بالهلاك بالضلال، وبالحياة حياة الدين { إذ يريكهم الله } يعني المشركين { في منامك } يا محمد، يعني نومك، وقيل: في موضع نومك وهو العين، وذلك أن الله تعالى أراهم إياه في منامه قليلا، فأخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه، وقالوا: رؤيا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حق، فكان نعمة من الله شدد بها قلوبهم { ولو أراكهم كثيرا لفشلتم } يعني لجبنتم عن قتالهم { ولتنازعتم } اختلفتم في محاربتهم { ولكن الله سلم } أي عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع { إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا } وإنما قللتم في أعينهم تصديقا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال ابن مسعود: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلا فقلنا له: كم كنتم؟ قال: ألفا { ويقللكم } يا معشر المؤمنين { في أعينهم } حتى قال قائلهم: إنما هم أكلة جذور وإنما قللهم في أعين الكفار لئلا يستعدوا لهم ولا يحذروهم كل الحذر { ليقضي الله أمرا كان مفعولا } من الانتقام من أعدائه على تلك الصفة والانعام على أوليائه { يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة } أي حاربتم جماعة { فاثبتوا } لقتالهم ولا تفروا { واذكروا الله كثيرا } في مواطن الحرب مستظهرين بذكره مستبصرين به داعين على عدوكم اللهم اخذلهم اللهم اقطع دابرهم { لعلكم تفلحون } بالنصر والظفر { وأطيعوا الله } فيما أمركم به { ولا تنازعوا فتفشلوا } يعني أن اختلافكم يؤدي إلى الفشل وهو الجبن والضعف { وتذهب ريحكم } يعني دولتكم ونصركم.
[8.47-53]
{ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا } وهم أهل مكة حين نفروا لحماية العير، وأتاهم رسول أبو سفيان بالجحفة أن ارجعوا فقد سلمت عيركم، فأتى أبو جهل وقال: حتى نقدم بدر ونشرب فيها الخمور، وننحر الجزور، ونطعم الطعام من حضرنا من العرب، وتعزف علينا القينات، فذلك بطرهم { ورئاء الناس } وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع اليه لهم به سوق كل عام، فيقيموا ثلاثة أيام فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمور، وناحت عليهم النوائح مكان القينات { ويصدون عن سبيل الله } عطف على قوله: بطرا { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } التي فعلوها في معاداة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { وقال لا غالب لكم اليوم من الناس } ، قيل: زين لهم بذلك بوسوسته، وقيل: ظهر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني وكان من أشراف كنانة وقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني مجيركم من بني كنانة، قال في الثعلبي: وذلك أن قريشا لما اجتمعت للمسير ذكرت الذي بينها وبين كنانة فجاء ابليس في جند من الشياطين معه راية في صورة سراقة { فلما تراءت الفئتان } التقى الجمعان ورأى إبليس الملائكة ينزلون من السماء وعلم أنه لا طاقة لهم به { نكص على عقبيه } يعني ولى مدبرا، وقيل: كانت يده في يد الحرث بن هشام، فلما نكص قال له الحرث: إلى أين أتخذلنا في هذه الحال؟ فقال: { اني أرى ما لا ترون } ودفع في صدر الحرث وانطلق وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم، فقالوا: هو الشيطان، فقال الشيطان: { إني أخاف الله } فقال له الحرث: هلا كان هذا أمس { والله شديد العقاب } ، قال بعضهم: هذه حكاية عن ابليس، وقال آخرون: انقضى الكلام عند قوله إني أخاف الله، ثم قال الله: { والله شديد العقاب } { والذين في قلوبهم } مرض يعني شك ونفاق غر هؤلاء دينهم الآية، نزلت في الذين نافقوا في المدينة، وقيل: في قوم من قريش، وقيل: هم قوم كانوا بمكة مستضعفين فلما خرجت قريش إلى بدر أخرجوهم كرها، فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتدوا وقالوا: { غر هؤلاء دينهم } ثم قال جوابا لهم: { ومن يتوكل على الله } أي يفوض أمره إلى الله تعالى { فإن الله عزيز حكيم ولو ترى } تعاين يا محمد { إذ يتوفى } الملائكة يعني يقبضون أرواحهم عند الموت، قيل: بيوم بدر، وقيل: هم هؤلاء المنافقون الذين قالوا { غر هؤلاء دينهم } ، وقيل: جميع الكفار { يضربون وجوههم } ما أقبل منهم { وأدبارهم } ما أدبر وتقديره ويضربون وجوههم بالسيوف، وإذا ولوا أدركتهم الملائكة فيضربون أدبارهم { وذوقوا } فيه إضمار ومعناه وتقول الملائكة ذوقوا { عذاب الحريق } { ذلك بما قدمت أيديكم } كسبت وعملت { وأن الله ليس بظلام للعبيد } لا يأخذهم من غير جرم { كدأب آل فرعون } الآية نزلت في أهل مكة لما أخرجوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قتلوا يوم بدر، كدأب آل فرعون أي كعادة آل فرعون أي قومه وأتباعه، وقيل : كعادة الله تعالى في آل فرعون وسائر الكفار أن يهلكهم الله تعالى إذ كذبوا، قوله: { فأخذهم الله بذنوبهم } أي فعاقبهم { ذلك } يعني ما فعلناه بالمشركين من العقوبة إنما فعلناه لكفرهم ولاء غيروا ما أنعم الله عليهم { بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ، وقيل: أراد به هل مكة بعث الله إليهم محمدا فغيروا نعمة الله وتغييرها كفرها وترك شكرها.
[8.54-61]
قوله تعالى: { كدأب آل فرعون } أي كعادتهم وطريقتهم في التغيير والتكذيب { والذين من قبلهم } من كفار الأمم المتقدمة { فأهلكناهم بذنوبهم } بعضا بالرجفة وبعضا بالخسف وبعضا بالمسخ وبعضا بالريح وبعضا بالماء، وكذلك أهلكنا كفار بدر بالسيف { الذين عاهدت منهم } الآية نزلت في بني قريظة نقضوا عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعانوا أهل مكة بالسلاح فعاهدوا الثانية فنقضوا وأعانوا المشركين يوم الخندق وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فحالفهم على مخالفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقيل: نزلت في مشركي العرب { وهم لا يتقون } أي لا يخافون الله في نقض العهود { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم } يعني ان ظفرت بهم فشرد بهم من خلفهم نكل بهم تنكيلا من ورائهم، وقيل: أهل مكة واليمن { لعلهم يذكرون } فافعلوا ذلك رجاء منكم أن يتذكروا أي يعتبر بها أمثالهم { واما تخافن } يا محمد { من قوم خيانة } يعني من قوم بينك وبينهم عهود خيانة نقض عهد مما يظهر لك منهم كما ظهر لك من بني قريظة وبني النضير { فانبذ اليهم } أي اطرح اليهم عهدهم { على سواء } وهذا من نصيحات القرآن، ومعناه فأخبرهم وأعلمهم قبل حربك إياهم إنك فسخت العهد بينك وبينهم، قال جار الله: على سواء أي على طريق مستو قصد { ان الله لا يحب الخائنين } { ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا انهم لا يعجزون } قيل: الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد غيره الذين كفروا قيل: هو عام لجميع الكفار، وقيل: هم الذين قادوا يوم بدر، سبقوا يعني فاتوا، تم الكلام، ثم استأنف الكلام فقال: انهم لا يعجزون الله تعالى في الدارين، وقيل: لا يعجزونك وإن فاتوا يوم بدر فستدركهم في غيره، وقيل: لا يفوتون { واعدوا لهم ما استطعتم من قوة } يعني من الآلات التي تكون لهم قوة عليهم من الخيل والسلاح، وقيل: الرمي { ومن رباط الخيل }: الأثاث { ترهبون } تخوفون { به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم } ، قيل: هم أهل فارس، وقيل: المنافقون، وقيل: بني قريظة، وقيل: كفرة الجن، وروي في الخبر أن الشيطان لا يقرب صاحب فرسا ولا دارا فيها فرس، وروي أن صهيل الخيل ترهب الجن { وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف اليكم } يدخر لكم ويوفر جزاؤه { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها } ، قيل: الصلح، وترك الحرب، وقيل: الى الإسلام، والآية منسوخة بقول اقتلوا المشركين، وقوله:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر
[التوبة: 29] وكان ذلك قبل نزول براءة، وقيل: الأمر موقوف على ما يراه الإمام من صلاح الإسلام وهو الصحيح.
[8.62-68]
{ وان يريدوا أن يخدعوك } ، قيل: بنو قريظة، وقيل: سائر الكفار { فإن حسبك الله } أي كافيك كما أيدك بالملائكة والمؤمنين { وألف بين قلوبهم } ، قيل: نزلت في الأوس والخزرج كان القتال بينهم مائة وعشرين سنة حتى جاء الإسلام فصاروا إخوانا بعدما كانوا أعداء { يأيها النبي حسبك الله } الآية والمعنى كافيك الله { ومن اتبعك من المؤمنين } ، وقيل: الآية نزلت في ثلاثة وثلاثين رجلا وست نسوة { يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال } أي حثهم على محاربة المشركين { إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين } من عدوهم { وإن يكن منكم مائة } صابرة { يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون } ، قيل: أن ذلك كان واجبا عليهم وكان عليهم ألا يفروا ويثبت الواحد للعشرة، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث حمزة في ثلاثين راكبا فتلقى أبا جهل في ثلاثمائة راكب، فنسخ ذلك وخفف الله عنهم بعد مدة طويلة بمقاومة الواحد للاثنين، وأنزل الله تعالى: { الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا } ، أي في الواحد عن قتال العشرة والمائة عن قتال الألف { فإن يكن منكم مائة صابرة } ثابتة في القتال محتسبة تثبت عند لقاء العدو { يغلبوا مائتين } من الكفار { وإن يكن منكم } أيها المسلمون { ألف يغلبوا ألفين بإذن الله } بأمره ونصره وهذا خبر، والمراد الأمر من الله تعالى { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } الآية نزلت في أسارى بدر وكانوا سبعين رجلا فيهم العباس وعقيل بن أبي طالب وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استشار الصحابة فأشار علي (عليه السلام) وعمر بالقتل وأشار أبو بكر وعثمان بالفداء، وروي أن سعد بن معاذ (رضي الله عنه) أشار بالقتل وفدى العباس نفسه بأربعين أوقية، والاثخان القتل، وقيل: الاثخان الغلبة للبلدان وأهلها يعني يتمكن في الأرض { تريدون عرض الدنيا } حطامها بأخذكم الفداء { والله يريد } ثواب { الآخرة } بقهركم المشركين ونصركم دين الله تعالى { والله عزيز حكيم } { لولا كتاب من الله سبق } يعني لولا حكم من الله سبق لاثباته في اللوح المحفوظ وهو أنه لا يعاقب أحدا بخطأ، وكان هذا خطأ في الاجتهاد لأنهم نظروا أن في استفدائهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم، وأن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام، وقيل: كناية أن سيحل لهم الفدية الذي أخذوها، وقيل: هو أن أهل بدر مغفور لهم، وقيل: أنه لا يعذب أحدا إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي ولم يتقدم نهي عن ذلك { لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم } روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" لو نزل بنا عذاب ما نجى منا إلا الذين أشاروا بالقتل ".
[8.69-75]
{ فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا واتقوا الله إن الله غفور رحيم } روي انه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" لم تحل الغنائم لمن كان قبلنا "
وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، ولم يكن لنبي أن يصلي حتى يبلغ محرابه، وأعطيت الرعب لمسيرة شهر يكون بيني وبين المشركين فيقذف الله الرعب في قلوبهم - وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبعث الى قومه - وبعثت الى الجن والإنس - وكانوا يعزلون الخمس فتجيء النار فتأكله - وأمرت أن أقسمه في فقراء أمتي وأخرت شفاعتي لأمتي "
{ يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم }
" الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب لما قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " افد ابن أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث " فقال له: يا محمد تركتني أتكفف قريشا ما بقيت، فقال له: " فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: ما أدري ما يصيبني هذا لك ولعبد الله والفضل؟ " فقال: وما يدريك؟ فقال: " أخبرني ربي " فقال العباس: وأنا اشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله "
، وقال العباس: قد أبدلني الله خيرا من ذلك لي عشرون عبدا إن أدناهم لبتصرف في عشرين ألفا وأرجو المغفرة من ربي { وإن يريدوا } يعني الأسرى { خيانتك } أي نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردة واستحباب دين آبائهم { فقد خانوا لله من قبل } في كفرهم { فأمكن منهم } يوم بدر كما رأيتم فسيمكن منهم إن عادوا للخيانة { إن الذين آمنوا وهاجروا } أي فارقوا أوطانهم وقومهم حبا لله ولرسوله فهم المهاجرون { والذين آووا } إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم فهم الأنصار { بعضهم أولياء بعض } أي يتولى بعضهم بعضا في الميراث، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون القرابات، فنسخ ذلك بقوله:
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله
[الأحزاب: 6] { والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء } ، قيل: في الميراث لأنهم لم يهاجروا { حتى يهاجروا } فحينئذ يحصل لكم ذلك { وإن استنصروكم في الدين } طلبوا نصركم وإعانتكم على الكفار { فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق } يجب الوفاء به { والذين كفروا بعضهم أولياء بعض } ، قال ابن عباس: الآية نزلت في مواريث مشركي العرب، وقيل: قال رجل يورث ذوي أرحامنا من المشركين فنزلت هذه الآية قيل: في الميراث، وقيل: النصر والمعونة ومعناه نهي المسلمين عن موالاة الكافرين { إلا تفعلوه } يعني أن لا تفعلوا ما أمركم الله به من تواصل المسلمين وتولي بعضهم بعضا، وقال: ابن جريج: ألا تفعلوا وتناصروا، قال الثعلبي: ألا تفعلوا وهو أن يتولى المؤمن الكافر { تكن فتنة في الأرض } ، قيل: ضلالة عظيمة، وقيل: كفر عظيم لأن المسلمين ما لم يكونوا يدا واحدة كان الشرك ظاهرا والفساد زائدا { والذين آمنوا } صدقوا الله ورسوله { وهاجروا } هاجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم يعني المهاجرين { وجاهدوا في سبيل الله أولئك } { هم المؤمنون حقا } قال الثعلبي: حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في دين الله تعالى { لهم مغفرة } لذنوبهم ورزق كريم وهو الجنة { والذين آمنوا من بعد } ، قيل: بعد نزول الآية، وقيل: بعد الحديبية، وقيل: بعد الفتح { فأولئك منكم } أي من جملتكم أيها المؤمنون { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } ، قيل: في المواريث بإجماع المفسرين { في كتاب الله } عنده في اللوح المحفوظ قاله في الثعلبي في قسمة الله المواريث التي قسمها وبينها في القران في سورة النساء { إن الله بكل شيء عليم }.
[9 - سورة التوبة]
[9.1-2]
قوله تعالى: { براءة من الله ورسوله } قال جار الله: لها عدة أسماء: براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافرة، المنكلة، المدمدمة، سورة العذاب، وقد اختلف فيها فقال بعضهم: الأنفال وبراءة سورة واحدة، وقال بعضهم: هما سورتان وترك البسملة لقول من قال أنهما سورة واحدة، والمعنى أن الله ورسوله قد تبرأ من العهد الذي عاهدتم به المشركين وأنه منبوذا لهم، قال جار الله: فإن قلت لم علقت البراءة بالله ورسوله والمعاهدة للمسلمين؟ قلت: قد أذن الله في معاهدة المسلمين أولا، وروي أنهم عاهدوا المشركين من أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا ناسا منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة فنبذوا العهد الى الناكثين، وأمر الله أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين شاؤوا وألا يتعرض لهم، وهي الأشهر الحرم، في قوله تعالى: { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } وكان نزولها سنة تسع من الهجرة، وفتح مكة سنة ثماني من الهجرة، وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر ثم تبعه علي (عليه السلام) راكب العصباء ليقرأها على أهل الموسم، فلما دنا على سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ فقال: مأمور، وروي أن أبا بكر لما كان ببعض الطريق هبط جبريل قال: يا محمد لا يبلغن رسالتك إلا رجل منك فأرسل عليا (عليه السلام)، فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله أشيء نزل من السماء؟ فقرأ عليهم ثلاثين آية أو قيل: أربعين آية، وقيل: عشر آيات، وقال: " لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ولا تدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة " قال جار الله: فعند ذلك قالوا: يا علي أبلغ ابن عمك أنا نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف، قال في الحاكم: نزلت في ثلاثة أحياض العرب، خزاعة وبني مدلج وبني خزيمة، كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاهدهم سنتين فجعل الله أجلهم أربعة أشهر ولم يعاهد أحدا بعد الاية، وقيل: نزلت في المشركين من كان له عهد ومن لا عهد له وأجلهم أربعة أشهر حتى ينظروا في أمرهم، أما أن يسلموا أو يأذنوا بحرب من الله ورسوله، وأباح دماءهم بعد هذه المدة، وقيل: نزلت في أهل مكة عاهدوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عام الحديبية على وضع الحرب عشر سنين، ودخلت خزاعة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبنو بكر دخلوا مع قريش، قعدت بنو بكر على خزاعة وأعانتهم قريش حتى تظاهروا عليهم ونقضوا وقتلوا خزاعة، فخرج عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة حتى وقف بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنشد أبياتا أولها:
يا رب إني ناشد محمدا
حلف أبينا وأبيك الأتلدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
هم بيوتنا بالحطيم هجدا
وقتلونا ركعا وسجدا
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا نصرت إن لم أنصركم "
وتجهز لحرب مكة في سنة ثمان من الهجرة عن مجاهد وابن اسحاق { فسيحوا في الأرض أربعة أشهر } هي شوال والقعدة وذو الحجة والمحرم، وهذا قول من يقول أن السورة نزلت في شوال، وقيل: هي عشرون من ذي الحجة ومحرم وصفر وشهر ربيع الأول وعشر من ربيع الآخر، قال جار الله: إن الأشهر الحرم قد نسخت وأبيح قتال المشركين فيها { واعلموا أنكم غير معجزي الله } لا تفوتونه وإن أمهلكم وهو مخزيكم أي مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب.
[9.3-5]
{ وأذان من الله ورسوله } أي إعلام من الله ومن رسوله، وهذا عام لجميع الناس، من عاهد ومن لم يعاهد، ومن نكث { يوم الحج الأكبر } يوم عرفة، وقيل: يوم النحر، وقد تقدم كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) وإعلامه الناس يوم الحج الأكبر، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يوم عرفة يوم الحج الأكبر "
ووصفه بالأكبر لأن العمرة بشهر الحج الأصغر، وجعل الوقوف هو الحج الأكبر لأنه معظم واجباته، ولأنه إذا فات فات الحج، وإن أريد به يوم النحر فلأنه يفعل فيه أفعال الحج فهو الحج الأكبر، وعن الحسن: سمي يوم الحج لاجتماع المسلمين والمشركين { فإن تبتم } من الكفر والغدر { فهو خير لكم وإن توليتم } عن التوبة أو تبتم عن التولي والإعراض عن الاسلام { فاعلموا أنكم غير } سابقين { الله } ولا فائتين عن أخذه وعقابه { إلا الذين عاهدتم من المشركين } ، قيل: الاستثناء واقع من قوله: { براءة من الله ورسوله } في العهد الذي كان، وقيل: هو عام، وقيل: هم حي من كنانة قال ابن عباس: بقي لهم من عهدهم تسعة أشهر { ثم لم ينقصوكم شيئا } من شروط العهد، وقيل: لم ينقصوا شيئا من مدة العهد بالخيانة { ولم يظاهروا } أي لم يعاونوا { عليكم } أيها المؤمنون { أحدا } من عدوكم بالنفس والمال { فأتموا اليهم عهدهم إلى مدتهم } أجلهم الذي وقعت المعاهدة عليه { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } كقولهم الجرد قيل: الأربعة الأشهر: ثلاثة سرد وواحد فرد القعدة والحجة ومحرم ورجب، وروي ذلك جماعة من المفسرين وهو أيضا قول أبي علي، وقيل: هي شهور العهد وسميت حرما لأنه تعالى حرم فيها القتال، وقيل: هي عشر من ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول وسميت حرما لأن ابتداءها في أشهر الحرم { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ، قيل: في الحل والحرم { وخذوهم واحصروهم } أي قيدوهم وامنعوهم التصرف في البلاد، وعن ابن عباس: حصروهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام { واقعدوا لهم كل مرصد } أي كل طريق { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم } أي دعوهم يحجوا معكم ويسرفوا في دار الاسلام لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.
[9.6-11]
{ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره } أي استجار بك يعني ممن أمرت بقتله أي استأمنك بعد الأشهر فأمنه { حتى يسمع كلام الله } ، قيل: اراد القرآن، وقيل: براءة لأن فيها البراءة من المشركين والأمر بقتالهم ونبذ العهد اليهم { ثم أبلغه مأمنه } بعد ذلك داره الذي يأمن فيها إن لم يسلم ثم قاتله إن شئت من غير عذر ولا خيانة وهذا الحكم ثابت في كل وقت، وعن الحسن: هي محكمة إلى يوم القيامة وهو قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعن السدي وأصحابه هي منسوخة بقوله:
قاتلوا المشركين
[التوبة: 36] { ذلك } أي ذلك الأمر بالإجارة في قوله: فأجره بسبب { أنهم قوم لا يعلمون } ما الاسلام وما حقيقة ما يدعو إليه فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفقهوا الحق { كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله } كيف استفهام والمراد به الانكار أي لا يكون لهم عهد مع ما ظهر من غدرهم ونكثهم { إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام } نزلت في قوم من بني كنانة، وقيل: هم بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو الديل دخلوا في عهد قريش في الحديبية فلما نقضت قريش أمرنا تمام العهد لمن لم ينقض، وهذا أصوب الأقوال، الآية نزلت عند فتح مكة قاله الحاكم وأراد بالمسجد الحرام: مسجد مكة { فما استقاموا لكم } على العهد { فاستقيموا لهم } على مثله { كيف وإن يظهروا عليكم } أي كيف يكون لهم عهد وحالهم أنهم إن يظهروا عليكم بعدما سبق لهم من توكيد الايمان والمواثيق لم ينظروا في حلف ولا عهد { لا يرقبوا } أي لا يحفظوا { فيكم إلا } بألسنتهم، قيل: عهدا، وقيل: يمينا { ولا ذمة } يعني عهدا { يرضونكم بأفواههم } يعطونكم بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم { وتأبى قلوبهم } أي تأبى الإيمان { اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله } الآية نزلت في أبي سفيان، وقيل: في قوم من اليهود دخلوا في العهد ونقضوا والآية لائقة بهم لأنهم حرفوا وبدلوا { لا يرقبون في مؤمن إلا } ، قيل: عهدا، وقيل: يمينا وإنما كرر تأكيدا للحجة، وقيل: الأول في صفة المنافقين الناقضين للعهد والثاني صفة لليهود { وإن نكثوا ايمانهم } أي نقضوا العهد { وطعنوا في دينكم } عابوه { فقاتلوا أئمة الكفر } ، قيل: نزلت الآية في أبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وعكرمة بن أبي جهل وسائر رؤساء قريش الذين نقضوا العهد، وقيل: فارس والروم، وقيل: علماء الضلال لأنهم القادة { إنهم لا أيمان لهم } أي لائقون بما يحلفون، وقيل: لا وفاء لهم بالعهد وقرئ لا إيمان لهم أي لا إسلام أو لا يعطون الأمان بعد الردة { لعلهم ينتهون } أي قاتلوهم راجين انتهاءهم، وقيل: ينتهون عن الطعن في الدين أو عن الكفر.
[9.12-17]
{ ألا تقاتلون قوما نكثوا ايمانهم } الآية نزلت في مشركي قريش وقيل: في اليهود نكثوا عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكفروا، يعني نكثوا ايمانهم التي حلفوها في المعاهدة { وهموا بإخراج الرسول } من مكة حين تشاوروا في أمره بدار الندوة حتى أذن الله له بالهجرة { وهم بدأوكم أول مرة } أي وهم الذين كان منهم البدأة بالمقاتلة لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاءهم بالكتاب المبين وتحداهم به فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال، فهم المبتدؤن بالقتال فما يمنعكم من أن تقاتلوهم وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم؟ { قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم } قتلا { ويخزهم } أسرا { وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين } نزلت في خزاعة، وقال ابن عباس : بطون من اليمن قدموا مكة فأسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديدا، فبعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يشكون إليه فقال: " أبشروا فإن الفرج قريب " { ويتوب الله على من يشاء } ، قال جار الله: ابتداء كلام وإخبار بأن من أهل مكة من يتوب عن كفره، فكان ذلك فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم { أم حسبتم أن تتركوا } والمعنى أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين المخلص منكم، وهم الذين جاهدوا في سبيل الله والخطاب للمؤمنين لما شق على بعضهم القتال فأنزل الله تعالى: { أم حسبتم } الآية يعني ظننتم أنكم تتركون عن الجهاد فلا يعرض عليكم القتال { ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم } والمخلصين الذين { لم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة } ، قال جار الله: الوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل يعني بطانة من الذين يضادون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين { ما كان للمشركين } أي ما صح لهم وما استقام { أن يعمروا مساجد الله } يعني المسجد الحرام لقوله: { وعمارة المسجد الحرام } وأما قراءته بالجمع ففيها وجهان: احدهما أن يريد المسجد الحرام، وقيل: مساجد لأنه قبلة المساجد كلها فعامره كعامر جميع المساجد، والثاني أن يريد حسن المساجد { شاهدين على أنفسهم بالكفر } وظهور كفرهم أنهم نصبوا أصنامهم حول البيت وكانوا يطوفون عراة، ويقولون: لا نطوف عليها بثياب قد أصبنا فيها المعاصي، وكلما طافوا شوطا سجدوا، والآية نزلت في العباس بن عبد المطلب، وقيل: في العباس وفي طلحة بن شيبة صاحب الكعبة أسرى يوم بدر، وعير بالشرك وقطيعة الرحم فقال العباس: لعلكم تذكرون مساوئنا ولا تذكرون محاسننا، فقالوا: وهل لكم محاسن؟ فقالوا: نعم، إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني، فأنزل الله تعالى هذه الآية: { أولئك حبطت أعمالهم } التي هي الحجابة والعمارة والسقاية.
[9.18-24]
{ إنما يعمر مساجد الله } ، قيل: جميع المساجد، وقيل: مسجد الكعبة وعمارتها بلزومها والعبادة فيها، وتلاوة القرآن، وذكر الله، ومدارسة العلم، وقيل: القيام بأمرها وعمارتها والوجه الأول، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يأتي آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا ذكرهم الدنيا وحب الدنيا، فلا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة "
وجاء في الحديث:
" الحديث في المسجد الحرام يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش "
، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من ألف المسجد ألفه الله تعالى "
، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالايمان "
، وعن أنس: من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في المسجد ضوؤه { فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين } وعسى من الله واجب فتقديره: فهم المهتدون { أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام } ، روي أن المشركين قالوا لليهود: ونحن سقاة الحاج وعمار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت اليهود: أنتم أفضل، فنزلت الآية، وقوله: { كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهدوا في سبيل الله } الآية نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) { الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم } الآية يعني: { أعظم درجة } من أهل السقاية والعمارة { وأولئك هم الفائزون } لا أنتم والمختصون بالفوز دونكم، وقيل: نزلت في علي (عليه السلام) والعباس وطلحة بن شيبة تفاخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت، وقال العباس: أنا صاحب السقاية، وقال علي (عليه السلام): " لقد صليت إلى القبلة قبل الناس وأنا صاحب الجهاد " ، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية المتقدمة من قوله تعالى: { أجعلتم سقاية الحاج } ، وقيل: لما نزلت الآية قال العباس: إذا نرفضها يا رسول الله؟ فقال: " أقيموها فإن لكم فيها خيرا " يعني ثوابا { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء ان استحبوا الكفر على الايمان } ، قيل: أراد الموالاة في الدين { ومن يتولهم منكم } فيطلعهم على سرائر المسلمين وترك طاعة الله تعالى { فأولئك هم الظالمون } { قل } ، يا محمد { إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم } بالنسب { وأزواجكم وعشيرتكم } أقاربكم { وأموال اقترفتموها } اكتسبتموها، وعن ابن عباس: الآية في المهاجرين خاصة كان قبل فتح مكة، من آمن لم يقبل إيمانه إلا بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا يطعم أحدكم طعم الايمان حتى يحب في الله أبعد الناس ويبغض في الله أقرب الناس إليه "
{ ومساكن ترضونها } فتسكنونها، وقيل: هي القصور { أحب إليكم من الله } من الجهاد والهجرة { فتربصوا } انتظروا، وفيه وعيد وزجر عظيم { حتى يأتي الله بأمره } ، قيل: العذاب أما معجلا وأما مؤجلا، وقيل: بقضائه، وقيل: بالموت، وعن ابن عباس: هو فتح مكة، وعن الحسن: عقوبة عاجلة، وهذه آية شديدة لا أشد منها ثم عقب تعالى بعد ذلك في قصة حنين.
[9.25-27]
{ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة } في مواضع قتالكم التي أقمتم فيها القتال، وروي أن تلك المواطن ثمانون موطنا { ويوم حنين } وهو واد بين مكة والطائف { إذ أعجبتكم كثرتكم } وهم اثني عشر ألفا الذين حضروا فتح مكة، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لم نغلب اليوم من قلة، فسار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقيل: الذي قال ذلك أبو بكر فأدركت المسلمين كلمة الاعجاب بالكثرة، وزال عنهم أن الله هو الناصر لا كثرة الجنود فانهزموا حتى بلغ أولهم مكة، وبقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده ثابتا في مركزه لا يتحلحل، ليس معه إلا عمه العباس أخذ بلجام دابته وأبو سفيان وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) يقاتل القوم، وناهيك بهذه الواحدة شهادة صدقت على شجاعته (عليه السلام) { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } أي بما اتسعت، وقيل: هو مثل لمن بلغت الغاية في الحرب والخوف { ثم وليتم مدبرين } أي انصرفتم هاربين { ثم أنزل الله سكينته } ، قيل: رحمته التي تسكن اليها النفوس، وقيل: السكينة الوقار { على رسوله } (صلى الله عليه وآله وسلم) { وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها } يعني بهم الملائكة، وكانوا خمسة آلاف، وقيل: ثمانية آلاف، وقيل: ستة عشر ألفا، وقيل: لم يقاتلوا يوم حنين وإنما قاتلوا يوم بدر { وعذب الذين كفروا } بالقتل والأسر وسبي النساء والذراري، روي أنه سبي منهم يومئذ ستة آلاف نفس وأخذوا من الابل والغنم ما لا يحصى { ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء } أي يسلم بعد ذلك ناس منهم، وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتح مكة في شهر رمضان وخرج متوجها إلى حنين لقتال هوازن وغطفان وثقيف، وقد اجتمعوا لقتال المسلمين وتوجهوا ومعهم أموالهم ونساءهم وذراريهم، وفيهم دريد بن الصمة شيخ كبير،
" وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما بقي انهزموا وبقي معه جماعة منهم العباس وهو ينادي: " يا معاشر المهاجرين والأنصار، يا معاشر أصحاب الشجرة، يا معاشر سورة البقرة " ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يركض بغلته على العدو، وأبو سفيان بن الحرث آخذ بالركاب، والعباس باللجام، وهو يقول (صلى الله عليه وآله وسلم):
*أنا النبي لا كذب * أنا ابن عبد المطلب*
وأمير المؤمنين (عليه السلام) يكر على الناس وهو يقول:
*قد قال إذ عممني العمامة * أنت الذي بعدي له الإمامة
فلما سمع المسلمون صوت العباس أقبلوا راجعين يقولون: لبيك، وتبادر الأنصار خاصة، وقاتلوا المشركين حتى قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " الآن حمى الوطيس " ثم أخذ كفا من الحصى فرماها بهم وقال: " شاهت الوجوه " فامتلأت عيونهم من التراب وولوا منهزمين ".
[9.28-33]
{ يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } ، قيل: أراد كفار المشركين وأهل الكتاب، وإنما سماهم نجسا لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس، ولأنهم لا يتطهرون ولا يغسلون ولا يتجنبون النجاسات، وعن ابن عباس: أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير، وعن الحسن: من صافح مشركا توضأ { فلا يقربوا المسجد الحرام } فلا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلون في الجاهلية { بعد عامهم هذا } وهو عام تسع من الهجرة، ويدل عليه قول علي (عليه السلام) حين نادى ببراءة: " ألا لا يحج بعد عامنا مشرك " وعن عطا: إن المراد المسجد الحرام خاصة، وعن عطا: يمنعون منه ومن غيره من المساجد { وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله } ، قيل: لما منع المشركين من الحرم شق ذلك على المسلمين وخافوا انقطاع المتاجر فأنزل الله هذه الآية، وعن ابن عباس : لما منعوا من الحرم ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين من الحزن وقالوا: من أين نأكل وقد انقضت الميرة عنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } الآية نزلت حين أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بغزوة الروم فغزوا بعد نزولها غزوة تبوك، وقيل: نزلت في بني قريظة والنضير وأصحابهم من اليهود، وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذل أصابه أهل الكتاب، وقيل: هو عام { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } يعني ما حرم في شريعة الاسلام، وقيل: أراد الأشياء التي حرفوها في التوراة وأخذهم الرشا، قوله تعالى: { ولا يدينون دين الحق } يعني ولا يعتقدون دين الاسلام الذي هو الحق وما سواه باطل { حتى يعطوا الجزية } يعني الخراج عن رقابهم { عن يد وهم صاغرون } إلى يد من يدفعونه اليه بأن يكون يد المسلم فوق أيديهم لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم، وهم صاغرون أي يؤخذ على الصغار والذل وهو أن يأتي بها بنفسه ماشيا غير راكب ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس { وقالت اليهود عزير ابن الله } الآية نزلت في سلام بن مشكم والنعمان ومالك بن الصيف، وغيرهم من اليهود قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف نتبعك وأنت تركت ملتنا ولا تزعم أن عزير ابن الله؟ عن ابن عباس { ذلك قولهم بأفواههم } لأنه لا حقيقة له { يضاهئون قول الذين كفروا } يعني يشابهون، وقيل: يوافقون قول الذين كفروا عبدة الأوثان { قاتلهم الله } لعنهم الله وقيل: قتلهم الله { أنى يؤفكون } ، قيل: كيف يصرفون عن الحق إلى الافك والكذب، وقيل: كيف يصرفون عن الحق إلى الافك والضلال { اتخذوا أحبارهم } علماؤهم { ورهبانهم } قراهم، وقيل: الأحبار علماء اليهود والرهبان علماء النصارى { أربابا من دون الله } قيل سادة، وقيل: لقبولهم منهم التحليل والتحريم كما يطاع الأرباب في أوامرهم خلاف ما أمر الله به { وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو } فهو مستحق العبادة { سبحانه عما يشركون } { يريدون } ، قيل: الكفار في طلبهم { أن يطفئوا نور الله } ، قيل: يعني دين الله وهو الاسلام والقرآن، وقيل: أراد به اليهود النصارى وإطفاؤه، قولهم: هذا سحر مبين مثل حالهم في طلبهم أن يبطلوا نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } ليظهر الرسول على الدين كله على أهل الأديان كلهم، أو ليظهر دين الحق على كل دين.
[9.34-37]
{ يأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان } الآية نزلت في أهل الكتاب، وقيل: في مانعي الزكاة، وقيل: هي عامة في أهل الكتاب والمسلمين، الأحبار علماء اليهود والرهبان علماء النصارى { ليأكلون أموال الناس بالباطل } أراد الرشوة في الحكم { والذين يكنزون الذهب والفضة } يعني جمعوا الأموال ولا يؤدون زكاتها وكل ما يؤدى زكاته فليس بكنز مدفونا كان أو غير مدفون { يوم يحمى عليها } أي يوقد عليها { في نار جهنم } أي على الكنوز حتى يصير نارا، وقيل: على الفضة { فتكوى بها جباههم } أي بتلك الكنوز المحماة جباههم { وظهورهم } يعني مانعي الزكاة ليعظم حسرتهم وغمهم ويقال لهم: { هذا ما كنزتم لأنفسكم } الآية، وقيل: إنما خص هذه المواضع بالكي لأنه إذا سأله السائل زوى وجهه عنه ثم أعرض عنه ثم ولى ظهره { إن عدة الشهور } أي عدة شهور السنة { عند الله } أي في حكمه وتقديره { اثنا عشر شهرا } أولها محرم وسمي بذلك لتحريم القتال فيه { في كتاب الله } ، قيل: في اللوح المحفوظ، وقيل: في حكمه وقضائه، وقيل: في كتاب الله الذي كتب لأنبيائه وأوحى إليهم، وقيل: القرآن { يوم خلق السموات والأرض } يعني كتبها وقضى بها عند خلق الأشياء { منها أربعة حرم } وكان تحريم القتال فيها، وقيل: لكثرة حرمتها وعظم الطاعات فيها وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب { ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم } يعني أن تحريم هذه الأشهر الأربعة هو الدين المستقيم دين ابراهيم واسماعيل وكانوا يعظمون الأشهر الحرم ويحرمون فيها القتال حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يمسه، وقيل: أحل القتال في الأشهر الحرم، وقيل: معناه لا تأثموا فيهن لعظم حرمتهن { وقاتلوا المشركين كافة } أي جميعا مؤتلفين على قتالهم { كما يقاتلونكم كافة } جميعا { واعلموا أن الله مع المتقين } بالنصر وبالمعونة فهو ناصرهم { إنما النسئ } مصدر أنسأ الله في أجله نسيئا وأنسأت الناقة في السير إذا رفقت بها، والنسيء أيضا فعيل بمعنى مفعول { زيادة في الكفر } قيل: كانوا يحولون المحرم صفراعن ابن عباس، وقيل: كان أهل الجاهلية يؤخرون الحج في كل سنة شهرا، وقيل: سبب ذلك أن العرب كانت تحرم الشهور الحرم وكان ذلك في ملة إبراهيم واسماعيل، وكانوا أصحاب حروث وتجارات، فشق عليهم مكث ثلاثة أشهر متواليات لا يغزون، فأخروا تحريم المحرم إلى صفر، ثم بعد زمان يؤخرونه إلى ربيع ثم كذلك شهرا شهرا حتى جاء الاسلام، وكان ذلك في كنانة وقد رجع المحرم إلى موضعه وربما زادوا الشهور فيجعلوها ثلاثة عشر شهرا وأربعة عشر شهرا ليتسع لهم الوقت، ولذلك قال تعالى: { إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا } ووافقت حجة أبي بكر في ذي القعدة ووافقت حجة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للوداع في ذي الحجة، وعن ابن عباس: هو تأخيرهم حرمة شهر حرمه الله إلى شهر لم يحرمه الله بحاجة تعرض لهم فيبدلوا المحرم من صفر وصفر من المحرم { ليواطئوا عدة ما حرم الله } أي ليوافقوا العدة ولا يخالفوها { زين لهم سوء أعمالهم } ، قيل: زينة الشيطان، وقيل: رؤساؤهم لاتباعهم.
[9.38-40]
{ يأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله } الآية نزلت في غزوة تبوك قيل: لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الطائف دعا الناس إلى غزوة الروم أيام النخل والزرع ومحبة القعود في الظل من شدة الحر فعظم ذلك عليهم وكرهوا الخروج، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قل ما يخرج في غزوة إلا كنى عنها إلا غزوة تبوك { فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل } لأنه زائد { إلا تنفروا } أي ألا تخرجوا، إجابة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الجهاد { يعذبكم عذابا أليما } وجيعا في الآخرة { ويستبدل قوما غيركم } أي يأتي بقوم أطوع منكم { إلا تنصروه } أي ألا تخرجوا معه إذا استنصركم على جهاد عدوه يعني الذين قعدوا { فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا } يعني من مكة لما اجتمعوا إلى دار الندوة وتشاوروا في أمره واتفقوا على قتله والكيد به فدفع الله عنه مكرهم وأمره الله بالخروج، فخرج معه أبو بكر إلى الغار ثقب في أعلى جبل ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة، مكث فيه ثلاثا واضطجع علي (عليه السلام) على فراشه ليمنعهم ما يشاهدون من طلبته، قيل: طلع المشركون فوق الغار فأشفق أبو بكر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: ما ظنك باثنين الله ثالثهما، وقيل: لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله والعنكبوت فنسجت عليه، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اللهم أعم أبصارهم " فجعلوا يترددون حول الغار ولا يدرون ببابه إذ يقول لصاحبه { لا تحزن إن الله معنا } أي ناصرنا { فأنزل الله سكينته } أي طمأنينته { عليه } أي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { وأيده بجنود لم تروها } وهم الملائكة، روي أن أسماء بنت أبي بكر كانت تأتيهما بلبن يشربانه،
" وروي أنه لم يرهم عند الخروج إلا سراقة بن مالك بن جعشم فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " اللهم اكفناه " فصاحت فرسه في الأرض إلى بطنها فعاهده لا يسوءه بسوء، فدعى فنجاه الله تعالى "
، ومضى حتى نزل خيمة أم معبد فسار حتى نزل المدينة فقال أنس بن مالك: ما رأيت يوما قط أحسن من يوم قدومه، وما رأيت يوما قط أقبح من يوم قبض { وجعل كلمة الذين كفروا السفلى } يعني دينهم الذين يتكلمون به وهو الشرك { وكلمة الله هي العليا } يعني دعوته إلى الاسلام { والله عزيز حكيم }.
[9.41-47]
قوله تعالى: { انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله } الآية نزلت في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين، وقيل: بل استأذنه جماعة من المؤمنين في التخلف ففيهم نزلت الآية، ومعناه خفافا وثقالا يعني شبابا وشيوخا، وقيل: مشاغيل وغير مشاغيل، وقيل: ركبانا ومشاة، وقيل: أغنياء وفقراء، وذكر الأصم أن الآية لما نزلت جاء ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله أعلي جهاد؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما أنت إلا خفيف أو ثقيل " ، فرجع ولبس سلاحه ووقف بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) " فنزل قوله تعالى: { ليس على الأعمى حرج } { ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون } بثواب الجهاد { لو كان عرضا قريبا } أي غنيمة حاضرة { وسفرا قاصدا } سهلا قريبا { لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة } أي المسافة والسفر البعيد { وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم } وكانوا مستطيعين فحلفوا كذبا { عفى الله عنك } ، قيل: عفى عنك عما أقدمت عليه من غير إذن الله تعالى وهو إذنه للمنافقين في القعود عن الغزو، وقيل: شيئان فعلهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يؤمر بهما اذنه للمنافقين وأخذه للفدية من الأسارى، فعاقبه الله تعالى على ذلك { حتى يتبين } من صدق في عدته ومن كذب فيه { لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا } يعني ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا { انما يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر } يعني المنافقين وكانوا تسعة وثلاثين رجلا { فهم في ريبهم يترددون } عبارة عن التحيز { ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة } نزلت في المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وجد بن قيس وغيرهما ممن تخلف عن غزوة تبوك، وقيل: لما تخلفوا أنزل الله تعالى قوله: { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } ، قوله تعالى: { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } والعدة هيئة الحرب من السلاح والكراع فتركهم لذلك يدل على عزمهم على التخلف { ولكن كره الله انبعاثهم } أي انطلاقهم وخروجهم إلى الغزو لأن خروجهم كان معصية ونفاقا { وقيل اقعدوا مع القاعدين }: قيل: المرضى، وقيل: الضعفاء والنساء والصبيان { لو خرجوا فيكم ما زادوكم } يعني لو خرج المنافقون معكم أيها المؤمنون ما زادوكم { إلا خبالا } ، قيل: فسادا، وقيل: شرا، وقيل: عذرا ومكروها { ولأوضعوا خلالكم } يعني بالنميمة لافساد نيتكم، وقيل: لسارعوا فيما يحل بكم { يبغونكم الفتنة } بأن توقعوا الخلاف فيما بينكم ويفسدوا نياتكم في مغزاكم { وفيكم سماعون لهم } أي نمامون يسمعون حديثكم فيلقونه إليهم، أو فيكم قوم يسمعون للمنافقين ويطيعون، وقيل: فيكم عيون منهم ينقلون أخباركم إلى المشركين { والله عليم بالظالمين } يعني هؤلاء المنافقين الذين ظلموا أنفسهم.
[9.48-57]
{ لقد ابتغوا الفتنة } أي العنت وتفريق أصحابك عنك كما فعل عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف بمن معه، وقوله: { من قبل } يعني من قبل غزوة تبوك، وقيل: يوم الأحزاب، وقيل: طلبوا الأضرار بك حالا بعد حال { وقلبوا لك الأمور } ، قيل: طلبوا لك الحيلة من كل وجه ليبطلوا دينك ولم يقدروا عليه { حتى جاء الحق } ، قيل: النصر والظفر الذي وعد الله به { وظهر أمر الله } ، قيل: دينه وهو الاسلام { وهم كارهون } يعني هؤلاء المنافقون كرهوا ظهور الاسلام { ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني } الآية نزلت في جد بن قيس، وروي: أنه قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تفتني بنات الأصفر يعني نساء الروم ولكني أعينك بما لي واتركني { ألا في الفتنة سقطوا } أي الفتنة التي سقطوا فيها هي فتنة التخلف { ان تصبك } في بعض الغزوات { حسنة } ظفر وغنيمة { تسؤهم وإن تصبك مصيبة } قتل وهزيمة ونكاية شديدة نحو ما جرى يوم أحد { يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل } يعني قد أخذنا حذرنا والعمل بالحزم من قبل ما وقع { ويتولوا } عن مقام التحدث بذلك والاجتماع له في أهاليهم { وهم فرحون } { قل } يا محمد { لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } من الثواب والحسنة، وقيل: ما كتب الله لنا في اللوح المحفوظ وعلمه { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } وحق المؤمنين ألا يتوكلون إلا على الله تعالى { قل هل تربصون بنا } أي هل تنتظرون بنا أيها المنافقون { إلا إحدى الحسنيين } إما النصر والغنيمة مع الأجر وإما القتل والشهادة المؤدية إلى الجنة وهو الفوز العظيم وهذا قول ابن عباس { ونحن نتربص بكم } أي ننتظر { أن يصيبكم الله بعذاب من عنده } ، قيل: بالموت { أو بأيدينا } أي بالقتل { فتربصوا إنا معكم متربصون } أي انتظروا لنا انا منتظرون لكم، يعني لما تقدم ذكره أما القتل وفيه الشهادة، وأما الأجر وفيه الظفر والغنيمة، وقيل: تربصون مواعيد الشيطان وهو إبطال دينه ونحن نتربص مواعيد الله من إظهار دينه والنصر لنا { قل انفقوا طوعا أو كرها لن يتقبل منكم } نزلت في جد بن قيس، حين استأذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في القعود عن الجهاد، وقال: هذا ما لي أعينك به عن جماعة المفسرين { وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى } أي متثاقلين يعني لم يؤدوا الصلاة كما أمروا بل أدوها نفاقا وفي بعض الأخبار أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كره للمؤمنين أن يقول كسلت ولكن ثقلت كأنه ذهب إلى هذه الآية، قوله تعالى: { إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا } ، قيل: بالمصائب، وقيل: بالسبي وغنيمة الأموال، وقيل: بالدنيا هذا بالمنافقين والعذاب بها عندما يلقون الملائكة في وقت البشارة بالعذاب، وقيل: بأمرهم بإخراج الحقوق منها فهو تعذيبهم، ثم أظهر تعالى سرا من أسرار القوم فقال: { ويحلفون بالله } يعني المنافقين { إنهم لمنكم } في الايمان والطاعة { وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون } يخافون القتل وما يفعل بالمشركين فيظهرون تقية { لو يجدون ملجأ } مكانا يلجأون إليه متحصنين فيه من رأس جبل أو قلعة أو جزيرة { أو مغارات } ، قيل: غيرانا، وقيل: موضعا يغيبون فيه { أو مدخلا } أو نفقا يندسون فيه، وقيل: موضع دخول يأوون فيه { لولوا إليه وهم يجمحون } يسرعون إسراعا لا يحد همهم شيء.
[9.58-60]
{ ومنهم من يلمزك في الصدقات } أي يعيبك في قسمة الصدقات ويطعن عليك، وقيل: هم المؤلفة قلوبهم، وقيل:
" هو ابن ذوي الخويصرة وابن الجوارح، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقسم غنائم حنين، فقال أعدل يا رسول الله، فقال: " ويلك إذا لم أعدل فمن يعدل؟ " فلما ذهب قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون يمرقون من الدين كما يمرق السهم، فيهم رجل أسود في إحدى يديه مثل ثدي المرأة، يخرجون على فترة من الناس، فإذا خرجوا فاقتلوهم " ، فنزلت فيه هذه الآية "
، قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأشهد أن عليا (عليه السلام) حين قتلهم وأنا معه جيء بذلك الرجل على النعت { فإن أعطوا منها رضوا } يعني إذا أعطوا منها الكثير رضوا { وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون } أي يغضبون { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } يعني الزكاة المفروضة للفقراء قيل: الفقير الذي ليس له بلغة من العيش، والمسكين الذي لا شيء له، وهو قول الهادي (عليه السلام) وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وهو قول أهل اللغة أيضا، وقيل: المسكين من له شيء والفقير من لا شيء له وهو قول الشافعي واحتج بقوله تعالى:
أما السفينة فكانت لمساكين
[الكهف: 79] وأجيب عن ذلك بأنهم كانوا يعملون عليها، وقيل: المساكين يتفاصلون في المسكنة { والعاملين عليها } وهم السعاة الذين يقبضون واجبات الصدقة، واختلف في قدر ما يعطون قيل: لهم سهم وهو الثمن، وقيل: يعطون على قدر عمالتهم وبه قال أبو حنيفة والهادي (عليه السلام)، وقيل: يعطون على ما يراه الإمام { والمؤلفة قلوبهم } أشراف من العرب كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستألفهم على أن يسلموا فيرضخ لهم شيئا حين كان في الاسلام قلة، ثم اختلفوا في هذا السهم بعده قيل: كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم سقط من بعده لأن الله تعالى قد أعز الدين، عن الحسن وعمر وعثمان وهو قول أبو حنيفة، وقال الشافعي: بل هو ثابت في كل زمان وهو مروي عن أبي علي وأبي جعفر، وقال الهادي (عليه السلام): لا يجوز دفعها على الفساق يعني الزكاة، وقال أبو حنيفة والشافعي: يجوز، وقال الهادي (عليه السلام): أمر الزكوات كلها إلى الإمام ويضمر إذا أخرجها بنفسه إلى الفقراء والله أعلم { وفي الرقاب } وهم المكاتبون فيعطون منها { والغارمين } الذين ركبتهم الديون ولا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب { وفي سبيل الله } فقراء الغزاة والحجيج المنقطع بهم { وابن السبيل } المسافر المنقطع عن ماله فهو فقير { فريضة من الله } مقدرة واجبة قدرها الله تعالى وحتمها { والله عليم } بحاجة خلقه { حكيم } بما فرض عليهم من ذلك.
[9.61-68]
{ ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن } الآية نزلت في المنافقين والأذن الذي يصدق كلما سمع ويقبل قول كل أحد سمي بالجارحة الذي هي ألذ السماح { يؤمن بالله } يعني يسمع إلى الوحي فيصدق الله تعالى ويصدق المؤمنين يقبل منهم { ورحمة لمن آمن منكم } أي أظهر الايمان منكم أيها المنافقون حيث يسمع منكم ويقبل إيمانكم الظاهر ولا يكشف أسراركم ولا يفضحكم، قوله تعالى: { يحلفون بالله لكم } أيها المؤمنون يعني يحلف المنافقون لكم كذبا { ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه } بترك الكفر والنفاق { ألم يعلموا أنه من يحادد الله } أي هلا علموا بعد أن مكنوا من العلم، وقيل: هو أمر بالعلم اعلموا بهذا الخبر والدليل، وقيل: علموا أو عاندوا أنه من يحادد الله ورسوله أي يخالف الله ورسوله { فإن له نار جهنم خالدا فيها } الآية، قوله تعالى: { يحذر المنافقون } الآية كانوا يستهزئون بالاسلام وأهله وكانوا يحذرون أن يفضحهم الله تعالى بالوحي حتى قال بعضهم: والله لا أرانا إلا أشر خلق الله تعالى، وقوله: { إن الله مخرج ما تحذرون } يعني مظهر ما تحذرون إظهاره من نفاقكم،
" وروي أن ناسا من المنافقين ساروا بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يستفتح قصور الشام وحصونه هيهات هيهات، فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك فأتاهم فقال: " قلتم كذا وكذا " فقالوا: يا نبي الله والله ما كنا في شيء من أمرك ولا أمر أصحابك ولكن كنا في شيء مما يخوض فيه الركب "
{ قل } يا محمد ردا على كذبهم { أبالله وآياته ورسوله كنتم تسهزئون } { لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } يعني قد أظهرتم كفركم باستهزائكم بعد إظهاركم الايمان { أن نعف عن طائفة منكم } بالتوبة، قيل: جماعة، وقيل: إنه رجل تاب ومعه ناس لما نزلت هذه الآية { نعذب طائفة } بإصرارهم وترك التوبة { بأنهم كانوا مجرمين } مذبذبين كافرين { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } في الاجتماع على النفاق وترك نصرة الرسول، قوله تعالى: { ويقبضون أيديهم } عن الانفاق في سبيل الله وهو الصدقات والزكوات { نسوا الله فنسيهم } يعني أنهم تركوا الطاعات فتركهم في النار، وقيل: جعلوا الله تعالى كالمنسي حيث لم يتفكروا أن لهم صانعا ينبئهم بما في قلوبهم ويعاقبهم، وقيل: نسوا الله فجازاهم على نسيانهم بالعقاب.
[9.69-74]
{ كالذين من قبلكم } ، قيل: معناه فعلهم كفعل الذين من قبلهم، وقيل: لعنهم الله تعالى كلعن الذين من قبلهم كفار الأمم الخالية { كانوا أشد منهم قوة } ، قيل: بطشا { فاستمتعوا بخلاقهم } أي بنصيبهم من الدنيا { فاستمتعتم بخلاقكم } بنصيبكم { كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } بنصيبهم الذي قدر لهم، قوله تعالى: { وخضتم كالذي خاضوا } دخلتم في الكفر والباطل والكذب على الله تعالى ورسوله والاستهزاء بدينه كما خاض الذين من قبلكم { وأولئك هم الخاسرون } خسروا نعيم الجنة وأبقوا أنفسهم في العذاب الدائم { ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم } يعني قبل هؤلاء المنافقين والكافرين أي خبر الذين من قبلهم من الأمم الماضية حين عصوا الله ورسوله وخالفوا أمره حتى أهلكهم الله تعالى لأن قوم نوح أهلكوا بالطوفان { وعاد } وهم قوم هود أهلكوا بالريح الصرصر { وثمود } قوم صالح أهلكوا بالرجفة { وقوم ابراهيم } بسلب النعمة وهلك نمرود { وأصحاب مدين } قوم شعيب هلكوا بالعذاب يوم الظلة ومدين اسم للبلد التي كان فيها شعيب (عليه السلام) { والمؤتفكات } المتقلبات وهم قوم لوط { أتتهم رسلهم بالبينات } الآية، ولما تقدم ذكر المنافقين عقبه بذكر المؤمنين وما أعد لهم فقال تعالى: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } في النصرة والموالاة في الدين { يأمرون بالمعروف } بالايمان والطاعات { وينهون عن المنكر } والمعاصي { وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } أي تحت أشجارها وأبنيتها { ومساكن طيبة } أي مواضع يسكنون فيها طيبة قصور من اللؤلؤ والياقوت الأحمر والزبرجد ، وقيل: قصر في الجنة من لؤلؤة فيها سبعون دارا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتا من زبرجدة خضراء، وفي كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش وجه من الحور العين، في كل بيت مائدة في كل مائدة سبعون لونا من الطعام، وفي كل بيت وصيفة ورضوان من الله أكبر يعني رضى الله أكبر من ذلك وأعظم، قوله تعالى: { يأيها النبي جاهد الكفاروالمنافقين } الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد به الأمة، يعني الكفار بالسيف والمنافقين باللسان، وقيل: بإقامة الحدود وكانوا أكثر من يصيب الحدود وإذا ظهر نفاقهم مرتدين وجب قتلهم { واغلظ عليهم } ، قيل: باللسان تهديدا، وقيل: إظهار سرائرهم، وقيل: جاهدوا الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر } ، قيل:
" لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غزوة تبوك كان المنافقون يجتمون ويسبون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويطعنون في دينه فنقل حذيفة ما قالوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فدعاهم فقال: " ما هذا الذي بلغني عنكم " ، فحلفوا ما قالوا شيئا "
فنزلت الآية تكذيبا لهم، وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول حين قال: لئن رجعنا الى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فأخبر زيد بن أرقم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحلف ما قال ذلك فنزلت الآية { ولقد قالوا كلمة الكفر } يعني الطعن في الدين وتكذيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { وكفروا بعد إسلامهم } أي بعد إظهارهم الاسلام، وقيل: يعني ظهر كفرهم بعد أن كان باطنا { وهموا بما لم ينالوا } بما لم يدركوا، قيل: هو هم المنافقين بقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة العقبة، وقيل: همهم بإخراج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) { وما نقموا } أي ما أنكروا وما عابوا { إلا أن أغناهم الله } تعالى وذلك أنهم كانوا حين قدم عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضنك العيش فجعلهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كالمسلمين في الغنائم والأموال، وقيل: كثرت أموالهم بسبب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما كانوا في ضيق وعسرة { فإن يتوبوا } يعني أن يتركوا النفاق ويخلصوا توبتهم { يك خيرا لهم وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما } بالقتل والأسر والخزي، وقيل: عند الناس، وقيل: بالقبر وفي الآخرة عذاب النار.
[9.75-78]
{ ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن }
" الآية نزلت في ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، قال: " يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه " ، فراجعه فقال: والذي بعثك بالحق نبيا لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له فاتخذ غنما فنمت كما ينمى الدود وضاقت بها المدينة ونزل واديا حتى انقطع عن الجمعة والجماعة، فسأل عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقيل: كثر ماله حتى لا يسعه وادي فقال: " ويح ثعلبة " وبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مصدقين لأخذ الصدقة، فاستقبلهما الناس بصدقاتهم، ومرا بثعلبة وسألاه الزكاة وأقرآه كتاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي فيه الفرائض: فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية، وبخل بالصدقة، فلما رجعا قال لهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يكلماه: " يا ويح ثعلبة " مرتين فنزلت فجاء ثعلبة بالصدقة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله منعني أن أقبل منك " فجعل التراب على رأسه فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني " ثم قبض (صلى الله عليه وآله وسلم) وما قبل من ثعلبة وجاء بها إلى أبي بكر ولم يقبلها، وقبض أبو بكر وجاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها، وهلك في زمن عثمان "
، وقوله تعالى: { فأعقبهم نفاقا } أي فأعقبهم البخل بالصدقة نفاقا متمكنا { في قلوبهم } لأنه كان سببا فيه وداعيا إليه والظاهر أن الضمير لله عز وجل، والمعنى فخذلهم حتى نافقوا وتمكن في قلوبهم لسبب اخلافهم ما وعدوا الله من التصدق والصلاح { ألم يعلموا } هذا استفهام، والمراد به التقرير أي قد علموا { أن الله يعلم سرهم } أي ما يسر بعضهم بعضا أو ما يخفي أحدهم { ونجواهم } ما يتناجون به من الطعن في الاسلام.
[9.79-84]
{ الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات } يعني يعيبون المطوعين المتبرعين بالصدقة والآية نزلت في عبد الرحمن بن عوف وأبي عقيل وعاصم وعدي،
" وذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حث على الصدقة فجاء عبد الرحمن بأربعة آلاف دينار، وقيل: بثمانية آلاف درهم، وقال: هذا نصف مالي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت " فبارك الله تعالى في ماله "
حتى أنه خلف مالا وورثه امرأتين فجاء نصف الثمن مائة وتسعين ألف درهم، وقيل: كان ربع الثمن ثلاثين ألفا، وتصدق عاصم بن عيد بثمانية أوسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع، فقال المنافقون: ما أعطي عبد الرحمن وعاصم إلا رياء وإن الله لغني عن صاع عقيل، وقيل: نزل قوله تعالى: { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } في عبد الله بن أبي لما مات على النفاق، والصيغة صيغة الأمر والنهي والمراد بها الشرط تقديره استغفر لهم إن شئت أو لا تستغفر لهم إن شئت، وقيل: المعنى أن استغفارك وتركه سواء { إن تستغفر لهم سبعين مرة }
" لما نزلت هذه الآية قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " لأزيدن على السبعين "
، فنزل قوله تعالى:
سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم
[المنافقون: 6] { سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } الآية { فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله } ، قيل: نزلت في المتخلفين عن غزوة تبوك يعني الذين تخلفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أمرهم بالغزو { وقالوا } يعني المنافقين بعضهم لبعض، وقيل: قالوا للمسلمين ذلك ليصدوهم عن الغزو { لا تنفروا في الحر } طلبا للراحة { قل } يا محمد { نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون } قوله تعالى: { فليضحكوا } تهديد لهم { قليلا } يعني في الدنيا فإنهم يبكون في الآخرة { كثيرا } لا ينقطع { فإن رجعك } الله { إلى طائفة منهم } يعني ردك الله يا محمد إلى جماعة ممن تخلف عنك وإنما قال طائفة لأنه ليس من تخلف عن تبوك منافقا بل كان منهم منافق ومنهم من تخلف لعذر، وقيل: لأن منهم من تاب من النفاق وندم على التخلف فاعتذر بعذر صحيح { فقل } لهم يا محمد { لن تخرجوا معي أبدا } ما بقيت في سفر ولا غزوة { ولن تقاتلوا معي عدوا } وذلك عقوبة لهم على فعلهم { إنكم } أيها المنافقون { رضيتم بالقعود أول مرة } يعني في غزوة تبوك { فاقعدوا } تهديدا لهم وليس بأمر { مع الخالفين } ، قيل: مع المنافقين، وقيل: مع النساء والصبيان، وقيل: مع الزمنى والعميان { ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } الآية نزلت في عبد الله بن أبي، روي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقوم على قبور المنافقين ويدعو لهم فلما مرض رأس المنافقين عبد الله بن أبي سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكفنه في قميصه الذي يلي جسده ويصلي عليه، فقال له عمر: اتصلي على عدو الله؟ وقيل: أراد أن يصلي عليه فنزل جبريل (عليه السلام) وأخذ بثوبه وقال: { لا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره } ، وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كفن عبد الله بن أبي في قميص له لما سأله هبته، وقيل:
" الذي سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ابن عبد الله بن أبي، فقال: " إن قميصي لا يغني عنه شيئا وإني لأرجو أن يسلم من قومه جماعة " فلما سمع المنافقون بذلك أسلم يومئذ ألف رجل "
، وقد روي أنه سأله أن يكفنه في قميصه وأن يقوم على قبره لئلا تشمت به الأعداء.
[9.85-92]
{ إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا } يعني بالمصائب، ثم بين تعالى أخبار المنافقين فقال تعالى: { وإذا أنزلت سورة } من القرآن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيها الأمر بالايمان والجهاد { مع رسوله استأذنك } أي طلب منك الإذن في القعود { أولو الطول منهم } ، قيل: أولو المال والقدرة، وقيل: الطول الغنى، وقيل: هم الكبراء { وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين } ، قيل: النساء والصبيان، فقال سبحانه: { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } ، قيل: النساء، وقيل: المخلفين { وطبع على قلوبهم } ، قيل: نكتة سوداء جعلت علامة لقلب الكافر روي ذلك عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقيل: هو ذم لهم { وجاء المعذرون من الأعراب }
" الآية نزلت في رهط عامر بن الطفيل جاءوا في غزوة تبوك يستأذنون في التخلف وقالوا: إن نحن غزونا معك أغارت أعراب على أهالينا ومواشينا فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إن الله أنبأني عن أخباركم وسيغني الله عنكم "
وقيل: نزلت في الذين تخلفوا العذر بإذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولم يكن لهم عذر، وقيل: هم أهل العذر عن ابن عباس، وقوله: { ليؤذن لهم } في التخلفات { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } يعني كذبوا فيما قالوا أنهم مؤمنون { ليس على الضعفاء } الآية نزلت في عبد الله بن أم مكتوم أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: هل لي من رخصة في الجهاد فسكت (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية، وقيل: نزلت في جماعة من ضعفاء المسلمين أرادوا الجهاد ولم يتمكنوا منه، قيل: الضعفاء المشائخ والزمنى، وقيل: من لا يقدر على الخروج فقد عذره الله تعالى، قوله تعالى: { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } يعني طلبوا منك مركوبا تحملهم عليه حرصا على الجهاد، قلت: لا أجد ما أحملكم عليه { تولوا } اعرضوا عنك وانصرفوا باكيين { وأعينهم تفيض من الدمع حزنا } يعني من الحزن على التخلف { ألا يجدوا ما ينفقون } ليخرجوا معك.
[9.93-99]
{ إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء }
" الآية نزلت في جد بن قيس، ومعتب بن قشير وأصحابهما من المنافقين، وكانوا ثمانين رجلا فلما قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تبوك المدينة قال لأصحابه: " لا تجالسوهم ولا تواكلوهم "
وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي، وقوله: { إنما السبيل } يعني الاثم والعقاب { على الذين يستأذنونك } يطلبون إذنك في التخلف عنك { وهم أغنياء } قادرون على الخروج للجهاد بالنفس والمال { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } قيل: مع النساء والصبيان { وطبع الله على قلوبهم } ، قيل: نكتة سوداء تقطع في قلب الكافر علامة له كما مر، وقيل: المراد التشبيه يعني أنه كالمطبوع، قوله تعالى: { يعتذرون اليكم } في التخلف { إذا رجعتم اليهم } الى المدينة { قل } يا محمد { لا تعتذروا } بالكذب والباطل { لن نؤمن لكم } أي لا نصدقكم { قد نبأنا الله من أخباركم } بذلك التخلف في هذه المعاذير { وسيرى الله عملكم ورسوله } هذا وعيد لهم يعني أن الله يطلع عليكم فيعلم ما يفعلون ويطلع رسوله على أسرارهم { سيحلفون بالله لكم } أي سيحلفون كذبا { إذا انقلبتم اليهم } إذا انصرفتم إليهم من الغزو { لتعرضوا عنهم فاعرضوا عنهم } إعراض استخفاف وإهانة { إنهم رجس } أي نجس متى أردت معالجته ازداد نتنا، وقيل: إنهم أخسة { يحلفون لكم } كذبا { لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم } أيها المؤمنون بالظاهر وبمعاذيرهم الكاذبة { فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين } لأنه عالم بباطنهم وظاهرهم وما انطووا عليه من الكفر والفاسقون الخارجون عن الطاعة والدين وهم منافقون { الأعراب أشد كفرا ونفاقا } من أهل الحصر لأنهم أبعد من مواضع العلم وسماع الآيات ومشاهدة الرسول { وأجدر } يعني وأخزى وأصله من جدر الحائط وأساسه، وقولهم ذلك أجدر أي أخزى وأحق بجهل حدود الدين، وقوله: { ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله } يعني شرائعه وفرائضه، وقيل: هم أقل علما، قوله تعالى: { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما } وصف الأولين بالكفر والجهل وهؤلاء بالكفر والبخل، ومعنى مغرما لا يرجون عليه ثوابا وإنما ينفقون خوفا ورياء فعدوه مغرما { ويتربص بكم الدوائر } يعني ينتظر صروف الزمان وتقلب الأحوال بكم، وقيل: ينتظرون موت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) { عليهم دائرة السوء } أي يصيرون إلى ذل والمؤمنون إلى عز، وقيل: دائرة السوء العذاب والهلاك { ويتخذ ما ينفق قربات } يعني يتقربون به إلى الله تعالى بانفاق المال في سبيل الله { وصلوات الرسول } ، قيل : دعاؤه بالخير، وقيل: استغفاره { ألا إنها قربة لهم } هذا الكلام من الله تعالى تصديقا لهم.
[9.100-106]
{ والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } الآية نزلت فيمن بايع بيعة الرضوان وهي بيعة الحديبية، وقيل: نزلت في الذين صلوا إلى القبلتين، وقيل: هم الذين شهدوا بدرا، وقيل: نزلت في الذين أسلموا قبل الهجرة، قوله تعالى: { وممن حولكم من الأعراب منافقون } يعني حول بلدكم وهي المدينة منافقون، الآية نزلت في جهينة وأسلم وأشجع وعفار وكانت منازلهم حول المدينة وفيهم منافقون { ومن أهل المدينة } قوم { مردوا على النفاق } أصروا عليه واعتادوه { لا تعلمهم نحن نعلمهم } أي لا يعلمهم الا الله جل وعلا ولا يطلع على سرهم إلا الله تعالى لأنهم يبطنون الكفر ويظهرون الايمان { سنعذبهم مرتين } ، قيل: هما القتل وعذاب القبر، وعن ابن عباس: اختلفوا في المرتين فقال:
" قام فينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطيبا يوم الجمعة فقال: " أخرج يا فلان فإنك منافق، أخرج يا فلان إنك منافق " فاخرج أناس فضحهم هذا العذاب الأول والثاني عذاب القبر "
{ ثم يردون إلى عذاب عظيم } أي عذاب النار { وآخرون اعترفوا بذنوبهم } الآية نزلت في الذين تخلفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك ثم ندموا، قيل:
" كانوا عشرة منهم أبو لبابة، وقيل: كانوا ثمانية يعني لم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة كغيرهم، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنهم بئس ما فعلوا نادمين، وذلك أنه بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك فأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد، فقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدخل المسجد وصلى ركعتين وكانت عادته كلما قدم من سفر فرآهم موثقين فسأل عنهم، فذكر له أنهم أقسموا لا يحلوا أنفسهم حتى يكون رسول الله هو الذي يحل لهم، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " وأنا أقسم لا أحلهم حتى أؤمر فيهم " فنزلت الآية فأطلقهم وعذرهم، فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا الذي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا، فقال: " ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا "
{ خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا } تخلفا عنه، وقيل: السيء تخلفهم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وترك الجهاد { عسى الله أن يتوب عليهم } عسى من الله واجبة عن الحسن وأبي علي { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } ، قيل: هي الزكاة المفروضة قوله تعالى: { وصل عليهم إن صلواتك سكن لهم } أي ادع لهم واستغفر لهم، قال في الغرائب: صل عليهم وإذا ماتوا خلاف ما نهيت عن الصلاة عليه، بقوله:
ولا تصل على أحد منهم مات أبدا
[التوبة: 84] { ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات } مجاز عن قبولها { وإن الله هو التواب الرحيم } ولما بين تعالى قبول توبتهم حذرهم في مستقبل أوقاتهم فقال تعالى: { وقل اعملوا فسيرى الله عملكم } وعيد لهم، وقيل: معناه اعملوا ما أمركم الله تعالى به من الصدقات وغيرها فإن الله سيرى عملكم { ورسوله } يعني يرى رسوله ويعلم وهو شهيد عليكم { وآخرون مرجون لأمر الله } وآخرون من المتخلفين عاقبة أمرهم { إما يعذبهم } أي بقوا على إصرارهم ولم يتوبوا { وإما يتوب عليهم } إن تابوا وهم ثلاثة كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع، أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه ألا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولا يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه وغيره من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم، فلما علموا أن أحدا لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله تعالى وأصلحوا نياتهم ونصحت توبتهم فرحمهم الله وتاب عليهم بعد خمسين ليلة، ونزل فيهم وعلى الثلاثة الذين خلفوا الآية.
[9.107-110]
{ الذين اتخذوا مسجدا ضرارا } ،
" روي أن بني عمرو بن عوف لما عمروا مسجد قبا بعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدهم إخوانهم بنو غانم بن عوف، وقالوا: نبني مسجدا ونرسل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيصلي فيه ويصلي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام ليثبت لهم الفضل والزيادة على إخوانهم، وهو الذي سماه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الفاسق فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قبا وقالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مسجدا لذوي العلة والحاجة والليلة المطيرة ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة، فقال: " إني على جناح سفر وحال شغل فإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه " فلما قدم من غزوة تبوك سألوه اتيان المسجد فنزلت الآية، فدعى بمالك ومعر بن عدي وعامر وقال لهم: " انطلقوا الى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه واحرقوه " وأمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتخذوا مكانه كناسة يلقي فيها الجيف والقمامة "
، ومات أبو عامر بالشام، وقوله: { ضرارا } مضاررة لإخوانهم أهل قبا، { وتفريقا بين المؤمنين } لأنهم كانوا يصلون جميعا في مسجد قبا فأرادوا أن يتفرقوا عنه وتختلف كلمتهم { وإرصادا } اي أعدادا لأجل من حارب الله ورسوله وهو الراهب { لا تقم فيه أبدا } ذلك أمر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدما أخبره بسرائرهم { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } من أيام وجوده، قيل: هو مسجد المدينة، وقيل: مسجد قبا { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } ، قيل: هم الأنصار، وقيل: هم أهل قبا، وقيل: هو عام في المتطهرين من النجاسات كلها، وقيل: المتطهرين من الذنوب بالتوبة، قوله تعالى: { أم من أسس بنيانه على شفا جرف هار } أي ساقط منهدم، وقيل: هذا مثل اتخاذهم مسجدا على معصية الله سبحانه، يعني أن أهل المسجد يصيرون بعملهم الى نار جهنم، وقيل: يهوى مسجدهم يوم القيامة في نار جهنم قال في الغرائب: هارئون، قال: والأصل هائر فقلب وحذفت العين، وقوله: { فانهار به } أي انهار الشفا بالبناء، وقيل: انهار البناء بالباني، وعن جابر بن عبد الله قال: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار حين انهار، قوله تعالى: { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم } ، قيل: شكا ونفاقا، وقيل: شكا في النبوة لأنهم لما بنوه وأطلع الله تعالى رسوله على فعلهم شكوا في نبوته وما رجعوا عن الكفر بغضا، وقيل: حسرة وندامة لأنهم ندموا على بنائه { إلا أن تقطع قلوبهم } ، قيل: إلا أن يموتوا فتصير قلوبهم إلى التقطيع والبلاء، وقيل: تصير قلوبهم قطعا وتفرق أجزاء فحينئذ يسألون عنه وأما ما دامت سالمة مجتمعة فالريبة فيه، وتقطع بفتح التاء، بمعنى ينقطع { والله عليم } بأعمالهم فيجازيهم بها { حكيم } في خلقه وما يفعل بهم.
[9.111-114]
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة }
" الآية نزلت في الأنصار حين بايعوه على العقبة، وقال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، قال: " أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني من كل ما تمنعون منكم أنفسكم " ، قال: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: " لكم الجنة " قال: ربح البيع لا يقيل ولا يستقيل "
، ومر برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إعرابي وهو يقرأها فقال: كلام من؟ قال: " كلام الله تعالى " قال: بيع والله مربح لا يقيله ولا يستقيله، فخرج إلى الغزو فاستشهد { وعدا عليه حقا } أي وعدا صادقا واجبا لا خلف فيه يعني أن هذا الوعد منه في الكتب المنزلة في التوراة والانجيل، { والقرآن ومن أوفى بعهده من الله } يعني لأن أخلاف الميعاد قبح أي لا أحد أوفى بعهده من الله تعالى فإنه يوفي ما وعده ويصدق ما أوعد به فلا يجوز عليه الخلف { فاستبشروا } أيها المؤمنون { ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم } { التائبون } أي الراجعون إليه { الحامدون } الله على كل حال { السائحون } ، قيل: الصائمون روي مرفوعا، وقيل: الغزاة والمجاهدون، وقيل: طلبة العلم، وقيل: السائر في الأرض لوجه من وجوه البر { الراكعون الساجدون } يعني المصلين { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله } ، قيل: القائمون بطاعة الله يؤدون فرائضه وأمره ويتجنبون نواهيه، { وبشر المؤمنين } المصدقين بوعده ووعيده { ما كان للنبي والذين آمنوا } الآية، قيل: هي نهي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين أن يفعلوا ذلك، وقيل: نفي بمعنى أن أحدا من الأنبياء لم يستغفروا لمشرك ولا جعل ذلك في دينه ولا أباح ذلك له، وروي أن الآية نزلت في شأن أبوي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أراد أن يستغفر لهما،
" روي أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قدم مكة أتى قبر أمه وقد رجى أن يؤذن له أن يستغفر لها فنزلت، فقام فبكا وبكا من حوله، وقال: " استأذنت ربي أن أزورها فأذن لي واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي "
وقيل: نزلت في غيره لما كانوا يستغفرون لأمواتهم، وقيل: قال رجل: يا رسول الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ويصل الأرحام أفلا نستغفر لهم فنزلت، ذكره الحالكم { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } أي وعدها إبراهيم أبوه وعده أن يؤمن به، وقيل: كان ينافقه { إن إبراهيم لأواه حليم } أواه فعال، وهو الذي يكثر التأوه.
[9.115-119]
{ وما كان الله ليضل قوما } الآية، قيل: الآية نزلت في استغفارهم للمشركين، يعني أنه لا يؤاخذهم بذلك حتى يبين لهم التحريم، وقيل: سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف بأخواننا الذين انقرضوا فنزلت، يعني ما كان الله يحكم بضلال قوم وقد وحدوه وآمنوا به إذا لم يعلموا ما عليهم في الاستغفار لآبائهم، قوله تعالى: { حتى يبين لهم ما يتقون } ، وقيل: لا يضلهم من الثواب وطريق الجنة بعد إذ هداهم لذلك ودلهم عليهم حتى يبين لهم ما يتقون من المعاصي ويلزمهم من الطاعات فيخالفون ذلك { لقد تاب الله على النبي } كقوله تعالى
ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر
[الفتح: 2] { والمهاجرين والأنصار } قبل توبتهم وطاعتهم وما تحملوا في مرضاته من المشقة فصاروا في حكمه تائبين، وقيل: تاب عليهم بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه، والمهاجرين الذين هجروا ديارهم وأوطانهم وعشائرهم، والأنصار الذين تبوؤا الدار ونصروا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) { الذين اتبعوه في ساعة العسرة } عسرة الزاد وعسرة الظهر وعسرة الماء، وقيل: كان ذلك في غزوة تبوك لأنهم خرجوا في حر شديد وبلغ بهم الشدة بأن اقتسم التمرة اثنان، وعسرة الماء بأن نحروا الابل واعتصروا فرثها، وفي شدة زمان من الحدب والقحط { من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم } هموا بالانصراف من غزاتهم { ثم تاب عليهم } يعني الذين كادت تزيغ قلوبهم { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } يعني وتاب على الثلاثة الذين خلفوا وهم هلال بن أمية وكعب بن مالك ومرارة بن الربيع، تخلفوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك،
" فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غزوة تبوك دخل المسجد وجاء المخلفون يعتذرون فقبل منهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى فقال: " ما خلفك يا كعب؟ " قلت: لو حلفت بين يدي غيرك لكان لي مخرج والله لا أكذب بين يديك والله ما كان لي عذر، فقال: " قم حتى يقضي الله فيك ما شاء " وجاء مرارة بن الربيع وهلال بن أمية فاعتذرا بمثل ذلك، ونهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن مواكلتهم ومجالستهم، وربطوا أنفسهم في سواري المسجد حتى مضت خمسون ليلة، قال كعب: فبينا أنا أصلي الصبح إذ سمعت نداء: أبشر يا كعب، فخرجت وأتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " أبشر يا كعب " فقلت: من عندك أم من عند الله؟ فقال: " بل من عند الله "
وتلا الآية { وكونوا مع الصادقين } وهم الذين صدقوا في دين الله، وقيل: الثلاثة، أي كونوا مثل هؤلاء الثلاثة في صدقهم ونياتهم، وعن ابن عباس: الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب، أي كونوا من المهاجرين والأنصار.
[9.120-124]
{ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب } يعني مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن حولها من سكان البوادي { أن يتخلفوا عن رسول الله } يعني عن غزواته وجهاده { ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه والدفع عنه { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ } عطش { ولا نصب } أي تعب { ولا مخمصة } مجاعة { في سبيل الله } أي في الجهاد، وقيل: أراد الصبر على الجوع والعطش { ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار } وطئهم إياه { ولا ينالون من عدو نيلا } أي لا يصيبهم منه إصابة من قتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة { إلا كتب لهم به عمل صالح } الآية، قوله تعالى: { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة } أي من قليل أو كثير { ولا يقطعون واديا } في طلب الكفار { إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون } { وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة } الآية، قيل: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا خرج في غزاة لم يتخلف عنه إلا المنافقون والمعذورون، فلما بين تعالى نفاقهم في تخلفهم عن غزوة تبوك قال المسلمون: لا نتخلف عن غزوة ولا عن سرية، فلما بعث (صلى الله عليه وآله وسلم) السرايا خرج الناس كلهم وتركوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحده فنزلت الآية، يعني ما كان لجميع المسلمين أن ينفروا كافة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويخلفوا ديارهم ولكن تنفر طائفة من كل ناحية اليه لتسمع كلامه ويتعلموا الدين، ثم يرجعون إلى قومهم فيبينوا لهم ذلك وينذرونهم ليحذروا، المراد بالنفر: الخروج لطلب العلم وذلك أن المسلمين بعد أن عيروا بالتخلف عن غزوة تبوك توفروا للخروج وتركوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المدينة وحده فنزلت حثا لهم في أن تنفر طائفة منهم للجهاد، ويبقى منهم من يبقى لئلا ينقطعوا عن سماع الوحي والتفقه الذي هو الجهاد الأكبر لأن الجهاد بالحجة أعظم من الجهاد بالسيف { يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار } يعني يقرب منكم في الدار والنسب، وقيل: مثل بني قريظة والنضير وخيبر وفدك ونحوها، وقيل: أراد الروم وكانوا سكان الشام والشام أقرب إلى المدينة من العراق، { وليجدوا فيكم غلظة } الغلظة خلاف الرقة وهي الشدة، يعني وليخشوا منكم الغلظة، ونحو ذلك وأغلظ عليهم { وإذا ما أنزلت سورة } من القرآن { فمنهم } يعني من المنافقين { من يقول } بعضهم لبعض { أيكم زادته هذه إيمانا } ثم حال بين الفريقين، فقال تعالى: { فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا } إخلاصا ويقينا { وهم يستبشرون } بما نزل من الفرائض ويبشر بعضهم بعضا، وقيل: بما وعد من النصر والثواب.
[9.125-129]
{ وأما الذين في قلوبهم مرض } يعني شك ونفاق { فزادتهم رجسا إلى رجسهم } ، قيل: كفرا إلى كفرهم، وقيل: إثما إلى إثمهم { أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون } ، قيل: أولا يعلمون هؤلاء المنافقين والرؤية بمعنى العلم، وقيل: بمعنى الإدراك بالبصر، ويفتنون أي يمتحنون في كل عام مرة أو مرتين بالمرض والقحط وغيرهما من بلاء الله تعالى أو يقتلون بالجهاد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما يرون من نصر الله لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما ينال أعداؤه من القتل والسبي، وقيل: بالمصائب التي تنزل، وقيل: بالغلاء والبلاء ومنع القطر وذهاب الثمار، { ثم لا يتوبون } أي لا يرجعون عما هم عليه { ولا هم يذكرون } { وإذا ما أنزلت سورة } من القرآن فيها فضائح المنافقين وهتك أستارهم، وقيل: فيها الأحكام { نظر بعضهم إلى بعض } تغامزوا بالعيون إنكارا للوحي وسخرية به قائلين: { هل يراكم من أحد } من المسلمين لننصرف فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك فنخاف الافتضاح بينهم { صرف الله قلوبهم } دعا عليهم بالخذلان، وقيل: صرف قلوبهم من الانشراح والتطهير الذي يجعله في قلوب المؤمنين، قوله تعالى: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } من جنسكم ومن نسبكم عربي قرشي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلكم وقرئ من أنفسكم بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم، وقيل: هي قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلكم وقرئ من أنفسكم بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم، وقيل: هي قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاطمة (رضي الله عنها) { رؤوف رحيم } ، قيل: هما واحد، وقيل: هي الرحمة، وقيل: الرأفة أعظم من الرحمة، وقيل: لم يجمع الله تعالى إسمين من أسمائه لأحد غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي قوله: { رؤوف رحيم } { فإن تولوا } يعني فإن أعرضوا عن الايمان بك وناصبوك فاستعن بالله وفوض أمرك اليه فهو كافيك { لا إله إلا هو } أي لا شبيه له ولا ند له { عليه توكلت } أي فوضت أمري اليه { وهو رب العرش العظيم } أي خالق العرش وخصه بالذكر تفخيما لثنائه له ، وقيل: ليدل بأنه مالك الملوك، والعرش في اللغة السرير، وقيل: أراد بالعرش الملك والسلطان ومنه:
ولها عرش عظيم
[النمل: 23] روي أن آخر القرآن عهدا بالسماء هاتين الآيتان خاتمة براءة { لقد جاءكم } إلى آخرهما، وقيل: آخر سورة نزلت براءة، وقيل: آخر ما نزل من القرآن
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله
[البقرة: 281].
[10 - سورة يونس]
[10.1-3]
{ الر } ، قيل: اسم للقرآن، وقيل: اسم للسورة، وقيل: معناه أنا الرب لا رب غيري، وقيل: إسم الله تعالى، وقيل: هو قسم كأنه قيل: والله { تلك آيات الكتاب الحكيم } ، قيل: المراد به القرآن، وقيل: تلك إشارة إلى ما كان وعد الله به أن يعطيه، وقيل: تلك إشارة إلى ما تقدم من الكتب مثل التوراة والانجيل وغيرهما، والوجه الأول قاله الحاكم الحكيم لأنه دليل يعرف به الحق عن الباطل فهو كالناطق بالحكمة والحجج المؤدية إلى معرفته، وقيل: أحكم نظمه فصار معجزة { أكان للناس عجبا } قال ابن عباس: لما بعث الله تعالى محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أنكر الكفار ذلك، وقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد فأنزل الله أكان للناس عجبا، وقيل: قالوا العجب أن الله لم يجد رسولا إلا يتيم أبي طالب فنزلت الآية { وبشر الذين آمنوا } أي أخبرهم بما يسرهم وهو أن لهم الجنة وقوله: { قدم صدق } يعني جزاء حسنا ومنزلة رفيعة بما قدموا من أعمالهم { قال الكافرون إن هذا لساحر مبين } يعنون القرآن، وقيل: ساحر يعنون محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { إن ربكم الله } يعني منشئكم ومربيكم { الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } من أيام الدنيا أولها الأحد { ثم استوى على العرش } ، قيل: استولى على العرش بإنشاء التدبير من جهته، وقيل: العرش الملك أي هو مستولي على ملكه يفعل ما يشاء { يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه } ، قيل: كان الله وخلق الخلق ودبر الأمر ولم يكن معه غيره ممن يحتاج إلى معونته والشفيع مأخوذ من الشفع وهو الزوج خلاف الوتر، وقيل: ما من مدبر إلا من بعد إذنه أي من بعد أمره، وقيل: لا أحد يشفع لأحد إلا بإذنه.
[10.4-10]
{ انه يبدؤ الخلق } في الدنيا أي يخلقهم أحياء ولم يكونوا شيئا { ثم يعيده } يوم القيامة { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط } أي بالعدل لا ينقص من أجورهم شيئا، ثم بين تعالى أنه القادر على النشأة الثانية فقال تعالى: { هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا } أي خلق القمر نورا للخلق وفيهما من الدلالة وجوه كثيرة: فمنها خلقهم وخلق النور والضياء فيهما ورفعهما وامساكهما ومنازلهما ومشارقهما ومغاربهما وزيادة القمر ونقصانه، فالقمر يقطع المنازل في شهر، والشمس في سنة { وقدره منازل } يعني وقدر مسير القمر منازل وقدره ذا منازل كقوله تعالى:
والقمر قدرناه منازل
[يس: 39] { لتعلموا عدد السنين والحساب } وحساب الأوقات من الأشهر والليالي والسنين والآجال والزرع والشتاء والصيف { ما خلق الله ذلك } إشارة إلى المذكور { إلا بالحق } أي خلقه بالحكمة منفعة لعباده في دينهم ودنياهم كأوقات الصلاة والصوم والحج وغير ذلك من منافع الدنيا والدين، ومع ذلك يدل على وحدانيته وقدرته وكونه عالما لم يزل ولا يزال { يفصل الآيات } يبينها فصلا فصلا { إن في اختلاف الليل والنهار } يعني إتيان أحدهما خلف الآخر، وقيل: اختلافهما ضياء أحدهما وظلمة الآخر { وما خلق الله في السموات } من الكواكب والأفلاك ورفعها بغير عمد ودوران النجوم { والأرض } من أنواع الحيوانات وأنواع الأرزاق والنعم من المأكول والملبوس والمشموم { لآيات } لحجج وعلامات { لقوم يتقون } معاصي الله { إن الذين لا يرجون لقاءنا } لا يخافون عقابنا { ورضوا بالحياة الدنيا } فعملوا لها واختاروها على الآخرة ولم يعملوا للآخرة { واطمأنوا بها } سكنوا إليها { والذين هم عن آياتنا غافلون } فلم يتفكروا { إن الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات } أقاموا الصلوات المفروضة { يهديهم ربهم } ، قيل: إلى الجنة، وقيل: بالنور على الصراط، وقيل: يرشدهم في الدنيا إلى الطاعات { تجري من تحتهم الأنهار } يعني من تحت بساتينهم وأسرتهم وقصورهم { دعواهم فيها سبحانك اللهم } أي تنزيها لك عن كل سوء، روي ذلك مرفوعا، وقيل: إنهم يتلذذون بقول التسبيح { وتحيتهم فيها سلام } أي بعضهم يحي بعضا بالسلام، وقيل: هي تحية الملائكة إياهم، وقيل: تحية الله لهم { وآخر دعواهم } وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح { أن الحمد لله رب العالمين }.
[10.11-18]
{ ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير } الآية نزلت في أهل مكة حين قالوا: يا محمد ائتنا بعذاب إن كنت صادقا، يعني ولو عجلنا هذا الشر الذي دعوا به حتى نعجل لهم الخير ونحسهم إليه { لقضي إليهم أجلهم } لهلكوا، وقيل: هو كقول الرجل لولده في حال الغضب: اللهم العنه ولا تبارك فيه، وقيل: الشر عقوبات أعمالهم وهو الشر كما يريدون العاجل في دنياهم الذي هو الخير لأماتهم عاجلا ونقلهم إلى ذلك العذاب، وقيل: الخير منافع الدنيا، وقيل: الثواب والعقاب { فنذر الذين لا يرجون لقاءنا } لما وعدنا من الثواب والعقاب { في طغيانهم يعمهون } يتحيرون { وإذا مس الانسان الضر } أي أصابه بلاء وشدة ومشقة { دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما } أراد جميع حالاته، وقيل: أحوال مرضه وصحته { فلما كشفنا عنه ضره مر } اي أعرض { كأن لم يدعنا إلى ضر مسه } أي كأنه لم يدعنا قط { كذلك زين للمسرفين } أي زين لهم الشيطان والغواة، ثم حذر سبحانه بهذه الآية ما نزل بالأمم الماضية فقال: { ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا } ، قوله: { كذلك نجزي القوم المجرمين } أي كما أهلكناهم بكفرهم كذلك نعاقب القوم المجرمين { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم } أي من بعد القرون الذين أهلكناهم { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } الآية نزلت في مشركي قريش، وقيل: في عبد الله بن أمية والوليد بن المغيرة والعاص وغيرهم قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ائت بقرآن { غير هذا } ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى ومنات وهبل، وقيل: قالوا: ائت بقرآن ليس فيه عيب لنا ولا لآلهتنا { أو بدله } فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة، فنزلت الآية { قل ما يكون لي } ما ينبغي لي ولا يحل { أن أبدله } ، كقوله تعالى:
ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق
[المائدة: 116] { من تلقاء نفسي } أي من قبل نفسي { إن اتبع إلا ما يوحى إلي } فيما آمركم به وأنهاكم عنه { عذاب يوم عظيم } وهو يوم القيامة { قل } يا محمد { لو شاء الله ما تلوته عليكم } أي ما قرأته بأن لا ينزل علي ولا يأمرني بقراءته عليكم { ولا أدراكم به } أي ولا أعلمكم به على لساني وقراءتي، وقرأ ابن عباس ولا أنذركم به { فقد لبثت فيكم عمرا } لبث (صلى الله عليه وآله وسلم) في قومه أربعين سنة إلى أن أتاه الوحي { من قبله } أي من قبل نزول القرآن { أفلا تعقلون } فتدبرون { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } أي لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا { أو كذب بآياته } بحججه والافتراء أن يقول عليه ما لم يقل { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم } يعني الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضر، وقيل: إن عبدوها لم تنفعهم وإن تركوها لم تضرهم، ومن حق المعبود أن يكون مثيبا على الطاعة، ومعاقب على المعصية، وكان أهل الطائف يعبدون اللات، وأهل مكة العزى ومنات وهبل { و } كانوا { يقولون هؤلاء شفعاؤنا } عند الله، وعن النضر بن الحرث أنه قال: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى { قل أتنبئون الله بما لا يعلم } تخبرونه بكونهم شفعاء عنده { في السموات ولا في الأرض } يعني لا يعلم الله له شريكا ولا هؤلاء شفعاء { سبحانه } تنزيها عما يقولون { وتعالى } أي تعالت صفاته { عما يشركون }.
[10.19-23]
{ وما كان الناس إلا أمة واحدة } حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم وذلك على هدم آدم إلى أن قتل قابيل هابيل، وقيل: بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين ديارا { ولولا كلمة سبقت من ربك } وهو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة { لقضي بينهم } عاجلا فيما اختلفوا فيه ويميز المحق من المبطل { ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه } الآية نزلت في أهل مكة أرادوا به من الآيات التي كانوا يقترحون وكانوا لا يقتدون بما أنزل الله من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر، { فقل إنما الغيب لله } أي هو المختص بعلم الغيب المستأثر به لا علم لي ولا لأحد معه { فانتظروا } نزول ما اقترحتموه إني منتظر لما ينزل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات فسلط الله القحط على أهل مكة سبع سنين حتى كادوا يهلكون { وإذا أذقنا الناس } منا { رحمة من بعد ضراء } أي رحمة ورخاء، من بعد شدة وبلاء، وقيل: أراد السعة بعد القحط { إذا لهم مكر في آياتنا } أي جعلوا مكان الشكر في ظل نعمه كفرا، وقيل: مكروا بالدين وأهله ودبروا في إبطال الآيات، وقيل: احتالوا في أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { ان رسلنا يكتبون ما تمكرون } يعني الملائكة يكتبون أعمالهم ليجازيهم بها يوم القيامة { هو الذي يسيركم في البر } على الظهور { و } في { البحر } على السفن، ومتى قيل: لم أضاف السير إليه؟ قلنا: لأنه بأمره ومعونته، وقيل: تسخيره الأنعام في البر والسفن في البحر { وجرين بهم } يعني جرت السفن بالناس كما ركبوها { بريح طيبة } لينة { وفرحوا بها } أي سروا بتلك الريح { جاءتها ريح عاصف } أي ريح شديدة الهبوب { وجاءهم الموج } اضطراب البحر { من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم } يعني أيقنوا أن الهلاك أحاط بهم { دعوا الله مخلصين له الدين } أي أخلصوا الاعتقاد { لئن أنجيتنا من هذه } يعني ويقولون لئن خلصتنا من هذه الريح العاصف أو من شدائد { لنكونن من الشاكرين } { فلما أنجاهم } أي خلصهم { إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق } ، قيل: يظلم بعضهم بعضا، وقيل: يبغون على أولياء الله تعالى، وقيل: البغي سفك الدماء المحرم وغصب الأموال وانتهاك المحرمات { يأيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم } يعني عاقبة ظلمكم وبغيكم يعود عليكم فيعاقبكم عليه يوم القيامة وهو وعيد وزجر، قوله تعالى: { متاع الحياة الدنيا } تنتفعون بها مدة حياتكم { ثم إلينا مرجعكم } مصيركم { فننبئكم بما كنتم تعملون } وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أسرع الخير ثوابا صلة الرحم واعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة "
، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" اثنتان يعجلهما الله في الدنيا البغي وعقوق الوالدين "
وعن ابن عباس: لو بغى جبل على جبل لاندك منه عاليه وأسفله، قال الشاعر:
يا صاحب البغي إن البغي مصرعه
فارتع فخير فعال المرء أعدله
فلو بغي جبل يوما على جبل
لاندك منه أعاليه وأسفله
[10.24-30]
{ إنما مثل الحياة الدنيا } ، قيل: صفة الحياة الدنيا، وقيل: شبه الحياة الدنيا في سرعة زوالها وفنائها { كماء أنزلناه من السماء } وهو المطر { فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس } كالحبوب والبقول والثمار { والأنعام } أي ومما تأكل الأنعام، وهي الابل والبقر والغنم كالحشيش وسائر أنواع المراعي { حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } أي حسنها وبهجتها بأنواع الألوان { وظن أهلها } أي ملاكها { انهم قادرون عليها } أي قادرون على الانتفاع بها { أتاها أمرنا } أي قضاؤنا بهلاك تلك الزينة { ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا } أي مقطوعة مقلوعة، والمعنى محصودة صرفت إلى فعيل { كأن لم تغن بالأمس } كأن لم يكن نعيمها { كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون } فيه فيؤديهم إلى العلم { والله يدعو إلى دار السلام } يريد الجنة، وقيل: يفشو السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم، وقيل: السلام السلامة لأن أهلها سالمون من كل مكروه { ويهدي من يشاء } بالألطاف التي تدعوهم إلى طريق الحق { إلى صراط مستقيم } طريق واضح { للذين أحسنوا الحسنى } قيل: أحسنوا إلى عبادة الله سبحانه واتبعوا أمره ونهيه، وقيل: أحسنوا العمل في الدنيا فأحسن الله تعالى اليهم في الآخرة بالحسنى الحياة { وزيادة } ، قيل: " غرفة من لؤلؤ واحدة لها أربعة أبواب " عن أمير المؤمنين، وقيل: الزيادة أن لا يحاسبهم على النعم في الدنيا، وقيل: الزيادة مغفرة من الله ورضوان، وقيل: تضعيف الحسنات من عشر إلى سبع مائة ضعف { ولا يرهق وجوههم } لا يغشاها { قتر } غبرة فيها سواد { ولا ذلة } ولا أثر هوان ولا كسوف { والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها } ولا يزيد على المستحق لأنه يكون ظالما بخلاف الزيادة في الثواب { كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما } لشدة سواده وهو أقبح السواد { ويوم نحشرهم جميعا } أي نجمع الخلق إلى يوم القيامة { ثم } يقول هو سبحانه ويحتمل أن { نقول } بأمره { للذين أشركوا مكانكم } لا تبرحون { أنتم وشركاؤكم } عطف عليهم، قوله تعالى: { فزيلنا بينهم } ففرقنا بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم في الدنيا { وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون } إنما كنتم تعبدون الشياطين حيث أمركم أن تتخذوا لله أندادا وهم الملائكة والمسيح ومن عبدوه من دون الله من أولي العقل، وقيل: الأصنام ينطقها الله بذلك فكان الشفاعة التي زعموها { هنالك } في ذلك المقام وفي ذلك الوقت { تبلو كل نفس ما أسلفت } أي تختبر وتذوق ما قدمت من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن، نافع أم ضار، مقبول أو مردود { وردوا إلى الله } تعالى يعني إلى موضع حكمه فلا يحكم فيه غيره { وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي ضاع عنهم ما كانوا يدعون أنهم شركاء لله تعالى وبطل عنهم ما كانوا يختلفون فيه من الكذب وشفاعة الآلهة.
[10.31-37]
{ قل من يرزقكم من السماء والأرض } منهما جميعا فمن السماء المطر، ومن الأرض النبات والحبوب والفواكه { أم من يملك السمع والأبصار } أي من يستطيع خلقهما وتسويتهما { ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } ، قيل: النطفة من الإنسان والإنسان من النطفة، وقيل: من يحييكم إذا كنتم أحياء ومن يميتكم إذا متم { ومن يدبر الأمر } في السماء والأرض بين الليل والنهار والاحياء والإماتة واختلاف أحوال السنة { فسيقولون الله } أي هو الله تعالى يفعل ما يشاء { فقل } يا محمد { أفلا تتقون } عقابه في شرككم { فذلكم الله ربكم } يعني فاعل هذه الأشياء ربكم خالقكم { الحق } تحق له العبادة وحده، وقيل: كل حق من جهته { فماذا بعد الحق إلا الضلال } أي قد ثبت أن توحيده وعبادته هو الحق وما بعد ذلك باطل وضلال، قوله تعالى: { فأنى تصرفون } ، قيل: فأين يذهب بكم عن الحق، يعني فأنى تصرفون عن الحق إلى الضلال، وعن التوحيد إلى الشرك، وعن السعادة إلى الشقاوة { كذلك حقت كلمة ربك } أي كلمة العذاب، وقيل: كلمة الوعيد، وقيل: حكمه { على الذين فسقوا } وخرجوا عن الايمان { إنهم لا يؤمنون } { قل هل من شركائكم } التي جعلتموها شركاء في العبادة { من يبدؤ الخلق } أي يخلقهم ابتداء على غير مثال وهي النشأة الأولى { ثم يعيده } في النشأة الثانية فإذا ثبت بالدليل أن الشركاء لا يقدرون عليها وأنه تعالى هو القادر { فأنى تؤفكون } يعني كيف تصرفون عن الحق { قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق } يعني من آلهتكم التي تعبدونها { أمن لا يهدي } نفسه ولا يهدي غيره { إلا أن يهدى } أي إلا أن يهديه الله تعالى، وقيل: المراد به الملائكة والجن لأنهم يهتدون إذا هداهم غيرهم، وقيل: المراد به الرؤساء والمضلون الذين يدعون إلى الكفر، وقيل: أراد المسيح وعزير، وقيل: هم الأصنام، وقيل: معنى لا يهدي لا يمشي إلا أن يحمل ولا ينتقل إلا أن ينقل، قال الشاعر:
حيث يهدي ساقه قدمه
أولا يهدي ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيوانا مكلفا يهديه، قوله تعالى: { فما لكم كيف تحكمون } بالباطل حيث تزعمون أنهم أنداد له { وما يتبع أكثرهم } في قولهم الأصنام أنها آلهة وأنهم شفعاء عند الله تعالى { إلا ظنا } الباطل الذي لا حقيقة له { وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه } وهو ما يقدمه من الكتب المنزلة لأنه معجز، قوله: { وتفصيل الكتاب } وتبيين ما فرض وكتب من الأحكام والشرائع.
[10.38-48]
{ أم يقولون افتراه قل } يا محمد إن كان الأمر على ما تزعمون { فأتوا } أنتم على وجه الافتراء { بسورة مثله } فأنتم مثلي في العربية والفصاحة { وادعوا من استطعتم من دون الله } أي من استطعتم من خلقه { إن كنتم صادقين } أنه افترى، وقيل: من استطعتم الى معاونتكم على المعارضة، وقيل: من تعبدونه من دون الله { بل كذبوا } سارعوا إلى التكذيب بالقرآن { بما لم يحيطوا بعلمه } ، قيل: بأن يتدبروه، فيقفوا على معانيه وتأويله وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم ويجوز أن يكون معنى { ولما يأتهم تأويله } تأويل ما فيه من الأخبار بالعيون فيسرعون إلى التكذيب به من قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه، وقيل: تفسيره وما يؤول اليه، وقيل: عاقبة ما وعدوا به من الوعيد والتأويل ما يؤول اليه الأمر { كذلك كذب الذين من قبلهم } أي مثل هذا التكذيب كذب الذين من قبلهم يعني قبل النظر في معجزات الأنبياء، وقيل: يتدبروها من غير انصاف من أنفسهم ولكن قلدوا الآباء وعاندوا، وقيل: هو في الذين كذبوا وهم شاكون { ومنهم من يؤمن به } أي يصدق به في نفسه، ويعلم أنه حق ولكنه يعاند بالتكذيب، ومنهم من شك به ولا يصدق به في نفسه، أو يكون للاستقبال أي منهم من سيؤمن به ومنهم من سيصر { وربك أعلم بالمفسدين } بالمعاندين والمصرين { وإن كذبوك } أي وإن تمنوا على تكذيبك { فقل لي عملي ولكم عملكم } تبرأ منهم وحلهم فقد أعذرت، وقيل: هي منسوخة بآية السيف { ومنهم من يستمعون إليك } معناه ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكنهم لا يعون ولا يقبلون، وناس ينظرون ويعاينون { أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون } يعني أنهم في الناس من أين يقبلوا ويصدقوا كالصم والعمى الذين لا عقول لهم ولا بصائر، وقوله: { أفأنت } دلالة على أنه لا يقدر على اسماعهم وهدايتهم إلا الله تعالى بالقسر والالجاء كما لا يقدر على رد الأصم والأعمى إلا الله تعالى، قوله تعالى: { إن الله لا يظلم الناس شيئا } أي لا ينقصهم شيئا مما يتصل بمصالحهم من بعثه الرسل وإنزاله الكتب { ولكن الناس أنفسهم يظلمون } بالكفر والتكذيب ويجوز أن يكون وعيدا للمكذبين، يعني لا يظلم الناس بالعقوبة، ولكن ظلموا أنفسهم بأن فعلوا ما استحقوا به العقاب، وقيل: لا ينقص من حسناتهم ولا يزاد في سيئاتهم { ويوم يحشرهم } يجمعهم من كل مكان إلى الموقف جميعا { كأن لم يلبثوا الا ساعة من النهار } ، قيل: لم يلبثوا في الدنيا، وقيل: لم يلبثوا في قبورهم لهول ما يرون { يتعارفون بينهم } يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا وذلك عند خروجهم من قبورهم ثم ينقطع التعارف بينهم لشدة الأمر عليهم { وأما نرينك بعض الذي نعدهم } في الدنيا { أو نتوفينك } فنحن نريك في الآخرة { ثم الله شهيد على ما يفعلون } فهو يعاقبهم على ذلك { ولكل أمة رسول } يبعث إليهم ينبههم على التوحيد ويدعوهم إلى دين الحق { فإذا جاء رسولهم } بالبينات كذبوه ولم يتبعوه { قضي بينهم } أي بين النبي ومكذبيه { بالقسط } أي بالعذاب فأنجى الرسول وعذب المكذبون أو يكون المعنى لكل أمة من الأمم رسول يوم القيامة تنسب إليه فإذا جاء رسولهم قضى بينهم في الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان قضي بينهم { ويقولون متى هذا الوعد } الذي تعدنا به من البعث وقيام الساعة.
[10.49-58]
{ قل لا أملك لنفسي ضرا } من مرض أو فقر { ولا نفعا } من صحة أو غنى { إلا ما شاء الله } استثناء منقطع أي ولكن ما شاء الله من ذلك فهو كائن { لكل أمة أجل } يعني أن عذابكم له أجل عند الله وحد محدود من الزمان { إذا جاء أجلهم } إلى آخرها يعني بل يهلكهم الله في ذلك الوقت من غير تقديم ولا تأخير { قل } يا محمد لهؤلاء المكذبين { أرأيتم } أعلمتم استفهام والمراد التقرير { ان أتاكم عذابه بياتا } أي ليلا { أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون } يعني أي شيء يستعجل منه المجرم وما الذي يحصل له منه { أثم إذا ما وقع } أي نزل بهم وحل ما استعجلوه { آمنتم به } في وقت اليأس، قيل: بالله، وقيل: بالقرآن وصدق وعيده { الآن } إضمار تقديره وقيل لكم الآن تصدقون به { وقد كنتم به تستعجلون } تكذبون { ويستنبئونك } أي يستخبرون ويطلبون منك الخبر يا محمد ما جئت به من النبوءات والقرآن والشرائع، وقيل: ما تعدنا به من البعث والقيامة { قل } يا محمد { إي وربي إنه لحق } أي كائن لا شك فيه، قوله تعالى: { وما أنتم بمعجزين } يعني ما أنتم بفائتين، وقيل: غالبين { ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به } أي ولو أن لكل نفس ظالمة ما في الأرض أي ما في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها ومنافعها على كثرتها لافتدت به ولكن لا يقبل الفداء منها وإن كثر { وأسروا الندامة } ، قيل : أخفوا الندامة على ما سلف منهم من الكفر، وقيل: رؤساء الضلال أخفوها من الاتباع، وقيل: أسروا الندامة أظهروا الندامة { لما رأوا العذاب } أي عاينوا ذلك { وقضي بينهم } حكم وفصل الأمر بينهم، وقيل: بين المؤمنين والكافرين، وقيل: بين الرؤساء والأتباع { ألا إن لله ما في السموات والأرض } خلقا وملكا { الا ان وعد الله حق } لا خلف فيه { ولكن أكثرهم لا يعلمون } قوله تعالى: { يأيها الناس } خطاب جامع لكل المكلفين { قد جاءتكم موعظة من ربكم } يعني القرآن { وشفاء لما في الصدور } أي دواء من العقائد الفاسدة ودعاء إلى الحق، ورحمة لمن آمن به، يعني بالقرآن بالإجماع { قل } يا محمد { بفضل الله } الاسلام { وبرحمته } القرآن وعن ابن عباس: بفضل الله القرآن وبرحمته الاسلام، وقيل: بفضل الله الدين وبرحمته ان جعلكم من أهله، وقيل: بفضل الله القرآن وبرحمته السنن، وعن أنس (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" من هداه الله للاسلام وعلمه القرآن ثم شكا الفاقة كتب الله الفقر بين عينيه إلى يوم القيامة ".
[10.59-64]
{ قل } يا محمد لهؤلاء الكفار { أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق } ، قيل: خلق لكم من أنواع الأرزاق، وقيل: أنزل من السماء الماء فأخرج به الأرزاق { فجعلتم منه حراما وحلالا } فالحرام ما حرموه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، والحلال ما استحلوا من غير إباحة شرعية، وقيل: حراما على النساء حلالا للرجال كقوله: { وقالوا ما في بطون هذه الأنعام } إلى آخرها يعني أنكم بعضتموه وقلتم: هذا حلال وهذا حرام نحو قوله تعالى:
هذه أنعام وحرث حجر
[الأنعام: 138] الآية { قل آلله اذن لكم } أي أخبروني هل الله أذن لكم في التحليل والتحريم فأنتم تفعلون ذلك بإذن { أم } أنتم { تفترون } أي تكذبون على الله تعالى في نسبه ذلك إليه { وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة ان الله لذو فضل على الناس } حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بالوحي وتعليم الحلال والحرام { ولكن أكثرهم لا يشكرون } هذه النعمة ولا يتبعون ما هدوا إليه { وما تكون في شأن } الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقيل: أراد المكلف في شأن أي في عمل من الأعمال، وقيل: في شأن من الدنيا والدين { وما تتلو منه } أي ما تقرأ منه، قيل: من القرآن، وقيل: من الشأن في القرآن، وقيل: منه أي من الله تعالى { ولا تعملون من عمل } خطاب للمكلفين، قوله تعالى: { الا كنا عليكم شهودا } ، قيل: حافظا وشاهدا عليكم حتى نشهد يوم القيامة ثم نجازيكم به، وقيل: شاهدين رقباء نحصي عليكم { إذ تفيضون فيه } من أفاض في الأمر إذا اندفع فيه والهاء عائدة على العمل، وقيل: هو القرآن يعني يقولون في القرآن الكذب { وما يعزب عن ربك } أي ما يغيب عنه { من مثقال ذرة } أي من وزن ذرة وهي الذرة الحمراء الصغيرة { إلا في كتاب مبين } ، وقيل: اللوح المحفوظ، وقيل: في كتاب الحفظة، وفيه ترغيب وترهيب وأنه لا يخفى عليه شيء فيجازيكم بجميع أعمالكم { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون } ، قيل: هم المتحابون في الله تعالى في خبر مرفوع، وقيل: هم { الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا } ما بشر الله به المتقين في غير مكان من القرآن وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له "
، وقيل: محبة الناس له والذكر الحسن وعن عطاء لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة، قال الله تعالى:
تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون
[فصلت: 30] وفي الآخرة تلقى الملائكة إياهم مسلمين ومبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وأعطاهم الصحف بايمانهم.
[10.65-74]
{ ولا يحزنك قولهم } يعني المشركين في تكذيبهم، وقيل: فيما يتوعدونك من القتل والأذى فإن الله يعصمك { ان العزة لله جميعا } أي القهر والغلبة فينتقم منهم { وهو السميع العليم } { وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء } يعني ما يتبعون في ذلك علما ومعرفة ولكن قلدوا الآباء { إن يتبعون إلا الظن } يعني يتبعون الظن فيما يدينون دون الحقيقة، وهو قولهم: الأوثان آلهة فاتبعوا هذا الظن الكاذب، وقيل: ظنهم أنها تشفع لهم يوم القيامة ثم بين تعالى أنه لا حكم لهذا الظن بقوله: { وإن هم إلا يخرصون } أي يكذبون { هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه } يعني خلق الليل لسكونكم وراحتكم وليزول عنكم التعب { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } سماع تفهم وتدبر { قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه هو الغني } الآية نزلت في مشركي العرب الذين قالوا الملائكة بنات الله، وفي النصارى الذين قالوا المسيح ابن الله { أتقولون على الله ما لا تعلمون } يعني أنهم قالوا ذلك بغير علم، ثم بين لهم تعالى ما أوعدهم به فقال: { قل } يا محمد { إن الذين يفترون على الله الكذب } بإضافة الولد إليه { متاع في الدنيا } أي افتراؤهم هذا منفعة قليلة في الدنيا إلى قريب انقضاء أجلهم { ثم } بعد ذلك { إلينا مرجعهم } مصيرهم { ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون } قوله تعالى: { واتل عليهم } يا محمد، أي على مشركي قريش وأهل مكة { نبأ نوح } أي خبره { إذ قال لقومه } الذين بعث إليهم { يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي } أي شق وعظم عليكم مكثي بين أظهركم { وتذكيري } أي وعظي إياكم { فأجمعوا أمركم } أي اعزموا عليه وهو تهديد { وشركاءكم } قيل: وادعوا شركاؤكم، وقيل: إجمعوا أمركم مع شركائكم { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } ، قيل: خفيا ملتبسا، وقيل: لا يكن أمركم عليكم غما وحزنا في صدروكم بأن ترددوا فيه فيكون ذلك غما في صدوركم { ثم اقضوا إلي ولا تنظرون } أي افرغوا في جميع حيلكم ثم اقصدوني، وقيل: أفيضوا ما في أنفسكم وهذا ليس بأمر وإنما هو تعجيز، وقيل: هو تهديد ووعيد { فإن توليتم فما سألتكم من أجر } على أداء الرسالة { فنجيناه ومن معه في الفلك } أي السفينة، وقيل: كانوا ثمانين نفسا وهلك أهل الأرض جميعا { وجعلناهم خلائف } أي مكان الأرض خلفا عن الهالكين { وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا } يعني قوم نوح كذبوا بالحجج { فانظر } يا محمد أو أيها السامع فتفكر { كيف كان عاقبة المنذرين } { ثم بعثنا من بعده } يعني من بعد نوح { رسلا إلى قومهم } يعني هودا وصالحا وإبراهيم وشعيبا { فجاؤوهم بالبينات } يعني بالحجج الواضحة { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل } يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق فما وقع فصل بين حالتيهم بعد بعثة الرسل وقبلها كأن لم يبعث إليهم أحد { كذلك نطبع على قلوب المعتدين } قيل: المجاوزين للحد في العصيان، وقيل: المجاوزين في الحلال والحرام.
[10.75-86]
{ ثم بعثنا من بعدهم } أي من بعد الرسل، وقيل: بعد الأمم { موسى وهارون إلى فرعون وملئه } ، قيل: أشراف قومه { بآياتنا } يعني الآيات التسع { فاستكبروا } عنه أي طلبوا الكبر فتكبروا عن قبول الحق، قوله تعالى: { وكانوا قوما مجرمين } عاصين { فلما جاءهم الحق من عندنا } يعني ما أتى به موسى من الآيات { قالوا ان هذا لسحر مبين } أي أمر مموه لا أصل له { قال موسى } لهم { أتقولون للحق لما جاءكم أسحر هذا } يعني كيف تقولون للمعجزات أنها سحر باطل وللعجر حق { قالوا } يعني فرعون وقومه لموسى { أجئتنا لتلفتنا } لتصرفنا { عما وجدنا عليه آباءنا } من الدين { وتكون لكما الكبرياء } ، قيل: الملك، وقيل: السلطان { في الأرض } يعني أرض مصر { وما نحن لكما بمؤمنين } بمصدقين، ثم بين تعالى ما جرى بين موسى وبين فرعون من الجدال فقال سبحانه: { وقال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم } في سحره { فلما جاء السحرة } في الكلام حذف يدل عليه الظاهر تقديره فلما أتى السحرة بالحبال والعصي { قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون } ، قيل: اطرحوا { ما جئتم به السحر إن الله سيبطله } أي سميحقه أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة { إلا ذرية من قومه } أي إلا طائفة من ذراري بني إسرائيل وهذا في أول أمره { على خوف من فرعون وملئهم } أي أشراف بني إسرائيل { أن يفتنهم } عن دينهم { وإن فرعون لعال في الأرض } غالب فيها قاهر { وإنه لمن المسرفين } في الظلم والفساد وفي الكبر والعتو { وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله } صدقتم به وبآياته { فعليه توكلوا } فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون، ثم شرط في التوكل الاسلام وهو أن يسلموا نفوسهم لله تعالى أي يجعلونها سالمة له خالصة لا حظ للشيطان فيها { فقالوا على الله توكلنا } وإنما قالوا ذلك لأن القوم كانوا مخلصين لا جرم أن الله قبل توكلهم وأجاب دعاءهم ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه وجعلهم خلفا في أرضه.
[10.87-92]
قوله تعالى: { وأوحينا إلى موسى وأخيه } أمرناهما { أن تبوءا } اتخذا { لقومكما بمصر بيوتا } هي مصر المعروفة بيوتا تسكنونها وتأوون إليها { واجعلوا بيوتكم قبلة } أي مصلى، وقيل: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم عن ابن عباس ومجاهد، وإبراهيم والسدي، وأبي علي واختلفوا في القبلة، فقيل: أراد الكعبة، وقيل: بيت المقدس { وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه } يعني أشرافهم وكبراءهم { زينة } من متاع الدنيا { وأموالا في الحياة الدنيا } يعني بسطت ذلك لهم في الدنيا { ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم } دعا عليهم يعني اطمس على أموالهم أهلكها واشدد على قلوبهم قيل: أمتهم بعد سلب أموالهم، وقيل: الشد على القلب عبارة عن الخذلان { قال قد أجيبت دعوتكما } يعني موسى وهارون (عليهما السلام) { فاستقيما } ، قيل: على الطاعة وأراد الرسالة والدعاء إلى الدين، وروي أن موسى (عليه السلام) مكث بعد الدعاء أربعين سنة ثم أهلك الله تعالى فرعون وقومه، وقيل: بل أخذ في الحال { ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون } أي لا تتبعان سبيل الجهلة بعبادة غير الله ولا تعجلا فإن العجلة ليست بمصلحة وهذا كما قال لنوح (عليه السلام) إني أعظك أن تكون من الجاهلين { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } أي قطعنا بهم، ثم بين تعالى ما آل إليه من فرعون وقومه، فقال تعالى: { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } وذلك أن الله تعالى لما أجاب موسى أمره بإخراج بني إسرائيل من مصر ليلا فخرج { فأتبعهم فرعون وجنوده } مشرقين حتى أتوا على البحر وأمر الله موسى أن يضرب البحر بعصاه فانفلق فصار فيه اثني عشر طريقا يابسة، وارتفع بين كل طريقين الماء كالجبل، وصار في الماء شبه الحروق ينظر بعضهم إلى بعض حتى جاوز موسى وهارون وبني إسرائيل، وانتهى فرعون إلى البحر فرآه بتلك الهيئة ساكنا فهاب دخوله وكان على حصان أدهن فتقدمه جبريل (عليه السلام) على رمكه فخاض البحر، وميكائيل يسوقهم، فاقتحم واقتحمت الخيول فانطبق الماء عليهم وغرقوا، فقال بعضهم: لم يغرق فرعون فقذفه البحر ميتا حتى رآه بني إسرائيل. { قال آمنت أنه لا إله إلا الذين آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين } { الآن } ، قيل: فيه إضمار، أي قيل له: الآن آمنت حين لا يقبل الايمان لأنه حال الالجاء وكنت قبل كافرا مفسدا، واختلفوا في قائل هذا والمخاطب به فقيل: ملك الموت بأمر الله عز وجل، وقيل: جبريل { فاليوم ننجيك ببدنك } ، قيل: نبعدك عن جميع ملكك، وقيل: نلقيك على نجوة من الأرض، قال كعب الأحبار رماه الماء إلى الساحل كأنه ثورا ونبديك كاملا سويا أو عريانا أو بدرعك، وروي أنه كان له درع من ذهب { لتكون لمن خلفك } أي من ورائك { آية } علامة وهم بنو إسرائيل.
[10.93-101]
قوله تعالى: { ولقد بوأنا بني إسرائيل } أي مكنا، وقيل: هيأنا لهم منازل يرجعون إليها، وقوله تعالى: { مبوأ صدق } منزلا صالحا وهو مصر والشام { ورزقناهم من الطيبات } الحلال وهو مواريث أهل مصر والشام فإنهم أخرجوا وتركوا أموالهم وديارهم فأغرقوا { فما اختلفوا } يعني بني إسرائيل وهم اليهود الذين كانوا زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا على الاقرار بالنبي قبل مبعثه { فإن كنت في شك } ، قيل: الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: لغيره، فمن قال أن الخطاب لغيره فالمعنى فإن كنت أيها الإنسان أو أيها السامع { مما أنزلنا إليك } يعني القرآن والشرائع { فاسأل الذين يقرؤون الكتاب } يعني سل مؤمني أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وابن صوريا وتميم الداري وكعب الأحبار فإنهم يخبرونك بما في كتابك { فلا تكونن من الممترين } الشاكين { ولا تكونن } أيها السامع { من الذين كذبوا بآيات الله } ، قوله تعالى: { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون } ، قيل: كلامه إخباره أنهم لا يؤمنون، وقيل: وعيده إنهم يصيرون إلى العذاب، وقيل: سخطه عليهم { فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها الا قوم يونس } استثنى من القرى وهو استثناء منقطع بمعنى ولكن قوم يونس { لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا } روي أن يونس (عليه السلام) بعث الى قومه فكذبوه فذهب عنهم مغاضبا فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة، وقيل: قال لهم يونس: ان أجلكم أربعين ليلة، فقالوا: إن رأينا أسباب العذاب آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون ليلة أغامت السماء غيما أسودا هائلا يدخن دخانا شديدا، ثم هبط حتى تغشى مدينتهم وسود سطوحهم، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرقوا بين النساء والصبيان، وبين الدواب وأولادها، فحن بعضها إلى بعض وأظهروا الايمان والتوبة وتضرعوا إلى الله فرحمهم وكشف عنهم كان يوم الجمعة يوم عاشوراء وعلت الأصوات والعجيج، وعن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ردوا المظالم حتى أن الرجل يقلع الحجر وقد وضع عليها أساس فيرده، وروي أنه لما أتاهم مقدمة العذاب خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: قد نزل بنا ما ترى من العذاب فقال لهم قولوا: يا حي حين لا حي، ويا محيي الموتى، ويا حي لا إله إلا أنت، فقالوا ذلك فكشف الله عنهم وكان يوم الجمعة يوم عاشوراء { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا } قال ابن عباس: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حريصا على إيمان جميع الناس فأنزل الله هذه الآية يعني ولو شاء ربك لأكرههم ولو أكرههم لما يستحقوا عليه ثوابا { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله } يعني بعلمه { ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } ذما لهم، قيل: الرجس العذاب، وقيل: الغضب { قل } يا محمد لمن سألك الآيات { انظروا } أي تفكروا { ماذا في السموات والأرض } من العبر والدلائل من اختلاف الليل والنهار والنجوم والأفلاك وما خلق الله من الجبال والبحار، وما أنبت الله من الأشجار والثمار وما أخرج من الحيوانات، وما ينزل من السماء من أنواع المطر ورتق السماء بلا عمد وغير ذلك من آيات الله الباهرة.
[10.102-109]
{ فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } من الأمم كعاد وثمود وأيام الله يعني وقائعه، وقيل: هل ينتظرون إلا وقائع كوقائع من كان قبلهم، يعني فهل تنتظرون ما أخوفكم به من العذاب وأيام الله ينزل بكم كما نزل بمن قبلكم { إني معكم من المنتظرين } لنزول ذلك { ثم ننجي رسلنا } من العذاب وقت نزوله، وقيل: من شرور أعدائهم { والذين آمنوا } أي وننجي المؤمنين { قل يأيها الناس إن كنتم في شك من ديني } خطاب للكفار لأن المؤمن لا يشك في دينه، وقيل: هو عام أي من ديني الذي أدعوكم إليه وهو الإسلام، يعني لا أعبد شيئا سوى الله تعالى فما تعبدون من الأوثان التي لا تنفع ولا تضر { وأن أقم وجهك للدين حنيفا } ، قيل: أراد بالوجه نفسه، وقيل: معناه استقم في الدين { ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك } إن أطعته { ولا يضرك } إن عصيته { فإن فعلت } أي عبدت غير الله أيها السامع { فإنك إذا من الظالمين } لنفسك { وان يمسسك الله بضر } أي يصيبك من جهته بلاء وشدة ومرض { فلا كاشف له إلا هو } أي لا يقدر أحد على كشفه غيره { وإن يردك بخير } صحة الجسم والنعمة { فلا راد لفضله } لا يقدر على منعه أحد { قل } يا محمد، ثم ختم السورة بعد ذكره الوعد والوعيد بالوعظ الجميل تسلية ووعدا للمؤمنين ووعيدا للكافرين فقال تعالى: { قل يأيها الناس } خطاب عام لجميع المكلفين { قد جاءكم الحق من ربكم } يعني القرآن ودين الإسلام وشرائعه، وقيل: جاءكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمعجزات { فمن اهتدى } إلى الحق وسلك طريقة الهدى { فإنما يهتدي لنفسه } أي لا نفع ذلك يعود عليه، قوله تعالى: { ومن ضل فإنما يضل عليها } لأنه يجني على نفسه ومضرته تعود عليه بالعقاب الدائم { وما أنا عليكم بوكيل } أي لست عليكم بحفيظ من العقاب والهلاك { واتبع ما يوحى إليك واصبر على دعواهم } واحتمل أذاهم واعراضهم { حتى يحكم الله } لك بالنصرة عليهم والغلبة ولما أمر الله نبيه بالصبر ، روي أنه جمع الأنصار وأوصاهم بذلك.
[11 - سورة هود]
[11.1-4]
{ الر } قد تقدم الكلام عليه في سورة يونس { كتاب } يعني القرآن { أحكمت آياته } نظمن نظما رصينا محكما لا يقع فيه نقص ولا خلل كالبناء المحكم، وقيل: منعت من الفساد، قال الشاعر:
ابني حنيفة أحكموا سفهاءكم
إني أخاف عليكم أن أغضبا
وعن قتادة: أحكمت من الباطل ثم فصلته بالفوائد من دلائل التوحيد والأحكام والمواعظ والقصص، أو جعلت فصولا سورة سورة وآية آية، أو فرقت في التنزيل، ولم ينزل جملة واحدة، وقيل: فرقت بين الحق والباطل، وقيل: أحكمت آياته فلا تنسخ كما نسخت التوراة وسائر الكتب المتقدمة { من لدن حكيم خبير } أي هذا الكتاب الذي أتاكم من عند حكيم خبير أي حكيم في أفعاله وتدابيره عالم بأحوال خلقه { وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } من ذنوبكم { يمتعكم متاعا حسنا } يطول نفعكم في الدنيا بمنافع حسنة مرضية من عيشة واسعة ونعمة متتابعة { إلى أجل مسمى } إلى أن يتوفاكم كقوله تعالى:
فلنحيينه حياة طيبة
[النحل: 97] { ويؤت كل ذي فضل فضله } يعني ويعطي في الآخرة كل من كان له فضل في العمل وزيادة فيه جزاء فضله { وإن تولوا } عن اتباعي.
[11.5-11]
{ ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه } الآية نزلت في المنافقين، وقيل: في الأخنس بن شريق وكان يظهر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المحبة وهو يضمر خلاف ما يظهر، وروي أن بعض المنافقين كان إذا رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كيلا يراه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: هم الكفار يثنون صدورهم على عداوة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: يثنون يخفون ما في صدورهم عن ابن عباس، وقيل: يعرضون بقلوبهم ليستخفوا منه ليخفوا ما فيه من الكفر والنفاق معه، قيل: من الله تعالى جهلا منهم، وقيل: من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { ألا حين يستغشون ثيابهم } ويريدون الاستخفاء كراهة لاستماع كلام الله تعالى كقول نوح:
جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم
[نوح : 7] { وما من دابة } أي ما من حيوان يدب على وجه الأرض صغيرا أو كبيرا { إلا على الله رزقها } أي قوتها وهو المتكفل بذلك { ويعلم مستقرها } على وجه الأرض { ومستودعها } حيث تموت، وقيل: مستقرها في الرحم ومستودعها في الصلب { كل في كتاب مبين } في اللوح المحفوظ، يعني ذكرها مكتوب فيه { وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } ومتى قيل: فما الفائدة في هذه المدة مع قدرته تعالى على خلقها في لحظة واحدة؟ قالوا: لطفا للملائكة ولمن شاهده حالا بعد حال { وكان عرشه على الماء } ، روي أنه ما كان تحته خلق قبل خلق السموات والأرض وارتفاعه فوقها، وفيه دليل على أن العرش كانا مخلوقين قبل السموات والأرض، وقيل: كان الماء على متن الريح والله ممسك ذلك بقدرته، وكلما ازدادت الأجرام كانت أحوج إليه وإلى إمساكه { ليبلوكم } ليعاملكم معاملة المختبر ليظهر إحسان المحسن وإساءة المسيء على ما علمه ليكون الجزاء على الأعمال { ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة } أي أجل معدود أي محدود { ليقولن } هؤلاء الكفار { ما يحبسه } أي يقولون على وجه التكذيب والاستهزاء أين ذلك العذاب وما يحبسه؟ وقيل: قالوه استعجالا { ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة } الانسان للجنس، رحمة نعمة من صحة وأمن وجدة { ثم نزعناها منه } ثم سلبناه تلك النعمة { إنه ليؤوس } شديد اليأس من أن يعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة، قاطع رجاءه من سعة فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه ولا استرجاع { ذهب السيئات عني } أي المصائب التي ساءتني { إنه لفرح } أشد بطرا { فخور } على الناس بما أذاقه الله من نعمائه قد شغله الفرح والفخر عن الشكر لله تعالى { إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات } فإن عادتهم ان نالتهم نعمة أن يشكروا وان زالت عنهم نعمة أن يصبروا { أولئك لهم مغفرة } لذنوبهم { وأجر كبير } عظيم وهو الجنة.
[11.12-16]
{ فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك } الآية نزلت في أهل مكة قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن كنت رسولا فحول لنا جبال مكة ذهبا لنستغني فإنا نراك فقيرا، أو تأتينا بالملائكة لتشهد لك بالنبوة، وقيل: قالوا: ائتنا بكتاب ليس في سب آلهتنا فنزلت الآية { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } أي لعلك أن تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم مخافة ردهم له وتهاونهم به { وضائق به صدرك } أن تتلوه عليهم مخافة { أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز } أي هلا أنزل عليه ما اقترحناه نحن من الكنز والملائكة { إنما أنت نذير } أي ليس عليك الا تنذرهم بما أوحي إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك إن ردوا أو تهاونوا أو اقترحوا { والله على كل شيء وكيل } يحفظ ما يقولون عالم به { أم يقولون افتراه } يعني أما أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو يقولوا افتراه اختلعه من عنده { قل } يا محمد { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } وهذا تحدي يعني ان كان هذا كلامك فقل لهم: فاتوا بعشر سور مثله في الفصاحة والنظم والمعنى { وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين } إنه كلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أي ادعوا كل من تستطيعون إلى المعاونة على المعارضة، وقيل: شركاؤكم، وقيل: من خالف محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) من جميع الأمم { فإن لم يستجيبوا لكم } ، قيل: معناه فإن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين أن رسول الله والمؤمنين كانوا يتحدونهم وقد قال في موضع آخر { فإن لم يستجيبوا لك } ويجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووجه آخر وهو أن يكون الخطاب للمشركين، والضمير في تستجيبوا إلى من استطعتم، يعني فإن لم يستجب لكم من تدعونه من دون الله تعالى إلى المظاهرة على معارضته لعلمهم بالعجز عنه وإن طاعتهم أقصر من أن تبلغه { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } أي أنزل ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله تعالى من نظم معجز للخلق { وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون } متابعون للاسلام بعد هذه الحجة القاطعة فهذا وجه حسن روى ذلك جار الله، ومن جعل الخطاب للمسلمين فمعناه فأثبتوا على العلم الذي أنتم عليه، ومعنى فهل أنتم مسلمون قيل: أنتم مخلصون { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم } نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق، وقيل: هم أهل الرياء، وعن أنس: هم اليهود والنصارى، وقيل: هم الذين جاهدوا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من المنافقين، قوله تعالى: { وحبط ما صنعوا فيها } يعني لم يكن لهم ثواب لأنهم لا يريدون به الآخرة وإنما أرادوا به الدنيا وقد وفى إليهم ما أرادوه { وباطل ما كانوا يعملون } يعني لأنه لم يعمل لوجه صحيح والعمل الباطل لا ثواب له.
[11.17-26]
{ أفمن كان على بينة من ربه } أي معه حجة من الله تعالى وهو القرآن { ويتلوه شاهد } أي يتبعه من يشهد بصحة القرآن، قيل: هو جبريل (عليه السلام)، وقيل: هو شاهد من الله وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، عن الحسن بن علي (عليه السلام)، وقيل: هو علي (عليه السلام) يشهد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو { منه } ذكره الحاكم قال: والصحيح أنه من كان على بينة من ربه وهو كل محق يعتقد التوحيد والعدل، والبينات هي الحجج الدالة على ذلك، ويتلوه شاهد مؤكد وهو القرآن يشهد على ذلك ومنه كناية عن الله تعالى لأنه أنزله وكذلك التوراة يشهد على ذلك { ومن قبله } أي من قبل القرآن { كتاب موسى } يعني التوراة { إماما } يؤتم به في أمور الدين { ورحمة } يعني نعمة من الله تعالى على عباده ثم نسخ، وقيل: هي شاهدة لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بما فيها من البشارة { أولئك يؤمنون به } ، قيل: أصحاب موسى (عليه السلام) يؤمنون بالتوراة وما فيها، وقيل: يؤمنون بالقرآن { ومن يكفر به } ، قيل: بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: بالقرآن { فالنار موعده } ، قوله تعالى: { إنه الحق من ربك } يعني القرآن { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } يعني لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب وظلم النفس أن تحرمها ثواب الأبد وتهلكها بعذاب الأبد { أولئك يعرضون على ربهم } يقفون موقفا يراه الخلائق للمطالبة بما عملوا { ويقول الأشهاد } ، قيل: هم الملائكة الحفظة، وقيل: هم شهداء كل عصر من المؤمنين، وقيل: هم الأنبياء (عليهم السلام) { هؤلاء الذين كذبوا على ربهم } يعني كذبوا الرسل هذا من كلام الأشهاد، واللعن الطرد والابعاد في اللغة وفي الشرع عقوبة من الله تعالى ثم وصفهم تعالى فقال: { الذين يصدون عن سبيل الله } الآية، قوله: { أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض } يعني هؤلاء الكفار لم يكونوا ممتنعين من العذاب ولا يمنعهم غيرهم، وقيل: سابقين، وقيل: فائتين { وما كان لهم من دون الله من أولياء } من أنصار ينصرونهم من دون الله لدفع العذاب { يضاعف لهم العذاب } أي يزاد لهم في العذاب { ما كانوا يستطعيون السمع وما كانوا يبصرون } ، قيل: يثقل عليهم سماع الأدلة والقرآن بغضا وعنادا، فلا يسمعوا ولا لهم به علم ولا بصيرة، وقيل: صم عن سماع الحق، عمي عن رؤيته { لا جرم } ، قيل: خفاء، وقيل: حقا، وقيل: لا بد ولا محالة { وأخبتوا إلى ربهم } أي واطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع { مثل الفريقين } يعني المؤمن والكافر { كالأعمى والأصم والبصير والسميع } سمي المؤمن بالسميع والبصير، والكافر بالأعمى والأصم، لأن المؤمن ينتفع والكافر لا ينتفع فصارت آلته كالمعدومة { هل يستويان } ، قيل: لا يستويان في استحقاق الثواب، وقيل: كيف يستويان.
[11.27-36]
{ فقال الملأ الذين كفروا من قومه } ، قيل: هم الأشراف والرؤساء { ما نراك إلا بشرا مثلنا } يعني قالوا لنوح أنه بشر مثلهم ظنا منهم أن الرسول يكون من جنس آخر، ولم يعلموا أن البعثة من الجنس أصلح { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } أهل الخرق الخسيسة الذي لا مال لهم ولا جاه، وإنما استرذلوا المؤمنين لفقرهم { بادي الرأي } أي أول الرأي أو ظاهره بمعنى اتبعك أول الرأي أو ظاهره { قال } نوح { يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها } فعيمت أي خفيت، وقيل: المراد عموا عنها، أنلزمكموها يعني الرحمة فيدخل فيه الإسلام والدين وسائر النعم، وقيل: لا ألزمكم، وقيل: كيف ألزمكم { وأنتم لها كارهون } ، وقيل: معناه على الدعاء واثبات الدلالة وليس علي أن اضطركم والجئكم { ويا قوم لا أسألكم عليه مالا } أي على الرسالة والابلاغ مالا { إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين آمنوا } أي لا أبعدهم وإن كانوا من الأرذال عندكم بل أكرمهم { إنهم ملاقو ربهم } أي ملاقو جزاء ربهم { ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك } إنما أنا عبد مؤمن من المؤمنين مأمور لا أدعي ما ليس لي { ولا أقول للذين تزدري أعينكم } فلا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم { لن يؤتيهم الله خيرا } في الدنيا والآخرة { قالوا يا نوح قد جادلتنا } خاصمتنا { فأكثرت جدالنا } زدت على المقدار { فأتنا بما تعدنا } من العذاب { إن كنت من الصادقين } { قال إنما يأتيكم به الله إن شاء } انه يعذبكم إن شاء عجل وإن شاء أخر { وما أنتم بمعجزين } ممتنعين ولا ينفعكم نصحي، قوله تعالى: { إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم } أي يعاقبكم ويعذبكم بسوء عملكم وكفركم ويحرمكم ثوابه فليس ينفعكم نصحي عند نزول العذاب بكم ما دمتم على ما أنتم عليه إلا أن تتوبوا وهذا قول أبي علي وأبي مسلم، وقيل: معناه إن كان الله يريد أن يهلككم فليس ينفعكم نصحي عند نزول العذاب بكم وإن قبلتموه وآمنتم لأن حكم الله تعالى لا يقبل الايمان عند نزول العذاب روى ذلك الحاكم، وروي في الكشاف قال: إذا عرف الله من الكافر الاصرار خلاه وشأنه { أم يقولون } يعني الكفار { افتراه } يعني افتراء نوح الكذب فيما يقول عن ابن عباس، وقيل: يعنون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) افتراء فيما يقصه علينا من نبأ نوح وغيره يعني فعله من نفسه { قل } يا محمد { إن افتريته } من نفسي { فعلي إجرامي } أي عذاب جرمي ولا تؤاخذون { وأنا بريء مما تجرمون } أي لا أؤاخذ بجرمكم { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن } الآية أي لا تغتم بأمرهم وبفعلهم فالفرج قريب، وذلك لما أراد الله سبحانه هلاك قوم نوح (عليه السلام) أمره باتخاذ السفينة فكان يعملها في البرية فكانوا يتضاحكون ويقولون: يا نوح صرت نجارا بعد أن كنت نبيا.
[11.37-43]
{ واصنع الفلك بأعيننا } أي بعلمنا، وقيل: بحفظنا، وروي أن نوحا (عليه السلام) اتخذ السفينة في سنتين وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون فحمل في الأسفل الوحوش والسباع والهوام، وفي البطن الأوسط الدواب والأنعام، وركب هو ومن معه في البطن الأعلى مع ما يحتاج إليه من الزاد، وحمل معه جسد آدم وجعله مفترضا بين الرجال والنساء، وعن الحسن: كان طولها ألفا ومئتي ذراع وعرضها ستمئة ذراع، وروي أن الحواريين قالوا لعيسى (عليه السلام): لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدثنا عنها، فانطلق بهم حتى انتهى إلى كثيب من تراب فأخذ كفا من ذلك التراب فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا كعب بن حام، فضرب الكثيب بعصاه وقال: قم بإذن الله، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه وقد شاب فقال له عيسى: أهكذا هلكت؟ قال: لا مت وأنا شاب ولكني ظننت أنها الساعة فمن ثم شبت، قال: حدثنا عن سفينة نوح، قال: كان طولها ألف وعرضها ستمئة ذراع وكانت ثلاث طبقات فقال له: عد بإذن الله كما كنت، فعاد ترابا روى ذلك جار الله (رضي الله عنه) { حتى إذا جاء أمرنا } ، قيل: عذابنا، وقيل: أمرنا بإهلاك قومه { وفار التنور } نبع الماء منه، قيل: نبع الماء من موضع لا يعهد خروجه منه علامة لنوح وهو تنور الخبز عن ابن عباس، وقيل: انفجر الماء من وجه الأرض، وقيل: فار التنور طلع الفجر ونور الصبح عن علي (عليه السلام)، وروي أن التنور كان لآدم (عليه السلام)، وقيل: تنور لنوح (عليه السلام) وهو تنور الخبز، لأن عليه أكثر أهل التفسير فاسلك فيها { من كل زوجين اثنين } يعني ذكرا وأنثى من كل صنف من الحيوان { وأهلك } أي واحمل أهلك والمؤمنين من غيرهم واستثنى من أهله { من سبق عليه القول } إنه من أهل النار قال الضحاك: أراد ابنه وإمرأته { وما آمن معه إلا قليل } روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال
" كانوا ثمانية نوح وأهله امرأته المسلمة وبنوه الثلاثة ونساؤهم "
، وقيل: كانوا عشرة خمسة رجال وخمس نساء، وقيل: كانوا اثنين وسبعين رجلا وامرأة وأولاد نوح سام وحام ويافث ونساؤهم { وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها } والباء في بسم الله باء الحال كما تقول خرج بسلاحه أي متسلحا ومثله دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به فيصير تقديره اركبوا متبركين باسم الله، وقيل: إنه كان اذا أراد أن تجري قال: بسم الله فجرت، وإذا أراد أن يرسي قال: بسم الله فرست، وإن نوحا أمرهم بالركوب ثم أخبرهم بأن مجراها ومرساها باسم الله وبأمره وقدرته { وهي تجري بهم } أي تجري وهم فيها { في موج كالجبال } يريد موج الطوفان فإن شبه كل موجة منه كالجبل في تراكمها وارتفاعها { ونادى نوح ابنه } ، قيل: كان اسمه كنعان بن نوح، وقيل: يام { وكان في معزل } ، والمعزل: مفعول من عزله عنه إذا نحاه وأبعده يعني وكان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه، وقيل: كان في معزل عن دين أبيه { يا بني اركب معنا } ومتى قيل: كيف دعاه وهو كافر وقد نهى عن ركوب الكفار، قيل: كان ينافق أباه، وقيل: دعاه بشرط الايمان { قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء } أي يمنعني { قال لا عاصم اليوم من أمر الله } أي لا مانع من أمر الله وهو الغرق { إلا من رحم } ورحمة الله تعالى يوجبها للمؤمنين.
[11.44-49]
{ وقيل يا أرض ابلعي ماءك } أي انشفي ماءك الذي نبعت به من العيون { ويا سماء اقلعي } امسكي وليس هنا قول وأمر وإنما معناه أنه أذهب ماء الأرض وأمسك ماء السماء وغيض الماء يعني وذهب { وقضي الأمر } أي فرغ من هلاك قوم نوح { واستوت على الجودي } هو جبل بالموصل، وقيل: إنها سارت لأول يوم من رجب ، وقيل: لعشر مضين من رجب فسارت ستة أشهر، وقيل: كانت في الماء خمسين ومئة يوم واستقرت بهم على الجودي شهرا وهبط بهم يوم عاشوراء، وروي أنها مرت بالبيت فطافت به سبعا وقد أعتقه الله من الغرق، وروي أن نوحا (عليه السلام) صام يوم الهبوط وأمر من معه فصاموا شكرا لله تعالى { فقال رب إن ابني من أهلي } لأنه كان ابنه من صلبه { قال يا نوح إنه ليس من أهلك } الذين وعدتك أن أنجيهم معك، وقيل: ليس من أهلك ليس من أهل دينك، وقيل: كان دعاء ابنه إلى الايمان ودعاء ربه في ابنه ولم يكن عالما بحاله { فلا تسألن ما ليس لك به علم } أي لا تسألني شيئا حتى تعلم أنه جائز { قيل يا نوح اهبط } من السفينة { بسلام منا } أي سلامة ونجاة { وبركات عليك وعلى أمم ممن معك } وهم المؤمنون { وأمم } ليسوا بمؤمنين { سنمتعهم } في الدنيا { ثم يمسهم } يصيبهم في الآخرة { منا عذاب أليم } { تلك } أي القصة المتقدمة { من أنباء الغيب } من أخبار ما غاب عنك { نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا } القرآن وبيان القصة فيه، وقيل: من قبل هذه الأخبار والبيان { فاصبر } على تبليغ الرسالة وأذى قومك كما صبر نوح أن العاقبة والفوز والنصر والغلبة للمتقين.
[11.50-60]
قوله تعالى: { وإلى عاد أخاهم هودا } ، قيل: أخاهم من النسب { قال يا قوم اعبدوا الله } ، قيل: وحدوه { ما لكم من إله غيره } يعني ما تعبدون من الأوثان { إن أنتم إلا مفترون } كاذبون في قولكم الأوثان آلهة { يا قوم لا أسألكم عليه أجرا } أي على تبليغ الرسالة { إن أجري إلا على الذي فطرني } أي خلقني { أفلا تعقلون } ما أقول لكم { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } ، قيل: آمنوا به وتوبوا من عبادة غيره، وقيل: المراد بالاستغفار الايمان، وقيل: توبوا إليه لأن التوبة استغفار { يرسل السماء عليكم مدرارا } يعني المطر متتابعا، وقيل: غزيرا كثيرا { ويزدكم قوة إلى قوتكم } أي شدة إلى شدتكم، وقيل: هي الأولاد الذين يقوى بهم، وروي أن الله تعالى حبس عنهم المطر وأعقم أرحام النساء ثلاث سنين فقال لهم هود: إن آمنتم أحيى الله بلادكم ورزقكم المال والولد ومن أراد استيفاء قصة هود فقد تقدمت في سورة الأعراف { وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين } أي بمصدقين { إن نقول الا اعتراك بعض آلهتنا بسوء } أي خبلك ومسك بجنون لسبك إياها وصدك عنها { قال } لهم هود { إني أشهد الله واشهدوا اني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون } أنتم وآلهتكم أعجل ما تفعلون من غير أنظاري فإني لا أبالي بكم ولا بكيدكم { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها } تمثيل لأن من عادة العرب استعمال ذلك إذا وصفوا إنسانا بالذل والخضوع { فإن تولوا } فإن أعرضتم { فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم ويستخلف ربي قوما غيركم } أي يهلككم الله ويحيي بقوم آخرين يخلفوكم في دياركم { ولا تضرونه } بشيء بتوليتكم عنه { إن ربي على كل شيء حفيظ } أي رقيب عليه فما يخفى عليه أعمالكم قوله تعالى: { ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه } ، قيل: كانوا أربعة آلاف وذلك أن الله تعالى بعث عليهم السموم فكانت تدخل من أنوفهم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضوا عضوا، فذلك قوله تعالى: { ونجيناهم من عذاب غليظ } ، وقيل: أراد بالتنجية من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه { وتلك عاد } أي وتلك عاد في بطشهم وقوتهم { جحدوا بآيات ربهم } ، وقيل: بالدلالة والحجج { وعصوا رسله } أراد هودا وحده وإنما جمع لأن من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع الرسل { وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة } ، قيل: لعنهم الله تعالى، وقيل: لعنتهم الملائكة { ويوم القيامة } أي ويقال لهم يوم القيامة { ألا إن عادا } الآية.
[11.61-68]
قوله تعالى: { وإلى ثمود أخاهم صالحا } أخاهم في النسب لا في الدين { قال } لهم { يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض } يعني خلق آدم من التراب واستعمركم فيها، قيل: يعني جعلكم عمارها وسكانها، وقيل: أطال عمركم فيها، وقيل: أسكنكم { فاستغفروه } اطلبوا منه المغفرة { إن ربي قريب } الرحمة { مجيب } لمن دعاه، فلما دعاهم صالح بهذا الدعاء الحسن { قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجوا قبل هذا } أي قد كنا نرجو الخير من جهتك لما كنت عليه من الأحوال الجميلة وقد كنا نرجو أن تكون فينا سيدا { أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا } من الأوثان { قال يا قوم أرأيتم } أعلمتم { إن كنت على بينة من ربي } أي حجة واضحة { وآتاني منه رحمة فمن ينصرني من الله إن عصيته } إلى آخرها { ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية } يعني ان شككتم في نبوتي فهذه ناقة الله لكم آية أي حجة، وإنما سميت ناقة الله لأنه لم يكن لها ملك، ولأنه رفع عنهم مؤنتها، ولأنه أحدثها آية أخرجها تعالى لهم من جوف صخرة صماء وهي حامل كما طلبوا { ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب } إن فعلتم ذلك { فعقروها فقال } لهم صالح { تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب } ، قوله تعالى: { فلما جاء أمرنا } يعني عذابنا { نجينا صالحا والذين آمنوا معه } أي خلصناهم من العذاب ومن خزي يومئذ أي من هوان ذلك اليوم والذل الذي أصابهم { وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا } ، قيل: أمر الله تعالى جبريل (عليه السلام) فصاح عليهم صيحة فماتوا { فأصبحوا في ديارهم جاثمين } ، قيل: في بلادهم، وقيل: في منازلهم جاثمين أي ساقطين على الوجوه { كأن لم يغنوا فيها } ، قيل: كأن لم يقيموا ولم يسكنوها لانقطاع آثارهم بالهلاك.
[11.69-83]
{ ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى } يعني الملائكة واختلفوا في عددهم، قيل: كانوا ثلاثة جبريل وميكائيل واسرافيل، وقيل: تسعة، وقيل: أحد عشر وكانوا على صورة الغلمان، وقوله: بالبشرى أي بالبشارة، وقيل: بإسحاق، وقيل: بهلاك قوم لوط { قالوا سلاما } ، قيل: سلما سلاما بمعنى الدعاء، وقيل: أرادوا بذلك استئناسه { قال سلام } أي وعليكم سلام { فما لبث أن جاء بعجل حنيذ } لأنه توهم أنهم أضياف لأنهم كانوا على صورة البشر { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه } أي إلى العجل { نكرهم وأوجس منهم خيفة } ظن أنهم لصوص، وقيل: ظن أنهم كفار { قالوا } يعني الملائكة { إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته } سارة { قائمة } وراء الستر تسمع كلامهم، وقيل: إنها كانت قائمة على رؤوسهم تخدمهم { فضحكت } ، قيل: تعجبا من حال الأضياف وامتناعهم من أكل الطعام، وقالت: عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا مكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا، وقيل: ضحكت تعجبا من حال قوم لوط إذ أتاهم العذاب وهم في غفلة، وقيل: كانت تقول لابراهيم اضمم لوطا ابن أخيك إليك، وقيل: ضحكت لما رأت العجل قد حيى { فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب } ابني ابراهيم { قالت يا ويلتي أألد وأنا عجوز } إمرأة كبيرة { وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب } ، وقيل: بشرت وهي لها ثمان وتسعون سنة ولابراهيم مئة وعشرون سنة، إن هذا لشيء عجيب أي يولد ولد من هرمين وإنما أنكرت عليها الملائكة لتعجبها { قالوا أتعجبين من أمر الله } لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات { رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت } يعني خير الدين والدنيا، وقيل: هو دعا لهم بالبركة { فلما ذهب عن إبراهيم الروع } أي الخوف وأمن كل مكروه { وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط } يعني أخذ يجادل رسلنا من الملائكة واختلفوا بأي شيء جادل قيل: قال لهم أن فيها لوطا، قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله وقوله: { إن ابراهيم لحليم } لا يعجل بالعقوبة { أواه } أي متأوه من خوف النار { منيب } تواب { يا إبراهيم أعرض عن هذا } الجدال وذلك أنهم قالوا لإبراهيم: أنا مهلكوا أهل هذه القرية، فقال لهم (عليه السلام): أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا، قال: فأربعون؟ قالوا: لا، قال: فثلاثون؟ قالوا: لا، حتى بلغ العشرة قالوا: لا، قال: أرأيتم لو كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا، فعند ذلك قال: إن فيها لوطا، قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله، وعن ابن عباس: قالوا له: إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب، وعن قتادة: ما قوم لا يكون فيهم عشرة أبرار فيهم خير، وقيل: كان فيهم أربعة ألاف فعند ذلك قالوا: يعني الملائكة { يا إبراهيم أعرض عن هذا } الجدال { إنه قد جاء أمر ربك } وهو قضاؤه وحكمه { وانهم آتيهم عذاب غير مردود } ثم بين تعالى مجيء الملائكة إلى لوط بعد خروجهم من إبراهيم، وما جرى بينهم وبين لوط فقال تعالى: { ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم } ، قيل: ساءه مجيء الملائكة لأنه خاف عليهم من قومه وخاف على أضيافه منهم { وقال هذا يوم عصيب } شديد في الشر، وإنما قال ذلك لأنه لم يعلم أنهم رسل وعلم من قومه ما هم عليه، ودخلوا معه منزله ولم يعلم بهم أحدا إلا أهله، وقيل: أتوه في نصف النهار وهو في أرض له، وروي أن الله تعالى قال لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فلما مشى معهم قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله أنها لشر قرية في الأرض عملا، يقول ذلك أربع مرات، فدخلوا معه ولم يعلم بذلك أحد فخرجت إمرأته فأخبرت بهم قومها { وجاءه قومه يهرعون إليه } يسرعون اليه { ومن قبل كانوا يعملون السيئات } ومن قبل ذلك الوقت كانوا يعملون الفواحش ويكثرونها { قال يا قوم هؤلاء بناتي } أراد أن يقي أضيافه ببناته وذلك غاية الكرم، وأراد هؤلاء بناتي فتزوجوهن، وكان تزويج المسلمات من الكفار جائز كما زوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ابنته من أبي العاص بن الربيع وهو مشرك، وقيل: كان لهم سيدان مطاوعان فأراد أن يزوجهما ابنته { هن أطهر لكم } من معاصي الله تعالى { فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي } أي لا تفضحوني، وقيل: لا تذلوني ولا تهينوني { أليس منكم رجل رشيد } يهتدي إلى سبيل الحق { قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق } لسنا بأزواج لهن، وقيل: ما لنا في بناتك من حاجة { وإنك لتعلم ما نريد } من إتيان الرجال فلما لم يقبلوا الوعظ أخذ لوط (عليه السلام) يتأسف و { قال لو أن لي بكم قوة } وقدرة على دفعكم { أو آوي إلى ركن شديد } ارجع إلى عشيرة أتمكن بهم من النهي عن المنكر، وقيل: أراد قوة في نفسه، والآية تدل على عظم معصيتهم بإتيان الذكور وهي كبيرة عظيمة، واختلفوا قيل: فيه من الحد ما في الزنا، ومنهم من قال: يقتل، وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" رحم الله أخي لوطا قد كان يأوي إلى ركن شديد وكان له قوة بالله "
ثم بين تعالى أن الملائكة لما رأوا ما فيه من الوجع والتأسف وما فيه قوة فقال سبحانه: { قالوا يا لوط انا رسل ربك } أرسلنا لإهلاكهم { لن يصلوا إليك } وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب، فقالت الملائكة: يا لوط افتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا، فاستأذن جبريل ربه في عقوبتهم فأذن له، فقام في الصورة التي يكون يها فنشر جناحه وله جناحان وعليه وشاح من در منظوم فضرب بجناحه وجوههم فطمس عيونهم فأعماهم كما قال الله تعالى:
فطمسنا أعينهم
[القمر: 37] فخرجوا وهم يقولون النجاء النجاء فإن في بيت لوط قوم سحرة { فأسر بأهلك } ، قيل: كان لوط وابنتيه { بقطع من الليل } ، قيل: بطائفة، وقيل: نصف الليل { ولا يلتفت منكم أحد } قيل: لا ينظر، وقيل: لا يلتفت منكم أحد إلى ماله وأهله { إلا امرأتك } روي أنه أمر أن يخليها مع قومها، وروي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منكم أحد إلا هي، فلما سمعت هدة العذاب التفتت فقالت: يا قوماه فأدركها حجر فقتلها، وروي أن لوطا قال لجبريل (عليه السلام): عجل هلاكهم، قال: { إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب } { فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها } جعل جبريل جناحه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها واتبعوا الحجارة من فوقهم { من سجيل } ، قيل: من جهنم، وقيل: من الطين { منضود } يتتابع { مسومة } ، قيل: مكتوب على كل حجر إسم من يرمي به، وقيل: مرسلة.
[11.84-95]
{ وإلى مدين أخاهم شعيبا } أي وأرسلنا إلى مدين أخاهم في النسب شعيبا، قيل: هو ولد مدين بن إبراهيم فنسبوه إليه، وقيل: هو إسم المدينة والقبيلة { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } ينفعكم أو يضركم { ولا تنقصوا المكيال والميزان } وكانوا يطففون في ذلك فنهوا عنه { ولا تبخسوا الناس أشياءهم } أي أموالهم في معاملاتهم { إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط } هذا من كلام شعيب تخويفا لهم { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } بنحو السرقة وقطع السبيل { بقية الله } ، قيل: طاعة الله { خير لكم } من جميع الدنيا لأنها تزول { وما أنا عليكم بحفيظ } ، قيل: لا أحفظ أعمالكم { قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك } وكان شعيب (عليه السلام) كثير الصلاة وكان قومه إذ رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا فقصدوا بقولهم هذا السخرية والهزء، وقوله: { أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل } عطف على قوله: { ما يعبد آباؤنا } أي أو أن نترك فعلنا { في أموالنا } على قضية مرادنا، وقيل: كان ينهاهم عن خدف الدراهم والدنانير وتقطيعها { إنك لأنت الحليم الرشيد } يعني الصالح في نفسه المرشد لغيره، وقيل: قالوا ذلك استهزاء، وقيل: أنت الحليم الرشيد في قومك فهذا الأمر لا يليق بك، وقيل: معناه أنت السفيه الغاوي، فقال لهم شعيب: { يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } يعني حجة من ربي { ورزقني منه رزقا حسنا } ، قيل: حلالا طيبا، وقيل: علما ومعرفة، وقيل: هو النبوة والشرع { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } ، يقال: خالفني فلان إلى كذا يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي أنهاكم عنها { ان أريد إلا الاصلاح ما استطعت } ما أريد إلا أصلحكم نصيحتي وموعظتي وأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر ما استطعت أي مدة استطاعتي { وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب } ، قيل: إليه أرجع في جميع أموري { ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي } أي لا يحملنكم وأصل الجرم القطع أي لا يحملنكم مخالفتي { أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح } من الهلاك بالغرق { أو قوم هود } بالريح { أو قوم صالح } بالصيحة { واستغفروا ربكم } أي اطلبوا منه المغفرة { ثم توبوا إليه } أي توصلوا إليه بالتوبة، وقيل: استغفروه بالتوبة { إن ربي رحيم ودود } يحب المؤمنين { قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا } مما تقول من العدل والتوحيد { وإنا لنراك فينا ضعيفا } ، قيل: ضعيف البدن { ولولا رهطك } أي عشيرتك { لرجمناك } بالحجارة، وقيل: شتمناك { وما أنت علينا بعزيز } أي لا تعز علينا { قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله } ، قيل: أي تراقبون في قومي ولا تراقبون الله { واتخذتموه } أي نسيتم الله { وراءكم ظهريا } أي نبذتموه وراء ظهوركم وتركتم أمره { ويا قوم اعملوا على مكانتكم } أي اعملوا أنتم على ما تقولون وأعمل أنا على ما أقول، وقيل: ما أنتم عليه من دينكم ونحوه { لكم دينكم ولي دين } { وارتقبوا إني معكم رقيب } أي انتظروا العذاب أن ينزل بكم فأنا أنتظره { وأخذت الذين ظلموا الصيحة } ، قيل: العذاب، وقيل: صوت خلقه الله تعالى فأهلكوا به، وقوله: { فأصبحوا في ديارهم جاثمين } ، قيل: ساقطين على وجوههم، وقيل: خامدين موتا هلكا { كأن لم يغنوا فيها } أي كأن لم يقيموا ولم يسكنوا { ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود } أي أبعدهم الله من رحمته ونجاته، وقيل: لعنوا كما لعنت ثمود.
[11.96-105]
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } أي حججنا، قيل: العصا واليد { وسلطان مبين } أي حجة بينة واضحة، وقيل: الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوته ويجوز أن يريد بالسلطان المبين العصا لأنها أبهرها { إلى فرعون وملئه } قيل: أشراف قومه، وقيل: جماعته و { اتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد يقدم قومه يوم القيامة } أي كما كان قدوة لهم في الضلال كذلك يقدمهم في الآخرة إلى النار وهم يتبعونه { وبئس الورد المورود } أي بئس المنزل الموصول إليه، وقيل: بئس المدخل لمن دخله { واتبعوا في هذه لعنة } يعني اتبعهم الله تعالى وملائكته والمؤمنون في هذه الدنيا بعد هلاكهم لعنة، وقيل: أهل الدنيا يلعنونهم في الدنيا وأهل الدنيا يلعنونهم في القيامة { وبئس الرفد المرفود } ، قيل: الرفد المعونة التي أعانهم فرعون على الباطل، وبئس العون إذا كان يفضي إلى النار، وقيل: بئس المعونة لهم بأن أدخلهم النار { ذلك من أنباء القرى } أي أخبار البلاد وقصص الأنبياء والأمم { نقصه عليك } يا محمد { منها قائم } لم يذهب وإن كان خاليا عن الأهل { وحصيد } قد خرب وذهب، وقيل: قائم له أثر، وحصيد لا أثر له، وقيل: القائم القرى التي لم تهلك والحصيد التي قد أهلكت { وما ظلمناهم } بإهلاكهم { ولكن ظلموا أنفسهم } بأن كفروا وعصوا الأنبياء { وما زادوهم غير تتبيب } يعني غير تخسير { إن في ذلك لآية } أي في أحد هؤلاء علامة وبرهانا { لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس } يعني يجتمع الخلق فيه للجزاء { وذلك يوم مشهود } يشهده أهل السموات والأرض، وقيل: يشهده المتقون ويساق إليه المجرمون، وقيل: يشهده الملائكة والأنبياء { وما نؤخره } يعني الجزاء والعذاب { إلا لأجل معدود } قد عرف { يوم يأتي } يعني الجزاء والقيامة { لا تكلم نفس إلا بإذنه } يعني لا تكلم في ذلك اليوم إلا بأمره فلا يتكلم أحد حتى يؤذن له، وقيل: هي مواقف ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، وفي بعضها يكفون عن الكلام فلا يؤذن لهم، وفي بعضها يختم على أفواههم وتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم، وقوله تعالى: { فمنهم شقي وسعيد } يعني من الناس شقي بعلمه وسعيد ناج مفلح.
[11.106-113]
{ فأما الذين شقوا ففي النار } جزاءا على أعمالهم يخلدون فيها { لهم فيها زفير وشهيق } ، قيل: الزفير الصوت الشديد والشهيق الصوت الضعيف، قال جار الله: وقوله تعالى: { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض } فيه وجهان أحدهما أن يريد سموات الآخرة وأرضها وهي دائمة مخلوقة للأبد، والدليل أن لها سموات وأرضا قوله تعالى:
يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات
[إبراهيم: 48] وقوله:
وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء
[الزمر: 74] والثاني أن يكون عبارة عن التأييد ونفي الانقطاع كقول العرب ما دم لعار وما أقام ثير وما لاح كوكب، قال جار الله: فإن قلت: ما معنى الاستثناء بقوله: { إلا ما شاء ربك } وقد ثبت خلود أهل الجنة والنار خلود الأبد من غير استثناء؟ قلت: هو استثناء من الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة، وذلك أن أهل النار لا يخلدون في عذاب وحده، بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من العذاب سوى عذاب النار وبما هو أغلظ منها كلها، وهو سخط الله عليهم وإهانته لهم، وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما هو أكثر منها وأجل موقعا منها وهو رضوان الله تعالى كما قال:
وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم
[التوبة: 72]، وقوله تعالى: { إن ربك فعال لما يريد } يعني أنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له، قوله تعالى: { غير مجذوذ } أي غير مقطوع ولكنه ممتد إلى غير نهاية ولما بين تعالى قصص أهل الأوثان وأنه أهلكهم بكفرهم قال: { فلا تك في مرية مما يعبد هؤلاء } يعني قريش { ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل } يعني على طريق التقليد { وإنا لموفوهم نصيبهم } من العقاب { غير منقوص } يعني من غير نقص، وقيل: هو من خير وشر، وقيل: هو نصيبهم من الرزق، وقيل: نصيبهم من العمر { ولقد آتينا } أي أعطينا { موسى الكتاب } يعني التوراة { فاختلف فيه } يعني اختلف فيه قوم موسى فمن مصدق ومن مكذب كما اختلف { ولولا كلمة سبقت من ربك } يعني كلمة الأنظار إلى يوم القيامة { لقضي بينهم } بين قومنا وقومك وهذه من جملة التسلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { وانهم } يعني قوم موسى { لفي شك منه } أي من كتابهم، وقيل: من نبوة موسى، وقيل: في شك من الوعيد { مريب } والريب هو الشك { وإن كلا } ، قيل: من الجاحدين والمخالفين، وقيل: هؤلاء الذين قصصنا عليك نبأهم { ليوفينهم ربك أعمالهم } أي يعطيهم جزاء أعمالهم { فاستقم كما أمرت } روي عن ابن عباس أنه قال: ما نزلت آية أشد على رسول لله (صلى الله عليه وآله وسلم) من هذه الآية { فاستقم كما أمرت } ولهذا قال:
" شيبتني هود "
أي استقم عن أمر ربك والعمل به والدعاء إليه كما أمرت { ومن تاب معك } والمعنى فاستقم أنت وليستقم من تاب من الكفرة وآمن معك { ولا تطغوا } ، قيل : لا تجاوزوا أمر الله تعالى بالزيادة والنقصان فتخرجون عن الاستقامة، وقيل: لا تعصوا الله وتخالفوه { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار } الآية تدل على قبح الركون إلى الظالم، وهذا الركون ينقسم فمنها الميل إليهم، ومنها الرضا بطريقتهم، ومنها معاونتهم، ومنها موالاتهم فأما لدفع الشر فذلك غير منهي عنه ويدل على أن من ركن إلى الظالم تمسه النار، وروي أن في جهنم واديا لا يسكنه إلا الزائرون للملوك، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه "
ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء؟ فقال: لا، فقيل له: يموت، فقال: دعه يموت، وقد قيل: ان الركون الميل اليسير وهو مصاحبتهم ومجالستهم، وقوله: { إلى الذين ظلموا } يريد الذين وجد منهم الظلم ولو مرة واحدة، وفي الحديث:
" يؤتى بالظالمين وبأعوان الظالمين حتى من أمد لهم دواة أو برى لهم قلما فيوضعون في تابوت من نار "
، وعن بعضهم: " ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور واليا " { وما لكم من دون الله من أولياء } من أنصار يقدرون على منعكم من عذابه.
[11.114-119]
{ وأقم الصلاة طرفي النهار } وهو غدوه وعشيه، وعن ابن عباس قال: طرفي النهار الغداة والمغرب { وزلفا من الليل } وهي الساعة القريبة من آخر النهار، مأخوذ من أزلفه أي قربه، وصلاة الغداة والفجر، وصلاة العشية العصر والظهر لأن ما بعد الظهر والعصر عشي وصلاة الزلف المغرب والعشاء { إن الحسنات يذهبن السيئات } ، قيل: أراد يكفرن الصغائر بالطاعات، وفي الحديث:
" ان الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر "
" وروي أنها نزلت في رجل من الأنصار كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته فقال لها: ان في البيت أجود من هذا التمر، فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها فتركها وندم، فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره بما فعل فقال له: " انتظر أمر ربي " فلما صلى صلاة العصر نزلت فقال له (صلى الله عليه وآله وسلم): " اذهب فإنها كفارة لما عملت "
{ فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية } معنى الكلام هل لا كان منهم من كان فيه خير { ينهون عن الفساد } حتى لا يعمهم الهلاك، وقيل: من كان يبقي على نفسه من عذاب الله أي يرحم نفسه فلا يعرضها لعذاب النار أولو بقية ثم وصف البقية فقال: ينهون عن الفساد في الأرض أي هلا نهوا عن المنكر، والمراد لم يكن من القرون بقية تنهي عن الفساد { إلا قليلا ممن أنجينا منهم } استثناء منقطع يعني: لكن قليلا منهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وهم أتباع الأنبياء وأهل الحق أنجاهم الله تعالى { واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه } يعني ظلموا أنفسهم ومالوا إلى الدنيا وزينتها ونعيمها، قوله تعالى: { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } يعني لاضطرهم إلى أن يكونوا أمة واحدة أي أهل ملة واحدة وهي ملة الاسلام { إلا من رحم ربك } إلا ناسا هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه { ولذلك خلقهم } أي ولرحمته خلقهم واللام لام العاقبة، وقيل: وعلى الرحمة خلقهم { وتمت كلمة ربك } هي وعده ووعيده الذي لا خلف فيه، وقيل: معنى تمت بخبرها يكون كما أخبر به، وقيل: الكلمة هي قوله تعالى للملائكة: { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } من الذين اختلفوا في الحق وتمسكوا بالباطل.
[11.120-123]
{ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل } أي أخبارها { ما نثبت به فؤادك } ، قيل: نسدده { وجاءك في هذه الحق } ، قيل: في هذه السورة وسائر السور، وقيل: في هذه الرسالة يعني الصدق من الأنباء والوعد والوعيد { وموعظة } أي تخويف وزجر { وذكرى للمؤمنين } الذين يتقون معاصي الله تعالى { وانتظروا إنا منتظرون } أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله من النقم النازلة بأمثالكم { ولله غيب السموات والأرض } عن كعب الأحبار أنه قال: خاتمة التوراة هذه الآية { فاعبده } يعني إذا كان هو المالك للأمور فهو المستحق للعبادة فاعبده وتذلل به ولا تصفه بالشرك { وتوكل عليه } ثق به وفوض الأمر إليه { وما ربك بغافل عما تعملون } أي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم فيجازي كل أحد بعمله.
[12 - سورة يوسف]
[12.1-5]
{ الر } ، قيل: اسم السورة، وقيل: إسم القرآن، وقيل: أنا الرب لا رب غيري، وقيل: اسم لله تعالى، وقيل: إنه قسم كأنه قال: والله، وقد تقدم الكلام فيه { تلك } إشارة إلى آيات السورة و { الكتاب المبين } السورة، وقيل: المبين حلاله وحرامه وما يحتاجون إليه { انا أنزلناه } يعني الكتاب { قرآنا عربيا } يعني بلغة العرب { لعلكم تعقلون } يعني لتعلموا معانيه وأحكامه { نحن نقص عليك أحسن القصص } لأنه بلغ النهاية في الفصاحة مع حسن المعاني وصدق الحديث والفائدة العظيمة، وقيل: لأن فيه أخبار الأمم الماضية، ويقال: أحسن القصص قصة يوسف، قوله تعالى: { بما أوحينا إليك هذا القرآن } الذي أنزل عليك { وإن كنت من قبله لمن الغافلين } أي من قبل إنزال الوحي عليك غافلا عن قصة يوسف { إذ قال يوسف لأبيه } أي اذكر إذ قال، روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" إذا قيل من الكريم فقولوا الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم "
{ يا أبت إني رأيت } يعني في منامي باتفاق المفسرين { أحد عشر كوكبا والشمس والقمر } قال ابن عباس والحسن: الشمس والقمر أبواه والكواكب أخوته الأحد عشر، وقيل: كان بين رؤياه وبين أن وصل أبوه وأخوته إلى مصر أربعون سنة عن أكثر المفسرين، وقيل: ثمانون سنة، وقيل: رأى هذه الرؤيا وهو ابن اثني عشر سنة، وقيل: ابن سبع سنين، قيل: رأى يوسف أن الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا تسجد له، وقيل: الشمس والقمر أبواه، وقيل: أبوه وخالته لأن أمه راحيل كانت قد ماتت والكواكب إخوته. فقال يعقوب: { لا تقصص رؤياك على إخوتك } أي لا تخبرهم بذلك ظن أنهم يحسدونه.
[12.6-14]
{ وكذلك يجتبيك ربك } أي يختارك للنبوة { ويعلمك من تأويل الأحاديث } ، قيل: تعبير الرؤيا أنه كان أعبر الناس، وقيل: تأويل الأحاديث في كتب الله تعالى ودلائله على توحيده { ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك } من قبل { إبراهيم وإسحاق } ومعنى اتمام النعمة أنه وصل لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة بأن جعلهم أنبياء في الدنيا وملوكا ونقلهم عنها إلى الدرجات العلا في الجنة، وقيل: إتمامها على إبراهيم بالخلة والانجاء من النار ومن ذبح الولد، وعلى إسحاق بإنجائه من الذبح وفدائه من الذبح بذبح عظيم، وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه { لقد كان في يوسف وإخوته } أي في قصصهم وأحاديثهم { آيات } علامات ودلائل على قدرة الله تعالى وحكمته في كل شيء { للسائلين } لمن سأل عن قصة يوسف وعرفها، وقيل: آيات على نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم بالصحة من غير سماع من أحد ولا قراءة كتاب { إذ قالوا ليوسف وأخوه } هو بنيامين وإنما قالوا أخوه وهم أخوة جميعا لأن أمهما كانت واحدة { ونحن عصبة } أي جماعة وكانوا عشرة { إن أبانا لفي ضلال مبين } أي في ذهاب عن طريق الصواب { وتكونوا من بعده قوما صالحين } يعني تائبين يعني نتوب بعد قتله ونعود إلى الصلاح { قال قائل منهم } على وجه المشورة قيل: هو روبيل { لا تقتلوا يوسف } ، قيل: الآمر بالقتل شمعون والباقون كانوا راضين، وقوله: { يخل لكم وجه أبيكم } أي يقبل عليكم إقبالة واحدة لا يلتفت عنكم إلى غيركم، والمراد سلامة محبته لهم ممن يشاركهم فيها، واختلفوا كيف جاز هذا عليهم وهم أنبياء، قيل: كانوا مراهقين ولم يكونوا بالغين، عن أبي علي يدل عليه قوله تعالى: { يرتع ويلعب } ، وقيل: كانوا بالغين وكان ذلك منهم صغيرة عن الحسن، وقيل: كان الذي قال: لا تقتلوا يوسف يهوذا وكان أحسنهم فيه رأيا وهو الذي قال:
لن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي
[يوسف: 80] الآية قال لهم: القتل عظيم { وألقوه في غيابت الجب } ، قيل: في قعر الجب بحيث يغيب، والجب قيل: هو بئر بيت المقدس، وقيل: أرض الأردن، وقيل: هو بئر بين مصر ومدين على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب { يلتقطه بعض السيارة } مارة الطريق والمسافرين { إن كنتم فاعلين } شيئا مما قلتم في يوسف فليكن هذا، ثم بين تعالى أنهم بعد اتفاق رأيهم فيما تآمروا فيه من أمر يوسف كيف سألوا أباهم فقال سبحانه: { قالوا يا أبانا مالك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون أرسله معنا غدا يرتع ويلعب } قرئ بالنون إضافة إليهم وبالياء أي يوسف (عليه السلام)، قيل: ننبسط ونتسع فيما نريد، وقيل: نرعى مواشينا ونلعب، وقيل: نشبع من أكل الفواكه وغيرها، وأصل الرتعة الخصب والسعة { وإنا له } يعني ليوسف { لحافظون } ، قال: يعني يعقوب { إني ليحزنني أن تذهبوا به } يعني أخاف عليه شغلكم بالمرعى وانفرادي عنكم لأنه كان لا يصبر عنه ساعة واحدة { وأخاف أن يأكله الذئب } روي أنه رأى في النوم أن الذئب قد سد على يوسف فكان يحذره فمن ثم قال لهم ذلك فلقنهم العلة، وفي أمثالهم البلاء موكل بالمنطق، وقيل: عليه إذا ذهبوا عنه { انا إذا لخاسرون } ، قيل: كالذي ذهب رأس ماله.
[12.15-18]
{ فلما ذهبوا به وأجمعوا أن يجعلوه في غيابات الجب } ، قيل: هو بئر بين مصر ومدين، وقيل: على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب، وقد روي أنهم لما برزوا به إلى البرية، أظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه، وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة والضرب حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء، فقال يهوذا: أما أعطيتموني موثقا ألا تقتلوه؟ فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده، فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه، فقال: يا أخوتاه ردوا علي قميصي أتوارى به، وإنما نزعوه ليلطخوه بالدم وقالوا له: ادع للشمس والقمر والإحدى عشر كوكبا تؤنسك، ودلوه في البئر فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت، وكان في البئر ماء فسقط فيه، ثم آوى إلى الصخرة فقام عليها وهو يبكي، وأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا، وكان يأتيه بالطعام، وروي أن ابراهيم (عليه السلام) حين ألقي جرد من ثيابه فأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إلى إسحاق وإسحاق إلى يعقوب فجعله يعقوب في عنق يوسف فجاءه جبريل فألبسه إياه { وأوحينا اليه } ، قيل: أوحي إليه في الصغر كما أوحي إلى عيسى (عليهما السلام) { لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون } إنك يوسف لعلو شأنك وذلك أنهم حين دخلوا عليه عرفهم وهم له منكرون { وجاؤوا أباهم عشاء يبكون } روي أنه لما سمع أصواتهم فزع وقال لهم: ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فما بالكم وأين يوسف؟ { قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا } أي بمصدق { ولو كنا صادقين وجاؤوا على قميصه بدم كذب } روي أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها وزل عنهم أن يمزقوه، وروي أن يعقوب (عليه السلام) لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال: أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال: والله ما أكله ذئب أكل ابني ولم يمزق قميصه؟! قيل: كان في قميص يوسف (عليه السلام) ثلاث آيات كان دليلا ليعقوب على كذبهم، وألقاه على وجهه فارتد بصيرا، ودليلا على براءة يوسف (عليه السلام) حين قد من دبر { قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل } معناه لا تشكوا فيه إلى الخلق { والله المستعان على ما تصفون }.
[12.19-22]
{ وجاءت سيارة } أي رفقة تسير من قبل مدين إلى مصر، وذلك من بعد ثلاثة أيام من حين ألقي يوسف في الجب { فأرسلوا واردهم } رجل يقال له مالك بن ذعر { فأدلى دلوه } أي أرسله فتعلق يوسف (عليه السلام) في الحبل فلما خرج إذ هو بغلام أحسن ما يكون فقال المدني: يا بشراي { هذا غلام } ، وقيل: نظروا في البئر فرأوه، فقالوا: هذا غلام { وأسروه بضاعة } ، قيل: أخفاه المدني ومن معه من التجار لئلا يسألون الشركة فيه لرخص ثمنه، وقيل: أسروه يعني أخوته أخفوا أنهم أخوته وقالوا: هذا غلام لنا، وقيل: أسر بعض التجار عن بعض، وروي أن يهوذا أتى بالطعام فلم يجده في البئر فأخبر أخوته فطلبوه فوجدوه معهم فقالوا: هذا عبدنا أبق منا، فقال مالك بن ذعر: أنا أشتريه { وشروه } أي باعوه، قيل: أخوته، وقيل: السيارة هم الذين باعوه { بثمن بخس دراهم معدودة } عشرين درهما، وقيل: اثني وعشرين درهما { وكانوا } ، قيل: الذين باعوه { فيه من الزاهدين } ، قيل: في الثمن، وقيل: في يوسف (عليه السلام) { وقال الذي اشتراه من مصر } ، قيل: قطفير، وقيل: أطفير وهو العزيز الذي كان على خزائن مصر، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العمالقة وأقام يوسف مع العزير ثلاث عشرة سنة { لامرأته } واسمها راعيل وهي التي تسمى زليخا { أكرمي مثواه } أعظمي منزلته { عسى أن ينفعنا } أي يكفينا أمورنا إذا بلغ وعلم الأمور، وقيل: نبيعه بثمن صالح { أو نتخذه ولدا } وكان قطفير لا يأتي النساء وكانت امرأته حسينة ناعمة، وقيل: إن مالك بن ذعر أنه لما ابتاعه قال له: من أنت؟ قال: أنا يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم، فقال: إنا لله وإنا اليه راجعون إنك إذا ابن ساداتنا، وقال له: ادع الله ييسر لي ولدا، فدعى الله يوسف (عليه السلام) فولدت له امرأته أربعة وعشرين رجلا في اثني عشر بطنا { ولنعلمه من تأويل الأحاديث } ، قيل: علم الغيب معجزة له، وقيل: عواقب الأمور، وقيل: تأويل الرؤيا { والله غالب على أمره } أي قادر لا يعجزه شيء على أمره أي تدابيره، وقيل: غالب على أمر يوسف (عليه السلام) يحفظه ويحوطه ويدبر أمره ولا يكله إلى أحد غيره { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ما الله صانع بيوسف وما يؤول اليه حاله { ولما بلغ أشده } ، قيل: منتهى شبابه، قيل: ثماني عشر إلى ثلاثين سنة إلى أربعين سنة.
[12.23-29]
{ وراودته التي هو في بيتها عن نفسه } وهي امرأة العزيز { وغلقت الأبواب } ، قيل: كانت سبعة أبواب، { وقالت هيت لك } أي هلم لك، وقيل: يعني تعال { قال معاذ الله } استجير به وأعتصم { إنه ربي } رفع محلي وأحسن إلي وجعلني نبيا فلا أعصيه، وقيل: أراد العزيز هو مالكي حين قال لامرأته أكرمي مثواه { ولقد همت به وهم بها } قال الحسن: همها أخبث الهم وأما همه فما قام عليه طبع الرجال من شهوة النساء، ولم يكن منه عزم على المعصية، وقيل: هم بضربها وجعل يدفعها عن نفسه، كما يقال: هممت بفلان أي بضربه وإيقاع مكروه منه، ومعنى { لولا أن رأى برهان ربه } أي لولا أن رأى برهان ربه لضربها ولو ضربها لأهلكه أهلها، وكانت تدعي عليه المراودة على القبيح وأنه ضربها لامتناعها، فأراه الله البرهان ليمتنع من الضرب، فأما البرهان الذي رآه فقد اختلف فيه على أقوال: أولها حجة الله تعالى في تحريم الزنا والعلم بما في الزنا من العقاب، وقيل: هو ما أتاه الله سبحانه من آداب أنبيائه في العفاف وصيانة النفس عن الأرجاس، وقيل: هي النبوة المانعة من ارتكاب الفواحش، وقيل: كان في البيت صنم فسترته بأن ألقت عليه ثوبا فقالت استحيي منه فقال يوسف: تستحي من الصنم وأنا أستحي من الواحد القهار، وقيل: رأى العزيز، وقيل: رأى جبريل (عليه السلام)، وقيل: رأى يعقوب، روى ذلك جار الله في الحاكم والله أعلم { إنه من عبادنا المخلصين } قرئ بفتح اللام وكسرها { واستبقا الباب } أي وتسابقا إلى الباب فأسرع يريد الباب وأسرعت وراءه لتمنعه الخروج فنظر يوسف وإذا الأبواب قد انفتحت فأدركته { وقدت قميصه من دبر } اجتذبته من خلفه فانقد أي انشق حين هرب منها { وألفيا سيدها لدا الباب } يعني وصادفها سيدها أي بعلها وهو قطفير تقول المرأة لبعلها سيدي { قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم } بالسياط ولما أعزت عليه وعرضته للسجن والعذاب وجب عليه الدفع عن نفسه { قال هي راودتني عن نفسي } ولولا ذلك لكتم عليها { وشهد شاهد من أهلها } ، قيل: كان ابن عم لها وكان حكيما يرجع اليه الملك ويستشيره، وقيل: كان ابن خال لها تكلم في المهد، فقال تعالى: { فلما رأى قميصه قد من دبر } يعني قطفير وعلم براءة يوسف (عليه السلام) وصدقه، قوله تعالى: { قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } الخطاب لها ولأمتها وإنما استعظم كيد النساء وإن كان في الرجال، إلا أن النساء ألطف كيدا وأنفذ حيلة { يوسف أعرض عن هذا } الأمر واكتمه ولا تحدث به { واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين } من جملة القوم المعتدين وكانوا يعبدون الله تعالى مع الأصنام.
[12.30-35]
{ وقال نسوة } جماعة من النساء وكن خمسا { امرأة العزيز } يريد قطفير والعزيز الملك بلسان العرب { تراود فتاها } غلامها { عن نفسه قد شغفها حبا } وصل إلى الفؤاد وهو حجاب القلب، وقيل: جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب { إنا لنراها في ضلال مبين } يعني في خطأ وبعد عن طريق الصواب { فلما سمعت } راعيل { بمكرهن } بقولهن { أرسلت إليهن } ، قيل: أرادت إبلاغ عذرها، وقيل: أرادت إيقاعهن فيما وقعت فيه، قال وهب: اتخذت مائدة ودعت أربعين امرأة منهن { وأعتدت } أي أعدت { لهن متكئا } أي مجلسا وما يتكأ عليه من النمارق والوسائد { وآتت كل واحدة منهن سكينا } لقطع الفواكه { وقالت اخرج عليهن } وكانت أجلسته غير مجلسهن فأمرته بالخروج إما للخدمة أو للسلام { فلما رأينه أكبرنه } أي عظمنه وكان (عليه السلام) كالقمر ليلة البدر { وقطعن أيديهن } بتلك السكاكين وهن يحسبن أنها الأترج والفواكه، وقيل: جرحن أيديهن، وقيل: ما أحسسن إلا بالدم { وقلن حاش لله } أي برأه الله سبحانه من كل سوء أن يكون هذا بشرا { إن هذا إلا ملك كريم } { قالت } يعني امرأة العزيز قالت: { فذلكن الذي لمتنني فيه } أي في حبي إياه ثم إنها أقرت على نفسها واعترفت ببراءة يوسف فقالت: { ولقد راودته عن نفسه } أي أردت منه الفاحشة { فاستعصم } أي امتنع بالله وسأله العصمة { ولئن لم يفعل ما آمره } أي إن لم يطعني فيما دعوته إليه { ليسجنن وليكونا من الصاغرين } وذلك إنهن زين له مطاوعتها، وقلن له: إياك وإلقاء نفسك في السجن والصغار فالتجأ إلى ربه { قال رب } نزول { السجن أحب إلي } من ركوب المعصية قال جار الله: فإن قلت نزول السجن مشقة على النفس شديدة وما دعته اليه لذة عظيمة فكيف كانت أحب إليه وأثر عنده، قلت: نظر إلى حسن الصبر في احتمالها لوجه الله وفي قبح المعصية { وإلا تصرف عني } أي تصرف عني بإلطافك وصنعك { كيدهن } أي حيلتهن وهو إظهار المحاسن والتزين بالزينة { أصب اليهن } أميل اليهن لأنهن راودنه وقلن له : أطع مولاتك { وأكن من الجاهلين } من الذين لا يعملون بما يعلمون { فاستجاب له ربه } يعني فعل له ما شاءه وأجابه { فصرف عنه كيدهن } حيلتهن { إنه هو السميع العليم } { ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات } أي عاينوا، قيل: أراد العلامات والمعنى بدا لهم أي أظهر لهم رأي { ليسجننه } وذلك أنها قالت لزوجها: إن هذا العبد فضحني ولا أقدر على الاعتذار فإما أن تحبسه، أو تأمرني بحبسه، أو تأذن لي بحبسه { حتى حين } أي إلى وقت، قيل: سبع سنين، وقيل: عشر.
[12.36-42]
قوله تعالى: { ودخل معه السجن فتيان } وفيه إضمار رأي دخل يوسف السجن ودخل معه فتيان { قال أحدهما إني أراني } يعني في المنام { أعصر خمرا } يعني عنبا { نبئنا بتأويله } أي أخبرنا تأويله وما يؤل اليه أمر هذه الرؤيا { إنا نراك من المحسنين } من الذين يحسنون عبارة الرؤيا، وروي أنه كان إذا مرض رجل منهم أدام عليه، وإذا ضاق أوسع عليه، وإذا احتاج جمع له، قوله تعالى: { قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله } وهو الاخبار بالغيب ويقول اليوم: { يأتيكما } طعام من صفته كيت وكيت فيجدونه كما أخبرهما، وجعل ذلك تخلصا الى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض لهما الايمان ويزينه ويقبح لهما الشرك بالله { ذلكما مما علمني ربي } يعني ذلك التأويل والاخبار بالغيب { مما علمني ربي } أوحى إلي { إني تركت } أي رغبت وليس المعنى أنه كان معطاه فتركه { واتبعت ملة آبائي ابراهيم واسحاق ويعقوب } الآية يعني { ذلك } التوحيد { من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } أي على الرسل وعلى المرسل إليهم لا ينهوهم عليه وأرشدوهم اليه ولكن أكثر الناس لا يشكرون هذه النعمة، قوله تعالى: { يا صاحبي السجن } سماهما بذلك لأنهما في السجن { أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } يعني عبادة واحد حي قادر أم عبادة أحجار وخشب لا تقدر ولا تحيي والقهار القادر الذي لا يمتنع عليه شيء { ما تعبدون من دونه } خطاب لهما ولمن كان على دينهما من أهل مصر { إلا أسماء سميتموها } يعني أنتم سميتم ما لم تستحق الإلهية آلهة، وتسميتكم الأوثان آلهة لا تصح وهذه التسمية صدرت منكم ومن آبائكم ولا حقيقة لها { ما أنزل الله بها من سلطان } أي حجة { إن الحكم إلا لله } أي الحكم على العباد في الأمر والنهي وقد أمركم { أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك } يعني التوحيد والعدل وعبادة الله لا غيره { الدين القيم } المستقيم { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } لجهلهم ثم عبر رؤياهما فقال: { يا صاحبي السجن اما أحدكما فيسقي ربه خمرا } ، قيل: للساقي تقف في السجن ثلاثة أيام ثم يخرجك الملك وتعود إلى ما كنت عليه، ومعنى ربه أي مالكه وسيده لأنه كان عبده، قوله تعالى: { وأما الآخر } وهو صاحب الطعام { فيصلب فتأكل الطير من رأسه } ، وقيل: الذي أخبره بالصلب قال: ما رأيت شيئا قال يوسف: { قضي الأمر } وروي أنهما قالا ما رأينا شيئا فقال يوسف (عليه السلام): { قضي الأمر الذي فيه تستفتيان } يعني فرغ من الأمر الذي تسألان وتطلبان معرفته، نزل بكما ما قلت، وقيل: وقع الأمر، وإنما قاله عن وحي { وقال للذي ظن أنه ناج منهما } الظان هو يوسف (عليه السلام)، وقيل: الظن يرجع الى الناجي، ومعنى ناج أي يتخلص من السجن { اذكرني عند ربك } أي اذكر صفتي عند الملك وقص عليه قصتي لعله يرحمني { فأنساه الشيطان ذكر ربه } يعني أنسى الشيطان يوسف ذكر الله في تلك الحال فاستغاث بالمخلوف، وقيل: أنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف عند الملك فلم يذكره { فلبث في السجن } أي مكث وبقي فيه { بضع سنين } ، قيل: اثني عشر سنة، وقيل: سبع سنين، وقيل: قبلها خمس وبعدها سبع سنين، وعن الحسن: أنه كان يبكي إذا قرأها ويقول: نحن إذا نزل بنا أمر فزعنا إلى الناس، ثم بين تعالى أنه لما قرب الفرج ليوسف (عليه السلام) رأى ملك مصر الريان بن الوليد رؤيا عجيبة هائلة.
[12.43-49]
قوله تعالى: { وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان } خرجن من نهر يابس وسبع بقرات { عجاف } فابتلعت العجاف السمان ورأى { سبع سنبلات خضر } قد انعقد حبها وسبعا { أخر يابسات } قد استحصدت فأدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فاستعبرها فلم يجد من قومه من يحسن عبارتها، وقوله تعالى: { يأيها الملأ } يعني الأشراف، وروي أنه جمع السحرة والكهنة فقصها عليهم فقالوا: ما حكى الله سبحانه عنهم { أضغاث أحلام } يعني أخلاط معناه أحلام مختلطة { وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين } أي لا نعلم عبارتها فكأن جهلهم بذلك سبب نجاة يوسف لأن الساقي يذكر حديث يوسف (عليه السلام) { وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة } أي ذكر حديث يوسف وحبسه، بعد أمة أي بعد حين { أنا أنبئكم بتأويله } أي بتفسيره وتعبيره وما يؤول اليه { فأرسلون } والمعنى فأرسلوه إلى يوسف (عليه السلام) فأتاه فقال: { يوسف أيها الصديق } البليغ في الصدق { أفتنا في سبع بقرات سمان } فإن الملك رأى هذه الرؤيا { لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون } فضلك، أو يعلمون تأويل رؤيا الملك، فأجابه يوسف (عليه السلام) معبرا فقال: { تزرعون سبع سنين دأبا } أي كعادتكم في الزراعة في سائر السنين، وقيل: زراعة متوالية في هذه السنين { فما حصدتم } قطعتم من الزرع { فذروه في سنبله } أي أتركوه في سنابله، وإنما أمر بذلك لأنه إبقاء له وأبعد من الفساد، قوله تعالى: { إلا قليلا مما تأكلون } أي تحتاجون إلى أكله فأخرجوه من السنبل، وليس هذا من الرؤيا في شيء وإنما ذكره نصيحة لهم { ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن } يعني سنين جديبة يأكلن ما قدموا لها وإنما أضاف الأكل إلى السنة لوقوع الأكل فيها كقول الشاعر:
نهارك يا مغرور سهو وغفلة
وليلك نوم والردا لك لازم
{ إلا قليلا مما تحصنون } أي تحرزون وتخبؤون فلا تأكلون، ثم أخبرهم يوسف (عليه السلام) بخبر لم يسألون عنه ولم يكن في رؤيا الملك وكله عن علم الغيب، فقال: { ثم يأتي من بعد ذلك عام } أي سنة { فيه يغاث الناس } وفيه يمطرون من الغيث وهو المطر، وقيل: ينقذون من العذاب { وفيه يعصرون } من الثمار التي تعصر في الخصب كالعنب والزبيب والسمسم والزيتون، فجعل تأويل البقرات السمان والسنبلات الخضر سنين مخصبات، والبقرات العجاف والسنبلات اليابسات سنين مجدبات، ثم بشرهم بعد فراغه من تأويل الرؤيا بأن العام الثامن يجيء مباركا خصيبا كثير الخير غزير النعم وذلك كله من جهة الوحي، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره حين سئل عن الرؤيا ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال: { ارجع إلى ربك } ولو كنت مكانه لأسرعت الإجابة ".
[12.50-55]
{ وقال الملك ائتوني به } ، قيل: معناه ولما رجع الساقي إلى الملك وأخبره بحديث يوسف (عليه السلام) وتعبيره الرؤيا { قال الملك ائتوني به } يعني بيوسف الذي عبر الرؤية { فلما جاءه الرسول } يعني رسول الملك جاء إلى يوسف (عليه السلام) فقال: أجب الملك فقال يوسف: { ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } أي ما شأنهن؟، وقيل: ما ذنبي في النسوة؟ قال ابن عباس: إن خرج يوسف (عليه السلام) من السجن يومئذ قبل أن يعلم الملك شأنه ما زالت نفس العزيز منه يقول هذا الذي راود امرأتي، وقيل: ما أحب أن يخرج حتى يعلم طهارته وعصمته وبراءته مما قذف فيه وأنه حبس ظلما { إن ربي بكيدهن عليم } { قال ما خطبكن إذ راودتن } وفي الكلام حذف تقديره لما سمع الملك ذلك دعاهن ودعا امرأة العزيز وقال: ما خطبكن؟ أي ما شأنكن وما أمركن؟ وأمر { يوسف عن نفسه قلن حاش لله } أي عياذا بالله وتنزيها من هذا الأمر وأن نقول عليه سوءا { ما علمنا عليه من سوء } فاعترفوا ببراءته وإنهن ظلمنه وحبس مظلوما { الآن حصحص الحق } أي تبين وظهر عن ابن عباس { أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين } في كلامه { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } أي لم أخنه في حال غيبته، أي ردي الرسول وامتناعي من الخروج ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب، وقيل: ليعلم الملك أني لم أخن العزيز، وقيل: ذلك الإقرار ليعلم يوسف اني لم أخنه بالغيب، وروي أن الملك قطفير أسلم والله أعلم { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين }. قوله تعالى: { وما أبرئ نفسي } ، قيل: هذا من كلام يوسف، قال الحسن: لما زكى نبي الله نفسه استدرك فقال: { وما أبرئ نفسي } ، وقيل: هو من كلام امرأة العزيز، ومعنى ذلك أي لا أمدح نفسي ولا أحكم لها بالبراءة، وقيل: ما أبرئ نفسي عن ذنب هممت به { إن النفس لأمارة بالسوء } إذا غلبت الشهوة، وقوله: النفس أراد الجنس، لأمارة بالسوء: أي بحب الشهوات وتدعو اليها وإن كانت قبيحة { إلا ما رحم ربي } أي رحمه فعصمه كالملائكة، وقيل: عصمه بألطافه فاعتصم، وقيل: هو من كلام يوسف (عليه السلام) بين أن إمتناعه منها كان بحول الله تعالى وقوته ولطفه، وقيل: من كلام امرأة العزيز، ويدل على توبتها، ولما تبين الملك أمانة يوسف وبراءته وعلمه أمر بإحضاره ليجعله من خلصائه، كما حكى الله تعالى بقوله: { وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي } أي أجعله خالصا لي في تدبيري ومهمات أمري { فلما كلمه } فيه حذف يعني فلما جاءه الرسول وخرج من السجن ودخل على الملك وكلمه الملك: { قال إنك اليوم لدينا مكين أمين } ، قيل: كان ليوسف يومئذ ثلاثين سنة، ثم قال: إني أحب أن أسمع رؤياي، فأعادها عليه فقال الملك: ومن يكفيني هذا الأمر؟ فقال يوسف: { اجعلني على خزائن الأرض } يعني أرض مصر { إني حفيظ عليم } بوجوه التدابير فيها وذلك أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) علم أنه إذا تولى الخزائن وتمكن منها آل الأمر إليه، فلهذا طلب ذلك، ففوض الملك أمر مصر اليه وعزل قطفير نفسه، وسلم سلطانه وخزائن أرضه إلى يوسف، ودخل بيته، وهلك العزيز في تلك الأيام، وتزوج يوسف امرأته، واستوى له ملك مصر فعدل فيما بينهم، وأحبه الرجال والنساء.
[12.56-67]
قوله تعالى: { وكذلك مكنا ليوسف } ثم بين تعالى أنه لما تمكن يوسف بمصر وأضار الناس الجوع وقصدوا مصر فنزل بآل يعقوب ما نزل بالناس، فأرسل يعقوب بنيه إلى مصر وهم عشرة لأنه أمسك عنده بنيامين { فعرفهم وهم له منكرون } ، قيل: أنكروه لطول ما يعهد لأن ما بين الوقت الذي فارقوه وبين وقت دخولهم عليه أربعين سنة، وقيل: إنه تزيا زينة الملك جالسا على السرير وفي عنقه طوق من ذهب، وقيل: كان بينه وبينهم سترا { ولما جهزهم بجهازهم } أي أصلحهم بعدتهم وهي عدة السفر من الزاد وما يحتاج إليه المسافرون { قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم } لا بد من مقدمة، روي أنه لما رآهم وكلمهم قال لهم: أخبروني من أنتم وما شأنكم؟ قالوا: نحن قوم من أهل الشام، أصابنا الجهد فجئنا نمتار، قال: لعلكم عيونا تنظرون عورات بلادي، قالوا: معاذ الله نحن أخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب، قال: كم أنتم. قالوا: كنا اثني عشر فهلك منا واحد، قال: فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون وأن الذي تقولون حق؟ قالوا: ما نعرف أحدا، قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة وأتوني باخيكم من أبيكم وهو يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم، فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف، فخلفوه عنده، وكان قد أحسن إنزالهم وضيافتهم، وقوله: { فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون } يعني داري ولا بلادي { قالوا سنراود عنه } الآية { وقال يوسف لفتيانه اجعلوا } أي عبيده وغلمانه اجعلوا { بضاعتهم } أي ثمن طعامهم وما كانوا جاؤوا به. { في رحالهم } وفي أوعيتهم { لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون } وروي أنها كانت بضاعتهم النعال والأدم، قيل: لم يرض الكريم أن يأخذ من أبيه وأخوته ثمنا، وقيل: علم أن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة فيرجعوا لأجلها، وقيل: معناه لعلهم يرجعون لعلهم يردونها { فلما رجعوا إلى أبيهم } وفيه إضمار تقديره لما رجعوا من مصر إلى يعقوب { قالوا يا أبانا منع منا الكيل } يعني لما رجعوا إلى يعقوب، قالوا: قدمنا على خير رجل أكرمنا كرامة لو كان من ذلك يعقوب ما أكرمنا مثله، ثم قال: أين شمعون؟ قالوا: ارتهنه ملك مصر، وأخبروه بالقصة فقال: ولم أخبرتموه؟ قالوا: قال: إنكم جواسيس، وقصوا القصة، وقالوا: يا أبانا منع منا الكيل إن لم نأت بأخينا لقوله: { فلا كيل لكم عندي ولا تقربون } { فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون } { قال هل آمنكم عليه } الآية يعني حفظ الله بنيامين خير من حفظكم { ولما فتحوا متاعهم } يعني ما حملوه من مصر، وقيل: أوعية الطعام { وجدوا بضاعتهم ردت اليهم قالوا يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا } يعني أي شيء نطلب وراء هذا أوفى لنا الكيل ورد علينا الثمن وأرادوا أن تطيب نفس يعقوب فيبعث بابنه معهم، وقوله: { ونمير أهلنا } أي نطلب الميرة { ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير } أي نزداد مع أحمالنا حمل بعير لأجله { ذلك كيل يسير } اي ذلك مكيل قليل لا يكفينا، يعني ما يكال لهم فأرادوا أن يزدادوا إليه ما يكال لأخيهم، وقيل: ذلك كيل يسير أي ذلك الكيل شيء يسير عند الملك، سهل عليه لا يتعاظمه، وقيل: هو من كلام يعقوب وإن حمل بعير واحد شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد، ولما رأى يعقوب (عليه السلام) رد البضاعة وتحقق إكرام الملك لهم عزم على إرسال ابنه معهم { قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله } أي تعطون ما أثق به من يمين أو غيرها من الله، أي بإشهاد الله تعالى والقسم بالله وعهده، وقيل: تحلفون لي بخاتم النبيين وسيد المرسلين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { لتأتنني به إلا أن يحاط بكم } أي إلا أن تهلكوا جميعا { فلما آتوه موثقهم } أعطوه عهدهم ويمينهم { قال الله على ما نقول وكيل } أي شاهد وحافظ بالوفاء وكيل كفيل، وقيل: لما قال يعقوب { فالله خير حافظا } { والله على ما نقول وكيل } قال الله تعالى: وعزتي وجلالي لأردن عليك كلاهما بعد ما توكلت علي { وقال يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } ولما عزم يعقوب (عليه السلام) على إرسال ابنه معهم أوصاهم كيف يدخلون مصر، فقال سبحانه حاكيا عنه: { يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة } ، قيل: خاف عليهم العين لأنهم كانوا ذا جمال وهيئة وكمال وهم أخوة ولد رجل واحد، وقيل: خاف عليهم حسد الناس وأن يبلغ الملك قوتهم وبطشهم، فيحبسهم عنده أو يقتلهم خوفا على ملكه { وما أغني عنكم من الله من شيء } يعني ان ما يريد الله بكم لا ينفع فيه الاحتياط، ومنه قيل: إذا جاء القدر لم ينفع الحذر { إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون } أي فوضت أمري إليه وكذلك يفعل من توكل عليه.
[12.68-75]
{ ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم } ، قيل: كان في مصر أربعة أبواب فدخلوها من أبوابها منفردين { ما كان يغني عنهم من الله من شيء } أي لم يغن عنهم ذلك الاحتياط شيئا إذا أراد الله ابتلاهم بشيء { إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها } كأن يراه صوابا، قيل: ما كان يخاف عليهم من العين والحسد، وقيل: أراد أن يدفع الله تعالى عن ولده ويردهم عليه، ثم بين تعالى دخولهم مصر وكيف جرى الأمر فقال تعالى: { ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه } بنيامين وضمه اليه، وروي أنهم قالوا هذا أخونا قد جئناك به، فقال: أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي ثم أكرمهم وأضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه، فقال يوسف (عليه السلام): بقي أخوكم وحيدا فأجلسه معه على مائدة وبات معه، فبات يوسف (عليه السلام) يضمه اليه، فقال يوسف: أتحب أن أكون بدلا من أخيك؟ فقال: من يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب، فقال له: { إني أنا أخوك } يوسف { فلا تبتئس } أي لا تحزن { بما كانوا يعملون } وروي أن بنيامين قال له: فإني لا أفارقك، قال: قد علمت اغتمام والدي، فإذا حبستك ازداد غمه ولا سبيل لي إلى ذلك من، أي المصلحة في حبس أخيه، فجعل السقاية في رحل أخيه، وقوله: { فلما جهزهم بجهازهم } قضى حاجتهم وجعل لكل واحد حمل بعير { جعل السقاية } ، قيل: هي المشربة التي كان يشرب بها الملك، وقيل: كأسا من ذهب، وقيل: كان يسقي بها الملك فلما جاء القحط جعلها يوسف مكيالا { في رحل أخيه } التي يحمل فيها الطعام، ثم ارتحلوا فانطلقوا فأدركوا فحبسوا { ثم أذن مؤذن } أي نادى مناد { أيتها العير } القافلة { إنكم لسارقون } ومتى قيل: لم جاز النداء بالكذب؟ قالوا فيه: أن يوسف لم يأمرهم بذلك ولم يعلمهم وإنما أمر بجعل السقاية في رحل أخيه، فلما فقدها المتوكلون اتهموهم بسرقها فنادوهم بذلك، وقيل: عنوا به أنكم لسارقون يوسف على أبيه، قال أبو علي: أعلم أخاه أنه يحتال لاحتباسه عنده { قالوا وأقبلوا عليهم } لما سمعوا النداء أقبلوا على المنادي أي عطفوا عليه بوجوههم وقالوا: { ماذا تفقدون } أي ما الذي ضل عليكم { قالوا نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم } أي كفيل، بقوله المنادي وكان زعيم القوم { قالوا } يعني أخوة يوسف (عليه السلام) { تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض } روي أنهم لما دخلوا مصر سدوا أفواه دوابهم كيلا تتناول حرث الناس، وكانوا لا يظلمون أحدا، ولا يطأون زرعا، ومتى قيل: لم نودوا بالسرقة ولم يسرقوا؟ فالجواب ما تقدم، وقيل: كان ذلك في علم يوسف أنهم يسرقونه من أمه { وما كنا سارقين } أي ما كنا نوصف قط بالسرقة { قالوا فما جزاؤه } ، قيل: السارق، وقيل: جزاء السارق { إن كنتم كاذبين } في قولكم ما كنا سارقين { قالوا جزاؤه من وجد في رحله } أي جزاء سرقته أخذ من وجد في رحله وكان حكم السارق في أولاد يعقوب أن يسترق سنة، وقوله: { فهو جزاؤه } تقدير الحكم فأخذ السارق نفسه هو جزاؤه لا غير.
[12.76-79]
{ فبدأ بأوعيتهم } ، قيل: قال لهم: من وكل بهم لا بد من تفتيش أوعيتكم فانصرف بهم إلى يوسف فبدأ يفتش أوعيتهم { قبل وعاء أخيه } بنيامين ليتقي التهمة حتى بلغ أخاه فقال: ما أظن هذا أخذ شيئا فقالوا: والله لا تتركه حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك ونفوسنا واستخرجه، وقيل: كان ذلك القول من المؤذن لا من يوسف { كذلك كدنا ليوسف } أي مثل ذلك الكيد العظيم كدنا ليوسف، يعني علمناه إياه وأوحينا به اليه { ما كان ليأخذ أخاه } بنيامين { في دين الملك } ويضمه الى يوسف في دين الملك يعني في حكمه وقضائه ولم يكن ذلك في حكم الملك لكن جزاء السارق في حكم يعقوب (عليه السلام) أن يستعبد لأنه كان عادلا ولولا هذه الحيلة لما مكنه من أخذ أخيه { إلا أن يشاء الله } أي ما كان ليأخذه إلا بمشيئة الله وإذنه { نرفع درجات من نشاء } كما رفعنا درجة يوسف { وفوق كل ذي علم عليم } فوقه أرفع درجة منه في علمه، أو فوق العلماء كلهم، عليم هم دونه في العلم وهو الله عز وجل { قالوا ان يسرق فقد سرق أخ له من قبل } لما خرج الصاع في رحل بنيامين قال إخوته: ماذا صنعت؟ فضحتنا، قال: لا علم لي بذلك الصاع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم؟ فقالوا ليوسف: ان يسرق فقد سرق أخ له من قبل، واختلفوا في السرقة التي وصفوا بها يوسف، قيل: سرق صنما لجده من قبل أمه فكسره وألقاه على الطريق، وقيل: كان يسرق الطعام من المائدة ويعطيه المساكين، وقيل: غير ذلك { فأسرها يوسف في نفسه } ، قيل: أسر يوسف (عليه السلام) كلامهم في نفسه { ولم يبدها لهم } ، وقيل: انتظر فيه الوحي { وقال أنتم شر مكانا والله أعلم بما تصفون } يعني بما تقولون { قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا } الآية { قال معاذ الله } أي أعوذ بالله أن نفعل ذلك { أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده انا إذا لظالمون }.
[12.80-86]
{ فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا } يعني أخوة يوسف أيسوا من بنيامين أن يرد إليهم، خلصوا اعتزلوا وانفردوا عن الناس، نجيا أي يناجي بعضهم بعضا، وقيل: يتناجون في محاربته فلم يتفقوا على ذلك، وقيل: يتناجون بالرجوع إلى أبيهم فلم يتفقوا حياء من أبيهم { قال كبيرهم } وهو روبيل، وقيل: شمعون وكان رئيسهم وأكثرهم في الفضل، وقيل: يهوذا { ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا } أي يمينا { فلن أبرح الأرض } أي لن أزال بهذه الأرض، قيل: هي أرض مصر { حتى يأذن لي أبي } بالانصراف اليه { أو يحكم الله لي } بالخروج منها أو بالانتصاف منها أو بالانتصاف ممن أخذ أخي، أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب { وهو خير الحاكمين } لأنه لا يحكم إلا بالحق والعدل { ارجعوا إلى أبيكم } فصرفهم مع العير، وأقام هو لأنه عهد أن لا يرجع { فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق } يعني فقولوا أخرج الصاع من رحله، وقولوا: إنه سرق على ظاهر الحال { وما شهدنا إلا بما علمنا } أي ما نشهد عليه لكن نخبرك بما جرى، وقيل: ما قلنا أنه سرق إلا بما علمنا من وجود الصاع في رحله { وما كنا للغيب حافظين } في الأمر الخفي { واسأل القرية التي كنا فيها } وهي مصر أي أرسل إلى أهل القرية مصر واسألهم عن القصة { والعير التي أقبلنا فيها } وأصحاب العير وكانوا قوما من كنعان، وقيل: جيران يعقوب، وقيل: من صنعاء { قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا } وفي الكلام حذف دل عليه الكلام ما بقي تقديره فلما رجعوا إلى أبيهم وقصوا عليه القصة قال مجيبا لهم: بل سولت لكم أنفسكم، يعني أردتم وهممتم به، وقيل: أعطيتكم أنفسكم سولها { فصبر جميل } أي شأني صبر جميل لا جزع معه { عسى الله أن يأتيني بهم جميعا } ، وقيل: أوحى الله اليه بذلك، وقوله: عسى واجب لأنه علم أن حديث السرقة باطل ولكن لم يعلموا أن الله { هو العليم } بأحوال خلقه { الحكيم } في تدابيرهم { وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف } والأسف أشد الحزن { وابيضت عيناه من الحزن } والبكاء قيل: عمي، وقيل: كان لا يبصر إلا شيئا قليلا { فهو كظيم } مملوء من الهم والحزن وكان البياض الذي حدث في عين يعقوب من الحزن، روي ما جفت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى وقت لقائه ثمانين سنة، وما على وجه الأرض أكرم على الله تعالى من يعقوب { قالوا تالله تفتؤ تذكر يوسف } أي لا تزال تذكر يوسف { حتى تكون حرضا } الحرض المشرف على الهلاك وهو فساد الجسم والعقل { أو تكون من الهالكين } أي المبتلين، ومتى قيل: ما معنى قولهم هذا لأبيهم؟ قالوا: ليكف من البكاء إشفاقا عليه فأجابهم يعقوب { قال إنما أشكو } أي أظهر شكواي { بثي } أي همي عن ابن عباس، وقيل: حاجتي { وحزني إلى الله } تعالى { وأعلم من الله ما لا تعلمون } أي أعلم من إحسان الله ما لا تعلمون، وقيل أعلم أن رؤياه صادقة.
[12.87-93]
{ يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه } أي استخبروا من شأنهما واطلبوا خبرهما، وقيل: توهم أن الذي احتال بهذه الحيلة يوسف وقال: انظروا من حبس ابني؟ وعلى أي ذنب؟ وكيف وقع بمصر؟ وتعرفوا خبر بنيامين { ولا تيأسوا من روح الله } أي لا تقنطوا من رحمة الله تعالى، وقيل: من فرج الله تعالى { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } يعني أنه من أيس من رحمة الله فقد أساء ظنه بربه فيكفر { فلما دخلوا عليه } وفيه حذف أي فخرجوا إلى مصر فلما ادخلوا عليه { قالوا يا أيها العزيز } أي الملك { مسنا وأهلنا الضر } أي أصابنا وقومنا الضر قيل: هو الشدة والقحط والجوع، وقيل: شكوا ما نالهم من هلاك مواشيهم والبلاء الذي أصابهم { وجئنا ببضاعة مزجاة } ، قيل: ردية لا تؤخذ إلا بوكس، وقيل: قليلة، وقيل: كانت دراهم ردية لا تنفق في ثمن الطعام، وقيل: الاقط، وقيل: الصوف والسمن، وقيل: النعال والأدم { فأوف لنا الكيل } أي أعطنا ما كنت تعطينا بالثمن الجيد { وتصدق علينا } ، قيل: تفضل ما بين الثمن والأدنى ولا تنقصنا من السعر، وقيل: هذا لا يحل لأحد من الأنبياء، وقيل: سألوا الصدقة وهم أنبياء وكانت حلالا لهم { إن الله يجزي المتصدقين } يثيبهم ولو لم يقولوا أن الله يجزيك لأنهم لا يعلموا دينه { قال } يوسف { هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون } ، قيل: رأى المصلحة في ذلك إما بأمر الله تعالى أو بزوال الموانع، وقيل: إنما قال ذلك حين قرأ كتاب يعقوب، وقيل فيه: " من يعقوب اسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر، أما بعد، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء، ألقي جدي في النار فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وأما أبي فشدت يداه ورجلاه ووضع السكين على قفاه ففداه الله بذبح عظيم، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب عني، وكان له أخ أتسلى به، فإن رددت علي ولدي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك " فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك من البكاء فقال: { هل علمتم } الآية { قالوا أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف } الآية قيل: لما رفع يوسف (عليه السلام) الحجاب، وقيل: وضع التاج عن رأسه { قالوا } يعني أخوة يوسف { تالله } قسم { لقد آثرك الله علينا } أي فضلك واختارك بالعلم والحلم والحكم والملك { وإن كنا لخاطئين } مذنبين { قال لا تثريب عليكم اليوم } أي لا تأنيب ولا عتب { اذهبوا بقميصي هذا } ، قيل: هو من الجنة، وقيل: كان ذلك قميص ابراهيم صار إلى يعقوب، ثم إلى يوسف، وكان من الجنة أمره جبريل أن يرسله اليه فإن فيه ريحا لا تقع على مبتلى ولا سقيم إلا عوفي، وقيل: يهوذا هو الذي حمل القميص وسار حافيا، وروي أنه خرج ومعه سبعة أرغفة وكان المسافة ثمانين فرسخا.
[12.94-100]
{ ولما فصلت العير } أي خرجت القافلة من مصر متوجهة إلى كنعان { قال } يعقوب لأولاد أولاده كانوا بمصر: { إني لأجد ريح يوسف } ، قيل: هذا الريح المعروف بعينه وهو حركة الجو عند أكثر المفسرين، قيل: جاءت الريح من الجنة { لولا أن تفندون } ، قيل: تكذبون، وقيل: تضعفون، وقيل: تقولون شيخ قد خرف { قالوا تالله } قسم منهم { إنك لفي ضلالك القديم } أي في خطائك القديم غلظوا له القول بهذه إشفاقا عليه وكان عندهم أنه قد مات وهذا الكلام من أسباط يعقوب فإن أولاده في الطريق { فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه } يعني ألقى قميص يوسف على وجه يعقوب { فارتد بصيرا } بعدما كان أعمى، وقيل: قال يعقوب للبشير: كيف خلفت يوسف؟ قال: هو ملك مصر، قال: ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام، قال: الآن تمت النعمة، وروي أنه كان بين مصر وكنعان شهر { قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا } أي سل الله لنا المغفرة عما لحقك من جهتنا من الحزن { إنا كنا خاطئين } مذنبين { قال } يعقوب (عليه السلام) { سوف استغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم } ، قيل: أخرهم إلى ليلة الجمعة، وقيل: إلى وقت السحر لأنه أقرب الإجابة للدعاء، وقيل: أراد الدوام، فقد روي أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة، ثم بين تعالى التقاء يوسف مع أبيه وأخوته فقال تعالى: { فلما دخلوا على يوسف } وفيه حذف تقديره فلما خرج يعقوب من أرضه ودخل مصر { آوى اليه أبويه } قيل: أباه وأمه وقيل: أباه وخالته، وقيل: ان يوسف وجه إلى أبيه جهازا ومئتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه، وخرج يوسف في أربعة آلاف من الخيل وأهل مصر بأجمعهم فلقوا يعقوب (عليه السلام) وهو يمشي ويتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال ليهوذا: هذا فرعون مصر؟ لا هذا ولدك، فلما لقيه قال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان، وروي أن يوسف (عليه السلام) قال لأبيه حين لقيه: يا أبت بكيت علي حتى ذهب بصرك ألم تعلم أن القيامة تجمعنا؟ قال يعقوب: لم أبك على ذلك ولكن خشيت أن يسلب دينك فيحال بيني وبينك، وقيل: ان يعقوب وولده دخلوا مصر وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة، وخرجوا منها مع موسى ستمائة ألف وخمس مائة وبضع وسبعون رجلا سوى الذرية { آوى اليه أبويه } ضمهما إليه وعانقهما { وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين } أنزل أبويه وأخوته معه { وقال ادخلوا مصر } الآية، فإن قيل: ما وجه الاستثناء وقد حصل الدخول؟ قالوا: تلقاهم يوسف خارج مصر ودخل منزلا فلما دخلوا إليه ضمهم إلى نفسه { وقال ادخلوا مصر } الآية، والاستثناء على الإقامة فعلى هذا هو متصلا بالدخول، وقيل: متصل بالإقامة { ورفع أبويه على العرش } يعني على السرير وهو سرير الملك { وخروا له سجدا } ، قيل: سجود التحية لا سجود العبادة وكانت جائزة، وقيل: عظموه بالسجود والمعبود هو الله تعالى، وقيل: المراد بالسجود الخضوع والتواضع، وقيل: سجدوا لله شكرا لأمر يوسف ولقائه { وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا } كان بين الرؤيا وبين تأويلها أربعين سنة، وقيل: ثمانين سنة { وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو } وكانوا من بوادي الشام وأصحاب مواشي { من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي } قيل: نزغ الشيطان إفساده، وقيل: هو الاعراء.
[12.101-111]
قوله تعالى: { وعلمتني من تأويل الأحاديث } ، قيل: هو تأويل الرؤيا، وقيل: علم الدين { فاطر السماوات والأرض } أي خالقهما { أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين } قيل: توفي بمصر ودفن في النيل في صندوق، وذهب جماعة إلى أنه تمنى الموت، وقيل: معناه توفني حين وفاتي فأعاد تعالى الكلام بعد تمام القصة إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: { ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك وما كنت لديهم } يعني ما كنت عندهم يا محمد { إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون } بيوسف حين ألقوه في غيابات الجب، قوله تعالى: { وما تسألهم عليه من أجر } يعني على تبليغ الرسالة وبيان الشريعة جزاء { إن هو إلا ذكر للعالمين } { وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها } ، قيل: أراد الشمس والقمر والنجوم والسحاب والمطر وما في الأرض من أنواع النبات والأشجار والفواكه، وقيل: آثار المتقدمين وأحوال الناس يمرون عليها { وهم عنها معرضون } يعني لا يتفكرون { وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون } نزلت في المشركين والمراد أنهم يؤمنون بالله ويصدقون به وهم مشركون الأوثان بالعبادة { أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله } ، قيل: عذاب يغشاهم وهو عذاب الاستئصال، وقيل: أراد القيامة، وقيل: الصواعق والقوارع { أو تأتيهم الساعة } يعني القيامة { بغتة } فجأة قبل أن يعلموا ويتوبوا { وهم لا يشعرون } لا يعلمون قيامها { قل هذه سبيلي } هذه السبيل التي هي الدعوة إلى الايمان والتوحيد { أدعو إلى الله على بصيرة } أدعو إلى دينه مع حجة واضحة غير عمياء، وتقديره قل يا محمد هذه طريقي، وقيل: سنتي، أدعو إلى الله إلى توحيده وعدله ودينه، على بصيرة أي يقين ومعرفة { أنا ومن اتبعني } أي من آمن بي وصدقني، وقيل: معناه أنا ومن اتبعني على بصيرة { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم } لأنهم كانوا يقولون لو شاء ربنا لأنزل ملائكة وقوله: { من أهل القرى } لأنهم أعلم وأعمل وأهل البوادي يا محمد فيهم الجهل والجفاء والقسوة، روي أنه ما بعث الله نبيا من بادية ولا من النساء ولا من الجن { أفلم يسيروا في الأرض } هؤلاء المتكبرون المكذبون بنبوتك { فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } من الأمم المكذبين لرسلهم كيف أهلكناهم كذلك نهلك هؤلاء { ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون } يعني الجنة وما فيها { حتى إذا استيأس الرسل } ، قيل: أيسوا من إيمان قومهم، وقيل: أيسوا من تعجيل العذاب وطول الامهال { وظنوا أنهم قد كذبوا } من قرأ بالتشديد فمعناه أيقنوا أن القوم قد كذبوهم، ومن قرأ بالتخفيف فله وجهان أحدهما أن الضمير يعود إلى المرسل اليهم أي وظن القوم أن الرسل قد كذبوهم، والثاني يعود الضمير إلى الرسل أي وظن الرسل أن قومهم كذبوهم فيما وعدوهم من الإجابة إلى الإيمان، وقيل: ظن القوم أن الرسل قد كذبوا أي أخلفوا ما وعدوا به من النصر { جاءهم } يعني الرسل { نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا } أي عذابنا { عن القوم المجرمين } المشركين { لقد كان في قصصهم } قيل: الأنبياء والأمم { عبرة } لما جرى من نصرهم وإهلاك عدوهم، وقيل: في قصة يوسف وأخوته عبرة أي موعظة، وقرئ في قصصهم بكسر القاف { لأولي الألباب } أي لذوي العقول { ما كان حديثا يفترى } يعني القرآن حديثا يختلق كذبا { ولكن تصديق الذي بين يديه } من الكتب كالتوراة والانجيل { وتفصيل كل شيء } يحتاج إليه في الدين من الحلال والحرام والمواعظ والأمثال والحكم، وعم كل شيء للمبالغة.
[13 - سورة الرعد]
[13.1-4]
{ المر } قد تقدم الكلام فيه، وقيل: أنا الله أعلم وأرى { تلك آيات الكتاب } تلك إشارة إلى آيات السورة، والمراد بالكتاب السورة أي تلك الآيات آيات السورة الكاملة العجيبة، والكتاب القرآن، وقيل: التوراة، وقيل: الإنجيل، وقيل: اللوح المحفوظ { والذي أنزل إليك من ربك } من القرآن كله هو { الحق } الذي لا مزيد عليه لا هذه السورة { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } { الله الذي رفع السماوات بغير عمد } وأنتم { ترونها } وعمد جامع عماد، وقيل: جمع عمود، فإن العرب تقول عماد البيت وعمود والجمع عمد بفتحتين، وقوله: { ترونها } الهاء تعود إلى السماء والتاء متعلق بالرفع ويجوز أن تتعلق بالرؤية أي ترونها بالعيان فلا حاجة إلى البيان، وقيل: إنها تعود إلى العمد وفيه وجهان أحدهما لها عمد غير مرئية وهو قدرة الله سبحانه وتعالى، والثاني هو جبل قاف والسماوات مقبية عليه وأن خضرة السماء من ذلك { ثم استوى على العرش } ، قيل: استوى بالقهر { وسخر الشمس والقمر } ذللهما لمنافع خلقه ومصالح عباده { كل يجري لأجل مسمى } يعني أنهما يجريان إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا إذا قامت القيامة ووقفت الشمس والقمر وخسفا { يدبر الأمر } يعني يدبر أمر الدنيا والآخرة، وقيل: يدبر جميع ما يفعله { يفصل الآيات } يبين الدلائل بما يحدثه في السموات والأرض من أنواع النبات والأقوات والاحياء والإماتة { وهو الذي مد الأرض } أي بسطها طولا وعرضا لتصير قرارا تتصرف فيها الحيوانات، وقيل: بسطها على الماء عن ابن عباس، وقيل: كانت الأرض مدورة فدحاها من مكة من تحت البيت { وجعل فيها رواسي } أي خلق في الأرض جبالا ثوابت وتدها كيلا تميل وفيها من المنافع العظيمة والمياه والمعادن وغير ذلك ولو كانت مستوية لم تحصل تلك المنافع { وأنهارا } من الماء لشربهم وطهارتهم { ومن كل الثمرات } نفعا للحيوانات طعاما وفاكهة { جعل فيها زوجين اثنين } يعني صفين حلو وحامض { يغشي الليل النهار } يعني يدخل الليل في النهار والنهار في الليل { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } في مخلوقات الله تعالى { وفي الأرض قطع متجاورات } فبين تعالى أن الأرض مع تقاربها وتجاورها مختلفة متباينة، والمتجاورات قيل: متقاربة مختلفة بعضها ينبت عذب ينبت وبعضها سبحة لا تنبت عن ابن عباس: وقيل: بعضها عامر وبعضها خراب، وقيل: مرتفعة ومنخفضة { وجنات } بساتين { من أعناب وزرع ونخيل صنوان } أي نخلات أصلها واحد { وغير صنوان } أي متفرقات أو مجتمع وغير مجتمع وهي النخلة لها رأسان وأصلها واحد { ونفضل بعضها على بعض في الأكل } ، قيل: بعضها حلو وبعضها حامض وجيد وفاسد.
[13.5-7]
قوله تعالى: { وإن تعجب } يا محمد أو أيها السامع من قول هؤلاء الكفار في إنكار البعث فقولهم عجب عندك { أئذا كنا ترابا أءنا لفي خلق جديد } { وأولئك الأغلال في أعناقهم } والأغلال جمع غل وهو القيد يجمع اليمين والعنق وذلك يكون يوم القيامة { ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة } بالنقمة قبل العافية والإحسان إليهم الإمهال وقد سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتيهم العذاب استهزاء منهم، وقيل: بالشر قبل الخير، وقيل: بالكفر قبل الإجابة { وقد خلت من قبلهم المثلات } يعني عقوبات المكذبين من قبلهم فما لهم لم يعتبروا بها فلا يستهزئوا { وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } يريد بالمغفرة الستر والامهال، وقيل: إذا تابوا، وقيل: تأخير الجزاء إلى يوم القيامة { وإن ربك لشديد العقاب } لمن أصر { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } لم يعتبروا بالآيات المنزلة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاقترحوا نحو آيات موسى وعيسى (عليهما السلام) فقيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { إنما أنت منذر } يعني رجل أرسل منذرا مخوفا لهم من سوء العاقبة وناصحا لهم كغيرك من الرسل { ولكل قوم هاد } قيل: تقديره إنما أنت يا محمد منذر وهاد لكل قوم، وقيل: لكل قوم هاد من الأنبياء يهديهم إلى الدين ويدعوهم إليه، وروي في الحاكم أيضا أن المنذر والهادي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: قال الهادي هو الله تعالى والمنذر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: المنذر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والهادي علي (عليه السلام) وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وضع يده على منكب علي (عليه السلام) ثم قال:
" أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي "
وروي ذلك أيضا في الحاكم والغرائب.
[13.8-13]
{ الله يعلم ما تحمل كل أنثى } يعني ذكر أو أنثى واحد أو أكثر يتم أو لا يتم { وما تغيض الأرحام وما تزداد } ما ينقص عن مدة الحمل وهي تسعة أشهر { وما تزداد } على تسعة أشهر من السنة والسنتين، وقيل: ما تغيض عن الواحد من الأخداج والاسقاه، وما تزداد على الواحد والاثنين، وقد يشتمل على واحد، وقد يشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة، وروي أن شريكا كان رابع أربعة في بطن أمه، وعن الشافعي قد يكون إلى أربع سنين وإلى خمس عند مالك { وكل شيء عنده بمقدار } من الأرزاق والآجال، وقيل: هو عام في كل شيء { عالم الغيب } أي السر { والشهادة } ما ظهر { الكبير } الشأن فكل دونه { المتعال } المستعلي على كل شيء بقدرته. { سواء منكم من أسر القول } كتم وأخفى { ومن جهر به } أي أظهر { ومن هو مستخف بالليل } أي مستتر بالظلمات { له معقبات من بين يديه ومن خلفه } الآية نزلت في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أتى عامر بن الطفيل وأربد بن قيس هما بقتله فكفاهما الله تعالى فهلك أربد بالصاعقة وعامر، وقيل: هو عام يعني جماعات من الملائكة يعتقب في حفظه بأمر الله تعالى، وهي قراءة علي وابن عباس لأن بعضهم يعقب بعضا أو لأنهم يعقبون ما يتكلم به فيكتبونه { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } من العافية والنعمة والحالة الجميلة بكثرة المعاصي، وقيل: حتى يغيروا ما بأنفسهم من الطاعة فيجعلونها معصية { وإذا أراد الله بقوم سوءا } أي عذابا { فلا مرد له } أي لا يرده أحد { وما لهم من دونه من وال } ، قيل: ملجأ، وقيل: ما يلي أمرهم ويمنع عنهم العذاب { هو الذي يريكم البرق } وهو النار التي خلقها الله في السحاب، وعن ابن عباس أن اليهود سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الرعد ما هو؟ فقال:
" ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب "
وعن الحسن خلق من خلق الله تعالى ليس بملك، وقيل: الرعد هو صوت ذلك الملك { خوفا } من الصواعق { وطمعا } في الغيث، وقيل: خوفا للمسافر وطمعا للمقيم { ويسبح الرعد بحمده } ، قيل: الرعد هو الصوت المسموع من ناحية السحاب، وقيل: الرعد اسم الملك وكذلك البرق { والملائكة من خيفته } أي من خيفة الله سبحانه يعني ينزهون الله تعالى ويحمدونه خوفا من عقابه { ويرسل الصواعق } أي ينزلها من السماء وهي النار الساقطة { فيصيب بها من يشاء } أي يهلك { وهم يجادلون في الله } أي يحاجون أهل التوحيد، وقيل: كان جدالهم قولهم أنه ذهب أو فضة، وقيل: جدالهم قولهم في القرآن والرسول سحر { وهو شديد المحال } أي شديد القوة، وقيل: الأخذ والانتقام.
[13.14-18]
{ له دعوة الحق } وهي كلمة الاخلاص شهادة أن لا إله إلا الله { والذين يدعون من دونه } أي تعبدون من دون الله لأنكم دعوتم الأوثان أربابا { لا يستجيبون لهم بشيء } أي لا يجيبكم بشيء مما تدعون { إلا كباسط كفيه إلى الماء } استثناء من الإجابة، يعني الاستجابة كإجابة باسط كفيه إلى الماء يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه ولا حاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم، وقيل: كعطشان على سقاية ولا دلو معه يمد يده إلى البئر فلا يبلغ الماء ولا يرتفع الماء اليه، كذلك الأوثان لا يجيبونهم ولا ينفعونهم عن أمير المؤمنين (عليه السلام) { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } أي هلاك { ولله يسجد } أي ينقاد لإحداث ما أراد من أفعاله شاؤوا أم أبوا { من في السماوات والأرض } لا يقدرون أن يمتنعوا عليه، وتنقاد له أيضا { ظلالهم } حيث يتصرف على مشيئته في الامتداد، وقيل: سجود الملائكة والمؤمنين { طوعا وكرها } من أكره على الايمان، وقيل: هم المنافقون والكافرون، وقيل: المراد بالسجود قهر الله الأشياء لما أراد، وإن لم يسجدوا سجود عبادة، وقد قيل: كل شيء من كل جنس يسجد لله، وقيل: سجوده دلالة على الوحدانية وظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره وظل المؤمن يسجد طوعا وهو مطيع روي ذلك في الغرائب { بالغدو والآصال } قيل: بالغدوة والعشي وهو بين العصر والمغرب { قل } يا محمد لهؤلاء الكفار { من رب السماوات والأرض } يعني خالقهما ومدبرهما فلا يمكنهم أن يقولوا الأصنام فقل أنت هو الله { قل أفاتخذتم من دونه أولياء } ، قيل: أربابا { لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا } فكيف ينتفع غيرها { قل هل يستوي الأعمى والبصير } كذلك لا يستوي المؤمن والكافر { أم هل تستوي الظلمات والنور } أي لا تستوي ظلمات الجهل ونور العلم والهدى { أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم } يعني هذه الأصنام قد خلقوا مثل خلق الله فتشابه عليهم خلق الله وخلقهم فدل على أنه المستحق للعبادة دونها لأنهم لم يخلقوا شيئا، قوله تعالى: { أنزل من السماء } ثم ضرب سبحانه مثلين: الحق والباطل، أحدهما الماء وما يعلوه من الزبد، والثاني ما يوعد عليه في النار من الذهب والفضة وما يعلوه من الزبد، فقال سبحانه: أنزل من السماء وهو يعود إلى ما قبله من السماء يعني من السحاب، وقيل: من جانب السماء، وقيل: من سماء الملائكة { ماء } مطرا { فسالت أودية } جمع واد وهو الموضع الذي يسيل فيه الماء بكثرة فسالت أي جرت بمعنى جرى الماء في الأودية { بقدرها } يعني بقدر الأودية في الكبر والصغر { فاحتمل السيل } يعني الماء الذي سال في الوادي { زبدا } وهو الخشب الذي يعلوه { رابيا } أي عاليا عليه مرتفعا فوق الماء فشبه الحق والاسلام بالماء الصافي النافع للخلق والباطل بالزبد الذاهب { ومما يوقدون عليه في النار } وهو الذهب والفضة والرصاص زبد مثله مثل زبد السيل فمثل الحق والقرآن كمثل الصافي من هذه لأنه ينتفع به، ومثل الباطل كمثل الزبد { ابتغاء حلية } يريد ما يتخذ من الذهب والفضة كحلية السيف والدواة والمركب وحلية النساء { أو متاع } يريد ما يتخذ من النحاس والرصاص والصفر والحديد من الأواني وغيرها { زبد مثله } يريد أن هذه إذا غليت بالنار تزبد كما يزبد الماء { كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد } الذي على السيل والجواهر { فيذهب جفاء } باطلا ذاهبا متفرقا بحيث لا ينتفع به وهو ما جفاه الوادي أي رمى به { وأما ما ينفع } الناس { فيمكث في الأرض } وهو الماء الصافي ينتفع به الناس كذلك الحق يثبت وينتفع به صاحبه والباطل يذهب باطلا { كذلك يضرب الله الأمثال } يعني يبين الحق والباطل، قيل: تمام الكلام عند قوله الأمثال ثم استأنف الكلام بقوله تعالى: { للذين استجابوا } ، وقيل: بل متصل بما قبله لأنه قال الذي هو مثل المستجيب فالذي يذهب جفاء مثل من لا يستجيب، وقوله: { للذين استجابوا لربهم } أي أجابوا دعوة الله وآمنوا به وأطاعوه { الحسنى } قيل: الجنة { والذين لم يستجيبوا له } ولم يؤمنوا له { لافتدوا به } أي لجعلوا ذلك بدل أنفسهم فداء من العذاب ولا يقبل ذلك منهم { أولئك لهم سوء الحساب } يعني يؤاخذون بالذنوب صغيرها وكبيرها ولا يغفر لهم شيء { ومأواهم جهنم وبئس المهاد } أي بئس الفراش والمصير.
[13.19-24]
{ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى } أي لا يستوي من يعلم الحق ومن لا فهو بمنزلة الأعمى { إنما يتذكر أولو الألباب } أي ذوو العقول { الذين يوفون بعهد الله } أي يودون عهوده، قيل: أوامره ونواهيه، وقيل: عهوده كما يلزم العبد عقلا وسمعا، والعقليان كالتوحيد والعدل وما شاكله من الواجبات والشرعيات كأوامر الشرع ونواهيه { ولا ينقضون الميثاق } ، قيل: لا يبدلون ولا يرجعون، وقيل: ميثاق الرسول وهو ما حلفوا له، والميثاق ما وثقه المكلف على نفسه مما لزمه { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } ، قيل: المراد به الإيمان بجميع الكتب والرسل، وقيل: بل صلة الأرحام، وقيل: بل هو ما يلزم من صلة المؤمنين بالتوالي والحفظ والذب عنهم في باب الدين فيدخل فيه صلة الرحم وغيره، قال القاضي: وهو الوجه { ويخشون ربهم } أي عقابه { ويخافون سوء الحساب } أي مناقشته { والذين صبروا } على طاعة الله وعن معصيته، وقيل: على المصائب والنوائب، وقيل: في الجهاد للأعداء، وقيل: هو الصبر المطلق وهو فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال ومشاق التكليف { ابتغاء وجه ربهم } أي لا ليقال ما أصبره وأحمله للنوازل وأوقره عند الزلازل ولا لئلا يعاب بالجزع ولئلا تشمت به الأعداء كقوله : وتجلدي للشامتين لاريهم... الخ.
{ وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية } يتناول النوافل لأنها في السر أفضل والفرائض لوجوب المظاهرة بها { ويدرؤن بالحسنة السيئة } ، قيل: يدفعونها، وعن الحسن هم الذين إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا، وعن ابن كيسان: هم الذين إذا أذنبوا تابوا، وإذا رأوا منكرا أمروا بتغييره { أولئك لهم عقبى الدار } عاقبة الدنيا وهي الجنة لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا { جنات عدن } مدينة الجنة فيها الأئمة والأنبياء والشهداء والصديقون { يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم } أي من كان صالحا في الدين { وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } من أبواب الجنة، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أبواب الجنة ثمانية باب الصلاة، وباب الزكاة، وباب الصوم، وباب الصبر "
قوله تعالى: { سلام عليكم } بشارة منهم للمؤمنين بالسلامة والكرامة، قيل: السلام منهم، وقيل: السلام من الله تعالى يبلغونه { بما صبرتم } أي هذه المنزلة والكرامة جزاء على ما صبرتم { فنعم عقبى الدار } أي نعم ما أعقبكم الله بعد الدار الأولى، وقيل: نعم العاقبة في هذه الدار لكم وهي الجنة.
[13.25-30]
{ والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه } ، قيل: عهد الله وأمره وما ألزم العبد كالتكليف ونقضه أن لا يتفكر فيه ولا يعمل به من بعد ميثاقه، قيل: من بعد ما أحكمه الله عليه بما دل على وجوبه، وقيل: من بعد ما أحكموه على أنفسهم بالعهد مع الرسول، وقيل: هم الخوارج { ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل } ، قيل: قطعوا الأرحام وقد أمروا بصلتها، وقيل: قطعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد أمروا بصلته، وقيل: هو صلة المؤمنين { و } الذين { يفسدون في الأرض } ، قيل: بالدعاء إلى غير الله والقتال لرسوله والمؤمنين { ولهم سوء الدار } أي جهنم والنار { الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي يوسع له ويقدر أي يرزقه دون غيره، والآية نزلت في أهل مكة { وفرحوا } بما بسط الله لهم من الدنيا فرح بطر وأشر لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم، ولم يقابلوا بالشكر حتى يستوجبوا نعم الآخرة، يعني { فرحوا بالحياة الدنيا } أي بما أوتوا من الرزق من حطام الدنيا ونسوا الآخرة { وما الحياة الدنيا في } حب { الآخرة إلا متاع } أي قليل ذاهب { ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } الآية نزلت في أهل مكة { قل إن الله يضل من يشاء } ممن هو على صفتكم بسلبه الألطاف { ويهدي اليه من أناب } أي من رجع إلى الله تعالى وتاب { الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله } يعني تسكن قلوبهم إلى القرآن إذا تدبروا فيه، وقيل: تطمئن قلوبهم عند وعده ووعيده { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } قلوب المؤمنين { الذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني ما أمروا به من الطاعات { طوبى لهم } ، قيل: قرة عين عن ابن عباس، وقيل: طوبى لهم مدينة في الجنة، وقيل: خير وكرامة، وقيل: شجرة في الجنة روي أن أصلها في دار الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي دار كل مؤمن منها غصن، وقيل: العيش الطيب لهم { وحسن مآب } أي مرجع { كذلك أرسلناك } يا محمد { في أمة قد خلت } الآية نزلت في عبد الله بن أمية المخزومي وأصحابه حين نزل { اسجدوا للرحمان } قالوا: وما نعرف الرحمان إلا صاحب اليمامة يعني مسيلمة، وقيل: نزلت في مشركي العرب قالوا: أما الله فنعرفه وأما الرحمان فلا نعرفه، وقيل:
" نزلت في صلح الحديبية لما كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسم الله الرحمان الرحيم فقال سهيل: لا نعرف الرحمان اكتب يا محمد باسمك اللهم وكذلك كانوا يكتبون فقال (صلى الله عليه وسلم): " أكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله " فقال لإن كتب رسول الله وأنكرناك لقد ظلمناك اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله "
، وقوله: كذلك أرسلناك أي هكذا أرسلناك يا محمد، وقيل: كما أرسلنا في الأمم { أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم } قرون وجماعات { لتتلوا عليهم } القرآن { الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمان } يجحدونه { قل } يا محمد { هو ربي } أي الرحمان الذي أنكرتموه ربي ومبدئي { لا إله إلا هو عليه توكلت } فوضت أمري إليه { وإليه متاب } مرجعي.
[13.31-35]
{ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال } جواب لو محذوف أي لو كان هذا { أو قطعت به الأرض } الآية نزلت في جماعة من كفار قريش منهم أبو جهل، وعبد الله بن أمية المخزومي، قالوا: يا محمد إن كان هذا القرآن حقا فسير لنا جبال مكة حتى تنفسح لنا فإنها أرض ضيقة، واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا فنزلت الآية { سيرت به الجبال } على وجه الأرض { أو قطعت به الأرض } أي شقت وجعلت أنهارا وعيونا { أو كلم به الموتى } أي وأحيي به الموتى لكان هذا القرآن { بل لله الأمر جميعا } ، وقوله: { أفلم ييأس الذين آمنوا } أي من إيمان هؤلاء الكفار { أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا } أي لو شاء ألجأهم إلى ذلك { ولا يزال الذين كفروا } ، قيل: أراد جميع الكفار { تصيبهم بما صنعوا } من كفرهم وتكذيبهم { قارعة } أي مهلكة، وقيل: داهية وعقوبة من قتل وأسر، وقيل: أراد بالقارعة سرايا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { أو تحل } أي أو تحل أنت { قريبا من دارهم } أي أو تحل القارعة قريبا من دارهم { حتى يأتي وعد الله } وهو موتهم أو القيامة، وقيل: هو فتح مكة وكان الله تعالى قد وعده ذلك { ولقد استهزئ برسل من قبلك } كما استهزأ هؤلاء بك { فأمليت للذين كفروا } أي أمهلتهم ليتوبوا ويتدبروا ولتتم عليهم الحجة { ثم أخذتهم } بالعقاب والهلاك { فكيف كان عقاب } أي كيف رأيتم عذابي لأولئك كذلك يكون هؤلاء وفيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { أفمن هو قائم على كل نفس } صالحة أو طالحة { بما كسبت } احتجاج عليهم في إشراكهم بالله تعالى، يعني فالله هو الذي هو قائم رقيب على كل نفس صالحة وطالحة بما كسبت يعلم خيره وشره، أي كمن ليس هو كذلك وهي الأوثان { وجعلوا لله شركاء } من خلقه يعبدونهم { قل سموهم } يعني ليس لهم اسم له مدخل في باب الإلهية وذلك استحقار بهم، وقيل: جعلتم له شركاء فسموهم له من هم وبينوهم بأسمائهم { أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض } يعني تخبرونه بما لا يعلم يعني إلا أن تضيفوها بما لا يصلح أن يعلم أنه تعالى لا يعلم لنفسه شريكا { أم بظاهر من القول } يعني يقولون قولا لا حقيقة له، ذلك قولهم بأفواههم ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها { بل زين للذين كفروا مكرهم } ، قيل: إنما زين ذلك شياطين الجن والإنس { ومن يضلل الله فما له من هاد } ، قيل: يحكم لضلالته، وقيل: من أضله عن طريق الجنة { لهم عذاب في الحياة الدنيا } يعني يجمع لهم بين عذاب الدنيا والآخرة { ولعذاب الآخرة أشق } أي أشد على النفوس { وما لهم من الله من واق } من دافع يدفع عنهم العذاب { مثل الجنة التي وعد المتقون } يدخلونها { تجري من تحتها الأنهار } أي من تحت أشجارها وأبنيتها { أكلها دائم } أي مأكولاتها وثمارها دائمة لا تنقطع { وظلها } يعني دائم ظلها فلا يكون فيه شمس ولا حر ولا برد { تلك عقبى الذين اتقوا } أي هذه الجنة عاقبة أمر المتقين وعاقبة أمر { الكافرين النار }.
[13.36-43]
{ والذين آتيناهم الكتاب } يعني القرآن، قيل: أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون أعطوا القرآن وآمنوا وفرحوا به، قيل: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب فرحوا بالقرآن لأنهم آمنوا وصدقوا ومن الأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين، وقيل: الآية نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه والسيد والعاقب، وقيل: هم الذين تحزبوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام ونعت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وغير ذلك مما يعرفون، وينكرون القصص وبعض الأحكام والمعاني اليه { أدعوا } أي إلى توحيده وعبادته { وإليه مآب } مصيري ومرجعي عند البعث، ثم ذكر تعالى صفة القرآن المنزل فقال تعالى: { وكذلك أنزلناه } يعني القرآن { حكما عربيا } لما فيه من الأحكام وبيان الحلال والحرام { ولئن اتبعت أهواءهم } يعني أهواء هؤلاء المشركين { ما لك من الله من ولي } يدفع عنك ما تستحقه { ولا واق } يقيك العذاب { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية } ، قيل: أن اليهود، عيروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بكثرة النساء وقالوا: لو كان نبيا لشغلته النبوة عن النساء فنزلت الآية مبينة إنا { أرسلنا رسلا } لهم أزواج أكثر من أزواجك كما كان لسليمان (عليه السلام) ثلاثمائة ممهورة وسبعمائة سرية، ولداوود (عليه السلام) مائة امرأة عن ابن عباس { وما كان لرسول أن يأتي بآية } معجزة { إلا بإذن الله } بأمره وإلطافه { لكل أجل كتاب } أي لكل وقت قدرة الله تعالى كتاب أثبت فيه وهو اللوح المحفوظ، وقيل: لكل أمر قضاه الله كتاب ينزل من السماء أجل ينزل فيه، وقيل: لكل أجل من آجال الخلق كتاب عند الله، وقيل: عند الملائكة والحفظة { يمحو الله ما يشاء } ، قيل: يمحو من كتاب الحفظة المباحات { ويثبت } ما فيه الجزاء كالطاعات والمعاصي، وقيل: يمحو الآجال، وقيل: يمحو الله ما يشاء هو ما جاء أجله ويدع ما لم يجئ أجله ويثبته، وقيل: " يمحو الله ما يشاء من القرون بالاهلاك ويثبت ما يشاء بالإمهال " عن علي (عليه السلام)، وقيل: يمحو الله الطاعة بالمعصية والمعصية بالطاعة، وقيل: يزيد في الأجل ما يشاء وينقص ما يشاء، وقيل: يمحو كفر الناس ومعاصيهم بالتوبة ويثبت إيمانهم وطاعتهم { وعنده أم الكتاب } أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ لأن كل شيء كائن مكتوب { وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم } ، قيل: العذاب، وقيل: الظفر بهم وإبطال دينهم وإظهار دين الإسلام { فإنما عليك البلاغ } أي ليس عليك إلا إبلاغ الرسالة { وعلينا الحساب } أي وعلينا الجزاء والحساب { أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } ، قيل: بالفتوح على المؤمنين من أرض المشركين بأن يفتح أرضا بعد أرض فتبطل فيها أحكام الشرك وتظهر أحكام الإسلام، وقيل: بذهاب علمائها، وعن ابن مسعود: " موت العالم ثلمة في الاسلام لا يسدها شيء " وقيل: خرابها بعد العمارة، وقيل: نقصان ثمرها { والله يحكم لا معقب لحكمه } أي لا راد لحكمه والمعقب الذي يكره على الشيء فيبطله { وهو سريع الحساب } أي الجزاء على ما يعمله العبد من الخير والشر { وقد مكر الذين من قبلهم } أي من قبل قريش { فلله المكر جميعا } يعني ما يفعله الله تعالى بهم من الهلاك { ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل } لهم يا محمد { كفى بالله شهيدا بيني وبينكم } أي حسبي الله شاهدا بيني وبينكم، والباء زائدة والله سبحانه فاعل وشهيد تمييز { ومن عنده علم الكتاب } قيل: هو الله تعالى، والكتاب اللوح المحفوظ، وقيل: أهل الكتاب الذين آمنوا من اليهود والنصارى، وقيل: هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) رواه في الحاكم، وقرئ بكسر الميم من عنده شاذا، وقرئ في الشواذ أيضا { ومن عنده علم الكتاب }.
[14 - سورة ابراهيم]
[14.1-4]
{ الر } قد تقدم الكلام عليه، وقيل: انه اسم السورة { كتاب أنزلناه اليك } يعني القرآن أنزله جبريل (عليه السلام) { لتخرج الناس من الظلمات إلى النور } أي من الضلال إلى الهدى، وقيل: من الكفر إلى الايمان { بإذن ربهم } أي بأمره { إلى صراط العزيز الحميد } المحمود على كل حال { الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض } خلقا وملكا يعني أن الرسول يدعوكم إلى الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض { وويل للكافرين من عذاب شديد } ، قيل: الويل اسم للعذاب الأليم، وقيل: هو نداء لكل مكروب، وقيل: هو واد في جهنم { الذين يستحبون الحياة الدنيا } قيل: يؤثرونها ويختارونها { على الآخرة ويصدون عن سبيل الله } ، قيل: يمنعون الناس عن دين الله تعالى، وقيل: يعرضون عن دين الله وهو الاسلام { ويبغونها عوجا } قيل: يطلبون بها العوج وذلك يوصلهم إلى تحريف الدين { أولئك في ضلال بعيد } عن الحق { وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } أي بلغة قومه، قيل: كان المشركون يتعجبون من بشر يدعي أنه رسول وهو يتكلم بلسانهم فأنزل الله الآية مبينة أن عادة الله تعالى كذلك يعني كما أرسلناك إلى العرب بلغتهم كذلك أرسلنا كل رسول بلغة قومه فأما نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو مبعوث إلى الكل فالمراد به هاهنا قومه الذين ولد فيهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا قومه الذين بعث إليهم لأنه مبعوث إلى الخلق كافة، وقيل: تقدير الآية وما أرسلنا قبلك رسولا إلا بلسان قومه إلى قومه وأنه مبعوث وأنت مبعوث بلسان قومك إلى الخلق جميعا، قال في الغرائب والعجائب: ان الله بعث جميع الكتب إلى جبريل (عليه السلام) بالعربية وأمره أن يأتي رسول كل قوم بلغتهم وهذا ليس بصحيح لأن قوله: { ليبين لهم } ضمير القوم وهو العرب فيؤدي أن الله أنزل التوراة من السماء بالعربية ليبين للعرب، قالوا: وهذا معنى فاسد، وقوله تعالى: { ليبين لهم } ما هو مبعوث به، يعني ليظهر لهم الدين { فيضل الله من يشاء } يعاقب ويهلك { ويهدي من يشاء } ، قيل: يلطف بمن يشاء ممن له لطف.
[14.5-9]
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } ، قيل: بالمعجزات والدلائل، وقيل: بالآيات التسع { ان أخرج قومك } أي وقلنا له: أخرج قومك، يعني بني إسرائيل ومن بعث اليهم { من الظلمات إلى النور } من الكفر إلى الإيمان { وذكرهم بأيام الله } قيل: بنعمه في الأيام دنيا ودينا، وقيل: بوقائع الله تعالى وعذابه في الأمم السالفة كعاد وثمود وغيرهم { وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم } خلصكم { من آل فرعون } يعني قومه واتباعه ومن كان على دينه { يسومونكم } قيل: يعذبونكم، وقيل: يذيقونكم { سوء العذاب } أي أشده { ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم } أي يستبقون النساء للخدمة أحياء { وفي ذلكم } أي ما تقدم ذكره { بلاء من ربكم عظيم } ، قيل: نعمة عظيمة من الله بها عليكم، وقيل: بلاء وشدة ومحنة، وقيل: امتحان بالتخلية والترك قال: أنجاكم والأول أقرب وهو لن المراد به النعمة وهو الذي يوافق صدر الآية وهو قوله: { واذكروا نعمة الله عليكم } { وإذ تأذن ربكم } ، قيل: معناه أعلم وتأذن وأذن كمتوعد وأوعد، وقيل: بمعنى أخبر { لئن شكرتم لأزيدنكم } من النعم { فإن الله لغني } عنكم ولا يرضى لعباده الكفر { حميد } مستحق للحمد، وقيل: يجازي على القليل كثيرا { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم } يعني خبر ما فعل بهم خطاب للكفار، وقوله: { وثمود } وهم قوم صالح { والذين من بعدهم } من الأمم { لا يعلمهم إلا الله } يعني أنهم في الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله تعالى ، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية فقال: كذب النسابون، يعني الذين يدعون علم الأنساب، وقد نفى الله تعالى علمها عن العباد { جاءتهم رسلهم بالبينات } يعني بالأدلة والحجج والأحكام والأمر والنهي { فردوا أيديهم في أفواههم } أي قطعوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل كقوله:
عضوا عليكم الأنامل من الغيظ
، وقيل: ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك فوضع يده على فيه، واشاروا بأيديهم إلى ألسنتهم وما نطقت به من قولهم { انا كفرنا بما أرسلتم به } أي هذا جوابنا لكم ليس عندنا غيره، وقيل: في أيديهم يرجع إلى الكفار وأفواههم يرجع إلى الرسل فكأنهم لما سمعوا وعظهم وكلامهم أشاروا بأيديهم إلى أفواه الرسل تكذيبا لهم وردا عليهم وتسكيتا لهم { وانا لفي شك } في ريب { مما تدعوننا اليه } من الدين أحق هو أم باطل.
[14.10-17]
{ قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض } يعني أفي توحيده وعدله وصفاته وعبادته، قيل: هم مشركو العرب كانوا يقرون بالله ويعبدون الأصنام فأزال الشك بقوله تعالى: { فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم } أي يدعوكم إلى الايمان والطاعة واجتناب المعاصي { من ذنوبكم } ، قيل: جميع ذنوبكم فتكون من زائدة ويحتمل أن تكون من للتبعيض أي ما سلف من ذنوبكم، وقيل: يغفر من ذنوبه ما يتذكر ويتوب عنه، وقيل: ما ينسى لأنه إذا لم يخطر بباله يكون مغفورا { ويؤخركم إلى أجل مسمى } ، قيل: يزيد في أعماركم، وقيل: لا ينقص من عذاب الاستئصال { قالوا ان أنتم إلا بشر مثلنا } في الصورة والهيئة فكيف خصصتم بالنبوءة { تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا } وذلك أنهم سلكوا طريقة التقليد { فأتونا بسلطان مبين } أي بحجة بينة وقد جاءت رسلهم بالبينات وبالحجج وإنما أرادوا بالسلطان المبين أنه قد اقترحوها { قالت لهم رسلهم ان نحن إلا بشر مثلكم } في الصورة والهيئة { ولكن الله يمن على من يشاء من عباده } أي ينعم على من يشاء بالنبوة { وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان } بحجة { إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون } يعني بالتوكل تفويض الأمر إلى الله تعالى { وما لنا ألا نتوكل على الله } ، قيل: تقديره في أن لا نتوكل على الله فحذف الحال { وقد هدانا سبلنا } يعني: أمور الدين { لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا } أي إما أخرجناكم وإما عدتم إلينا { فأوحى اليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض } يعني أرضهم وديارهم من بعد إهلاكهم وهذا غاية الإنعام بأن أهلك الكفرة وأسكن المؤمنين أرضهم وديارهم وأورثهم أموالهم وهكذا من توكل على الله واستعان به { ذلك لمن خاف مقامي } مقام الحساب { وخاف وعيد } أي القرآن { واستفتحوا } واستنصروا الله على أعدائهم، يعني أن الرسل استنصروا بالله سبحانه على أعدائهم من الأمم لما استيأس من إيمانهم دعوا عليهم بالهلاك، وقيل: أراد به الرسل والأمم تحاكموا إلى الله تعالى ودعا الفريقان أن يقضي بينهم { وخاب كل جبار عنيد } ، قيل: هلكوا، وقيل: خابوا من رحمة الله تعالى { من ورائه } قيل: من بين يديه { جهنم } ، وقيل: من بعد العذاب في الدنيا عذاب جهنم، وقيل: من خلفه { ويسقى من ماء صديد } أشد العذاب يعني ما يشبه الصديد في نتنه وكراهته، وقيل: هو القيح وهو ما يسيل من جلود أهل النار { يتجرعه } أي يتكلف دخلوه { ولا يكاد يسيغه } كاد صلة معناه لا يسيغه، وقيل: يسيغه بعد بطاء وغصص { ويأتيه الموت من كل مكان } يعني أسباب الموت أحاطت به من الجهات الست، وقيل: من كل مكان من جسده حتى ابهام رجله، وقيل: في أصل كل شعرة { وما هو بميت } فيستريح { ومن ورائه عذاب غليظ } أي بين يديه.
[14.18-22]
{ مثل الذين كفروا بربهم } أي مثل { أعمالهم كرماد } الخبر { اشتدت به الريح } أي حملته الريح عند هبوبها { في يوم عاصف } يقال: عصفت الريح إذا اشتدت { لا يقدرون } يوم القيامة من أعمالهم { مما كسبوا } من أعمالهم { على شيء } أي لا يرون له أثرا من الثواب كما لا يقدرون من الرماد المطير في الرياح على شيء { ذلك هو الضلال البعيد } إشارة إلى بعد ضلالتهم عن طريق الحق { ألم تر } أي ألم تعلم يا محمد أو أيها السامع { أن الله خلق السماوات والأرض بالحق } ، قيل: الحق هو الدين والعبادة يعني يعبدونه، وقيل: خلقهما للجزاء يوم القيامة { ان يشأ يذهبكم } أي يهلككم أيها الكفار { ويأت بخلق جديد } سواكم من بني آدم أطوع منكم، وقيل: من غير بني آدم ذكره في الغرائب والعجائب ومعنى الجديد القريب العهد، قوله تعالى: { وما ذلك على الله بعزيز } أي ممتنع متعذر { وبرزوا لله جميعا } أي وبرزوا لله يوم القيامة وإنما جيء بلفظ الماضي لأن ما أخبر به تعالى كأنه قد كان ووجد لصدقه سبحانه ونحوه { ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار } ونظائر ذلك، ومعنى بروزهم لله عز وجل والله سبحانه لا يتوارى عنه شيء حتى يبرزوا له، إنهم كانوا يتوارون ويستترون عن العيون عند ارتكابهم الفواحش ويظنون أن ذلك خاف على الله تعالى، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا لله تعالى عند أنفسهم وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية، وخرجوا من قبورهم فبرزوا لحساب الله وحكمه { فقال الضعفاء } هم الأتباع والعوام { للذين استكبروا } ساداتهم الذين صدوهم عن الاستماع للأنبياء وأتباعهم { انا كنا لكم تبعا } تابعين لما قلتم { فهل أنتم مغنون عنا } دافعون عنا العذاب الذي نزل بنا { قالوا } يعني القادة للاتباع { لو هدانا الله لهديناكم } أي لو خلصنا الله من العذاب وأدخلنا الجنة للثواب لهديناكم لخلصناكم من العذاب لكن لا مطمع فيه لنا ولكم { سواء علينا أجزعنا أم صبرنا } روي أن أهل النار يقولون: تعالوا نجزع، فيجزعون خمس مائة عام فلا ينفعهم، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك فلا ينفعهم فيقولون: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا { ما لنا من محيص } أي منجا ومهرب { وقال الشيطان لما قضي الأمر } هو إبليس، وقوله لما قضي الأمر قطع وفرغ منه وهو الحساب بين الخلائق، قيل: إنما يقول ذلك عند وصول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، وروي أن الشيطان عند ذلك يقوم خطيبا في الأشقياء من الجن والانس فيقول: { إن الله وعدكم وعد الحق } وهو البعث والجزاء على الأعمال فوفى لكم بما وعدكم { ووعدتكم } خلاف ذلك { فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان } أي من تسليط وقهر فأقسركم على الكفر والمعاصي وألجئكم إليها { إلا أن دعوتكم } أي إلا دعائي إياكم إلى الضلالة بوسوستي وتزييني ولم يكن لي عليكم قدرة غير ذلك { فلا تلوموني ولوموا أنفسكم } حيث اغتررتم وأطعتموني إذ دعوتكم ولم تطيعوا ربكم إذ دعاكم، هذا دليل على أن الانسان هو الذي يختار الشقاوة أو السعادة ويحصلهما لنفسه، وليس من الله تعالى إلا التمكين ولا من الشيطان إلا التزيين، ولو كان الأمر كما تزعم المجبرة لقال: فلا تلوموني ولا أنفسكم فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه، تعالى الله عن ذلك { ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي } يعني لا ينجي بعضنا بعضا من عذاب الله ولا يغيثه، والإصراخ: الإغاثة { إني كفرت بما أشركتمون } الآن بإشراككم إياي { من قبل } هذا اليوم وهو يوم القيامة مثل قوله تعالى: { ويوم القيامة يكفرون } بشرككم.
[14.23-27]
{ تحيتهم فيها سلام } يعني في الجنة يحي بعضهم بعضا بالسلام والملائكة تحييهم بالسلام { ألم تر } ألم تعلم { كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة } أراد كلمة التوحيد، وقيل: كلمة حسنة كالتسبيح والتحميد والاستغفار والتوبة والدعوة، وعن ابن عباس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأما الشجرة فكل شجرة مثمرة طيبة الثمر وشجرة التين والعنب والرمان، وعن ابن عباس: هي شجرة في الجنة { أصلها ثابت } في الأرض { وفرعها } ثابت { في السماء } ، وقيل: معناه في جهة العلو والصعود { تؤتي أكلها } مأكولها { كل حين } ، قيل: ستة أشهر إلى صرام النخلة يعني تعطي ثمرها كل وقت وقته الله تعالى لإثمارها { بإذن ربها } وخالقها، وقيل: بأمره، وقيل: كل حين كل ساعة ليلا ونهارا كذلك المؤمن يطيع الله كل حين، وقيل: يؤكل من النخلة الطلع والبسر والرطب والتمر وهو دائم لا ينقطع كذلك أعمال المؤمن تصعد في كل وقت، فشبه كله الدين في ثباتها بالأدلة التي لا فساد فيها بقرار الشجرة التي أصلها على نهاية الثبات، وشبه ما يحصل من الرفعة في الدين والظهور بفروعها في السماء وشبه ما يحصل من الثواب الدائم بثمرة هذه الشجرة رواه الحاكم، قوله تعالى: { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة } أراد كلمة الشرك، وقيل: كلمة قبيحة، فأما الشجرة الخبيثة فكل ثمرة لا يطيب ثمره كشجرة الحنظل والكشوث وهو أنه لا قرار لها في الأرض وهي شجرة في الماء لا عروق لها تميل مع الرياح { يثبت الله الذين آمنوا } أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزالوا كما يثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود الذين نشروا بالمناشير { بالقول الثابت في الحياة الدنيا } قيل: هي الكلمة الطيبة والتوحيد، وقيل: قول لا إله إلا الله { وفي الآخرة } في القبر، وقيل: معناه الثبات عند سؤال القبر، وعن البراء ابن عازب (رضي الله عنه) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر قبض روح المؤمن فقال:
" ثم يعود روحه في جسده، فيأتياه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولون له: من ربك؟ ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله وديني الاسلام ونبيي محمد فينادى من السماء صدق عبدي "
، فذلك قوله: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } { ويضل الله الظالمين } الذين لم يتمسكوا بحججه في دينهم، وقيل: يضل يعاقب { ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا } الآية نزلت في كفار أهل بدر عن علي (عليه السلام) وابن عباس، وقيل: نزلت في القادة من أهل مكة أنعم الله عليهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكفروا به، وقيل: في أبي جهل وأصحابه.
[14.28-36]
وقوله: { ألم تر } ألم تعلم { إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا } جعلوا بدل شكر نعمه الكفر به فكأنهم بدلوا، وقيل: أتاهم المال ليصرفوه في سبيل الخير فصرفوه في معاصي الله تعالى فكأنهم بدلوا، وقيل: أنعم الله عليهم بالرسول والقرآن فاختاروا الكفر، وقوله تعالى: { وأحلوا قومهم دار البوار } معناه دار الهلاك وهو جهنم، وقيل: دعوهم إلى محاربة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى قتلوا فهلكوا ببدر { وجعلوا لله أندادا } أضدادا، قيل: شركاء يعبدونهم، وهي الأوثان { ليضلوا عن سبيله } لو كان عاقبتهم الضلال عن دين الله، قيل: السورة مكية إلا هاتين { ألم تر إلى الذين بدلوا } إلى { القرار } ، وقيل: نزلا في أهل بيت بالمدينة { قل تمتعوا } وعيد لهم وتهديد { فإن مصيركم إلى النار } { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } يديمونها على الوجه المشروع وهي الصلوات الخمس { وينفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية } ، قيل: أراد به الزكاة المفروضة { من قبل أن يأتي يوم } يوم القيامة { لا بيع فيه } أي لا يباع فيه بمبايعة يعني لا فدا سل منه والمراد بالبيع إعطاء البدل ليخلص من النار { ولا خلال } جمع خلة، والخلة: المودة الخالصة، والخليل: الخالص المودة { الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماءا فأخرج به من الثمرات } يدخل فيه الزروع والحبوب والأشجار { وسخر لكم الفلك } السفن { لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار } في كل بلد، وكذلك { سخر لكم الشمس والقمر } في سيرهما { دائبين } يجريان على وجه يتم به طلب المنافع { وسخر لكم الليل والنهار } فيتعاقبان ليتم به النعم { وآتاكم من كل ما سألتموه } من للتبعيض أي آتاكم بعض جميع ما سألتموه نظرا في مصالحكم { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } ولا تطيقون عدتها لكثرتها، ولأن منها ما نعلم ومنها ما لا نعلم { إن الإنسان لظلوم } لنفسه بما كفر من نعم ربه واستوجب العقاب { وإذ قال ابراهيم رب اجعل هذا البلد } يعني مكة، وقيل: لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء { آمنا } قيل: يجعل مكة آمنة من الحروب، وقيل: ذا أمن زاده أمنا وكفاه كل باغ ظالم { واجنبني } اصرف ذلك عني { وبني أن نعبد الأصنام } ، قيل: كان قومه عباد أصنام فخاف على ولده { رب انهن أضللن } فأضاف الضلال اليهن لأنهن السبب في الضلال { فمن تبعني فإنه مني } أي حاله كحالي أي على ديني { ومن عصاني فإنك غفور رحيم } يغفر له ما سلف منه إذا استحدث الطاعة، وقيل: من عصاني فيما دون الشرك.
[14.37-43]
{ ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد } بوادي مكة { غير ذي زرع } لأنه لم يكن فيها يومئذ لا زرع ولا ضرع { عند بيتك } إضافة اليه لأنه مالكه ولا يملكه أحد سواه، وقوله: { المحرم } لأن الله تعالى حرم التعرض له والتهاون به وجعل ما حوله حرما بمكانه أو لأنه حرم على الطوفان أي منع منه { فاجعل أفئدة من الناس } من للتبعيض، ويدل عليه ما روي عن مجاهد: لو قال أفئدة الناس لزاحمتكم عليه فارس والروم { تهوي اليهم } تسرع اليهم، وقيل: تهوي إلى الحج والعمرة مع سكانهم واديا ما فيه منها باب يجلب اليهم من البلاد { لعلهم يشكرون } النعمة في أن يرزقوا أنواع الثمرات، فأجاب الله دعوته فجعله حرما آمنا تجبى اليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنه { ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء } الذي هو عالم الغيب من شيء في كل مكان { الحمد لله الذي وهب لي على الكبر اسماعيل واسحاق } يعني فأنا كبير، وروي أن إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد إسحاق وهو ابن مائة واثني عشر سنة، وقد روي أنه ولد له إسماعيل وهو لأربع وستين، وإسحاق لتسعين، وعن سعيد بن جبير: لم يولد لإبراهيم إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة. { إن ربي لسميع الدعاء } قابله ومجيبه عن ابن عباس كقوله سمع الله لمن حمده، { ربنا وتقبل دعاء } أي أجب، وقيل: تقبل عملي وعبادتي { ربنا اغفر لي ولوالدي } قيل: أراد أبويه وأمه كان وعده أن يسلم فلما مات على الكفر تبرأ منه، وقيل: أراد آدم وحوى، وقرئ في الشواذ ولدي يعني اسماعيل وإسحاق، وروي أن اسماعيل ولد ولإبراهيم بضع وثمانين سنة، وولد إسحاق وله مائة وفرض الختان يوم ولد إسحاق، واختتن ابراهيم وإسماعيل وإسحاق، وكان لسارة يوم ولد إسحاق ثلاث وتسعين سنة، ولما ولدت هاجر اسماعيل وكانت أمه لسارة وهبتها من إبراهيم فنقلها إلى مكة ولا زرع ولا ضرع ولا أحد وأراد أن يرجع قالت: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله، قلت: نعم حسبنا الله، ثم دعا بما حكى الله عنه { ربنا إني أسكنت من ذريتي } ، وقيل: قالت: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: فإذا لا يضيعنا، قال: فلما عطشت وقل لبنها وعطش الصبي انتهت به إلى موضع رمل فضرب بقدمه ففارت عينا، وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" رحم الله أم إسماعيل، لولا أنها عجلت لكان زمزم عينا "
ثم نزل بها جرهم، وأما ما ذكر أنه نقلهما إلى ذلك المكان بأمر امرأته فلو كان كذلك لنقلهما إلى بعض أطراف الشام ولأن عظيم منزلته لا يجوز أن يضعهما بأرض مضيعة، وقد روي أنه قال: الله تعالى أمرني بهذا، روي الخبر في الحاكم، قوله تعالى: { ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون } يعني لا تظن أن الله ساهيا عما يعمل الظالمون وهذا تهديد لهم { إنما يؤخرهم ليوم } يعني يؤخر عقوبتهم إلى يوم هذه صفته إلى يوم القيامة، وقيل: يوم الحشر من القبور { تشخص فيه الأبصار } وشخوص البصر لا يصرفون أبصارهم يمينا وشمالا وعينهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك الأجفان { مهطعين } مسرعين { مقنعي رؤوسهم لا يرتد اليهم طرفهم } لا يرجع اليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم { وأفئدتهم هواء } يعني قلوبهم خالية من كل شيء فزعا وخرما، وقيل: نزعت أفئدتهم.
[14.44-52]
{ وأنذر الناس } بالقرآن { يوم يأتيهم العذاب } وهو يوم القيامة { أخرنا إلى أجل قريب } ردنا إلى الدنيا وأمهلنا إلى أمد قريب نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة دعوتك واتباع رسلك، وقيل: عند الموت يقولون ذلك، فقال تعالى مجيبا لهم ويحتمل أن بعض الملائكة أجابهم توبيخا لهم: { أولم تكونوا أقسمتم } حلفتم من قبل في الدنيا { ما لكم من زوال } أي لا نبعث وإنما هي الحياة الدنيا كقولهم لا يبعث الله من يموت بلي، وقيل: تم الكلام على قوله: { أقسمتم من قبل } يريد أقسموا بالله جهد ايمانهم لا يبعث الله من يموت، ثم ابتدأ فقال: ما لكم من زوال يريد عما أنتم فيه ولا تجابون إلى ما تريدون ثم زادهم توبيخا فقال: { وسكنتم في مساكن الذي ظلموا أنفسهم } ، قيل: سكنتم ديار من كذب الرسل، وكذلك سكنوا الظلمة مساكن من كان قبلهم ممن كانوا أعظم شأن، وقيل: مساكنهم دورهم، وقيل: أراد رأيتم قبورهم { وتبين لكم كيف فعلنا بهم } أي عرفتم ما نزل بهم من البلاء والهلاك والعذاب المعجل { وضربنا لكم الأمثال } أي الأشباه، وقيل: ضربنا لكم صفات ما فعلوا وما فعل بهم { وقد مكروا مكرهم } ، قيل: احتالوا ودبروا لجميع ما كان عندهم، قيل: هم كفار قريش دبروا في أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: الأمم الماضية { وعند الله مكرهم } يعني مكتوب عند الله مكرهم فهو مجازيهم { وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } المراد استعظام مكرهم { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله } ، قوله:
إنا لننصر رسلنا
[غافر: 51]
كتب الله لأغلبن أنا ورسلي
[المجادلة: 21]
إن الله لا يخلف الميعاد
[آل عمران: 9] { إن الله عزيز ذو انتقام } لأوليائه من أعدائه { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات } التبديل التغيير واختلف في تبديل الأرض والسماوات قيل: تبدل أوصافها تسير على الأرض جبالها وتفجر بحارها وتستوي فلا ترى فيها عوجا ولا أمتا، وعن ابن عباس: هي تلك الأرض وإنما تغير وأنشد:
وما الناس بالناس الذين عرفتهم
ولا الدار بالدار التي كنت تعرف
وتبديل السماء بانتشار كواكبها، وكسوف شمسها، وخسوف قمرها، وانشقاق قمرها وكونها أترابا، وقيل: يخلق بدلها أرض وسماوات أخر، وعن ابن مسعود وأنس يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخط عليها أحد خطيئة، وعن علي (عليه السلام): " تبدل أرض من فضة وسموات من ذهب " وروي أرض من فضة بيضاء كالصحائف { وترى المجرمين } المرطين بالمعاصي { يومئذ مقرنين في الأصفاد } فوق بعضهم مع بعض ومع الشياطين، وقرنت أيديهم إلى أرجلهم مغللين، والأصفاد القيود، وقيل: الأغلال { سرابيهلم من قطران } السرابيل جمع سربال وهو القميص، وقيل: ما لبس فهو سربال من قطران، والقطران النحاس والصفر المذاب { وتغشى وجوههم النار ليجزي الله كل نفس } بحرمة { ما كسبت } وقيل: ما عملت، قوله تعالى: { إن الله سريع الحساب } ، قيل: يحاسب مع كل أحد، أسرع من طرفة عين { هذا بلاغ } كفاية في التذكير والموعظة { ولينذروا به } أي يخوفوا به { وليعلموا إنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب } أي ذوو العقول والله أعلم.
[15 - سورة الحجر]
[15.1-8]
{ الر } قد ذكرنا ما قالوا فيه، وقيل: هو اسم للسورة، وقيل: إنها حروف أسماء الله تعالى: { تلك آيات الكتاب } التوراة والانجيل، وقيل: الكتب التي كتبت قبل القرآن، وقيل: أراد به القرآن، وقيل: تلك إشارة إلى السورة { وقرآن مبين } أي بين الحق والباطل { ربما } قرأ عاصم خفيفة الباء، وروي ذلك عن ابن عباس، والباقون يشددون الباء مفتوحة، وقوله: { يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين } أي يتمنون ذلك قيل: وقت المعاينة إذا عاينوا أحكام الآخرة وهو عند الموت، وقيل: عند مشاهدتهم المسلمين وهو يوم القيامة إذا عاينوا آجالهم { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا } وهذا وعيد لهم { ويلههم الأمل } أي يشغلهم إمهالهم عن اتباع القرآن والرسول وآمالهم أنهم على دين { فسوف يعلمون } حين يحل بهم العذاب أو يوم القيامة { وما أهلكنا من قرية } من أهل قرية { إلا ولها كتاب معلوم } أي كتاب كتب فيه وقت هلاكهم، وقيل: كتاب معلوم أجل معلوم، وقيل: هو اللوح المحفوظ { ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } { وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر } أراد محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { إنك لمجنون } أي زائل العقل { لو ما تأتينا بالملائكة } أي هلا تأتينا بالملائكة بالعذاب، وقيل: تشهد لك بالنبوة، ثم قال تعالى: { ما تنزل الملائكة إلا بالحق } الذي هو الموت، وقيل: ما ننزل لهم إلا بالوحي والقرآن الذي هو الحق { وما كانوا إذا منظرين } يعني غير نزول الملائكة.
[15.9-20]
{ إنا نحن نزلنا الذكر } يعني القرآن { وإنا له لحافظون } ، لا يجوز فيه الزيادة ولا النقصان، وقيل: وإنا له لحافظون، قيل: محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يحفظ من أعدائه { ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين } يعني في فرقهم وطوائفهم والشيعة الفرقة إذا اتفقوا على مذهب وطريقه يعني أرسلنا فيهم أنبياء { وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } وذلك تسلية له (صلى الله عليه وآله وسلم)، قوله تعالى: { كذلك نسلكه } يعني القرآن يقال: سلكت الخيط في الابرة وأسلكته إذا أدخلته فيها، أي يوصل القرآن { في قلوب } المشركين، وقيل: باخطار ذلك ينالهم حتى عرفوه { لا يؤمنون به } يعني القرآن مع ذلك لا يؤمنون به عنادا وجهلا { وقد خلت سنة الأولين } أي مضت طريقة الأمم المتقدمة، يعني كانت الرسل تدعوهم إلى كتاب الله، ويسلك الله ذلك في قلوب أممهم لا يؤمنون كما هو شبه قومك، وقيل: وقائع الله فيمن قبلكم من الأمم { ولو فتحنا عليهم } ، قيل: على أهل مكة، وقيل: على الأمم، وقيل: هو عام، يعني لو فتح عليهم { بابا من السماء } ويسر لهم معراج يصعدون فيه اليها، ورأوا من العيان ما رأوا { لقالوا } هذا شيء نتخايله لا حقيقة له، ولقالوا: قد سحرنا محمد بذلك، وقيل: الضمير للملائكة يصعدون السماء عيانا لقالوا ذلك { ولقد جعلنا في السماء بروجا } ، قيل: هي النجوم { وزيناها } أي زينا السماء بالنجوم { للناظرين } من ينظر إليها { وحفظناها } أي حفظنا السماء { من كل شيطان رجيم } أي ملعون، قيل: مرمى بالنجوم { إلا من استرق السمع } والمراد بالسمع المسموع، وعن ابن عباس: أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات، فلما ولد موسى منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد منعوا من السماوات، وقوله: { فأتبعه شهاب مبين } أي مضيء لمن رآه { والأرض مددناها } وبسطناها { وألقينا فيها رواسي } الجبال الثوابت { وأنبتنا فيها } ، قيل: في الأرض من أنواع النبات، وقيل: في الجبال { من كل شيء موزون } وزن بميزان الحكمة وقدر بمقدار بعضه لا يصح فيه زيادة ولا نقصان، أو له وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة، وقيل: ما يوزن من نحو الذهب والفضة والنحاس والحديد وغيرها { وجعلنا لكم } أي خلقنا لكم { فيها } في الأرض { معايش } من زروع ونبات، وقيل: رزقا تعيشون به من تجارات وزرع وغير ذلك { ومن لستم له برازقين } الدواب والأنعام، وقيل: العبيد والإماء، وقيل: البهائم والطيور.
[15.21-50]
{ وإن من شيء } ، قيل: من المطر، وقيل: ما من شيء مما جعله معاشا ورزقا { إلا عندنا خزائنه } يعني وما من شيء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على اتخاذه خزائن الله مقدوراته، وقيل: لفظ الخزائن مستعارة، والمراد أن الخير كله من الله تعالى { وما ننزله } الماء من السماء { إلا بقدر معلوم } بحسب المصلحة وعن ابن مسعود (رضي الله عنه): ليس بأرض بأمطر من أرض، ولا عام بأمطر من عام، ولكن الله يقسمه في الأرض كيف يشاء عاما ها هنا وعاما ها هنا، وربما كان في البحر { وأرسلنا الرياح لواقح } والارسال الإطلاق، وقيل: أخرجنا الرياح وهي أربع، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الرياح الجنوب فهي من الجنة وهي اللواقح "
يقال: لقحت الناقة إذا حملت، يعني الرياح لاقح إذا جاءت بخير من إنشاء سحاب ماطر، قال القاضي: والأقرب أن هذه الرياح يرسلها تعالى حوامل للماء لأن الرياح إذا تراكب واختلط بها غيرها صار سحابا، وقيل: اللواقح هي الجنوب عن ابن عباس وأبي علي، وقيل: الحوامل السحاب جمع لاقحة والباني ذات لقح، وقيل: بمعنى ملقحة لأنها تلقح الأشجار وهي ضد العقيم وهي الشمال، ومن قرأها بالجمع فوجه ظاهر، ومن وحدها حملها على الجنس { فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه } يعني جعلناه سقاء لكم لزرعكم وأنعامكم لتحيى به البلاد وينمو به الزرع { وما أنتم له بخازنين } نفي لهم يعني ما أنتم له بحافظين، بل الله يحفظه ويرسله من السحاب، ثم يحفظه في الأرض، ثم يخرجه من العيون بقدر الحاجة { وانا لنحن نحيي ونميت } يعني نحيي الخلق ونميتهم { ونحن الوارثون } أي الباقون بعد هلاك الخلق كله، وقيل: للباقي والوارث استعارة من ورث الميت لأنه يبقى بعد فنائه، ومنه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعائه:
" واجعله الوارث منا "
{ ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين } يعني علمنا من استقدم ولادة وموتا، ومن تأخر من الأولين والآخرين، أو من خرج من أصلاب الرجال ومن لم يخرج، ومن تقدم في الاسلام وسبق إلى الطاعة ومن تأخر، وقيل: المستقدمين في صفوف الجماعات والمستأخرين عنها، قوله تعالى: { وإن ربك هو يحشرهم } أي هو القادر على حشرهم والعالم بحضورهم { إنه حكيم عليم } باهر الحكمة واسع العلم وقد أحاط بكل شيء { ولقد خلقنا الانسان } يعني آدم { من صلصال } الصلصال الطين اليابس الذي يصلصل وهو غير مطبوخ، وإذا طبخ فخار { من حمأ } أي من طين متغير { مسنون } ، قيل: مصور يعني الحمأ، وقيل : اسدن، وقيل: المسنون المصور من سنة الوجه، وقيل: المغير الرائحة { والجآن } ، قيل: الجن، وقيل: هو ابليس، وقيل: الجن نسل ابليس عن أبي مسلم، وقيل: الجان أبو الجن، وآدم أبو الانس، وابليس أبو الشياطين، والشياطين يموتون بموت أبيهم وسموا جنا لاستتارهم عن العيون، وقوله: { من قبل } خلق آدم { من نار السموم } من نار جهنم، قيل: هذه السموم حرا من سبعين حرا من النار للذي خلق الله منها الجان، وقيل: خلق الجان من اللهب، وقيل: خلقه من نار ووصفه بالسموم { وإذ قال ربك للملائكة } الذين كانوا سكان الأرض، وقيل: هو عام، وقوله: { فإذا سويته ونفخت فيه من روحي } كأنه إجابة وإضافه إلى نفسه، لأنه القادر وإنما هو تمثيل ليحصل ما يحيى به استثنى ابليس من الملائكة لأنه كان بينهم مأمور معهم بالسجود، وقيل: كان السجود لآدم تحية لا سجود عبادة والعبادة لله والتحية لآدم، وقيل: هو قبلة السجود، قال: { فاخرج منها } ، قيل: من الجنة أو من السماء { فإنك رجيم } أي مرجوم أو ملعون، وقيل: مبعد من الخير { وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين } أي يوم الجزاء والحساب ويوم يبعثون ويوم الوقت المعلوم في معنى واحد { قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون } فلم يجب ذلك ونظر إلى آخر أيام التكليف { قال رب بما أغويتني } الباء للقسم، والمعنى أقسم باغوائك إياي { لأزينن لهم في الأرض } بالشهوات والأفعال القبيحة، وذلك أن إبليس أمر بالسجود وهو التواضع والخضوع لأمر الله، واختار الإباء والاستكبار فهلك، والله تعالى بريء من غيه ومن إرادته والرضى به، ونحو قوله: { بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض } وقوله: { فبعزتك لأغوينهم } { قال هذا صراط } ، قيل: طريق، وقيل: دين، وأراد بقوله: { علي } أي هذا طريق إلي أي إلى رحمتي وجنتي، قوله تعالى: { وإن جهنم لموعدهم } يعني موعد الغاوين { أجمعين } { لها سبعة أبواب } ، قيل: أبواب النار أطباقها وأدراكها فأعلاها للموحدين، والثاني لليهود، والثالث للنصارى، والرابع للصابئين، والخامس للمجوس، والسادس للمشركين، والسابع للمنافقين، وعن ابن عباس: أن جهنم لمن ادعى الربوبية، ولظى لعبدة النار، والحطمة لعبدة الأصنام، وسقر لليهود، والسعير للنصارى، والجحيم للصابئين، والهاوية للموحدين، وقيل: هي سبعة منازل، وقيل: سبع موارد، وقيل: سبعة أبواب بعضها على بعض، وروي: أنها طباق بعضها فوق بعض، وعن علي (عليه السلام): " أولها جهنم، والثاني لظى، والثالث الحطمة، والرابع السعير، والخامس سقر، والسادس الجحيم، والسابع الهاوية " { لكل باب منهم جزء مقسوم } ، قيل: نصيب معروف، وقيل: جزاء الله جهنم فقسمها بينهم { إن المتقين } من يتقي الشر والكبائر والفواحش { في جنات وعيون } { ادخلوها بسلام آمنين } من كل ما يكره { ونزعنا ما في صدورهم من غل } في الجنة والغل الحقد { لا يمسهم فيها نصب } النصب التعب، أي لا ينالهم فيها نصب، وقيل: حزن { نبئ عبادي } أي أخبرهم { أني أنا الغفور الرحيم } لمن تاب وتقرب إلى بالطاعات واجتنب الكبائر.
[15.51-77]
{ ونبئهم } أي أخبرهم { عن ضيف ابراهيم } وهم الملائكة الذين دخلوا عليه وسماهم ضيفا وان لم يأكلوا لأنهم جاؤوا مجيء الأضياف، وقد تقدم هذا الكلام في سورة هود، وكذلك أيضا خبر قوم لوط، وقوله: { قال انا منكم وجلون } خائفون { قالوا لا توجل } لا تخف { إنا نبشرك بغلام عليم } بأن يولد لك ويكون عالما { قال ابراهيم أبشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون } كيف تبشرون، وقيل: عجب من ذلك لكبره وكبر امرأته { قالوا بشرناك بالحق } بالولد إنه كائن لا محالة { فلا تكن من القانطين } الآيسين من رحمة الله، ولم يكن فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) قنوطا { قال } ابراهيم { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } { قال فما خطبكم } أي ما شأنكم وما الأمر الذي له أرسلتم { قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } مفرطين في المعاصي فأخبروه بإهلاكهم { إلا آل لوط } أهله واتباعه { إنا لمنجوهم أجمعين } قوله تعالى: { إلا امرأته } يعني امرأة لوط كانت كافرة { قدرنا } ، قيل: علمنا وكتبنا { إنها لمن الغابرين } أي من الباقين بالعذاب بكفرهم { فلما جاء آل لوط المرسلون } يعني الملائكة لما خرجوا من عند ابراهيم أتوا لوطا مبشرين بهلاك قومه { قال إنكم قوم منكرون } أي لا أعرفكم لأنه رآهم في صور حسنة { قالوا } يعني الملائكة { بل جئناك بما كانوا فيه يمترون } يعني العذاب الذي كانوا يشكون فيه { فأسر بأهلك بقطع من الليل } بقطعة، وقيل: وقت السحر { واتبع أدبارهم ولا يلتفت منكم أحد } ، قيل: لا يتخلف أحد عن السير، وقيل: لا ينظرون وراءهم فيلحقهم رعب { وامضوا حيث تؤمرون } ، قيل: إلى الشام، وقيل: إلى مصر { وقضينا } أعلمنا وأوحينا { اليه } إلى لوط { ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } أي كائن ذلك عند الصباح { وجاء أهل المدينة } أي قوم لوط أي جماعة منهم والمدينة سدوم وهو أنهم جاوؤا إلى لوط مستبشرين يظهرون السرور، وقيل: بشر بعضهم بعضا لما رأوا من حسن صورهم فقال لهم لوط: { إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون } بالاقدام على ما يكون عارا علي { واتقوا الله ولا تخزون } والخزي والعار والعتب نظائر والإخزاء والإهانة نظائر، فأجابوا لوطا { وقالوا أو لم ننهك عن العالمين } فلما قالوا ذلك لم يجد بما يمنع أضيافه ف { قال هؤلاء بناتي } يعني إن لم تشفعوني بأضيافي فهؤلاء بناتي إن كان لكم رغبة في التزويج، وكان يجوز تزويج الكفار، وقيل: بناتي أشار إلى قومه، لأن كل أمة أولاد نبيها رجالهم بنوه ونساؤهم بناته، فكأنه قال لهم: هؤلاء بناتي فانكحوهن { إن كنتم فاعلين } شك في قبولهم لقوله كأنه قال: إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم فاعلين، وقيل: إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم { لعمرك } قالت الملائكة للوط (عليه السلام): { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } أي في غوايتهم التي أذهبت عقولهم يعمهون يتحيرون، وقيل: الخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحد قط كرامة له { فأخذتهم الصيحة } صاح بهم جبريل { مشرقين } داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس أي حين أشرقت الشمس { فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل } ، قيل: من طين، وقيل: هو من السجل { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } المتوسم الناظر في السمة وهي العلامة، والعلامة الدلالة، وهذا راجع إلى قصة قوم لوط وضيف ابراهيم، وقوله: المتوسمين المتفكرين ، يعني تفكروا فيعلموا أنه قادر على ما شاء وعلى إهلاكهم كما أهلك من قبلهم، وقيل: المتوسمين المتفرسين المستملين { وانها } وإن هذه القرية يعني أثارها { لبسبيل مقيم } أي بطريق واضح معلوم لمن شاهد فسمع الأخبار، وقيل: تلك الآيات معلومة قائمة، وقد روي أن دور قوم لوط بين المدينة والشام { إن في ذلك لآية } لعبرة { للمؤمنين }.
[15.78-89]
{ وإن كان أصحاب الأيكة } قوم شعيب، أرسل شعيب (عليه السلام) إلى مدين وأصحاب الأيكة فعذبوا قوله تعالى: { وإنهما } يعني قوم لوط والأيكة، وقيل: الأيكة ومدين { لبإمام مبين } لها طريق واضح { ولقد كذب أصحاب الحجر } ثمود، والحجر واديهم، وهو بين المدينة والشام { المرسلين } يعني تكذيبهم صالحا، لأن من كذب واحدا منهم فكأنما كذبهم جميعا، وأراد صالحا ومن معه من المؤمنين { وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين } وذلك لطول أملهم اتخذوا منازل في الجبال لئلا تنهدم آمنين من أن تقع عليهم، وقيل: آمنين من عذاب الله { فأخذتهم الصيحة مصبحين } أي عند الصبح { وإن الساعة لآتية } لا خلف فيها { فاصفح الصفح الجميل } ، قيل: الآية منسوخة بآية القتال، قال القاضي: لا نسخ، والصفح ممدوح سائر الحالات فهو العلم والتواضع { ولقد آتيناك سبعا من المثاني } ، قيل: هي سبع آيات وهي الفاتحة، وقيل: سبع سور وهي الطوال والانفال وبراءة في حكم سورة واحدة، وقيل: أراد السبع الحواميم، وسميت المثاني جميع القرآن لقوله متشابها مثاني، قال في الغرائب: المثاني معا في القرآن وهي سبعة: أمر ونهي وتبشير وانذار وضرب أمثال وتعديد نعم وأنباء قرون { والقرآن العظيم } وروي أن من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ليس منا من لم يتغن بالقرآن "
وقيل: جاءت سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البر والطيب وسائر الأمتعة فقال المسلمون: لو كانت هذه الأنزال لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله فقال لهم عز وعلا: لقد أعطيتم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع، يعني سورة الحمد { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم } أراد لا تنظر إلى ما في أيديهم من النعم فما أنعم عليك وعلى من تبعك وهي النبوة والإسلام والقرآن والفتوح وغير ذلك، أزواجا أصنافا، وقيل: الأزواج والأمثال والأشباه، وقيل: أمثالا في النعم { واخفض جناحك للمؤمنين } هو توسع أي ألن جنابك للمؤمنين وتواضع لهم وارفق بهم { وقل إني أنا النذير المبين } المخوف بالعقاب.
[15.90-99]
{ كما أنزلنا على المقتسمين } ، قيل: أنزلت في أهل الكتاب إذ آمنوا ببعض وهو الذي وافقهم وكفروا ببعض، وقيل: نزلت في أهل مكة تفرقوا على طريق مكة يصدوهم عن الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه ساحر وكاهن مجنون فأنزل الله بهم عذابا { الذين جعلوا القرآن عضين } أي عضوه أعضاء وأجزاء فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، وقيل: نسبوه إلى الكذب وهو جمع عضه، وقيل: قرعوه وقسموه بأن قالوا هو سحر، ومنهم من قال: شعر، ومنهم من قال: أساطير الأولين { فاصدع بما تؤمر } فاجهر به وأظهره، وقيل: فافرق بين الحق والباطل، والمعنى بما تؤمر به من الشرائع، قال أبو طالب:
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة
وأبشر وقر بذاك منك عيونا
{ إنا كفيناك المستهزئين } ، قيل: هم خمسة نفر: الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن الطلاطلة، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، عن ابن عباس: ماتوا كلهم قبل بدر، قال جبريل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أمرت أن أكفيكهم، فأومى إلى ساق الوليد، فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظما لأخذه فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات، وأومى إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة، فقال: لدغت، وانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمى، وأشار إلى أنف الحارث فامتخط قيحا فمات، وأتى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في ظل شجرة، فجعل ينطح رأسه بالشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات، قال في الغرائب: جعل يضرب رأسه بالشجرة وهو يقول: يا غلام أدركني، فقام الغلام: ما أرى أحدا يضرب رأسك إنما أنت تضربه، ولا يزال يضربه حتى مات، وقيل: المراد به جميع مشركي العرب وقوله: { الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون } تهديد لهم، قوله تعالى: { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون } من أقاويل الطاعنين فيك وفي القرآن { فسبح بحمد ربك } يعني نزه الله وعظمه باضافة النعم اليه، وداوم على عبادة ربك { وكن من الساجدين } ، قيل: المتواضعين، وقيل: الساجدين المطيعين { حتى يأتيك اليقين } أي الموت ما دمت حيا، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا حدث به أمر فزع إلى الصلاة.
[16 - سورة النحل]
[16.1-8]
{ أتى أمر الله فلا تستعجلوه } أي جاء عقابه لمن أقام على التكذيب، وقيل: القيامة أو نزول العذاب يوم بدر وكانوا يستعجلون ما وعدوا من قيام الساعة استهزاء وتكذيبا فقيل لهم: { أتى أمر الله } أي هو بمنزلة الآتي الواقع وإن كان منتظرا لقرب وقوعه { فلا تستعجلوه } وروي أنها لما نزلت اقتربت الساعة، قال الكفار فيما بينهم: إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن، فلما تأخرت قالوا: ما نرى شيئا، فنزلت: { اقترب للناس حسابهم } فأشفقوا وانتظروا قربها، فلما امتدت الأيام قالو: يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به، فنزلت: { أتى أمر الله } فوثب رسول الله ورفع الناس رؤوسهم فنزل { فلا تستعجلوه } فاطمأنوا { ينزل الملائكة بالروح } ، قيل: القرآن، وسمي روحا لأنه حياة النفس بالإرشاد إلى الدين { أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا } اعلموا بأن الأمر ذلك، والمعنى اعلموا الناس قولي { لا إلا إلا أنا فاتقون } { خلق السموات والأرض بالحق } وخلق الانسان وما يصلحه { والأنعام خلقها لكم } ، قيل: البقر والإبل والغنم { فيها دفء } للناس، وقيل: الدفء ما يستدفأ به من أشعارها وأوبارها { ومنافع } يعني سائر ما ينتفع به من اللبن والركوب والنسل وغير ذلك { ولكم فيها } أي في الأنعام { جمال } أي حسن منظر، وقيل: الجمال ما يستحسن بعضه { حين تريحون } أي تروحو لها بالعشي وذلك أعجب ما يكون إذا راحت من مرعاها { وحين تسرحون } أي حين ترسلونها إلى المرعى { وتحمل أثقالكم } أي أمتعتكم إلى بلد غير بلدكم، قيل: مكة، وقيل: سائر البلدان { لم تكونوا بالغيه } أي تصلون اليه إذا أردتم المصير إليه، وحملتم على ظهوركم { إلا بشق الأنفس } ويجوز أن يكون المعنى { لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس إن ربكم لرؤوف رحيم } حيث رحمكم بخلق هذه الحوامل { والخيل والبغال والحمير } عطف على الأنعام، أي خلق هذه للركوب والزينة { ويخلق ما لا تعلمون } ، قيل: في الجنة من النعم لأهلها، وفي النار من العقوبات لأهلها، وقيل: هو عام في كل شيء خلق ولا نعلمه.
[16.9-16]
قوله تعالى: { وعلى الله قصد السبيل } أي عليه بيان قصد السبيل، عن ابن عباس: أي بيان الهدى من الضلال، قال جابر: أراد بيان الشرائع والفرائض، وقيل: بيان الذي كلف الخلق، وقيل: على الله بيان سبيل الجنة فمتى بينه ولم يعمل به فقد أتى من جهة نفسه { ومنها } الكناية ترجع إلى السبيل { جائر } ، قيل: من السبيل ما هو جائر أي عادل عن الخلق، جائر عن طريق الهدى، والجائر اليهودية وأنواع الكفر، وقصد السبيل الإسلام، وقيل: الجائر البدع والأهواء { ولو شاء لهداكم أجمعين } ، قيل: بالانجاء إلى الهدى، وقيل: هو بمعنى القدرة { هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه } فيه { شراب } أي ماء شراب، وقيل: هو شراب { فيه تسيمون } أي ترعون أنعامكم وترسلونها في المراعي { ينبت لكم } أي لأجلكم { به } أي بالماء الذي ينزل من السماء { الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات ان في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } في الدلائل { وسخر لكم الليل والنهار } أي ذلك لمنافعكم { والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات } لحجج { لقوم يعقلون } { وما ذرأ لكم } أي خلق لكم { في الأرض } سوى ما تقدم ذكره من أنواع النبات، وأجناس الحبوب كالدواب والسباع والطير، وقيل: المراد المعادن وسائر النعم { مختلفا ألوانه } أجناسه { إن في ذلك لآيات لقوم يذكرون } { وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا } يعني السمك { وتستخرجوا منه حلية } هو اللؤلؤ والمرجان { تلبسونها } المراد بلبسهم لبس نسائهم لأنهن من جملتهن { وترى الفلك مواخر فيه } أي تشق الماء بحيزومها، وقيل: قواطع لحاجتها، وقيل: جواري { ولتبتغوا من فضله } أي لتطلبوا من رزقه تركبون البحر طلبا للتجارة والمنافع { ولعلكم تشكرون } على هذه النعم { وألقى في الأرض رواسي } أي جبالا ثوابت { أن تميد بكم } أي لئلا تميد بكم { وأنهارا وسبلا } أي جعل فيها طرقا مختلفة { لعلكم تهتدون } أي لكي تهتدون { وعلامات } أي معالم تعلم بها الطرق، وقيل: هي الجبال، وقيل: الجبال علامات النهار، والنجوم علامات الليل، قال قتادة: خلق الله النجوم زينة للسماء ومعالم للناس ورجوما للشياطين.
[16.17-25]
{ أفمن يخلق } يعني الله سبحانه في استحقاق العبادة والإلهية { كمن لا يخلق } يعني الأصنام جماد لا تخلق شيئا ولا تنفع ولا تضر { وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها } أي لا يمكنكم إحصاءها من كثرتها { إن الله لغفور رحيم } بكم حيث وسع النعم عليكم { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } قوله تعالى: { والذين تدعون } من دونه يعني الأصنام تدعونها إلها { لا يخلقون شيئا } أي لا يقدرون على خلق شيء لا ينفع ولا يضر { وهم يخلقون } لأنهم محدثون فلا بد لهم من محدث صانع { أموات غير أحياء } يعني هذه الأصنام حكم الأموات { وما يشعرون أيان يبعثون } أي وما يعلم هؤلاء متى يبعثون، وقيل: أراد بالذين يعبدون الملائكة وكان ناس منهم يعبدونهم كأنهم أموات لا بد لهم من الموت غير أحياء باقية حياتهم ما يشعرون، ولا علم لهم بوقت بعثهم { إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة } لوحدانيته { وهم مستكبرون عنها } وعن الاقرار بها { لا جرم } حقا { إن الله يعلم } سرهم وعلانيتهم فيجازيهم وهو وعيد لهم { إنه لا يحب المستكبرين } ، قيل: أراد المستكبرين عن التوحيد يعني المشركين ويجوز أن يعم كل مستكبر { وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين } الآية، قيل: نزلت في المشركين الذين اقتسموا عقاب مكة من قريش سألهم الوفود على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعما أنزل إليه فقالوا: أساطير الأولين { ليحملوا أوزارهم } أي ذنوب أنفسهم الذين يفعلونها والمراد عقاب الذنوب التي تلزم على الأفعال { كاملة } أي تامة { ومن أوزار الذين يضلونهم } أي يصدونهم عن الإيمان يعني يلزمهم عقاب اضلالهم، وهو ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أيما داع دعا إلى هذا فله مثل أجر من يتبعه ولا ينقص من أجورهم شيئا وكذلك من دعا إلى الضلالة فإن عليه مثل أوزار من تبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا "
بغير علم يعني لا يعلمون الحق وإنما يتبع التقليد والهوى { ألا ساء ما يزرون } أي بئس الحمل حملهم.
[16.26-35]
{ قد مكر الذين من قبلهم } يعني قبل قومك يا محمد { فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم } الآية نزلت في النمرود بن كنعان، وقيل: في بخت نصر، وقيل: هو عام وقوله تعالى: { فأتى الله بنيانهم من القواعد } قيل: الأساس، وهذا تمثيل، بمعنى انهم سووا منصوبات ليمكروا بها الله ورسوله، فجعل الله هلاكهم في تلك المنصوبات، فخر عليهم السقف وهلكوا ونحوه " من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا " وقيل: أن النمرود بن كنعان بنى الصرح بناء محكما، ورام الصعود إلى السماء، وكان طوله خمسة آلاف ذراع، فهبت الريح فخر عليهم فهلكوا { وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم ويقول أين شركائي الذين كنتم تشآقون فيهم } تعادون وتخاصمون المؤمنين { قال الذين أوتوا العلم } هم الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يدعونهم إلى الايمان ويعطونهم فلا يقبلون { ان الله عليم بما كنتم تعملون } ، وقيل: هو من كلام الله لهم فهو يجازيكم عليه، وهو أيضا من الشماتة، وكذلك قوله تعالى: { فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين } { وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا } الآية نزلت في أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم مخبرا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيدخل مكة فيرى أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسألهم عنه فيخبرونه بصدقه أنه نبي مبعوث فنزلت الآية. واختلفوا في قوله: { ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا } ، قيل: القرآن والإسلام وسائر الأحكام، وقيل: هو قوله: { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } ، وقيل: هذا كلام المتقين إلى قوله: { طيبين } ، وقيل: إلى قوله: { قالوا خيرا } ثم ما بعده من كلام الله تعالى، والمعنى للذين أحسنوا في طاعة الله في هذه الدنيا حسنة ثواب وإحسان، قيل: هو ما يستحقه من التعظيم والمدح، وقيل: لما أحسنوا أحسن الله إليهم بالتوفيق والالطاف { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين } نزلت في صهيب وبلال وخباب وسلمان وعمار قيل: طيبين بأعمالهم، وقيل: مؤمنين، وقيل: زاكية طيبة أفعالهم وأموالهم { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة } الآية نزلت في أهل مكة تأتيهم الملائكة لقبض الأرواح، وأمر ربك العذاب المستأصل { كذلك فعل الذين من قبلهم } مثل ذلك الفعل الشرك والتكذيب فعل الذين من قبلهم { وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } إلا أنهم فعلوا ما استوجبوا به العذاب { فأصابهم سيئات ما عملوا } جزاء سيئات أعمالهم { وحاق بهم } أي نزل بهم من عقوبات الله الذي { كانوا به يستهزئون } { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } وذلك أنهم نسبوا أفعالهم إلى الله تعالى وقالوا: لو شاء لم نفعل، وهذا مذهب الجبرية بعينه { كذلك فعل الذين من قبلهم } أي أشركوا وحرموا حلال الله مثل ما حرموا السائبة والبحيرة وغيرهما { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } أي ليس عليهم إلا أداء الرسالة، وإظهار الدلالة، وبيان الشرائع، وهذا رد لقولهم: { لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء } فأقام الحجة على بطلان مذهبهم.
[16.36-44]
{ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله } أي وحدوه وأطيعوه { واجتنبوا الطاغوت } الشيطان، وقيل: ما عبد من دون الله، وقيل: شياطين الانس والجن { فمنهم } من تلك الأمم { من هدى الله } أي من اهتدى بهداي أوجبت له الجنة، وقيل: فمنهم من هدى الله إلى جنته وثوابه وهم المؤمنون، وقيل: من هدى الله أي لطف به لأنه عرف أنه من أهل اللطف { ومنهم من حقت عليه الضلالة } أي وجبت عليه وهو الهلاك كقوله: { ان المجرمين في ضلال وسعر } ، وقيل: منهم من استحق الضلالة بكفره وتكذيبه { فسيروا في الأرض } خطاب لهذه الأمة { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } ممن تقدم فكذبوا الرسل فأهلكهم الله { إن تحرص على هداهم } يعني على الإسلام وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) حريصا على إيمانهم { فإن الله لا يهدي من يضل } قرأ بفتح الياء الكوفيون، قيل: من حكم بضلالته لا يحكم بهدايته أحد، وقيل: لا يطلف به، وقيل: لا يثيب ولا يهدي إلى الجنة وأما إذا قرئ بضم الياء وفتح الدال وهي أيضا قراءة نافع ومن تبعه، فقيل: من يهلكه الله لم ينجيه أحد، وقيل: من أضله من طريق الجنة لا يهديه أحد { وما لهم من ناصرين } يرفع العذاب عنهم { وأقسموا بالله } أي حلفوا به { جهد أيمانهم } أي مجتهدين { لا يبعث الله من يموت } أي لا يحييهم بعد الموت، ولا يقيمهم من قبورهم للجزاء والحساب { بلى } هو من كلام الله تعالى { وعدا عليه حقا } وعده وأوجبه { ولكن أكثر الناس لايعلمون } أنهم مبعوثون { ليبين لهم } لهؤلاء المشركين الذين أقسموا بالله { لا يبعث الله } ، وقيل: { ليبين لهم الذي يختلفون فيه } جميع الذي اختلفوا فيه من أمور دينهم، وليميز لهم الحق من الباطل { وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } { إنما قولنا لشيء إذا أردناه } يعني إذا أردنا إيجاده { ان نقول له كن فيكون } لسرعته ووجوده كما شاء، فإذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائه { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة } الآية نزلت في المعذبين بمكة مثل صهيب وخباب وعمار وغيرهم لمكنهم الله بالمدينة، وروي أن صهيبا قال: لي مال كثير فخذوه ودعوني وديني، فقالوا: قبلنا، وقيل: نزلت في جميع أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم فبوأهم الله بالمدينة بعد ذلك جعل لهم بها أنصارا لنبوئنهم في الدنيا حسنة أي ننزلهم في الدنيا منزلا كريما { ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي اليهم } الآية نزلت في مشركي مكة لما أنكروا نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالوا: الله أعظم من أن يبعث بشرا هلا بعث ملكا { فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون } ، قيل: أهل العلم بأخبار من مضى من الأمم، وقيل: هم مؤمنوا أهل الكتاب، وقيل: هم أهل القرآن { بالبينات } أي بالمعجزات { والزبر } أي الكتب يعني أعطيناهم الكتب، وقيل: أراد بالبينات حجج العقول { وأنزلنا اليك الذكر } أي القرآن والأحكام { لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون }.
[16.45-55]
قوله تعالى: { أفأمن الذين مكروا السيئات } وهم أهل مكة كفروا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: هم الذين دبروا التدابير السيئة في أمور الدين وإطفاء نوره { أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون } أي لا يعلمون كيف جاءهم وكيف أخذهم { أو يأخذهم في تقلبهم } ، قيل: في تصرفهم في التجارات والأسفار ليلا ونهارا { فما هم بمعجزين } أي لا يسبقون الله فيعجزونه من عذابهم { أو يأخذهم على تخوف } من أن ينزل بهم ما نزل بغيرهم، وهو من الخوف بأن يهلك قرية ولا يهلك الأخرى، فخاف هؤلاء أن يصيبهم ما أصاب أولئك { أولم يروا إلى ما خلق الله } أولم يرى هؤلاء الماكرون إلى قدرة الله تعالى إلى ما خلق الله { من شيء } أي أجسام قائمة ذات ظلال { يتفيؤا ظلاله } يتحول من موضع إلى موضع بدوران الشمس { عن اليمين والشمائل } يعني في أول النهار وآخره { سجدا لله } أي خاضعا له بما فيها من الدلالة إلى حاجته إلى صانع ومدبر، قال أما ظلك فيسجد لله وأما أنت فلا تسجد لله، بئس والله ما صنعت { وهم داخرون } صاغرون، والاجرام في أنفسها صاغرة منقادة لأفعال الله فيها لا تمتنع عليها { ولله يسجد } يخضع حتى يصير كيف شاء لا يمتنع على تصرفه شيء { ما في السماوات وما في الأرض من دابة } كل حيوان يدب، فخضوع المؤمن اعترافه بالله وعبادته، وخضوع الكافر اعتقاده في الجملة إذ له مقدر، وخضوع ما لا يعقل هو ما يدل عليه على خلقه وآثار صنعته وأنه يصرفه كيف شاء { والملائكة } أي يسجدوا الملائكة طوعا، وأفردهم بالذكر تشريفا، والمراد بسجود المكلفين طاعتهم وعبادتهم، وسجود غيرهم انقيادهم لإرادة الله وإنها غير ممتنعة، وكلا السجود يجمعها معنى الانقياد { يخافون ربهم } يعني يخافون عذاب الله تعالى { من فوقهم } بالقهر والقدرة والعلو { ويفعلون ما يؤمرون } صفة للملائكة { وقال الله تعالى لا تتخذوا إلهين اثنين } ، قيل: لا تصفوا الله لا تجعلوا العباد لاثنين، وقيل: لا تقولوا للعالم صانعان إلهان { إنما هو اله واحد } هو الخالق والمنعم { فإياي فارهبون } أي خافوا عذابي { وله ما في السماوات والأرض } خلقا وملكا { وله الدين واصبا } ، قيل: الطاعة دائما، وقيل: له الجزاء الشديد، وقيل: له الدين واجبا { أفغير الله تتقون } { وما بكم من نعمة فمن الله } في الدين والدنيا فمن الله { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } يعني فما تضرعون إلا إليه، والجؤار رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة { ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون ليكفروا بما آتيناهم } بما أعطيناهم من القرآن، وقيل: ليجحدون نعمة الله فيما أعطاهم { فتمتعوا } في دنياهم بما شاؤوا من غير تفكر في العاقبة { فسوف تعلمون } بما نزل بهم من عذاب الله.
[16.56-62]
{ ويجعلون لما لا يعلمون } يعني هؤلاء المشركين، قيل: بصرف الكناية إلى المشركين لا يعلمون، وقيل: تعود إلى الأصنام، ومعنى لا علم لها أنهم سموها آلهة، ويعتقدون فيها أنها تضر وتنفع وتشفع عند الله، وهي جماد لا تضر ولا تنفع، وقيل: الضمير في لا يعلمون للآلهة أي لأشياء غير موصوفة بالعلم ولا يشعروه اجعلوا لها { نصيبا } في أنعامهم وزروعهم أم لا، وكانوا يجعلون ذلك لهم تقربا إليهم { تالله لتسألن عما كنتم تفترون } وعيد لهم، يعني تفترون من الإفك في زعمكم أنها آلهة، قوله تعالى: { ويجعلون لله البنات } كانت خزاعة وكنانة يقولون الملائكة بنات الله { سبحانه } تنزيها لذاته { ولهم ما يشتهون } يعني النبيين { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم } مملو حنقا على المرأة { يتوارى من القوم من سوء ما بشر به } يستخفي منهم من أجل سوء المبشر به، ومن أجل تعييرهم، وينظر الممسك ما بشر به { أيمسكه على هون } على هوان وذل { أم يدسه في التراب } ويخفيه، والذي فعل ذلك مضر، وكنانة، وخزاعة، وتميما، كانوا يدفنون البنات خوف الفقر { ألا ساء ما يحكمون } في دفن البنات { للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء } ، قيل: النار، وقيل: صفة الجهل والكفر { ولله المثل الأعلى } مثل الصفات العلى والأسماء الحسنى { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم } أي لو يعجل عقوبتهم على ظلمهم وكفرهم { ما ترك عليها } على الأرض { من دآبة } أي من حيوان يدب، فإن قيل: هذا الظالم يستحق العقوبة بظلمه فما بال سائر الحيوانات يؤاخذوا؟ قالوا: عذابا للظالم، ومحبة لغير الظالم، هو كالأمراض النازلة بالمؤمنين، وعن أبي هريرة أنه سمع رجلا يقول: أن الظالم لا يضر إلا نفسه، فقال: بلى والله، حتى الحبارى تموت في كورها بظلم الظالم، وذلك أن شؤم ظلمهم يمسك المطر، ويضيق الرزق، فيؤدي إلى هلاك الحيوان، وقيل: ما ترك على ظهرها من دابة من أهل الظلم والشرك { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } وقت معلوم وهو الموت { فإذا جاء أجلهم } وقت الموعد { لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } { ويجعلون لله ما يكرهون } لأنفسهم من البنات، وقيل: يضيفون اليه ما يكرهون إضافته، وقيل: يضيفونه بأن له ولد { وتصف ألسنتهم الكذب } يعني يكذبون فيما يقولون { أن لهم الحسنى } ، قيل: الجنة في الآخرة إن كان محمد صادقا في البعث، وقيل لهم: من الله المنزلة الحسنة وقيل لهم: الصفات الجميلة { لا جرم } وعيد مقطوع به معناه حقا لهم النار، وقيل: بل { إن لهم النار } ، وقيل: لا بد ولا محالة { وانهم مفرطون } مقدمون إلى النار معجلون اليها من أفرط فلانا ومن قرأ بالكسر والتخفيف من أفرط بالمعاصي والتشديد من التفريط في الطاعة وما يلزمهم.
[16.63-69]
{ فهو وليهم اليوم } حكاية الحالة الماضية الذي كان يزين لهم الشيطان أعمالهم { وما أنزلنا عليك الكتاب } يعني القرآن { إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه } من الدين والأحكام والمختلفون هم أهل الملل والأهواء وهدى لمن اهتدى به إلى الجنة { ورحمة } والرحمة ثوابا ومغفرة { لقوم يؤمنون } يصدقون { والله أنزل من السماء ماء فأحيى به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } سماع انصاف وتدبير، لأن من لم يسمع بقلبه فكأنه أصم لم يسمع، قوله تعالى: { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم } قرئ بفتح النون وضمها { من بين فرث ودم لبنا خالصا } أي خلق الله اللبن وصد بين الفرث والدم وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كله، قيل: إذا أكلت البهيمة واستقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما، والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة، بجري الدم في العروق، واللبن في الضرع، ويبقي الفرث في الكرش، فسبحان الله العظيم ما أعظم قدرته { سائغا } سهل المرور في الحلق، ويقال: لم يغظ أحد باللبن قط { ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا } ، قيل: السكر ما حرم الله من الشراب كالخمر، والحسن ما أحل منه كالرب والخل والتمر والزبيب، والخمر حرام قلم يبق إلا المطبوخ { وأوحى ربك إلى النحل } ألهمها بالقذف في قلوبها وتعليمها على وجه هو أعلم { أن اتخذي من الجبال بيوتا } أي مساكن { ومن الشجر ومما يعرشون } ما يبتنون، وقيل: ما يثبتون للنحل من الجبال والشجر والبيوت، والضمير في يعرشون للناس { ثم كلي من كل الثمرات } يعني كل ثمرة تشتهيها { فاسلكي سبل ربك ذللا } أي الطرق التي أفهمك وألهمك في عمل العسل، وقيل: إذا أكلت الثمرات في المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكي إلى بيوتك راجعة سبل ربك { يخرج من بطونها شراب } هو العسل تلقيها من فيها وعن علي (عليه السلام): " العسل وصيم الذباب " ، فعلى هذا تلقيه من أسفلها { مختلف ألوانه } أبيض وأصفر وأحمر، وقيل: الأبيض من العسل تلقيه الشباب، والأصفر تلقيه الكهول، والأحمر تلقيه الشيب منها { فيه شفاء للناس } وعن عبد الله بن مسعود: " العسل شفاء من كل شيء والقرآن شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل "..
[16.70-74]
{ والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } أي أحسنه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة، وقيل: سبعون سنة { لكيلا يعلم بعد علم شيئا } ليصير إلى حال يشبهه بحال الطفولية في النسيان وأن يعلم شيئا شيئا، ثم يسرع في نسيانه، فلا يعلم إن سئل عنه، وقيل: لئلا يعقل بعد عقله { والله فضل بعضكم على بعض في الرزق } فرزقهم أكثر مما رزق مماليكهم، وهم بشر مثلكم، وإخوانكم، فكان ينبغي أن تردوا فضل ما رزقتموه عليهم، حتى تساووا في الملبس والمطعم، كما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" هم اخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون "
{ أفبنعمة الله يجحدون } فجعل ذلك من جملة مجرد النعمة، وقيل: هو مثل ضربه الله للذين جعلوا له شركاء فقال لهم: ساوون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم، ولاتجعلوا له فيه شرك، ولا ترضون ذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء، وقيل: المعنى أن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعا { فهم فيه } في رزقي { سواء } فلا تحسب الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عبيدهم شيئا من الرزق فإنما ذلك رزقي أجريه اليهم على أيديهم { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } جمع حافد وهوالذي يحفد أي يسرع في الطاعة والخدمة قيل: هم أولاد الأولاد، وقيل: أولاد المرأة من الزوج الأول، وقيل: هم الاختان وهم أزواج البنات، قوله تعالى: { ويعبدون من دون الله } يعني الأوثان { ما لا يملك لهم رزقا } أي لا يقدر عليه { من السماوات والأرض شيئا } يعني من السماء المطر ومن الأرض النبات والأشجار، وقيل: لا يزيد في رزقهم ولا ينقص { ولا يستطيعون } دفع ضرر عن أنفسهم فإذا كان هذا حاله فكيف تعبدوه وتتخذوه إلها؟ { فلا تضربوا لله الأمثال } أيظهر الحق فلا تجعلوا لله أشباه فإنه لا مثل له ولا شبيه { إن الله يعلم } ، قيل: وعيد لهم يعلم ما عليكم من المضرة في غيره { وأنتم لا تعلمون } ، وقيل: هو يعلم خطأ ما أنتم عليه.
[16.75-81]
{ ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا } ، قيل: العبد يريد به الدين وسمي عبدا لأنه لعبد، وقيل: المراد بالعبد الحي المملوك وعليه أكثر المفسرين، ثم اختلفوا قيل: هو مثل ضربه الله للمؤمنين والكافرين، فأما الكافر فرزقه الله مالا فلم يعمل خيرا ولم يقدم طاعة { ومن رزقناه منا رزقا حسنا } فهو المؤمن رزقه الله فيكتسب الخير ويقدم الطاعة، وقيل: مثل ضربه الله لعبادة الأوثان التي لا تملك شيئا والعدل عن عبادة الله الذي يملك كل شيء وأنتم لا تعلمون، ثم علمتم كيف يضرب الأمثال فقال: مثلكم في إشراككم بالله الأوثان، مثل ما سواء بين مملوك عاجز عن التصرف من مالك قد رزقه الله مالا { فهو ينفق منه } كيف شاء فقال تعالى: { وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء } الآية نزلت في عثمان بن مظعون ومولى له كان ينفق عليه، وكان مولاه يكره الاسلام وينهاه عن الصدقة، وقيل: الأبكم أبي بن خلف، ومن يأمر بالعدل حمزة بن عبد المطلب، وعثمان بن مظعون قال في الغرائب: نزلت الآية في أبي بكر وأبي جهل { الحمد لله } أي الحمد لله على الكمال { بل أكثرهم لا يعلمون } فيجعلون الحمد لغيره، والأبكم هو الذي لا يقدر على الكلام وهو { كل على مولاه } أي ثقل { أينما يوجهه } حيث ما يرسله ويصرفه في طلب حاجة { لا يأت بخير هل يستوي هو ومن } هو سليم أي لا يستوي وذلك أنه { يأمر } الناس { بالعدل وهو } في نفسه { على صراط مستقيم } يعني كما لا يستوي بين الرجلين لا يستوي بين الله وبين الأصنام لا يستوي بين من يعبد الله ومن لا يعبده، قيل: نزل قوله: { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب } في الكفار الذين استعجلوا الفتنة { لعلكم تشكرون } بنعمته عليكم { ألم يروا إلى الطير } قرئ بالتاء، والياء { مسخرات في جو السماء } مذللات للطيران بما خلق الله لها من أجنحة، والجو الهوى المتباعد من الأرض { ما يمسكهن } في قبضهن وبسطهن { إلا الله } وقدرته، قوله تعالى : { والله جعل لكم من بيوتكم سكنا } أي مساكنا تسكنوها من الحجر والمدر وغير ذلك { وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا } يعني الخيام والقباب والأدم ومن الشعر والوبر للسفر والحضر { يوم ظعنكم } رحلكم وسفركم { ويوم إقامتكم } في بلادكم أي يوم تنزلون وتقيمون { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها } الصوف للضأن والابل والشعر للماعز { أثاثا } ، قيل: مالا، وقيل: متاعا، وقيل: الأثاث المال من الإبل والغنم والعبيد، وقيل: هو متاع البيت من الفرش والأكسية ونحوها { ومتاعا } أي بلاغا تنتفعون بها { إلى حين } إلى مدة، قيل: إلى الموت، يعني أن الانتفاع في الدنيا يكون إلى مدة ولا تدوم، فينبغي للعاقل أن يختار الآخرة، وقيل: إلى حين إلى أن تقوم الساعة { والله جعل لكم مما خلق ظلالا } أي أشياء تستظلون بها من الحر وشدته من الأشجار والأبنية { وجعل لكم من الجبال أكنانا } أي مواضع لتسكنوا فيها { وجعل لكم سرابيل } هي القمصان والثياب من الصوف والكتان والقطن وغيره { تقيكم الحر } والبرد وغيرهما { وسرابيل تقيكم بأسكم } يعني أسلحة تقيكم في الحرب مثل الدروع وما أشبه ذلك { كذلك يتم نعمته عليكم } أي بمثل هذه الأشياء تعظم النعمة { لعلكم تسلمون } أي لتدخلوا في الإسلام إذا تفكرتم في هذه الدلائل.
[16.82-89]
{ فإن تولوا } أعرضوا عن إجابتك { فإنما عليك البلاغ المبين } وقوله: { يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها } بعبادة غيره وإضافتها إلى ما سواه جهلا وتقليدا، وقيل: ينكرون تقليدا، وقيل: يعرفون محمدا وهو من نعم الله عليهم ثم ينكرونه بتكذيبه ويجحدوه، وقيل: ما عدد عليهم من النعم في هذه السورة، فينكرون ذلك ويزعمون أنها كانت لآبائهم ورثوها عنهم { ويوم نبعث } يعني يوم القيامة { من كل أمة شهيدا } عليهم من أنفسهم قيل: هم الرسل، وقيل: عدول المؤمنين { ثم لا يؤذن للذين كفروا } ، قيل: لا يؤذن لهم في الاعتذار، وقيل: لا يسمع الاعتذار { ولا هم يستعتبون } ولا هم يسترضون، أي لا يقال لهم ارضوا ربكم لأن الآخرة ليست بدار عمل، يعني أنهم بعد شهادة الأنبياء (عليهم السلام) يمنعون الكلام في القاء المعذرة { وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم } يعني الذين أشركوا في العبادة وغيره، وقيل: وصفوا بالشريك كالنثوية وعبادة الأوثان وقوله: { شركاءهم } ، قيل: أوثانهم التي يعبدوها وجعلوها شركاء في العبادة { قالوا } يعني العباد { ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول } يعني الأوثان وقد أحياهم الله وأنطقهم، وقالوا لهؤلاء المشركون: إنكم لكاذبون في قولكم بأنا دعوناكم إلى العبادة وألقوا إلى الله يومئذ { السلم } استسلموا لله تعالى بأنه الإله المستحق للعبادة { وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي يكذبون أنها تشفع لهم، قوله تعالى: { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } عن دينه وشرائعه وأحكامه { زدناهم عذابا فوق العذاب } يعني عذاب كفرهم وعذاب صدهم، والمراد به الرؤساء والقادة ونظيره
وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم
[العنكبوت: 13] وقيل: أراد تضعيف العذاب عليهم { ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم } ، قيل: برسلهم، وقيل: المؤمنين من كل أمة، وقيل: أراد بالشهداء هاهنا جوارحهم { وجئنا بك } يا محمد { شهيدا على هؤلاء } الذين بعثت اليهم، وقيل: على الأنبياء بأنهم بلغوا { ونزلنا عليك الكتاب } يعني القرآن { تبيانا لكل شيء } أي ليبين به كل شيء يحتاجون اليه من أمر دينهم { وهدى ورحمة وبشرى } وبشارة للمسلمين.
[16.90-97]
{ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى } أراد الإحسان بالأموال والأخلاق الحسنة والإرشاد والسعي الجميل، وقيل: العدل بالتوحيد، والإحسان أداء الفرائض، وقيل: العدل في معاملة غيرك، والإحسان إلى نفسك فلا تلقيها في العذاب، وإيتاء ذي القربى إعطاء ذي القربى حقهم بصلة رحمهم { وينهى عن الفحشاء } كل قبيح { والمنكر } ما ينكر الشرع { والبغي } الظلم والمكر، وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية على الوليد فقال: يابن أخي أعد، فأعاد، فقال: إن له لحلاوة وأن عليه لطلاوة، وأن أعلاه لمثمر وأن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، فقال عثمان بن مظعون: فأخبرت أبا طالب فقال: يا معشر العرب اتبعوا ابن أخي ترشدوا وتفلحوا { وأوفوا بعهد الله } هي البيعة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الاسلام، وقيل: هو الإيمان، وقيل: هو ما يلزم فعله { ولا تنقضوا الأيمان } أي لا تحنثوا فيها لما في الحنث من هتك الحرمة { بعد توكيدها } بعد تشديدها { وقد جعلتم الله عليكم كفيلا } قيل: شهيدا على الوفاء بذلك { إن الله يعلم ما تفعلون } { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا } أنقاضا قيل: هي ريطة بنت سعيد وكانت خرقاء، اتخذت مغزلا قدر ذراع، وصنارة قدر أصبع، وفلكة عظيمة على قدرها، وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر، ثم تأمرهن فينقض ما غزلن، يعني لا تكونوا في نقض الايمان كالمرأة التي اتخذت على غزلها بعد أن أحكمته وأبرمته فجعلته أنكاثا { تتخذون أيمانكم } يعني ولا تنقضوا ايمانكم فتتخذونها { دخلا بينكم } أي مفسدة ودغلا { أن تكون أمة هي أربى من أمة } أي تكون جماعة أكثر من جماعة عدد فتحلفون معهم وتنقضون الأيمان، وقيل: لا تنقضوا الأيمان إذا رأيتم عدد الأعداء أكثر كما فعلته قريظة حالفوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونقضوا عهده { إنما يبلوكم الله به } أي يختبركم بالوفاء بالعهد، معناه يعاملكم معاملة المختبر ليقع الجزاء بالعمل { وليبينن لكم يوم القيامة } أي يخبركم بحقيقة { ما كنتم فيه تختلفون } { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } حنيفية مسلمة على طريقة الالجاء والاضطرار، وهو قادر على ذلك، يعني فتصيرون على مذهب واحد لا تختلفون في شيء { ولكن يضل من يشاء } ، قيل: يعاقب من يشاء، وقيل: يخذل من علم أنه يختار الكفر { ويهدي من يشاء } وهو أن يلطف بمن علم أنه يختار الايمان { ولتسألن عما كنتم تعملون } { ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم } يعني لا تتخذوا الإيمان مكرا وخديعة وفسادا لأنهم يسكنون إلى ذلك { فتزل قدم بعد ثبوتها } فتهلكوا بعد ما كنتم آمنين، فثبوت القدم عبارة عن الأمن وزوالها عن الهلاك، وقيل: هي كناية عن الإحباط { وتذوقوا السوء } أي العذاب { بما صددتم } بصدكم وإعراضكم { ولا تشتروا بعهد الله } ، قيل: عهده لما أمر به من التناصر والتعاون والعمل بطاعته، أي لا تأخذوا على ذلك شيئا من دينكم، وقيل: لا تنقضوا عهودكم التي تعاهدون تبتغون بنقضها ثمنا قليلا من مال وغيره { إنما عند الله هو خير لكم } يعني ما يعطيكم الله مما أعد لكم على الوفاء بالعهد خير لكم من حطام تجمعونه { إن كنتم تعلمون } أن الآخرة خير والله أعلم { من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن } ، قيل: العمل الصالح الطاعات والايمان { فلنحيينه حياة طيبة } ، قيل: الرزق الحلال، وقيل: القناعة والرضا عن الله في العسر واليسر، وقيل: الجنة والثواب الدائم، وقيل: حياة طيبة في القبر، وعن ابن عباس: الحياة الطيبة الرزق، وقيل: الحياة الطيبة الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الله تعالى.
[16.98-105]
{ فإذا قرأت القرآن } ، قيل: أردت قراءة القرآن { فاستعذ بالله } أي اطلب الملجأ إلى الله والفزع إليه { من الشيطان الرجيم } ، قيل: اللعين المبعد من الرحمة، وقيل: المرمى بالشهب { إنه ليس له سلطان } يعني طريق يتسلط بها { على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } { إنما سلطانه } ، قيل: قوته وحجته { على الذين يتولونه } أي يتولون الشياطين باتباعهم واتباع آثارهم { والذين هم به مشركون } ، قيل: الذين هم بالله مشركون، وقيل: به كناية عن الشيطان يعني الذين هم بالشيطان مشركون فيما يدعو إليه من عبادة الأوثان { وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل } الآية نزلت في المشركين حين قالوا: أن محمدا يسخر بأصحابه يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا ما هو يقوله إلا من تلقائه فنزلت الآية، وإذا بدلنا آية مكان آية يعني نسخنا حكم آية أخرى لما في النسخ من المصلحة، وقيل: إذا نسخنا آية فرفعنا تلاوتها وحكمها بآية، وقيل: هي الشريعة التي كانت معمولا بها في أهل الكتب المتقدمة { بل أكثرهم لا يعلمون } أن الله أعلم بالمصالح { قل } يا محمد { نزله } يعني القرآن وتبدل الآيات { روح القدس } جبريل { ليثبت الذين آمنوا } أي يكون لطفا لهم { وهدى وبشرى للمسلمين } { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر } أرادوا بالبشر غلاما كان لخاطب قد أسلم وحسن إسلامه إسمه عائش أو يعيش وكان صاحب كتب، وقيل: عبد اجبر وشار كانا يصنعان السيوف بمكة، ويقرآن التوراة والإنجيل، فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا مر وقف عليهما يسمع ما يقرآن، فقالوا: يعلمانه، فقيل لأحدهما: تعلمانه؟ قال: بل هو يعلمني، وقيل: بل هو سلمان الفارسي { لسان } اللسان اللغة { الذي يلحدون اليه } ويقال: اللحد القبر، ولحده وهو ملحود وملحد إذا مال حفره عن الاستقامة، ثم استعير لكل من مال عن الاستقامة، يقال: ألحد فلان في قوله، وألحد في دينه، ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها، والمعنى لسان الرجل الذي يميلون قولهم عن الاستقامة اليه لسان { أعجمي } عربي { وهذا لسان عربي مبين } { إن الذين لا يؤمنون بآيات الله } أي يعلم الله منهم أنهم لا يؤمنون، قوله تعالى: { لا يهديهم الله } لا يلطف بهم لأنهم من أهل المعاصي في الدنيا والعذاب في الآخرة { إنما يفتري الكذب } ردا لقولهم { إنما أنت مفتر } يعني إنما يليق افتراء الكذب بمن لا يؤمن { وأولئك } إشارة إلى قريش، وقيل: { هم الكاذبون } على الحقيقة.
[16.106-112]
{ من كفر بالله من بعد إيمانه } أي من ارتد عن دين الله بعدما قبله، وقيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره من كفر بالله { ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله } ثم استثنى فقال: { إلا من أكره } على الكفر بلسانه { وقلبه مطمئن بالإيمان } يعني ساكن القلب اليه، وروي أنها نزلت الآية في ناس من أهل مكة ثبتوا فارتدوا عن الاسلام بعد دخولهم فيه، وكان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه وهو معتقد الايمان، فيهم عمار بن ياسر وصهيب وبلال وخباب وسالم، فأما عمار وأبواه ياسر وسميه فقتلا وأما صهيب وبلال وخباب وسالم فعذبوا، وقيل: أن سمية ربطت بين بعيرين ووجئ في قلبها بحربة وقالوا: إنك أسلمت من أجل الرجال فقتلت، وقيل: ياسر، وهما أول قتيلين في الاسلام، وأما عمار فقد أعطاهم ما أراد بلسانه منكرها في قلبه،
" فقيل: يا رسول الله إن عمارا كفر؟ فقال: " كلا إن عمارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الايمان بلحمه ودمه " فأتى عمار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يبكي فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح عينيه: " وقال مالك ان عادوا لك فعد لهم بمثل ما قلت "
{ أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون } قيل: جعلت عليها ملائكة ليعرفوهم فتلعنهم، وقيل: شبههم بالأصم والأعمى وأنهم بالغفلة صاروا كالمطبوع على قلوبهم { لا جرم } ، قيل: حقا أن لهم النار { ثم ان ربك للذين هاجروا } وهم عمار وأصحابه، ومعنى إن ربك لهم لا عليهم بمعنى أنه وليهم وناصرهم { من بعد ما فتنوا } بالعذاب والاكراه على الكفر قيل: نزلت الآية في عباس بن ربيعة أخي أبي جهل من الرضاعة { يوم تأتي كل نفس } يعني يوم القيامة { تجادل } تخاصم { عن نفسها } وتحتج { وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون } { وضرب الله مثلا قرية آمنة } ، قيل: مكة حين أخرجوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، وقيل: كانت قرية في الأمم الماضية على هذه الصفة { يأتيها رزقها رغدا } واسعا { من كل مكان } يعني يحمل اليها من البر والبحر { فكفرت } بتكذيب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو من النعم، وقيل: كفرت { بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } ذكر اللباس لأنه يظهر عليهم، وروي أنه بلغ بهم القحط إلى أن أكلوا العلهن، وقيل: الجوع منعوا المطر، وروي أنهم أقاموا بالجوع سبع سنين، والخوف من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والسرايا من المسلمين إليهم، روي أنهم كلموا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:
" هذه الرجال عادت فما بال النساء والصبيان؟ "
فأذن للناس في حمل الميرة اليهم، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعل عليهم كسني يوسف "
وقيل: ضرب بمكة مثلا لغيره من البلاد.
[16.113-119]
قوله تعالى: { ولقد جاءهم رسول منهم } أي جاء أهل تلك القرية التي تقدم ذكرها، وكانت في الأمم الماضية رسل { فكذبوه فأخذهم العذاب } يعني عذاب الاستئصال، وقيل: المراد مكة جاءهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والعذاب ما نالهم من القتل يوم بدر، وقيل: ما نالهم من القحط والجوع بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { فكلوا مما رزقكم } ، قيل: خطاب لأهل، وقيل: عام، قال الحاكم: وهو الوجه لأن المعتبر بمطلق اللفظ مما رزقكم أعطاكم { حلالا طيبا } والطيب ما اكتسبه من وجوهه { فمن اضطر غير باغ ولا عاد } زائد على الشبع ولا عاد في أكله، وقيل: غير باغ على إمام ولا عاد في معصية { فإن الله غفور رحيم } { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب } أي لا تقولوا على الكذب وذكر اللسان لأنه يتكلم: أي لما تقول ألسنتكم من الكذب { هذا حلال وهذا حرام } ، قيل: أراد البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وقيل: بل حرموا جميع وحللوا بخلاف أمر الله { لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب } أي يكذبون على الله في إضافة التحريم اليه { لا يفلحون } لا ينجون من عذاب الله ولا ينالون خيرا { متاع قليل } يعني الذين هم فيه من الدنيا شيء قليل ينتفعون { ولهم } في الآخرة { عذاب أليم } موجع { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } يعني ما نزل في سورة الأنعام قوله:
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر وما ظلمناهم
[الأنعام: 146] بتحريم ذلك { ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا } الآية نزلت في قوم أسلموا فقبل الله منهم توبتهم { للذين عملوا السوء بجهالة } السيئات وغلبت الشهوات عليه والمعاصي { ثم تابوا من بعد ذلك } أي ندموا على ما فعلوا { وأصلحوا } الأعمال بالتوبة، وقيل: أصلحوا ما بينهم وبين الله.
[16.120-124]
{ إن إبراهيم كان أمة } ، فيه وجهان: أحدهما أنه كان وحده أمة من الأمم الكاملة في صفات الخير، والثاني أن يكون أمة بمعنى مأموم أي يؤمه الناس ليأخذوا منه الخير، ولأنه انفرد في دهره بالتوحيد وكان مؤمنا وحده والناس كفارا وسمي أمة { قانتا } القانت القائم لجميع ما أمر الله به، وروى الشعبي عن ابن مسعود (رضي الله عنه): أن معاذا كان أمة قانتا، فقيل له: غلطت إنما هو ابراهيم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: الأمة الذي يعلم الناس الخير، والقانت المطيع لله ورسوله، وكان معاذ كذلك، وعن عمر (رضي الله عنه) أنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن عبيدة أمين هذه الأمة ومعاذ قانت أمه ليس بينه وبين الله يوم القيامة إلا المرسلين { حنيفا } مستقيما على دين الإسلام { ولم يكن من المشركين } قوله تعالى: { شاكرا لأنعمه } ربه { اجتباه } اختاره الله واصطفاه { وهداه إلى صراط مستقيم } { وآتيناه في الدنيا حسنة } ، قيل: الرسالة والنبوة، وقيل: إجابة دعوته جعل النبوة في ذريته { ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم } أي دينه وهو الإسلام { حنيفا } مستقيما على الدين { وما كان من المشركين } والحنيف المائل الى ملة الإسلام، وقوله: { شاكرا لأنعمه } روي أن ابراهيم الخليل كان لا يتغذى إلا مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخر غذاءه، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أن بهم جذام، فقال: الآن وجبت مواكلتكم شكرا لله على أنه عافاني وأبلاكم { إنما جعل السبت } يعني إنما جعل وبال السبت وهو المسخ { على الذين اختلفوا فيه } لأنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة، روي أن داوود (عليه السلام) أمرهم أن يجعلوا في الأسبوع يوما للعبادة وأن يكون يوم الجمعة، فأبوا عليه وقالوا: نريد اليوم الذي فرغ فيه من خلق السماوات والأرض وهو السبت، إلا شرذمة منهم فرضوا بالجمعة، فهذا اختلافهم في السبت لأن بعضهم اختاره وبعضهم اختاروا عليه الجمعة، فأذن الله لهم بالسبت فابتلاهم بتحريم الصيد فيه، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك { وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة } فيجازي كل واحد من الفريقين بما يستوجبه، ومعنى جعل السبت: فرض الله تعظيمه وترك الاصطياد فيه، وقيل: اختلفت اليهود في السبت وحرم فيه الصيد بعضهم.
[16.125-128]
{ ادع إلى سبيل ربك } إلى الاسلام { بالحكمة } المقالة المحكمة الصحيحة وهي الدليل الواضح إلى الحق المزيل للشبهة { والموعظة الحسنة } وهي التي لا تخفى عليهم إنك تناصحهم، وقيل: أراد القرآن أي ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة { وجادلهم بالتي هي أحسن } بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } فلا يخفى عليه شيء { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } روي أن المشركين مثلوا بالمسلمين يوم أحد، فروا بطونهم وقطعوا مذاكيرهم ما تركوا أحدا غير مثلوا به إلا حنظلة بن الراهب، فوقف رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على حمزة وقد مثلوا به فقال:
" أما والذي أحلف به لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك "
فنزلت الآية فكفر عن يمينه وكف عما أراده، ولا خلاف في تحريم المثلة وقد وردت الأخبار بالنهي عنها حتى الكلب العقور { واصبر } أنت يا محمد { وما صبرك إلا بالله } أي توفيقه وتثبته وربطه على قلبه { ولا تحزن عليهم } أي على الكافرين كقوله: { فلا تأس على القوم الكافرين } { ولا تك في ضيق مما يمكرون } وقرئ بكسر الضاد أي لا يضيق صدرك من مكرهم { إن الله مع الذين اتقوا } أي ولي الذين اجتنبوا المعاصي { و } ولي { الذين هم محسنون } في أعمالهم.
[17 - سورة الإسراء]
[17.1]
قال الله سبحانه: { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد } الآية، أسري به بعض الليل من مكة الى الشام مسيرة أربعين ليلة، واختلفوا في المكان الذي به أسري، فقيل: هو المسجد الحرام بعينه وهو الظاهر، وقيل: أسري به من دار أم هاني بنت أبي طالب، والمراد بالمسجد الحرام الحرم لاحاطته بالمسجد وعن ابن عباس: الحرم كله مسجد، وروي أنه أسري به بعد العشاء، وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" أتاني جبريل وانا بمكة، وقال: قم يا محمد، فقمت معه، وإذا بالبراق فوق الحمار ودون البغل، خده كخد الانسان، وذنبه كذنب البعير، وعرفه كعرف الفرس، وله جناحان، خطوه منتهى طرفه فقال: اركب، فركبت، ومضيت حتى انتهيت إلى بيت المقدس، وإذا ملائكة نزلت من السماء بالبشارة، وصليت في بيت المقدس، ثم صعد بي إلى السماء فرأيت عجائبا، ثم صعد بي جبريل إلى السماء الثانية فرأيت فيها عيسى ابن مريم، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فرأيت فيها يوسف، ثم صعد بي إلى الرابعة، ثم صعد بي إلى السابعة، فنظرت فيها خلقا وملائكة، ورأيت الجنة والنار وما فيها، ورأيت العرش، ورأيت سدرة المنتهى، ثم رجعت إلى مكة، فلما أصبحت حدثت الناس فكذبني، أبو جهل والمشركون، فقال: فأخبرنا عن عيرنا، فقال: مررت بها في التنعيم يقدمها جمل أورق، وتطلع عليكم عند طلوع الشمس "
وروي أنه ارتد جماعة ممن كان قد أسلم وسألوه عن صفة المسجد فوصفه لهم والتبس شيء فيه فرفع له حتى حكاه، وجلسوا ينتظرون مطلع الشمس فيكذبوه، فقال قائل: والله ان الشمس قد طلعت، وقال آخر: والله ان الإبل قد طلعت يقدمها بعير أورق لونه مثل لون الرمان، وجاءتهم وقت طلوع الشمس فلم يؤمنوا إلا أن قالوا: هذا سحر مبين، واختلفوا هل كان رؤيا أو في اليقظة، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة، قالوا: والوجه إنه لم يكن رؤيا إلا أنه أسري به وهو في اليقظة، السري والأسرى: الذهاب في الليل، تعليلا للوقوف، وقيل: ليلا دل على وسط الليل ذكره في الغرائب والعجائب أعني وسط الليل، وقوله: { الذي باركنا حوله } قيل: الثمار، وقيل: سمي مباركا لأنه مقر الأنبياء، وفيه مهبط الملائكة وفيه يحشر الناس يوم القيامة { لنريه من آياتنا } من عجائب حجتنا التي فيه { إنه هو السميع } لأقوال من صدقك أو كذبك { البصير } بصير بما في الضمائر.
[17.2-8]
{ وآتينا موسى الكتاب } يعني التوراة { ألا تتخذوا من دوني وكيلا } ، قيل: شريكا، وقيل: ربا { ذرية من حملنا مع نوح } أولاد من حملنا مع نوح وأنجيناهم من الطوفان في السفينة { إنه كان عبدا شكورا } وهو نوح (صلى الله عليه وآله وسلم) وكان إذا لبس ثوبا أو أكل طعاما أو شرب ماء حمد الله وشكره، وقيل: كان قائما بطاعة الله { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب } أي أخبرناهم في التوراة، وقيل: على لسان بعض الأنبياء، وقيل: فيما كتب في اللوح المحفوظ { لتفسدن في الأرض مرتين } ، قيل: بقتل الأنبياء وسفك الدماء وكثرة الفساد، وقيل: في الأول قتل زكريا، وفي الثاني قتل يحيى { ولتعلن علوا كبيرا } أي لتستكبرون ولتظلمون الناس ظلما كثيرا، وروي أنهم كانوا مؤمنين فأخبرهم أنهم يتغيرون { فإذا جاء وعد أولاهما } أولى المرتين التي يفسدون فيهما { بعثنا عليكم } ، قيل: أمرنا قوما مؤمنين يغزونكم، وقيل: خلينا بينكم وبينهم، والظاهر أنهم قوم مؤمنين أمروا بجهادهم لقوله: { بعثنا } ، وقوله: { عبادا لنا } ، وقيل: بخث نصر، وعن ابن عباس: جالوت قتلوا علماءهم وأحرقوا التوراة وأخربوا المسجد وسبوا منهم سبعون ألفا، فإن قيل: كيف جاز أن يبعث الله الكفرة ويسلطهم؟ قالوا: معناه خلينا بينهم وبين ما فعلوا { فجاسوا } والجوس: التخلل في الديار، وقيل: جاسوا وطئوا يقال: تركت فلانا يجوس بني فلان ويجوسهم ويدوسهم أي يطأهم، قال أبو عبيدة: كل موضع خالطته ووطئته فقد جسته و { خلال الديار } وسطها { وكان وعدا مفعولا } ، قيل: قضاء كائنا لا خلف فيه { ثم رددنا لكم } يا بني اسرائيل { الكرة } الرجعة { عليهم } لأنهم تابوا وندموا على ما سلف منهم من المعاصي وقتل الأنبياء فقبل الله توبتهم ونصرهم على أعدائهم { وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا } أكثر عددا وأكثر رجالا { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم } يعني أحسنتم التوحيد والعمل الصالح، أحسنتم لأنفسكم لها ثوابها واليها يعود نفعها { وإن أسأتم } العمل { فلها } قيل: الخطاب لبني اسرائيل، وقيل: الخطاب لأمة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) اعتراضا بين القصة { فإذا جاء وعد الآخرة } أي المرة الأخرى من إفسادكم بالقتل والظلم، وقيل: بقصدهم بقتل عيسى، وقيل: يحيى (عليه السلام)، واختلفوا فيمن جاءهم في هذه الواقعة قيل: الفرس والروم قتلوهم وسبوهم وأخذوهم بعد أن كانوا الملوك على الناس، وقيل: الذي غزا بني اسرائيل في المرة الأخرى ملوك فارس والروم وذلك لما قتلوا يحيى أتاهم ملوك الروم فقتل منهم مائة ألف وثمانين ألفا وخرب بيت المقدس، وقيل: جاءهم بخت نصر، وقيل: لم يزل دم يحيى بن زكريا حتى قتل منهم بخت نصر سبعين ألفا واثنين وسبعين ألفا ثم سكن الدم { ليسوءوا وجوهكم } إنما ذكر الوجه لأن معه يظهر السرور والحزن { وليدخلوا المسجد } بيت المقدس ونواحيه { كما دخلوه أول مرة } وإنما أضاف الدخول أول مرة إلى هؤلاء وإن كان بين الدخولين مدة عظيمة لأنهم كانوا في ذلك الوقت راضين بفعلهم، وقيل: يحتمل أن يكون القوم في الكرتين واحد والمدة بينهما قريبة فلا مانع { وليتبروا ما علوا } أي ليهلكوا وليدمروا ما علوا عليه من بلادهم { عسى ربكم } عسى من الله واجب { أن يرحمكم } يا بني اسرائيل { وإن عدتم } إلى المعصية { عدنا } إلى العقوبة، فعادوا فبعث الله عليهم محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون، وقيل: إن عدتم إلى التوبة عدنا إلى المغفرة { وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا } مجلسا، وقيل: مهادا، وعن الحسن: بساطا ينبسط كالحصير.
[17.9-17]
قوله تعالى: { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } أي إلى الطريقة التي هي أشد استقامة وذلك دين القيمة وهو دين الاسلام { ويبشر المؤمنين } يخبرهم بما يسرهم { ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان الانسان عجولا } يعني يدعو على نفسه وولده عند غضبه فيقول: اللهم العنه واغضب عليه كما يدعو بالخير بأن يوهب له النعم والأولاد، ولو استجاب الله دعاءه لأهلكهم، وقيل: أن يدعو الله بالشر عند غضبه على نفسه وأهله وماله كما يدعو لهم بالخير لقوله: { ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير } ، وقوله: { وكان الانسان عجولا } أسرع إلى طلب ما يكون في قلبه ويخطر بباله وهو النضر بن الحارث { وجعلنا الليل والنهار آيتين } يعني نور النهار وظلمة الليل، وقيل: الشمس آية النهار، والقمر آية الليل { فمحونا آية الليل } أي جعلناها لا تضيء كما تضيء الشمس لأنها مظلمة، وقيل: محو القمر السواد الذي فيه عن علي وابن عباس { وجعلنا آية النهار مبصرة } مضيئة { لتعلموا عدد السنين والحساب } أي لتعلموا التواريخ والسنين والأشهر والأيام والآجال، ولولا الليل والنهار لما علم شيئا من ذلك { وكل شيء فصلناه تفصيلا } بيناه تبيينا { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } عمله، يعني أن عمله لازم له { ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا } أي ينشر له ويعرض عليه حتى يقرأه جميعه ويعلم ما فيه، قال قتادة: يقرأ في ذلك اليوم من لا يقرأ { ولا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا يؤاخذ أحد بذنب غيره { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } ، قيل: أراد عذاب الاستئصال فإن عادة الله تعالى لا يعذب حتى يبعث رسولا { ففسقوا فيها فحق عليها القول } فتقديره إذا حكمنا بهلاك قرية أمرنا مترفيها على لسان الرسل بالطاعة فإذا فسقوا حق عليهم أي القول الذي أردناه بإهلاكهم، وقيل: أن في الآية تقديم وتأخير وتقديره إذا أمرنا مترفي قرية بالطاعة ففسقوا عن أمرنا وعصوا حق عليهم القول أردنا عند ذلك إهلاكهم فأهلكناهم، وقيل: أن جواب إذا محذوف وتقديره { إذا أردنا أن نهلك قرية } قد كنا أردنا { أمرنا مترفيها } بالطاعة { ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها } وأحللنا بهم ما نريده عن أبي مسلم، ومتى قيل: ما معنى المترفين ولم خصهم بالذكر؟ قالوا: معناه المتنعمين وخصهم بالذكر لأنهم الرؤساء وعليهم مدار الأمر وحكم للبلد ثابت ومن عداهم تبع لهم كفرعون وقومه فصار فسقه بفسقهم.
[17.18-25]
قوله تعالى: { من كان يريد العاجلة } الآية نزلت في قوم من المجاهدين طلبوا عاجل الدنيا وهو الغنائم دون ثواب الله، ومعناه من كان يريد العاجلة أي النعمة العاجلة وهي الدنيا { عجلنا له فيها ما نشاء } من البسط، فتعلق ذلك بمشيئته لا بمشيئة العبد فقد يشاء العبد ما لا يشاء الله تعالى { ثم جعلنا له جهنم } أي مأوى من يريد الدنيا { يصلاها مذموما } معيبا، يعني يذمه الله ويعيبه وكذلك الملائكة والمؤمنون { مدحورا } مطرودا مبعدا من رحمته { ومن أراد الآخرة } أي نعيمها وثوابها { وسعى لها سعيها } أي عمل للآخرة لأجل الثواب { فأولئك كان سعيهم مشكورا } عند الله { كلا نمد هؤلاء } يعني من تقدم ذكره ممن يريد العاجلة ويريد الآخرة نمد أي نعطي البر والفاجر من رزقه في الدنيا والآخرة المؤمنين خاصة { من عطاء ربك } أي نعمة { وما كان عطاء ربك محظورا } ، قيل: ممنوعا محبوسا من البر والفاجر { انظر } يا محمد أو أيها السامع { كيف فضلنا بعضهم على بعض } ، قيل: في الرزق باغناء بعضهم وافقار آخرين، وأصح قوم وأسقم قوم آخرين { وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا } { لا تجعل مع الله الها آخر فتقعد مذموما مخذولا } يذمك الله وملائكته والعلماء، مخذولا لا ناصر لك { وقضى ربك } أمر، وقيل: ألزم وأوجب { ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } أو بأن تحسنوا بالوالدين إحسانا { إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف } أراد تأكيد الأمر بالإحسان اليهما، وفي أف ثلاث قراءات بكسر الفاء من غير تنوين، وقرأ أبو عمرو وحمزة بفتح الفاء من غير تنوين، ابن كثير الفاء والتنوين، نافع لا يؤخرهما { وقل لهما قولا كريما } حسنا جميلا، ويدل عليه أن الدعاء لهما مندوب كما قال: { وقل رب ارحمهما } وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" رضا الله في رضا الوالدين وسخطه في سخطهما ".
" وشكا رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن أباه يأخذ ماله، فدعا به فإذا بشيخ يتوكأ على عصا فسأله فقال: إنه كان ضعيفا وأنا قوي وفقيرا وأنا غني فكنت لا أمنعه شيئا من مالي واليوم أنا ضعيف وهو قوي وفقير وهو غني ويبخل علي بماله، فبكى (عليه السلام) وقال: " ما من حجر ولا مدر سمع هذا إلا بكى " ثم قال للولد: " أنت وما لك لأبيك "
وشكا اليه آخر سوء خلق أمه فقال:
" لم تكن سيئة الخلق حين حملتك لم تكن كذلك حين أرضعتك "
وروي:
" يفعل العاق ما شاء أن يفعل فلن يدخل الجنة "
وعنه (عليه السلام):
" إياكم وعقوق الوالدين فإن الجنة يوجد ريحها من مسير ألف عام ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم ولا شيخ زان "
{ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } المراد بالجناح الجناب أي لين لهما جناحك { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } ، قوله: { ربكم أعلم بما في نفوسكم } بما في ضمائركم، قوله تعالى: { إن تكونوا صالحين } قاصدين الانصلاح والبر ثم فرطت منكم في حال الغضب { فإنه كان للأوابين غفورا } الذين يتوبون مرة بعد مرة، وروي أنه قال: كلما أذنبت بادرت بالتوبة وهم الذين يصلون بين المغرب والعشاء.
[17.26-33]
{ وآت ذا القربى حقه } يعني أقارب الانسان من صلة رحمه، وقيل: أراد قرابة الرسول، وقيل: أراد أيها الانسان أو أيها السامع وهو ما يجب في القرابة من النفقة وصلة الرحم { والمسكين } هو الفقير الذي لا شيء له { وابن السبيل } المنقطع عن ماله { ولا تبذر تبذيرا } قال مجاهد: لو انفق مدا في باطل كان مبذرا، ولو أنفق جميع ماله في حق ما كان مبذرا، وقيل: إنفاق المال في غير حقه { إن المبذرين } المسرفين المنفقين أموالهم في المعاصي { كانوا إخوان الشياطين } ، قيل: إنهم إخوانهم باتباعهم على آثارهم، وقيل: يقرن بينهم وبين الشياطين في النار { وكان الشيطان لربه كفورا } { وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها } الآية نزلت في بلال وصهيب وسالم وخباب، وكانوا يسألون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يحتاجون اليه ولم يجد شيئا فيعرض عنهم حياء، وروي أنه كان يسكت فلما نزلت الآية كان يقول:
" يرزقنا الله وإياكم "
، وهو قول ميسور، وعن جابر قال:
" بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قاعدا ذات يوم إذ جاء صبي فقال: يا رسول الله ان أمي تستكسيك درعا، ولم يكن عنده غير قميصه الذي هو لابسه فقال للصبي: " من ساعة إلى ساعة نظر " فقعد فعاد إلى أمه، فقالت أمه: اذهب وقل له، فعاد إليه فدفعه إليه، وأذن بلال للصلاة وانتظر ولم يخرج، فدخل إليه بعضهم فرآه عريانا "
، فنزل قوله: { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } ، وقوله: { ابتغاء رحمة من ربك } يعني انتظار رزق يأتيك من ربك، قيل: هو الغنيمة، وقيل: سائر ما يرجو الله تعالى { فقل لهم قولا ميسورا } أي اصرفهم بقول لين، ومعنى { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } هذا كناية عن قبض اليد عن الانفاق، وتقديره لا تمسك يدك من النفقة كالمشدود يده إلى عنقه { ولا تبسطها كل البسط } أي لا تنفق جميع ما عندك وتذر نفسك وعيالك { فتقعد ملوما محسورا } المحسور الذي داخله الحسرة، وقيل: منقطعا بك لا شيء عندك { إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي يوسع ويضيق بحسب المصلحة ويوسع مرة ويضيق أخرى { إنه كان بعباده خبيرا بصيرا } { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } خوف فقر عن ابن عباس فكانوا يأدون البنات فيدفنوهن أحياء، والآية نزلت في الجاهلية، وقيل: مخافة العار { نحن نرزقهم وإياكم } يعني هو المتكفل برزقهم ورزقكم، وقوله: { خطئا كبيرا } الخطء والخطاء لغتان، وقيل: الكسر ما كان عمدا والفتح ما كان خطأ سهوا، يعني إثما كبيرا { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة } أي معصية عظيمة قبيحة { وساء سبيلا } أي بئس الطريق الزنا { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما } بغير حق { فقد جعلنا لوليه سلطانا } ولي من يرث امرأة كانت أو رجلا { فلا يسرف في القتل } والاسراف هو أن يقتل وليه غير قاتله، وكانوا يتعدون إلى غير القاتل من الحميم والقريب، وقيل: لا يقتل اثنين بواحد { إنه كان منصورا } ، قيل: الكناية ترجع إلى الولي، يعني أن الولي كان منصورا.
[17.34-44]
قوله تعالى: { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } يعني حفظه { حتى يبلغ أشده } مجمع عقله وزوال اسم اليتيم عنه، وقيل: ثماني عشرة سنة { وأوفوا بالعهد } ، قيل: بالوصية بمال اليتيم وبغيرها من الوصايا، وقيل: كلما أمر الله تعالى به ونهى عنه فهو من العهد { وأوفوا الكيل إذا كلتم } يعني أوفوا الكيل إذا كلتم { وزنوا بالقسطاس المستقيم } ، قيل: هو الميزان، وقيل: الوزن بالقسطاس وإتمام الكيل { ولا تقف ما ليس لك به علم } ، قيل: لا تقول سمعت ولم تسمع ورأيت ولم ترى، وقيل: هو شهادة الزور { إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا } قوله تعالى: { ولا تمش في الأرض مرحا } ، قيل: بطرا عن علي، وقيل: خيلا وكبر { إنك لن تخرق الأرض } من تحت قدمك { ولن تبلغ الجبال طولا } بتطاولك { كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها } يعني كل ذلك، كناية عن جميع ما تقدم من الحسنات والمقبحات من قوله تعالى:
وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه
[الإسراء: 23] إلى ها هنا، فكأنه قال: جميع ذلك عبارة عما كان من المقبحات، كأنه قال: كل سيئه فهو مكروه عند الله تعالى أي كل ما عددنا من السيئات فهو مكروه، قال جار الله: فإن قلت: على قراءة من قرأ سيئه مثل ذلك { ولا تجعل مع الله إلها آخر } يعني لا تعبد معه غيره { فتلقى } أي إذا فعلت ذلك أيها المكلف ألقيت { في نار جهنم ملوما } يعني يلومك الله والملائكة والمؤمنون، وقيل: اللوم اللعن والذم عن أبي علي { مدحورا } مطرودا، عن ابن عباس { أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا } الآية نزلت في مشركي العرب ومشركي قريش قالوا: الملائكة بنات الله، يعني أفخصكم ربكم بأفضل الأولاد وهم البنون، وقيل: أخلص لكم البنين وجعل البنات بينكم وبينه شركة { إنكم لتقولون قولا عظيما } أي كبيرا في الاثم { ولقد صرفنا في هذا القرآن } يعني كررنا الدلائل وفصلنا العبر والأمثال { ليذكروا وما يزيدهم إلا نفورا } يعني لا يزيدهم القرآن والتذكير إلا نفورا، ذهابا عن الحق وتباعدا عنه { قل لو كان معه آلهة كما يقولون } ، قل: يا محمد لهؤلاء المشركين، وقيل: أيها السامع أو الانسان فإنه يجب على كل مكلف أن يحتج عليهم بذلك لو كان معه آلهة أي مع الله كما تقولون { إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } فطلبوا إلى منزلة الملك والربوبية سبيلا بالمغالبة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض كقوله:
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا
[الأنبياء: 22]، وقيل: سبيلا بقربهم اليه لعلوه عليهم وعظمته عندهم والتمسوا الزلفة عندهم { سبحانه } أي تنزيها له { وتعالى عما يقولون علوا كبيرا } قوله تعالى: { تسبح له السماوات السبع } بلسان الحال حيث يدل على الصانع وعلى قدرته وحكمته فكأنها تنطق بذلك، وكأنها تنزهه تعالى بما لا يجوز عليه من الشرك وغيرها { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } أي لا يعلمون ذلك لأنكم لا تفكرون فيها، وإنما الخطاب للمشركين وكانوا إذا سألوا عن خالق السماوات والأرض قالوا: الله ، إلا أنهم جعلوا معه آلهة مع إقرارهم، فكانوا لم ينظروا ولم يقروا، لأن نتيجة النظر الصحيح والإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه، قال في الغرائب والعجائب في قوله: { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } ، فقيل: من الأحياء، وقيل: عام حتى صرير الباب ورعد السحاب، قال فيه أيضا: تسبحه حمل غيره على التسبيح إذا تأمل فيه وتدبر فيه، قال فيه أيضا: { ولكن لا تفقهون تسبيحهم } لأنها بغير لسانكم أو لأنها تتكلم في بعض الحالات دون بعض.
[17.45-52]
{ وإذا قرأت القرآن } يا محمد { جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا } ، قيل: معناهم عند قراءتك، وجعلنا بينك وبينهم حجابا مستورا يعني ساترا، وقيل: عن العيون، وقيل: هو ذم لهم وتشبيه أي كان بينك وبينهم حجابا، وقيل: جعلنا بينك وبين مشركي قريش حجابا مانعا أن ينالوك { وجعلنا على قلوبهم أكنة } غطاء { أن يفقهوه } فيعلموه، يعني جعلنا بالحكم أنهم بهذه المنزلة { وفي آذانهم وقرا } أي ثقلا للقرآن { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا } أي أعرضوا عنك مدبرين فارين { نحن أعلم بما يستمعون به } وعد لهم وتسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعني هؤلاء يسمعون ويتناجون دونك ونحن أعلم بهم { إذ يستمعون إليك } إلى قراءتك القرآن { وإذ هم نجوى } وتناجيهم أن بعضهم قال: هو مجنون، وبعضهم قال: ساحر، وبعضهم قال: كاهن، وبعضهم قال: أساطير الأولين { انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا } بهذا القول عن الحق بأن قالوا: ساحر، وقالوا: مجنون، وقالوا: كاهن { فلا يستطيعون سبيلا } أي لا يجدون حيلة وطريقا في تكذيبك إلى البهت، وقيل: ضلوا عما طلبوا في بطلان أمره فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا { وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا } نزلت في مشركي قريش في إنكارهم البعث، الرفات هو ما تكسر وبلي من كل شيء، وقيل: ترابا، وقيل: غبارا { قل } يا محمد لهم { كونوا حجارة أو حديدا } وهذا ليس أمرا ولا إباحة ولكن معناه لو كنتم حجارة أو حديدا في الشدة، لم يفت الله وسيحييكم من بعد الموت كما أنشأكم أول مرة { أو خلقا مما يكبر في صدوركم } ، قيل: أي شيء استعظمتموه في الخلق ويكبر في صدوركم، وقيل: السماوات والأرض والجبال، وعن ابن عباس: هو الموت وهو أكبر الأشياء، قال الثعلبي: البعث { فسيقولون من يعيدنا } بعد الموت { قل } يا محمد { الذي فطركم أول مرة } ، قوله تعالى: { فسينغضون إليك رؤوسهم } فسيحركونها تعجبا واستهزاء { قل } يا محمد { عسى أن يكون قريبا }: عسى من الله واجب، والمعنى أن يكون قريبا في حكم الله { يوم يدعوكم } أي من قبوركم، وقيل: هو النداء بالخروج إلى أرض المحشر { فتستجيبون } أي تجيبون مضطرين صاغرين { بحمده } أي حامدين الله على نعمه، وقيل: تحمدونه حيث لا ينفعكم الحمد، قال جار الله: والدعاء والاستجابة كلاهما مجاز والمعنى يوم يبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمتنعوا، وقوله: { بحمده } حال منهم أي حامدين وهي مبالغة في انقيادهم للبعث { وتظنون إن لبثتم إلا قليلا } في الدنيا والقبر وإنما هو تقرير الوقت كما قال الحسن: كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل، وقيل: إن لبثتم إلا قليلا بطول لبثكم في الآخرة.
[17.53-59]
{ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } ، قيل: الأحسن ما أمر الله من توحيده وإجابة رسوله، وقيل: هي كلمة الأحسن وإظهار الشهادة، وقيل: هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر { إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا } بين عدوانه { ربكم أعلم بكم } أي بأعمالكم وضمائركم فيجازيكم بها { ان يشأ يرحمكم } بالتوبة { أو إن يشأ يعذبكم } ، وقيل: أراد به أنه المالك للعذاب والرحمة { وما أرسلناك عليهم وكيلا } يعني حفيظا على أعمالهم، وقيل: ربا موكلا إليك أمورهم تقسرهم على الاسلام وتجبرهم عليه، وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا { وربك أعلم بمن في السماوات والأرض }: وبأحوالهم { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } أشار إلى تفضيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقوله: { وآتينا داوود زبورا } دلالة على تفضيله وهو أنه خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم لأن ذلك مذكور في زبور داوود، قال تعالى: { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } هم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمته، وروي أن زبور داوود مائة وخمس سور ليس فيها حكم ولا فرض بل نبأ ووعظ { قل } يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله { ادعوا الذين زعمتم من دونه } ، قيل: أراد الملائكة والمسيح وعزير، وقيل: أراد الأصنام { فلا يملكون كشف الضر عنكم } لأنها لا تملك نفعا ولا ضرا { ولا تحويلا } إلى غيركم، قيل: هو ما أصابهم من القحط سبع سنين، وقيل: هو عام في كل ضر { أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة } أي يطلبون القربة إلى الله تعالى بفعل الطاعات { أيهم أقرب } أي لتظهر أيهم أفضل { ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا } إن حقه أن يحذر منه لصعوبته { وإن من قرية إلا نحن مهلكوها } يعني بموت أهلها وانقراضهم، وقيل: أراد أهل قرية بإهلاكهم كقوله:
واسأل القرية التي كنا فيها
[يوسف: 82]، قيل: هذه الآية عامة في جميع القراء، والله يميت أهلها ويعذبهم عقوبة، وقيل: أما الصالحة بالموت وأما الطالحة بالعذاب، وقيل: مهلكوها بالموت { أو معذبوها } بعذاب الاستئصال عقوبة، قوله تعالى: { كان ذلك في الكتاب مسطورا } مكتوبا في اللوح المحفوظ، وقيل: الكتاب الذي كتب للملائكة من أخبار عباده، وقيل: فيما أنزل من الكتب { وما منعنا أن نرسل بالآيات } المنقوحة بالمعنى لا نرسلها { إلا تخويفا } من نزول العذاب العاجل كالطليعة والمقدمة، فإن لم يخافوا وقع عليهم، وإن أرادوا غيرها فالمعنى وما نرسل من الآيات كآيات القرآن { إلا أن كذب بها الأولون } إلا تخويفا وإنذار بعذاب الآخرة، وقيل: أراد بالآيات التي سألتها قريش من تحويل الصفا ذهبا وغيرها، لأنا لو أرسلنا ثم كذبوا أهلكناهم، وقيل: لأنه علم أن فيهم من يؤمن ويلد مؤمنا، وقيل: أراد بقاء هذه الأمة وتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة { وآتينا ثمود الناقة } يعني قوم صالح { مبصرة } ، قيل: مبينة عندهم، وقيل: مبصرة تبصر الناس لما فيها من العبر والهدى من الضلالة { فظلموا بها } يعني كفروا بتلك الآية، وقيل: ظلموا أنفسهم بقتلها { وما نرسل بالآيات إلا تخويفا } للعباد ليؤمنوا .
[17.60-65]
{ وإذ قلنا لك } يا محمد { ان ربك أحاط بالناس } لفظ الإحاطة توسع ومجاز، والمراد أحاط بهم علما وقدرة، والمعنى أنه عالم بجميع الأشياء { وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس } ، قيل: هي رؤيا عين، وما رأى ليلة المعراج من الآيات والعبر وأسري به إلى بيت المقدس ثم إلى السماء فلما أخبر به المشركون كذبوه، وقيل: هي رؤيا نوم وهي أنه رأى في المنام أنه يدخل مكة قصدها عام الحديبية فرجع ودخلها في العام القابل ونزل { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } الآية، ولما رجع (عليه السلام) من الحديبية قال ناس: قد حدثنا أنه سيدخلها، وقال بعضهم: لم يوقت { والشجرة الملعونة في القرآن } قيل: شجرة الزقوم وقد ذكرها تعالى في قوله:
إن شجرة الزقوم * طعام الأثيم
[الدخان: 43-44] والملعونة قيل: ملعون أكلها، وقيل: اليهود لأنهم أصل اللعنة والعرب تضف الشيء بالشجرة، والأكثر على أنها شجرة الزقوم { ونخوفهم } بما تقدم من الإهلاك وما وعدوا من الشجرة وعذابها { فما يزيدهم } ذلك { إلا طغيانا كبيرا } أي يجاوزوا في حد الكفر { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } ، قيل: هو تحية، وقيل: هو قبلة السجود { إلا إبليس } تكبر ولم يكن من الملائكة إلا أنه أمر معهم بالسجود { لمن خلقت طينا } فأخطأ إبليس من وجوه: أحدها: أن الفضل بالتقوى، وثانيها: أن الأرض خير من النار، وثالثها: أنه لم يؤمر بتعظيم غيره بمعنى يرجع إلى أصله، ورابعها: أنه رد الأمر ولم يرض بالقضاء، وخامسها: أنه اعتقد أن الأمر قبيح { قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي } أي فضلته علي { لأحتنكن ذريته } ، قيل: لأستولي عليهم، وقيل: لأحتوينهم، والاحتناك الانقطاع من الأصل، يقال: احتنك فلان ما عند فلان إذا استقصاه فأخذه كله، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله كله، الموفور المكمل أي تاما كاملا، لأحتنكن من احتنكت الدابة إذا جعلت في حنكها الأسفل يقودها به { إلا قليلا } وهم الصالحون استثناء لعلمه إن كيده لا ينفد فيهم، ف { قال } تعالى مجيبا له عن قوله على سبيل الاستصغار: { اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا } يعني أنه تعالى لا يمنعه منهم جبريل ولكن يخلي بينهم وبينه، وهذا جواب استصغار كمن يقول افعل ما شئت فلن تضر إلا نفسك { واستفزز } الاستفزاز الازعاج يقال: استفزه أي استزله { من استطعت منهم بصوتك } ، قيل: بدعائك إلى معصية الله، وقيل: بالغناء والمزامير والهوى، وقيل: كل صوت دعا به إلى الفساد فهو من صوت الشيطان كالغناء والنياحة والدعاء إلى الباطل { وأجلب عليهم } قيل: اجمع عليهم ما قدرت عليه من مكابدتك { بخيلك ورجلك } كل راجل وماشي في معصية الله من الإنس والجن، وروي كل راكب قاتل في معصية الله فهو من خيل من الشيطان، وكل راجل كذلك، وقيل: خيله ورجله كل داع إلى معصيته { وشاركهم في الأموال والأولاد } وأما المشاركة بالأموال والأولاد فهو كل معصية يحملهم عليها كالزنا والمكاسب المحرمة كالبحيرة والسائبة والانفاق في الفسوق والإسراف ومنع الزكاة، وقيل: أولاد الزنا وقتل الموؤدة، قوله تعالى: { وعدهم } كان الآخرة لهم كما وعد آدم بأن يكون ملكا ومخلدا، وقيل: منهم زينة الدنيا باعتقاد الباطل وأن لا ثواب لهم ولا عقاب { وما يعدهم الشيطان إلا غرورا }.
{ إن عبادي } يريد الصالحين { ليس لك عليهم سلطان } أي لا تقدر أن تغويهم { وكفى بربك وكيلا } لهم يتوكلون به في الاستعاذة منك، وقيل: حافظا ومانعا منك.
[17.66-70]
{ ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما } أي منعما عليكم، احتج عليهم بدلائل التوحيد حثا على اتباع أمره { وإذا مسكم الضر في البحر } خوف الغرق { ضل من تدعون إلا إياه } يعني أيقنتم أنكم لا تجدون ملجأ غيره، وضل عنكم ما كنتم دعوتموه إنها غيره { فلما نجاكم }: خلصكم { إلى البر أعرضتم } عن الايمان والطاعة كفرا بالنعمة { وكان الانسان كفورا } وعادته الكفر بالنعم، وهذه عادة من لا يعرف الله حق معرفته { أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر } أي يقلبه وأنتم عليه، وكما قال: وخسفنا به وبداره الأرض { أو يرسل عليكم حاصبا } أي حصب بالحجارة من السماء، وقيل: هي الريح التي تحصب يعني إن لم يصيبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم بريح من فوقكم يرسلها { أم أمنتم }: أي تقوى دواعيكم وتوفر حوائجكم إلى أن ترجعوا فتركبوا البحر مرة ثانية، تارة أخرى أي مرة أخرى { فيرسل عليكم قاصفا من الريح } ، قيل: ريح شديدة لها صوت { فيغرقكم بما كفرتم } أي بكفرانكم نعم الله وجحودكم إياه { ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا } يعني طالبا ولا ناصرا وأصله من يتبع إهلاككم للمطالبة بدمائكم { ولقد كرمنا بني آدم } أي أكرمناهم بإنعامنا عليهم بأنواع النعم، ومتى قيل: لم أطلق وفيهم الكافر والمهين؟ قالوا: معناه أكرمناهم بالانعام الدنياوي كالصورة الحسنة وتسخير الأشياء لهم وكرامة الله بالعقل والنطق والتمييز والخط والصورة الحسنة والقامة المعتدلة، وقيل: بتسليطهم على من في الأرض وتسخيره لهم، وقيل: كل شيء يأكل بنيه إلا ابن آدم، وقيل: بأن جعل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم { وحملناهم في البر والبحر } يعني في البر على ظهور الدواب وفي البحر على السفن، وذلك نعم يخص بها بنو آدم { ورزقناهم من الطيبات } كسب الرجل بيده من وجه حلال، وقيل: أراد المطاعم فجعل لهم الأطيب من كل شيء وما لا يستلذونه فهو لغيرهم { وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا } هو ما سوى الملائكة (صلوات الله عليهم) وقيل: الإكرام بالنعم التي يصنع بها التكليف، والفضل هو التكليف الذي عرضه به للمنازل العالية يوم القيامة.
[17.71-77]
{ يوم ندعوا } يوم القيامة { كل أناس بإمامهم } ، قيل: إمامه نبيه، وقيل: إمامه كسب أعمالهم، وقيل: بكتابهم الذي أنزل الله عليه اليهم فيه الحلال والحرام فيقال: يا أهل التوراة يا أهل القرآن يا أهل الانجيل { فمن أوتي كتابه } يعني صحائف أعمالهم، قوله تعالى: { فأولئك يقرأون كتابهم ولا يظلمون } ولا يبخسون حقهم { فتيلا }: هو المفتول الذي في شق النواة { ومن كان في هذه أعمى } ، قيل: هذه إشارة إلى ما قد تقدم من النعم أي في هذه النعم التي عددناها، وقيل: في هذه الدنيا وأمورها، يعني من كان في هذه الدنيا أعمى عن آيات الله واعتقاده { فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا } ، وقيل: من كان في هذه الدنيا ضالا فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا { وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره } اختلف في نزولها قيل: نزلت في قريش قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا ندع لسلم بالحجر الأسود حتى تلم بآلهتنا، فحدث نفسه وقال: " ما علي أن ألم بها والله يعلم اني لها كاره " فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل: سألوه ذكر آلهتهم، وقيل: قالوا: كف عن شتم آلهتنا وتسفيه أحلامنا، وتطرد هؤلاء الأعبد حتى نجالسك، وقيل: انهم خلوا به ليلة يكلمونه ويسألونه فما زالوا به حتى كاد يقاربهم فنزلت، وقيل: نزلت في وفد ثقيف وهم ثمانون راكبا، قالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال: لا ننحني في الصلاة، ولا يكسر أصنامنا غيرنا بأيدينا، وتمتعنا باللات سنة، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود، فأما كسرها بأيديكم فذلك لكم، وأما اطالت اللات فاني ممتعكم بها "
وقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتوضأ فما زالوا به حتى أنزل الله تعالى هذه الآية، وان كادوا قربوا وهموا أن يفتنوك ويضلوك عن الذي أوحينا اليك يعني القرآن، وقيل: وفد ثقيف، وقيل: طرد الفقراء { لتفتري علينا غيره } أي يصرفونك عن القرآن لتختلق علينا الكذب { وإذا لاتخذوك خليلا } من الخلة التي هي المودة فبين أنه لولا لطف الله لقرب من اجابتهم، { إذا لأذقناك ضعف } حياة الدنيا وضعف عذاب الآخرة لعظم ذلك { ثم لا تجد لك علينا نصيرا } أي ناصرا ينصرك، وروي أن هذه الآية لما نزلت قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين "
{ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض } قيل: نزلت في أهل مكة هموا باخراج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة، وقوله: ليستفزونك ليزعجونك بعدوانهم ومكرهم من أرض مكة، { وإذا لا يلبثون خلافك } لا يبقون بعد اخراجك { إلا قليلا } فان الله مهلكهم، وكان كما قال: فقد أهلكوا ببدر بعد الاخراج بقليل ولم يخرجوه بل هاجر خوفا من ربه، وقيل: من أرض العرب، وقيل: من أرض المدينة فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما هاجر حسده اليهود وكرهوا قربه منهم فاجتمعوا اليه وقالوا: يا أبا القاسم ان الانبياء انما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة، وكانت مهاجر ابراهيم، فلو خرجت إلى الشام لآمنا بك وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم، فانا مانعك منهم.
... رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عازما على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في الاسلام، فنزلت فرجع (صلى الله عليه وآله وسلم) { سنة من قد أرسلنا } يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة الله أن يهلكوا بعذاب الاستئصال، وقيل: سنته أن يحفظ رسله ويعصمهم حتى يبلغوا رسالاته { ولا تجد لسنتنا تحويلا } ما أراد الله أن يجري العادة لا يتهيأ لأحد أن يغلبه من ارسال رسول واستئصال قوم.
[17.78-82]
{ أقم الصلاة لدلوك الشمس } دلكت الشمس غربت، ويروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أتاني جبريل لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر "
فان كان الدلوك للزوال فالآية جامعة للصلوات الظهر والعصر { إلى غسق الليل } الغسق: الظلمة وهو وقت صلاة العشاء، قيل: هو خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد هو وغيره، وقيل: أراد أيها الانسان أو أيها السامع لدلوك الشمس الظهر والعصر، الى غسق الليل المغرب والعشاء { وقرآن الفجر... كان مشهودا } أي صلاة الفجر، ويعني قرآنا للتأكيد والقراءة في الصلاة، وسميت قرآنا وهي القراءة، مشهودا تشهده ملائكة الليل والنهار ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء أو يشهده الكثير من المصلين، أو من حقه أن يكون مشهودا بالجماعة الكثيرة، ويجوز أن يكون { وقرآن الفجر } حثا على طول القراءة في الفجر يسمع الناس القرآن وكثرة الثواب، وروي أن ملائكة الليل قالوا: فارقنا عبادك وهم يصلون وملائكة النهار قالوا: أتينا عبادك وهم يصلون، { ومن الليل فتهجد به } وعليك ببعض الليل، والتهجد: التيقظ ولا يكون التهجد إلا بعد نوم عند اكثر المفسرين، وقيل: التهجد صلاة بعد رقدة، وقيل: بالقرآن والصلاة { نافلة } عبادة زائدة { لك } على الصلوات الخمس وقيل: كرامة وعطية لك، وقيل: غنيمة لك فاغتنمها { عسى } من الله واجب { أن يبعثك ربك مقاما محمودا } ومعنى المقام المحمود الذي يحمده القائم فيه وهو مطلق فيما كل ما يجب الحمد من أنواع الكرامات، وقيل: المراد الشفاعة، وعن ابن عباس: مقام يحمدك فيه الأولون والآخرون وتشرف فيه على جميع الخلائق تسأل تعطا وتشفع تشفع ليس أحد إلا تحت لوائك، وعن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي "
وعن حذيفة: يجتمع الناس في صعيد فلا يتكلم أحد، فأول مدعو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { وقل رب ادخلني } القبر { مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق } أي أخرجني منه عند البعث، وقيل: نزلت حين أمر بالهجرة يريد ادخال المدينة والاخراج من مكة، وقيل: ادخاله مكة واخراجه منها آمنا من المشركين، وقيل: ادخاله الغار واخراجه منه سالما، وقيل: هو عام في كل ما يدخل فيه، قوله تعالى: { سلطانا نصيرا } قوة وغلبة فنصر بالرعب، وقيل: هو فتح مكة { وقل جاء الحق } وهو الإسلام { وزهق الباطل } وهو الشرك، وقيل: جاء الحق وهو القرآن وزهق الباطل فبطل الشيطان، والزهوق: الهلاك والبطلان وننزل من القرآن الآية من للتبيين أي كل شيء ننزل من القرآن فهو شفاء للمؤمنين يزدادون به ايمانا، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله "
ولا يزداد به الكافرون { إلا خسارا }.
[17.83-89]
{ وإذا أنعمنا على الانسان أعرض ونأى بجانبه } نفد نفسه عن القيام بحقوق الله تعالى، وقيل: تكبر وتعظم { وإذا مسه الشر كان يؤوسا } قنوطا من الفرج { قل كل } يعني كل أحد { يعمل على شاكلته } أي على مذهبه وطريقته التي يشاكل حاله في الهوى والضلالة، وقيل: كل أحد من المؤمنين والكافرين، وقيل: ما هو أشكل بالصواب وأولى بالحق، وقيل: على عادته التي ألفها { فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا } يعني الله أعلم بالمصيب والمخطئ { ويسألونك عن الروح } قيل: نزلت في اليهود حين قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أخبرنا ما الروح؟ وقيل: بعث اليهود الى قريش أن يسألوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح، فان أجاب عنها أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي، فبين لهم القصتين فندموا على سؤالهم، قيل: الروح جبريل، وقيل: هو ملك له سبعون ألف وجه، لكل وجه سبعون ألف لسان، لكل لسان سبعون لغة يسبح الله بجميع ذلك، وقيل خلق من خلق الله في السماء يأكلون ويشربون، وقيل: روح الحيوان، وقيل: الروح القرآن { من أمر ربي } أي من وحيه وكلامه { وما أوتيتم من العلم إلا قليلا } الخطاب عام أي أعطيتم قليلا بحسب ما تحتاجون اليه، وقيل: ما أوتيتم في جنب علم الله إلا قليلا، { ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا اليك } يعني ان شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه عن الصدور والمصاحف فلم نترك له أثر، { ثم لا تجد لك به علينا وكيلا } أي ناصر ينصرك فيرده عليك، وقيل: كفيلا، وقيل: حافظا يحفظه فيرده عليك { إلا رحمة من ربك } أي لكن ذلك رحمة ربك أنزله عليك وحفظه وجعله معجزة لك ويكون الاستثناء منقطع بمعنى ولكن رحمة من ربك تركه غير مذهوب به، وقيل: لكن ذلك من رحمة ربك أي أنزله عليك وحفظه وجعله معجزة لك { إن فضله كان عليك كبيرا } يعني نعمة عظيمة عليك، وعن ابن مسعود: أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة وليصلين قوم ولا دين لهم وان هذا القرآن تصبحون يوما ما فيكم منه شيء وذلك حين ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } الآية نزلت حين قال الكفار: لو شئنا لقلنا مثل هذا، فأكذبهم الله تعالى، { ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } معينا على ذلك، والظهير في اللغة المعين وهو المظاهر، { ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن } يعني كررنا فيه البينات وما يحتاجون اليه، { من كل مثل } يعني من كل ما يحتاج اليه من الأمثال والدلائل والعبر، قوله تعالى: { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } أي جحودا للحق.
[17.90-96]
{ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا } الآية نزلت في جماعة من قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وابي سفيان، والأسود بن امية، والعاص بن الوليد والنضر بن الحارث، اجتمعوا عند الكعبة وقال بعضهم لبعض: ابعثوا الى محمد وكلموه وخاصموه، فبعثوا اليه أن اشراف قومك اجتمعوا لك، فبادر... انه بدا لهم في أمره وكان حريصا على دعائهم، فقالوا: يا محمد انا دعوناك لنعذر اليك ما نعلم رجلا أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، شتمت الآباء، وعبت الدين، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، فان كنت جئت بهذا تطلب مالا أعطيناك، وان تطلب الشرف... فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما بذلك أمرت " ، فقالوا: إذا ليس أحد أضيق بلدا منا، فتسأل ربك يسير هذه الجبال ويجري الأنهار كأنهار الشام والعراق، وابعث لنا من مضى، وليكن فيهم قصي فانه شيخ صدوق، فنسأله عما تقول أحق أم باطل؟ فقال: " ما بهذا بعثت " فقالوا: سل ربك يبعث لنا ملكا يصدقك ويجعل لنا جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب، فقال: " ما بهذا أمرت " فقالوا: فاسقط علينا السماء كما زعمت ان ربك ان شاء فعل ذلك، فقال: " ذلك الى الله تعالى " فقالوا: انا لن نؤمن { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } فقام (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم، وقال تعالى حاكيا عنهم: { فتفجر الأنهار خلالها } وسطها { تفجيرا } { أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا } أي قطعا كما زعمت كما خوفتنا به، { أو تأتي بالله والملائكة قبيلا } مقابلة نعاينهم، وقيل: مجتمعين كما تجتمع القبائل { أو يكون لك بيت من زخرف } من ذهب، وقرأ ابن مسعود من ذهب شاذ { حتى تنزل علينا كتابا } من السماء فيه تصديقك { قل } يا محمد { سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا } يعني لم يؤمنوا واعتلوا بان الرسول لا يكون من البشر وهذا جهل لأن الاعتبار بالمصالح لا يصح، ولأنه لو أتاهم ملك لكانوا يقولون أتانا من غير الجنس، { وما منع الناس أن يؤمنوا إذا جاءهم الهدى } أي الدلائل، وقيل: أراد القرآن { الا ان قالوا أبعث الله بشرا رسولا } { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين } ساكنين قاطنين { لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا } منهم { قل } يا محمد لهم { كفى بالله شهيدا بيني وبينكم } بأني رسول اليكم، وقيل: يشهد له يوم القيامة { انه كان بعباده خبيرا بصيرا }.
[17.97-109]
{ ومن يهد الله فهو المهتد } قيل: من يحكم بهدايته فهو المهتد باخلاص العبادة، وقيل: من يهدي الله الى طريق الجنة والثواب { ومن يضلل } قيل: من أراد الله عقوبته لم يجد ناصرا يمنعه من عقابه، { فلن تجد لهم أولياء من دونه } من يوالهم، وقيل: لم ينصرهم { ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم } كقوله:
يوم يسحبون في النار على وجوههم
[القمر: 48] وقيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف يمشون على وجوههم؟ قال:
" ان الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم "
، قوله تعالى: { عميا وبكما وصما } كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ويتصامون عن استماعه، فهم في الآخرة كذلك، كقوله:
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا
[الإسراء: 72] { كلما خبت زدناهم سعيرا } كلما سكن لهبها زاده اشتعالا وسعيرا، وقيل: كلما أكلت جلودهم ولحومهم فسكن لهبها بدلوا غيرها فرجعت ملتهبة { ذلك جزآؤهم بأنهم كفروا بآياتنا } يعني حجتنا البالغة وهو التوحيد والعدل، وقيل: القرآن، { وقالوا أئذا كنا عظاما } بالية { ورفاتا } ترابا { أئنا لمبعوثون خلقا جديدا } يعني احياء يوم الحشر فأجابهم الله تعالى وقال: { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض } أحدثها إختراعا، وقيل: أولم يروا: أولم يعلموا؟ وقيل: أولم ينظروا بأعيانهم فينظروا الى ما هو أعظم منهم { قادر على أن يخلق مثلهم } لأن من قدر على الأجسام قدر على احياء الأجسام واعادة الأموات احياء { وجعل لهم أجلا } أي وقتا، وقيل: أجل الموت، وقيل: أجل المعاد، { لا ريب فيه } لا شك فيه أنه كائن لا محالة { فأبى الظالمون إلا كفورا } قيل: جحودا للبعث مع ظهور الدلائل { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي } خزائنه مقدوراته ورحمته ورزقه، { إذا لأمسكتم } عن العطاء والانفاق { خشية } العاقبة، وفي الآية حذف وإضمار تقديره لو ملكتم خزائن الله لأمسكتم من الانفاق خشية الفاقة { وكان الإنسان قتورا } بخيلا، ثم ذكر قصة موسى (عليه السلام) فقال سبحانه: { ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات } أي تسع معجزات حجة على نبوته واختلفوا فيها، قيل: العصا واليد وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وقيل: اللسان والطمسة والحجر والعصا واليد و
الطوفان والجراد
[الأعراف: 133] الآية، وقيل: تسع آيات الكتاب في الأحكام { فاسأل بني إسرائيل } عن ذلك إن لم تعرفها أنت ولا قومك، وقيل: سل يا رسول الله الذميين من بني اسرائيل وهم عبد الله بن سلام وأصحابه { إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا } ، قيل: سحرت، وقيل: مسحور بمعنى ساحر { قال لقد علمت } بفتح الياء على الخطاب أي علمت أنت يا فرعون { ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض } وبالرفع قال موسى علمت أنا أنها حق فإن علمت وأقررت وإلا هلكت { بصائر } أي تبصر بها وتعلم بمعنى دلائل على نبوتي { وإني لأظنك يا فرعون مثبورا } ، قيل: ملعونا، وقيل: مهلكا { فأراد أن يستفزهم من الأرض } أي يخرجهم من الأرض أرض مصر { فأغرقناه } يعني فرعون { ومن معه } جنوده { جميعا } فلم ينج منهم أحد ولم يهلك من بني إسرائيل أحد، قوله تعالى: { وقلنا من بعده } أي من بعد هلاك فرعون { لبني اسرائيل اسكنوا الأرض } أي أرض مصر والشام { فإذا جاء وعد الآخرة } يعني القيامة { جئنا بكم } من القبر إلى الموقف للحساب والجزاء { لفيفا } مختلطين التفت بعضكم ببعض، وقيل: لفيفا جميعا، ثم عاد الكلام إلى ذكر القرآن الذي تقدم ذكره فقال سبحانه: { وبالحق أنزلناه } أي أنزلنا القرآن بالحق معناه أردنا بإنزاله الحق والصواب، وهو أن يعمل به ويؤمر بما فيه، يؤمر به ويعمل بما فيه، ومتى قيل: إذا قال: { بالحق أنزلناه } ، لما قال: { وبالحق نزل }؟ قالوا الأول صفة الانزال، والثاني يعود إلى المنزل وهو القرآن الذي.
.. حق، وقيل: هو تأكيد { وما أرسلناك } يا محمد { إلا مبشرا } للمؤمنين ومخوفا للكفرة { وقرآنا فرقناه } أي أنزلناه قرآنا فرقناه يعني فصلناه سورا وآيات، وقيل: فرقناه أي فرق الله به بين الحق والباطل، وقيل: جعلنا بعضه أمرا وبعضه نهيا، وبعضه خبرا، وبعضه وعدا وبعضه وعيدا { لتقرأه على الناس على مكث } شيئا بعد شيء، فنزل في نيف وعشرين سنة { ونزلناه تنزيلا } مفرقا، وقيل: على مكث أنزلنا شيئا بعد شيء { قل } يا محمد { آمنوا به أو لا تؤمنوا به } هذا وعيد، يعني الضرر عائد عليكم إن لم تؤمنوا، وقيل: هو جواب لقولهم
وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا
[الإسراء: 90] { إن الذين أوتوا العلم من قبله } من قبل نزول القرآن وخروج محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قيل: هم مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه { إذا يتلى عليهم } يعني القرآن { يخرون } يسقطون { للأذقان يبكون } من خشية العقاب { ويزيدهم خشوعا } يزيدهم خضوعا لأن القوم عرفوا ما في كتبهم فلما عرفوا ما في القرآن ازدادوا إيمانا وخشوعا.
[17.110-111]
{ قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن } ، قيل: تهجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذات ليلة بمكة وكان يقول: يا رحمان يا رحيم، فقال المشركون: كان يدعو إلها واحدا والآن يدعو إلهين؟! فنزلت الآية، وقيل: قال المشركون: أما الرحيم فنعرفه وأما الرحمان فلا نعرفه: فنزلت { أيا ما تدعو } يعني بأي الاسمين دعوته لأن جميع ذلك يفيد التعظيم { فله الأسماء الحسنى } يعني جميع أسماؤه حسن لأن الأسماء عن أفعاله أو عن صفاته فمن وصفه بصفة ذاته فكونه قادر عالم حي قديم أو بصفات ترجع إلى أفعاله وكلها حسنة كقوله: خالق ورازق وعدل ومحسن ومنشئ { ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا } ، قيل: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا رفع صوته بالقرآن فمنعه المشركون وسبوا القرآن، وقيل: كان يجهر بقراءته القرآن فقالوا: لا تجهر بالقرآن بالمسجد فتؤذي آلهتنا فتهجو ربك فنزلت الآية، وقيل: كان يصلي في دار أبي سفيان بن حرب عند الصفا ويجهر بصلاته فمر به أبو جهل، فقال: لا تفتري على الله فخفض صوته فقال: أفلا يرون كيف رددته فنزلت الآية، ومعنى لا تجهر بصلاتك كلها { ولا تخافت بها } كلها { وابتغ بين ذلك سبيلا } بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار، روي ذلك عن الهادي (عليه السلام)، وقيل: لا تجهر بصلاتك عند من يؤذيك، وابتغ: أي اطلب، بين ذلك سبيلا: طريقا وهو ما أمرك الله تعالى { وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك } ، قيل: قالت اليهود عزير ابن الله، وقالت النصارى، المسيح ابن الله، وقالت الأعراب: لبيك لا شريك لك إلا شريك لك هو لك، وقالت المجوس: لولا أولياء الله لذل، ومعنى شريك في الملك: أي في الإلهية { ولم يكن له ولي من الذل } أي ناصر { وكبره تكبيرا } أي عظمه تعظيما وقل في الصلاة الله أكبر.
[18 - سورة الكهف]
[18.1-8]
{ الحمد لله } أمر من الله على نعمه في الدين { الذي أنزل على عبده الكتاب } يعني محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { ولم يجعل له عوجا } ، قيل: ملتبسا، وقيل: مختلفا حتى يكون بعضه حقا وبعضه باطلا... وبعضه محدثا { قيما } على سائر الكتب يصدقها وينفي الباطل عنها، وقيل: جعله قيما دائما، والقيم: الذي لا تناقص فيه ولا فساد { لينذر بأسا شديدا } أي عذابا شديدا لمن كفروا { ويبشر المؤمنين } المصدقين { الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا } يعني الثواب الدائم، وقيل: الأجر الحسن الجنة { وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا } ، قيل: هم قريش قالوا: الملائكة بنات الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله { كبرت كلمة } عظمت هذه الكلمة عند الله { تخرج من أفواههم } { فلعلك } يا محمد { باخع نفسك } أي مهلك نفسك غيظا وحسرة { على آثارهم } أي بعد موتهم، وقيل: على الدين، وقيل: باخع نفسك قائل على آثارهم على أدبارهم عنك وتكذيبهم إياك { إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا } يعني القرآن أسفا حزنا، وقيل: غيظا { إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها } أي حلية قيل: هي الأشجار والأنهار، وقيل: الذهب والفضة والأواني والدواب والمواشي وسائر ما ينتفع به، وقيل: أراد به الرجال خاصة { لنبلوهم } أي نعاملهم معاملة المبتلي والابتلاء والامتحان والاختيار نظائر، وقيل: الابتلاء فيه أن يستعمل تلك الزينة في طاعته دون معاصيه { أيهم أحسن عملا } يعني يكون الجزاء على قدر الأعمال { وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا } يعني مخربون الأرض بعد عمارتها { صعيدا } ترابا، وقيل: الصعيد وجه الأرض، وقيل: الأرض المستوية، والجرز: اليابس الذي لا ينبت فيه، وقيل: الأرض المحصودة مما كان عليها.
[18.9-12]
{ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم } حسبت، قيل: ظننت، وقيل: علمت أن أصحاب الكهف وقصتهم حين أووا إلى الكهف وهو الغار وإبقاء حياتهم فيه مدة طويلة، والرقيم: اسم كلبهم، وقيل: لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم وجعل على باب الكهف، وقيل: الناس رقموا حديثهم، وقيل: الجبل، وقيل: الوادي، وقيل... وبين عطفان وأيلة، وقيل: الرقيم ثلاثة نفر حبسوا في غار فدعوا الله ففرج عنهم، واختلفوا في أصحاب الكهف، قيل: كانوا قبل عيسى، وقيل: كانوا بعد عيسى، وقيل: كانوا قبل موسى لأنهم في التوراة وكان ملكهم يقال له: دقيانوس يعبد الأصنام ويدعو إليها ويقتل من خالفه فأخبر بمكانهم فدعاهم وأوعدهم وقال: إما أن تعبدوا آلهتنا أو أقتلكم، فقال كبيرهم: إن لنا إلها ملء السموات والأرض عظمته لن ندعو من دونه إلها لكن نعبده ونسأله النجاة وكل خير، فقال كلهم مثل ما قال، فأمر بنزع ثيابهم ويجلدوا فإن أطاعوا وإلا قتلوا، وانطلق دقيانوس إلى مدينة أخرى { كانوا من آياتنا عجبا } ، قيل: معناه كانوا عجبا مع اني خلقت السموات والأرض وما بينهما ما هو أعجب، وقيل: لا تعجب منهم فأمرك أعجب إذ أسري بك في ليلة من مكة إلى المسجد الأقصى { إذ أوى الفتية إلى الكهف } أي الغار، وقيل: هم قوم هربوا بدينهم، قيل: لما خافوا من يلحقهم { فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة } أي نعمة ينجوا من الكفار { وهيء لنا من أمرنا رشدا } يعني دلنا على أمر فيه نجاتنا، وقيل: يهيء في سائر أمورنا الخير والرشد سألوهم النجاة من الأعداء وكانوا متحيرين في الحق فأجاب الله دعاءهم وألقى النوم عليهم حتى كفوا من المطعم والملبس { فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا } ، قيل: جعلنا فيها ما يمنع من الادراك، وقيل: سلطنا عليهم النوم سنين عددا أي سنين معدودة { ثم بعثناهم } أيقظناهم من نومهم، قوله تعالى: { لنعلم } لنظهر المعلوم فنعلمه موجودا لأنه لا يعلم كذلك إلا بعد وجوده، وقيل: لنعلم اختلاف الحزبين في مدة لبثهم وأيهم أعلم { أي الحزبين } أي أهل الطائفتين من أهل ذلك الزمان، وقيل: المؤمنين والكفار، وقيل: أحد الحزبين أهل الكتاب عرفوا ذلك في كتبهم، والحزب الثاني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمون وقد أعلمهم الله، وقيل: أن الملك دقيانوس لما غاب ائتمروا بينهم وعلموا أنه إن رجع يقتلهم فخرجوا ومعهم كلب حتى أتوا الكهف، وقيل: مروا بكلب فتبعهم فطردوه فقال: لا تخشوا جانبي أنا أحب أحباء الله نوموا حتى أحرسكم، وروي أنهم مروا براعي له كلب فتبعهم على دينهم، وأووا إلى الكهف يصلون ويعبدون الله فضرب الله على آذانهم في الكهف سنين عددا، وكلبهم باسط ذراعيه بباب الكهف، ففقدهم دقيانوس فلم يجدهم وطلبهم حتى أخبر بمكانهم، فأمر أن يسد عليهم الكهف فيكون لهم قبرا، وكان مع دقيانوس رجلان مؤمنان فكتبا أسماءهم وقصتهم في لوح من رصاص، ومات دقيانوس وانقرضت قومه وقرونا بعدهم كثيرة، وكان لبثهم ثلاثمائة وتسع سنين ينامون وينقلبون على أيمانهم وشمائلهم.
[18.13-18]
{ نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى } { وربطنا على قلوبهم } أي شددنا عليها بالألطاف { إذ قاموا } بين يدي الجبار دقيانوس صرخوا بإبطال الشرك وأثبتوا التوحيد { فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا } علوا في الكذب والبطلان { هؤلاء قومنا } يعني أهل بلدنا { اتخذوا من دونه } آلهة وهي الأصنام { لولا يأتون عليهم بسلطان بين } أي هلا يأتوا على ما وصفوا وعبدوا حجة واضحة { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } أي لا أحد أظلم ممن افترى فيضيف اليه ما لا يليق به { وإذ اعتزلتموهم } خطاب من بعضهم لبعض حين صممت عزيمتهم على الفرار بدينهم، يعني وإذ اعتزلتموهم واعتزلهم معوذتهم، قال في الحاكم: ويدل على أن الاعتزال اسم مدح لذلك وصفهم به وإذ اعتزلتموهم، وفي قصة ابراهيم واعتزلكم { فأووا إلى الكهف } اجعلوه مسكنا، وقيل: قالوا: ادخلوا الكهف كيلا يلحقكم الطلب، وروي أنهم دخلوا وناموا للتعب الذي لحقهم { ينشر لكم ربكم من رحمته } أي يبسط عليكم من نعمته، وقيل: خرجوا من غير زاد توكلا على الله فكفاهم الله أمر المطعم والمشرب { ويهيء لكم } أي يسهل لكم { مرفقا } ترفقون به في معاشكم، وقيل: رزقا رغدا { وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال } يعني أنها تجوزهم منحرفة عنهم لا يقع عليهم منها شيء، وقيل: ان الشمس تميل عنهم في طلوعها وغروبها مع أنهم في مكان واسع { ذلك من آيات الله } أي ما صنع بهم من ازورار الشمس وقرضها طالعة وغاربة إنه من آيات الله { من يهد الله فهو المهتد } ثنى عليهم بأنهم جاهدوا في الله وأسلموا له فلطف بهم وأعانهم، وكذلك من اهتدى فإنه يهديه الى ثوابه وكرامته ومن يضلل عن نيل ثوابه وجنته فلا يكون له ولي ولا ناصر { وتحسبهم أيقاظا وهم رقود } منتبهين وهم نيام لكثرة تقليبهم { ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال } ، قيل: لهم تقليبتان في السنة، وقيل: تقليبة واحدة في يوم عاشوراء، وقيل: نقلبهم يمينا ويسارا، وقيل: كانت أعينهم مفتوحة، وينفسون ولا يتكلمون عن أبي علي، وقيل: يقلبون مرة على الجنب الأيمن ومرة على الجنب الأيسر لئلا يؤذيهم { وكلبهم } ، قيل: كلب صاحبهم لونه أنمر، وقيل: أصفر، قيل: اسمه ريان، وقيل: قطفير { باسط ذراعيه بالوصيد } الباب، وقيل: عتبة الباب، قوله تعالى: { لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا } وهو الخوف الذي يرعب الصدور أي يملأه، وذلك لما ألبسهم الله تعالى من الهيبة، وقيل: طول أظفارهم وشعرهم.
[18.19-21]
{ وكذلك بعثناهم } أي أيقظناهم من رقدتهم { ليتساءلوا بينهم } يعني يسأل بعضهم بعضا، ويتعرفون حالهم، وما صنع الله بهم { قال قائل منهم كم لبثتم } في نومكم { قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم } ، قيل: أخبروا بذلك عن غالب ظنهم ولذلك وقع السؤال لأن النائم لا يعلم مقدار لبثه، وقيل: إنهم دخلوا غدوة وناموا واستيقظوا في آخر النهار رأوا الشمس فقالوا: { أو بعض يوم } ، وقيل: دخلوا الكهف بعد زوال الشمس وانتبهوا في آخر النهار { ربكم أعلم بما لبثتم } إنكارا عليهم من بعضهم وأن الله أعلم بمدة لبثهم، وقيل: رئيسهم لما سمع الاختلاف بينهم قال ذلك، وقيل: نظروا إلى أظفارهم وشعورهم فعلموا أن لبثهم أكثر من يوم فقالوا: { ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم } يعني أرسلوا احدكم، وقيل: يمليخا صاحب نفقاتهم، والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة { هذه إلى المدينة } هي التي أخرجوا منها، قيل: تسمى إقسوس { فلينظر أيها أزكى طعاما } أي لينظر هذا الذي بعثوه الى أطعمتهم { أيها أزكى } أجل وأطيب وأكثر وأرخص، وقيل: أحل ذبيحة لأن عامتهم كانوا مجوسا وفيهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم عن ابن عباس وسعيد بن جبير { وليتلطف } في أمر المبايعة حتى لا يعين أو في أمر التخفي حتى لا يعرف { ولا يشعرن بكم أحدا } أي لا يعلمن بكم أحدا كيلا يفتنهم، وأخبروا عن أهل البلد عن غالب ظنهم { إنهم إن يظهروا عليكم } يعلموا مكانكم أهل المدينة وأصحاب الملك { يرجموكم بالحجارة } يعني يقتلوكم ويؤذوكم { أو يعيدوكم } يردوكم { في ملتهم } في دينهم { ولن تفلحوا إذا أبدا } إن عدتم في ملتهم { وكذلك أعثرنا عليهم } أي أطلعنا عليهم أهل البلد حتى رأوهم وعلموا حالهم { ليعلموا أن وعد الله حق } أي ليستدلوا بحالهم على صحة البعث وإن وعد الله بإحياء الخلق بعد الموت حق فيعلمون ذلك، ومتى قيل: لم أضاف العثور عليهم اليه؟ قالوا: لأن أهل البلد إنما عثروا عليهم بألطافه فيستدلوا بذلك على صحة البعث { وإن الساعة لا ريب فيها } أي القيامة لا شك فيها { إذ يتنازعون بينهم } ، قيل: لما ظهروا عليهم أماتهم الله تعالى فاختلفوا قال المسلمون: نتخذ عليهم مسجدا فهم على ديننا، وقال المشركون: هم على ديننا وهذا تنازعهم ، وقيل: يتنازعوا المسلمون والكفار في البعث، وقيل: تنازعوا في قدر لبثهم ومكثهم، وقيل: في عددهم، وقيل: قال بعضهم: ماتوا في الكهف، وقال بعضهم: عادوا نياما { فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم } أحياء أم نيام، وقيل: لما رأوهم عادوا نياما، وقيل: بل ماتوا، وقيل: لا يموتون إلى يوم القيامة، وقيل: هذا من كلام المتنازعين في أمرهم، أو من كلام الله عز وجل رد لقول المخلصين، أو من الذين تنازعوا فيهم على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { قال الذين غلبوا على أمرهم } ، قيل: الملك المسلم وأصحابه، وقيل: رؤساء البلد { لنتخذن عليهم مسجدا } أي متعبدا أو موضعا للسجود والعبادة اتخذوا على باب الكهف مسجدا يصلي فيه المسلمون.
[18.22-24]
{ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم } روي أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجرى ذكر أهل الكهف فقال السيد وكان يعقوبيا: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال العاقب وكان نسطوريا: كانوا خمسة وسادسهم كلبهم، وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم فحقق الله قول المسلمين، وإنما عرفوا ذلك بأخبار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على لسان جبريل (عليه السلام): " هم سبعة أسماؤهم: يمليخا ومسكلسا ومشليثا هؤلاء يمين الملك، وكان عن يساره: مرنوش ودرنوش وشادنوش، وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره، والسابع الراعي هربوا من ملكهم دقيانوس " والخطاب في قوله: { سيقولون ثلاثة } لمن خاض في قصتهم في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أهل الكتاب والمؤمنين { قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل } من الناس، وعن ابن عباس أنه قال: أما من القليل الذين يعرفونهم سبعة وثامنهم كلبهم، وقيل: ذلك القليل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قوله تعالى: { فلا تمار فيهم } أي لا تجادل في شأنهم وعددهم، يعني لا تجادل في شأن أصحاب الكهف { إلا مراء ظاهرا } يعني إلا جدالا ظاهرا وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله اليك فحسب { ولا تستفت } ولا تسأل { منهم أحدا } في قصتهم قيل: خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونهي لأمته، قيل: خطاب لأمته كأنه كان عارفا والعانت يرجع إلى غيره، فالمراد المؤمنون حتى لا يرجعوا إلى أهل الكتاب، ومتى قيل: لم نهى عن الاستفتاء منهم؟ قلنا: إن كان الى النبي فلأنه عارفا ولا يقتضي الشك في ثبوته وإن كان الخطاب لأمته فإنه لا يحتاج اليه في الدين ولأن الرجوع اليهم إظهار تعظيم لهم { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا } { إلا أن يشاء الله } ، قيل: هذا شرع متبدا للجميع حتى يصلوا كلامهم بالاستثناء لئلا يلزمهم كذب وحنث وهذا هو الوجه، وقيل: هو خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولأمته وهو الوجه وقيل: سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المسائل الثلاث قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فوعد أن يجيبهم ولم يستثني فانقطع الوحي عنه أياما تأديبا له عن جماعة من المفسرين، وأنكر ذلك جماعة { واذكر ربك إذا نسيت } الاستثناء وقل: إن شاء الله { وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا } ، قيل: إذا نسيت أمرا فلم تذكره، ف { قل عسى أن يهدين ربي } وهو الانقطاع اليه.
[18.25-28]
{ ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا } { قل الله أعلم بما لبثوا } ، قيل: بين مقدار لبثهم ثم قال: ان جاءك أهل الكتاب فقل الله أعلم بما لبثوا فوجب الرجوع إلى غيره، وقيل: الله أعلم بما لبثوا إلى الوقت الذي نزل القرآن فيه، وقيل: الله أعلم بما لبثوا إلى أن ماتوا { له غيب السماوات والأرض } يعني أنه عالم الغيب { أبصر به وأسمع } ، قيل: معناه ما أسمعه للمسموعات وأبصره للمبصرات فلا يخفى عليه شيء من ذلك { أبصر به وأسمع } يعني لا يستعين به وقيل: { لا يشرك في حكمه أحدا } منهم، يعني أحدا في خلقه والانعام عليهم، وقيل: أراد الأوثان لم يشركهم في الإلهية { ولن تجد من دونه ملتحدا } ، قيل: ملجأ { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم } الآية نزلت في سلمان وأبي ذر وصهيب وعمر وغيرهم من فقراء المسلمين وذلك أن قوما من فقراء الكفر قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أجلسنا في صدر الملجلس، واطرد عنا هؤلاء وأرواح جباتهم وكانت جباتهم من صوف جلسنا اليك فإنا ان نسلم تسلم الناس من بعدنا، والله ما يمنعنا إلا هؤلاء فنزلت، وقيل: نزلت في أهل الصفة فلما نزلت الآية قال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم "
{ بالغداة والعشي } دائبين على الدعاء في كل وقت، وقيل: أراد صلاة الفجر والعصر { يريدون وجهه } أي عظمته ورضاه { ولا تعد عيناك عنهم } أي أقبل اليهم ولا تنحاز عيناك عن هؤلاء المؤمنين ولا تبصر هؤلاء المشركين { تريد زينة الحياة الدنيا } ، قيل: مجالسة الأشراف، وقيل: هو نهي للتعرض بهذه الحالة لا حكم بأنه أراد زينة الحياة وذلك إكرام من الله تعالى للمؤمنين بأن أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يختارهم { ولا تطع من أغفلنا قلبه } صادفنا قلبه غافلا، وقيل: نسبناه إلى الغفلة وحكمنا عليه بذلك، وقد أبطل الله توهم المحبرة بقوله: { واتبع هواه } ، قيل: هو أمية بن خلف المخزومي، وقيل: عام في جميع الكفار نهاه عن اتباع مرادهم، واتبع هواه أي لم يتبع الحق { وكان أمره فرطا } ، قيل: مخالفا للحق، وقيل: مسرفا.
[18.29-36]
{ وقل } يا محمد لهؤلاء الكفرة هذا الذي تلوته عليكم هو { الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } تهديد ليس بإباحة وتخير أي أظهر الحق فمن تبعه نجا ومن خالفه هلك، والمعنى جاء الحق وانزاحت العلل فلم إلا اختاروا لأنفسكم ما شئتم أما طريق النجاة أو طريق الهلاك { إنا أعتدنا } هيأنا { للظالمين } ، قيل: العاصين { نارا أحاط بهم سرادقها } ، قيل: حائط من نار يطبق بهم، وقيل: سرادقها دخانها ولهبها، وقيل: أراد النار تحيط بهم من جوانبهم، قوله تعالى: { وإن يستغيثوا } من شدة العطش وحر النار { يغاثوا بماء كالمهل } ، قيل: كلما أذيب، وقيل: أراد الرصاص والنحاس والصفر، وقيل: هو القيح والدم، وقيل: ما اسود وجهنم سوداء وأهلها سود { يشوي الوجوه } إذا قرب من الوجوه شوت لحومهم وسقطت جلودهم { بئس الشراب } ذلك المذكور { وساءت مرتفقا } متكأ، وقيل: منزلا، وقيل: مقرا، وقيل: مجلسا ولما تقدم الوعيد عقبه بذكر الوعد على عادته فقال تعالى: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } يعني ما أوجب عليهم من الطاعات، { إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا } على إحسانه وتوفيقه أجره من غير بخس، ثم بين ذلك الأجر فقال سبحانه: { أولئك لهم جنات } أي بساتين { عدن } ، قيل: جنات الخلد عن أبي علي لأن العدن هو الإقامة، وقيل: العدن اسم من أسماء الجنة، وقيل العدن أحد الجنان الأربع { تجري من تحتهم الأنهار } أي من تحت أبنيتها { يحلون فيها } أي يزينون { فيها من أساور من ذهب } على كل واحد ثلاثة أساور واحد من فضة وواحد من ذهب وواحد من لؤلؤ وياقوت { ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق } قيل: السندس ما رق من الديباج، والاستبرق ما غلظ { متكئين فيها على الأرائك } ، قيل: على السرر في الحجال، وقيل: على الفرش في الحجال { نعم الثواب } نعم الجزاء { وحسنت مرتفقا } ، قيل: مجلسا ومكانا، وقيل: مجالسة النبيين والصديقين كقوله:
وحسن أولئك رفيقا
[النساء: 69] حكاه الأصم، ثم ضرب الله مثلا للفريقين الذين تقدم ذكرهم فقال سبحانه: { واضرب لهم مثلا } أي لمن تقدم ذكرهم، أي مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال { رجلين } أخوين من بني إسرائيل وكان أحدهما كافر اسمه قطروس والآخر مؤمن اسمه يهوذا، وقيل: هما المذكوران في سورة الصافات في قوله:
إني كان لي قرين
[الصافات: 51]، ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فاشترى الكافر أرضا بألف دينار، فقال له المؤمن: اللهم ان أخي اشترى أرضا بألف دينار وأنا أشتري أرضا في الجنة بألف وتصدق به، ثم اشترى أخوه دارا بألف، فقال: اللهم إني أشتري منك دارا في الجنة بألف فتصدق، وتزوج امرأة بألف، فقال: اللهم اني جعلت ألفا صداق للحور العين، ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف، فقال: اللهم إني أشتري منك الولدان المخلدون بألف فتصدق به، ثم أصابه حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله { وحففناهما بنخل } جعلنا النخل محيطا بالجنتين { وجعلنا بينهما زرعا } ، قيل: حول الأعناب الزرع ووسطه الزرع، وقيل: بين الجنتين الزرع { كلتا الجنتين } كل واحدة منهما { آتت } أعطت { أكلها } ثمرها { ولم تظلم منه شيئا } لم تنقص { وفجرنا } شققنا { خلالهما } وسطهما يعني وسط الجنتين { نهرا } يجري فيه الماء { وكان له ثمر } أي للرجل الكافر ثمر من النخل الذي فيه، وقيل: ذهب وفضة، وقيل: مستوف الأموال { فقال } الكافر { لصاحبه } المؤمن { وهو يحاوره } يخاطبه { أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا } ، قيل: عشيرة ورهطا، وقيل: خدما، وقيل: ولدا { ودخل جنته } يعني الكافر { وهو ظالم لنفسه } بكفره { قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا } ، قيل: أراد ما دمت حيا، وقيل: توهم { ومآ أظن الساعة قائمة } آتية { ولئن رددت إلى ربي } أي صرت اليه في المعاد { لأجدن خيرا منها منقلبا } أي منزلا ومرجعا، ومتى قيل: كيف صح قوله ولئن رددت الى ربي مع أنه كافر؟ قيل: معناه ولئن رددت إلى ربي كما زعمت.
[18.37-44]
{ قال له صاحبه } المؤمن وهو يحاوره يخاصمه { أكفرت بالذي خلقك من تراب } خلق أصلك وهو آدم { ثم من نطفة } أي خلق ولده من نطفة { ثم سواك رجلا } أي عدلك بأن جعلك بشرا سويا يعني نقلك من حال إلى حال { لكنا هو الله ربي } الذي أنشأها حالا بعد حال دل على صانع عالم مختار { ولا أشرك بربي أحدا } يعني لا أشرك في عبادتي أحدا معه، يعني إن كنت تفاخر بالدنيا فأنا أفاخر بالتوحيد { ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله } أي هلا اتكلت في جميع أمرك على مشيئته وتدبيره { ان ترن أنا أقل منك مالا وولدا } فأنا راض بقضائه { فعسى } لعل { ربي أن يؤتين خيرا من جنتك } أي يعطيني من جهته ما هو خير من هذا البستان وأعظم شأنا { ويرسل عليها حسبانا من السماء } ، قيل: عذابا، وقيل: نارا { فتصبح صعيدا } ترابا { زلقا } أي أملس لا نبات عليه، وقيل: رملا { أو يصبح ماؤها غورا } أي غائرا ذاهبا في الأرض { فلن تستطيع له طلبا } أي لا تدري أين ذهب، ثم بين تعالى ما آل اليه الكافر فقال تعالى: { وأحيط بثمره } أي أحاط الهلاك بثمره فأهلك حتى لم يخرج منه شيء، وروي أنه تعالى أرسل عليها نارا { فأصبح } هذا الكافر { يقلب كفيه } يصفق بأحد يديه على الأخرى ويقلبها { وهي خاوية على عروشها } يعني الجنة ساقطة على سقوفها، وقيل: صار أعلاها أسفلها، والعروش الأبنية { ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا } فتمنى الايمان لبقاء لا لوجوبه وكان لا ينفعه ولو ندم على الكفر آمن بالله { ولم تكن له فئة ينصرونه } من عقاب الله وكلاك ما له { وما كان منتصرا } ممتنعا { هنالك الولاية } أي في ذلك المكان وتلك الحالة النصرة لله لا يملكها غيره، ويجوز أن يكون المعنى هنالك الولاية لله ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة الحق قيل: من صفة الولاية، وقيل: من صفة الله على اختلاف القراءتين { هو خير ثوابا وخير عقبا }.
[18.45-51]
{ واضرب لهم } أي لهؤلاء المتكبرين آثروا ما يفنى على ما يبقى، قيل: لقومك، وقيل: لمن يزعم أنه { مثل الحياة الدنيا } يعني سنة الحياة الدنيا ونعيمها { كماء أنزلناه من السماء } وهو المطر { فاختلط به نبات الأرض } ، قيل: اختلط الماء بالنبات { فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا } ، قوله تعالى: { المال والبنون زينة الحياة الدنيا } أي يتزينون بها ويتفاخرون بها { والباقيات الصالحات } يعني أن البقاء الثواب، العمل الصالح، وقيل: الطاعات، وقيل: لا إله إلا الله والصيام والحج والجهاد، وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وقيل: الصلوات الخمس { وخير أملا } أي خير شيء تأمله المرء { ويوم نسير الجبال } يعني يوم القيامة أي نزيلها عن أمكنتها { وترى الأرض } أيها الإنسان { بارزة } ليس عليها ما يسترها مما كان عليها، فلا شيء يسترها عن أعين الناظرين من بناء من جبل وشجر والبروز أصله الظهور، قيل: يحشر الناس في صعيد واحد يرى بعضهم، وقد يرى ما كان في بطنها فصار على ظهرها { وحشرناهم } وجمعناهم إلى الموقف { فلم نغادر منهم أحدا } أي لم نترك أحدا إلا وقد جمعناه، وقيل: يحشرون حفاة عراة عزلا { وعرضوا } يعني عرضوا للمحاسبة { على ربك صفا } كصفوف الصلاة يعرضون قياما { كما خلقناكم أول مرة } أحياء حفاة عراة عزلا، وقيل: لا أموال ولا أولاد { بل زعمتم ألن نجعل } لكم موعدا يعني الجزاء والحساب يوم القيامة { ووضع الكتاب } يعني صحائف الأعمال { فترى المجرمين مشفقين } خائفين { مما فيه } من الأعمال السيئة { ويقولون } إذا قرأوها { يا ويلتنا } يدعون بالويل والثبور، والويل: الهلاك { ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } أي لا شيئا من الذنوب إلا أحصاها، قيل: الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة، وقيل: الكبيرة الزنا، وقيل: المراد به يجري بما جل ودق لأن الصغيرة ما نقص عقابه عن طاعته والكبيرة ما زاد عقابه على ثواب طاعته، ومتى قيل: أليس معفوا عنها؟ قيل: لا صغيرة للكفار وإنما يقع الصغائر من المؤمن { ووجدوا ما عملوا حاضرا } في الصحف عتيدا { ولا يظلم ربك أحدا } فيكتب عليه ما لم يعمل أو يزيد في عقابه، ثم بين تعالى ما جرى من ابليس تحذيرا من مثل حاله فقال سبحانه: { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } وقد بينا أنه سجود تحية لا سجود عبادة، وقيل: إنه قبله للسجود { فسجدوا } يعني الملائكة { إلا ابليس } فأمر معهم بالسجود وإن لم يكن منهم { كان من الجن } ، قيل: إنه كان أبو الجن كما أن آدم أبو الإنس روي ذلك في الحاكم، وقيل: كان من الجن الذين طردتهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، وقيل: كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن كانوا خزان الجنان وسموا الجن لاستتارهم من العيون { ففسق عن أمر ربه } أي خرج عن طاعة ربه { أفتتخذونه وذريته } خطاب لبني آدم { وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو } قد ظهرت عداوتهم وهذا استفهام والمراد به الإنكار، أي لا تتخذونهم أولياء، والذرية النسل، قال الحسن: الإنس عن آخرهم ذرية آدم والجن عن آخرهم ذرية ابليس { بئس للظالمين بدلا } البدل ابليس وذريته من الله { ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض } يعني الكفار، وقيل: آدم وذريته لم يحضروا ذلك، وقيل: الملائكة يعني إذا لم يشهدوا خلق هذه الأشياء فلم زعموا أن الملائكة بنات الله؟ وقيل: { ما أشهدتهم } ما خلقت مستعينا بهم في الخلق والتدبير، وقيل: أراد أنهم مخلوقون لم يكونوا كما خلق السماوات والأرض وكلهم مخلوقون.
[18.52-56]
قوله تعالى: { ويوم يقول } الله تعالى { نادوا شركائي الذين زعمتم } إنهم شركاء، قيل: أراد الشياطين، وقيل: الأوثان، وهذا كله توبيخ { فلم يستجيبوا لهم } لأن الأصنام تعجز عن الجواب أو أراد عيسى وعزير { وجعلنا بنيهم موبقا } أي واد في جهنم، وقيل: عداوة بين الأوثان وعبدتها، وقيل: بين أهل الهدى والضلال { ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها } يعني أيقنوا أنهم مخالطوها { ولم يجدوا عنها مصرفا } أي موضعا ينصرفون إليه { ولقد صرفنا } بينا { في هذا القرآن للناس من كل مثل } من نوع واحد وأنواع مختلفة ليتفكروا فيها { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } الآية نزلت في أبي خلف والجدال الخصومة بالباطل { وما منع الناس أن يؤمنوا } الآية، نزلت في أهل مكة { إذ جاءهم الهدى } أي ما منعهم وهذا استفهام والمراد به الإنكار كأنه قال: لا شيء يمنعهم من الاهتداء فقد جاءهم الهدى ولا عذر لهم في تركه { إلا أن تأتيهم سنة الأولين } هذا ليس استثناء حقيقي أراد به أنه لا مانع لهم أصلا سنة الأولين، يعني طريقة الله في هلاك من عصاه { أو يأتيهم العذاب قبلا } يعني عيانا، وقيل: فجأة { وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } يعني بعث الرسل بالوعد للمحسن والوعيد للمسيء { ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا } يخاصموا به { الحق } ، قيل: ليزيلوا الحق عن قراره وهكذا إعادة المبطل { واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا } هو القرآن وكانوا يستهزئون به.
[18.57-61]
{ ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه } هذا استفهام والمراد التقرير، يعني ليس أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه، قيل: بالقرآن، وقيل: سائر حجج الله فأعرض عنها { ونسي ما قدمت يداه } من الذنوب { إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه } أغطية، وقوله: أن يفقهوه : يعلموه { وفي آذانهم وقرا } وهذا على وجه التشبيه أي أعرضوا عن الدين إعراض من جعل على قلبه أكنة وكان في أذنيه وقرا، وقيل: المراد بالأكنة والوقر الختم، علامة يجعلها على قلب الكافر لتميزه الملائكة { وان تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا } أي لا يقبلون الحق { وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم } يعاقبهم { بما كسبوا } من الذنوب { لعجل لهم العذاب } في الدنيا { بل لهم موعد } وهو القيامة إذا بعثوا { لن يجدوا من دونه موئلا } يعني ملجأ، وقيل: منجا، ومتى قيل: وما معنى قوله: { وربك الغفور ذو الرحمة }؟ قالوا: غفورا لذنب التائب، ذو الرحمة للمصر يمهل ولا يعاجل، وقيل: غفور يستر عليهم، ذو الرحمة منعم عليهم بالنعم، وقيل: غفور لا يؤاخذهم عاجلا وبالرحمة يؤخرهم ليتوبوا ويقبل توبتهم { وتلك القرى } إشارة إلى القرى التي تنزل بهم العذاب { أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا } أي أجلا وميقاتا، والأجل: الوقت الذي وعدوا فيه بالإهلاك، أي كما جعلنا لأولئك موعدا أأخذناهم اليه للمصلحة التي علمنا كذلك هؤلاء، ثم ذكر قصة موسى (عليه السلام) فقال سبحانه: { وإذ قال موسى لفتاه } ، قيل: عبده، وقيل: يوشع بن نون لأنه كان يحدثه ويتبعه، وقيل: كان يأخذ منه العلم { لا أبرح حتى أبلغ } يعني لا أبرح أسير { حتى أبلغ مجمع البحرين } وهو المكان الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر، (عليهما السلام) وهو ملتقى بحر فارس والروم مما يلي المشرق، أو أسر زمانا طويلا، والحقب: ثمانون سنة، تدل الآية على أن موسى (عليه السلام) سافر لمرض واختلفوا في سنه، روي أنه لما ظهر موسى (عليه السلام) على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيبا فذكرهم الله وقال: إنه اصطفا نبيكم وكلمه، فقالوا له: قد علمنا ذلك فأي الناس أعلم؟ قال: أنا، فعتب الله عليه حيث لم يرد العلم إلى الله فأوحى إليه بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر (عليه السلام)، وروي أن موسى سأل ربه: أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني، قال: فأي عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال: فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علم نفسه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى وترده عن ردى، فقال: إن كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه، قال: أعلم منك الخضر، قال: أين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة، قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك، فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فاخبرني، فذهبا يمشيان حتى بلغا البحر فرقد موسى فاضطرب الحوت فوقع في البحر، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر، فأتيا الصخرة فإذا رجل متسجي بثوبه فسلم عليه، وقيل: رآه على طنفسة خضراء فسلم عليه، فقال: وعليك السلام يا نبي بني اسرائيل، فقال له موسى: وما أدراك أني نبي، قال: من ذلك علي، وقيل: وصل إليه وهو يصلي فلما صلا تحدثا، فقال: يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم لا أعلمه أنا، فلما ركبا في السفينة جاء عصفور فوقع فنقر في الماء، فقال الخضر: ما نقص علمي وعلمك مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر، وقيل: كانت سمكة مملوحة، وقيل: أن يوشع حمل الحوت والخبز في المكتل فنزلا على عين تسمى عين الحياة، فلما نام موسى أصاب السمكة روح الماء وبرده فعاشت، وروي أنهما أكلا منها، وروي أن يوشع توضأ من تلك العين فانفض الماء على الحوت فعاش، قيل: تركاه، وقيل: نسياه من النسيان، ومتى قيل: كيف نسياه والحوت مع يوشع؟ قالوا: كما يقال نسي القوم زادهم، وإنما نسي واحد، ويقال: نسي يوشع حمل الحوت، ونسي موسى أن يذكره { فاتخذ سبيله في البحر سربا } أي مسلكا يذهب فيه، قيل: قاما عند الصخرة فاضطرب السمك وخرجت من المكتل وسقطت في البحر، فلما استيقظ موسى من نومه نسي صاحبه أن يخبره به.
[18.62-73]
{ فلما جاوزا } ذلك المكان وألقى الله على موسى الجوع ليذكر حديث الحوت { قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا } تعبا { قال له } صاحبه { أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا } أي مسلكا عجبا، قيل: هذا من كلام يوشع أي عجبت من ذلك عجبا، وقيل: هو من كلام موسى، وقيل: إنجاز الماء عن مسلك الحوت فصار كوة لا يلتام، وقيل: كان لا يسير شيء من البحر إلا يبس { قال ذلك ما كنا نبغ } نطلب { فارتدا على آثارهما قصصا } { فوجدا عبدا من عبادنا } عند الصخرة قيل: هو الخضر، وسمي خضرا لأنه قعد على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء، وقيل: كان إذا صلى اخضر ما حوله { قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا } أي علما ذا رشد أرشد به في ديني { قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا } يعني لا تعجل بالسؤال حتى أحدث لك منه ذكرا، يعني أنا أكون المخبر بذلك، فشرط موسى من نفسه الصبر وترك التعرض للسؤال وربما قد يكون الصلاح في تركه ولذلك قال تعالى:
لا تسألوا عن أشياء
[المائدة: 101] { فانطلقا } ذهبا يسيران يطلبان سفينة يركبانها، وقيل: مشيا على ساحل البحر { حتى إذا ركبا في السفينة } ، قيل: لما ركبا في السفينة قال أهل السفينة: هم لصوص، قال صاحب السفينة: ما هم لصوص لكني أرى وجوه الأنبياء، وقيل: إنهم عرفوا الخضر فأركبوه بغير عوض فلما نجحوا أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحا من ألواحها مما يلي الماء فجعل موسى يسد الخرق ببنانه ويقول: { أخرقتها لتغرق أهلها } لتغرق قرئ بالياء والتاء قراءة نافع { لقد جئت شيئا إمرا } أي أمرا منكرا، وقيل: ذا هيئة عظيمة، قال الغلام: { ألم أقل إنك لن تستيطع معي صبرا } فتذكر موسى ما بذل من الشرط فقال متعذرا: { لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا } ، قيل: لا تعجلني، وقيل: لا تغشني من أمري عسرا، وقيل : ساهلني ولا تلحق بي عسرا.
[18.74-82]
{ فانطلقا } سارا { حتى إذا لقيا غلاما فقتله } ، قيل: مر الخضر بصبيان يلعبون فأخذ غلاما فذبحه بالسكين قيل: كان غلاما يعمل بالفساد بالأولاد، وقيل: كان غلاما شابا وسمي غلاما لقرب عهده، وقيل: كان يقطع الطريق ويلجأ إلى أبويه فيحلفان، وروي أن الخضر نزع رأسه من بين عينيه، وقيل: ضربه برجله فقتله { قال } موسى { أقتلت نفسا زكية } طاهرة من الذنوب، وزكية: بريئة من الذنوب لأنها كانت صغيرة، يعني نفس لم تستحق القتل { لقد جئت شيئا نكرا } { قال } له الخضر: { ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا } أي نفسك لا تطاوعك وليس هذا بتوبيخ وذم وإنما هو تحقيق لما قاله له أولا من نهيه عن السؤال فقال موسى عند ذلك: { إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } وفارقني، وإنما قال له ذلك قطعا للعذر { قد بلغت من لدني عذرا } أي أنت معذور في فراقي وقطع صحبتي { حتى إذا أتيا أهل قرية } ، قيل: أنطاكية عن ابن عباس، وقيل: الأيلة، وقيل: ليس هذه شيء { استطعما أهلها } أي سألا الطعام ويباح في سائر الشرائع للجائع وربما يجب إذا خاف الضرر { فأبوا أن يضيفوهما } أي امتنعوا أن يضيفوهما { فوجدا فيها جدارا } ، قيل: كان بناه رجل صالح وكان ظهر الطريق يمر تحته الناس، وروي أن كان طوله في السماء مائة ذراع عن وهب، وقيل: ماءتي ذراع، وطوله على وجه الأرض خمسمائة ذراع { يريد أن ينقض } أي يكاد ويقارب أن يسقط لأنه مال من أسفله، والجدار لا إرادة ولكن هذا من فصيح الكلام وإعجازه { فأقامه } ، قيل: رفع الجدار بيده فاستقام، وقيل: رفعه بمنكبه حتى قام، وقيل: هدمه ثم قعد يبنيه فقال موسى: { لو شئت لاتخذت عليه أجرا } أي جعلا وأجرة ويكون لنا عونا على سفرنا، قوله تعالى: { قال } الخضر: { هذا فراق بيني وبينك } ، قيل: هذا الوقت فراق بيني وبينك { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا } أي لا تطاوع نفسك بالصبر عليه، ثم حكى تعالى ما بين العالم لموسى من وجه المصلحة، فيما فعل فقال تعالى: { أما السفينة فكانت لمساكين } فقراء، وقيل: كان لعشرة أخوة خمسة رببا وخمسة { يعملون في البحر } ، وقيل: كانت في أيديهم إجارة { وكان وراءهم ملك } ، قيل: امامهم، وقيل: خلفهم، وكان طريقهم في رجوعهم عليه وما كان عندهم خبره فأعلم الله به الخضر { يأخذ كل سفينة غصبا } صالحة غير معيبة، وقرأ ابن عباس كل سفينة صالحة، قيل: اسم الملك جلندى، وقيل: هودا { وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا } أي علمنا، قيل: هذا من قول الخضر، وقيل: هو من قول الله تعالى: { ان يرهقهما } أي يهلكهما { طغيانا وكفرا } وذلك مفسدة في الدين { فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما } صالحا سالما، والزكاة الطهارة، والرحم الرحمة، وروي أنه ولد لهما جارية تزوجت بنبي فولدت نبيا هدى الله على يديهما أمة من الأمم، وقيل: ولدت سبعين نبيا، وقيل: أبدلهما الله ابنا مؤمنا { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } ، قيل: اسمهما مريم وأضرم، فحفظ الكنز لصغرهما وضعفهما وصلاح أبيهما { وكان تحته كنز لهما } ، قيل: كان صحف علم مدفونة تحته، وقيل: مال مدفون من ذهب وفضة، وقيل: لوح من ذهب مكتوب فيه عجبا لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، وعجبا لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب، وعجبا لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، وعجبا لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، وعجبا لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن اليها، لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقيل: مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبا كما تقدم { وكان أبوهما صالحا } ، قيل: كان اسمه كاشح وهو أبوهما، وقيل: كان الأب الصالح السابع من أبيهما { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما } ، قيل: ثمانية عشر سنة، وقيل: غير ذلك { ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك } أي كان ذلك نعمة منه عليهما { وما فعلته عن أمري } من تلقاء نفسي ولكن بأمر الله تعالى { ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا } أي لم تطاوع نفسك على الصبر، ثم بين تعالى قصة ذي القرنين بعد ذلك، قيل: سألت اليهود رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قصة ذي القرنين، وقيل: قالوا للمشركين: اسألوه عن ذلك، فأنزل الله تعالى الآيات.
[18.83-89]
{ ويسألونك } يا محمد اليهود { عن ذي القرنين } هو الاسكندر الذي ملك الدنيا، قيل: ملكها مؤمنان ذي القرنين وسليمان بن داوود، وكافران نمرود بن كنعان وبخت نصر، قيل: إن ذو القرنين كان عبدا صالحا ملكه الله الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه وسخر له النور والظلمة، فإذا سار يهديه النور من أمامه وتحفظه الظلمة من خلفه، وقيل: كان نبيا، وقيل: ملكا صالحا، وعن علي (عليه السلام): " إنه سخر له السحاب ومد له الأسباب وبسط له النور " وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أنه سمي ذو القرنين لأنه طاف قرني الدنيا "
، يعني جانبيها شرقها وغربها، وقيل: كان له قرنان، وقيل: انقرض في وقته قرنان من الناس، ومتى قيل: لم لم يقص كل أخبار ذي القرنين؟ قالوا: لا يمتنع أن يكون المذكور في كتبهم ذلك القدر فخبر بذلك ليكون أقوى في الدلالة ولا يمتنع أن يكون الصلاح في تعريفهم هذا القدر دون غيره، والزيادة { إنا مكنا له في الأرض } أي ملكناه وأوطأنا له الأرض { وآتيناه من كل شيء سببا } ، قيل: آتيناه علما لسبب به إلى ما يريد عن ابن عباس، وقيل: من كل شيء تستعين به الملوك على فتح البلاد ومحاربة الأعداء، وقيل: حيلة الأمور { فاتبع } سلك وسار، وبالتخفيف لحق { سببا } طريقا بين المشرق والمغرب، وروي أنه حمل الخشب على الجمال فإذا بلغ البحر اتخذ السفن { حتى إذا بلغ مغرب الشمس } يعني موضع غروبها، قال في الغرائب والعجائب: ذهب بعض المفسرين إلى أن الشمس تغرب في وسط العين وأن الماء يفور لولا أصوات أهل مدينة بالمغرب يقال لها جائر سألها اثني عشر ألف باب لسمعتم وقع هدتها، إذا وقعت، والله أعلم بذلك الخبر { وجدها تغرب في عين حمئة } يعني وجد الشمس تغرب في عين حارة ذات حمئة، روي لكعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب في التوراة؟ قال: في ماء وطين { ووجد عندها قوما } ، وقيل: ناسا، وقيل: معناه وجدها كأنها تغيب في عين وإن كانت تغيب وراءها، وأنكر هذا قول جماعة، قالوا: بل هي تغيب في عين حمئة على ظاهر القرآن وعليه أكثر المفسرين، قالوا: { قلنا ياذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا } يعني إما أن تعذب بالقتل من أقام على الشرك وإما أن تتخذ فيهم حسنا تعفوا وتصفح وتأمرهم وتعلمهم الهدى والرشد، فقال ذو القرنين مجيبا: { أما من ظلم } ، قيل: من كفر ولم يتب، وقيل: من عصى وظلم { فسوف نعذبه } بالقتل { ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا } ، قيل: أشد من القتل، وقيل: منكرا غير معهود، ثم بين تعالى ما وعد المؤمنين فقال تعالى: { وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا } ، قيل: عدة جميلة من الله تعالى، وقيل: بين له القول ويهون عليه الأمر، ثم بين تعالى مسيره إلى المشرق فقال سبحانه: { ثم اتبع سببا } أي سلك طريقا، وقيل: سلك طريقا للجهاد، والسبب الطريق.
قال الشاعر:
ال المشارق والمغارب يبتغي
أسباب أمر من حكيم قادر
[18.90-101]
{ حتى إذا بلغ مطلع الشمس } يعني قرب من طلوع الشمس والمعنى بلغ مطلع الشمس { وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا } ، قيل: لم يكن شجر ولا جبل ولا بناء، وعن كعب: أرضهم لا تمسك أبنية وبها أسراب فإذا طلعت الشمس دخلوها فإذا ارتفع النهار خرجوا من معايشهم، وعن بعضهم خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقيل لي: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فلقيتهم فإذا أحدهم يلبس أذنه ويفترش الأخرى، فبينما نحن كذلك إذ سمعت كهيئة الصلصلة فغشي علي، فلما أفقت وقد طلعت الشمس على الماء هي فوق الماء كهيئة الزيت، فأدخلونا سربا لهم، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فيصح لهم، وعند مجاهد: من لا يلبس الثياب من السودان عند طلوع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض { كذلك } أي أمر ذي القرنين كذلك { وقد أحطنا بما لديه } من الجنود والآلات وأسباب الملك، قيل: علمنا ، ثم بين تعالى حاله بعد مسيره إلى المشرق فقال سبحانه: { حتى إذا بلغ } وصل { بين السدين } وهما جبلان سد ذو القرنين ما بينهما حاجزا من يأجوج ومأجوج ومن ورائهم، وقيل: السد ما بين الربية والربيحاء { وجد من دونهما قوما } هم الترك { لا يكادون يفقهون قولا } حصوا بلغة لا يكادون يفقهون قولا { قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج } هما من ولد يافث { مفسدون في الأرض } ، قيل: كانوا يأكلون الناس، وقيل: كانوا يخرجون أيام الربيع ولا يتركون شيئا أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا احتملوه، وكانوا يلقون منهم أذى شديدا، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا يموت أحد منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح "
وقيل: هم على ضربين: طول مفرط الطول وقصر مفرط القصر { فهل نجعل لك خرجا } أي جعلا نخرجه من أموالنا لك { على أن تجعل بيننا وبينهم سدا } لا يقدرون على الخروج منه، فقال ذو القرنين: { ما مكني فيه ربي خير } أي ما جعلني فيه ممكنا من كثرة المال واليسار خير مما عرضتم علي، ثم بين تعالى كيف بنى السد فقال تعالى: { آتوني زبر الحديد } قطع الحديد { حتى إذا ساوى بين الصدفين } جانبي الجبل، والصدفان قيل: جبلان، قيل: إنه حفر الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب، والبناء من زبر الحديد بين الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم جعل المنافخ حتى إذا صارت نارا أصب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا، وقيل: بعد ما بين السدين مائة فرسخ، ويقال: أن ارتفاعه مقدار ماءتي ذراع وعرضه نحو خمسين ذراعا، والقطر: النحاس المذاب، قوله تعالى: { فإذا جاء وعد ربي } يعني يوم القيامة جعل السد مدكوكا مستويا على الأرض { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض } يعني يوم القيامة يموج في بعض، أي يضطربون إنسهم وجنهم، وقيل: أراد يأجوج ومأجوج، وأنهم يموجون حتى يخرجون من السد مزدحمين في البلاد، وروي فيأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به ممن لم يتحصن منهم من الناس ولا يقدرون يأتون مكة والمدينة وبيت المقدس، ثم يميتهم الله بعد ذلك { ونفخ في الصور } ، قيل: قرن ينفخ فيه عن ابن عباس، وقيل: ينفخ فيه ثلاث نفخات: نفخة الفزع والثاني نفخة الصعق والثالث نفخة القيام لرب العالمين، وقال الحسن: الصور جمع صورة فيحسون بأن ينفخ في الصور والأرواح { فجمعناهم جمعا } الخلق للحساب والجزاء يوم القيامة جميعا في صعيد واحد { وعرضنا جهنم } وبرزناها لهم فرأوها وشاهدوها { للكافرين عرضا } ثم وصف الكافرين فقال سبحانه: { الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري } أي عن آياتي التي ينظر إليها وعن القرآن وتأمل معانيه ونحوه
صم بكم عمي
[البقرة: 18] والغطاء الغشاء { وكانوا لا يستطيعون سمعا } يعني وكانوا صما عنه أي يثقل عليهم استماع كتاب الله والإيمان به.
[18.102-110]
{ أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي } أي كيف ظنوا { أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء } ، قيل: أراد عيسى والملائكة الذين يتخذونهم أولياء ينصرونهم كلا بل هم أعداؤهم تبرون منهم، وقيل: هم الشياطين يوالونهم ويطيعونهم { إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا } ، قيل: مأوى منزلا { قل } يا محمد { هل أنبئكم } هل أخبركم { بالأخسرين أعمالا } الآية نزلت في اليهود والنصارى، وقيل: في الرهبان والقسيسين الذين حبسوا أنفسهم في الصوامع عن علي (عليه السلام) { الذين ضل سعيهم } ضاع عملهم في الحياة الدنيا { وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا } هم الرهبان عن علي (عليه السلام)، أن يظنوا أنهم أحسنوا ولا شيء أعظم من أن يتصور الإنسان أنه محق وهو في الحقيقة مبطل، وهذه صفة المتبدعة والمقلدة الذين اتبعوا أئمة الضلال فيحسبون أنهم على شيء وعاقبتهم الهلاك، ثم بين تعالى حالهم فقال: { أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه } أي جحدوا ثوابه وجزاءه والمراد القيامة لقاء جزائه { فحبطت أعمالهم } أي بطل جزاء أعمالهم { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } يعني لا قيمة له عند الله ولا كرامة، وقيل: لا نقيم لأعمالهم وزنا لأنها تبطل، وقيل: إنما يكون لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين، ولما تقدم الوعيد عقبه بذكر الوعد فقال سبحانه: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ، قيل: الطاعات { كانت لهم } قيل: معناه تكون لهم، وقيل: كان لهم في حكم الله وعلمه { كانت لهم جنات الفردوس } ، قيل: أعلا الجنة وأحسنها، ومنها يتفجر أنهار الجنة وفوقها العرش في خبر مرفوع، وقيل: ربوة الجنة وأوسطها وأرفعها، وقيل: هو البستان الذي فيه الأعناب { نزلا } ، قيل: منزلا، وقيل: منازلا ذات نزل { خالدين فيها } دائمين { لا يبغون عنها حولا } تحويلا إلى مكان آخر { قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي } البحر اسم للجنس أعني جنس البحار، المداد اسم ما يمد به الدواة وما يمد به السراج من السليط، ويقال: السماء مداد الأرض، والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمه وكان البحر مدادا لها، والبحر اسم لجنس البحار { لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا } لنفد أيضا والكلمات غير نافدة، وقيل: كلمات ما أعد لأهل الثواب وأوعد لأهل العقاب، وقيل: مقدوراته وحكمه وعجائبه { قل } يا محمد { إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } لا شريك له في الإلهية تعالى { فمن كان يرجو لقاء ربه } الآية نزلت في رجل جاء إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: إني أحب الجهاد وأحب أن يرى مكاني، فأنزل الله هذه الآية، وقيل: نزلت في جندب بن زهير كان يصلي ويصوم لقالة الناس لا يريد به وجه الله فنزلت الآية { فمن كان يرجوا لقاء ربه } جزاؤه وما وعد الله المؤمنين على التوحيد والتمسك بالشريعة، وقيل: من كان يخاف الله لم يراه على معصية، والرجاء يتضمن المعنيين الخوف والأمل، قال الشاعر:
فلا كل ما ترجو من الخير كائن
ولا كل ما ترجو من الشر واقع
وقوله: { فليعمل عملا صالحا } خالصا، وقيل: الصالح ما وافق الشرع وأمر الله به { ولا يشرك بعبادة ربه أحدا } ، قيل: لا يرائي بعبادة الله، وقيل: الربا الشرك الأصغر، وروي مرفوعا، ومن قرأ عند مضجعه: { قل إنما أنا بشر مثلكم } إلى آخر السورة كان له نورا في مضجعه يتلألأ إلى مكة، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه إلى أن يكتبه، وإن كان مضجعه بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ.
[19 - سورة مريم]
[19.1-6]
{ كهيعص } ، قيل: اسم السورة عن الحسن، وقيل: إسم من أسماء الله، وعن علي (عليه السلام) أنه كان يقول: " يا كهيعص " وقيل: هو من أسماء الله تعالى فالكاف من كافي وكريم، والهاء من هادي، والياء من رحيم وحكيم، والعين من عليم وعظيم، والصاد من صادق { ذكر رحمة ربك } أي هذا المتلو من القرآن { ذكر رحمة ربك عبده زكريا } وإنما قدم رحمة لأن الذكر سبب الرحمة، وقيل: ذكره لمحمد وأمته أخبار زكريا ليعلموا شأنه، والرحمة النعمة، وقيل: زكريا نفسه رحمة من الله على المؤمنين من حيث دعاهم واقتدوا به { إذ نادى ربه } أي دعاه في محرابه { نداء خفيا } قيل: سرا، وقيل: أخفاه عن قومه لأنه أقرب إلى الإجابة لأنه أفضل، ثم بين تعالى ما دعا به فقال: { رب } أي يا رب { إني وهن العظم مني } أي ضعف لأنه عمود البدن وبه قوامه ولأنه أشد ما فيه وأصلبه، فإذا وهن كان ما وراءه أوهن، واختلف في سن زكريا (عليه السلام) فقيل: ستون، وقيل: خمس وستون، وقيل: سبعون، وقيل: خمس وسبعون، وقيل: خمس وثمانون { واشتعل الرأس شيبا } ، قيل: عم الشيب وقرب الموت، شبه الموت بشواظ النار في بياضه { ولم أكن بدعائك رب شقيا } ، قيل: عودتني الإجابة لدعائي فيما مضى وما خيبتني فأجبني إذا دعوتك، وذلك أنه توسل إلى الله بما سلف من الإستجابة، وعن بعضهم أن محتاجا سأله وقال: أنا الذي أحسنت إلي وقت كذا، وقال: مرحبا بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته { وإني خفت الموالي من ورائي } من بعدي يعني خشيت على الدين أن يبدلوه ويغيروه، وقيل: أن يرث علمي من لا يكون من نسلي، وقيل: أراد بالموالي العصبة { وكانت امرأتي عاقرا } لا تلد { فهب لي من لدنك وليا } أي ولدا يكون لي ناصرا على القيام لحفظ الدين في حياتي { يرثني ويرث من آل يعقوب } العلم والنبوة والدين، قيل: هو يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم، وقيل: يعقوب بن ماثان أخو زكريا (عليه السلام)، وقيل: يعقوب هذا وأبو مريم ثم عمران أخوان من نسل سليمان بن داوود { واجعله رب رضيا } ، قيل: نبيا، وقيل: صالحا، وعن علي (عليه السلام): " ويرث من آل يعقوب أي يرتقي " وكان زكريا (عليه السلام) من نسل يعقوب بن اسحاق.
[19.7-21]
{ يا زكريا إنا نبشرك } يعني نخبرك بخبر يسرك { بغلام اسمه يحيى } ، قيل: بشره بالولد وأنه يحيى ولا يموت صغيرا، وقيل: سماه يحيى ليدل على أن الدين يحيى به { لم نجعل له من قبل سميا } لم نسم أحدا قبله، وقيل: لم نجعل له من قبل سميا أي نظيرا { قال رب أنى يكون لي غلام } أي كيف يكون لي ولد، قيل: هذا تعجب وليس بإنكار، وقيل: إستخبار، وقيل: قاله سرورا كمن يستر بشيء يسره فيقول، كيف يكون هذا؟ { وقد بلغت من الكبر عتيا } ، قيل: عمرا طويلا، وقيل: كان له بضع وتسعون سنة { قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا } { قال } زكريا: { رب اجعل لي آية } أي علامة للحمل، قيل: أراد أن يعلم وقت الحمل فأجاب دعاءه { قال آيتك } علامتك { ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا } يعني لا يمكنك أن تتكلم وأنت سوي سليم، وروي أنه كان لا يمكنه أن يكلم الناس ويتكلم بالقراءة والتسبيح { فخرج على قومه من المحراب } موضع صلاته { فأوحى إليهم } فأشار اليهم بيده، وقيل: بالكلام { أن سبحوا بكرة وعشيا } ، قيل: أراد الدوام، وقيل: أراد الصلاة { يا يحيى خذ الكتاب بقوة } أي قلنا ليحيى لما خلق وعقل، وقيل: لما بلغ أشده، وقيل: أكمل عقله في صباه وصغر سنه، والكتاب: التوراة، بقوة: بجد واجتهاد ومواظبة في العمل { وآتيناه الحكم صبيا } وهو الفهم للتوراة والفقه في الدين عن ابن عباس، وقيل: دعاه الصبيان وهو صبي للعب فقال: ما للعب خلقنا، وقيل: العقل، وقيل: التوراة لأن الله أكمل عقله في صباه وأوحى اليه { وحنانا } رحمة لأبويه وغيرهما وتعطفا وشفقة، وقيل: حنانا من الله عليهما { من لدنا } من عندنا، والزكاة: الطهارة، وقيل: الصدقة { وكان تقيا } أي مخلصا مطيعا مجتنبا للمعاصي، { وبرا بوالديه } قيل: بارا وهو اللطف بهما والطاعة لهما وطلب رضاهما { ولم يكن جبارا } ، قيل: يتطاول على الخلق، ولم يكن جبارا { عصيا } لربه، ثم بشره بأنه مسلم على يحيى فقال: { وسلام عليه } ، قيل: سلامة له في الدنيا من المعاصي وفي الآخرة من العذاب، وقيل: تسليم الملائكة، وقيل: سلام الله عليه في هذه المواطن والأحوال لأنها أوحش المواطن، وقيل: سلامة له من بلاوي الدنيا وعذاب القبر وأهوال الحشر وعذاب النار، وقيل: سلامة له { يوم ولد } من ضرب الشيطان، وروي أن بكاء الصبي من ذلك، ثم عطف قصة مريم وعيسى على قصة زكريا ويحيى فقال سبحانه: { واذكر } يا محمد { في الكتاب } يعني في كتابك { مريم إذ انتبذت من أهلها } والانتباذ والإعتزال والإنفراد واحد يعني تخلت للعبادة في مكان مما يلي شرقي بيت المقدس أو من دارها معتزلة من الناس، وقيل: كانت به ما دامت طاهرة، فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالها وهي بيت زكريا، وإذا طهرت واغتسلت عادت إلى المسجد، فبينا هي في مغتسلها أتاها الملك في صورة آدمي شاب أمرد وضيء الوجه جعد الشعر سوي الخلق، وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتأنس بكلامه ولا تنفر عنه، ولو أتاها في صورة الملائكة لنفرت عنه ولم تقدر على كلامه، ودل على ورعها وعفتها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة، وكان تمثيله على تلك الصورة الجميلة ابتلاء لها، وقيل: كانت في منزل زوج خالتها زكريا ولها محراب على حدة سكنة، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها فتمنت أن تجد خلوة في الجبل تعلي رأسها، فانحفر السقف لها فخرجت فجلست في الشرفة وراء الجبل فأتاها الملك، قيل: قام بين يديها، وقيل: أن النصارى اتخذت المشرق قبلة لانتباذ مريم { مكانا شرقيا } فأرسلنا { إليها روحنا } وهو جبريل (عليه السلام) { فتمثل لها بشرا سويا } { قالت إني أعوذ بالرحمان منك إن كنت تقيا } ، قيل: إن كنت مؤمنا مطيعا، فاخرج فإني استعيذ بالله منك، وقيل: معناه ما كنت تقيا حيث استحللت بالنظر إلي وخلوت بي قال: { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا } يعني نبيا ولدا طاهرا، فلما علمت صدقه بمعجزة ظهرت لها { قالت رب } أي يا رب: إرادة الدعاء لله تعالى { أنى } كيف { يكون لي غلام } والمعتاد أن الولد يحدث عند الوطي { ولم يمسسني بشر } قط بالزوجية وما كنت { بغيا } فاجرة، قال يعني جبريل لمريم: { كذلك قال ربك } ، قيل: هكذا قال ربك، وقيل: قال يعني جبريل لمريم: { كذلك قال ربك هو علي هين } أي سهل يعني خلق الولد من غير أب، { ولنجعله آية للناس } أي حجة للناس يدلهم على التوحيد، وقيل: معجزة { ورحمة منا } أي نعمة لأنه يدعوهم إلى ما قبلوا كان لهم رحمة كان رحمة، وقيل: رحمة لمن تبعه في دينه { وكان أمرا مقضيا } أي محكما، وقيل: أمرا قضاه الله وصدره في اللوح المحفوظ.
[19.22-35]
{ فحملته } أي حملت بعيسى، قيل: أن جبريل نفخ في جيب ردعها فوصلت النفخة إلى بطنها فحملته، وقيل: في فيها فوصلت النفخة إلى بطنها { فانتبذت } أي انفردت { به مكانا قصيا } بعيدا من قومها، قيل: لما أحست بالولادة انفردت عن الناس من أهلها وكتمت أمرها خوفا أن يذموها، وقيل: أخبرت أخاها هارون وكان زاهدا، واختلفوا في مدة حملها قيل: ستة أشهر، وقيل: سبعة، وقيل: ثمانية أشهر، وقيل: ثلاث ساعات، وقيل: حملته في ساعة، وصور في ساعة، ووضعته في ساعة، حين زالت الشمس من يومها، وعن ابن عباس كان مدة هذا الحمل ساعة واحدة كما حملته مدته، وقيل: حمتله وهي بنت ثلاث عشرة سنة، وقيل: بنت عشر، وقيل: أنها حاضت حيضتين { فأجاءها المخاض } أي ألجأها الطلق، وقيل: الحمل { إلى جذع النخلة } ، قيل: كان جذع نخلة يابسة في الصحراء، وقيل: كانت نخلة معروفة، وقيل: أنبت الله جذعا فتعلقت به عند وجع الولادة، فلما ولدت مريم (عليها السلام) { قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا } متروكا، إنما تمنت ذلك خوف الفضيحة، وطعن الناس { فناداها من تحتها } ، قيل: جبريل (عليه السلام)، قيل: كان يقبل الولد، وقيل: هو عيسى وهي قراءة عاصم وأبي عمرو، وقيل: تحتها أسفل من مكانها كقوله:
تجري من تحتها الأنهار
[البقرة: 25]، وقيل: كان أسفل منها تحت الأكمة وصاح بها { ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا } ، قيل: نهرا تشربين منه وتطهرين من النفاس، وقيل: السري عيسى، قال الحسن: كان والله عبدا سريا أي رفيقا شريفا { وهزي إليك بجذع النخلة } نفسها، وقيل: الجذع الغصن { تساقط } ، قال: الزمخشري فيه تسع قراءات { رطبا جنيا } { فكلي واشربي وقري عينا } وطيبي نفسا ولا تغتمي وارفضي عنك ما أحزنك، وقيل: قري عينا أبشري بهذا الولد الصالح { فإما ترين من البشر أحدا } يعني من سألك عن حالك { فقولي إني نذرت للرحمن صوما } عن الطعام والشراب والكلام، لأنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم، ومتى قيل: ما وجه أمرها بالصمت؟ قالوا: ليكفيها الكلام ولدها يما يبرئها { فلن أكلم اليوم إنسيا } ، قيل: كانت تكلم الملائكة ولا تكلم الإنس { فأتت به قومها } ، قيل: جاءت بالولد الى غار فمكث أربعين ليلة حتى طهرت من النفاس، ثم أتت قومها، وقيل: نهضت من جذع { فأتت به قومها } وهم أهل بيت صالحون فتباكوا و { قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا } أمرا عظيما ونسبوها إلى الفجور، وقيل: هموا برجمها حتى تكلم عيسى { يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء } وما كان هارون، قيل: رجل صالح من بني إسرائيل، وقيل: كان لها أخ صالح يسمى هارون، وقيل: هارون أخو موسى نسب إليه، أو صالح في زمانها شبهوها به، ذكر أن هارون الصالح تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمى هارون تبركا باسمه، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إنما عنوا هارون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانت من أعقابه في طبقة الأخوة وبينها وبينه ألف سنة وأكثر "
وقيل: هارون كان رجلا فاسقا، قوله تعالى: { فأشارت إليه } أي هو الذي يجيبكم، وعن السدي ولما أشارت غضبوا وقالوا: لسخريتها بنا أشد علينا من زناها، وروي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته { وقال إني عبد الله آتاني الكتاب } هو الإنجيل، { وجعلني نبيا وجعلني مباركا أينما كنت } وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" نفاعا حيث ما كنت "
، قيل: معلما للخير، قيل: كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان، وقيل: إنه استمر على الكلام والله أعلم { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا } يعني اقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقيل: الزكاة التطهير { وبرا بوالدتي } أي بارا بها { ولم يجعلني جبارا شقيا } أي تواضعت حتى لم أكن من الجبابرة { والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا } ، قيل: سلام الله عليه في هذه الأحوال، وقيل: السلامة في هذه الأحوال { ذلك } ما تقدم من الصف قصة { عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون } يشكون يعني اليهود والنصارى، وتزعم اليهود أنه ساحر كذاب، وتزعم النصارى أنه ابن الله، وقيل: هو شك النصارى واختلافهم فبعضهم قال: هو الله، وبعضهم قال: هو ابن الله وروحه ثم أكذبهم الله تعالى فقال: { ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } ، قيل: إنه مثل أنه يفعل الأشياء من غير امتناع.
[19.36-53]
{ وإن الله ربي } خالقي وخالقكم { فاعبدوه } وحدوه { هذا صراط مستقيم } أي طريق واضح { فاختلف الأحزاب } الجماعات { من بينهم } ، قيل: هم النصارى افترقوا في عيسى فرقا ثلاثا اليعقوبية والنسطورية والملائكة، وقيل: اليهود والنصارى من أهل الكتاب اختلفوا في عيسى، وقيل: أراد جميع الكفار الذين تحزبوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { من بينهم } من للتبعيض لأن منهم من ثبت على الحق { فويل للذين كفروا } ، قيل: الويل كلمة وعيد { من مشهد يوم عظيم } يعني من مجمع يوم، أي الويل لهم من الفضيحة على رؤوس الجمع وهو يوم القيامة، قال جار الله: أو من كان الشهود فيه وهو الموقف، أو من شهادة ذلك اليوم وأن تشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم { أسمع بهم وأبصر } ، قيل: ما أسمعهم وأبصرهم يوم القيامة ولكن لا ينفعهم، وقيل: أسمعهم ما أنزلنا عليك من وعيدهم وأبصرهم بالوصف لهم ذلك حين يصيرون كأنهم يبصرون { يوم يأتوننا } أي يأتون القيامة { لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين } يعني في الدنيا في ضلال مبين ظاهر، قال جار الله في قوله: { أسمع بهم } معناه التهديد بما يسمعون ويبصرون ما يسؤهم ويصدع قلوبهم { وأنذرهم } خوفهم { يوم الحسرة } أي يوم القيامة، وسميت الحسرة لكثرة الحسرات والتأسف على ما فرط، وقيل: إنما يتحسر من يستحق العقاب فقط والله أعلم، قوله تعالى: { إذ قضى الأمر } فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سئل فقال:
" حين يذبح الكبش والفريقان ينظرون "
{ وهم في غفلة } يعني في الدنيا عن ذلك { وهم لا يؤمنون إنا نحن نرث الأرض ومن عليها } يعني نميتهم فلا يبقى ملك ولا متصرف ويبقى الله تعالى فيرث الأرض ومن عليها، والمراد بالإرث زوال ملك أهلها { وإلينا يرجعون } يعني يبعثون يوم القيامة فيرجعون إلى حكمه وجزائه على أعمالهم، ثم ذكر قصة إبراهيم فقال سبحانه: { واذكر } يا محمد { في الكتاب } في القرآن { إبراهيم إنه كان صديقا نبيا } كثير الصدق في أمور الدين، وكثرة ما صدق به من عيوب الله وآياته وكتبه ورسله { إذ قال لأبيه } آزر وكان كافرا: { يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا } ، قيل: لا ينفعك ولا يضرك ولا يغني عنك شيئا، قيل: أراد الأصنام، وقيل: أراد كل معبود عبدوه قومه من الشمس والقمر والنجوم { يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك } يعني من علوم الدين وأمر القيامة وأحوالها ومن وعد الله ووعيده ما لم تعلم { فاتبعني أهدك صراطا سويا } أي طريقا مستويا وهو طريق الحق، وقيل: طريق الجنة { يا أبت لا تعبد الشيطان } ، قيل: لا تطيعه فيما يدعوك فتكون بمنزلة من عبده لأن من أطاع شيئا فقد عبده، ويحتمل أن المراد بالشيطان رؤساءهم والأول الوجه ولا شبهة أنهم لم يعبدوا الشيطان ولم يصلوا له ولكن أطاعوه { يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمان فتكون للشيطان وليا } قرينا في النار، وقيل: لا حق للشيطان في اللعن، ثم بين تعالى حديث إبراهيم (عليه السلام) في دعوته إلى دينه فقال سبحانه: { قال } يعني أبو إبراهيم وهو آذر مجيبا له حين دعاه إلى الإيمان { أراغب أنت عن آلهتي } أتزهد في عبادة آلهتي التي هي الأصنام، وقيل: تأنف عن عبادة آلهتي { لئن لم تنته لأرجمنك } ، قيل: بالحجارة، وقيل: أظهر أمرك للناس فيرجموك ويقتلوك { واهجرني مليا } ، قيل: دهرا طويلا، فلما سمع ابراهيم من أبيه هذا الجواب الموحش { قال سلام عليك } ، قيل: توديع على اللطف وهو سلام متاركة ومباعدة، وقيل: أما أن لك مني ما أردت من اعتزالي فإني أفعله، وقيل: أراد سلامة الدنيا، قال في الحاكم: وهذا يجوز أن يدعا به للكافر { سأستغفر لك ربي } ، قيل: كان وعده أن يؤمن فاستغفر له بشرط أن يصدق وعده { إنه كان بي حفيا } لطيفا رحيما ثم بين أنه يختار الدين على مساعدة الأب والهجرة عن الوطن فقال: { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } ، قيل: تدعونه إلها وهي الأوثان، وقيل: تدعون تعبدون { وأدعوا ربي } أي أعبده وأدعوه إلها { عسى } على وجه الخضوع { ألا أكون بدعاء ربي } ، قيل: هو ها هنا واجب ومعناه { ألا أكون بدعاء ربي شقيا } كما شقيتم بدعاء الأصنام { فلما اعتزلهم } أي فارقهم قيل: فارقهم إلى الأرض المقدسة { وما يعبدون من دون الله } يعني يدعونه إلها وهي الأوثان { وهبنا له إسحاق ويعقوب } إبنا وابن ابن { وكلا جعلنا نبيا } يعني إبراهيم وإسحاق ويعقوب (صلوات الله عليهم أجمعين)، قوله تعالى: { ووهبنا لهم من رحمتنا } ، قيل: المال والولد، وقيل: النبوة والكتاب، وقيل: الرحمة والنعمة فوهبهم نعمة الدنيا والدين { وجعلنا لهم لسان صدق عليا } رفيعا قيل: بناء حسنا ولسان العرب لغتهم وكلامهم استجاب الله دعوته { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } ثم ذكر حديث موسى واسماعيل فقال سبحانه: { واذكر } يا محمد { في الكتاب } في القرآن { موسى إنه كان مخلصا } ، قيل: أخلص العبادة لله، وقيل: كان موحدا مسلما، وبفتح اللام كان مختارا للرسالة { وكان رسولا نبيا } الرسول الذي معه الكتاب من الأنبياء والنبي الذي ينبئ عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب كيوشع { وناديناه } أي دعوناه { من جانب الطور الأيمن } أي من ناحية اليمنى أو من الأيمن صفة للطور والجانب، وعن أبي العالية حتى سمع صريف القلم الذي كتب به التوراة { ووهبنا له من رحمتنا } من أجل رحمتنا وتراوفنا عليه وهبنا له { هارون } وكان هارون أكبر من موسى فوقعت الهيبة على معاضدته وموازرته عن ابن عباس.
[19.54-63]
{ واذكر في الكتاب إسماعيل } هو أكبر ولد إبراهيم، ذكر إسماعيل (عليه السلام) بصدق الوعد وإن كان موجودا في سائر الأنبياء تشريفا له، وعن ابن عباس أنه وعد صاحبا أنه ينتظره في مكان فانتظره سنة { وكان يأمر أهله بالصلاة } ، قيل: كان يأمر أمته بالصلاة والزكاة، وقيل: يأمر أهله بصلاة الليل وصدقة النهار، وقيل: الزكاة ما يزكيهم ويقربهم إلى الله { وكان رسولا نبيا } ، قيل: جمع بينهما تأكيدا { وكان عند ربه مرضيا } ، قيل: صالحا زكيا (رضي الله عنه) فحصل له عنده المنزلة العظيمة، وقيل: رضي عمله { واذكر في الكتاب } القرآن { ادريس } هو جد أب أب نوح، وقيل: اسمه اخنوخ وليس نبي لأنه تعالى سماه إدريس { إنه كان صديقا نبيا } كثير الصدق، وقيل: أنزل إليه عليه ثلاثين صحيفة وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب وأول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود { ورفعناه مكانا عليا } ، قيل: إلى الجنة ولا بناء أعلى من الجنة، وقيل: إلى السماء السادسة، وقيل: إلى السماء الرابعة، وروي أنه حي لم يمت، وروي أن الله رفعه إلى السماء ثم قبض روحه، وقيل: العلا شرف النبوة والزلفى عند الله، ولما فصل ذكر النبيين وذكر كل أحد بخصلة جمعهم في المدح فقال سبحانه: { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين } بالنبوة، وقيل: سائر الثواب { من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح } وكان إدريس من ذرية آدم لقربه منه لأنه جد أبي نوح وإبراهيم من ذرية من حمل مع نوح لأنه من ولد سام بن نوح، وإسماعيل من ذرية إبراهيم، وموسى وهارون وزكريا ويحيى من ذرية إسرائيل، وكذلك عيسى ابن مريم ذريته { وممن هدينا } من الأمم { واجتبينا } أي اخترناهم للرسالة { إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا } قال جار الله: يعني وقعوا في السجود لله تعالى باكين، والبكاء جمع باك كالسجود والقعود جمع ساجد وقاعد، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا "
وعن صالح المري: قرأت القرآن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنام فقال لي: " يا صالح هذه القراءة فأين البكاء؟ " وعن ابن عباس: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أن القرآن نزل محزن فإذا قرأتموه فتحازنوا "
وقالوا: ندعو في سجدة التلاوة بما يليق بآياتها فإن قرأ آية تنزيل السجدة، قال: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين، وإذا قرأ سجدة سبحان قال: اللهم اجعلني من الباكين إليك، الخاشعين لك، وإن قرأ هذه قال: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهتدين الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك { فخلف من بعدهم خلف } يعني قوم بعد النبيين المذكورين، قيل: هم اليهود ومن معهم تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب، وقيل: هم في هذه الأمة والله أعلم { فسوف يلقون غيا } عذابا أو غيا عن طريق الجنة، وقيل: غيا واد في جهنم تستعيذ منها أوديتها { إلا من تاب وآمن وعمل صالحا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئا } أي لا ينقصون حقهم، { جنات عدن } جنات إقامة، لا تزول الجنة ولا سكانها { التي وعد الرحمن عباده } المؤمنين { بالغيب } يعني غائب عنهم لم يروها { إنه كان وعده مأتيا } { لا يسمعون فيها لغوا } مثل الخنا والفحش والأباطيل ، وقيل: يمينا كاذبة، وقيل: مآثما { إلا سلاما } وهو تسليم الله عليهم، وقيل: أراد تسليم الملائكة { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا } يعني مقدار طرفي النهار، وقيل: أراد إدرار الرزق عليهم في أي وقت شاؤوا { تلك الجنة } ما وصفت { التي نورث من عبادنا } وقرئ نورث استعارة أي نبقي الرزق عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال الموروث، وقيل: لكل مكلف موضع في الجنة فإذا عصى دفع إلى غيره فلذلك سماه إرثا.
[19.64-72]
{ وما نتنزل إلا بأمر ربك } حكاية قول جبريل (صلوات الله عليه) حين استبطأه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وروي أنه احتبس الوحي أربعين يوما، وقيل: خمسة عشر وذلك حين سئل عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فلما نزل جبريل قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أبطأت عني " فنزلت { وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا } الدنيا { وما خلفنا } الآخرة { وما بين ذلك } ما بين النفختين وهو أربعون سنة، وقيل: ما بين أيدينا أمور الآخرة، وما خلفنا أمور الدنيا، وما بين ذلك بين النفختين، وقيل: الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي وراءنا، وما بين السماء والأرض، والمعنى أنه المحيط بكل شيء لا يخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة { وما كان ربك نسيا } يعني لا يجوز عليه النسيان، وقيل: المعنى ما كان ربك نسيا وما كان تاركا لك، كقوله:
ما ودعك ربك وما قلى
[الضحى: 3] أو ما كان ربك نسيا لأعمال العالمين { رب السماوات والأرض } أي خالقهما وخالق ما بينهما { فاعبده واصطبر لعبادته } أي اصبر على أداء عبادته { هل تعلم له سميا } ، قيل: مثلا وشبها { ويقول الانسان أئذا ما مت } الآية نزلت في أبي بن خلف فإنه أخذ عظما باليا وفته بيده ثم قال هذا القول، وقيل: إن الآية نزلت في مشركي قريش كانوا ينكرون البعث، فقال سبحانه: { أولا يذكر الانسان } حال ابتدائه { إنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا } موجودا { فوربك } يا محمد أو أيها السامع { لنحشرنهم والشياطين } ، قيل: نحشرهم من قبورهم مقرونين بأولياء من الشياطين { ثم لنحضرنهم } يعني الخلق والشياطين { حول جهنم } يعني عرصات القيامة { ثم لننزعن من كل شيعة } أي من كل أمة وطائفة { أيهم أشد على الرحمن عتيا } قيل: فجورا وكذبا { ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا } أي هو عالم لذاته لم يزل ولا يزول، ثم بين تعالى أحوالهم يوم الحشر فقال سبحانه: { وإن منكم إلا واردها } اختلفوا في هذا الورود على أقوال: أحدها: ان المراد به الدخول، أي ما من أحد إلا وهو داخله، ودلوا عليه بقوله تعالى: { ثم ننجي الذين اتقوا } فتكون بردا وسلاما على المؤمنين وعذابا على الكافرين، وقيل: أراد بالورود الدخول عليها والإشراف عليها لا الدخول فيها كقوله:
ولما ورد ماء مدين
[القصص: 23]، وقيل: هو الجواز على الصراط لأن الصراط ممدود عليها، وعن مجاهد ورود المؤمن على النار وهو مس الحمأ جسده في الدنيا لقوله: الحمأ من فيح جهنم، وفي الحديث:
" الحمأ حظ كل مؤمن من النار "
وقيل: هو خطاب للكفرة خاصة { ثم ننجي } ابتداء وليس بعطف { ونذر الظالمين في جهنم جثيا } جاثيين على الركب.
[19.73-82]
قوله تعالى: { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } الآية نزلت في النضر بن الحارث وجماعة من قريش لما نافروا فقراء المؤمنين { قال الذين كفروا للذين آمنوا أي الفريقين } يعني فريق الكفار وفريق المؤمنين { خير مقاما } أي مجلسا وموضع إبانة { وأحسن نديا } أي مجلسا دائما تفاخروا بالمال وزينة الدنيا ولم يتفكروا في العاقبة، ثم بين تعالى ما لهم وما أوتوا من أسباب الدنيا لا يغني عنهم شيئا فقال سبحانه: { وكم أهلكنا قبلهم من قرن } أي جماعة، قيل: هؤلاء الكافرين { هم أحسن أثاثا } أي أمتعة وزينة { ورءيا } أي هيئة عن ابن عباس: وقيل: منظرا حسنا، وقيل: الأثاث متاع البيت، يعني كما لم يغني عنهم مالهم كذلك هؤلاء الكفرة { قل } يا محمد { من كان في الضلالة } عن الدين { فليمدد له الرحمن مدا } يعني أن عادة الله تعالى الافضال عليهم بالامهال إبلاغا في الحجة { حتى إذا رأوا ما يوعدون إما العذاب } قيل: عذاب الاستئصال، وقيل: عذاب وقت اليأس، وقيل: عذاب القبر { وإما الساعة } يعني إما عذاب الاستئصال في الدنيا، وإما القيامة { فسيعلمون } حين يرون العذاب { من هو شر مكانا وأضعف جندا } أي أقل ناصرا { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } أي يزيد المؤمنين الذين اهتدوا إلى الحق { والباقيات الصالحات } أعمال الآخرة كلها، وقيل: الصلوات الخمس، وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أي: { هو خير عند ربك ثوابا } من مفاخرة الكفار { وخير مردا } أي مرجعا { أفرأيت الذين كفر بآياتنا } الآية نزلت في العاص، وقيل: في الوليد بن المغيرة، وقيل: هو عام { وقال لأوتين مالا وولدا } أي سأعطى مالا وولدا { أطلع الغيب } ، قيل: أنظر في اللوح المحفوظ، وقيل أعلم الغيب أو قد بلغ من شأنه أن ارتقى إلى علم الغيب الذي توحد به الواحد القهار، والمعنى أن ما ادعاه أن يؤتاه ويأتي عليه لا يتوصل عليه إلا بأحد هذين الطريقين إما علم الغيب وإما عهد من عالم الغيب، فبأيهما توصل إلى ذلك؟ أو يكون العهد توحيدا وعملا صالحا قدمه، قيل: وعده وعدا مؤكدا أن يعطيه المال والولد، فأجابه الله سبحانه بوجهين: أحدهما: انهم قالوا ما لم يعلموا، والثاني: انهم اعتقدوا ما جهلوا وهو نيل الثواب مع الكفر والعصيان، وروي أن الآية في الوليد والمشهور أنها في العاص بن وائل قيل: ضاع له خباب حليا فاقتضاه الأجرة فقال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأن في الجنة ذهبا وفضة وحريرا فأنا أقضيك، ثم فإني أوتى مالا وولدا، فنزلت الآية { كلا } ردع وتنبيه على الخطأ أي هو مخطئ فيما تصور لنفسه { سنكتب ما يقول } سنحفظ { ما يقول } ليجازى به يوم القيامة { ونمد له من العذاب مدا } أي نطول له من العذاب ما يستاهله ويزاد له عذابا فوق العذاب، وقرأ علي (عليه السلام): " ويمد له " { ونرثه ما يقول } أي نزوي عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة من المال والولد { ويأتينا فردا } غدا بلا مال ولا ولد، ثم بين تعالى ما اتخذوه من الآلهة فقال سبحانه: { واتخذوا من دون الله آلهة } وهي الأصنام { ليكونوا لهم عزا } ليكونوا لهم شفعاء يوم القيامة، أو يريد بذلك العز في الدنيا { كلا } أي لا يكون ما ظنوا ردع لهم وإنكار { سيكفرون } ، قالوا: الضمير في سيكفرون للآلهة أي سيجحدون عبادتهم وينكرونها ويقولون والله ما عبدتمونا وأنتم كاذبون كقولهم:
تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون
[القصص: 63]، وقيل: هذا في الأصنام، وقيل: في الملائكة، وقيل: أراد هؤلاء المشركين سيجحدون أن يكونوا عبدوها عندما يرون سوء عاقبتهم { والله ربنا ما كنا مشركين } ، والوجه الأول { ويكونون عليهم ضدا } ، قيل: أعداء، وقيل: أعوانا، والمراد ضد العز وهو الذل والهوان.
[19.83-98]
{ ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين } ، قيل: أراد خلينا بينهم وبين الشياطين إذا وسوسوا اليهم ودعوهم إلى الضلال وهذا مجاز كما يقال خلا بين الكلب وبين غيره، أرسل كلبك عليه { تؤزهم أزا } ، قيل: تزعجهم إزعاجا من الطاعة إلى المعصية، وقيل: تأمرهم بالمعاصي، ويقال: أزه على كذا إذا غراه به، وأزرت الشيء إلى الشيء ضممته اليه، وأزعجه أزه أزا إذا هزه بالازعاج { فلا تعجل عليهم } ، قيل: لا تعجل بإهلاكهم فإن لهم أمدا { إنما نعد لهم عدا } والله تعالى يعد أيامهم عدا { يوم نحشر المتقين } يعني يوم القيامة { إلى الرحمان } إلى حيث لا يملك سواه، وقيل: إلى ثواب جنته { وفدا } ، قيل: جماعات، وقيل: ركابا، وقيل: يأتون بنوق لم ير مثلها { ونسوق المجرمين } ، قيل: المكذبين { إلى جهنم وردا } ، قيل: عطاشا لأن من يرد الماء لا يرد إلا للعطش { لا يملكون الشفاعة } يعني هؤلاء الكفار { وإلا } استثناء { من اتخذ عند الرحمان عهدا } ، قيل: العهد الاعتقاد للتوحيد والاخلاص،
" وعن ابن مسعود أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لأصحابه ذات يوم: " أيعجز أحدكم أن يتخذ عند الله كل صباح ومساء عهدا " قالوا: وكيف ذلك؟ قال: " تقول كل صباح ومساء: اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، إني أعهد اليك أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا عبدك ورسولك، وإنك ان تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير، وإني لا أثق إلا برحمتك، فاجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة، إنك لا تخلف الميعاد، فإذا قال ذلك طبع الله عليه بطابع ووضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى منادي أين الذين لهم عند الله عهدا فيدخلون الجنة لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له ".
وقيل: عملا صالحا، وقيل: أن يشهد أن لا إله إلا الله { وقالوا اتخذ الرحمان ولدا } يعني اليهود والنصارى ومشركي العرب جعلوا لله ولدا { لقد جئتم شيئا إدا } ، قيل: منكرا عظيما، وقيل: قطيعا { تكاد } كلمة وضعت للقرب دون الوقوع { السماوات يتفطرن } يتشققن من قولهم وهذا مجاز { منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا } ، قيل: أراد استعظاما للكلمة وتهويلا، وقيل: أن الله سبحانه يقول: كدت أفعل بالسماوات والأرض عند وجود هذه الكلمة غضبا مني على من تفوه بها لولا حلمي وإني لا أعجل بالعقود روي ذلك في الكشاف، وهذا مجاز ومعناه لو تنفطر السماوات والأرض لشيء عظيم لكانت تنفطر من هذا العظيم ما قالوا، وقيل: تكاد القيامة تقوم وتنشق السماء والأرض لعظم قولهم لكن لها أمد لا يقيمها إلا عند ذلك { أن دعوا للرحمان ولدا } يعني أن هذه الأشياء لو كانت إنما تكون لأجل ادعائهم أن للرحمان ولدا لأن إثبات الولد يقتضي حدوثه وخروجه من صفات الإلهية، ثم نفى ذلك عن نفسه غاية النفي فقال سبحانه: { وما ينبغي للرحمان أن يتخذ ولدا } أي ليس من صفات الرحمان اتخاذ الولد، ثم دل عليه بما بين أن الولد من صفات المحدثين والله قديم ملك جميع الأشياء فكيف يليق به الولد؟! فقال سبحانه: { إن كل من في السماوات والأرض } يعني الخلق من الجن والإنس والملائكة { إلا آتي الرحمان عبدا } أي يأتون ويقرون على أنفسهم فكلهم عبيده { لقد أحصاهم وعدهم عدا } فلا يخفى عليه شيء منهم ولا من أعمالهم { وكلهم آتيه يوم القيامة فردا } بعلمه ليس معه شيء من الدنيا، وقيل: ليس معه عون وناصر وولد، ثم بين تعالى ذكر الوعد بعد تقديم الوعيد فقال سبحانه: { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية نزلت في علي بن أبي طالب (عليه السلام) ذكره الحاكم، فما من مؤمن إلا ولعلي في قلبه محبة عن ابن عباس { سيجعل لهم الرحمان ودا } ، قيل: في الدنيا، وقيل: في الآخرة، وقيل: محبة الملائكة في السماء والإنس والجن في الأرض، وقيل: هو عام { فإنما يسرناه بلسانك } وهي بلغة العرب { لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا } ، قيل: شداد في الخصومة، وقيل: صما، وقيل: الألد الظالم { وكم أهلكنا قبلهم } ، قيل: هؤلاء الكفار { من قرن } من أمة { هل تحس } ، قيل: ترى، وقيل: تجد { منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا } والركز الصوت الخفي وأصل الركز الحس، وقيل: إنهم ينسون فلا يذكرون، نتلو ذلك الكلام في سورة طه والله الميسر والمعين.
[20 - سورة طه]
[20.1-8]
{ طه } ، قيل: اسم السورة، وقيل: معناه بالسريانية يا رجل، قال الحسن: هو جواب المشركين لما قالوا أنه شقي فقال تعالى: يا رجل { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } ، وقيل: اسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) له في القرآن سبعة أسماء محمد وأحمد وطه ويس والمزمل والمدثر وعبد الله، وقيل: معناه طه يا رجل بلغة عك قال شاعرهم:
ان السفاهة طه في خلايقكم
لا قدس الله أخلاق الملاعين
{ القرآن لتشقى } لتتعب فتصير به شقيا { إلا تذكرة لمن يخشى } العقاب { تنزيلا } أي أنزله { تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى } { الرحمان على العرش استوى } ، قيل: نفذ حكمه في السماوات وما بينهما في العرش، وقيل: استوى على العرش أي قادر على خلقه وانفنائه، وقيل: العرش الملك، والاستوى الاقتدار، يعني هو مالك لملكه { له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما } خلقا وملكا { وما تحت الثرى } ما في بطن الأرض من النور والأموات، يعني إنه ملك وخالق لجميع الأشياء، أو ما تحت السبع الأرضين، وعن السدي: هي الصخرة التي تحت الأرض السابعة { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } أي يعلم ما اسررته إلى غيرك وأخفى من ذلك، وهو ما أخطرته ببالك، أو ما أسررته في نفسك وأخفى منه وهو ما استسره فيها، وقيل: السر ما أضمره العبد وأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد عن قتادة، ثم بين تعالى أن عالم السر وأخفى هو واحد هو الله تعالى فقال سبحانه: إنه { الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى } يعني كل اسم يدل على معنى حسن لأن اللقب لا يجوز عليه.
[20.9-36]
{ وهل أتاك حديث موسى } يعني قد أتاك خبره { إذ رأى نارا } ، قيل: أن موسى استأذن شعيبا في الخروج إلى الله فأذن له وخرج بأهله، فولدت له في الطريق ابنا في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، وقد ضل الطريق، وتفرقت ماشيته وما عنده، فقدح النار فلم يور، فأبصر نارا من بعيد عن يساره وكان ذلك ليلة الجمعة { فقال لأهله } امرأته { امكثوا } أقيموا مكانكم وهي بنت شعيب { إني آنست } أبصرت { نارا لعلي آتيكم منها بقبس } النار المقبسة من رأس عود أو فتلة أو غيرها { أو أجد على النار هدى } أي أجد قوما يهدوني في الدين أو يعرفوني الطريق { فلما أتاها } أتى النار، قيل: رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها تستوقد فيها نارا بيضاء ويسمع تسبيح الملائكة، وقيل: كان نورا ولم يكن نارا، وقيل: النار والنور واحد، وقيل: لما رأى ذلك تحير وتعجب وعلم أنه معجز العادة فقال سبحانه: { نودي } أي ناداه الله تعالى وقال: { يا موسى إني أنا ربك } ، وقيل: لما كلمه الله قال: من المتكلم؟ قال الله: { إني أنا ربك } ، فإن قيل: كيف أسمعه كلامه؟ قالوا: الكلام فعل المتكلم فخلق الله النداء في الشجرة، وقيل: رأى نورا عظيما فخاف فألقيت عليه السكينة ثم نودي وكانت الشجرة عوسجة، وروي أن إبليس وسوس اليه لعلك تسمع كلام شيطان، فقال: أنا أعرف أنه كلام الله بأني أسمعه من جميع جهاتي الست، وأسمعه بجميع أعضائي { فاخلع نعليك } ، قيل: أمر بخلع نعليه لأنهما كانا من جلد حمار ميت غير مدبوغ، وقيل: ليباشر الوادي بقدميه متبركا، وقيل: لأن الحفرة تواضع لله، ومن ثم طاف السلف بالكعبة، وروي أنه خلع نعليه وألقاهما وراء الوادي، ومنهم من استعظم دخول المسجد بنعليه { إنك بالواد المقدس } المبارك، وقيل: المطهر { طوى } ، قيل: اسم الوادي { وأنا اخترتك } للرسالة { فاستمع لما يوحى } ، ثم ابتدأ بالتوحيد فقال: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } أمره أن يبلغ ذلك قومه { فاعبدني وأقم الصلاة لذكري } فيها بالتسبيح والتعظيم، وقيل: لأن اذكر بالمدح والثناء { إن الساعة آتية } لا محالة { أكاد أخفيها } وأكاد صلة، وقيل: أكاد أريد كقوله: { كدنا ليوسف } أي أردنا، والإخفاء هو الإسرار، يقال: خفيت الشيء { لتجزى كل نفس بما تسعى } من خير وشر { فلا يصدنك } عن الساعة { من لا يؤمن بها } لا يمنعك بالإيمان بالساعة من لا يؤمن بالساعة { واتبع هواه فتردى } فتهلك { وما تلك بيمينك } إنما سأله ليريه عظيم ما يخترعه عز وعلا من الخشبة اليابسة من قلبها حية وكانت لها شعبتان وفي أسفلها سنان، وقيل: كانت من أوس الجنة أخرجها آدم (عليه السلام) وتوارثوه إلى أن بلغ شعيبا فدفعها إلى موسى { أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي } أخبط بها ورق الأشجار لترعاها غنمي { ولي فيها مآرب أخرى } قال جار الله: كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن جناه بالمحجن، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة، وكان يقاتل بها السباع، وروي أنه كان يستسقي بها فتطول طول البئر فتصير شعبتاها دلوا، ويكونان بالليل وإذا ظهر عدو حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها رداءه وسقاءه فجعلت تماشيه، وإذا سار في البرية ركزها واستظل، كل ذلك معجزات ظهرت فيها { قال ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى } تمشي بسرعة، وقيل: صارت حية صفراء لها عرف كعرف الفرس، وجعلت تورم حتى صار ثعبانا وهو أكبر ما يكون من الحيات عن ابن عباس { قال خذها } يا موسى { ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى } أي في حال ما كانت عصا { واضمم يدك إلى جناحك } وجناحا الإنسان جانباه والأصل المستعار منه جناحي الطير، والمراد إلى جنبك تحت العضد { تخرج بيضاء من غير سوء } كناية عن البرص، وروي أنه كان آدم فأخرج يده من المدرعة بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس أي خذ هذه الآية بعد العصا حية { لنريك } لهاتين الآيتين بعض { من آياتنا الكبرى } ولما الرسالة وأداة المعجزة أمره بالتبليغ فقال: { اذهب إلى فرعون إنه طغى } تعدى { قال رب اشرح لي صدري } يعني وسع لي صدري حتى لا أضجر { ويسر لي أمري } أي سهل علي أدنى ما كلفتني { واحلل عقدة من لساني } وكان في لسانه عقدة، وعن ابن عباس كان في لسانه رته لما روي في حديث الجمرة، واختلف في زوال العقدة بكمالها فقيل: بقي بعضها لقوله: { وأخي هارون هو أفصح مني لسانا } ، وقوله: { ولا يكاد يبين } وكان في لسان الحسين (رضي الله عنه) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ورثها من عمه موسى "
وقيل: زالت لقوله: { قد أوتيت سؤلك يا موسى } { واجعل لي وزيرا من أهلي } الوزير من الوزرة لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنه، ومن الوزر لأن الملك يعتصم برأيه، أو من المؤازرة وهي المعاونة { هارون أخي أشدد به أزري } وكان أخاه لأبيه وأمه، وكان بمصر، وأشركه الله تعالى بينهما في النبوة، سأله موسى خمسة: شرح الصدر وتيسير الأمر واحلل عقدة واجعل لي وزيرا من أهلي أي ظهيرا معينا وخامسها بين ما هو فقال هارون أخي، فأجابه الله تعالى: و { قال قد أوتيت سؤلك يا موسى } وروي في العقدة قيل: جمرة طرحها في فيه لأنه أخذ بلحية فرعون فنتفها، فهم بقتله فقالت آسية: إنه صبي لا يعقل وعلامته أن تقرب له التمرة والجمرة، فقربا فأخذ بالجمرة فجعلها في فيه، وقيل: أن جبريل حول يده من التمرة إلى الجمرة. الأزر: القوة وآزره قواه، أي اجعله شريكي في الرسالة حتى نتعاون على عبادتك وذكرك { كي نسبحك } ننزهك عما لا يليق عليك { ونذكرك كثيرا } نحمدك ونثني عليك، وبين تعالى أنه أجاب موسى إلى ما سأله وأنعم عليه مع سائر نعمه من قبل، فقال سبحانه: { قد أوتيت سؤلك يا موسى } مرادك وطلبتك.
[20.37-44]
{ ولقد مننا عليك } نعما متوالية، فقال سبحانه: { إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى } الوحي إليها إما أن يكون على لسان نبي في وقتها كقوله:
وإذ أوحيت إلى الحواريين
[المائدة: 111]، وقيل: كانت رؤيا في المنام أو تلهمها كقوله:
وأوحى ربك إلى النحل
، ثم فسر ذلك الوحي فقال: { أن اقذفيه في التابوت } ، قيل: سمع فرعون ممن قرأ الكتب، وقيل: من الكهنة، وقيل: رأى رؤيا فعبر له أن زوال ملكه على يدي رجل من بني إسرائيل، فأخذ في ذبح الأولاد وشد في ذلك، وروي أنه وكل بكل حامل قبطية تحفظها، فلما ولدت أم موسى حفظته في التابوت وألقته في اليم، وروي أنها وضعت في التابوت عطبا محلوجا فوضعته فيه، وقيل: أن الذي صنع التابوت مؤمن من آل فرعون اسمه حزقيل { فاقذفيه في اليم } في البحر { فليلقه اليم بالساحل } يعني شاطئ البحر { يأخذه عدو لي وعدو له } كموسى وهو فرعون، وروي أنها وضعته في التابوت وجصصته وقبرته ثم ألقته في اليم، وكان يسرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير، فبينما هو جالس على رأس بركته مع آسية إذ بالتابوت فأمر به فأخرج ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجها، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه { وألقيت عليك محبة } خالصة أو واقعة { مني } في القلوب، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك، روي أنها كانت على وجهه مسحة جمال، وفي عينيه ملاحة ولا يكاد يصبر عنه من رآه { ولتصنع على عيني } أي لتغذى على محبتي وإرادتي، وهذا من فصيح الكلام { إذ تمشي أختك } ، قيل: بعثتها أمها لتنظر حال التابوت، وكان الناس يدخلون ولا يمنعون { فتقول هل أدلكم على من يكفله } لما امتنع من ثدي أحد قالت أخته واسمها مريم: هل أدلكم على امرأة ترضعه وتربيه؟ فقالوا: نعم، فجاءت بالأم فقبل ثديها فذلك قوله: { فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها } الآية { وقتلت نفسا } وهو القبطي الذي استغاثه عليه الاسرائيلي، قتله وهو ابن اثني عشر سنة { فنجيناك من الغم } لأنه اغتم بسبب القتل خوفا من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون، فغفر الله له ذلك { وفتناك فتونا } اخترناك اختيارا { فلبثت سنين في أهل مدين } وذلك حين رعى لشعيب عشر سنين، وروي أن بين مدين ومصر ثمان مراحل { ثم جئت على قدر يا موسى } يعني موعد وهو القدر الذي قدره الله لكلامك ونبوتك { واصطنعتك } اخترتك للرسالة { لنفسي } رسولا { اذهب أنت وأخوك بآياتي } بالعصا واليد، وقيل: التسع الآيات { ولا تنيا } ، قيل: لا تضعفا ولا تبطئا { اذهبا إلى فرعون إنه طغى } جاوز الحد والعصيان { فقولا له قولا لينا } يعني ارفقا بالدعاء ولا تغلظا له، قيل: كان هارون بمصر فلما أوحى إلى موسى أن يأتي مصرا أوحى إلى هارون أن يلقى موسى، فلقاه على مرحلة واجتمعا وذهبا إلى فرعون { لعله يتذكر } والترجي لهما أي اذهبا على رجائكما وطمعكما، وباشرا الأمر مباشرة من يرجو أو يطمع أن يثمر عمله ولا يخيب عمله، وأرسلهما إليه مع علمه بأنه لا يؤمن إلزاما للحجة وقطعا للمعذرة.
[20.45-59]
{ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا } أي يسرف ويجاوز الحد، وقيل: بالقتل والعقوبة { قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى } بينكما وبينه من قول وفعل، وكأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر سامع مبصر { فأتياه فقولا إنا رسولا ربك } ندعوك اليه { فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم } بذبح الأبناء، والإستعباد للرجال واستحياء النساء { قد جئناك بآية من ربك } اليد والعصا { والسلام على من اتبع الهدى } يريد سلام الملائكة الذين هم خزنة الجنة على المهتدين { إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى } أي أن العذاب على من كذب الرسل وتولى أعرض عن الحق { قال فمن ربكما يا موسى قال } موسى { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه } يعني أعطى كل شيء صلاحه وهداه لما يصلحه، وقيل: اليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للبصر، وكذلك الأنف واليد والرجل، والأزواج: البعير للناقة والرجل للمرأة، فلم يزاوج منها شيء غير جنسه، قوله تعالى: { قال } فرعون { فما بال القرون الأولى } يعني فما حال الأمم الماضية في العقاب والثواب؟ وقيل: فيما دعوت الله، وقيل: في إعادة القرون ومتى يكون؟ { قال } موسى { علمها عند ربي في كتاب } محفوظ، عند الله في اللوح المحفوظ، وقيل: أراد بالكتاب ما تكتبه الملائكة { لا يضل ربي ولا ينسى } يعني لا يضل لا يذهب عليه شيء، ولا ينسى من النسيان. وقيل: هما واحد، عن ابن عباس: لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه { الذي جعل لكم الأرض مهادا } يتصل بما قبله من دلائل التوحيد، يعني جعل الأرض للعباد فراشا، وكذلك جعل { لكم فيها سبلا } طرقا للذهاب والمحجة في أكنافها { وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا } أصنافا سميت بذلك لأنها مزدوجة مقترنة بعضها مع بعض، وهذا:
هو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء
[الأنعام: 99]
ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها
[فاطر: 27] { من نبات شتى } يعني مختلف الألوان والطعوم والمنافع، منها ما يصلح للناس ومنها ما يصلح للدواب، ثم بين تعالى أن هذا لمنافع العباد، فقال سبحانه: { كلوا وارعوا أنعامكم } يعني تأكلوا بعضها وتعلفوا بعضها { إن في ذلك لآيات لأولي النهى } ، قيل: الذين ينتهون عما حرم الله، وقيل: لذوي الورع، وقيل: لذوي العقول { منها خلقناكم } أي من الأرص خلق أصلهم وهو آدم (عليه السلام)، وروي في الكشاف والحاكم أن الملك يأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذره على النطفة فيخلق من التراب والنطفة فذلك قوله تعالى: { منها خلقناكم وفيها نعيدكم } في الأرض عند الموت { ومنها نخرجكم تارة أخرى } عند البعث { ولقد أريناه آياتنا كلها } ، قال جار الله: الإشارة إلى الآيات المعلومة التي هي التسع المختصة بموسى (عليه السلام): العصا واليد، وفلق البحر، والحجر، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونتق الجبل، فكذب بها جميعا وأبى أن يقبل الحق، ثم نسب ما جاء به موسى إلى السحر تلبيسا على قومه فقال: { أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى } { فلنأتينك بسحر مثله } أي بمثل ما أتيت { فاجعل بيننا وبينك موعدا } للوقت الذي تلقي فيه { لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى } مستويا بين الناس، وقيل: وسطا بين الفريقين { قال } موسى { موعدكم يوم الزينة } ، قيل: كان يوم عيد يتزينون، وقيل: يوم عاشوراء عن ابن عباس { وأن يحشر الناس ضحى } وقت الضحى يجتمع الناس نهارا جهارا فترون ما يجري بيننا فيكون أبلغ في الحجة.
[20.60-69]
{ فتولى فرعون } أي انصرف وفارق موسى على الموعد { فجمع كيده } سحره وحيله { ثم أتى } الميعاد، ثم بين تعالى بعد اجتماعهم للموعد فقال سبحانه: { قال لهم موسى } للسحرة { ويلكم } كلمة وعيد وتهديد، وعن وهب لما قال: { ويلكم } الآية، قالوا: ما هذا بقول ساحر { فيسحتكم } ، قيل: يستأصلكم بعذاب، وقيل: يهلككم { فتنازعوا أمرهم بينهم } ، قيل: تشاورت السحرة { وأسروا النجوى } أي أخفوا كلامهم عمن أخفوه، قيل: من فرعون وقومه، أي تناجوا فيما بينهم وأخفوا عنه ما علموا من أمر موسى، وقيل: أخفوا عن موسى وهارون أن ما جرى مع فرعون في إبطال أمرهما، وقيل: أخفوا عن عوام الناس ليوهموا عليهم، واختلفوا في الذي أسروا قيل: قالوا: إن كان ساحرا شغلته، وإن كان أمرا سماويا فله أمره، وقيل: أسروا عن موسى وهارون { إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى } ، قيل: أولو الفضل والشرف والأنساب، وقيل: يذهبا بطريقتكم التي أنتم عليها في السيرة والدين { فأجمعوا كيدكم } ، قيل: هو قول فرعون للسحرة، وقيل: هو من قول السحرة بعضهم لبعض { ثم ائتوا صفا } ، قيل: جمعا، وقيل: صفوفا ولا يختلف عنا منكم أحد، لأنه في صدور الراس، وروي أنهم كانوا سبعين ألفا مع كل واحد منهم حبل وعصا وقد أقبلوا إقبالة واحدة { وقد أفلح اليوم من استعلى } من غلب، ثم بين تعالى ما جرى بينهم فقال سبحانه: { قالوا } يعني السحرة { يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى } وإنما قالوا ذلك إيهاما أن الغلبة لهم، وقيل: كان بلغهم أن العصا تتقلب مرة حية ومرة عصا { قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } تمشي، ويقال : كيف صنعوا حتى خيل أنها تسعى؟ قالوا: كانوا نقروا العصا وجعلوا فيها الزئبق، وكذلك جعلوا الزئبق في الحبال، فلما اصابها حر الشمس اهتزت وتحركت، وقيل: حفروا أسرابا ثم أوقدوا فيها النار، ثم ألقوا عليها الحبال والعصي، فلما أصابها حر النار تحركت، وكانوا سبعين ألفا ومع كل واحد منهم حبل وعصا { فأوجس في نفسه خيفة موسى } ، قيل: خاف التلبيس على العوام، وقيل: الخوف إضمار شيء منه { قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى } الغالب القاهر { وألق ما في يمينك } أي العصا { تلقف } أي تبتلع { ما صنعوا } من الحبال والعصي، قال: لما ألقى عصاه صارت حية وطافت حول الصفوف حتى رآها الناس كلهم ثم قصدت نحو الحبال والعصي فابتلعتها كلها مع كثرتها، ثم أخذها موسى فعادت عصا، فلما رأت السحرة ذلك علموا أنه ليس بسحر وأنها معجزة آمنوا.
[20.70-82]
{ فألقي السحرة سجدا } يعني سجدوا لله تعالى، و { قالوا آمنا برب } العالمين رب { هارون وموسى } فقال فرعون للسحرة { آمنتم له قبل أن آذن لكم } في الإيمان { إنه } يعني موسى { لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى { ولأصلبنكم في جذوع النخل } ، قيل: على جذوع النخل { ولتعلمن أينا اشد عذابا } على كفركم بي وأبقى يعني أنا أم رب موسى، فلما سمع القوم المستبصرون وعيده لهم آثروا طاعة والدار الآخرة ونعيمها، و { قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا } يعني خلقنا { فاقض ما أنت قاض } اصنع ما أنت صانع وتقديره اصنع ما شئت فلسنا نرجع عن دين الله { إنما تقضي هذه الحياة الدنيا } يعني إنما تملك الحكم والأمر في الدنيا دون الدار الآخرة { إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر } أي ما أمرتنا به من عمل السحر، لما علموا وعيد الله هان عليهم وعيد فرعون { والله خير وأبقى } ، قيل: خير ثوابا للمؤمنين، وأبقى للعاصين منك لأنك فان هالك، وقيل: قالوا لفرعون: أرنا موسى إذا نام فأراهم فإذا هو نائم وعصاه تحرسه، فقالوا: ليس هذا سحر، إن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى عليهم إلا يعملوا فذلك اكراههم وروي أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين ساحرا، الاثنان من القبط والباقي من بني اسرائيل، وكان فرعون أكرههم على السحر { إنه من يأت ربه مجرما } ، قيل: إنه خبر من الله اعتراض بين القصتين على غير وجه الحكاية، وقيل: هو حكاية عن السحرة، من يأت إلى الموضع الذي وعد ربه مجرما مشركا أي عاصيا { فإن له جهنم لا يموت فيها } فيستريح { ولا يحيى } حياة هنيئة { ومن يأته مؤمنا } أي مات على الإيمان وأتى الآخرة { قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى } الرفيعة، ثم فسر الدرجات فقال سبحانه: { جنات عدن } امامه يعني دائمة { تجري من تحتها الأنهار } تحت أشجارها وأبنيتها { وذلك جزاء من تزكى } تطهر من أدناس الذنوب، وعن ابن عباس قال: لا إله إلا الله، ثم بين تعالى إصرارهم على الكفر وإهلاك قوم فرعون فقال سبحانه: { ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي } أي أسر بهم ليلا من أرض مصر { فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا } أي اجعل لهم طريقا في البحر لا ماء فيه { لا تخاف دركا } أي يدركك فرعون { ولا تخشى } شيئا من أمر البحر، قيل: لا تخاف كون فرعون خلفك ولا كون البحر أمامك { فأتبعهم فرعون } أي مضى خلفهم ولحقهم { بجنوده } وخيله وإنما أدخله فرسه، وقيل: تقدمهم جبريل { فغشيهم من اليم ما غشيهم } أي أصابهم في البحر ما أصابهم وغمرهم الماء { وأضل فرعون قومه وما هدى } ، قيل: أهلكهم في البحر وما نجاهم من الغرق وقيل: أضلهم عن الدين وما هداهم إلى خير، ثم عاد الكلام إلى خطاب بني إسرائيل وذكر نعمته عليهم فقال سبحانه وتعالى: { يا بني إسرائيل } وهذا خطاب لهم بعد إنجائهم من البحر وإهلاك فرعون، وقيل: خطاب للذين كانوا في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { قد أنجيناكم من عدوكم } أي من فرعون وأعوانه واستعادة النعمة على الأسلاف تكون نعمة الأخلاف، فلهذا ذكرهم بها على قول من يقول: إنه خطاب لمن كان على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { وواعدناكم جانب الطور الأيمن } ، قيل: وعدنا موسى جانب الجبل الذي هو الطور فاختار موسى سبعين رجلا وذهب بهم إلى الموعد وأعطي التوراة { ونزلنا عليكم المن والسلوى } يعني في التيه وقد تقدم { كلوا من طيبات ما رزقناكم } ، قيل: الطيب الحلال { ولا تطغوا فيه } لا تجاوزوا الحد ولا تأكلوا الحلال { فيحل عليكم غضبي } أي يجب أو ينزل على اختلاف القرآن { ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى } أي هلك { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى } يعني لزم الإيمان إلى أن مات.
[20.83-91]
{ وما أعجلك عن قومك يا موسى } يعني ما حملك على العجلة عنهم، قيل: كان أمر الله موسى أن يختار من قومه جماعة، وقيل: سبعون رجلا من خيارهم ليذهبوا معه للميقات ويأخذوا التوراة، فقدموا جميعا إلى الطور على الموعد، ثم تقدمهم موسى شوقا إلى كلام ربه وظن أن ذلك أقرب إلى رضى ربه، وقيل: تقدمهم موسى وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل فقال سبحانه: { ما أعجلك عن قومك يا موسى } { قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى } ، ومتى قيل: إذا كان مأمورا بإحضارهم فلم تقدمهم؟ قالوا: أمر أن يحضر ويحضرهم ولم ينه عن التقدم، ومتى قيل: فلم قال فما أعجلك؟ قالوا قيل: لم يؤذن له في التقديم { قال فإنا قد فتنا قومك } يعني امتحناهم بما حدث في بني إسرائيل من أمر العجل وألزمنا عند ذلك النظر لتعلموا أنه ليس بإله، وأن الله سبحانه وتعالى ليس بصفة الأجسام { وأضلهم السامري } يعني دعاهم إلى الضلال وهو أشدهم ضلالا، وهو منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة، وقيل: كان علجا من قرمان واسمه موسى ابن ظفر، وكان منافقا، وكان من قوم يعبدون البقر { فرجع موسى } بعد ما استوفى أربعين ليلة ذو القعدة وعشر من ذي الحجة وعدهم الله سبحانه أن يعطيهم التوراة الذي فيها هدى ونور، حكى لنا أنها كانت ألف سورة، كل سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملا، وقوله: { غضبان أسفا } ، قيل: حزينا، فقال: { يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا } ولا وعد أحسن من ذلك؟ { أفطال عليكم العهد } الزمان؟ يريد مدة مفارقته لهم، قيل: كان الموعد أربعين جعلوا الليل مفردا والنهار مفردا فلم تم عشرون قال السامري: إن موسى حل حيث لم يرجع، وقيل: أقاموا ثلاثين يوما فلما لم يرجع تمكن منهم السامري { أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم } يعني ينزل عليكم عقوبة { فأخلفتم موعدي } وذلك أن موسى أمرهم أن يقيموا على أمرهم ودينهم حتى يرجع فخالفوا، وقيل: أمرهم أن يتمسكوا بطريقة هارون وطريقته { قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا } ، قيل: لم نعتمد ذلك، وقيل: بملكنا وطاقتنا، وقيل: بأن ملكنا أمرنا، وقيل: لم نملك الصواب ولكن أخطأنا { ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم } من حلي آل فرعون، وذلك أن موسى أمرهم أن يستعيروا من حليهم، وقيل: كانت غنائم آل فرعون ولم يكن لهم حلالا فجمعوها ودفعوها إلى السامري { فقذفناها } ، قيل: في نار السامري التي أوقدها في الحفرة وأمر بأن يطرح فيها الحلي { فكذلك ألقى السامري } أراهم أنه يلقى حليا في يده مثل ما ألقوا، وإنما ألقى التربة الذي أخذها من موطئ حيزوم فرس جبريل، قال جار الله: { فأخرج لهم } السامري من الحفرة { عجلا } خلقه الله من الحلي التي سبكتها يخور كما يخور العجاجيل، وروي أنه صاغ عجلا جعل فيه خردقا إذا دخلته الرياح فأوهم أنه يصوت، وقيل: خار مرة ولم يعد، وقيل: كان خواره بالريح إذا دخل جوفه، وقيل: صاغ عجلا من ذهب مرصع لا روح فيه روي ذلك في الحاكم، قال جار الله: فإن قلت: كيف أثرت تلك التربة في إحياء الأموات؟ قلت: ما يصح أن يؤثر الله سبحانه روح الفرس بهذه الكرامة الخاصة كما أثرت بغيرها من الكرامات، وهي يباشر فرسه بحافره تربة، إذا لاقت تلك التربة جماد أنشأه الله عند مباشرته حيوانا، ألا ترى كيف أنشأ المسيح من غير أب عند نفخة في الدرع، فإن قلت لم خلق العجل من الحلي حتى خار فتنة لبني إسرائيل وضلالا؟ قلت: ليس بأول محنة محن الله بها عباده
يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين
[إبراهيم: 27] ومن عجب من خلق العجل فليكن من خلق ابليس أعجب، فقال - يعني السامري -: { هذا إلهكم وإله موسى } { فنسي } موسى أن يطلبه ها هنا وذهب يطلبه في الطور، أو فنسي السامري ما كان عليه من الإيمان الظاهر { أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا } يجيبهم { ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ولقد قال لهم هارون من قبل } قال جار الله: من قبل أن يقول لهم السامري ما قال كأنهم عندما دفعت إليه أبصارهم طلع من الحفرة واستحسنوه، وقيل: أن نطق السامري بادرهم هارون (عليه السلام) بأن قال: { إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان فاتبعوني وأطيعوا أمري } { قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى } فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا، فلما رجع موسى وهو ممتلئ غيظا من عبادة العجل، وسمع الصياح وكانوا يضربون الدفوف والمزامير حول العجل، فقال: هذه أصوات الفتنة واستقبله هارون (عليه السلام) فألقى الألواح وأخذ يعاقب هارون.
[20.92-98]
{ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا } { ألا تتبعن } يعني هلا تبعتني بمن أقام على إيمانه { أفعصيت أمري } فيما أمرتكم، ويقال: ظاهر الآية أنه أمره باللحاق به، وقيل: لم يأمره بذلك وأمره بمجاهدتهم وزجرهم من القبيح، وكان أخاه من أمه وأبيه { لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي } وكان موسى (عليه السلام) رجلا حديدا في كل شيء شديد الغضب لله ولدينه، فلم يتمالك حتى رأى قومه يعبدون عجلا من دون الله بعد ما رأوا الآيات العظام، أن ألقي الألواح - التوراة - وأقبل على هارون فقبض على شعر رأس هارون وكان أقرع، وعلى شعر وجهه يجره إليه ولما ظهر براءة هارون وبين العذر علم أن الذنب للسامري، أقبل عليه موبخا { فقال ما خطبك } أي ما شأنك وما دعاؤك؟ { قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة } حين أرسل الله إلى موسى جبريل راكب حيزوم فرس الحياة، فأبصره السامري فقال : إن لهذا شأن، فقبض القبضة من تربة موطئة، وقيل: كان معتادا أن من قبض قبضة فألقاها على جماد فإنه يصير صواتا { وكذلك سولت لي نفسي } ما لا حقيقة له، وإنما صاغ عجلا وجعل فيه خردقا، وروي أنه مر به هارون وهو يصنع العجل فسأله، فقال: شيء أفعله مصلحة أدع الله أن يتم ذلك، فدعا له { قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس } أي ما دمت حيا لا تخالط أحدا ولا يخالطك، وكان موسى (عليه السلام) أمر بني إسرائيل ألا يؤاكلوه ولا يخالطوه، وقيل: حرم موسى مؤاكلته ومخالطته وذلك أنه عوقب في الدنيا بعقوبة لا شيء أعظم منها، وقيل: ألقيت هذه الكلمة على لسانه وكان يغدو في الفيافي ويقول: { لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه } أي لن يخلفك الله موعده الذي وعدك إياه على الشرك والفساد، ينجز ذلك في الآخرة بعدما عاقبك بذلك في الدنيا، فأنت ممن خسر الدنيا والآخرة { ذلك هو الخسران المبين وانظر إلى إلهك } الذي اتخذته إلها وعكفت عليه { لنحرقنه بالنار ثم لننسفنه في اليم نسفا } في البحر، وقيل: أحرق حتى صار رمادا ثم رماه في البحر، وإنما فعل ذلك لإزالة الشبهة من قلوب العامة { إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شيء علما } يعني هو خالقكم والمنعم عليكم المستحق للعبادة، هو الله الذي لا إله إلا هو، وقوله: { وسع كل شيء علما } أي يعلم كل شيء، ثم ذكر تعالى من أنباء الرسل تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعقبه بالوعد والوعيد.
[20.99-112]
فقال سبحانه: { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق } ، من أخبار الأمم المتقدمة { وقد آتيناك من لدنا ذكرا } يعني القرآن لأن فيه ذكر ما يحتاج إليه من أمر الدين { من أعرض عنه } من أدبر عن القرآن فلم يعمل بما فيه ولم يؤمن به { فإنه يحمل يوم القيامة وزرا } وأصله الثقل أي يشق عليه حمله لما فيه من العقوبة كما يشق حمل الثقيل { خالدين فيه } أي في عقابه وجزائه { وساء لهم يوم القيامة حملا يوم ينفخ في الصور } جمع صورة يعني كل صور ينفخ فيه، وقيل: هو قرن ينفخ فيه النفخة الثانية ليقوم الناس من قبورهم للجزاء { ونحشر المجرمين } المذنبين { يومئذ زرقا } ، قيل: زرق العيون من شدة العطش، وقيل: عميا، وقيل: سود الوجوه حمر العيون { يتخافتون بينهم } يتشاورون خفية وسرا يعني يكلم بعضهم إما للخوف وللحسرة أو لخوف الفضيحة { إن لبثتم } ، قيل: في الدنيا، وقيل: في القبور { إلا عشرا } ليالي من مدة ما يرون من ذلك اليوم، قال جار الله: يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام القيامة والسرور فيتأسفون عليها ويصفونها بالقصر لأن أيام السرور قصار، وإما لأنها ذهبت عليهم والذاهب وإن طالت مدته قصيرة { إذ يقول أمثلهم طريقة } أشبههم بالعقل { إن لبثتم إلا يوما } ، قيل: قصر ذلك في أعينهم لما عاينوا العذاب، وقيل: إلا يوما بعد انقطاع عذاب القبر عنهم، ويعضده قوله تعالى { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون } ثم بين أن منكر البعث يسأل عن ذكر القيامة ما حالها؟ فقال سبحانه: { ويسألونك عن الجبال فقل } يا محمد { ينسفها ربي نسفا } فيجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها { فيذرها } أي فيذر مفازها ومراكزها أن يجعل الضمير للأرض وإن لم يجر لها ذكر، كقوله:
ما ترك على ظهرها من دابة
[فاطر: 45] { قاعا صفصفا } المكان المستوي { لا ترى فيها عوجا ولا أمتا } واديا ولا رابية، والإعوجاج، الأودية، والأمت: الارتفاع، ثم بين تعالى صفة القيامة فقال سبحانه: { يومئذ } أي يوم القيامة { يتبعون الداعي } أي ثم إذا...... ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل، والمراد بالداع إلى المحشر قالوا: هو إسرافيل قائما على صخرة بيت المقدس، يدعو الناس فينقلبون إليه من كل أوب إلى صوته لا يعدلون { لا عوج له } فيه أي لا عوج لدعاء الداعي ولا يعدل عن أحد بل يحشرهم جميعا، وقيل: من المقلوب أي لا عوج لهم من دعائه، بل يتبعون سراعا لا يلتفتون يمينا ولا شمالا { وخشعت الأصوات } أي خضعت الأصوات { من شدة الفزع فلا تسمع إلا همسا } وهو الذكر الخفي { يومئذ لا تنفع الشفاعة } يعني شفاعة الأنبياء والملائكة لأنهم لا يشفعون { إلا من أذن له الرحمان } { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } يعني ما كان في حياتهم وبعد مماتهم لا يخفى عليه شيء من أمورهم تقدم أو تأخر، وقيل: يعلم ما بين أيديهم من أحوال الآخرة وما خلفهم من أحوال الدنيا { ولا يحيطون } بمعلوماته { وعنت الوجه } المراد وجوه العصاة، وأنهم إذا عاينوا يوم القيامة وسوء الحساب صارت وجوههم عانية أي ذليلة خاشعة { وقد خاب من حمل ظلما } وكل من ظلم في جانب خائب { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما } يعني ظلما بالزيادة في سيئاته ولا نقصان من حسناته { وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا } بلسان العرب { وصرفنا فيه من الوعيد } كررنا وأكدنا { لعلهم يتقون } أي يتقون المعاصي والكبائر، وقيل: يتقوا أفعال الأمم الماضية كيلا ينزل بهم ما نزل { أو يحدث لهم } القرآن { ذكرا } يعتبرون به ويتعظون.
[20.113-122]
{ فتعالى الله الملك } استعظاما له لأنه موجود لم يزل ولا يزول الملك الذي يملك الدنيا والآخرة { الحق } أي أحق من يوصف بهذه الأوصاف وأنه يملك وملكه حق { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } ، قيل: لا تقرئه أصحابك ولا تمليه عليهم حتى يتبين معانيه أو تتم سوره، وقيل: كان يقرأ مع جبريل مخافة النسيان فنهي عن ذلك، ومعناه لا تعجل بقراءته قبل أن يفرغ جبريل من قراءته { وقل رب زدني علما } ، قيل: بالقرآن فهما وحفظا، وقيل: ما أمر الله رسوله في طلب الزيادة في شيء إلا في العلم، ثم عطف الله سبحانه قصة آدم على قوله:
وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون
[طه: 113] والمعنى وأقسم قسما { لقد عهدنا } أمرنا أباهم { آدم } ووصيناه ألا يقرب الشجرة وأوعده بالدخول في جملة الظالمين إن قربها، وذلك قبل وجودهم ومن قبل أن يتوعدهم فخالف إلى ما نهي عنه، قال جار الله: فإن قلت: ما المراد بالنسيان؟ قلت : يجوز أن يريد بالنسيان الذي هو نقيض الذكر، وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة، ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس حتى تولد من ذلك النسيان، وإنه ترك ما وصي به عن الشجرة { فنسي } أي فأنساه الشيطان { ولم نجد لم عزما } على المعصية وإنما فعله نسيانا، قيل: نسي الوعيد وأنه يخرج من الجنة إن أكل، وقيل: نسي قوله: { إن هذا عدو لك ولزوجك } { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس } ، قيل: السجود لله وآدم قبلة السجود، إلا إبليس كان جنيا بدليل قوله تعالى:
كان من الجن ففسق عن أمر ربه
[الكهف: 50] ولم يكن من الملائكة لكن دخل معهم في الأمر بالسجود { فقلنا يا آدم إن هذا } يعني إبليس { عدو لك ولزوجك } حواء { فلا يخرجنكما من الجنة } بغرور وساوسه { فتشقى } ، قيل: هي شقاوة الدنيا وهو أن يأكل من كده وكسبه، وإنما قال: فتشقى على خطاب الواحد والمعنى تشقى أنت وزوجك لأن أمرهما في النسب واحد، وروي أنه أهبط على آدم ثورا أحمر فكان يحرث عليه ويمسح العرق من جبينه { إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى } أي في الجنة { وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى } ولا تعطش ولا يصيبك من الشمس { فوسوس إليه الشيطان } ، قيل: ألقى الوسوسة، وقيل: ألقاها من الأرض، وقيل: كانا يجتمعان في السماء { قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد } يعني شجرة إن أكلت منها بقيت خالدا مخلدا { وملك لا يبلى } { فأكلا منها } يعني من الشجرة { فبدت } ظهرت { لهما سوآتهما } عوراتهما، وقيل: كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع { وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة } يضعان ورقة بعد ورقة ليسترا عوراتهما قيل: هو ورق التين { وعصى آدم ربه } أي خالف أمره فيما أمره به، وقيل: أخطأ ثم { أكل فغوى } خاب { ثم اجتباه ربه } أي اختاره واصطفاه للنبوة { وهدى } أي هداه لأمر دينه ووفقه للنبوة.
[20.123-128]
{ قال اهبطا منها } خطاب لآدم وحزبه وإبليس وحزبه { بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى } أي رسول وكتاب { فمن اتبع هداي } يعني الكتاب والرسول { فلا يضل } في الدنيا { ولا يشقى } في الآخرة { ومن أعرض عن ذكري } عن القرآن والعمل به { فإن له معيشة ضنكا } ، قيل: عيشا ضيقا، وقيل: هو الضريع والزقوم في النار، وقيل: هو عذاب القبر، فضمن الله لمن يقرأ القرآن وعمل بما فيه لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة { ومن أعرض عن ذكري } عن القرآن والعمل به { فإن له معيشة ضنكا } قال تعالى:
وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله
[البقرة: 61] وقال:
ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
[المائدة: 66] وقال:
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض
[الأعراف: 96] وقال:
استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا
[النوح: 10-11] وقال تعالى:
وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا
[الجن: 16] { ونحشره يوم القيامة أعمى } ، قيل: عمي البصر { قال رب لم حشرتني أعمى } هو سؤال استفهام أي لأي ذنب، وقيل: تضرع، وقيل: كنت بصيرا بعينين، وقيل: كنت بصيرا بحجتي عند نفسي { كذلك أتتك آياتنا } حجتنا { فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } أي كما أتتك آياتي فأعرضت عنها كذلك اليوم تترك، قال جار الله: كذلك أتتك آياتنا فلم تنظر إليها بعين المعتنين ولم تبصر وتركتها وعميت عنها فكذلك اليوم تترك ولا يزال غطاك عينك، قال جار الله: ختم آيات الوعيد بقوله: { ولعذاب الآخرة أشد وأبقى } كأنه قال: وللحشر على الأعمال الذي لا يزول أشد من ضيق العيش المبقى، وأراد لتركنا إياه في العمى أشد وأبقى من تركه آياتنا، قوله تعالى: { وكذلك نجزي } نعاقب { من } أسرف بالمعاصي { ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد } من عذاب الدنيا { وأبقى } أي أدوم { أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون } الأمم الماضية { يمشون في } ديارهم، قيل: كانت قريش تتجر إلى الشام فتمر بديار عاد وثمود وترى مساكنهم خالية، وقيل: { مساكنهم } قبورهم لأنها مساكن الموتى يعني لم يكن هاديا لهم، ودلائل وكم أهلكنا { إن في ذلك } أي في الهلاك للأمم { لآيات } لعبرة { لأولي النهى } لذوي العقول الذين تدبروا في أحوالهم وما كانوا فيه من نعم الدنيا وعظم الشأن.
[20.129-135]
{ ولولا كلمة سبقت من ربك } الكلمة وعد الله بتأخير العذاب ولولا هذه العدة لكان مثل عاد وثمود { وأجل مسمى } ، قيل: في الآية تقديم وتأخير تقديره لولا كلمة سبقت وأجل مسمى لكان العذاب لازما، قيل: الأجل المسمى قيام الساعة، وقيل: الأجل الذي كتب الله تعالى لكل أحد، ثم أمره سبحانه بالصبر فقال تعالى: { واصبر على ما يقولون } من التكذيب والأذى، يعني اصبر حتى يأتيك النصر، فهو وعيد لهم ووعد للمؤمنين وتسلية { وسبح بحمد ربك } ، قيل: سبح في هذه الأوقات واحمده، وقيل صل في هذه الأوقات، وقيل: أراد { قبل طلوع الشمس } أراد صلاة الفجر { وقبل غروبها } صلاة العصر { ومن آناء الليل } صلاة المغرب والعشاء { وأطراف النهار } صلاة الظهر، وقيل: أطراف النهار الظهر والمغرب، وقيل: قبل طلوع الشمس: الفجر، وقبل غروبها: الظهر والعصر، ومن اناء الليل: المغرب والعشاء، وأطراف النهار: صلاة التطوع، ومن حمل الآية على التسبيح قال: أراد المداومة عليها في عموم الأوقات وهو الظاهر قال جار الله: اناء الليل في أناء الليل صلاة العتمة وفي أطراف النهار صلاة المغرب وصلاة الفجر على التكرار { لعلك ترضى } بما يعطيك الله، قال جار الله: لعل للمخاطب أي اذكر الله في هذه الأوقات طمعا ورجاء أن تنال ما به عند الله برضى نفسك ويسر قلبك، وقرئ ترضيا أي يرضيك ربك { ولا تمدن عينيك } ومد النظر تطويله، ولا يكاد يرده استحسانا للمنظور إليه وإعجابا به وتمنيا أن يكون له كما فعل نظاره قارون حين قالوا:
يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ
[القصص: 79] حتى وبخهم أولو العلم والإيمان ب { ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا } وفيه أن النظر غير الممدود مفعو عنه مثل نظر الشيء بالنظر عن غض البصر، قال جار الله: ولقد شدد العلماء من أهل التقوى في وجوب غض النظر عن آنية الظلمة، وعدد الفسقة في اللباس والمراكب وغير ذلك لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء للعيون الناظرة، فالناظر إليها محصل لعرضهم كالمغري لهم على اتخاذها، والآية نزلت برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نزل به ضيف ولم يكن عنده شيء، فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يهودي يستقرضه فأبى أن يعطيه إلا برهن، فحزن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال:
" إني لأمين من في السماء وإني لأمين من في الأرض أحمل إليه درعي الحديد "
فنزلت { ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به } أي أعطيناهم ليتمتعوا بها من نعم الدنيا { أزواجا منهم } ، قيل: أراد بالأزواج أصنافا من نعيم الدنيا { زهرة الحياة الدنيا } ، قيل: زينتها { لنفتنهم فيه } أي لنختبرهم { ورزق ربك } ، قيل: عطاء ربك، قيل: هو الذي وعدك به في الآخرة { خير وأبقى } كما متعنا به هؤلاء في الدنيا ومثل ما أعطيناك من نعمة الإسلام والنبوة { وامر أهلك بالصلاة واصطبر عليها } ، قيل: أهل بيتك وأهل دينك، واصطبر عليها أي على ثقلها { لا نسألك رزقا } يعني لا تهتم بالرزق والمعيشة، فإن رزقك مكفي عندنا ونحن رازقوك ولا نسألك أن ترزق نفسك ولا أهلك، ففرغ بذلك لأمر الآخرة والعاقبة المحمودة لأهل التقوى، وعن عروة بن الزبير إذا رأى ما عند السلطان ودخل بيته وقرأ: { ولا تمدن عينيك } الآيات ثم ينادي الصلاة يرحمكم الله { وقالوا } يعني الكفار { لولا يأتينا بآية من ربه } كما أنزلها الأنبياء من قبله { أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } هي أم الآيات وأعظمها في باب الإعجاز يعني القرآن { ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله } أي من قبل نزول القرآن وبعثة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا } يعني لو هلكوا في الدنيا ثم بعثوا في يوم القيامة { لقالوا } الآية { قل } يا محمد لهؤلاء الكفار { كل متربص } منتظر الدوائر لمن تكون { فتربصوا } أنتم انتظروا { فستعلمون } إذا جاء أمر الله وقامت القيامة { من أصحاب الصراط السوي } الطريق المستقيم { ومن اهتدى } إلى الرسل نحن أم أنتم؟!.
[21 - سورة الأنبياء]
[21.1-3]
نزلت الآيات في منكر البعث { اقترب للناس حسابهم } والمراد اقتربت الساعة، وإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب إذا كان من أشراطها أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { وهم في غفلة } أي من دنوها وكونها { معرضون } يعني عن... فيها والتأهب لها، قال جار الله: فإن قلت: كيف وصفت بالاقتراب؟ قلت: هو مقترب عند الله والدليل عليه قوله عز وجل: { ويستعجلونك بالعذاب } { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } وإن كل آت قريب وإن طالت أوقات استقباله قربت { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث } ، قيل: أي شيء من القرآن محدث ينزله سورة سورة وآية وآية ينبئهم على ذكر القيامة والوعد والوعيد { إلا استمعوه وهم يلعبون } ، قيل: كلما جدد لهم الذكر استمروا على الجهل لا يتعظون ولا يعتبرون { لاهية قلوبهم } ، قيل: غافلة عن أمر دينهم معرضون عن ذكر الله { وأسروا النجوى } أي أخفوا مناجاتهم، قال جار الله: فإن قلت: النجوى هو اسم من التناجي لا يكون إلا خفية فما معنى قوله: وأسروا؟ قلت: معناه بالغوا في إخفائها وجعلوها بحيث لا يعلم أحد من هم مناجون { الذين ظلموا } الموسومون بالظالم الفاحش فيما أسروا { هل هذا } يعني محمد { إلا بشر مثلكم } نفروا الناس عنه بشيئين أحدهما أنه بشر والثاني أن ما أتى به سحر وذلك جهل منهم لأن القرآن معجزة إذ لو كان سحر لقدر عليه غيره من البشر { أفتأتون السحر وأنتم تبصرون } يعني تقبلون وأنتم تعلمون أنه سحر.
[21.4-10]
{ قال ربي يعلم القول } أي هو عالم بأسرار المتناجين وبكل قول { في السماء والأرض وهو السميع } لقولهم { العليم } بأفعالهم وضمائرهم { بل قالوا أضغاث أحلام } تخليط رؤيا رآها في المنام { بل افتراه } أي ما أتى به كذب { بل هو شاعر فليأتنا } محمد { بآية } حجة إن كان صادقا { كما أرسل الأولون } أتوا بالآيات كفلق البحر وانقلاب العصا حية لموسى وإحياء الميت لعيسى { ما آمنت } أي ما صدقت { قبلهم } قبل هؤلاء الكفار { من قرية أهلكناها } أي جاءتهم الآيات فلم يؤمنوا فأهلكناهم مصرين على الكفر { أفهم يؤمنون } فيه وذلك أن من تقدم من الأمم طلبوا الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا فأهلكهم الله فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا......... واستحقوا عذاب الاستئصال { وما أرسلنا قبلك } يا محمد { إلا رجالا } وهذا جواب لقولهم { ما هذا إلا بشر مثلكم } { فاسألوا أهل الذكر } يعني إن كنتم في شك من ذلك { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } ، قيل: بأخبار من مضى من الأمم هل كانت الرسل إلا من البشر، وقيل: التوراة والإنجيل، وقيل: الذكر القرآن وأهل الذكر هم المؤمنون يعني المؤمنين العالمين بالقرآن، وقيل: لما نزلت قال أمير المؤمنين: نحن أهل الذكر { وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام } يعني الرسل الأولين، والمعنى وما جعلنا الأنبياء قبله ذي جسد غير طاعمين، وهذا جواب لقولهم:
ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق
[الفرقان: 7] { وما كانوا خالدين } باقيين في الدنيا لا يموتون فذلك حالك { ثم صدقناهم } الوعد في إهلاك أعدائهم كذلك نفعل بك وبقومك المكذبين لك { فأنجيناهم } فخلصناهم { ومن نشاء } من المؤمنين { وأهلكنا المسرفين } بالمعاصي المجاوزين حدود الله { لقد أنزلنا إليكم كتابا } يعني القرآن { فيه ذكركم } قال جار الله: شرفكم أو موعظتكم، أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء، وحسن الذكر كحسن الجوار، والوفاء بالعهد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، والسخاء وما أشبه ذلك قال في الحاكم: ما يحتاجون إليه من أمر دينهم، وقيل: موعظة لما وعد الله { أفلا تعقلون } أفلا تعلمون أن الأمر كما أخبرناكم.
[21.11-23]
{ وكم قصمنا من قرية } واردة على غضب شديد، ومنادية على سخط عظيم، لأن القصم أقطع من الكسر، قصمت الشيء كسرته، وأراد بالقرية أهلها ولذلك وصفها بالظلم { وأنشأنا بعدها قوما آخرين } لأن المعنى أهلكنا قوما وأنشأنا آخرين، وعن ابن عباس: انها حضور وسحول قريتان باليمن تنسب اليهما الثياب وفي الحديث: " كفن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ثوبين سحوليين " ، وروي " حصوريين " بعث الله اليهم نبيا فقتلوه، فسلط الله عليهم بخت نصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم، وروي أنه لما أخذتهم السيوف نادى منادي يا ثارة الأنبياء ندموا واعترفوا بالخطأ وذلك حين لم ينفعهم الندم، وظاهر الآية على الكثرة، ولعل ابن عباس ذكر حصور بأنها إحدى القرى فلما علموا شدة عذابنا وبطشنا علم حسن...... لم يشكوا فيها ركضوا من ديارهم، والركوض: ضرب الدابة بالرجل، ومنه قوله تعالى:
اركض برجلك
[ص: 42]ويجوز أن يركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب، ويجوز أن شبهوا في سرعة عدوهم على أرجلين بالراكبين الراكضين لدوابهم فقيل لهم: { لا تركضوا } والقول محذوف، قال جار الله: فإن قلت: من القائلون؟ قلت: يحتمل أن يكون بعض الملائكة أو من ثم من المؤمنين، أو يقوله رب العزة وتسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم { وارجعوا إلى ما أترفتم فيه } من العيش الرافه والحال الناعمة { لعلكم تسألون } تهكم بهم وتوبيخ، أي ارجعوا إلى نعمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم، وذلك استهزاء بهم، يعني ارجعوا اجلسوا كما كنتم في مجالسكم وترتبوا في مراتبكم حتى يسألوكم من تملكون أمره، يسألكم الوافدون عليكم، فقيل لهم ذلك تهكم إلى تهكم، وتوبيخ إلى توبيخ { قالوا يا ويلنا } لما رأوا العذاب اعترفوا وقالوا على سبيل الندم { إنا كنا ظالمين } أنفسنا { فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين } والحصيد قصد الاستئصال كما يحصد الزرع، والخمود: النار إذا طفيت، وخمد الحمأ: سكن، وخمد الرجل وأغمي عليه { وما خلقنا السماء والأرض } يعني وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع { وما بينهما } من أصناف الخلائق مشحونة بضروب البدائع والعجائب { لاعبين } كما تسوي الجبابرة سقوفهم وسائر زخارفهم لهوا ولعبا، وإنما سوينا للفوائد الدينية والحكم الربانية لتكون مطارح أفكار واعتبار واستدلال ونظر العباد مع ما يتعلق بهم من المنافع التي لا تعد، ثم بين أن السبب في ترك اتخاذ اللهو واللعب وانتفائه عن أفعاله هو أن الحكمة صارفة عنه وإلا أنا قادر على إيجاده إن كنت فاعلا إني على كل شيء قدير، وقوله: { لاتخذناه من لدنا } أي من الملائكة لا من الإنس ردا لمقالة المسيح، وقيل: اللهو المرأة، بل إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب وتبرئة منه لذاته كأنه قال: سبحاننا أن نتخذ اللهو واللعب { ما كنا فاعلين } ذلك لكن { نقذف } نرمي { بالحق } على الباطل يعني ننزل عليك من القرآن الحجج على أصناف الكفرة، وقيل: بالحجة على الشبهة { فيدمغه } يلغوه ويبطله { ولكم الويل } يا معاشر الكفار { مما تصفون } الله به من اتخاذ الولد { وله من في السماوات } ، بل هو خالق السماوات { والأرض } وجميع الخلق عبيده { ومن عنده } الملائكة { لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون } ، قيل: لا يستنكفون عن ابن عباس: وقيل: لا يميلون { يسبحون الليل والنهار } الذي أنتم فيه، وقيل: هو عبارة عن الدوام { أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون } يحيون الأموات، وقيل: ينشرون الأحياء ويخلقون الخلق، وهذا استفهام والمراد الإنكار، يعني لم يعبدون ما لا يخلق ولا يملك بل مخلوقون مملوكون، ثم دل عليه فقال سبحانه: { لو كان فيهما آلهة } يعني في السماوات والأرض غير الله { لفسدتا } لخربتا وهلك من فيهما وما استقامتا { فسبحان الله } منزه عن ذلك { رب العرش عما يصفون } من الشريك والولد { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } لأن جميع أفعاله حكمة وصواب، وإنما يسألون أنهم يفعلون الحق والباطل، وقيل: ليس لأحد عليه نعمة يسأله عن شكرها، قال جار الله: كانت عادة الملوك والجبابرة أنهم لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم وعما يوردون ويصدرون عن تدبير ملكهم تهيبا وإجلالا مع جواز الخطأ والزلل وأنواع الفساد، كان ملك الملوك ورب الأرباب خالقهم ورازقهم أولى بأن لا يسأل عن أفعال مع ما علم واستقر في العقول إنما يفعله كله مفعول بداعي الحكمة ولا يجوز عليه الخطأ ولا فعل القبائح، { وهم يسألون } أي هم مملوكون مستعبدون خطاؤون.
[21.24-29]
{ أم اتخذوا من دونه } توبيخ استعظاما لكفرهم أي اتخذوا أربابا يعبدون { قل هاتوا برهانكم } أي حجتكم على ذلك أما من جهة العقل وأما من جهة الوحي، فإنكم لا تجدون كتابا من كتب الأول إلا وتوحيد الله وتنزيهه عن الأنداد مدعوا إليه والإشراك منهي عنه متوعد عليه، ثم بين أن لا حجة على ما قلتم عقلا ولا شرعا فقال سبحانه: { هذا ذكر من معي } بالحق في إخلاص الإلهية { و } هذا { ذكر من قبلي } في التوراة والإنجيل، وقيل: القرآن { ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم } متقلدون في الكفر { لا يعلمون الحق فهم معرضون } عن النظر والتفكر في الحق، وقيل: معرضون عن القرآن والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا يوحى إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون } يعني لم نبعث رسولا إلا بالدعاء إلى التوحيد { وقالوا اتخذ الرحمان ولدا } الآية نزلت في خزاعة، قالوا: الملائكة بنات الله { بل عباد مكرمون } يعني هو منزه عما وصفوه به بل الملائكة عباد كغيرهم من العبيد مكرمون { لا يسبقونه بالقول } أي لا يقدمونه بالقول والعمل ولا يجاوزون حد أمره ولا يقولون إلا بأمره { وهم بأمره يعملون } { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } يعني يعلم إقبالهم وإدبارهم، وقيل: باطنهم وظاهرهم { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } أي ليس لهم محل الشفاعة إلا بإذنه كسائر العبيد، ارتضى يعني لمن رضي الله { وهم من خشيته مشفقون } أي من خوف عذابه لمكان وعده ووعيده خائفون { ومن يقل منهم إني إله } يعني من يقل ذلك منهم على ما زعم الكفار فذلك { نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين } الذين يصفون الله بما لا يليق به.
[21.30-38]
{ أولم ير الذين كفروا } استفهام، والمراد به التقريع، يعني هو الذي يفعل هذه الأشياء لا يقدر غيره عليها فهو الإله المستحق للعبادة دون غيره { إن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما } تقديره كانتا ذات رتق فجعلناهما ذات فتق، ومعنى ذلك أن السماء كانت لاصقة بالأرض لا فضاء بينهما، أو كانت السماوات متلاصقات، فكذلك الأرضون لا فرج بينهما ففتقهما وفرج بينهما، وقيل: فتقهما بالمطر والنبات بعدما كانت مصمتة، وقيل: خلقهما بعضهما على بعض ثم خلق ريحا ففتحتهما، وقيل: كانت طبقة واحدة ففتقهما سبع سماوات وسبع أرضين { وجعلنا من الماء كل شيء حي } ، قيل: خلقنا كل شيء حي من نطفة نحو قوله:
والله خلق كل دابة من ماء
[النور: 45]، وقيل: أراد به الماء في الحقيقة، وقيل: جعلنا الماء حياة كل ذي روح ونماء كل نامي فيدخل فيه الحيوان والنبات والأشجار { وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا } طرقا واسعة من الجبال لولا ذلك لما أمكن السلوك { سبلا } طرقا لعلكم تهتدون { وجعلنا السماء سقفا } يعني كالسقف { محفوظا } من أن يسقط على الأرض، وقيل: محفوظا من الشياطين بالشهب { وهم عن آياتها } أعني حجج السماء وما جعل فيها من دلالات الحدث والشمس والقمر وسائر النيران { معرضون } يعني أعرضوا عن التفكر فيها والاستدلال بها، وإنما قال آيات لأن في السماء آيات كثير { وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل يجري في فلك يسبحون } ، قيل: الفلك هو جسم تدور عليه الكواكب كفلكة المغزل، وقيل: كهيئة حديد الرحى عن مجاهد، ويحتمل أن يكون عبارة عن مجرى الكواكب، قال: ويحتمل أن يكون جسما عليه الكواكب وهو قول أكثر المتكلمين، أعني الوجهين كلاهما وإنما أضاف الفعل إليهما توسعا فإنه تعالى هو المجري { وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } الآية نزلت في الذين قالوا: نتربص بمحمد ريب المنون، يعني ما جعلنا البقاء لآدم في الدنيا { أفإن مت فهم الخالدون } { كل نفس } يعني جميع البشر، أي كل حي ذائق الموت { ونبلوكم } نعاملكم معاملة المختبر بالشدة والرخاء { ثم إلينا ترجعون } أي إلى حكمه وجزائه { وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا } وهكذا حال الجاهل يعني يتخذونك هزوا وسخرية، يعني يقول بعضهم لبعض: { أهذا الذي يذكر آلهتكم } ، قيل: يعيبها بأنها لا تنفع ولا تضر { وهم بذكر الرحمان هم كافرون } ، قولهم: ما نعرف الرحمان إلا مسيلمة { خلق الإنسان من عجل } أي على عجلة في أمره، قال أبو علي: يستعجل في كل شيء يشتهيه، والإنسان لا يخلو من العجلة ولكن ذكره ها هنا مبالغة في وصفه بالعجلة، وعن ابن عباس: أنه أراد بذلك آدم وأنه حين بلغ الروح صدره ولم يتبالغ فيه الروح أراد أن يقوم، روي لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة ولما دخل جوفه اشتهى الطعام، وقيل: المراد به النضر بن الحرث استعجل العذاب تكذيبا، والظاهر أن الآية عامة في جميع الإنسان، وقيل: العجل الطين أي خلق الإنسان من الطين { سأريكم آياتي } حججي في التوحيد والعدل والنبوة { فلا تستعجلون } بطلب الآيات، وقيل: سأريكم عذابي إذا نزل إليكم فلا تستعجلوه، فهو نازل بهم يوم بدر وغيره من الأيام من القتل والأسر في الدنيا، وقيل: أراد يوم بدر وغيره، وقيل: عذاب الآخرة { ويقولون متى هذا الوعد } الذي تعدنا من العذاب قبل القيامة { إن كنتم صادقين } في ذلك.
[21.39-47]
{ لو يعلم الذين كفروا } ما ينالهم أو إذا أتاهم ما يستعجلون به { حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم } ، قيل: أراد الوجوه والظهور، وقيل: أراد إحاطة النار بهم { بل تأتيهم بغتة } يعني الساعة تأتيهم فجأة { فتبهتهم } تحيرهم، وقيل: تفاجئهم { فلا يستطيعون ردها } أي لا يقدرون على دفعها { ولا هم ينظرون } أي لا هم يؤجلوه، لما تقدم ذكر استهزائهم بالمؤمنين والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أتبعه بقوله: { ولقد استهزئ برسل } تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنذارا لقومه من العذاب { فحاق } فحل ونزل بهم { بالذين سخروا منهم } من الرسل { ما كانوا به يستهزئون } يعني وبال استهزائهم وما استحقوا عليه من العذاب { قل } يا محمد لهم: { من يكلؤكم } ، قال في الحاكم: خرج الكلام مخرج الاستفهام والمراد به الإنكار، أي لا حافظ لهم سواه، معناه أنكم تكفرون به وتستهزئون برسله وإذا حل بكم عذابه فلا مانع ولا دافع، ومعنى يكلؤكم، يحفظكم ويحرسكم { بالليل والنهار } يعني في جميع الأوقات { من الرحمان } أي من بأسه وعذابه وعقوبات الدنيا والآخرة { بل هم عن ذكر ربهم معرضون } يعني بل هم معرضون عن ذكره لا يخطروه ببالهم عن مواعظه وزواجره { أم لهم آلهة تمنعهم } من عذاب الله إذا نزل بهم، ثم بين وصف ما اتخذوه آلهة فقال سبحانه : { لا يستطيعون نصر أنفسهم } يعني الأوثان لا يقدرون فكيف ينصرون من عبدها؟ قال جار الله: إن ما ليس بقادر على تصريفه وعن منعها من إليه بالنصر والتأييد، كيف يمنع غيره؟ { ولا هم منا يصحبون } ولا الكفار منا يجارون، وقيل: يمنعون، وقيل: ينصرون ويحفظون { بل متعنا هؤلاء } الكفار { وآباؤهم } في الدنيا بما أنعم الله عليهم من نعم الدنيا، وإمهال الله إياهم { حتى طال عليهم العمر } فغرهم شأن طول العمر، وإمهال الله إياهم حتى أتوا ما أتوا { أفلا يرون } يعني ينبغي أن يعتبروا بالدنيا فإنها إلى زوال وبحساب، يعتبروا بمن مضى من الأمم الخالية أتهم المنية، أو لم يروا هؤلاء الكفار { أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } ، قيل: بحراثها، وقيل: بموت أهلها ونقصان أموالها، وقيل: بموت العلماء، وقيل: بهلاك الظلمة وخراب دورهم، وقيل: بتسليط المؤمنين عليها وإظهارهم على أهلها وردهم دار إسلام { أفهم الغالبون } ، قيل: هؤلاء الذين أهلكهم الله الغالبون أم الله حيث أهلكهم كذلك حالكم { قل إنما أنذركم بالوحي } أي بما أوحي إلي من القرآن وأخبار الأمم والوعد والوعيد { ولا يسمع الصم الدعاء } يعني أنهم يستثقلون القرآن وسماعه وذكر الحق، فهم بمنزلة الأصم الذي لا يسمع، وقيل: إنهم يتصامون إذا دعوا إلى الحق { ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك } ، قيل: طرف، وقيل: عقوبة، قال جار الله: لئن مستهم من هذا الذي ينذرون به أدنى شيء لأذعنوا وذلوا وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصاموا وأعرضوا بالنفخ في معنى القلة { ليقولن يا ويلنا } يدعون بالويل عند نزوله { إنا كنا ظالمين } نفسنا بأن عصينا الله وكذبنا الرسل { ونضع الموازين القسط } المراد بموضع الموازين قولان: أحدهما إرصاد الحساب السوي والجزاء على حسب الأعمال بالعدل والنصفة من غير أن يظلم عباده مثقال ذرة فمثل ذلك بموضع الموازين ليوزن بها الموزونات، والثاني أنه بموضع الموازين الحقيقة ويوزن بها الأعمال، وعن الحسن: هو ميزان له كفتان ولسان، وروي أن داوود (عليه السلام) سأل الله أن يريه الميزان، فلما رآها غشي عليه ثم أفاق، فقال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته، فقال: يا داوود إذا رضيت على عبدي ملأتها بتمرة، قال جار الله: فإن قلت: كيف يوزن الأعمال وهي أعراض؟ قلت: فيه قولان أحدهما توزن صحائف الأعمال والثاني يجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة، وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة { فلا تظلم نفس شيئا } يعني لا ينقص من ثوابها المستحق ولا يزاد في العذاب { وإن كان مثقال حبة } هذا مثل والمراد إن كان يسيرا من الطاعة لا يضيع بل يجازى عليه { أتينا بها } قيل: أنها محفوظة { وكفى بنا حاسبين } لأنه لا يظلم في حسابه وأنه لا يعلم الخردلة غيره كذلك اليسير من الأعمال.
[21.48-57]
{ ولقد آتينا موسى وهارون } أي آتيناهما { الفرقان } وهو التوراة وآتيناهما { ضياء وذكرا للمتقين } والمعنى أنه في نفسه ضياء وذكرا، وآتيناهما بما فيه من الشرائع والمواعظ ضياء وذكرا، وعن ابن عباس: لفرقان الفتح كقوله: { يوم الفرقان } ، وقيل: فلق البحر { الذين يخشون ربهم } أي يخافون عقابه بالغيب في سرائرهم { وهم من الساعة مشفقون } خائفون، قوله تعالى: { وهذا ذكر } يعني القرآن { مبارك } وبركته كثيرة ألا من تمسك به وعمل به استحق ثواب الأبد { أفأنتم له منكرون } قيل: جاحدون مع كونه معجز؟! { ولقد آتينا إبراهيم رشده } وهو الاحتباء لوجه الصلاح، قال تعالى:
فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم
[النساء: 6] { من قبل } موسى وهارون، وقيل: { من قبل } محمد { وكنا به عالمين } أي علمنا أنه هو أهل النبوة ومصطلح لها يقوم بها عملا { وإذ قال لأبيه } آزر وقومهم حين رآهم يعبدون الأصنام { ما هذه التماثيل } الصور التي لا تنفع ولا تضر؟ تجاهل لهم وتصغير شأنها مع علمه بتعظيمهم وإجلالهم لها { التي أنتم لها عاكفون } مقيمون على عبادتها؟! { قالوا بل وجدنا آباءنا لها عابدين } ، قال جار الله: ما أقبح التقليد والقول المتقبل بغير برهان، وما أعظم كيد الشيطان للمقلدين حين استدرجهم إلى أن قلدوا آباءهم في عبادة التماثيل، وعفروا لها جباههم وهم معتقدون أنهم على شيء، فجادلوا في نصرة مذهبهم، ومجادلون لأهل الحق عن باطلهم، وكفى أهل التقليد سيئة ان عبدوا الأصنام، ثم بين تعالى جواب إبراهيم لقومه فقال سبحانه: { بل ربكم رب السماوات والأرض الذي فطرهن } أي خلقهن، قال جار الله: الضمير في فطرهن للسماوات والأرض أو للتماثيل، وكونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم { وأنا على ذلكم من الشاهدين } وذلك مبالغة في إظهار الحق، قال جار الله: وشهادته على ذلك بالحجة عليه وتصحيحه بها كما تصح الدعوى بالبينات لأني لست مثلكم، فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم، ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم { وتالله } هذا قسم به سبحانه { لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين } قيل: في حال غيبتكم، وقيل: إشارة إلى أنها تحتاج إلى نصرهم فإذا غابوا لا يقدرون على حفظ أنفسهم، وقيل: كان هذا يوم عيد لهم، وقيل: كان لهم في كل سنة عيد إذا رجعوا دخلوا على أصنامهم وسجدوا لها، وروي أن آزر خرج به في يوم عيد، فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوا وسجدوا لها من دون الله وضعوا بينها طعاما، فخرجوا وبقي إبراهيم ونظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنما مصطفة وثم صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفأس في يده حتى لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه، قيل: كان ذلك سرا من قومه، وروي سمعه رجل واحد.
[21.58-67]
{ فجعلهم جذاذا } قطعا من الجذ وهو القطع { إلا كبيرا لهم } وإنما استثنى الكبير لأنه غلب على ظنه أنهم لا يرجعون إلا إليه لما تسامعوه من إنكارهم لدينهم وسنة لآلهتهم، ومعنى هذا { لعلهم إليه يرجعون } إلى إبراهيم فسألوه ليبين لهم بطلانهم، وقيل: إلى الكبير فيسألونه وهو لا ينطق فيعلمون ضعفها، فلما رجعوا من عيدهم مروا ببيت آلهتهم فيقولون: ما لهؤلاء مكسرة؟ وما لك صحيحا؟ والفأس على عاتقك؟! قال: هذا بناء على ظنه بهم لما خرب وذاق من مكابرتهم لعقولهم واعتقادهم في آلهتهم وتعظيمهم لها، وقوله تعالى: علمه أنهم لا يرجعون إليه استهزاء بهم { قالوا من فعل هذا بآلهتنا } يعني خاطب بعضهم بعضا بذلك { إنه لمن الظالمين } ، قيل: نسبوه إلى الظلم، وقيل الظالم لنفسه { قالوا } يعني الذين سمعوا إبراهيم وهو يقول لأكيدن أصنامكم { قالوا } يعني قوم إبراهيم { فأتوا به على أعين الناس } يعني فأتوا به بإبراهيم حيث يجتمعون { لعلهم يشهدون } ما قاله شهادة تكون حجة عليه، وقيل: لعلهم يشهدون عقابه وما يصنع به { قالوا أأنت فعلت } في الكلام حذف أي أتوا به ثم قالوا أنت فعلت { هذا بآلهتنا يا إبراهيم }؟ فأجاب: { فقال بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون } ، قيل: مفيد بقوله: { إن كانوا ينطقون } يعني إن قدروا على النطق قدروا على الفعل أو على ما قاله جار الله: استهزاء بهم، ومتى قيل: لم قال فاسألوهم ولم يقل فاسألوه وإنما أراد الكبير؟ قالوا: لأنه كان مبهم كالأمير عندهم يعظمونه فخاطب بلفظ العظماء استهزاء بهم، وقيل: أراد فاسألوهم بأجمعهم { فرجعوا إلى أنفسهم } أوموا بينهم رجع بعضهم إلى بعض وقالوا: { إنكم أنتم الظالمون } حيث لم تحفظوا الآلهة، وقيل: أنتم الظالمون لأنفسكم حيث تعبدون ما لا ينفع نفسه، وقيل: أنتم الظالمون في سؤالكم إياه لو قدر على الجواب لقدر على الدفع عن نفسه ولما قدر على كسرها، وقيل: عرفوا صدقه وعاندوا { ثم نكسوا على رؤوسهم } قيل: تحيروا فنكسوا لأجلها رؤوسهم إذ علموا أنها لا تنطق، وقيل: اتخذوا في المجادلة بالباطل والمكابرة، ثم اعترفوا بما هو حجة عليهم فقالوا: { لقد علمت ما هؤلاء ينطقون } يعني الأوثان فكيف تسألوهم وهم لا ينطقون { قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم } { أف لكم } صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر { ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون } ان عبادة ما لا ينفع ولا يعقل.
[21.68-73]
{ قالوا حرقوه وانصروه آلهتكم إن كنتم فاعلين } قيل: إن كنتم تفعلون الانتصار منه لآلهتكم فليس الإحراق، قال جار الله: اجمعوا رأيهم لما غلبوا بإهلاكه، وهكذا المبطل إذا نزعت شبهته بالحجة وافتضح لم يكن أحدا أبغض إليه من المحق، ولم يبق له مفزع إلا المناصبة كما فعلت قريش برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين عجزوا عن المعارضة، والذي أشار بتحريقه رجل من أكراد فارس فخسف الله به الأرض، وقيل: الذي أشار بتحريقه نمرود، وروي أنهم حين هموا بإحراقه حبسوه ثم بنوا بيتا كالحصيرة بكوثى، وجمعوا شهرا أصناف الخشب الصلاب حتى كانت المرأة لتمرض فتقول: لئن عافاني الله لأجمعن حطبا لإبراهيم، ثم أشعلوا نارا عظيمة كانت الطير تحرق في الجو من وهجها، ثم وضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فرموا به فيها فنادى جبريل (عليه السلام): { يا نار كوني بردا وسلاما } وحكي ما احترق منه إلا وثاقه، وقال له جبريل حين رمي به: هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال: فسل ربك، قال: حسبه من سؤالي علمه بحالي، وعن ابن عباس: إنما نجي بقوله حسبنا الله ونعم الوكيل، وأطل عليه نمرود من الصرح فإذا هو في روضة ومعه جليس له من الملائكة فقال: إني مقرب إلى إلهك فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم، وكان إبراهيم ابن ستة عشر سنة، واختار المعاقبة بالنار لأنها أهول ما يعاقب وأقطع، ومن ثم قالوا: { إن كنتم فاعلين } أي إن كنتم ناصرين آلهتكم { بردا وسلاما } والمعنى ذات برد وسلام، والمراد ابردي فسلم منك إبراهيم، وعن ابن عباس: لو لم يقل ذلك لأهلكه بردها { وأرادوا به كيدا } أرادوا أن يكيدوه ويمكروا به فما كانوا إلا مغلوبين مقهورين { ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين } ، قيل: أمرهما بالهجرة إلى الشام ليعلم الناس الذي قيل: إلى أرض مكة، وقيل: أرض بيت المقدس، وقيل: نجاهما من العراق إلى الشام، وبركاته لأن أكثر الأنبياء يعثرا فيها نشرت في العالمين شرائعهم، وقيل: بارك الله فيه بكثرة الماء والشجر والخصب وطيب عيش الغني والفقير، وعن سفيان أنه خرج إلى الشام فقيل له: إلى أين؟ فقال: إلى بلد يملأ فيه الجراب بدرهم، وقيل: ما من ماء عذب إلا وينبع من أصله من تحت الصخرة إلى بيت المقدس، وروي أنه نزل بفلسطين ولوطا بالمؤتفكات وبينهما مسير يوم وليلة { ووهبنا له اسحاق ويعقوب نافلة } النافلة ولد الولد، وقيل: سأل إسحاق فأعطيه وأعطي يعقوب، نافلة أي زيادة وفضلا من غير سؤال { وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا } يعني أنبياء يقتدى بهم، يهدون بأمرنا يدعون الناس إلى الدين ويرشدونهم إلى الشرائع { وأوحينا إليهم فعل الخيرات } الطاعات والشرائع وكذلك { إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين } أي مخلصين في العبادة.
[21.74-82]
{ ولوطا آتيناه حكما } ، قيل: الفصل بالحق، وقيل: النبوة، وقيل: إصابة الحق { وعلما } أي علما بالدين وما يحتاج إليه { ونجيناه من القرية } هي سدوم وهي { التي كانت تعمل الخبائث } يعني أهلها { إنهم كانوا قوم سوء فاسقين } خارجين عن طاعة الله، قيل: كانوا يأتون الذكور في أدبارهم ويتضارطون في أيديتهم، وقيل: الكفر وسائر القبائح { وأدخلناه في رحمتنا } ، قيل: الرحمة، النجاة، وقيل: النبوة { إنه من الصالحين } ثم عطف قصة داوود ونوح على ما تقدم فقال سبحانه: { ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له } في دعائه { فنجيناه وأهله } يعني من آمن به { من الكرب العظيم } من العذاب والغرق الذي نزل بقومه { ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا } أي نصرناه على القوم، وقيل: متعناه بالنصر منهم حتى لم يصلوه بسوء، ثم عطف قصة داوود على قصة نوح فقال سبحانه: { وداوود وسليمان إذ يحكمان في الحرث } ، قيل: كان زرعا وقع فيه الغنم ليلا، وقيل: كان كرما قيل: شرعا في الحكم من غير قطع { إذ نفشت فيه غنم القوم } أي رعته فأفسدته { وكنا لحكمهم شاهدين } لا يغيب عنا { ففهمناها سليمان } أي فتحنا له طريق الحكومة، وقيل: فهم سليمان قيمة ما أفسدت الغنم، ويقال: كيف كان قصة الحرث وما الذي حكما به؟ قالوا: إنهما اختصما إليه صاحب الحرث وصاحب الغنم الذي أفسدت الحرث فحكم داوود بالغنم لصاحب الحرث، فقال سليمان وهو ابن اثني عشر سنة غير هذا أرفق بالفريقين، فعزم عليه ليحكمن فقال: أرى أن تدفع الغنم إلى أهل الحرث ينتفعون بها بألبانها وأولادها وأصوافها، والحرث إلى أرباب الشاء يقومون عليه حتى يعود كهيئته يوم أفسد ثم يترادان، فقال: القضاء ما قضيت وأمضى الحكم ، فإن قيل حكما بوحي أم باجتهاد؟ قيل: جميعا بالوحي، وقيل: اجتهدا جميعا فجاء اجتهاد سليمان أشد بالصواب، وفي قوله: { ففهمناها سليمان } دليل على أن الصواب كان مع سليمان، وفي قوله: { وكلا آتينا حكما وعلما } دليل على أنهما كانا جميعا على الصواب { وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن } فإن قيل: لم قدم الجبال على الطير؟ قيل: تسبيحها وتسخيرها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز لأنها جماد { والطير } حيوان ناطق، روي أنه كان يمر بالجبال مسبحا وهي تجاوبه، وقيل: كانت تسير معه حيث سار، قال جار الله: فإن قلت: كيف تنطق الجبال وتسبح؟ قلت: لأن الله يخلق فيها الكلام كما خلقه في الشجرة حين كلم موسى، وجواب آخر وهو أن يسبح من رآها تسير بسير الله فكما حملت على التسبيح وصفت { وكنا فاعلين } أي قاصرين على أن نفعل هذا { وعلمناه صنعة لبوس لكم } يعني الدروع، وروي أن أول من صنع الدروع داوود، والله تعالى جعل الحديد في يده كالعجين كما قال:
وألنا له الحديد
[سبأ: 10]، قيل: أن داوود سأل ملكا ماذا يقول له أهل السماء، قال: يقولون: نعم العبد لو أكل من كسب يده، فسأل الله أن يعلمه كسبا فعلمه صنعة الدروع { لتحصنكم من بأسكم } لتحرزكم وتمنعكم من بأسكم، أي من حربكم، قرئ بالنون والياء فالنون لله عز وجل والياء لداوود والملتزمين { فهل أنتم شاكرون } على هذه النعم؟ ثم عطف قصة سليمان (عليه السلام) على ما تقدم من القصص فقال سبحانه: { ولسليمان الريح عاصفة } شديدة الهبوب، وقيل: كيف الجمع بين قوله عاصفة ورخاء في موضع آخر؟ قالوا: أراد أن سخر له الريح فكان يجري كيف شاء إن ما سهلا وإن ما شديدا كالراكب فرسه في يده لجامه يصرفه كيف شاء مرة سيرا ومرة ركضا { تجري بأمره } بأمر سليمان { إلى الأرض التي باركنا فيها } ، قيل: أرض الشام بارك فيها الخصب لأنها مكان الأنبياء وكانت الريح تسير به إلى الغداة سير شهر وفي الرواح كذلك، وكان يسكن ببعلبك وبيتا له ببيت المقدس فيحتاج إلى الخروج إليها أو إلى غيرها، وعن وهب: كان سليمان يخرج إلى مجلسه فيعكف له الطير ويقومن له الانس والجن حتى يجلس على سريره، ويجتمع معه جنوده وما يحتاج إليه من الآلات ثم تحمله الرياح إلى حيث أراد { وكنا بكل شيء عالمين } فنفعل ما فعلنا لما رأينا من المصلحة { ومن الشياطين من يغوصون له } أي سخرنا من الشياطين من يغوصون له تحت الماء في البحار فيخرجون الجواهر واللآلئ { ويعملون عملا دون ذلك } مثل بناء المدائن والقصور واختراع الصنائع العجيبة كما
يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل
[سبأ: 13] { وكنا لهم حافظين } والله حافظهم أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يغيروا أو يؤخذ منهم فساد فيما هم فيه.
[21.83-88]
{ وأيوب إذ نادى ربه } لما اشتدت المحنة به وانقرضت أحواله ونفدت أولاده وسوس له الشيطان بما ضيق صدره فدعا ربه وكان أيوب (عليه السلام) من ولد إسحاق بن يعقوب وقد استثناه الله وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله، وكان له سبعة بنين وسبع بنات، وكان له أصناف البهائم وخمس مائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد، فأبلاه بذهاب ولده، انهدم عليهم البيت فهلكوا، وبذهاب ماله، وبالمرض في بدنه ثمان عشرة سنة، وقيل: ثلاث عشرة سنة، وقيل: سبع سنين، وقيل: أربعون، وقيل: ثمانون سنة { وآتيناه أهله } ورد الله عليه أهله وجميع ماله { ومثلهم معهم رحمة من عندنا } أي نعمة منا عليه { وذكرى للعابدين } أي لكل مؤمن في الصبر والانقطاع إلى الله والتوكل عليه لأن كل من تذكر أمر أيوب سهل عليه الأمر وهان عليه المحن، وقيل: لئلا يعجبوا بعبادتهم إذا علموا حال أيوب، وقيل: ليقتدي به أهل البلاء ويعلموا أن عاقبة الصبر محمودة { وإسماعيل } هو أكبر ولد إبراهيم وأمه هاجر، وقيل: هو الذبيح، قال في الحاكم: وهو الصحيح { وذا الكفل } هو الياس، وقيل: زكريا، وقيل: يوشع بن نون، قال جار الله: كأنه سمي بذلك لأنه ذو الحظ من الله، وقيل: كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه، وقيل: ضعف ثوابهم وقيل: كان يتكفل، وقيل: كان يتكفل بأمر من قام به { وأدخلناهم في رحمتنا } أي أنعمنا عليهم، بالنبوة، وقيل: بالجنة والثواب { إنهم من الصالحين } أي الفاعلين للصلاح في أمر دينهم، ثم ذكر قصة يونس وزكريا فقال سبحانه: { وذا النون } أي صاحب النون وهو يونس { إذ ذهب مغاضبا } لقومه يعني غضب على قومه حين عصوه ولم يؤمنوا به فخرج قبل أن يؤذن، وظن أنه لا يعد ذنبا فكانت صغيرة مغفورة من جهته { فظن أن لن نقدر عليه } يعني نضيق عليه، وقيل: ظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة، وقيل: ظن أن لن نقضي عليه بالرجوع إلى قومه، والقدرة بمعنى القضاء { فنادى في الظلمات } ، قيل: ظلمة الليل، وقيل: ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت، وقيل: حوت في بطن حوت آخر، وروي أنه اقترع أهل السفينة وخرجت القرعة عليه ثلاث مرات فقام وقال: أنا العبد الآبق وألقى نفسه في الماء فابتلعه حوت واختلفوا كم مكث في بطنه قيل: أربعون يوما وليلة، وقيل: سبع أيام، وقيل: ثلاثة، وأمسك الله نفسه في بطن الحوت حيا معجزة له، وقوله: { أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } لنفسي { فاستجبنا له } أي أجبنا دعاءه { ونجيناه من الغم } من غم البحر، وقيل: قذفه الحوت إلى الساحل ثم أرسله الله إلى قومه { وكذلك ننجي المؤمنين } إذا دعونا، وعن سعيد بن المسيب يرفعه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" اسم الله إذا دعي به أجاب دعاء يونس ". قال الراوي: قلت: يا رسول الله أله خاصة؟ قال: " له خاصة ولجميع المسلمين عامة ألم تسمع إلى قوله: { وكذلك ننجي المؤمنين } ".
[21.89-91]
{ وزكريا } أي اذكر زكريا { إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين } لأنه يرث الخلق جميعهم { فاستجبنا له } أي أجبنا دعاءه { ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه } كانت عاقرا { إنهم كانوا يسارعون في الخيرات } أي الطاعات { ويدعوننا رغبا ورهبا } يعني رغبة في ثوابه ورهبة [وخشية] من عقابه، يعني يدعوننا طمعا وخوفا { وكانوا لنا خاشعين } ثم عطف على ما تقدم بقصة عيسى وعقبه بالوعد والوعيد فقال سبحانه: { والتي أحصنت فرجها } يعني مريم منعت وحفظت من أن يمسها ذكر، وقيل: منعت فرجها مما حرم الله عليها { فنفخنا فيها من روحنا } نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحياء، ومعناه نفخنا الروح في عيسى فيها، أي أحييناه في جوفها من روحنا وهو جبريل لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها، وقيل: إضافة إلى نفسها على وجه التشريف { وجعلناها } أي مريم { وابنها آية } حجة على كمال قدرتنا { للعالمين } العقلاء.
[21.92-97]
{ إن هذه أمتكم أمة واحدة } ، قيل: دينكم دينا واحدا وهو الإسلام، والأمة الملة، وهذه إشارة إلى ملة الإسلام التي يجب أن يكونوا عليها لا ينحرفون عنها، إشارة إلى ملة واحدة غير مختلفة، وقيل في أنها مخلوقة مملوكة لله، ومتى قيل: من هذه الأمة؟ قيل: أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كانت مجتمعة فتفرقت، وقيل: من تقع في التوحيد الأنبياء الذي قص الله خبرهم { وأنا ربكم فاعبدون } إلهكم إله واحد فاعبدون دون غيري، وقيل: هذا تفسير لقوله:
وإن هذه أمتكم أمة واحدة
[المؤمنون: 52] أي دينكم التوحيد { وتقطعوا أمرهم بينهم } أي اختلفوا في الدين فصاروا فرقا وأحزابا { كل إلينا راجعون } يعني من اجتمع منه وافترق راجع إلى حكمنا { فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن } الصالحات الطاعات كلها، وقيل: صلة الأرحام ومعونة الضعيف ونصرة المظلوم { فلا كفران لسعيه } أي لا جحدان لإحسانه في عمله بل يثاب عليه { وإنا له كاتبون } ضامنون له جزائه { وحرام على قرية } استعيرالحرام للمتنع وجوده ومنه قوله تعالى:
إن الله حرمهما على الكافرين
[الأعراف: 50] وأصل الحرام المنع، قيل: حرام على قرية { أهلكناها أنهم لا يرجعون } عن كفرهم، وقيل: حرام على قرية امتناها بآجالها رجوعهم إلى الدنيا لأنا قد قضينا أنهم لا يرجعون، وقيل: حرام أن لا يرجعوا بعد الممات بل يرجعون للجزاء، وقيل: حرام قبول توبتهم وإيمانهم لأنهم لا يرجعون إلى الدنيا، وعدهم بالرجوع إلى الآخرة يوم القيامة وبين علامة ذلك فقال سبحانه: { حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج } وهو سدهما كما حذف المضاف إلى القرية يعني يفتح عنهم السد بسقوط أو هدم أو كسر، وقيل: فتحت كما قيل: أهلكنا، ويأجوج ومأجوج أمتان وخروجهما من علامات القيامة كخروج الدجال، ونزول عيسى، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من المغرب، وهما قبيلتان من جنس الإنس، يقال: الناس عشرة أجزاء تسعة منهم يأجوج ومأجوج وجزء و... يخرجون عند أن يفتح السد { وهم من كل حدب ينسلون } وهو كناية عن يأجوج ومأجوج، وقيل: كناية عن الخلق واستدلت بقوله:
فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون
[يس: 51] وقيل: من حدب مرتفع من الأرض، وقيل: من القبور ينسلون يخرجون { واقترب الوعد الحق } يعني الصدق بالله وأنبيائه ووعد القيامة والجزاء فكان كما وعد { فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا } مفتحة ينظرون إلى تلك الأهوال { يا ويلنا } أي يقولون: { قد كنا في غفلة من هذا } أي اشتغلنا بأمر الدنيا وغفلنا عن هذا اليوم { بل كنا ظالمين } بأن عصينا الله تعالى، فاعترفوا على أنفسهم بالذنب والغفلة.
[21.98-107]
{ إنكم وما تعبدون من دون الله } يحتمل الأصنام وإبليس وأعوانه لأنهم بطاعتهم له واتباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم، ويصدقه ما روي
" أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجلس اليهم فعرض له النضر بن الحرث، وكلمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أفحمه، ثم تلا عليهم { إنكم وما تعبدون من دون الله } الآية، فأقبل عبد الله بن الزبعرى فرآهم يتساهمون فقال: فيم خوضكم فأخبره الوليد بن المغيرة بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال عبد الله بن الزبعرى: لو وجدته لخضته، فدعوه فقال ابن الزبعرى: أأنت قلت ذلك؟ قال: " نعم " قال: قد خصمتك ورب الكعبة، أليس اليهود عبدوا عزير، والنصارى عبدوا المسيح، وبني مدلج عبدوا الملائكة، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك "
وأنزل الله تعالى: { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } إما السعادة والبشرى بالثواب يعني عزير والمسيح والملائكة، قال جار الله: فإن قلت: لم قرنوا بآلهتهم؟ قلت: لأنهم لا يزالون لمقارنتهم في غم وحسرة، ولأنهم قد رأوا أنهم يشفعون لهم في الآخرة فإذا أصابهم الأمر على عكس ما قد رأوا لم يكن شيء أبغض إليهم منهم، وقيل: ما لما لا يعقل كما أن من لمن يعقل { حصب جهنم } ، قيل: وقود ماء، وقيل: حطبها { لهم فيها زفير } الزفير سد النفس { وهم فيها لا يسمعون } قيل: لا يحسون داعيا، وقيل: لا يسمعون ما ينفعهم، وقيل: لا يسمعون صراخ أهل النار وصوت المقامع وأصوات الخزنة، ولا يسمعون صوتا لهم فيه راحة، وقيل: يصيرون صما في وقت ويسمعون في وقت { لا يسمعون حسيسها } وهو الصوت الذي يحس { وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون } في ثواب الله دائمون لا يحزنهم الفزع الأكبر، قيل: النفخة الآخرة، وعن الحسن: الانصراف إلى النار، وقيل: حين يطبق، وقيل: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح { وتتلقاهم الملائكة } مهنئين على ثواب الجنة يقولون: { هذا يومكم الذي كنتم توعدون } { يوم نطوي السماء } الطي هذا لنشر { كطي السجل للكتب } ، قيل: السجل الصحيفة تطوى على ما فيها من الكتاب، وقيل: السجل ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه، وقيل: كانت لرسول والكتاب على هذا اسم للصحيفة المكتوب فيها { كما بدأنا أول خلق نعيده } أي استئناف كلام أي كما خلقناه ابتداء نعيده للحشر، وقيل: كما بدأناهم حفاة عراة في بطون أمهاتهم كذلك يوم القيامة، قال جار الله: فإن قلت: وما أول الخلق حتى يعيده كما بدأه؟ قلت: أوله إيجاده عن العدم كما أوجده أولا عن عدم يعيده باليا عن عدم { وعدا علينا } يجب الوفاء به، وقيل: حقا علينا واجبا { إنا كنا فاعلين } الإعادة { ولقد كتبنا في الزبور } كتب الأنبياء { من بعد الذكر } من كتبته في أم الكتاب، قال جار الله: زبور داوود والذكر التوراة، وقيل: اسم لجنس ما أنزل على الأنبياء من الكتب والذكر أم الكتاب يعني اللوح، وقيل: زبور داوود والذكر القرآن { أن الأرض يرثها عبادي الصالحون } ، قيل: أرض الجنة، وقيل: أرض الدنيا يرثها المؤمنون بعد إخلاء الكفار كقوله:
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها
[الأعراف: 137]، وقيل: الأرض المقدسة يرثها أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { إن في هذا } ، قيل: هذا القرآن، وقيل: ما قصصناه عليك من الوعد والوعيد، وقيل: في الجنة { لبلاغا } لكفاية { لقوم عابدين } مؤمنين يعبدون الله وحده، وقيل: عالمين، وقيل: هم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل الصلوات الخمس والقوم بين تعالى أن ما أوحى إليه وأرسله لينتفع به العباد فقال سبحانه: { وما أرسلناك } يا محمد { إلا رحمة للعالمين } يعني نعمة في الدين والدنيا.
[21.108-112]
{ قل } يا محمد { إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد } يعني من تحق له العبادة { فهل أنتم مسلمون } ومنقادون بذلك بأن تتركوا عبادة غيره، وقيل: هل أنتم داخلون في الإسلام؟ { فإن تولوا } أعرضوا { فقل } يا محمد لهم { آذنتكم } أعلمتكم { على سواء } في الانذار لم أظهر شيئا لبعض وأكتمه عن بعض، وقيل: على سواء في الإنذار والدعاء، وقيل: أعلمتكم ما أعد الله لكم على كفركم من العذاب { وإن أدري } لا أعلم { أقريب أم بعيد ما توعدون } يعني القيامة فإن الله تعالى هو العالم بوقتها، وقيل: المراد العذاب الموعود لهم ما يوعدون به من غلبة المسلمين عليكم لا محالة ولا بد، وإن كنت لا أدري متى يكون ذلك لأن الله تعالى لم يعلمني { إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون } والله عالم لا يخفى عليه شيء من كلام الطاعنين في الإسلام فهو مجازيكم عليه { وإن أدري لعله فتنة لكم } ما أدري لعل تأخير هذا الموعد لينظر كيف تعملون، يعني لعل تأخير العذاب فتنة لكم أي اختبار وشدة وتكليف { ومتاع إلى حين } أي يمتعكم إلى أجل قد علمه، ومعنى الآية لا أدري بعد البيان لعل بقاءكم زيادة في عقوبتكم إن لم تؤمنوا { قل رب احكم بالحق } وفوض الأمر إليه أي احكم بيني وبين من كذبني بالحق، وعن قتادة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا شهد قتالا قال:
" رب احكم بالحق "
أي افصل بيني وبين المشركين كما تفصل به الحق { وربنا الرحمان المستعان } الذي تحق له العبادة، وقوله: { المستعان } الذي يعينهم على أمورهم { على ما تصفون } من خلاف الدين وكانوا يطمعون أن تكون لهم الغلبة فكذب الله ظنهم ونصر رسوله والمؤمنين.
[22 - سورة الحج]
[22.1-2]
خاطب تعالى جميع الخلائق وابتدأ بالأمر بالتقوى وعقبه بذكر الوعد لمن خالف أمره فقال سبحانه: { يأيها الناس } المكلفين { اتقوا ربكم } أي اتقوا عذابه، وقيل: اتقوا معاصيه الموجبة لعذابه يوم القيامة { إن زلزلة الساعة شيء عظيم } الزلزلة شدة الحركة، أي حركة الأرض يوم القيامة، وقيل: الزلزلة تقرب القيامة من أشراطها وتكون في الدنيا، وقيل: تكون يوم القيامة في حديث مرفوع، شيء عظيم أي أمر هائل { يوم ترونها } ، قيل: الزلزلة، وقيل: الساعة { تذهل كل مرضعة } أي تشتغل عن ابن عباس، وقيل: تلهو حتى تذهلها الزلزلة، والمرضعة التي هي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبي، المرضع التي شأنها أن ترضع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الدهشة { عما أرضعت } عن إرضاعها أو هو الذي أرضعته وهو الطفل، وعن الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام { وتضع كل ذات حمل حملها } فتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام، قال الحاكم: هذا مثل لو كان مرضعة وحامل لكان حالهم هذا من هول ذلك اليوم، وأما ما حمله على أنه يكون في الدنيا فيصح حمله على الحقيقة { وترى الناس سكارى وما هم بسكارى } على الحقيقة ولكن ما رهقهم من خوف عذاب الله هو الذي أذهب عقولهم، وتراهم سكارى من الخوف وما هم بسكارى من الشراب، وقيل: وترى أيها السامع الناس سكارى من الفزع وما هم بسكارى من شرب الخمر { ولكن عذاب الله شديد } إذا عاينوه تحيروا وزالت عقولهم.
[22.3-10]
{ ومن الناس من يجادل في الله } الآية نزلت في النضر بن الحرث وكان يقول: هذا القرآن أساطير الأولين، وقيل: المجادلة في عباده { ويتبع كل شيطان مريد } عاصي عادي، وقيل: من الجن والإنس { كتب عليه } ، قيل: قضي عليه وحكم، وقيل: كتب في اللوح المحفوظ، وقيل: على الشيطان، وقيل: على المجادل بالباطل { من تولاه } اتبعه وولاه { فأنه يضله } عن الدين { ويهديه إلى عذاب السعير } يعني الشيطان يدعوه إلى ما يوجب النار، ثم ذكر الحجة في البعث فإن الأقرب أن الجدال فيه فقال: { يأيها الناس } خطاب للمكلفين { إن كنتم في ريب } أي في شك { من البعث } وهو إحياء الأموات يوم القيامة للجزاء بعد أن صاروا ترابا فالدليل على صحته { انا خلقناكم من تراب } يعني أصلكم وهو آدم فمن قدر على أن يصير التراب بشرا سويا حيا في الابتداء قدر على أن يحيي العظام { ثم من نطفة } يعني ذريته { ثم من علقة } بأن تصير النطفة علقة وهو الدم الغليظ { ثم من مضغة } بأن تصير العلقة مضغة وهو قطع اللحم { مخلقة وغير مخلقة } ، قيل: تامة الخلق وغير تامة الخلق، وقيل: مصورة وغير مصورة، يعني السقط، قال جار الله: المخلقة المسواة الملساء من النقصان والعيب من قولهم صخرة خلقاء إذا كانت ملساء، والله تعالى يخلق المضغ متفاوتة، منها ما هو كامل الخلقة، أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك تفاوت الناس في خلقهم وصورتهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم، وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة { لنبين لكم } بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا { ونقر في الأرحام ما نشاء } إلى التمام، وقيل: علقة ومضغة مخلقة مدة على ما يغله تعالى { إلى أجل مسمى } وقت مسمى يخرج الولد عنده { ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم } نهاية عقولكم { ومنكم من يتوفى } يقبض روحه فيموت في حال شبابه أو صغره { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } ، قيل: أحسنه وأحقره، وقيل: هو الهرم والخرف { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } يعني يصير إلى حين يعدم عقله فلا يعلم شيئا أو يذهب علومه هرما، ثم ذكر دليلا آخر فقال سبحانه: { وترى الأرض هامدة } يابسة دارسة من أثر النبات { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت } تحركت بالنبات { وربت } زادت بالنبات لمجيء الغيث { وأنبتت } يعني الأرض { من كل زوج } صنف من النبات { بهيج } حسن الصورة والمنظر { ذلك بأن الله هو الحق } الآية، الثابت الموجود، وأنه قادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وأنه حكيم لا يخلف ميعاده، وقد وعد الساعة والبعث فلا بد أن يفي ميعاده { ومن الناس من يجادل في الله } الآية نزلت في النضر بن الحارث وكان ينكر البعث ويقول الملائكة بنات الله، وإنما جادل في صفات الله وتوحيده وعدله وهم علماء السوء { بغير علم } أي لا يرجع فيما يقوله، إلى علم { ولا هدى ولا كتاب منير } يؤدي إلى الحق وإنما يتبع الهوى والتقليد { ثاني عطفه } يعني أمال عنقه عن الحق اغترارا لنفسه وخوفا على جاهه، وقيل: يلوي عنقه كبرا، وثني العطف عبارة على الكبر { ليضل عن سبيل الله } فيضل الناس عن الدين { له في الدنيا خزي } هوان وذل، وقيل: هو ما لحقهم يوم بدر، قوله تعالى: { ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق } يعني عذاب النار، ثم تقول لهم الملائكة يومئذ { ذلك } العذاب { بما قدمت } أيديكم { يداك } من العمل { وأن الله ليس بظلام للعبيد } في تعذيبهم لأنه عذبهم بما قدموا.
[22.11-15]
{ ومن الناس من يعبد الله على حرف } الآية نزلت في ناس من المنافقين كان بعضهم إذا قدم المدينة مهاجرا وصح جسمه ونتجت فرسه مهرا وولدت امرأته غلاما وكثرت ماشيته رضي به واطمأن اليه وقال: ما أصبت مذ دخلت في هذا الدين إلا خيرا، وإن أصابه وجع باطن وولدت امرأته جارية وذهب ماله قال: ما أصبت من يوم دخلت في هذا الدين إلا شرا، فنزلت الآية { ومن الناس من يعبد } عن ابن عباس، وقيل: نزلت في المنافقين لأنهم يمدحون الدين في وقت ويذمونه في وقت، وقيل: نزلت في بني أسد جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسألوه أفضاله فإن أعطاهم قالوا: نعم الدين هذا، وإن منعهم قالوا: نرجع إلى الشرك، الحرف والطرف والجانب نظائر ومنه حرف السيف { فإن أصابه خير } في بدنه وسعة في معيشته { اطمأن به } أي شكر { وإن أصابته فتنة } بلاء في جسمه وضيق في معاشه { انقلب على وجهه } أي رجع إلى ما كان عليه { خسر الدنيا والآخرة } أي ذهب حظه في الدارين من العز والكرامة { ذلك هو الخسران المبين } الظاهر { يدعو } من يعبد الله على حرف { ما لا يضره وما لا ينفعه } يعني الأوثان لا ينفع إن أطاعه ولا يضر إن عصاه { ذلك هو الضلال البعيد } أي الذاهب عن الحق { يدعو لمن ضره أقرب من نفعه } ، قيل: الأصنام، وقيل: الرؤساء لأنها لا تنفع وعبادتها تضر { لبئس المولى ولبئس العشير } المولى الناصر، والعشير الصاحب النافع، ثم بين تعالى ما ينال باتباع أمره إذا كان من تقدم باتباعهم الضلال فقال سبحانه: { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } أي من تحت أشجارها وأبنيتها { إن الله يفعل ما يريد } فيجازي كل أحد بعمله، وقيل: نزول قوله: { من كان يظن أن لن ينصره الله } الآية نزلت في أسد وغطفان تنافلوا عن الإسلام وقالوا: نخاف أن لا ينصر محمد فيقطع الذي بيننا وبين اليهود من الحلف فلا يميرونا، قال جار الله: هذا كلام قد دخله اختصار، والمعنى أن الله ناصر رسوله { في الدنيا والآخرة } الآية فمن كان يظن حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك ويطمع فيه فليستقص وسعه ويستفرغ جهده في إزالة ما يعطيه بأن يفعل ما يفعل من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى مد حبلا إلى سماء بيته فاختنق { فلينظر } ويتصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يعطيه، وسمي الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع نفسه، وسمي فعله كيدا لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكيد به محسوده إنما كاد به نفسه، وقيل: فليمدد بحبل إلى السماء المظلمة، وليصعد عليه فليقطع الوحي أن ينزل، وقد فسر النصر بالرزق، وقيل: معناه أن الأرزاق من الله لا ينال إلا بمشيئته، ولا بد للعبد من الرضا بقسمته، فمن ظن أن الله غير رازقه وليس به صبر فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق، قال في الحاكم: من كان يظن أن الله لا ينصر نبيه وأنه يتهيأ له أن يغلب نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { فليمدد بسبب إلى السماء } أي ليطلب شيئا يصل به إلى السماء فيقطع نصر الله لنبيه على أعدائه، وإنما ذكر السماء لأن النصر يأتيه من قبل السماء ومن قبل الملائكة.
[22.16-22]
{ وكذلك أنزلناه } يعني القرآن كله { آيات بينات } حجج على التوحيد والعدل { وأن الله يهدي } به الذين يعلم أنهم يؤمنون، وقيل: يهدي إلى طريق الجنة { إن الذين آمنوا } بمحمد وقبلوا دينه { والذين هادوا } وهم اليهود ونسبوا إلى اليهودية من قولهم إنا هدنا إليك { والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا } ، قال قتادة: الأديان ستة: خمسة للشيطان وواحد للرحمان، فالمؤمن من آمن بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والكافر اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والذين أشركوا { إن الله يفصل بينهم يوم القيامة } بين المحق والمبطل بأن بين المحق من المبطل وينصف المظلوم من الظالم { إن الله على كل شيء شهيد } عالم بأحوالهم يجازي كل أحد بعمله { ألم تر أن الله } يعني ألم تر أيها السامع، وقيل: ألم تعلم، والرؤية بمعنى العلم، وقيل: الرؤية بالنظر، والأول أصح كأنه قيل: ألم تر بعقلك وقلبك أن الله يسبح { له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب } ، قيل: تخضع له فيصرفها كما شاء قال الشاعر:
تجمع بظل البليق في حجراته
ترى الأكم فيها سجدا للحوافر
قيل: ما فيها من التسخير وآثار الصنعة يدعو إلى سجوده وعبادته فكأنه يسجد، وقيل: سجود المؤمن ما يفعله من العبادة، وسجود كل شيء سوى المؤمن سجود ظله حين تطلع الشمس وحين المغيب { وكثير من الناس } يسجد طوعا وهم المؤمنون { وكثير حق عليه العذاب } بإبائه السجود { ومن يهن الله فما له من مكرم } من معز ينجيه من العذاب ويدخله الجنة { هذان خصمان اختصموا في ربهم } الآية نزلت في ستة نفر برزوا يوم بدر وهم حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعتبة وشيبة إبنا ربيعة والوليد بن عتبة عن أبي ذر وعطاء ، وكان أبو ذر يقسم بالله أنها نزلت فيهم، وقيل: هم أهل الفرقان وأهل الكتاب اختصموا، وقالت كل فرقة: نحن أولى بالحق، وقيل: هم المؤمنون والكفار كلهم { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار } قيل: تجعل ثياب نحاس من نار وهي أشد ما يكون { يصب من فوق رؤوسهم الحميم } الماء الحار، عن ابن عباس: لو سقطت منه نطفة على جبال الدنيا لأذابتها { يصهر به ما في بطونهم } من الكبد والأفئدة والأمعاء والجلود { ولهم مقامع من حديد } سياط من حديد يضربون بها عقوبة لهم { كلما أرادوا } الخروج ضربتهم الخزنة بالمقامع، وفي الحديث:
" لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها "
وعن الحسن: أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفا { وذوقوا عذاب الحريق } الغليظ من النار.
[22.23-27]
{ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور } وهي حلية اليد { ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير } يعني الديباج { وهدوا إلى الطيب من القول } وهداهم الله وألهمهم أن يقولوا الحمد الله الذي صدقنا وعده وهداهم إلى طريق الجنة، وقيل: هو الكلام الحسن فلا يسمعون في الجنة إلا ما يحبون، وقيل: هدوا في الدنيا إلى الطيب من القول وهو الإيمان { وهدوا } أرشدوا { إلى صراط الحميد } قيل: الدين، وقيل: طريق الجنة، قوله تعالى: { إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله } عن دينه، وقيل: عن الحج والعمرة { والمسجد الحرام } يعني ويصدون عن المسجد الحرام وهو الكعبة، وقيل: الحرم والأول والمراد نفس المسجد يستوي فيه جميع الخلق { سواء العاكف فيه والباد } ، قيل: هما سواء في تعظيم حرمته وقضاء النسك، وقيل: هما سواء في المنزل فليس أحد أولى بالمنزل من الآخر، وجزموا بهذا دون مكة وكرهوا إجارتها أيام الموسم عن ابن عباس وسعيد بن جبير، العاكف المقيم، والباد الجاي إليه من الآفاق { ومن يرد فيه بإلحاد } الإلحاد العدول عن القصد { بظلم نذقه من عذاب أليم } ، قيل: الإلحاد في الحرم منع الناس عن عمارته، وعن عطاء قول الرجل في المبايعة لا والله بلى والله، وكل من ارتكب ذنبا فهو كذلك { وإذ بوأنا لإبراهيم }. قال جار الله: واذكر حين جعلنا لإبراهيم { مكان البيت } ودللناه عليه قيل: أراه جبريل مكانه لأنه رفع إلى السماء أيام الطوفان وكان من ياقوتة حمراء فأعلم الله إبراهيم مكانه { وطهر بيتي } من الأصنام والأوثان والأقذار أن يطرح حوله { للطائفين } أي من يطوف بالبيت { والقائمين } في الصلاة { والركع السجود } لمن يعبد الله ويخضع { وأذن في الناس بالحج } ناد فيهم، والنداء بالحج أن يقول: حجوا وعليكم بالحج، وروي أنه صعد أبا قبيس فقال: " يا أيها الناس حجوا بيت ربكم " وعن الحسن: أنه خطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع { يأتوك رجالا } جمع راجل كقائم وقيام { وعلى كل ضامر } أي راكب على كل ضامر وهو البعير المهرول وقد أضمره طول الطريق { يأتين من كل فج عميق } أي طريق بعيد، والعميق يقال بئر بعيد العمق.
[22.28-31]
{ ليشهدوا منافع لهم } التجارات، وقيل: التجارة في الدنيا والآخرة، وقيل: منافع العفو والمغفرة { ويذكروا اسم الله في أيام معلومات } ، قيل: المعلومات عشر ذي الحجة، والمعدودات أيام التشريق، وسميت معدودات لقلتها، فأما الذكر فقيل: هو التسمية عند الذبح، وقيل: التكبير { على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } ، قال جار الله: البهيمة مبهمة في كل ذات أربع في البر والبحر فثبتت في الأنعام وهي البقر والغنم والإبل والضأن والمعز { فكلوا } إباحة وليس بواجب { منها } من بهيمة الأنعام، وقيل: هي الهدايا، وقيل: بل يأكل المضحي وإن قل، والأول { وأطعموا البائس } الذي أصابه بؤس أي شدة، وقيل: البائس الزمن { والفقير } المحتاج { ثم ليقضوا تفثهم } ، قيل: مناسك الحج كلها، قال جار الله: قص الشارب والأظفار ونتف الابط والاستحداد، والتفث الوسخ، والمراد قضاء إزالة التفث { وليوفوا نذورهم } مواجيب حجهم أو ما عسى أن يذروه من أعمال البر في حجهم { وليطوفوا } طواف الإفاضة، وهو طواف الزيادة الذي هو أركان الحج ويقع به تمام التحلل { العتيق } لأنه أول بيت وضع للناس، وعن قتادة: أعتق عن الجبابرة كم من جبار سار إليه لهدمه فمنعه الله، وعن مجاهد: لم يملك قط، وعنه: أعتق عن الغرق، وقيل: بيت كريم، قال جار الله: فإن قلت: قد سلط عليه الحجاج فلم يمنع، قلت: ما قصد التسليط على البيت وإنما تحصن به إلى ابن الزبير رحمه فاحتال لإخراجه ثم بناه، ولما تسلط أبرهة فعل ما فعل { ذلك ومن يعظم حرمات الله } قال جار الله: وهو ما لا يحل هتكه وجميع ما كلفه الله عز وجل بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، فيحتمل أن يكون عاما في جميع تكاليفه، ويحتمل أن يكون خاصا فيما يتعلق بالحج، وعن زيد بن اسلم: الحرمات خمس الكعبة الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والمحرم حتى يحل { وأحلت لكم الأنعام إلا ما يتلى عليكم } والمعنى أن الله يداخل لكم الأنعام كلها إلا ما يتلى عليكم في سورة المائدة
حرمت عليكم الميتة والدم
[المائدة: 3] الآية { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } يعني عبادة الأوثان وتعظيمها، يعني عظموا الله فإنه أهل التعظيم، وإنما سماه رجسا تشبيها لأنه يجب اجتنابه، وقيل: كانوا يلطخونها بالدم، قال جار الله: فكأنه قيل: اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان { واجتنبوا قول الزور } ، قيل: الكذب، وقيل: تلبية المشركين إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وقيل: قولهم هذا حلال وهذا حرام وما أشبه ذلك من افترائهم، وقيل: شهادة الزور، وقيل: البهتان والكذب { ومن يشرك بالله فكأنما } الآية، قال جار الله: تشبيها مركبا فكأنه قال: من أشرك بالله فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده مصورة حال من { خر من السماء } فاختطفه الطير فتفرق مسرعا في حواصلها، أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطارح البعيدة، وإن كان مفرقا فقد شبه الايمان في علوه بالسماء، والذي ترك الإيمان بالله واختار الشرك بالساقط من السماء.
[22.32-37]
{ ذلك ومن يعظم شعائر الله } وهي الهدي لأنها من معالم الحج أن يختارها عظام الأجرام حسانا سمانا غالية الأثمان، وقيل: مناسك الحج كلها شعائر، وقيل: شعائر الله دينه كالصلاة والصوم والحج ونحوها { فإنها } يعني هذه الخصال التي ذكرت { من تقوى القلوب } قيل: أراد صدق النية والله أعلم { لكم فيها منافع } يعني في الشعائر منافع قيل: الهدايا، وقيل: مشاهدة مكة، فمن قال بالأول قال ذلك ما لم يسم هديا ونذرا فإذا سمي هديا فلا يجوز الانتفاع بها، وقيل: له ركوب ظهرها وشرب لبنها إذا احتاج { إلى أجل مسمى } إلى أن تنحر، وقيل: إلى أجل مسمى يوم القيامة { ثم محلها } أي سخرها { إلى البيت العتيق } كقوله هديا بالغ الكعبة { ولكل أمة جعلنا منسكا } عبارة عن الذبح، وقيل: متعبدا أي فعل ذلك { ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام } وهي الإبل والبقر والغنم وسميت بهيمة لأنها لا تكلم { فإلهكم إله واحد فله أسلموا } أي انقادوا له { وبشر المخبتين } ، قيل: الخاشعين، وقيل: المتواضعين { الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم } أي ذكروا وعده ووعيده خافوا عقابه { والصابرين على ما أصابهم } من المحن من جهة الله تعالى: { والمقيمي الصلاة } يعني يقيمون فرائضها { ومما رزقناهم ينفقون } في سبيل الله...... إلى ذكر الشعائر فقال سحبانه: { والبدن جعلناها لكم } وفي الكلام حذف كأنه قال نحر البدن { من شعائر الله } قيل: معالم دينه { لكم فيها خير } قيل: أراد ثواب الآخرة، { فاذكروا اسم الله عليها } أي عند نحرها، وهي التسمية، وقال ابن عباس: هو أن يقول الله أكبر { صواف } قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن، وقرئ صوافي من صفوف الفرس وهو أن تقوم على ثلاث وتنصب الرابع على طرف، وقرئ صوافي أي خوالص لوجه الله { فإذا وجبت جنوبها } أي سقطت على الأرض منحورة وسكنت بسابسها حل لكم الأكل منها { وأطعموا القانع } السائل من قنعت إليه إذا خضعت وسألته { والمعتر } المتعرض بغير سؤال، وقيل: القانع الراضي بما عنده وبما يعطى من غير سؤال، والمعتر المتعرض بالسؤال، وروي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن ذلك فقال: القانع الذي يقنع بما أعطي والمعتر الذي يعتر الأبواب، وقيل: القانع الذي لا يسأل والمعتر الذي يسأل { كذلك } تم الكلام ها هنا أي كذلك فافعلوا كما أمرتكم فانحروا، وقيل: يتصل بما قدم، أي هكذا إذا ذللنا البدن مع شدة خلقها وقوتها وضعفكم { لعلكم تشكرون } أي لكي تشكروا الله على هذه النعم { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها } قيل: لن يصل إلى الله لحومها أي لن يقبل ذلك ولكن يقبل التقوى، وقيل: لن يبلغ رضى الله لحومها ولا دماؤها ولكن يبلغه التقوى منكم وهو إخلاص العبادة { كذلك سخرها لكم } أي هكذا سخر الله لكم البدن مع عظمها لتعبدوه وتطيعوه { لتكبروا الله } أي تعظموه { على ما هداكم } لإعلام دينه ومناسكه، وقيل: هداكم لوجه العبادة في نحرها وذبحها، وقيل: هو أن تقول: الله أكبر { وبشر المحسنين } قيل: بشرهم بحب الله إياهم لقوله: { والله يحب المحسنين } ، وقيل: بالجنة، وقيل: بأداء الفرائض.
[22.38-44]
{ إن الله يدافع عن الذين آمنوا } ، قيل: شدائد الدنيا بأن ينصرهم ويأمر بتعظيمهم، معناه يبالغ بالدفع عنهم { أذن للذين يقاتلون } قرأ بنصب التاء نافع، وبكسرها أبو عمرو وابن كثير، والمعنى أذن لهم في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة { بأنهم ظلموا } أي بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، كان مشركوا مكة يؤذونهم أذى كثيرا، وكانوا يأتون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بين مضروب ومستجرح يتظلمون اليه فيقول لهم:
" اصبروا فإني لم أؤمر بالقتال "
حتى هاجر، ونزلت الآية وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهي عنه في نيف وسبعين آية، وقيل: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركوا مكة فأذن لهم في مقاتلتهم { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } بالجهاد وإقامة الحدود يعني إظهاره وتسليط المسلمين على الكفار بالمجاهدة، ولولا ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم متعبداتهم فهدموها ولم يتركوا للنصارى بيعا ولا لرهبانهم صوامع ولا لليهود صلوات ولا للمسلمين مساجد، وتغلب المشركون في أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على المسلمين وعلى أهل الكتاب الذين في ذمتهم وهدموا متعبدات الفريقين وسميت الكنيسة صلاة لأنه يصلى فيها { ولينصرن الله من ينصره } أي ينصر دينه وأولياءه، يعني ومن ينصر أولياءه { إن الله لقوي } يعني قادر { عزيز } لا يغالب { الذين إن مكناهم في الأرض } قيل: هم
المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم
[الحشر: 8]، وقيل: هم أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: أهل الصلوات الخمس، وقيل: هذه الأمة { أقاموا الصلاة } أي أداموها { وآتوا الزكاة } { ولله عاقبة الأمور } أي أمور الخلق ومصيرهم اليه يوم القيامة { وإن يكذبوك } فيما أتيتهم من الدين { فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود } { وقوم إبراهيم وقوم لوط } { وأصحاب مدين } وهم قوم شعيب { وكذب موسى } ولم يقل قومه لأن قومه بنو إسرائيل لعنوا وإنما كفر فرعون وقومه { فأمليت للكافرين } أي أمهلتهم ولم أعجل بالهلاك لإقامة الحجة عليهم { ثم أخذتهم } بالعذاب { فكيف كان نكير } عليهم، وقيل: فكيف كان نكير ألم أبدلهم بالنعمة نقمة وبالكثرة قلة، وبالحياة هلاكا وبالعمارة خرابا.
[22.45-51]
{ فكأين من قرية } أي كم من قرية { أهلكناها وهي ظالمة } أي أهلكناها ظالمة { فهي خاوية على عروشها } قيل: ساقطة على سقوفها، أي تهدمت الحيطان على السقوف، وقيل: خالية عن أهلها، قال جار الله (رحمه الله تعالى): { وبئر معطلة } متروكة مخلاة من أهلها { وقصر مشيد } قيل: رفيع طويل، والمعنى كم قرية أهلكناها وكم بئر عطلناها عن سقائها وقصر مشيد، قال جار الله: والمشيد المجصص المرتفع البنيان، وروي أن هذه بئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله من العذاب وهم بحضرموت، وإنما سميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات، وثم بلد عند البئر اسمها حاصوراء بناها قوم صالح، وأمروا عليها جهلس بن حلاس فأقاموا بها زمانا، ثم كفروا وعبدوا صنما، وأرسل الله اليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه، فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرب قصورهم { أفلم يسيروا في الأرض } يحتمل أنهم لم يسافروا فحثوا على السفر ليروا مصارع من أهلكهم الله بكفرهم ويحتمل أن يكونوا قد سافروا وراء ذلك ولكن لم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا { فتكون لهم قلوب يعقلون بها } ما يجب أن يعقل من التوحيد ويسمعون ما يجب أن يسمع من الوحي { فإنها لا تعمى الأبصار } يعني أبصار هؤلاء الكفار { ولكن تعمى القلوب } حيث لم يتفكروا { التي في الصدور } ، وقيل: أراد بالعمي الضلال، يعني ضل القلب دون البصر، وذكر الصدر تأكيدا { ويستعجلونك بالعذاب } نزلت في النضر بن الحارث واستعجالهم بالعذاب ردا وكذبا { ولن يخلف الله وعده } لن يخلف الله شيئا، وذلك أنهم وعدوا وعدا ولن يخلف الله شيئا منه وهذا يوم بدر أو يوم القيامة { وإن يوما عند ربك } يعني يوم القيامة { كألف سنة مما تعدون } قيل: يوم من أيام الآخرة كألف سنة من أيام الدنيا، وقيل: أن يوما في مقدار العذاب في ذلك اليوم لشدته كمقدار عذاب ألف سنة من أيام الدنيا، وقيل: أراد الطول ووقوف العبد للمحاسبة يوم القيامة، ومتى قيل: كيف يصح ذكر اليوم في الآخرة لا نهار ولا ليل؟ قالوا: يحتمل أن يكون هناك علامة إذا بلغ ذلك القدر سمي يوما فيكون مقداره في الدنيا ألف سنة { وكأين من قرية أمليت لها } أي أمهلت لها { وهي ظالمة } أي أهلها فلم أعاجلها بالعذاب للمصلحة { ثم أخذتها } بالعذاب { وإلي المصير } للجميع فيه أن طول الإمهال لا يعتبر به { قل } يا محمد { يأيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين } نذير مخوف بالعذاب لمن عصى ومبشرا بالجنة لمن أطاع { فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة ورزق كريم } ، قيل: نعيم الجنة وهو أكرم نعيم وأكبر دار { والذين سعوا } على طمع { في آياتنا } في إعجاز الرسول والمؤمنين فأضافه إلى نفسه تعظيما، وقيل: مقدرين أن يعجزوا الله ولن يعجزوه، وقيل: مغالبين، وقيل: سابقين، وقيل: يعجزون المؤمنين، وقرأ ابن كثير معجزين بالتشديد { أولئك أصحاب الجحيم } يعني الملازمون لجهنم خالدين فيها.
[22.52-57]
{ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى } ، قال جار الله: دليل بين على تغاير الرسول والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سئل عن الأنبياء فقال:
" مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا "
وسئل كم الرسل منهم فقال:
" ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا "
والفرق بينهما أن الرسول من الأنبياء من جمع إلى المعجزة الكتاب المنزل عليه، والنبي غير الرسول من لم ينزل عليه الكتاب وإنما أمر أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله، قال جار الله: والسبب في نزول هذه الآية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أعرض عنه قومه وخالفوه وشاقوه ولم يشايعوه على ما جاء به تمنى لفرط ضجره عن إعراضهم وتحريضه على إسلامهم أن لا ينزل عليهم ما ينفرهم حتى نزلت عليه سورة النجم وهو في نادي قومه وذلك التمني في نفسه، فأخذ يقرأها فلما وصل
ومناة الثالثة الأخرى
[النجم: 20] { ألقى الشيطان في أمنيته } التي تمناها أي وسوس إليه فسبق لسانه على سبيل السهو والغفلة إلى أن قال: تلك الغرانيق العلا، وإن شفاعتهم لترتجى، ولم يفطن له حتى أدركته العصمة فثبته عليه، وقيل: ثبته عليه جبريل، وقيل: تكلم الشيطان بذلك فاستمعه الناس، فلما سجد في آخر السورة سجد معه جميع من في النادي وطابت نفوسهم، وكان من الشيطان محنة من الله وابتلاء زاد المنافقين به شكا وظلمة والمؤمنين نورا وإيقانا، قال جار الله أيضا: والمعنى أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك، إذا تمنوا مثل ما تمنيت مكن الله الشيطان ليلقى في أمانيهم مثل ما ألقى الله في أمنيتك إرادة امتحان من حولهم، والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين، وقيل: تمنى قرأ وأنشد:
تمنى كتاب الله أول ليلة
تمنى داوود الزبور على رسل
روي الخبر المتقدم في الكشاف، وقال في الحاكم: وهذا الخبر إن صح فمحمول على أنه كان سوى القرآن فلما بلغ
ومناة الثالثة الأخرى
[النجم: 20] قال: من حضر تلك الغرانيق العلى وألقى ذلك في تلاوته وهو أنه من القرآن وأضافه إلى الشيطان لأنه بإغوائه ووسوسته، هكذا ذكره الناصر للحق الحسن بن علي (عليه السلام)، قال في الحاكم: ولا يبعد أن يكون ما قاله جار الله، وقيل: تلك الغرانيق إشارة إلى الملائكة هم الشفعاء لا الأصنام { فينسخ الله ما يلقي الشيطان } أي يذهب به ويبطله { ثم يحكم الله آياته } أي يثبتها { والله عليم حكيم } فيما يفعله { ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض } يريد المنافقين والشاكين { والقاسية قلوبهم } المشركون المكذبون { وان الظالمين لفي شقاق بعيد } يعني هؤلاء المنافقين والمشركين { وليعلم الذين أوتوا العلم } يعني الذين تفكروا حتى علموا التوحيد والعدل { أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم } أي تخشع وتواضع لقوة الإيمان { وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم } واضح لا عوج فيه { ولا يزال الذين كفروا في مرية منه } أي في شك من القرآن { حتى تأتيهم الساعة بغتة } يعني تأتيهم القيامة فجأة { أو يأتيهم عذاب يوم عظيم } ، قيل: يوم الموت، وقيل: يوم القيامة، وعن أبي علي: أنه يوم بدر { الملك يومئذ لله } ولما ذكر القيامة بين أن الملك يومئذ لله لا يملك سواه أحد { يحكم بينهم } يعني كما يكون الملك له فالحكم إليه بين عباده لا يحكم غيره { فأولئك لهم عذاب مهين } مذل يذلهم وهو عذاب جهنم.
[22.58-66]
{ والذين هاجروا } أعاد ذكرهم وإن كانوا دخلوا في الذين آمنوا وعملوا الصالحات تعظيما لهم وتفخيما لشأنهم لكونهم فارقوا أوطانهم وأموالهم ابتغاء مرضاة الله { ثم قتلوا } في الجهاد { أو ماتوا } في المعركة { ليرزقنهم الله رزقا حسنا } في الجنة { وإن الله لهو خير الرازقين } ما إذا رآه لا يمدن عينيه إلى غيره لا يقدر على ذلك إلا الله، وقيل: بل هو قوله:
بل أحياء عند ربهم يرزقون
[آل عمران: 169] { ليدخلنهم مدخلا يرضونه } يعني مكانا يدخلونه ويرضونه وهو الجنة { وإن الله لعليم } بمواضع الجزاء ومقداره { حليم } بالإمهال إلى ذلك اليوم { ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به } الآية نزلت في قوم من المشركين لقوا جماعة من المسلمين فقاتلوهم في الشهر الحرام فنهاهم المسلمون عن ذلك فأبوا فنصروا عليهم، ومعنى { من عاقب بمثل ما عوقب به } فينتقم من عدوه، وقيل: الأول لم يكن عقوبة ولكن هو كقولهم الحر بالحر، وقيل: أراد القصاص بالقتل أن يقتل قاتل وليه، وقيل: أراد أن يخرجوهم من ديارهم مثل ما أخرجوهم { لينصرنه الله إن الله لعفو غفور } عمن ينتصر من ظالمه، غفور يغفر له، وقيل: هو عام، قوله تعالى: { ذلك بأن الله يولج الليل في النهار } الإيلاج الادخال، قال جار الله: { ذلك } أي ذلك النصر سبب أنه قادر، ومن آيات قدرته البالغة أنه { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } أو سبب أنه خالق الليل والنهار ومصرفهما فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير والشر والبغي والإنصاف، وأنه { سميع } لما يقولون { بصير } بما يفعلون، قال جار الله: فإن قلت: ما معنى إيلاج أحدهما في الآخر؟ قيل: يحصل ظلمة هذا في ضياء الآخر وضياء ذلك في مكان ظلمة الآخر بطلوعهما كما يضيء بالسراج ويظلم بفقده، وقيل: هو زيادة أحدهما بما نقص من الآخر من الساعات، وان الله سميع لما يقول عباده، بصير لا يخفى عليه شيء فيجازي به { ذلك بأن الله هو الحق } الدائم القادر وما دون ضعيف، وقيل: إنما يقوله ويفعله الحق، وقيل: عادته الحق { وأن ما يدعون من دونه } قرئ بالياء والتاء والأوثان { هو الباطل وأن الله هو العلي } القادر على كل شيء { الكبير } العظيم في صفاته { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة } أي ذات خضرة بالنبات ولا يقدر عليها غيره { إن الله لطيف } قيل: فاعل الألطاف، وقيل: يحسن التدبير، { خبير } الخبير العالم { له ما في السماوات وما في الأرض } يعني جميعها، وقيل: جميع من فيهما عباده { وإن الله لهو الغني الحميد } الذي لا يجوز عليه الحاجة، الحميد المحمود بصفاته وأفعاله { ألم تر } أيها الإنسان { أن الله سخر لكم ما في الأرض } قيل: تسخيرها تمكينهم من الأشياء والإنتفاع وتصريفهما فيما يريدون، وقيل: أراد تسخير الأنعام مع عظم قوتها وغير ذلك من الحيوانات { والفلك تجري في البحر بأمره } يعني السفن والله أعلم { ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه } أي بأمره بالإمساك خلقه تعالى { وهو الذي أحياكم } في الدنيا { ثم يميتكم } عند انقضاء آجالكم { ثم يحييكم } في الآخرة للثواب والعقاب { إن الإنسان لكفور } أي جحود.
[22.67-76]
{ لكل أمة جعلنا منسكا } يعني جعلنا لكل قوم شريعة كما جعلنا لك ولأمتك وليس أمرك ببدع، وقيل: أراد جميع العبادات { فلا ينازعنك في الأمر } قيل: نهي لهم عن منازعته، وقيل: نهي له لأن المنازعة تكون بين اثنين، وقيل: المنازعة قولهم أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله؟ وهي الميتة التي قتلها الله تعالى، يعني فلا يخاصمنك في أمر الذبح، وقيل: المنازعة في نسخ أمر الشريعة، أي ليس لهم أن ينازعوك في شريعتهم، وقيل: نسخت هذه الشريعة شريعة من تقدم { وادع إلى ربك } أي لا تلتفت إلى منازعتهم وادع إلى توحيد ربك ودينك { إنك لعلى هدى مستقيم } { وإن جادلوك } قيل: على سبيل المراء والتعتب بعد لزوم الحجة كما يفعله السفهاء فلا تجادلهم وادفعهم بهذا القول { فقل الله أعلم بما تعملون } { الله يحكم بينهم يوم القيامة } أي يفصل بين المحق والمبطل { فيما كنتم فيه تختلفون } من الدين، فتعرفون الحق من الباطل ضرورة، قوله تعالى: { ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض } استفهام والمراد التقرير تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { إن ذلك في كتاب } قيل: الكتاب الحفظ، أي تعلمونه محفوظ للجزاء لأن العادة جرت بأن الأشياء تحفظ بالكتب، وقيل: في كتاب في اللوح المحفوظ كتبه لطفا للملائكة { إن ذلك على الله يسير } يعني حفظه وعلمه يسير عليه لما قدم أدلة التوحيد بين أن ما هم عليه لاحجة فيه فقال سبحانه: { ويعبدون من دون الله } يعني الأصنام { ما لم ينزل به سلطانا } أي حجة، يعني أنهم عبدوها من غير حجة { وما ليس لهم به علم } يعني كما لا دليل لهم على ذلك فلا علم لهم بذلك أيضا إنهم آلهة لأن الإنسان قد يعلم الأشياء من غير دليل كالضروريات ونحو وجوب الشكر وقبح الظلم { وما للظالمين من نصير } قال جار الله: ويعبدون ما لم يتمسكوا في صحة عبادته ببرهان سماوي من جهة الوحي ، ولا ألجأهم إليها علم ضروري، ولا حملهم عليها دليل عقلي، وما للذين ارتكبوا مثل هذا الظلم من أحد ينصرونهم ويصوب مذهبهم { وإذا تتلى عليهم آياتنا } حجتنا المؤدية إلى الحق، وقيل: القرآن { بينات } واضحات لم يتفكروا { تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر } يعني تبين في وجوههم الكراهة والعبوس { يكادون يسطون } يريدون البطش والقهر { بالذين يتلون عليهم آياتنا قل } يا محمد { أفأنبئكم بشر من ذلكم } يعني بشر من غضبكم على التالين، وقيل: أشد عليكم من سماع القرآن، ثم فسر فقال: { النار وعدها الله الذين كفروا وبئس المصير } أي المرجع والمأوى، ثم ضرب لهم مثلا فقال: { يأيها الناس ضرب مثل } يعني جعل لهم تشبيها { فاستمعوا له } أي تدبروا وتفكروا { إن الذين تدعون من دون الله } يعني الأوثان { لن يخلقوا ذبابا } في صغره لأن أحدا لا يقدر على الجواهر والأجسام ولا على الحياة غيره تعالى: { ولو اجتمعوا له } يعني لو اجتمع الأصنام لم يقدروا على خلق ذباب { وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه } يعني لو سلب الذباب على الأصنام شيئا مما عليهم ما قدروا على تخليصه، قال جار الله: وهذا ما أنزل الله على تجهيل قريش واستركاك عقولهم حيث وصفوا الأصنام بالإلهية وهذا الخلق الأقل الأذل لو اختطف منهم شيئا واجتمعوا على أن يتخلصوه لم يقدروا، وقوله: { ضعف الطالب والمطلوب } كالتسوية بينهم وبين الذباب في الضعف ولو حققت وجدت الطالب أضعف وأضعف لأن الذباب حيوان وهو جماد وغالب وذلك مغلوب، وعن ابن عباس: أنهم كانوا يطلونها بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله، وقيل: الطالب الذباب والمطلوب الصنم سمي ضعيف العابد والمعبود { ما قدروا الله حق قدره } أي ما عرفوه حق معرفته حتى لا يسموا باسمه تعالى من هو منسلخ عن صفاته، يعني ما عظموه حق تعظيمه حيث جعلوا الملائكة والأنبياء أولادا له تعالى عما يقولون وهو اصطفاهم واختارهم لرسالته { يعلم ما بين أيديهم } الآخرة { وما خلفهم } الدنيا، وقيل: يعلم ما مضى قبل خلق الملائكة وما يكون بعد خلقهم { وإلى الله ترجع الأمور } إلى حكمه يصير الأمر.
[22.77-78]
قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } يعني صلوا واعبدوا، وقيل: كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود فأمروا بأن تكون صلاتهم ركوع وسجود، وقيل: معنى { واعبدوا ربكم } اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله { وافعلوا الخير } قيل: الآداء والزكاة، وقيل: افعلوا الخيرات من الفرائض والنوافل، وعن ابن عباس: صلة الأرحام ومكارم الأخلاق، قوله تعالى: { لعلكم تفلحون } أي افعلوا هذا كله وأنتم راجون الفلاح طامعون فيه، وعن عقبة بن عامر (رضي الله عنه) قال: قلت: يا رسول الله في سورة الحج....؟ قال:
" نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما "
{ وجاهدوا } أمروا بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه رجع من بعض غزواته فقال:
" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر "
{ في الله } أي في دينه { حق جهاده } قال جار الله: كان القياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه وهي ثلاثة مع الكفار بالسيف والحجة، ومع المبتدعة بالحجة ومع النفس بالامتناع عن المعاصي { هو اجتباكم } لدينه وجهاد أعدائه { وما جعل عليكم في الدين من حرج } أي من ضيق، وقيل: لم يكلفكم ما لم تطيقونه بل جعل فيه التوبة { ملة أبيكم إبراهيم } أي دينه وإنما ذكر ذلك لأن ملته داخلة في ملة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وسماه أبا الجميع لأن حرمته كحرمة الوالد على الولد { هو سماكم المسلمين } هو يرجع إلى الله تعالى، وقيل: إلى إبراهيم { من قبل } أي من قبل القرآن في سائر الكتب وفي القرآن، أي فضلكم على الأمم وسماكم بهذا الاسم الأكرم { ليكون الرسول شهيدا عليكم } أنه قد بلغكم { وتكونوا شهداء على الناس } بأن الرسل قد بلغتهم، وإذا خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه وثقوا به ولا تطلبوا النصرة والولاية إلا منه فهو مولى وناصر ومعين.
[23 - سورة المؤمنون]
[23.1-11]
{ قد أفلح المؤمنون } أي فاز وظفر بالمطلوب المؤمنون فهي بشارة لهم، ثم ثنى صفة المؤمنين فقال: { الذين هم في صلاتهم خاشعون } وحقيقة الخشوع في الصلاة في القلب والجوارح، ولقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) لما رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته:
" أما أنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه "
والخشوع أصله السكون والتذلل وهو قريب من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن والخشوع في القلب والبصر والصوت، وقيل: خائفون، وقيل: متواضعون، وقيل: هو غض البصر وخفض الجناح ولا تلتفت يمينا ولا شمالا { والذين هم عن اللغو معرضون } عن المعاصي، وقيل: الحلف الكاذب، وقيل: الشتم { والذين هم للزكاة فاعلون } يودون { والذين هم لفروجهم حافظون } يعني يحفظونها بما لا يجوز { إلا على أزواجهم } فأباح وطي الزوجة وملك اليمين { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } ، قيل: الخارجون عن حدود الله، يعني من طلب سوى ذلك فأولئك هم العادون { والذين هم لأماناتهم } يعني ما ائتمنوا عليه، وهو على وجهين: اما أمانات الله من العبادات، وإما أمانات العباد كالودائع والعواري والشركة والمضاربة والشهادات وغيرها من العقود { وعهدهم } عقودهم وهو على ثلاثة أوجه: أوامر الله، ونذور الانسان، والعقود التي بين الناس { راعون } والراعي القائم على شيء يحفظه كراعي الغنم وراعي الرعية، أي حافظون وافون { والذين هم على صلاتهم يحافظون } يداومون فلا يضيعونها ويراعون أوقاتها وهي الصلوات الخمس والوتر والسنن المرتبة مع كل صلاة وصلاة الجمعة، والعيدين والجنازة والاستسقاء والكسوف والخسوف وصلاة الضحى وصلاة التهجد وصلاة التسبيح وصلاة الحاجة وغيرها من النوافل { أولئك } يعني من كان بهذه الصفة { هم الوارثون } يوم القيامة منازل أهل البيت النار روي مرفوع، وقيل: الوارثون الجنة ونعيمها لأنها تول إليهم الفردوس على تأويل الجنة، وهو البستان الواسع الجامع، وروي أن الله تعالى بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر.
[23.12-20]
{ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } أي خلقنا الإنسان مسلوة من الطين أي مسخرا منه قيل: استل آدم من أديم الأرض فخلق منه، وقيل: استل من الطين { ثم جعلناه } أي جعلنا الإنسان وهو ذرية آدم { نطفة في قرار مكين } { ثم خلقنا النطفة علقة } أي قطعة دم جامد { فخلقنا العلقة مضغة } أي قطعة لحم { فخلقنا } تلك { المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر } أي جعلناه على صورة قبل نفخ الروح وذلك حيث جعله حيوانا، وكان جمادا وناطقا، وكان أبكم وسميعا وكان أصم، وبصيرا، وكان أكمه { فتبارك الله أحسن الخالقين } فتبارك الله: فتعالى أمره في قدرته وعلمه، أحسن الخالقين أحسن المقدرين، وروي أن عبد الله بن أبي سرح كان يكتب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنطق بذلك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " اكتب فبهكذا نزلت " فقال عبد الله: إن كان محمد نبيا يوحى إليه فإني نبي يوحى إلي، فلحق بمكة كافرا ثم أسلم يوم الفتح { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق } أي سبع سماوات وسميت بذلك لأنها طرق الملائكة { وما كنا عن الخلق غافلين } فننزل عليكم من السماء يعني من المطر ما يحييكم ويرزقكم، وقيل: أراد خلقنا السماوات والأرض وما كنا غافلين عن شيء { وأنزلنا من السماء ماء بقدر } صفة للماء، أي بقدر معلوم لا يزيد عليه ولا ينقص منه، وعن ابن مسعود: ليست سنه أمطر من سنة لكن الله يصرفه حيث يشاء، وقيل: بقدر ما يكفيهم لزرعهم وشربهم، وقيل: هذا الماء غير ماء المطر وإنما هو أنهار خمس تجري من الجنة، سيحون نهر الهند، وجيحون نهر بلح، ودجلة والفرات نهر العراق، والنيل هو نهر مصر { وإنا على ذهاب به لقادرون } فيهلكوا عطشا وتهلك المواشي وتيبس الأشجار وتخرب الأرض { فأنشأنا لكم به } أي أحدثنا وخلقنا لنفعكم، قوله تعالى: { جنات } بساتين { من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة } وإنما أجرى العادة أن يخلقها عند سقي الماء { وشجرة تخرج من طور سيناء } ، قيل: هو اسم للجبل الذي نودي فيه موسى وهو كثير الشجر، والمراد بالشجرة الزيتون { تنبت بالدهن } معناه تنبت ثمرها بالدهن، والباء زائدة، { وصبغ للآكلين } أي..... آدم.
[23.21-29]
{ وإن لكم في الأنعام لعبرة } أي دلالة مؤدية إلى يقين { نسقيكم مما في بطونها } يعني ألبانها { ولكم فيها منافع كثيرة } من اللحم والشعر والجلد { ومنها تأكلون } { وعليها } يعني على الأنعام { وعلى الفلك } السفينة { تحملون } في البر والبحر { ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه } قيل: سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه عن ابن عباس، وقيل: أنه دعا على قومه بالهلاك، وقيل: لدعائه في شأن ابنه { فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } فبدأ بالتوحيد لأنه الأهم { أفلا تتقون } مخالفته ومعاصيه، وقيل: أفلا تتقون الشرك؟ { فقال الملأ الذين كفروا من قومه } يعني الأشراف وكانوا يصدون عن اتباعه { ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم } أي يتشرف ويترأس فيكون له الجاة والفضل عليكم { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } أي لو شاء الله لأنزل ملائكة ولم يرسل بشرا { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } ، قيل: بهذا الدين، وقيل: بمثل دعوته { إن هو إلا رجل به جنة } أي مجنون { فتربصوا به حتى حين } وإنما نسبوه إلى الجنون حتى حين قيل: انتظروا حتى يفيق من جنونه، وقيل: معناه احبسوه مدة ليرجع عن قوله، وقيل: إلى موته، فلما أيس منهم دعا الله سبحانه { قال رب انصرني } عليهم بإهلاكهم { بما كذبون } { فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا } بحيث يراها الرائي من عباده بعينه، وقيل: بأعين أوليائنا من الملائكة والمؤمنين فإنهم يحرسوك، وقيل: بحفظنا { ووحينا } أي أمرنا { فإذا جاء أمرنا } ، قيل: نصرنا، وقيل: هو عبارة عن فوران الماء، وقيل: أمرناه بالدعاء { وفار التنور } أي علا التنور بالماء وكان ذلك علامة ومعجزة لنوح، وقيل: معناه اشتد الأمر كما يقال حمى الوطيس { فاسلك فيها من كل زوجين } أي من كل زوجين ذكر وأنثى، قال الحسن: فجمع معه من بلد وسص دون الحرسات { وأهلك } من آمن معك { إلا من سبق عليه القول منهم } يعني من تقدم الوعيد عليه لأجل كفرهم كابنه وامرأته { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } { فإذا استويت أنت ومن معك } من المؤمنين يعني استقررت وركبت السفينة قيل: ركب معه سبعة ونوح { فقل الحمد الله الذي نجانا من القوم الظالمين } يعني احمدوا الله حيث نجاكم من أذاهم وأهلك الكافرين، قوله تعالى: { وقل رب انزلني منزلا } قرئ بالفتح المنزل أي الموضع وبالضم، وقيل: أراد السفينة سبب النجاة، وقيل: أراد بعد الخروج من السفينة، وقيل: هو عام في كل وقت { وأنت خير المنزلين } لأن الله يحفظه ويحرسه في جميع الأحوال.
[23.30-44]
{ إن في ذلك } قيل: قصة نوح، وقيل: ما تقدم { لآيات } لدلائل { وإن كنا لمبتلين } مختبرين بالدلالات ليعلموا صنائعهم وينكروه، وقيل: لمبتلين لمعاقبين لمن سلك سبيل قوم نوح في تكذيب الأنبياء { ثم أنشأنا من بعدهم } أي من بعد ما أهلكناهم { قرنا آخرين } جماعة من الناس { فأرسلنا فيهم رسولا منهم } هود لأنه المبعوث بعده { أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره } فبدأ أيضا بالتوحيد، فلما لم يقبلوا منه قال: { أفلا تتقون } ، قيل: الشرك، وقيل: المعاصي { وقال الملأ من قومه } يعني الأشراف { الذين كفروا } بالله { وكذبوا بلقاء الآخرة } أي بالبعث والجزاء { وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون } { ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون } باتباعه { أيعدكم } هذا الرسول { أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما } يعني صرتم بعد الموت رميما وترابا { أنكم مخرجون } من قبوركم { هيهات هيهات لما توعدون } قيل: بعد الهدى الذي توعدون { إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيى } قيل: نحيى حياة ثم نموت ولا إعادة، وقيل: يموت قوم منا ويحيا قوم { وما نحن بمبعوثين } بعد ذلك والله أعلم { إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا } وما نحن له بمؤمنين بمصدقين فيما يقول { قال رب انصرني بما كذبون } أي انصرني عليهم بأن يهلكهم لأجل تكذيبهم، فأجاب الله دعاءه وأخبر أنه سيهلكهم عن قريب فقال سبحانه: { قال عما قليل } أي عن قليل من المدة، وما صلة { ليصبحن نادمين } عن كفرهم { فأخذتهم الصيحة } صيحة العذاب، وقيل: هم ثمود صاح بهم جبريل { فجعلناهم غثاء } أي موتا، وقيل: هو المتفتت البالي في الشجر يحمله السيل عن ابن عباس { فبعدا للقوم الظالمين } قيل: بعدا لهم من الرحمة { ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين } يعني أحدثنا من بعدهم قرونا آخرين ، أي جماعات من الناس { ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون } قيل: وعيد لهم، يعني ما يسبق أحد ما قدر له وما يتأخر { ثم أرسلنا رسلنا تترى } أي متواترة تتبع بعضهم بعضا { كل ما جاء أمة رسولها كذبوه } فيما جاء به { فأتبعنا بعضهم بعضا } في الإهلاك { وجعلناهم أحاديث } أي يحدث بهم على طريق المثل في الشر فأما في الخير فلا، يعني جعلناهم أخبارا يستمر بها ويتعجب منها { فبعدا لقوم لا يؤمنون } أي فبعدا لهم من الرحمة.
[23.45-61]
{ ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين } أي حجة بينة، وهي المعجزات التي أعطي موسى { إلى فرعون وملئه } يعني قومه { فاستكبروا } يعني تعظموا وتكبروا عن الإيمان { وكانوا قوما عالين } أي متكبرين قاهرين للخلق ظلما { فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا } هو استفهام والمراد الإنكار { وقومهما } يعني بني إسرائيل { لنا عابدون } مطيعون لنا طاعة العبد لمولاه، وروي أنهم كانوا يعبدون فرعون { فكذبوهما فكانوا من المهلكين } { ولقد آتينا موسى الكتاب } يعني التوراة { لعلهم يهتدون } أي لكي يهتدون، يعني قومه { وجعلنا ابن مريم وآمه آية } ثم عطف على ما تقدم بذكر عيسى (عليه السلام) وجعلهما آية ومعجزة لعيسى (عليه السلام) { وآويناهما إلى ربوة } أي أرض مرتفعة قيل: فلسطين، وقيل: دمشق، وقيل: أرض بيت المقدس فإنها كبد الأرض وأقرب إلى السماء بثمانية عشر ميلا عن كعب { ذات قرار ومعين } قيل: ذات استواء وسعة يستقر عليها، وقوله: { معين } ماء جاري ظاهرا { يأيها الرسل كلوا من الطيبات } الخطاب عام للجميع، وقيل: هو خطاب لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والطيبات قيل: الحلال، وقيل: كل ما يستطاب، وروي أن عيسى كان يأكل من غزل أمه { واعملوا صالحا } هو أمر بالطاعات { إني بما تعملون عليم } فمجازيكم بأعمالكم وفيه تحذير عن مخالفته....... بطاعته { وإن هذه أمتكم أمة واحدة } قيل: دينكم دين واحد، وقيل: خطاب للرسل وفيه حذف، أي وقلنا لهم ودينكم واحد فيما يلزمكم من التوحيد والعدل، وقيل: خطاب لهذه الأمة ان أمتكم أمة واحدة، يعني جميع الأمم في أنهم عبيد الله { وأنا ربكم } خالقكم { فاتقون } أي فاتقوا مخالفة أمري، ثم أخبر سبحانه عن الأمم فقال: { فتقطعوا أمرهم بينهم } أي تفرقوا وتقطعوا إشارة إلى أشد الاختلاف وذلك أنهم اتبعوا علماء السوء ورؤساء القوم { زبرا } ، قيل: كتبا، والمعنى تفرقوا فآمن كل فريق بكتاب وكفر بغيره كاليهود آمنوا بالتوراة وكفروا بالإنجيل والفرقان، والنصارى آمنوا بالإنجيل وكفروا بالتوراة والقرآن، وقيل: أحدثوا كتابا يحتجون لمذهبهم { كل حزب بما لديهم فرحون } كل جماعة بما لديهم من دينهم فرحون مسرورون ومتعجبون { فذرهم } أي اتركهم وهذا وعيد.... قيل: في كفرهم، وقيل: في عماهم، وقيل: في غفلتهم { في غمرتهم } أي وقت الموت والمعاينة، وقيل: إلى يوم القيامة، وقيل: يوم بدر { أيحسبون } يعني يظنون هؤلاء الكفار { أنما نمدهم } نعطيهم ونزيدهم { من مال وبنين } { نسارع لهم في الخيرات } يعني لما أعطوا نعيم الدنيا ظنوه ثوابا لأنهم أنكروا المعاد { بل لا يشعرون } لا يعلمون إن ذلك ليس بثواب وإنما هو ابتلاء، ولما بين حال المؤمنين المسارعين في الخيرات فقال سبحانه: { إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } خائفون { والذين هم بآيات ربهم يؤمنون } يصدقون { والذين هم بربهم لا يشركون } أي يوحدون الله ويعبدونه { والذين يؤتون ما آتوا } أي يعطون ما أعطوا من الزكاة والديون والودائع والأمانات { وقلوبهم وجلة } أي خائفة { إنهم إلى ربهم راجعون } إلى حكمه { أولئك يسارعون في الخيرات } في طاعة الله { وهم لها سابقون } يعني لما علم منهم الأعمال الصالحة حكم لهم بالسعادة، وقيل: إلى الخيرات سابقون، ولها بمعنى إليها، وقيل: من أجل الخيرات سابقون إلى الجنة.
[23.62-71]
{ ولا نكلف نفسا إلا وسعها } إلا وسع عليها فعله كالمصلي لا يجد الماء جاز التيمم، ونحو { ولدينا كتاب ينطق بالحق } يعني وعيد بالكتاب ينطق بالحق وذلك كتاب الحفظة، وقيل: اللوح المحفوظ كتب فيه أعمال الخلق لتعرفه الملائكة { وهم لا يظلمون } جزاء أعمالهم { بل قلوبهم في غمرة } أي حيرة، وقيل: في غفلة شديدة { من هذا } الكتاب المشتمل على الوعد والوعيد { ولهم أعمال من دون ذلك } أي من دون الشرك من الفسق والظلم ونحوه { هم لها عاملون } أي بها عاملون { حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب } يعني متنعميهم ورؤساءهم قيل: يوم القيامة، وقيل: بالسيف يوم بدر، وقيل: بالجوع حين دعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { إذا هم يجأرون } قيل: يصيحون لشدة العذاب ويجزعون، وقيل: يصرخون بالتوبة { لا تجأروا اليوم } لا تصيحوا اليوم وهو يوم القيامة { إنكم منا لا تنصرون } لا تمنعون، وقيل: لا تنصرون بقبول التوبة { كانت آياتي تتلى عليكم } يعني القرآن يتلى عليكم { فكنتم على أعقابكم تنكصون } ترتدون وتستأخرون، قيل: هذا مثل والمراد ترتدون { مستكبرين به } أي متعظمين متكبرين إذا سمعوا القرآن، ومعنى استكبارهم تكذيبهم به { سامرا } السامر المحدث بالسمر ليلا { تهجرون } من أهجر في منطقه إذا أفحش، وسمي حديث الليل سميرا لأنهم يقعدون في ظل القمر فيتحدثون، يسمرون بالليل حول الكعبة لنسخ أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { تهجرون } قيل: تعرضون، وقيل: تقولون الهجر وهو السيء من القول { أفلم يدبروا القول } يعني أفلم يتفكروا في القرآن يتلى عليهم { أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين } يعني أهذا شيء جاءهم ولم يأت أباءهم حتى أنكروه لكونه بدعا وقد بعث في الأمم الرسل قبلهم، وقيل: إنهم منعوا بالجهل ولما جاءهم مالم يأت أباءهم جحدوا به { أم لم يعرفوا رسولهم } محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { فهم له منكرون } يعني ينكروا إرساله الرسول حسدا وبغيا { أم يقولون به جنة } قيل: مجنون { بل جاءهم بالحق } قيل: كذبوا فيما قالوا إلا أن الحق قد جاءهم { وأكثرهم للحق كارهون } { ولو اتبع الحق أهواءهم } لانقلب باطلا ولذهب ما يقوم به العالم فلا يبقى بعده قوام، أو أراد أن الحق الذي جاء به محمد وهو الإسلام لو اتبع أهواءهم وانقلب شركا لجاء الله بالقيامة ولأهلك العالم ولم يؤخر، وعن قتادة أن الحق هو الله، ومعناه: ولو كان الله إلها يتبع أهواءهم ويأمر بالشرك والمعاصي لما كان إلها ولكان شيطانا ولما قدر على أن يمسك السماوات والأرض { بل أتيناهم بذكرهم } أي بالكتاب الذي هو ذكرهم أو وعظهم، أو بالذكر الذي كانوا يتمنونه
وإن كانوا ليقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لكنا عباد الله المخلصين
[الصافات: 167-169].
[23.72-89]
{ أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين } وهو ما تخرجه للإمام من زكاة أرضك إلى كل عامل، وقيل: المخرج ما تبرعت به، والخراج ما لزمك أداؤه، قال جار الله: والوجه أن الخرج أخص من الخراج، فخراج ربك رزقه وثوابه خير، وهو خير الرازقين لأنه يخلق الرزق ويعطي متفضلا { وإنك } يا محمد { لتدعوهم إلى صراط مستقيم } { وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون } النكب الميل، وقيل: إن الذين لا يؤمنون بالنشأة الآخرة عن الصراط لناكبون لعادلون { ولو رحمناهم } ورددناهم إلى دار التكليف { للجوا في طغيانهم يعمهون } نظيره لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، وقيل: هو في الدنيا، والمعنى لو كشف الله عنهم هذا الضر وهو الجوع والقحط الذي أصابهم برحمته عليهم ووجدوا الخصب لارتدوا إلى ما كانوا عليه من الاستكبار وعداوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين { يعمهون } يترددون { ولقد أخذناهم بالعذاب } بالحدث وضيق الرزق والقتل بالسيف { فما استكانوا لربهم } أي ما خضعوا { وما يتضرعون } لكشف البلاء، يعني مصائب الدنيا { حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد } بسنين كسني يوسف فجاعوا حتى أكلوا العلهن، وقيل: القتل يوم بدر، وقيل: بابا من عذاب جهنم في الآخرة، وقيل: فتح مكة { إذا هم فيه مبلسون } أي متحيرون آيسون من كل خير { وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } يعني هل شكرتم لها، وقيل: هو نفي، قال جار الله: أي تشكرون شكرا قليلا، وما مزيدة للتأكيد بمعنى حقا { وهو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون } تجمعون { وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار } يعني يدبرهما في مجيء أحدهما خلف الآخر { أفلا تعقلون } أفلا تعلمون بأن تفكروا لتعلموا أن لجميع ما تقدم صانعا، قوله تعالى: { بل قالوا مثل ما قال الأولون } { قالوا أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما } بالية { أئنا لمبعوثون } بعد الموت أحياء { لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل } يعني هذا الوعد وهو البعث قد وعدنا أباؤنا قبل مجيئك { إن هذا إلا أساطير الأولين } يعني شيئا ينتظروه الأولون، أي كتبوه ولا حقيقة له، فقال سبحانه: { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون } { سيقولون لله } يعني خلق الأرض ومن فيها، فإذا قالوا الله { قل أفلا تذكرون فتعلمون } أن من قدر على خلق الأرض ومن فيها ابتداء قادر على إحيائهم بعد الموت، ثم زاد في الحجة { قل من رب السماوات } أي خالقهما { ورب العرش العظيم } ومعنى رب السماوات والأرض أي مدبرهما كما يشاء، فإذا قالوا الله لزمهم الحجة فقال تعالى: { قل لهم } يعني قل يا محمد لهؤلاء المشركين { أفلا تتقون } أفلا تخافونه، فلا تشركون به وتعصوا رسله؟ فقال: قل لهم: { من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه } أي لا يمنع من الشر من يشاء ولا يكن لأحد أن يمنعه، وقيل: يجير من العذاب ولا يجار عليه، وقد يقال: أجرت فلانا على فلان إذا أغثته منه ومنعته، يعني هو يغيث من يشاء ممن يشاء ولا يغيث أحد منه أحدا { سيقولون لله قل فأنى تسحرون } تخدعون عن توحيده وطاعته.
[23.90-98]
{ بل أتيناهم بالحق } أي بالصدق في التوحيد والدين { وإنهم لكاذبون } في قولهم ان الأصنام آلهة وأن لله ولدا وأن الملائكة بنات الله وغير ذلك مما يزعمون { ما اتخذ الله من ولد } لأن اتخاذ الولد هو أن يجعل غيره مقام ولده لو كان له وهذا محال في صفات القديم { وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق } قال جار الله: لانفرد كل واحد من الآلهة بخلقه الذي خلقه واستبد به، ولرأيتم ملك كل واحد منهم متميزا من ملك الآخر { ولعلا بعضهم على بعض } كما يرون حال ملوك الدنيا ممالكهم متغايرة وهم متغالبون، وحين لم يروا أثرا لهما من الممالك والتغالب فاعلموا أنه إله واحد بيده ملكوت كل شيء، ولعلا بعضهم على بعض أي يغلب بعضهم بعضا وكان الضعيف لا يكون إلها { سبحان الله عما يصفون } أي براءة له وتنزيها عما يصفه المشركون من الأنداد والأولاد { عالم الغيب والشهادة } يعني يعلم ما غاب وما حضر فلا يخفى عليه شيء { قل } يا محمد { رب اما تريني ما يوعدون } هؤلاء الكفار من العذاب في الدنيا والآخرة { رب فلا تجعلني في القوم الظالمين } يعني لا تجعلني قريبا لهم ولا تعذبني بعذابهم، وقيل: هو عذاب الدنيا، وقيل: هو عذاب الآخرة { وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون } من العذاب المعجل، وقيل: من العذاب المؤجل، وقيل: عذاب الآخرة { ادفع بالتي هي أحسن السيئة } قيل: اعرض عن أذاهم ولا تعجل عليهم بالسيئة والقتال ولكن بالعظة الحسنة، ونسختها آية السيف، قال جار الله: والمعنى الصفح عن إساءتهم ومقابلتها بما أمكن من الإحسان حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه كانت حسنة مضاعفة، وعن ابن عباس: هو شهادة أن لا إله إلا الله والسيئة الشرك، وقيل: ادفع بمعاشرتك أذاهم عن نفسك، وقيل: هي محكمة لأن المداراة محثوث عليها { نحن أعلم بما يصفون } فنجازيهم به { وقل رب أعوذ بك } أي استجيرك { من همزات الشياطين } ، قيل: نزغاتهم، وقيل: وساوسهم، قال جار الله: والمعنى أن الشياطين يحثون الناس على المعاصي ويغرونهم عليها كما تهمز الراضة الدواب حثا لها على المشي { وأعوذ بك رب أن يحضرون } في...... الأمور بالتعوذ من أن يحضروه أصلا، وعن ابن عباس عند تلاوة القرآن.
[23.99-107]
{ حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون } يعني إذا جاء أحدهم أسباب الموت من معاينة وأهوال الآخرة قال عند ذلك: رب ارجعون إلى الدنيا، قال جار الله: إذا أيقن بالموت واطلع على حقيقة الأمر أدركته الحسرة على ما فرط من الإيمان والعمل الصالح، فسأل ربه الرجعة وقال: { لعلي أعمل صالحا } في الايمان الذي تركته، والمعنى: لعلي آتي بما تركته من الايمان واعمل صالحا، قال جار الله: عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: نرجعك إلى الدنيا، فيقول: إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى الله تعالى، وأما الكافر فيقول: رب ارجعون "
{ كلا } وجوابها لا يكون ولا يرجع إلى الدنيا { إنها كلمة } يعني سؤال الرجعة { هو قائلها } ولا ينالها، وقيل: لهي كلمة يقولها ولا تنفعه { ومن ورائهم } أمامهم حائل بينهم وبين الرجعة إلى يوم البعث، وقيل: حاجز بين الدنيا والآخرة، وقيل: بين الميت والرجوع إلى الدنيا { فإذا نفخ في الصور } قيل: المراد بنفخ الروح في الصور، وقيل: هي النفخة الأولى، وقيل: النفخة الثانية { فلا أنساب بينهم } أي لا يتواصلون { ولا يتساءلون } أي لا يسأل بعضهم بعضا قيل: القيامة مواطن في بعضها يتساءلون وفي بعضها لا يتساءلون لشدة الهول والفزع، وقيل: الساكن يكون عند النفخة الأولى فإذا كانت النفخة الثانية قاموا فتعارفوا وتساءلوا عن ابن عباس { فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون } قال جار الله: الموازين جمع موزون وهي الموزونات من الأعمال أي الصالحات التي لها وزن وقدر عند الله من قوله تعالى:
فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا
[الكهف: 105] { في جهنم خالدون } بدل من { خسروا أنفسهم } أو خبر بعد خبر لأولئك، وقد تقدم الكلام في الميزان في سورة الأنبياء، وفيما قيل: { تلفح وجوههم النار } أي تصيب وجوههم لفح النار ولهبها { وهم فيها كالحون } قيل: عايشون، وعن مالك بن دينار، كان سبب توبة عقبة الغلام أنه مر في السوق برأس أخرج من التنور فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبلغ قفاه وشفته السفلى حتى تبلغ سرته "
{ ألم تكن آياتي } يعني القرآن { تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون } { قالوا } وهم في النار { ربنا غلبت علينا شقوتنا } التي ألبسناها بأعمالنا قال جار الله: غلبت علينا ملكتنا من قوله: غلبه فلان على كذا إذا أخذه منك، والشقاوة سوء العاقبة التي علم الله أنهم يستحقونها بسوء أعمالهم، وقرأ شقاوتنا يعني عليهم معاصيهم شقاوتنا { وكنا قوما ضالين } ذاهبين.
[23.108-118]
{ قال اخسؤوا فيها } ذلوا وانزجروا كما تنزجر الكلاب إذا زجرت، يقال: خسأ الكلب { ولا تكلمون } قيل: يجابون بعد ألف سنة: ولا تكلمون في دفع العذاب، وعن ابن عباس: لهم ست دعوات إذا دخلوا النار فقالوا ألف سنة: ربنا أبصرنا وسمعنا، فيجابون: حق القول مني، فينادون ألفا: ربنا أمتنا اثنتين، فيجابون: ذلكم بأنكم إذا دعي الله، فينادون ألفا: يا مالك ليقض علينا ربك، فيجابون: إنكم ماكثون، فينادون ألفا: ربنا أخرجنا منها، فيجابون: أولم تكونوا، فينادون ألفا: أخرجنا نعمل صالحا، فيجابون: أولم نعمركم، فينادون ألفا، رب ارجعون، فيجابون: اخسأوا فيها، قوله تعالى: { إنه كان فريق من عبادي يقولون } يعني المؤمنين { ربنا آمنا } يعني صدقنا بك وبرسولك { فاغفر لنا ذنوبنا وارحمنا } بأن تدخلنا الجنة { وأنت خير الراحمين } { فاتخذتموهم سخريا } قيل: تستهزئون بهم، وقيل: تستعبدونهم { حتى أنسوكم ذكري } ، قيل: أنساكم اشتغالكم بالاستهزاء بهم عما لزمهم من ذكري فتركتموهم أي تركتم أن تذكروني { وكنتم منهم تضحكون } { إني جزيتهم اليوم بما صبروا } على الاستهزاء، وأقاموا على الدين { أنهم هم الفائزون } بالجنة { قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين } هذا سؤال توبيخ وتبكيت، يعني آثرتم الدنيا واشتغلتم بها وبزينتها، السائل لهم الملائكة، وقيل: هو الله، فأجابوا مصدقين و { قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم } ، قال جار الله: استقصروا مدة لبثهم في الدنيا بالإضافة إلى خلودهم ولما هم فيه من عذابها ولأنهم كانوا في سرور وأيام السرور قصار، وقيل: كم لبثتم في القبور مع إنكاركم البعث، وقيل: أرادوا أنهم لا يعرفون ذلك، قال: { فاسأل العادين } قيل: من الملائكة لأنهم يحصون أعمال العباد، وقيل: العادين من الحساب لأنهم يعدون الشهور والسنين، قال تعالى: { إن لبثتم إلا قليلا } لأن لها نهاية وانقضت لذاتكم { لو أنكم كنتم تعلمون } قيل: البعث والخزي، أي لو علمتم الجزاء ما اعتقدتم دوام اللبث تحت الأرض، وقيل: لو علمتم أن الباقي خير من الفاني { أفحسبتم } أي ظننتم { أنما خلقناكم عبثا } ، قيل: لعبا وباطلا لا لغرض وحكمة { وأنكم إلينا لا ترجعون } أي إلى حكمنا والموضع الذي لا يملك الحكم فيه غيرنا { فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم } أي تعالى صفاته، قال جار الله: وصف العرش بالكرم لأن رحمته تنزل منه والخير والبركة، أي نسبته إلى أكرم الأكرمين كما يقال بيت كريم إذا كان ساكنوه كراما { ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به } أي لا حجة له { فإنما حسابه عند ربه } قيل: جزاؤه ومكافأته عند الله والمحاسبة والمكافأة نظائر { إنه لا يفلح الكافرون } أي لا يظفر بما يطوله المؤمنون من الجنة بإيجاب { وقل رب اغفر } الذنوب { وارحم } بإيجاب الثواب { وأنت خير الراحمين } لأن عطاءه لا ينفد بل يتصل ويدوم ولأن أصول النعم وفور منه.
[24 - سورة النور]
[24.1-2]
قوله: { سورة } أي هذه سورة قطعة من القرآن { أنزلناها } أمرنا جبريل أن ينزل بها { وفرضناها } قيل: بيناها، وقيل: فرضنا أحكامها التي فيها، وأصله القطع، أي جعلنا واجبه مقطوعا بها، والتشديد للمبالغة في الإيجاب { وأنزلنا فيها } في السورة { آيات } دلالات { بينات لعلكم تذكرون } الدلائل فتردكم إلى العلم، وقيل: الآيات الشرع والأحكام التي فيها، ثم ذكر تلك الآيات وابتدأ بذكر الزاني فقال سبحانه:
الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة
[النور: 3] اختلفوا في سبب نزوله قيل: قدم المهاجرون المدينة وفيهم فقراء وبالمدينة نساء بغايا فاستأذنوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت، وقيل: نزلت في بغايا مكة والمدينة، وقيل: نزلت في مرثد وعناق زانية دعته إلى نفسه فقال مرثد: ان الله حرم الزنا، قالت: فانكحني، قال: حتى أسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فسأله فنزلت، وقوله تعالى: { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما } وهذا إذا كان حرين بالغين بكرين، قيل: إنه خطاب لجماعة المسلمين، واتفقوا أن ليس لهم إقامة الحدود، والمراد به أنه.... إقامة إمام يقوم لها فلما كان إقامة الإمام اليهم أضاف الحد اليهم، وقيل: هو خطاب للأئمة وليس بالوجه لأن الآية عامة { ولا تأخذكم } أيها المسلمون { بهما } بالزانين { رأفة } تمنع من إقامة الحدود، وقيل: يحد القاذف والسارق في دين الله، أي في حكمه { إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } ، قيل: إن كنتم تصدقون أنكم مبعوثون محاسبون، وقيل: إن كنتم تؤمنون تخالفوا من خالف أمري وارتكب ما نهيت عنه لأن ذلك من شرط الايمان { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } أي موضع حدهما، وقوله: { طائفة من المؤمنين } أي جماعة تغليظا لهما وإشهارا واعتبارا لغيرهما، وقيل: أراد بالطائفة الشهود لأنه يجب حضورهم، وقيل: أربعة بعدد شهود الزنا فيبدأ الشهود بالرجم ثم الإمام ثم الناس، وعن ابن عباس: أربعة إلى أربعين، وعن الحسن: عشرة، وعن قتادة: ثلاثة، وعن عكرمة: رجلان، وفي الحديث:
" يؤتى بوال نقص من الحد سوطا فيقول: رحمة لعبادك، فيقول له: أنت أرحم بهم مني؟ فيؤمر به في النار "
وعن أبي هريرة: إقامة حد بأرض خير لأهلها من مطر أربعين ليلة، وعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلا عالما بصيرا يعقل كيف يضرب، والرجل يجلد قائما على مجرده ليس عليه إلا إزار ضربا وسطا لا مبرحا ولا هينا، والمرأة تجلد قاعدة ولا تنزع ثيابها.
[24.3-5]
{ الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة } الآية نزلت في بغايا مكة والمدينة على ما تقدم، وقيل: المراد بالنكاح العقد وكل مشركات وزانيات نهي عن نكاحهن، وقيل: كان هذا حكم في كل زاني وزانية، ثم نسخ، وقيل: المراد بالنكاح العقد وذلك الحكم ثابت في كل من زنى بامرأة لا تجوز له أن يتزوج بها عن جماعة من الصحابة، وروي ذلك عن علي (عليه السلام)، وروي أيضا عن عائشة، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يا معاشر الناس اتقوا الزنى فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا، وثلاث في الآخرة، فأما التي في الدنيا: فذهاب نور الوجه، ويورث الفقر، وينقص العمر، وأما التي في الآخرة: فيوجب السخط، والخلود في النار، وسوء الحساب "
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد سئل عن ذلك فقال:
" أوله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال "
وحرم ذلك على المؤمنين ذلك العقد، وقيل: الوطي، وقيل: ليس ذلك من أفعال المؤمن، ولما حد الزنى عقبه بذكر من قذف بالزنى زجرا عن القذف فقال سبحانه: { والذين يرمون المحصنات } قيل: النساء الحرائر والمسلمات العفيفات { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } يشهدون على صحة ما رموها من الزنى { فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } الخارجون عن طاعة الله، قال جار الله: الكافر يقذف فيتوب عن الكفر فتقبل شهادته بالإجماع، والقاذف من المسلمين يتوب عن القذف فلا تقبل شهادته، عند أبو حنيفة، كأن القذف مع الكفر أهون من القذف مع الإسلام، قلت: المسلمون لا يعبأون بقذف الكافر، فإن قلت: هل للمقذوف أو للإمام أن يعفو عن القاذف؟ قلت: لهما ذلك قبل أن يشهد الشهود ويثبت الحد، وقيل: نزلت هذه الآية في حسان بن ثابت حين تاب مما قال في عائشة ثم استثنى { إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } يغفر ما سلف منه ويدخله الجنة برحمته.
[24.6-11]
{ والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء } الآية في قصة عاصم بن عدي وامرأته، وقيل: نزلت في هلال بن أمية فأما قصة عاصم قيل:
" لما نزلت الآية قرأها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على المنبر يوم الجمعة، فقال عاصم: جعلني الله فداك ان رأى رجلا منا رجلا مع امرأته، فأخبر بما رأى جلد ثمانين جلدة، وسماه المسلمون فاسقا، ولا تقبل شهادته أبدا، فكيف لنا بالشهود ونحن إذا التمسناهم كان الرجل قد فرغ من حاجته؟ اللهم بين، وكان عويمر بن عاصم وله امرأة تسمى خولة بنت قيس فأتى عويمر عاصما وقال: رأيت شريك بن سمحاء على بطن امرأتي فأتى عاصم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إني ابتليت بالسؤال التي سألت في أهل بيتي وقص عليه القصة فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لعويمر: " اتق الله في زوجتك وابنة عمك " فقال: يا رسول الله لقد رأيت شريكا على بطنها وهي حبلى ولم أقربها منذ أربعة وأنكر شريكا وخولة ذلك فنزلت الآية، فنودي بالصلاة جامعة ثم أمر عويمر وخولة أن يفعلا ما حكى الله في هذه الآية من اللعان وذلك في قصة هلال مثل ذلك ثم قال لعويمر.... { أربع شهادات بالله } أن خولة زانية وإني لصادق، وقال في { الخامسة لعنة الله } على عويمر ان كان من الكاذبين ، ثم قامت خولة فشهدت { أربع شهادات بالله } أنه كاذب فيما رماها به وقالت في { الخامسة أن غضب الله عليها } إن كان صادقا، ففرق بينهما ثم قال (صلى الله عليه وآله وسلم) إن جاءت به كذا فهو لشريك وإن جاءت به كذا فهو لغيره، قال ابن عباس: فجاءت به بأشبه خلق الله لشريك فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " لولا الايمان لكان لي ولها شأن "
وعند الشافعي يقوم الرجل قائما.... يشهد والمرأة قاعدة، قوله تعالى: { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } بقبول التوبة وقيل: بالإمهال { وأن الله تواب حكيم } فيما فعل وأمر { إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم } والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين، والآية وما بعدها نزلت في شأن عائشة ومن رماها بالإفك في حديث طويل جملته أنها كانت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة بني المصطلق وكانت في هودج تدخل فيه، ثم يجيء الرجل يحملها، وضاع لها عقد وكانت تباعدت لقضاء الحاجة فجاءت تطلبه فتوهم أنها في هودجها، وعادت وقد رحل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه، وكان صفوان بن المعطل.... وراء الجيش فمر بها فعرفها فأناخ بعيره حتى ركبته وساقه حتى أتى الجيش بعدما نزلوا في قائم الظهيرة فتكلم المنافقون، وقال عبد الله بن أبي: والله ما نجت منه ولا نجا منها، والذين خاضوا فيه: عبد الله بن أبي، وزيد بن رفاعة، ومسطح ابن خالة أبي بكر، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، وأخبرت بذلك، فعادت إلى بيت أبي بكر ومرضت، فدخل عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدما انقطع عنها أياما فنزلت هذه الآية عليه براءة لها، وروي أنه قال:
" بشروا عائشة "
وأمر بالذين رموها فجلدوا ثمانين ثمانين { لا تحسبوه شرا لكم } يعني غم الإفك وإذاؤه ليس بشر { بل هو خير } لظهور البراءة ولأنه يستحق عليه العوض لمن إذا غيره وعمه فبالصبر استحق الثواب، فذلك خير لكم لمن ساءه ذلك من المؤمنين وخاصة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) وأبي بكر وعائشة وصفوان، ومعنى كونه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتهويل لمن تكلم في ذلك أو سمع به، وعدة ألطاف الطاعات السامعين والتاليين إلى يوم القيامة، وفوائد وأحكام وآداب { والذي تولى كبره منهم } أي معظم الإفك عبد الله بن أبي.
[24.12-20]
{ لولا إذ سمعتموه } أي هلا { ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا } يعني بإخوانهم، وروي أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان: أكنت تظن بحرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شرا؟ فقال: لا، قالت: ولو كنت بدل عائشة ما خنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعائشة خير مني وصفوان خير منك فنزلت { لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء } أي هلا جاؤوا عليه بأربعة شهداء يشهدون بصدقه { فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون } { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } يعني لولا فضله عليكم بإمهالكم بعد استحقاق العذاب لسو { في الدنيا } بالعفو عنكم { والآخرة } لمسكم { فيما أفضتم فيه عذاب عظيم } فيما خضتم فيه من الافك { إذ تلقونه } يأخذه بعضكم من بعض، يقال: تلقى القول وتلقيه من غير دليل، ولذلك أضيف إلى اللسان أو يرونه بعضكم بعضا، وقيل: تشرعون فيه { وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم } يعني تكلمون بما تريدون من غير حقيقة { وتحسبونه هينا } سهلا خفيفا عنكم { وهو عند الله عظيم } أي كبير، وعن بعضهم أنه جرح عند الموت فقيل له، فقال: أخاف ذنبا لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم، وفي كلام بعضهم: لا تقولن لشيء من سيئاتك حقير فلعله عند الله عظيم محله وهو عندك نقير، وهو عند الله عظيم لأنه قذف محصنة وهي زوجة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ونال المسلمون من ذلك ما نال فعظم عند الله، ثم بين تعالى تمام قصة عائشة فقال سبحانه: { ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون } ما ينبغي { لنا أن نتكلم بهذا } وما يصح لنا { سبحانك هذا بهتان عظيم } لا يأمن كونه كذبا ، وكان ينبغي لكم إذا سمعتم ذلك ألا تكلموا فيه حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { يعظكم الله } أي ينهاكم ويزجركم أن تعودوا، وقيل: { يعظكم } لكيلا { تعودوا لمثله } أي مثل الافك { أبدا إن كنتم مؤمنين } يعني من شرط الإيمان ترك هذه النميمة { ويبين الله لكم الآيات } الشرائع والأحكام، وقيل: الأدلة { والله عليم } بمصالح عباده { حكيم } فيما يأمر وينهى { إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة } أي تظهر وتفشو، الفاحشة الزنا والقبائح { في الذين آمنوا لهم عذاب أليم } موجع { في الدنيا } بالحد واللعن { والآخرة } عذاب النار، { والله يعلم } ما في القلوب من الأسرار والضمائر { وأنتم لا تعلمون } ذلك، وقيل: يعلم من يستحق العقاب { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } لعجل لكم العذاب.
[24.21-26]
{ يأيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان } قيل: آثاره وطرقه التي تؤدي إلى مرضاته، وقيل: وساوسه { ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } قيل: الفحشاء كل قبيح عظيم من المعاصي، والمنكر كل قبيح يجب انكاره { ولولا فضل الله عليكم ورحمته } قيل: لولا ألطافه بالوعد والوعيد، ولولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة لما ظهر منكم بعد { ولكن الله يزكي من يشاء } وهو منه لطف دون من لا لطف له { والله سميع } لأقوالكم { عليم } بضمائركم وأعمالكم فيجازيكم بجميعها { ولا يأتل أولو الفضل } قيل: لا يحلف، وقيل: لا يقصر ولا يترك أولو الفضل إلى غيره، والآية نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة أبي بكر، وكان فقيرا من فقراء المهاجرين، وكان أبو بكر ينفق عليه، فلما فرط منه ما فرط آلى ألا ينفق عليه فنزلت فعاد ينفق عليه { والسعة } من عنده سعة المال وهم الأغنياء { أن يؤتوا } معناه: ألا يتركوا ولا يقصروا، وقيل: لا يقصروا وأن يعطوا { أولو القربى } قرابته { والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا } خوض من تكلم فيهم { ألا تحبون أن يغفر الله لكم } يعني أنه { غفور } للمذنبين بالتوبة { رحيم } لهم يدخلهم الجنة فقال أبو بكر: بلى أحب أن يغفر الله لي ورجع ينفق عليه، قوله تعالى: { إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات } الآية نزلت في مشركي مكة الذين قذفوا المهاجرات الغافلات العفائف الغافلات عن الفواحش { لعنوا في الدنيا } أي أبعدوا من رحمة الله في الدنيا { والآخرة } ، وقيل: استحقوا اللعنة فيهما، وقيل: عذبوا في الدنيا بالحد وفي الآخرة بعذاب النار { ولهم عذاب عظيم } وهذا وعيد عام في جميع المؤمنين عن ابن عباس، قوله تعالى: { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } ، وقيل: يخلق الله فيهما النطق فتشهد عليهم جوارحهم بما عملوا { يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق } وذلك يكون يوم القيامة يتم لهم جزاء دينهم وجزاء أعمالهم، والدين الجزاء، والحق صفة على ما تقدم ذكره { ويعلمون أن الله هو الحق المبين } هو الحق فيما صنع وأديانهم باطلة { الخبيثات } من القول { للخبيثين } من الرجال والنساء { والخبيثون } منهم يتعرصون { للخبيثات } من القول، والخبيث يقتض الطيب والحرام كله خبيث، والآية تدل على أن من قال كلمة خبيثة فهو خبيث وتدل على براءة عائشة { والطيبات } من الكلام { للطيبين } من الرجال والنساء، وقيل: الطيبات من النساء { والطيبون } من الرجال { أولئك مبرؤون } يعني الطيبين منزهون عما يقول الخبيثون من أهل الإفك { لهم مغفرة ورزق كريم } يعني الجنة.
[24.27-31]
{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا } أي حتى تستأذنوا عن ابن عباس وابن مسعود، وقيل: تستأنسوا بالتنحنح والكلام الذي يقوم مقام الاستئذان ثلاث فإن أذنوا وإلا فارجع، وعن أبي أمية الأنصاري قلنا: يا رسول الله ما الاستئناس؟ قال:
" يتكلم بالتسبيحة والتكبيرة والتحميدة والتسليم، وأن يقول السلام عليكم أدخل؟ فإن أذن وإلا رجع "
وروي أن امرأة أتت منزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول إني أكون في منزلي على حالة لا أحب أن يراني عليه أحد ولا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على ذلك الحال فكيف أصنع؟ فنزلت الآية، وأمر الله أن يستأذنوا، وكان أهل الجاهلية يقول الرجل إذا دخل بيتا غير بيته: حييتم صباحا وحييتم مساء، ثم يدخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد فنهى الله عن ذلك، وقرأ حتى تستأذنوا ذلكم الاستئذان والتسليم { خير لكم } من تحية الجاهلية { لعلكم تذكرون } أي أنزل عليكم لعلكم تذكرون، وقيل: لكم هذه إرادة أن تذكروا فتطمعوا وتعملوا بما أمرتم به في باب الاستئذان { فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها } واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم ويحتمل فإن لم تجدوا فيها أحد من أهلها ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلا بإذن { وإن قيل لكم ارجعوا } ولا تقفوا على أبوابهم { هو أزكى لكم } قيل: الرجوع أزكى لكم من الوقوف أي أطهر { والله بما تعملون عليم } بأعمالكم فيجازيكم بها { ليس عليكم جناح } أي حرج وضيق { أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة } يعني بغير استئذان { فيها متاع لكم } أي منفعة لكم قيل: الخانات وحوانيت البياعين، والمتاع المنفعة، وروي أن أبا بكر قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أن الله قد أنزل عليك في الاستئذان وانا نختلف في تجارتنا فنترك هذه الخانات والمساكن في الطريق فنزل { ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا } الآية، وقيل: هي الخرابات للغائط والبول، وقيل: جميع البيوت التي لا يسكن فيها { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } وعيد للذين يدخلون الخرابات والدور الخالية، ويعلم همومكم وضمائركم فيجازيكم بها، وقيل: هو عام { قل } يا محمد { للمؤمنين يغضوا } أي يكفوا { من أبصارهم } والمراد غض البصر عما يحرم والاقتصار به على ما يحل { ويحفظوا فروجهم } ممن لا يحل وهو حفظ الفرج من الزنا { ذلك أزكى لهم } أي أطهر لهم { إن الله خبير بما يصنعون } بجميع أعمالكم فيجازيكم { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن } فلا ينظرن إلى ما لا يجوز النظر إليه من العورات { ويحفظن فروجهن } من الحرام { ولا يبدين زينتهن } أي لا يظهرن مواضع الزينة الخلخال والسوار والدملج والقرط والقلائد ونحوها { إلا ما ظهر منها } اختلف العلماء في الاستثناء قيل: الثياب، وقيل: الخاتم، وقيل: الكحل أو خضاب، وقيل: الوجه { وليضربن بخمرهن } جمع خمار وهي المقامع سمي بذلك لأنه يستر الرأس، أي بقناعهن { على جيوبهن } وأراد أن تغطي شعرها وصدرها وعنقها { ولا يبدين زينتهن } الخفية التي لم يبح كشفها وهي ما عدا الكفين وظهور القدمين { إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن } فيجوز لكل هؤلاء النظر إلى مواضع الزينة { أو نسائهن } قيل: نساء المؤمنين، وقيل: لا يحل لامرأة مسلمة أن تجرد بين يدي مشركة إلا أن تكون أمة لها { أو ما ملكت أيمانهن } قيل: الجوار المشركات ولا يجوز للعبد أن ينظر إلى مولاته إلا ما يجوز للأجانب وهو قول أبي حنيفة والهادي (عليه السلام)، وقال الشافعي في أحد قوليه: يجوز، وقيل: ما ملكت أيمانهن ما لم يبلغ مبلغ الرجال، وقيل: أراد العبيد والاماء لأن اللفظ يشملهن عن الحسن { أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال } قيل: الذي يتبعك ليصيب من طعامك ولا حاجة له إلى النساء عن ابن عباس، وقيل: المجبوب، وقيل: الابله العنين { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } بجماعهن، وقيل: هو الذي لا يقدر على الجماع، فأما من قدر كالمراهق فحكمه حكم الرجال { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } من الحلي وربما سمع صوت الزينة فيطمع فيه الرجال، وعن الحسن: كان نساء الجاهلية يجعل في أرجلهن الخلخال فإذا مرت بالمجلس حركته فنزلت الآية { وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون } يعني ارجعوا إلى طاعته { لعلكم تفلحون } تفوزون بالجنة.
[24.32-33]
{ وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين } قيل: خطاب للأولياء، وقيل بل خطاب لكل من له أن يزوج وليا أو غير ولي وهو الظاهر لأنه عطف على المؤمنين والظاهر دخولهم فيه { الأيامى } من لا زوج لها من المرأة سواء كانت صغيرة أو كبيرة، وقوله: { منكم } أراد الحرائر ليقع الفصل بينهما وبين العبد، وقيل: أقاربكم وأقاربها، قال جار الله: منكم من الأحرار والحرائر ومن كان فيه صلاح من غلمانكم وجواريكم، وقرئ من عبيدكم، وهذا الأمر للندب لما علم أن النكاح أمر مندوب إليه، وقد يكون للوجوب في حق الأولياء عند طلب المرأة، فيستحب للسيد أن يزوج بعضهم من بعض { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله } أي يكفيهم مرية النكاح، وعند أصحاب الظواهر النكاح واجب، قال جار الله: وما يدل على كونه مندوبا اليه قوله (عليه السلام): " من أحب فطرتي فليستن بسنتي " ، وعنه: " من كان له ما يتزوج به فلم يتزوج فليس منا " ، وعنه: " إذا تزوج أحدكم عج شيطانه يا ويله عصم ابن آدم مني ثلثي دينه " ، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يا عياض لا تتزوج عجوز ولا عاقر فإني مكاثر بكم الأمم "
، والأحاديث فيه عن رسول الله والأثار كثيرة وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد خلت الغربة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال "
، وفي الحديث:
" يأتي على الناس زمان لا ينال المعيشة فيه إلا بالمعصية، وإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة "
، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" التمسوا الرزق بالنكاح "
، وشكا عليه رجل الحاجة فقال:
" عليك بالباءة "
وعن عمر: عجب لمن لا يطلب الغنى بالباءة { وليستعفف } وليجتهد في العفة { الذين لا يجدون نكاحا } أي استطاعة تزوج، ويجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به من المال، يعني لا يتمكنوا من النكاح لفقد المهر والنفقة { حتى يغنيهم الله } ترجية للمستعففين وتقدمة، فوعد بالتفضل عليهم بالغنى، قوله تعالى: { والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم } الآية نزلت في غلام حويطب سأل مولاه أن يكاتبه فأنزل الله تعالى هذه الآية، فكاتبه على مائة دينار فوهب منه عشرين دينارا، والمراد اطلبوا عبيدكم وإمائكم المكاتبين { فكاتبوهم } قيل: هو فرض وحتم إذا علم فيه الخير، وقيل: هو...... عند الهادي والشافعي وأبو حنيفة { ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء } نزلت في عبد الله بن أبي أكره أمته على الزنى { لتبتغوا عرض الحياة الدنيا } خير وغيره.
[24.34-38]
{ ومثلا من الذين خلوا من قبلكم } من الأمم كيف فعلوا وكيف هلكوا { وموعظة } زجرا وتخويفا { للمتقين } من يتقي معاصي الله، وخصهم بالذكر لأنهم ينتفعون به { الله نور السماوات والأرض } ، قال جار الله: المعنى ذو نور السماوات وصاحب نور السماوات والأرض الحق شبهه بالنور في ظهوره وبيانه كقوله:
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور
[البقرة : 257] أي من الباطل إلى الحق، وأضاف النور إلى السماوات والأرض لأجل معنيين: إما للدلالة على سعة إشراقه وفشو دنيائه حتى يضيء له السماوات واما أن يراد أهل السماوات والأرض وأنهم يستضيئون به، وقيل: بمعنى منور السماوات والأرض بنجومها وشمسها وقمرها { مثل نوره } أي صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة، وقيل: النور القرآن { كمشكاة } قيل: هي الكوة التي لا منفذ لها، وقيل: المشكاة عمود القنديل الدقيقة الفتيلة { فيها مصباح } هو السراج { في زجاجة } أراد قنديلا من زجاج { كأنها كوكب دري } الدري وهي المشاهير كالمشتري والزهرة { يوقد } هذا المصباح { من } دهن { شجرة مباركة زيتونة } روي أنها أول شجرة نبتت في الدنيا بعد الطوفان، وقيل: منها ينزل الأنبياء، وقيل: أنه بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم { لا شرقية ولا غربية } أي منبتها الشام، وقيل: يسترها عن الشمس جبلا إذا طلعت وكذلك إذا غربت ولكن الشمس والظل يتعاقبان عليها أجود لحملها { يكاد زيتها يضيء } ، من غير نار { نور على نور } أي هذا الذي شبه به الحق نور متضاعف، واختلف العلماء في هذا المثل المشبه به على أقوال: قيل: هو مثل لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) المشكاة صدره، والزجاجة قلبه، والمصباح فيه، والنبوة لا شرقية ولا غربية، أي لا يهودية ولا نصرانية، يوقد من شجرة وهو إبراهيم، وكان نور محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الناس ولو لم يتكلم، وقيل: المشكاة إبراهيم والزجاجة اسماعيل والمصباح محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، من شجرة يعني إبراهيم، مباركة لأن أكثر الأنبياء منه، لا شرقية ولا غربية يعني ابراهيم لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، يكاد زيتها يضيء يكاد محاسن محمد يضيء قبل أن يوحى اليه، وقيل: المشكاة فاطمة، والمصباح الحسن والحسين، وقيل: هو مثل ضربه الله للمؤمنين فهو يتقلب في خمسة أنوار، فكلامه نور، وعلمه نور، ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره نور إلى النور يوم القيامة في الجنة، وقيل: هو مثل في القرآن في قلب المؤمن { يهدي الله لنوره من يشاء } قيل: الى نوره، وقيل: إلى الإيمان، وقيل: إلى القرآن { ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم } { في بيوت أذن الله أن ترفع } وهي المساجد، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" المساجد بيوت الله في الأرض وهو يضيء لأهل السماء كما تضيء النجوم لأهل الأرض "
{ أذن الله أن ترفع } أي تبنى قال تعالى:
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت
[البقرة: 127]، وقيل: تعظم، وعن الحسن: ما أمر الله بالبناء ولكن بالتعظيم { ويذكر فيها اسمه } وهو عام في كل ذكر { يسبح له فيها بالغدو والآصال } جمع أصل وهو ما بين العصر إلى المغرب، وقيل: الصلاة المكتوبة بالغداة والباقي بالعشي لأن أصل الأصل لجمعهما { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع } أي لا يشغلهم ذلك، خص التجارة بالذكر لأنها معظم أشغال الدنيا، ومتى قيل: لم جمع بين التجارة والبيع؟ قيل: التجارة الشراء فلذلك ضم اليها البيع { وإقام الصلاة } آداؤها في أوقاتها { وايتاء الزكاة } إخلاص الطاعة لله، وقيل: هي الزكاة المفروضة { يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار }.
[24.39-42]
{ والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة } الآية، البقيعة يعني البقاع، وقيل: هي الأرض المستوية { يحسبه الظمآن ماء } العطشان، يعني: { إذا جاءه } جاء موضع الشراب، وقيل: جاء ما قدره لم يجده شيئا، أي لم يجد ما قدر، فزادت حيرته، سنة ما يعمله من لا يعتقد الايمان ولا يتبع الحق من الأعمال الصالحة التي يحسبها تنفعه عند الله وتنجيه من عذابه ثم يخيب أمله في الآخرة ويلقاه خلاف ما قدر، كسراب يراه الكافر بالساهرة وقد غلبه عطش يوم القيامة يحسبه ماء، فيأتيه فلا يجد ما رجاه ويجد زبانية الله عنده فأخذوه وعتلوه إلى جهنم فسقوه الحميم والغساق، وهم الذين قال الله فيهم:
عاملة ناصبة
[الغاشية: 3] { ووجد الله عنده } يعني: حفظ الله عليه عمله، وقيل: وجد الله عند ذلك بالمرصاد { فوفاه حسابه } جزاؤه { والله سريع الحساب } لأنه لا يشغله حساب عن حساب { أو كظلمات } وذلك مثلا آخر، يعني مثلهم ومثل أعمالهم وفسادها كظلمات { في بحر لجي } وهو البحر العميق، ولجة البحر معظمه، وإنما ضرب المثل لراكبه من هذا صفة { يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض } فالظلمات، ظلمة البحر، وظلمة السحاب، وظلمة الليل، وظلمة الموج، فشبه الكافر في جهله وكفره بمن هذا حاله ظلمة، واعتقاده ظلمة ومصيره يوم القيامة إلى النار ظلمة، وقيل: الكافر يتقلب في خمس ظلمات: كلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمات يوم القيامة { إذا أخرج يده لم يكد يراها } يعني إذا أخرج الناظر يده لم يكد يراها، وقيل: لم يراها ولم يقرب من أن يراها { ومن لم يجعل الله له نورا } أي من لم يجعل له فرجا ونجاة { فما له من نور } في القيامة { ألم تر } ألم تعلم { أن الله يسبح له ما في السماوات والأرض والطير } قوله تعالى: { صافات } أما من في السماوات فهو عام والأرض خصوص في المؤمنين، وقيل: أراد تنزيهه بما يدل عليه خلقه، فما من شيء إلا يدل على إثباته وإثبات صفاته، وتنزيهه وكذلك الطير { كل قد علم صلاته وتسبيحه } قيل: الصلاة للإنسان والتسبيح، واختلفوا إلى من يعود الضمير في قوله: { علم } قيل: علم الله صلاته وتسبيحه، وقيل: يصلي منهم صلاة نفسه وتسبيحه، وقيل: كل منهم علم صلاة الله وتسبيحه، قال جار الله: لا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها، والصلاة الدعاء { والله عليم بما يفعلون } فيجازيهم.
[24.43-50]
{ ألم تر أن الله يزجي سحابا } أي يسوقه إلى حيث يريد، ومنه البضاعة المزجاة أي يزجيها كل أحد لا يرضاها { ثم يؤلف بينه } أي يضم ويجمع بين قطع السحاب المتفرقة { ثم يجعله ركاما } أي متراكما { فترى الودق يخرج من خلاله } من وسطه { وينزل من السماء من جبال فيها من برد } قيل: ذلك جبال في السماء من برد، وقيل: أراد بالسماء المعروفة فيها جبال البرد، وروي أنه ينزل البرد والمطر من السماء إلى السحاب، ثم ينزل إلى الأرض، وقيل: بل يخلق في السحاب حالا بعد حال إن شاء المطر وإن شاء البر، قال جار الله: فإن قلت: متى رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تسبيح من في السماء ودعاءهم، وتسبيح الطير ودعاءهم، وينزل المطر من جبال برد في السماء حتى قيل له: ألم تر؟ قلت له: علم من جهة الله اخبار الله بذلك على طريق الوحي { فيصيب به } البرد { من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار } أي ضوء برقه، وقيل: لمعان برقه لشدة ضوئه { يقلب الله الليل والنهار } يصرفهما في اختلافهما وتعاقبهما، وقيل: بالطول والقصر بإدخال أحدهما في الآخر، وقيل: بالحر والبرد، وقيل: بالظلمة { إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار } لذوي العقول لأنهم المكلفون الذين يمكنهم النظر { والله خلق كل دابة } أي كل حيوان { من ماء } من نطفة، وقيل: من ماء لأن أصل الخلق الماء، ثم قلب بعد الماء فجعلها ريحا فخلق منه الملائكة وبعضه نار فخلق منه الجن، وبعضه إلى الطين فخلق منه آدم، وقيل: المراد كثرة الدواب لأن من الحيوانات من خلقه من التراب والرياح { فمنهم من يمشي على بطنه } كالحية والحوت والديدان، فإن قلت: لم سمي الزحف على البطن مشي؟ قلت: على سبيل الاستعارة كما يقال: فلان يمشي له أمر { ومنهم من يمشي على رجلين } كالجن والإنس والطيور { ومنهم من يمشي على أربع } كالأنعام والوحوش والسباع، وقيل: في قوله: { يخلق الله ما يشاء } تبينة على أن فيها أكثر من ذلك { إن الله على كل شيء قدير } قوله تعالى: { لقد أنزلنا آيات } دلالات، هو القرآن وسائر الأدلة { مبينات } واضحات { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ، وقيل: يهدي إلى طريق الجنة من يشاء وهم المؤمنون { ويقولون آمنا بالله وبالرسول } الآية نزلت في المنافقين وذلك أنهم يدعون بألسنتهم الايمان والطاعة { ثم يتولى فريق منهم } جماعة يعرضون على حكم الله وهم المنافقون { من بعد ذلك } أي من بعد أن أقروا بألسنتهم { وما أولئك بالمؤمنين } في الحقيقة { وإذا دعوا إلى الله } أي إلى كتابه وحكمه وشريعته ورسوله، أي وإلى رسوله { ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق } يعني إذا علموا أن الحق لهم أتوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { مذعنين } مطيعين منقادين { أفي قلوبهم مرض } شك ونفاق في نبوتك { أم ارتابوا } أي شكوا { أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله } أي يظلمهم ويجور عليهم، وقيل: يخافون أن يميل الرسول في الحكم { بل أولئك هم الظالمون } لأنفسهم حيث أعرضوا عن حكم الله وحكم رسوله، أو هم الظالمون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث ظنوا أنه يحيف.
[24.51-56]
{ إنما كان قول المؤمنين } يعني المؤمنين من يسمع ويطيع الله ورسوله { إذا دعوا إلى الله } إلى كتابه وحكمه ورسوله { أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون } أي فازوا بالمطلوب إلى الثواب { ومن يطع الله ورسوله ويخش الله } أي يخشى عقابه { ويتقه } أي يتقي معاصيه { فأولئك هم الفائزون } { واقسموا بالله جهد أيمانهم } الآية نزلت في المنافقين كانوا يحلفون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أينما كنت كنا معك، وإن أقمت أقمنا، وإن خرجت خرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، وقوله: { جهد أيمانهم } بذلوا الجهد في اليمين، وقيل: من حلف بالله فقد أجهد في اليمين { لئن أمرتهم ليخرجن } لخرجوا إلى العدو والغزو { قل } يا محمد { لا تقسموا } أي لا تحلفوا بأن حده { طاعة } بالقول دون الاعتقاد وهي { معروفة } عندكم، يعني أنكم تكذبون، أو طاعة معروفة أمثل لكم وأولى لكم من هذه الايمان الكاذبة { إن الله خبير بما تعملون } تحذير لهم، أي عليم بأعمالكم فيجازيكم بها { قل أطيعوا الله } فيما أمركم به { وأطيعوا الرسول } فيما أتاكم { فإن تولوا } انحرفوا عن طاعة الله وطاعة رسوله { إنما عليه } أي على الرسول { ما حمل } من الطاعة والمتابعة، فإن لم تطيعوا وتوليتم فقد عرضتم نفوسكم لسخط الله وعذابه { وإن تطيعوه } أي تطيعوا الرسول { تهتدوا } إلى الحق { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } أي ليس عليه إلا آداء الرسالة وبيان الشريعة { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض } الذين كانوا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليورثنهم أرض المشركين من العرب والعجم { كما استخلف الذين من قبلهم } يعني بني إسرائيل بعد هلاك الجبابرة أورثهم أرضهم وأسكنهم فيها وجعلوا ملوكا فيها { وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم } وهو الإسلام، وقيل: الآية نزلت في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، والذي ذكره الحاكم أن الآية عامة في الجميع، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه مكثوا بمكة عشر سنين خائفين، فلما هاجروا وكانوا بالمدينة يصبحون بالسلاح ويمسون فيه حتى قال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح، فأنجز الله وعده وأظهره على حرائر العرب وافتتحوا بعد بلاد المشرق والمغرب فذلك قوله: { وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون } الكاملون في فسقهم حيث كفروا تلك النعمة العظيمة { وأقيموا الصلاة } أي قوموا بأدائها وإتمامها { وآتوا الزكاة } المفروضة { وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون } يعني افعلوا ذلك برحمته راجيين لها.
[24.57-59]
{ لا تحسبن الذين كفروا } قرأ نافع وابن كثير بالتاء على الخطاب أيها السامع الكافرين { معجزين في الأرض } ، وقرأ ابن عامر وحمزة بالياء على أن الخطاب للذين كفروا تقديره لا يحسبن { الذين كفروا معجزين في الأرض } ، واختلف القراء في فتح السين وكسرها وهما لغتان { معجزين في الأرض } فائتين سابقين، وقيل: أنهم ظنوا أنهم معجزين أولياء الله من المؤمنين بأن يقاتلونهم ويصيرونهم إلى العجز { ومأواهم النار } أي مصيرهم { ولبئس المصير } { يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم } الآية قال ابن عباس: وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غلاما من الأنصار إلى عمر وقت الظهيرة ليدعوه، فدخل داره فرأى عمر بحالة كره رؤيته، فقال له: يا رسول الله لو أن الله أمرنا ونهى في حال الاستئذان فنزلت: { يأيها الذين آمنوا ليستأذنكم } أي ليطلبوا الإذن { الذين ملكت أيمانكم } قيل: هم أطفال المماليك والعبيد، قال في الحاكم: وهو الوجه، وقيل: أمر بأن يستأذن العبيد والإماء { والذين لم يبلغوا الحلم منكم } الأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار { ثلاث مرات } في اليوم والليلة { من قبل صلاة الفجر } لأنه وقت القيام من المضاجع، وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة وبالظهيرة لأنه وقت وضع الثياب للقيلة { ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم } لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم، فأباح للمملوك والأطفال في الأوقات إلا في الثلاثة الأوقات لكشف العورات، وقوله: { ثلاث عورات } يعني هذه الأوقات الثلاثة ثلاث مرات في ثلاثة أوقات { ليس عليكم ولا عليهم جناح } ضيق وحرج { بعدهن } بعد هذه الثلاثة { طوافون عليكم } يدخلون للخدمة ويطوفون عليكم للاستخدام { بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم } { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } وهو وقت البلوغ مبلغ الرجال { فليستأذنوا } في جميع الأوقات { كما استأذن الذين من قبلهم } يعني الأحرار الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن، وهذا مما الناس عنه في غفلة، وعن ابن عباس: لا يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن، وعنه: ثلاث آيات جحدها للناس الاذن كله، وقوله:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم
[الحجرات: 13]، وقوله:
وإذا حضر القسمة
[النساء: 8]، وعن ابن مسعود: عليكم أن تستأذنوا على آبائكم وأمهاتكم وأخوانكم، وعن الشعبي: أنه ليس بمنسوخة، قيل له: أن الناس لا يعلمون بها، فقال: الله المستعان، وعن سعيد بن جبير: يقولون هي منسوخة، ولا والله ما هي منسوخة ولكن الناس يتهاونون بها { وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم } وهو وقت البلوغ مبلغ الرجال فليستأذنوا في جميع الأوقات { كما استأذن الذين من قبلهم } يعني الأحرار الكبار { كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم } ، قال جار الله: فإن قلت: ما السنين الذي يحكم فيها بالبلوغ؟ قلت: قال أبو حنيفة: ثماني عشرة سنة في الغلام، وسبع عشرة في الجارية، وعامة العلماء على خمس عشرة فيهما، ومنهم من اعتبر الانبات.
[24.60-61]
{ والقواعد من النساء } يعني التي قعدت من الحيض والولد لكبر { أن يضعن ثيابهن } واختلفوا في هذه الثياب فقيل: الرداء، وقيل: الخمار والله أعلم { غير متبرجات بزينة } يعني أن يردن بموضع الحليات إظهار زينتهن { وأن يستعففن } يطلبن العفة بلبس الجلابيب { خير لهن والله سميع عليم } ، لما تقدم الاستئذان والدخول عقبه ببيان المؤاكلة فقال سبحانه: { ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } قيل: لما نزل قوله:
ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
[البقرة: 188] تحرج المسلمون من مؤاكلة الزمنى والعمي والمرضى والأعرج، وقالوا: الأعمى لا يبصر، والأعرج لا يستطيع المزاحمة على الطعام، وقيل: نزلت في الأكل من بيوت الغزاة إذا خلفوهم في منازلهم، وكانوا يخلفون الزمنى والعمي فيدفعون المفاتيح اليهم، وعن ابن عباس قال: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غازيا وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا، فسأله فقال: تحرجت أن آكل طعامك بغير أمرك فنزلت الآية، وفي جميع ما تقدم قولان: أحدهما رفع الحرج في المؤاكلة يعني لا حرج في مؤاكلة هؤلاء، وقيل: لا ضيق عليكم في مؤاكلة الغزاة إذا خلفتم فيها بإذنهم، وقيل: لا حرج عليهم في التخلف عن الجهاد، والوجه الأول لأنه لم يذكر الجهاد هنا { ولا على أنفسكم } قيل: يتصل بما قبله، وقيل: كان الرجل إذا وجد في بيته شيئا لم يعلم من أين اكتسبه تحرج عن أكله فأباح له ذلك، ثم رخص الأكل من بيوت عدة من الأقارب إلى قوله: { خالاتكم } ، وقيل: أباح الأكل من بيوت هؤلاء من غير إذن، وقيل: ما جرت من العادة في أن يكون مثله مباحا، وكذلك عطف عليه الصديق والآية تدل على أن الآية في الأكل من بيوت هؤلاء، وإنما المراد به مع الإذن، وفي الحديث:
" لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيبة من نفسه "
، وقول من يقول: هو حكم ثابت فبعيد لأن مال الغير لا يحل { أو ما ملكتم مفاتحه } وهو أموال الرجال إذا كان لهم عليها وكيل يحفظها له فله أن يأكل من تمر بستانه ويشرب من لبن ماشيته، وملك المفاتيح كونها في يده وحفظه، وقيل: بيوت المماليك لأن مال العبد لمولاه { أو صديقكم } قال جار الله: فإن قلت: ما معنى: { أو صديقكم }؟ قلت : معناه أو بيوت أصدقائكم، والصديق يكون واحدا وجمعا، قيل: كان للرجل أن يدخل بيت صديقه ويأكل من طعامه من غير إذن، وقيل: هو الصديق في الدين وكان الرجل منهم يدخل دار صديقه وهو غائب فيسأل جاريته كسبه، فيأخذ منه ما شاء، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها مسرورا بذلك، ويحكى عن الحسن أنه دخل داره فإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون منها، فتهللت أسارير وجهه وضحك وقال: هكذا وجدناهم، يريد كبراء الصحابة { ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا } أي مجتمعين ومتفرقين، والآية نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرجون أن يأكل الرجل وحده فربما قعد منتظرا نهاره إلى الليل، فإن لم يجد من يؤاكله أكل ضرورة، وقيل: في قوم من الأنصار كان إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم، وقيل: تحرجوا عن الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل وزيادة بعضهم على بعض { فإذا دخلتم بيوتا } من هذه البيوت لتأكلوا فابدأوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة { تحية من عند الله } أي ثابتة مشروعة، ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير، وعن أنس قال:
" خدمت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء تركته: لم تركته؟ وكنت واقفا على رأسه أصب الماء على يده، فرفع رأسه وقال: " ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها؟ " قلت: بلى بأبي وأمي يا رسول الله، قال: " متى لقيت من أمتي أحدا فسلم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت بيتك فسلم على أهل بيتك يكثر خير بيتك، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوابين "
، وقال:
" إن لم يكن في البيت أحد فليقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، السلام على أهل البيت ورحمة الله وبركاته "
، وعن ابن عباس: إذا دخلت المسجد فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وقيل : إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أنفسكم وعيالكم.
[24.62-64]
قوله تعالى: { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله } يعني ليس المؤمن المستحق للمدح إلا من كان بهذه الصفة { وإذا كانوا معه على أمر جامع } الأمر الجامع هو الحرب والغزو والأمور التي يحتاج فيها إلى العدد والقوة { لم يذهبوا } ولم يتفرقوا عنه { حتى يستأذنوه } حتى يطلبوا إذنه في الخروج { إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم } أمرهم وحاجتهم { فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم } { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } فيقولوا: يا محمد يا أبا القاسم ولكن ادعوه بالتعظيم، وقولوا يا رسول الله مع التوقير والتعظيم والتواضع، ويحتمل ألا تجعلوا نداء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم كبيركم وفقيركم غنيكم يسأله حاجة فربما أجابه وربما رده، فإن دعوة رسول الله مسموعة مستجابة { قد يعلم الله الذين يتسللون } يعني من مجمع الرسول بغير إذنه مسارقة، والآية نزلت في المنافقين، وكان المنافقين ينصرفون لواذا مستخفين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفرارا من الجهاد { فليحذر الذين يخالفون } أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم } موجع، وقيل: الزلزال والأهوال، وقيل: سلطانا يتسلط عليهم، وقيل: هو عذاب في الدنيا وعذاب في الآخرة، وقيل: يظهر ما في قلوبهم من النفاق { ألا إن لله ما في السماوات وما في الأرض } ، ملكا وخلقا { قد يعلم ما أنتم عليه } من طاعتكم ومعصيتكم { ويوم يرجعون إليه } إلى حكمه { فينبئهم بما عملوا } يخبرهم بأعمالهم في الدنيا ويجازيهم عليها { والله بكل شيء عليم } لا يخفى عليه شيء.
[25 - سورة الفرقان]
[25.1-3]
{ تبارك } ، قيل: معناه الذي منه البركة، وقيل: تعظم، وقيل: ثبت ودام لم يزل ولا يزول، وقيل: جل { الذي أنزل الفرقان } يعني الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل { على عبده } يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) { ليكون للعالمين } المراد المكلفين { نذيرا } ، قيل: هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نذيرا للخلق، والنذير المخوف بالعقاب لمن عصى الله، والأولى أنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لصحة الإنذار إليه { الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا } ومن كان بهذه الصفة لا يجوز عليه اتخاذ الولد { ولم يكن له شريك في الملك } يزاحمه ويمنعه من مراده { وخلق كل شيء فقدره تقديرا } والمعنى أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية فقدره وهيأه لما يصلح له، مثاله خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المستوي، وكذلك كل حيوان وجماد { واتخذوا من دونه آلهة } يعني عبدوا الأوثان، والمعنى أنهم آثروا على عبادة الله سبحانه عبادة الالهة { لا يخلقون شيئا وهم يخلقون } لا يقدرون على شيء من أفعاله ولا من أفعال العباد، وذلك توبيخ لهم في ترك عبادة الخالق المقدر القديم { ولا يملكون لهم ضرا ولا نفعا } أي لا يستطيعون لأنفسهم دفع ضر عنها وجلب نفع إليها، وإذا عجزوا عن دفع الضر وجلب النفع الذي يقدر عليها العباد كانوا عن الموت والحياة والنشور التي لا يقدر عليها إلا الله تعالى أعجز، يعني أنها لا تملك شيئا في الدنيا ولا في الآخرة، فإذا لم تملك لنفسها فلا تملك لغيرها، ومن كان في هذه الصفة لا يستحق العبادة ولا يكون إلها.
[25.4-14]
{ وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك } يعني القرآن { إلا إفك } كذب { افتراه } ، والآية نزلت في الحارث، وقيل: في أبي جهل { وأعانه عليه قوم آخرون } ، قيل: اليهود، وقيل: عداس مولى حويطب وأبو فكيهة، وقيل: الذي قال ذلك النضر بن الحارث { فقد جاؤوا ظلما وزورا } كذبا { وقالوا أساطير الأولين } ما سطره المتقدمون { اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } ، قيل: صباحا ومساءا، ثم بين تعالى الرد عليهم في قولهم في القرآن ما تقدم فقال سبحانه: { قل } يا محمد { أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض } أي الغيب { إنه كان غفورا رحيما } { وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } يلتمس المعاش كما نفعله نحن، وقيل: يأكل ويمشي كما نفعل وهو بشر مثلنا { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا } أي يصدقه ويدعو معه الحق { أو يلقى إليه كنز } ينفعه فلا يحتاج إلى طلب المعاش { أو تكون له جنة } بستان { يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } لأنفسهم حيث أوبقوها وللرسول حيث كذبوه { إن تتبعون إلا رجلا مسحورا } قاله الرؤساء للأتباع، قوله تعالى: { انظر } يا محمد { كيف ضربوا لك الأمثال } كيف شبهوك ومثلوك فيقولون ما قدمنا فضلوا عن الهدى { فلا يستطيعون سبيلا } إلى الهدى ومخرجا { تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري } خير مما قالوا، يعني مما سألوا من الكنوز والجنان والأنهار { جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا } أي بيوتا مشيدة، وقيل: منازلا رفيعة، وروي أنها لما نزلت هذه الآية أوحي إليه ان شئت أعطيتك خزائن الأرض، فاختار الدار الآخرة، ثم بين تعالى قولهم في الساعة وما أعد لهم بعد بيان قولهم في التوحيد والنبوات فقال سبحانه: { بل كذبوا بالساعة } يعني القيامة والبعث { واعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا } ، قيل: نارا ملتهبة، قال أبو علي (رحمه الله): يحتمل نارا يعذبون بها في قبورهم، ويحتمل إذا كان يوم القيامة اعتدنا لهم سعيرا { إذا رأتهم } ، قيل: ظهرت لهم: { من مكان بعيد } من مسيرة خمس مائة عام، وقيل: انها تحت الأرض فتظهر على وجه الأرض { سمعوا لها } أي للنار { تغيظا وزفيرا } غليانا وزفيرا، ويجوز أن يراد إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غيظا على الكفار { وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا } الآية يتراضون فيه، قال جار الله: ولقد جمع الله على أهل النار أنواع التضييق حيث ألقاهم في مكان ضيق يتراصون فيه تراصا، كما روي عن ابن عباس في تفسيره أنه يضيق عليهم كما يضيق الزج في الرمح، وهم مع ذلك الضيق مسلسلون مقرنون في السلاسل قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الجوامع، وقيل: يقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الأصفاد، والثبور الهلاك، ودعاؤهم أن يقولوا: واثبوراه: أي يقولوا: يا ثبورنا فهذا حسبك وزمانك { لا تدعوا } أي يقال لهم ذلك، أو هم أحقاء بأن يقال لهم وإن لم يكن ثمة قول { وادعوا ثبورا كثيرا } ، قيل: تجيبهم الملائكة: أنكم وقعتم فيها ليس ثبوركم واحدا إنما هو ثبورا كثيرا، اما لأن العذاب أنواع وألوان وكل نوع منها ثبورا لشدته وفظاعته، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها فلا غاية لهلاكهم.
[25.15-24]
{ قل أذلك خير أم جنة الخلد } ، قال جار الله: الراجع إلى الموصولين محذوف، يعني وعدها المتقون وما يشاؤونه، وإنما قيل: كانت لأن ما وعده الله فهو في تحققه كأنه قد كان، يعني الجنة قد كانت للمتقين جزاء على أعمالهم ومصيرا يصيرون إليها، أو كان مكتوبا في اللوح مصيرهم { لهم فيها ما يشاؤون } من النعيم { خالدين كان على ربك وعدا } أي واجب عليه لما استحقوه بطاعتهم وعدهم الله بذلك في الدنيا إن أطاعوه ولا يجوز عليه الخلف { مسؤولا } يعني لهم أن يسألون ما وعدتهم، وقيل: إنهم سألوه في الدنيا قالوا:
ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك
[آل عمران: 194]، وقيل: واجبا طلبه وقد سأله الملائكة والأنبياء من قولهم:
ربنا وأدخلهم جنات عدن
{ ويوم نحشرهم وما يعبدون من دون الله } ، قيل: هم المعبودون من الملائكة والمسيح وعزير، وعن الكلبي: الأصنام ينطقها الله تعالى، ويجوز أن يكون عاما لهم فيقول الله تعالى لهؤلاء المعبودين: { أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء } المشركين { أم هم ضلوا السبيل } ، قيل: طريق الجنة والنجاة وطريق الدين { قالوا } يعني المعبودين الملائكة والإنس والأصنام { سبحانك } تنزيها لك عن الشرك { ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء } يعني ليس لنا أن نتولى أعدائك بل أنت ولينا من دونهم { ولكن متعتهم وآباءهم } في الدنيا بالصحة والنعمة { حتى نسوا الذكر } القرآن فلم يعملوا به { وكانوا قوما بورا } أي هلكى، قوله تعالى: { فقد كذبوكم بما تقولون } يعني كذبوكم الملائكة فكذبوكم انهم آلهة، وقيل: كذبكم المشركون أيها المؤمنون بما تقولون من توحيد الله وعدله ونبوة محمد وغيره من الأنبياء { فما تستطيعون صرفا ولا نصرا } يعني لا يستطيعون صرف العذاب ولا نصر أنفسهم من البلاء الذي هم فيه { ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا } أي عذاب جهنم { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } وهذا جواب لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } للعداوة إلى نبيكم، والآية نزلت في أبي جهل بن هشام، والوليد بن عقبة، والعاص، والنضر، وذلك أنهم لما رأوا أبا ذر وابن مسعود وعمار وبلالا وصهيب أسلموا قالوا: لم نسلم فنكون مثل هؤلاء { أتصبرون } والصبر على مشاق الأذى { وكان ربك بصيرا } ، قيل: بأعمال العباد { وقال الذين لا يرجون لقاءنا } ثواب الله على الطاعة، وهذا عبارة على إنكارهم البعث: { لولا أنزل علينا الملائكة } فيخبرونا بأنك صادق { أو نرى ربنا } فيخبرنا بصحة ما جئت به { لقد استكبروا في أنفسهم } أي تعظموا عن قبول الحق واتباع الرسول { وعتوا عتوا كبيرا } ، قيل: عتوا في القول، والعتو شدة الكفر { يوم يرون الملائكة } ، قيل: عند الموت، وقيل: يوم القيامة { لا بشرى يومئذ للمجرمين } يعني لا بشارة لهم بخير { ويقولون حجرا محجورا } ، قيل: تقول لهم الملائكة البشرى حرام عليكم محرم، وقيل: الجنة حرام عليكم لا تحريم بعد { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل } ، قيل: قدمنا عهدنا، وتقديره قصدنا قصد القادم على ما يكرهه، وقيل: الملائكة وقت المحاسبة إذا رأوا أعمالهم ردوها عليهم فجعل قدوم الملائكة قدوما له تفخيما لشأنهم، وقوله { إلى ما عملوا } ، قيل: ما عملوا لا يريدون به وجه الله، وقيل: ما عملوا من أعمال البر، وقيل: ما عملوا من عبادة غير الله وظنوها طاعة { فجعلناه هباء منثورا } ، قيل: الهباء الذي يرى في كوة البيت مع شعاع الشمس كالغبار، وقيل: هو ما سقته الرياح وذرته من التراب، وهذا مثل، يعني يذهب أعمالهم باطلا لا ينتفعون به من حيث عملوا لغير الله منثورا مفرقا.
[25.25-31]
{ أصحاب الجنة يومئذ } يعني يوم القيامة إذا دخلوا الجنة { خير مستقرا } ومصيرا { وأحسن مقيلا } المقيل عبارة عن المقام، قوله تعالى: { ويوم تشقق } يعني يرون الملائكة يوم تشقق { السماء } فيه { بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا } والمعنى أن السماء تنفتح بغمام تخرج منها وفي الغمام الملائكة ينزلون وفي أيديهم صحائف الأعمال، وروي تشقق سماء سماء وتنزل الملائكة إلى الأرض، وقيل: غمام أبيض رقيق مثل الضبابة، ولم يكن إلا لبني اسرائيل في تيههم، وفي معناه قوله تعالى:
هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة
[البقرة: 210]، { ونزل الملائكة تنزيلا } ، قوله تعالى: { الملك يومئذ الحق للرحمان } خالصا { وكان يوما على الكافرين عسيرا } لأنهم يودون إلى النار موئدة لا فرح لهم، ثم بين حال الكافرين يوم القيامة وشدة تحسرهم فقال تعالى: { ويوم يعض الظالم على يديه } الآية إلى آخر القصة نزلت في عقبة بن أبي معيط، وأبي بن خلف، وكانا متحابين فأصلح عقبة طعاما ودعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فامتنع حتى يشهد بالشهادتين فشهد، وبلغ ذلك أبي بن خلف فقال: صبوت يا عقبة ما أنا بالذي أرضى حتى تأتيه وتبزق في وجهه، ففعل ذلك، وروي أن عقبة قال لأبي أنه أبى ألا يأكل من طعامي فاستحيت منه فشهدت له، والشهادة ليست في نفسي، فقال: وجهي من وجهك حرام إن لعنت محمدا ولم تطأ قفاه وتبزق في وجهه وتلطم عينه، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف "
فقتل يوم بدر، أمر عليا (عليه السلام) بقتله، وطعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبيا بأحد فرجع إلى مكة فمات فيها، وفيهما نزلت الآية، وعن الضحاك: لما بزق في وجهه عاد بزاقه في خده فأحرقه، وكان أثره ظاهرا حتى مات { ويوم يعض الظالم } عض اليدين والأنامل، والسقوط في اليد، وأكل النبات كنايات عن الغيظ، قوله تعالى: { يا ويلتا ليتني لم اتخذ فلانا خليلا } كناية عن واحد بعينه وهو أبي، ويجوز أن يريد الشيطان { لقد أضلني عن الذكر } وهو القرآن { وكان الشيطان للإنسان خذولا } يعني عادته الخذلان { وقال الرسول يا رب } قال ذلك في الدنيا عند كفرهم وضيق صدره التجأ إليه وشكا فقال: { يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا } يعني قالوا فيه غير الحق تركوه وصدوا عنه وعن الإيمان به، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه "
وقيل: زعموا أنه باطل وأساطير الأولين، ولما تقدم قول الرسول أن قومه اتخذوا هذا القرآن مهجورا بين حال الأنبياء قبله وما نالهم من قومهم تسلية له فقال سبحانه: { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين } كما جعلنا لك عدوا، ومعنى جعلنا حكمنا بأنهم أعداء للأنبياء { وكفى بربك هاديا ونصيرا } يعني كفاية لك هاديا ونصيرا.
[25.32-39]
{ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } كما أنزلت التوراة والإنجيل والزبور، القائلون قريش، وقيل: اليهود { كذلك } جوابا لقولهم أنزل متفرقا { لنثبت به فؤادك } يعني تعيه وتحفظه، والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فارقت حالته حالة موسى وداوود وعيسى حيث كان أميا لا يقرأ ولا يكتب وهم كانوا كاتبين قارئين { ورتلناه ترتيلا } ، قيل: رسلناه، ومعنى ترتيله أن قدره آية بعد آية ووقفة عقيب وقفة، ويجوز أن يكون المعنى: وأمرنا بترتيل قراءته وذلك قوله:
ورتل القرآن ترتيلا
[المزمل: 4] أي اقرأه مرتلا بترسيل وتثبت وأصله الترتيل { ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق } يعني لا يأتونك بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثل في البطلان إلا أتيناك نحن بالجواب الحق { وأحسن تفسيرا } أي بيانا كأنهم أتوا ما ليس بحجة فعارضهم بحجة { الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا } { ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا } { فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا } يعني قوم فرعون { فدمرناهم تدميرا } أي أهلكناهم { وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية } أي عبرة وعظة { واعتدنا للظالمين } في الآخرة { عذابا أليما } { وعادا } أي وأهلكنا عادا { وثمودا وأصحاب الرس } كانوا قوما من عبدة الأصنام أصحاب أثار ومواشي فبعث الله اليهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إذائه ، فبينما هم حول العرش وهو العير عير المطوية عن ابن أبي عبيد انهارت بهم وتخسف بهم وبديارهم، وقيل: الرس قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيهم وهلكوا وهم بقية ثمود، وقيل: هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير سميت بذلك لطول عنقها، وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فتح، وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد، فدعا عليها حنظلة (عليه السلام) فأصابتها الصاعقة، ثم أنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا، وقيل: هم أصحاب الأخدود، وقيل: الرس بانطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار، وقيل: قتلوا نبيهم ورسوه في بئر أي دسوه فيها { وقرونا بين ذلك كثيرا } ، قيل: بين نوح وأصحاب الرس، وقيل: بين من تقدم ذكرهم، والقرن سبعون سنة { وكلا ضربنا له الأمثال } بالوعد والوعيد وبينا لهم القصص العجيبة من قصص الأولين { وكلا تبرنا تتبيرا }.
[25.40-47]
{ ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء } قرية قوم لوط التي أمطرت مطر السوء، قيل: هي الحجارة حين رفعوا إلى السماء { أفلم يكونوا يرونها } إذا مروا بها ورأوا آثارها { بل كانوا لا يرجون نشورا } لا يخافون تعبا { وإذا رأوك } هؤلاء المشركين { ان يتخذونك إلا هزوا } ويقولون هذا رسول على طريق الاستهزاء { إن كاد ليضلنا عن آلهتنا } يعني قرب أن يصرفنا بدعوته عن آلهتنا وهي الأوثان { لولا أن صبرنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب } يوم بدر والقتل فيه فيعلمون يقينا أنهم كانوا على ضلال وأنه على حق، وقيل: هذا وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طال مدة الإمهال، ولا بد للوعد أن يلحقهم فلا يغرنهم التأخير { من أضل سبيلا } كالجواب عن قولهم إن كاد ليضلنا، قوله تعالى: { أرأيت من اتخذ إلهه هواه } ، قيل: يجعل إلهه ما يهواه وهو غاية الجهل وكان الرجل من المشركين يعبد الحجر والصنم فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخر الاخر { أفأنت تكون عليه وكيلا } ، قيل: حافظا لهم من الباطل مع هذا الجهل والغفلة التي هم فيها، قيل: ليس عليك أن يؤمنوا إنما عليك البلاغ { أم تحسب أن أكثرهم يسمعون } ، سماع: طالب الإفهام { أو يعقلون } ما يعاينون من الحجج والمعجزات { إن هم إلا كالأنعام } لا تسمع ولا تفهم ولا تعقل { بل هم أضل سبيلا } لأنهم مكنوا من المعرفة فلم يعرفوا والأنعام لم تمكن { ألم تر إلى ربك } إلى قدرته، ومعنى: { مد الظل } جعلناه يمتد ويبسط فينتفع به الناس، وقيل: هو الظل بعد غروب الشمس ولا مانع من ذلك، وقيل: من بعد غروبها إلى طلوعها عن أبي علي { ولو شاء لجعله ساكنا } أي دائما ثابتا وهو اذ يمنع الشمس من الطلوع، قال جار الله: ساكنا أي لاصقا بأصل كل مضل من جبل وبناء وشجر وغير منبسط فلم ينتفع به أحد { ثم جعلنا الشمس عليه دليلا } معنى كون الشمس دليلا أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل من كونه ثابتا في مكان وزائلا ومتسعا ومنقبضا، فيثنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك، وقبضه إليه أنه ينسخه بضح الشمس { يسيرا } أي لتعطلت أكثر منافع الناس بالظل والشمس جميعا، قوله تعالى: { وهو الذي جعل لكم الليل لباسا } أي سترا، أي لتستترون به وتسكنون فيه، فشبه الليل باللباس لأنه يستر كل شيء بظلمته { والنوم سباتا } راحة لأبدانكم وقطعا لأعمالكم { وجعل النهار نشورا } ينشرون لطلب المعاش.
[25.48-57]
{ وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } لأنها تنشر السحاب، وقد قيل: إنها كلها لواقح إلا الدبور فهي عقيم لا تلقح { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } ، قيل: طاهرا بنفسه مطهرا لغيره { لنحيي به بلدة ميتا } لا زرع ولا ضرع ولا نبات لنسقيه { مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا } أي لنجعله سقيا للأنعام والأناسي { ولقد صرفناه } المطر { بينهم } يدور في جهات الأرض، وقيل: قسمناه { ليذكروا } وليتعظوا، وقيل: ليذكروا نعم الله وقدرته { فأبى أكثر الناس إلا كفورا } يعني كفروا بنعمة الله وجحدوا به، وعن ابن عباس: ما عام أقل مطرا من عام، ولكن الله قسم بين عباده على ما يشاء، وتلا هذه الآية، وروي أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام { ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا } يعني رسولا ينذرهم، وحققنا عنك، وبعثنا في كل قرية نذيرا ينذر أهلها { فلا تطع الكافرين } فيما يدعونك إليه من المداهنة والإقتراحات { وجاهدهم به } أي بالقرآن { جهادا كبيرا } يعني جاهدهم بالدعاء إلى الحق { وهو الذي مرج البحرين } المرج الخلط، والفرات كل ماء عذب، والبحر كل مالح، والاجاج: أشد الملوحة، والبرزخ الحاجز بين الشيئين، قيل: أرسلهما، وقيل: حفظهما { هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج } وهو البليغ العذوبة حتى يضرب إلى الحلاوة، والاجاج نقيضه، ومرجهما خلاهما متحادين متلاصقين وهو بقدرته يفصل بينهما ويمنعهما من التمازج وهذا من عظيم اقتداره { وجعل بينهما برزخا } حائلا من قدرته كقوله:
بغير عمد ترونها
[الرعد: 2] يريد بغير عمد مرئية وهو قدرته { وحجرا محجورا } أي منعا وسترا لا يفسد المالح العذب { وهو الذي خلق من الماء } أي النطفة ومنها خلق بني آدم { بشرا فجعله نسبا وصهرا } النسب ما لا يحل نكاحه، والصهر ما يحل نكاحه، عن علي (عليه السلام) وعن ابن سيرين: نزلت نسبا وصهرا في النبي وعلي بن أبي طالب هو ابن عمه وزوج ابنته منه، وقيل: النسب سبعة والصهر خمسة، وقرأ:
حرمت عليكم أمهاتكم
[النساء: 23] إلى آخرها { وكان ربك قديرا } أي قادر على ما يشاء { ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم } يعني هؤلاء المشركين لا ينفعهم إن عبدوه ولا يضرهم إن تركوه { وكان الكافر على ربه ظهيرا } يعني أن الكافر مظاهر الشيطان على ربه بالعداوة والشرك، وقيل: إنها نزلت في أبي جهل، وقيل: ربه الصنم يعمل به ما شاء من الصنوع وتغيير الشكل { وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا } يعني لا تبعة عليك من فعلهم وإنما أنت مبشر ونذير { قل ما أسألكم عليه من أجر } فتتركون الإيمان لعلة، أي طمع في أموالكم { إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا } ، قيل: الاستثناء منقطع، معناه لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا بانفاق ماله في طاعته وابتغاء مرضاته، وقيل: إلا بمعنى بل أسألكم الإيمان والله أعلم.
[25.58-64]
{ وتوكل على الحي الذي لا يموت } أمره بأن يتق الله ويسند أمره إليه في استكفاء شرورهم مع التمسك بقاعدة التوكل وأساس المنجا وهو طاعة الله وعبادته وتنزيهه وتحميده، وعرفه بأن الحي الذي لا يموت حقيق بأن يتوكل عليه ولا يتوكل على غيره من الأحياء الذي يموتون، وعن بعض السلف أنه قرأها فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق { وكفى به بذنوب عباده خبيرا } أي عليما فيجازيه { الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام } يعني في مدة مقدارها هذه المدة لأنه لم يكن حينئذ ليل ولا نهار، وفي ستة أيام من أيام الآخرة وكل يوم ألف سنة والظاهر أنها من أيام الدنيا، وعن مجاهد: أولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة { ثم استوى على العرش الرحمان } أي قدر على خلقه، وقيل: العرش الملك، أي هو القادر على ملكه يتصرف كيف يشاء { فاسأل به خبيرا } أي عليما، قيل: الخبير هو الله، وقيل: جبريل (عليه السلام)، وقيل: لا تطلب شيئا إلا منه ولا تتوكل إلا عليه، واختلفوا في السؤال قيل: اسأل على صفته، وقيل: اسأل عن الإسلام يخبرك أنه الحق، وقيل: سل العقلاء يخبروك أن المستحق بأن تتوكل عليه هو الحي الذي لا يموت، وقيل: سل هل أحد أعلم من الله بالأشياء { وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمان } ، قيل: الرحمان اسم من أسماء الله قد كرر في الكتب المتقدمة ولم يكونوا يعرفونه، فقيل: فاسأل بهذا الأمم من يخبرك من أهل الكتاب حتى تعرف من ينكره، ومن ثم كانوا يقولون ما نعرف الرحمان إلا الذي باليمامة يعنون مسيلمة، وقيل: أنهم عرفوا الله وتركوا السجود لأن فيه اتباع أمره، لذلك قالوا: { انسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا } في الدين { تبارك الذي جعل في السماء بروجا } أي جل ثناؤه ولم يزل ولا يزال، يعني: خلق في السماء بروجا منازل البروج الظاهرة والبروج اثني عشر: الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والدلو والحوت والميزان والعقرب والقوس والجدي، قوله تعالى: { وجعل فيها سراجا } وهي الشمس والقمر والكواكب الكبار معها { وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة } يعني أحدهما يجيء خلف الآخر معتقبان في السير وفي الضياء وفي الظلام والزيادة والنقصان { لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا } لمن أراد أن يستدل على توحيد الله وأراد شكور نعمته، وقيل: أراد أن يذكر أنهما محدثان { وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هونا } أي يمشون بالسكينة والوقار لا أشر ولا تكبر، وقيل: أصحاب عفة ووقار، وقيل: متواضعين لا يستكبرون { وإذا خاطبهم الجاهلون } بمقالات سيه صانوا أنفسهم و { قالوا سلاما } ، قيل: سداد من القول يسلم معه دينهم، وقيل: سلام توديع لا سلام تحية، وقيل: يقولون للسفهاء نسالمكم ولا نخالطكم، وعن أبي العالية: نسختها آية القتال، ولا حاجة إلى ذلك لأن الإغضاء عن السفيه وترك المقابلة مستحسن في الأدب والمروءة والشريعة وأسلم للعرض { والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما } يعني يصلون، قال ابن عباس: من صلى بالليل ركعتين أو أكثر بات لله ساجدا، وقيل: هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء، والظاهر أنه وصفهم بإحياء الليل أو أكثره.
[25.65-77]
{ والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما } هلاكا وخسرانا، ومنه الغريم لا لحاجة ولوامة { إنها ساءت مستقرا ومقاما } أي ساءت مكانا لمن جعل ذلك له قرارا ومكانا { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا } ، قيل: الإسراف الإنفاق في معصية الله قل أم كثر، وقيل: أنه وصفهم بالقصد الذي هو بين العلو والتقصير، وبمثله وصف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط
[الإسراء: 29] وإنما أمرهم بمحادرة الحد في النفقة، والإقتار التقصير مما لا بد منه، وقيل: هم أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا لا يأكلون للتنعم ولا يلبسون للجمال، ولكن من الطعام ما يسد جوعهم ومن الثياب ما يستر عورتهم { والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله } الآية، قوله: { أثاما } أي عقوبة، وقيل: الأثام: اسم من أسماء جهنم { يضاعف له العذاب يوم القيامة } يعني تستحق كل معصية عقابا { ويخلد فيه مهانا } أي يدوم في العذاب ذليلا { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا } هو أداء الواجبات واجتناب الكبائر { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } يعني يمحو السيئات بالتوبة ويكتب ثواب التوبة بدلها { وكان الله غفورا رحيما } { ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا } أي يرجع إلى ولاية الله رجوعا حسنا، ومتى قيل: لم كرر التوبة قالوا: الأول من تلك المذكورة، والثاني عام، وقيل: في الأول أنه بدل السيئات الحسنات، وفي الثاني قبول التوبة واستدعاء باللطف { والذين لا يشهدون الزور } ، قيل: الشرك، وقيل: شهادة الزور، وقيل: مجالس الباطل واللهو واللعب { وإذا مروا باللغو مروا كراما } يعني وإذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به مروا معرضين عنهم مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم والخوض معهم كقوله:
وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين
[القصص: 55]، وقيل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا عنه { والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها } لم يسقطوا عليها { صما وعميانا } يعني كأنهم صم لا يسمعون وعمي لا يبصرون لكن يسمعوا ويتدبروا ويتفقهوا، يعني ليسوا كالساقط في مكان لا يبالي بما سمع ويرى بل يسمعون، قال جار الله: يعني لم يخروا عليها ليس نفي الخرور وإنما هو بيان له ونفي الصم والعمى، والمعنى أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصا استماعها سامعون بأذان واعية، مبصرون بأعين راعية، لا كالذين يذكرون بها فتراهم مكبين مقبلين مظهرين الحرص الشديد على استماعها وهم كالصم العمي حيث لا يعونها ويبصرون ما فيها كالمنافقين وأشباههم { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما } أئمة يقتدى بنا، وقيل: هو من المقلوب أي اجعل المتقين لنا إماما، ومعنى قرة أعين أي مؤمنين فتقر أعينهم { أولئك } من تقدم ذكرهم { يجزون الغرفة } الدرجة العالية في الجنة { بما صبروا } في طاعته وعن معاصيه { ويلقون فيها تحية وسلاما } يعني أن الملائكة يحيونهم ويسلموا عليهم أي يحيي بعضهم بعضا { خالدين فيها } دائمين فيها { حسنت مستقرا ومقاما } أي موضع قرار وإقامة { قل } يا محمد { ما يعبؤ بكم ربي } ، قيل: ما يصنع بكم بعذابكم وقد خلقتكم وما لي اليكم حاجة ولا منفعة { لولا دعاؤكم } لم يخلقكم، وقيل: دعاؤكم عبادتكم، وقيل: لولا عبادتكم إياه ودعاؤه إياكم إياها لما خلقتكم لأنه خلقكم للطاعة، قال الحاكم: وهو أحسن ما قيل: وروي نحوه عن ابن عباس، ونظيره
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون
[الذاريات: 56] { فقد كذبتم } أيها الكافرون { فسوف يكون لزاما } ، قيل: عذابا دائما في الآخرة، وقيل: قتلا وأسرا يوم بدر، وقيل: عند الموت.
[26 - سورة الشعراء]
[26.1-10]
{ طسم } اسم للسورة، وقيل: من أسماء القرآن، وقيل: هو من أسماء الله { تلك } ، قيل: هذه السورة، وقيل: هذه الآيات { آيات الكتاب المبين } يعني بين الحق من الباطل { لعلك باخع نفسك } قاتل نفسك يا محمد { ألا يكونوا مؤمنين } يعني ليس عليك إلا تبليغ الرسالة، قوله تعالى: { إن نشأ ننزل عليهم من السماء } آية ملجئه إلى الإيمان قسرا { فظلت أعناقهم لها خاضعين } ، قيل: جماعاتهم، وقيل: نساؤهم، وقيل: ساداتهم، قيل: إنما خص العنف بالذكر لأن الخضوع والكبر ينسبان إليه، والمعنى لو شئنا لأجبرناهم على الإيمان ولكن يزول التكليف وإنما أمرناهم بالإيمان مختارين وأعطيناهم القدرة والاله فإن لم يؤمنوا فلا يهمنك أمرهم { فقد كذبوا بذلك فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون } ثم بين لهم من دلائل التوحيد فقال سبحانه: { أولم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج } يعني كل لون وصنف كريم، قيل: حسن، وقيل: ما عدا الإنس والانعام { إن في ذلك لآية } حجة على أنه قادر، عالم، حي، قديم { وما كان أكثرهم مؤمنين } لأنهم لم يتفكروا في ذلك واتبعوا التقليد وآثروا الحياة الدنيا { وإن ربك لهو العزيز } القادر على كل شيء من أخذهم والانتصاف منهم { الرحيم } فلا يعاجلهم ويغفر لهم، ثم ابتدأ بذكر قصة موسى (عليه السلام) تسلية له في تكذيب قومه، وإنما كررت قصة موسى في القرآن لأن اليهود كانوا حول المدينة، وكثيرا ما كانوا يدخلون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يجادلونه فقال سبحانه: { وإذ نادى ربك موسى } أي دعا الله وذلك حين أتى الطور لما رأى نارا في تلك الليلة التي كان انصرف من مدين، وقوله: { أن ائت القوم الظالمين } يعني ظلموا أنفسهم بالكفر.
[26.11-31]
{ قوم فرعون ألا يتقون } ، قيل: معناه هل اتقوا الكفر والمعاصي { قال } موسى { رب إني أخاف أن يكذبون } { ويضيق صدري } بتكذيبهم { ولا ينطلق لساني } للعقدة التي فيه { فأرسل إلى هارون } أرسل إليه جبريل واجعله نبيا وازرني به واشدد به عضدي { ولهم علي ذنب } أراد بالذنب قتله القبطي { فأخاف أن يقتلون } { قال } ، الله تعالى: لا يكون كما ظننت { فاذهبا } يعني موسى وهارون { بآياتنا إنا معكم مستمعون } سماع من يعينك ويحفظ { فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين } { أن أرسل معنا بني إسرائيل } ولا تعذبهم ولا تستعبدهم، وروي أنه استعبدهم أربعمائة سنة، وروي أنهما انطلقا إلى باب فرعون وكان بفلسطين فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب: أن ها هنا إنسانا يزعم أنه رسول الله، فقال: ائذن لهما لعلنا نضحك منه { قال ألم نربك فينا وليدا } يعني قال ذلك على وجه الاستفهام { ألم نربك فينا وليدا } { ولبثت فينا من عمرك سنين } قال ذلك إظهارا لنعمته عليه، وقيل: قالوا إنكارا لرسالته، وروي أنه لبث فيهم ثلاثون سنة { وفعلت فعلتك التي فعلت } يعني قتل القبطي { وأنت من الكافرين } بالدين، وقيل: من الكافرين لنعمتي { قال فعلتها إذا وأنا من الضالين } من الوحي والشرع، وروي أنه قتل القبطي وهو ابن اثني عشر سنة، وقرأ ابن مسعود (رضي الله عنه) من الجاهلين { ففرت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين } أي من جملة الأنبياء { وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل } والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي { قال فرعون وما رب العالمين } ، قيل: كان عارفا بالله أنه الخالق وإنما أراد تلبيسا على العوام، وقيل: كان منكرا لذلك { قال } موسى (عليه السلام): { رب السماوات والأرض } أي خالقهما { وما بينهما } من الخلق { إن كنتم موقنين } ، قيل: كانوا عارفين معاندين، وقيل: إن كنتم مؤمنين أنه لا بد لهما من محدث وعلمتم أنكم لم تحدثوها { قال } فرعون { لمن حوله } من أشراف قومه، قيل: كانوا خمسمائة رجل { ألا تستمعون } لما يقول تعجيبا لهم من قول موسى { قال } موسى (عليه السلام) { ربكم ورب آبائكم الأولين } يعني خالق الجميع، { قال } فرعون { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } ، سماه رسولا استهزاء ووصفوه بالجنون، فزاد موسى بالبينات { قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون } يعني إن كنتم عقلا فتدبروا لتعرفوا، وقيل: إن كنتم تعقلون كلامي { قال } فرعون { لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين } فأجاب موسى { أولو جئتك بشيء مبين } بمعجزة تبين صدق قولي { قال فأت به إن كنت من الصادقين } يعني صادقا في قولك، قيل: قاله سخرية، وقيل: قاله استهزاء.
[26.32-51]
قوله تعالى: { فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } حية عظيمة، قاله جار الله: والذي قاله الحاكم: أنها انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة لفرعون وجعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت، ويقول فرعون: أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها، فأخذها فعادت عصا كما كانت، فقال فرعون: هل غيرها، فنزع يده قيل: أخرجها من جيبه، وقيل: من اللباس الذي عليه { فإذا هي بيضاء للناظرين } ، قيل: كانت بيضاء نورها كالشمس في إشراقها، فلما رأى مرة على أشراف الناس الذي في المجلس { قال للملأ حوله إن هذا } يعني موسى { لساحر عليم } بالسحر { يريد أن يخرجكم من أرضكم } ويأخذ ملككم، وقيل: يخرج بني إسرائيل قهرا وهم عبيدكم بسحره، قيل: يوقع العداوة بينكم فيحارب بعضكم بعضا، وقيل: بحيلته { فماذا تأمرون } من المؤامرة وهي المشاورة { قالوا أرجه وأخاه } أرجه بالهمز والتخفيف وهما لغتان والمعنى إرجه ومناظرته لوقت اجتماع السحرة، وقيل: احبسه وأخاه { وابعث في المدائن حاشرين } خائفين { يأتوك بكل ساحر عليم } ، قيل: اجتمع ثمانون ألفا، وقيل: اثني عشر ألفا، قوله تعالى: { فجمع السحرة لميقات } أي لوقت { معلوم } وهو يوم الزينة، وقيل: كان اجتماعهم بالاسكندرية { وقيل للناس هل أنتم مجتمعون } لننظر ما يفعله الفريقان ولمن تكون الغلبة { لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين } لموسى، قيل: أرادوا نتبع السحرة الذي جاء به فرعون، وقيل: أرادوا بالسحرة موسى وهارون ومن معهما، وإنما قالوه استهزاء { فلما جاء السحرة } ، قالوا لفرعون: { أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين } فأجابهم فرعون { قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين } يعني زيادة تقريب، ثم بين تعالى ما جرى بينهم عند الوعيد فقال سبحانه: { قال لهم موسى } وفي الكلام حذف كأنه قال: فلما اجتمعوا قال لهم موسى: { ألقوا ما أنتم ملقون } { فألقوا حبالهم وعصيهم } ، وقيل: صيروها بألوان والزئبق في وسطها يوهمون أنها حيات وقد وكنوا على سحرهم الذي قدروا أنهم يغلبون به موسى { وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون } فلما رأى موسى ذلك ألقى عصاه فصارت ثعبان وفتح فاه { فإذا هي تلقف ما يأفكون } { فألقي السحرة ساجدين } سجدوا خاضعين، ومتى قيل: ما الذي ألقاهم ساجدين؟ قيل: الحق الذي عرفوا فرأوا الحجة الذي بهرتهم { قالوا آمنا برب العالمين } { رب موسى وهارون } وأضافوا اليهما لأنهما دعوا إليه وأخلصا له العبادة والناس يعتقدون ربوبيته، فعند ذلك قال فرعون: { آمنتم } له يعني لموسى، ويحتمل الله تعالى { قبل أن آذن لكم إنه } يعني موسى { لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون } تهديدا لهم { لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف } يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى { ولأصلبنكم أجمعين } { قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون } { إنا نطمع } نرجو { أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين } بآيات موسى.
[26.52-68]
{ وأوحينا إلى موسى } ، قيل: أمرنا { أن أسر بعبادي إنكم متبعون } يتبعكم فرعون وجنوده { فأرسل فرعون في المدائن حاشرين } ، قيل: أرسل فرعون في أثره ألف ألف وخمس مائة ملك مع كل ملك ألف، وخرج فرعون في جمع عظيم وكان مقدمته سبعمائة ألف كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة، وعن ابن عباس: خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث، فلذلك استقل قوم موسى وكانوا ستمائة الف وسبعين ألفا وسماهم شرذمة، والشرذمة الطائفة القليلة { وإنهم لنا لغائظون } يعني يقولون ما يغيظنا، وهو قولهم أن لفرعون يجب عليه أن نعبده { وإنا لجميع حاذرون } أي حذرنا بالاستعداد بالسلاح والتحرز { فأخرجناهم } يعني فرعون وجنوده { من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم } مجلس كريم حسن، وقيل: هو مجالس الملوك والرؤساء من قومه، وقيل: المنابر { كذلك وأورثناها بني اسرائيل } لأنهم ورثوا مصرا بعد إهلاك فرعون { فاتبعوهم مشرقين } يعني لحقوهم مصبحين، وقيل: في وقت شروق الشمس أو ظهورها { فلما تراءا الجمعان } الفئتان، تقابلا فرأى بعضهم بعضا { قال أصحاب موسى إنا لمدركون } أي لحقنا فرعون وجنوده فأجابهم موسى بما قوى به قلوبهم { قال كلا } أي لا يكون ذلك { إن معي ربي سيهدين } يعني الله تعالى سيهدين سيدلني على طريق النجاة { فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق } قطعة من الماء { كالطود العظيم } أي الجبل العظيم { وأزلفنا ثم } أي قربنا إلى البحر فرعون وقومه، وقرئ فأزلقنا بالقاف شاذ، وقيل: صار فيه اثني عشر طريقا لكل سبط طريق، فرطت بنو إسرائيل وبقيت الطريق كذلك، فلما قرب فرعون وقومه قحموه، ومتى قيل: كيف قحموا البحر مع عظيم الخطر؟ قيل: كان فرعون على حصان وجبريل على رمكه تقدمه واقتحم به البحر، وقيل: طردتهم الملائكة { وأنجينا موسى ومن معه أجمعين ثم أغرقنا الآخرين } يعني قوم فرعون { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } قوله تعالى: { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } يعني القادر على ما يشاء.
[26.69-93]
{ واتل عليهم نبأ ابراهيم } عطف قصة إبراهيم على موسى تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ووعدا له بالنصر ورجوا لقومه، يعني اقرأ عليهم خبر إبراهيم { إذ قال لأبيه } آزر { وقومه ما تعبدون } { قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين } أي لا نزال مقيمين على عبادتها ملازمين لها { قال هل يسمعونكم إذ تدعون } { أو ينفعونكم أو يضرون } فأجابوه وسلكوه طريقة التقليد { قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } كما نفعله في عبادة الأصنام { قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون } { فإنهم عدو لي } يوم القيامة إن عبدتهم في الدنيا، وقيل: أراد بالعداوة البراءة، وقيل: لم يرد العداوة ولكن أخبر أنهم لا يصلحون للعبادة { إلا رب العالمين } استثناء كأنه قال: إلا رب العالمين فإنه معبودي الذي أحب عبادته، ثم وصفه بما يدل على كمال قدرته وأنه سبحانه مستحق للعبادة فقال: { الذي خلقني فهو يهدين } لأن جميع النعم تتم بالهداية، وقيل: الذي يدلني على سبل الخير { والذي هو يطعمني ويسقين } { وإذا مرضت فهو يشفين } فأضاف المرض إلى نفسه لأن أهل اللغة يقولون: مرض فلان فيضاف إليه، وقيل: إذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة عن الصادق { والذي يميتني ثم يحيين } للجزاء { والذي أطمع } أرجو، وهذا طمع يقين { أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين } يوم القيامة والجزاء قيل: أراد الصغائر، وقيل: فيه فوائد أولها الاعتراف بالخطأ، والثاني الانقطاع إلى الله، وقيل: هو قوله:
إني سقيم
[الصافات: 89]، وقوله:
بل فعله كبيرهم
[الأنبياء: 63] وقوله لسارة: هي أختي، وما هي إلا معارض كلام للكفرة { رب هب لي حكما } ، قيل: فهما وعلما، والمراد زيادة العلم { وألحقني بالصالحين } أي بلطفك الذي يؤدي إلى الاجتماع بالنبيين والمؤمنين { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } ، قيل: ثناء حسنا { واجعلني من ورثة جنة النعيم } ، قيل: ممن يكون له في الجنة حظ { واغفر لأبي } ، قيل: دعا له بموعدة وعدها إياه، وقيل: آمن به في السر { ولا تخزني يوم يبعثون } ولقد أجابه حيث قال:
وإنه في الآخرة لمن الصالحين
[البقرة: 130] { يوم لا ينفع مال ولا بنون } { إلا من أتى الله بقلب سليم } خالص من الذنب والشك والبدع، وإذا سلم القلب سلمت باقي الجوارح { وأزلفت الجنة للمتقين } ، قيل: قربت له حولها، وقيل: هذا من كلام إبراهيم، وقيل: بل هو ابتداء كلام الله تعالى { وبرزت الجحيم للغاوين } أي أظهرت حتى يرونها أهل الجمع { وقيل } لهم أي للغاوين { أين ما كنتم تعبدون } { من دون الله } يعني الأوثان التي عبدتموها { هل ينصرونكم أو ينتصرون } لأنفسهم، هذا توبيخ.
[26.94-118]
{ فكبكبوا فيها هم والغاوون } أي كبوا على وجوههم في النار هم والغاوون هم { وجنود ابليس أجمعون } شياطينه، ومتبعوه من عصاة الجن والإنس { قالوا وهم فيها يختصمون } يجوز أن ينطق الله الأصنام حتى يصح التقاول والتخاصم ، ويجوز أن يجري ذلك بين العصاة والشياطين { تالله إن كنا لفي ضلال } عن الحق { إذ نسويكم برب العالمين } والتسوية إعطاء أحد الشيئين مثل ما يعطي الآخر أي نشرككم وإياه في العبادة والطاعة، فقبلنا منكم ورددنا على الأنبياء { وما أضلنا } يعني أغوانا { إلا المجرمون } وهم الشياطين، وقيل: رؤساؤهم وكبراؤهم كقوله:
إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا
[الأحزاب: 67]، عن السدي: الأولون الذين اقتدوا بآبائهم { فما لنا من شافعين } كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة والنبيين { ولا صديق حميم } من الذين كنا نعدهم شفعاء وأصدقاء لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم أنهم شفعاؤهم عند الله وكان لهم الأصدقاء من شياطين الانس، وقيل: قريب يحفظ حق القرابة، وقيل: الحميم الذي يحمي عليه وهو الذي يهمه ما يهمك { فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين } أي عودة إلى الدنيا { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم } { كذبت قوم نوح المرسلين } يعني كذبوا إلى توحيد الله { إذ قال لهم أخوهم نوح } يعني أخاهم في النسب لا في الدين { ألا تتقون } عذاب الله، قوله تعالى: { فاتقوا الله وأطيعون } { وما أسألكم عليه من أجر } من أموالكم { إن أجري إلا على رب العالمين } { قالوا أنؤمن لك } استفهام، والمراد إنكار، أي لا نؤمن لك { واتبعك الأرذلون } ، قيل: كانوا أصحاب الخرق كالحاكة ونحوها من الحجامة والصناعة وهكذا كانت يقولون في أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: نسبوهم إلى النفاق والمعاصي وبما لا يجوز في الدين، وقيل: السفلة، قال أبو مسلم: جواب نوح (عليه السلام) دل على أنهم نسبوا من يتبعه إلى ما لا يجوز { قال وما علمي بما كانوا يعملون } وأي شيء علمي، والمراد انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم، وقيل: ليس على حسابهم وإنما حسابهم على الله { لو تشعرون } تعلمون { وما أنا بطارد المؤمنين } أي لا أبعدهم من مجلسي { إن أنا إلا نذير مبين } مخوف مبين للحق والأحكام { قالوا لئن لم تنته يا نوح } من دعائك { لتكونن من المرجومين } بالحجارة، وقيل: بالشتم، وقيل: من المقتولين عن ابن عباس { قال رب إن قومي كذبون } { فافتح بيني وبينهم فتحا } أي احكم بيني وبينهم حكما، فأنزل الله العذاب عليهم في الدنيا { ونجني ومن معي من المؤمنين }.
[26.119-145]
{ فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون } ، والمشحون: المملوء يقال: شحنها عليهم خيلا ورجلا { ثم أغرقنا بعد الباقين } الذين كانوا خارج السفينة، ثم بين تعالى قصة هود بعد أولئك المتقدمين فقال سبحانه: { كذبت عاد المرسلين } { إذ قال لهم أخوهم } في النسب لا في الدين { هود ألا تتقون } الله فلا تعصونه { إني لكم رسول أمين } على الرسالة، فكيف تتهموني وقد بلغت ما حملت إليكم { فاتقوا الله وأطيعون } { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } { أتبنون بكل ريع آية } مكان مرتفع وبكل طريق، والآية: العلم { تعبثون } وكانوا ممن يهتدون في النجوم في أسفارهم فاتخذوا في طرقهم أعلاما فيعبثوا بذلك لأنهم كانوا يستغنون عنها بالنجوم، وعن مجاهد: بنوا بكل ريع بروج الحمام والمصانع، القصور المشيدة والحصون { لعلكم تخلدون } أي كأنكم تبنون أبدا تخلدون، قوله تعالى: { وإذا بطشتم بطشتم جبارين } أي أخذتم فصيرتم بغير حق، وقيل: قتلا بالسيف ظلما وعلوا { فاتقوا الله وأطيعون } فيما أمرتكم به { واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون } { أمدكم بأنعام وبنين } ومن عليكم نعمة بعد نعمة { وجنات } بساتين فيها أشجار { وعيون } تتابع أي وهو الذي يجري على الأرض تراه العيون { إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم } { قالوا سواء علينا أوعظت أم لم تكن من الواعظين } وهذا كلام جاهل جواب لكل ناصح مشفق { إن هذا إلا خلق الأولين } قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح الخاء وإسكان اللام، يعني كذب الأولين، أي ما يقوله كذب من كذب الأولين، وإذا قرئ بالضم وهي قراءة نافع فمعناه عادة الأولين { وما نحن بمعذبين } بعد الموت، وقيل: في الدنيا، وقيل: في الدنيا والآخرة { فكذبوه فأهلكناهم } بالرياح الذي أرسلناه عليهم { إن في ذلك } في شأن هود وقومه { لآية } لعبرة وعظة لمن يتدبر فيه { وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم } ، ثم ذكر قصة ثمود ورسولها صالح (عليه السلام) فقال سبحانه: { كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون } عذاب الله { إني لكم رسول أمين } على الرسالة، قوله تعالى: { فاتقوا الله وأطيعون } ولا تعصوه وأطيعون فيما أؤدي إليكم { وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين }.
[26.146-167]
{ أتتركون في ما ها هنا آمنين } يعني أتظنون أنكم تتركون في أمنة من الموت والعذاب وزوال النعمة { في جنات وعيون } { وزروع ونخل طلعها هضيم } ، والهضم: اللطيف الظاهر، وقيل: رطب لين، وقيل: ترى كم يركب بعضه بعضا حتى هضم بعضه بعضا أي كسره { وتنحتون من الجبال بيوتا } ، قيل: نحتوا من الجبال صخرا وبيوتا بنوا بها قريبا، وقيل: نحتوا من الجبال الدور والبيوت { فارهين } قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بغير ألف ومعناه اشرين بطرين، وقيل: معجبين، وقرأ حمزة وعاصم فارهين بالألف، والفاره: الحاذق، وقيل: هما بمعنى يقال فاره وفره { فاتقوا الله } ولا تعصوه { وأطيعون } فيما أبلغكم من ربكم { ولا تطيعوا أمر المسرفين } { الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون } { قالوا إنما أنت من المسحرين } المسحورين المخدوعين { ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية } بحجة { إن كنت من الصادقين } فيما تدعي { قال } صالح { هذه } وقد كانوا سألوه أن يخرج لهم من الجبل ناقة عشراء، فأخرجها الله تعالى حامل كما سألوا، ووضعت فصيلا في الحال، وكان عظيم الخلق { لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } لها نصيب ولكم نصيب، قيل: قسم الماء كان لها يوما ولهم يوم وكانت لا تقرب الماء يومهم { ولا تمسوها بسوء } ، قيل: لا تعقر ولا تمنع من الماء والمرعى { فيأخذكم عذاب يوم عظيم } { فعقروها فأصبحوا نادمين } { فأخذهم العذاب } على عقرها، لما رأوا العذاب ندموا ولم يتوبوا، وطلبوا صالحا ليقتلوه، فنجاه الله ومن معه من المؤمنين، ثم أخذتهم صيحة فأهلكتهم، وقيل: تابوا حين رأوا العذاب فلم ينفعهم { إن في ذلك لآية } في التوحيد ومعجزة لذلك النبي، وعبرة لمن تفكر { وما كان أكثرهم مؤمنين } { وإن ربك لهو العزيز } القادر { الرحيم } وروي أن العاقر ألجأها إلى مضيق في شعب فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت ثم ضربها قذارا، وروي أيضا أن عاقرها قال: لا أعقرها حتى ترضوا أجمعين، فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون أترضي؟ فتقول: نعم، وقد تقدم الكلام، ثم بين تعالى قصة لوط فقال سبحانه: { كذبت قوم لوط المرسلين } بتكذيب لوط، وقيل: كذبوا جميع من مضى من الرسل { إذ قال لهم أخوهم لوط } في النسب لا في الدين لأن الناس كلهم بنو آدم { ألا تتقون } الله { إني لكم رسول أمين } على الرسالة { فاتقوا الله } على معاصيه { وأطيعون } فيما أدعوكم إليه { وما أسألكم عليه من أجر } على أداء الرسالة من أجر { إن أجري إلا على رب العالمين } وهو الثواب في الجنة { أتأتون الذكران من العالمين } هو كناية عن الفاحشة وهو إتيان الرجال في دبرهم، وروي أنهم كانوا يأتون النساء في أدبارهن، وروي أنهم كانوا يأتون الغرباء لا بعضهم { وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم } يعني الفروج { بل أنتم قوم عادون } ظالمون { قالوا لئن لم تنته يا لوط } عما تقول { لتكونن من المخرجين } من الدنيا، وقيل: نخرجكم قتلا.
[26.168-189]
{ قال } لوط لقومه: { إني لعملكم من القالين } يعني اللواط، والقالي: المبغض، ثم دعا الله تعالى فقال: { رب نجني } أي خلصني من عاقبة ما يقولون وهو العذاب الذي نزل بهم { وأهلي } ، قيل: أمتي المؤمنون، وقيل: بناته { مما يعملون } من التكذيب والعصيان، وقيل: من آذاهم { فنجيناه وأهله أجمعين } أي خلصنا لوطا، وأهله من آمن به { إلا عجوزا } وهي امرأته كانت كافرة تدل الكفار والفساق على أضيافه { في الغابرين } الباقين فيمن هلك، وقيل: بل هلكت فيما بعد مع من خرج من القرية { ثم دمرنا الآخرين } أي أهلكناهم { وأمطرنا عليهم مطرا } وهو الحجارة { فساء مطر المنذرين } أي الكافرين، وذلك أنهم أهلكوا بالانقلاب والخسف، ثم أمطرنا على من كان غائبا منهم، وقيل: أمطرت عليهم الحجارة والهلاك { إن في ذلك لآية } حجة في التوحيد { وما كان أكثرهم مؤمنين } { وإن ربك لهو العزيز } القادر على هلاكهم { الرحيم } بالمؤمنين منهم، ثم بين تعالى قصة شعيب فقال سبحانه : { كذب أصحاب الأيكة المرسلين } ، قيل: أصحاب أيكة أهل مدين، وقيل: هم غيرهم، وعن قتادة: إن الله تعالى أرسل شعيبا إلى أهل مدين وإلى أهل البادية وهم أصحاب الأيكة، وروي أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف وفي شجرهم الدوم، قال جار الله: فإن قلت: هلا قيل أخاهم شعيب كما في سائر المواضع؟ قلت: قالوا أن شعيبا لم يكن منهم، وفي الحديث:
" إن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة "
وهي قراءة أبي عمرو وعاصم { إذ قال لهم شعيب ألا تتقون } الله { إني لكم رسول أمين } { فاتقوا الله وأطيعون } ، قوله تعالى: { أوفوا الكيل } إذا كلتم، تاما غير ناقص، وكانوا يطففون فنهاهم عن ذلك { ولا تكونوا من المخسرين } من الناقصين الكيل { وزنوا بالقسطاس المستقيم } ، قيل: هو العدل، وقيل: الميزان { ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين } أي لا تفسدوا في الأرض { واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين } الذين كانوا من قبلكم { قالوا إنما أنت من المسحرين } يعني المسحورين المخدوعين، أي سحروك، أي خدعوك، وقيل: من المخلوقين { وما أنت إلا بشر مثلنا وإن نظنك لمن الكاذبين } فيما تقول وتدعو { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } { فأسقط علينا كسفا من السماء } أي قطعة { إن كنت من الصادقين } { قال } شعيب { ربي أعلم بما تعملون } فيجازيكم بعملكم، فهو وعيد لهم { فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة } وروي أنه حبس عنهم سبعا وسلط عليهم الحر فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظل ولا شراب، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية فأضلتهم سحابة وجدوا لها بردا وسيما واختفوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا، وروي أن شعيبا بعث إلى أمير مدين وأصحاب الأيكة فأهلكت مدين بصيحة جبريل وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة { إنه كان عذاب يوم عظيم }.
[26.190-209]
قوله تعالى: { إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم } ثم بين تعالى حديث القرآن فقال سبحانه: { وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح } يعني جبريل سمي روحا لأنه روحاني، وقيل: سمي روحا لأن الأرواح تحيى به لما ينزل من البركات { الأمين } لأنه أمين الله على وحيه { على قلبك } يا محمد، وهو توسيع لأنه تعالى سمعه جبريل فحفظه، وينزل على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقرأ عليه فيحفظه ويعيه بقلبه كأنه نزله على قلبك، وقيل: معناه أن الحفظ فعل الله تعالى في قلبه وهو المعلم بكيفية القراءة { لتكون من المنذرين } من المخوفين عباد الله { بلسان عربي مبين } يعني القرآن بلغة العرب لأنه لو نزله باللسان الأعجمي لقالوا: ما نصنع بما لا نفهم، فيتعذر الانذار به، وإنما أنزله بالعربية التي هي لسانك ولسان قومك { وإنه } يعني القرآن { لفي زبر الأولين } ذكره مثبت في سائر الكتب السماوية، وقيل: الدعاء إلى التوحيد والعدل والاعتراف وأخبار الأمم الذي نزل به القرآن، وقيل: ذكر القرآن والبشارة به وبمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مذكور في الكتب، وهذا القول عن أكثر المفسرين، قال جار الله: { وعلماء بني إسرائيل } عبد الله بن سلام وغيره، قال تعالى: { وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين } { ولو نزلناه على بعض الأعجمين } أي لو نزلنا القرآن على أعجم لا يفصح ولا يحسن العربية وإن كان منسوبا إلى العرب، وقيل: لو نزلناه على رجل ليس بعربي { فقرأه عليهم } أي على العرب { ما كانوا به مؤمنين } يعني لما آمنوا به أنفة من أتباع غير العرب { كذلك سلكناه في قلوب المجرمين } أدخلناه ومكناه، والمعنى أنا أنزلنا هذا القرآن على رجل عربي بلسان عربي مبين، فسمعوا به وفهموه وعرفوا فصاحته وأنه معجزة لا يعارض بكلام مثله { لا يؤمنون به } يعني أنهم لا يزالون على التكذيب به وجحوده حتى يعاينوا الوعيد، ويجوز أن يكون حالا، أي سلكناه فيها غير مؤمنين به { حتى يروا العذاب الأليم } الوجيع، فيأتيهم بغتة يعني العذاب { وهم لا يشعرون } أي لا يعلمون { فيقولوا هل نحن منظرون } أي مؤخرون { أفبعذابنا يستعجلون } نزلت الآية في المشركين قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى متى تعدنا العذاب؟ فنزلت: { أفبعذابنا يستعجلون } نزلت الآية في المشركين قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى متى تعدنا العذاب؟ فنزلت: { أفبعذابنا يستعجلون } وهذا تهديد لهم { أفرأيت إن متعناهم سنين } هذا جواب لقولهم هل نحن منظرون؟ يعني لو متعناهم بطول المهلة وكثرة النعمة سنين كثيرة { ثم جاءهم } ما وعدوا به من العذاب { ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون } من العذاب أي ما كفى عنهم شيئا من العذاب { وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون } يعني نسبق الإنذار بالرسل وإقامة الحجة { ذكرى } أي تذكرة لهم وموعظة { وما كنا ظالمين } لأنهم استحقوا ذلك.
[26.210-220]
{ وما تنزلت به الشياطين } يعني ما أنزل القرآن بعض الشياطين على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: بعض الكفار قالوا: أن محمدا تابعه من الشياطين تأتيه بالأخبار من السماء وتلقيه على لسانه، فأنزل وما تنزلت به الشياطين { وما ينبغي لهم } أي لا يجوز كونه منهم { وما يستطيعون } أي ليس في قدرتهم ذلك لأنه غير مقدور للبشر { إنهم عن السمع لمعزولون } ، قيل: عن استراق السمع عن السماء ممنوعون وبالشهب مرجومون، يعني عن استماع كلام أهل السماء لمعزولون { فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين } الخطاب له والمراد غيره، وعن أبي هريرة: لما نزل قوله:
وأنذر عشيرتك الأقربين
[الشعراء: 214] جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال:
" يا معاشر قريش، يا بني عبد مناف "
، وروي أنه صعد الصفا فنادى:
" الأقرب الأقرب فخذا فخذا "
، وقال:
" يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، يا عباس عم النبي، يا صفية عمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إني لا أملك لكم من الله شيئا "
وعن البراء بن عازب:
" لما نزل قوله: { وأنذر عشيرتك الأقربين } جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا، الرجل منهم يأكل الجذعة، ويشرب العس على رجل شاة وقعب من اللبن، فأكلوا وشربوا حتى رووا، ثم أنذرهم ودعاهم الإيمان وقال: " من يوآزرني ويؤاخيني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي في أهلي؟ " فسكت القوم، فأعادها ثلاثا والقوم سكوت، وعلي يقول: " أنا " فقال المرة الثالثة: " أنت " فقاموا يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمره عليك "
، روي الكلام المتقدم في الحاكم لا غير، وروي أنها لما نزلت قال:
" يا بني عبد المطلب، يا بني هاشم، يا بني عبد مناف، افتدوا نفوسكم من النار فإني لا أغني عنكم من الله شيئا "
، وقيل: خصهم بالذكر لتعريف أنه لا يغني عنهم من عذاب الله شيئا إن عصوه، قوله تعالى: { واخفض جناحك } يعني ألن جنابك { لمن اتبعك من المؤمنين } وإنما خص المؤمنين لأن فيمن اتبعه منافقين { فإن عصوك } فيما تدعوهم إليه يعني العشيرة، وقيل: هو عام { فقل إني بريء مما تعملون } من عبادة غير الله ومعاصيه ف { توكل على العزيز الرحيم } يكفيك شر من يعصيك منهم وغيرهم، والتوكل: تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره ويقدر على نفعه وضره { العزيز الرحيم } الذي يقهر أعداءك بعزته وينصرك عليهم { الذي يراك حين تقوم } للصلاة الناس جماعة { وتقلبك في الساجدين } المصلون، وقيل: تصرفه فيما بينهم بقلبه وركوعه وسجوده وقعوده، ويحتمل إنه لا يخفى عليه حالك، وقيل: تصرفك في أصحابك، وقيل: هو تقلب بصره فيمن يصلي خلفه من قوله (عليه السلام):
" أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلف ظهري إذ ركعتم وسجدتم "
{ إنه هو السميع العليم } يسمع لما قالوا، العليم بنا ينوونه ويعلمه.
[26.221-227]
{ هل أنبئكم } أخبركم { على من تنزل الشياطين } { تنزل على كل أفاك أثيم } يفعل الإثم. قيل: هم الكهنة والمتنبئة كشق وسطيح ومسيلمة وطليحة { يلقون السمع } هم الشياطين كانوا قبل أن يحجبوا بالرجم يسمعون إلى الملأ الأعلى فيحفظون بعض ما يتكلمون به عما اطلعوا عليه من الغيوب ثم يوحون إلى أوليائهم لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا، وقيل: يلقون إلى أوليائهم السمع، أي المسموع من الملائكة، وقيل: الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيلقون وحيهم إليهم أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس { وأكثرهم } الأفاكون { كاذبون } يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم { والشعراء يتبعهم الغاوون } ، قيل: غواة قومه، وقيل: الرواية، وقيل: كفار الإنس والجن، قال جار الله: والشعراء وما هم عليه من الهباء وتمزيق الأعراض والقدح في الأنساب، ومدح من لا يستحق المدح، لا يستحسن ذلك ولا يطرب على قولهم إلا الغاوون السفهاء، وقيل: الغاوون: الراوون، وقيل: الشياطين، وقيل: هم شعراء قريش عبد الله بن الزبعري وهبيرة بن وهب المخزومي ومسافع بن عبد مناف قالوا: نحن نقول مثل ما يقول محمد، وكانوا يهجونه ويجتمعون إليهم الأعراب يستمعون { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون } يعني وادي من أودية الكلام، وقيل: أراد المذاهب المختلفة كقوله: " أنت في واد وأنا في واد " { يهيمون } يذهبون { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } من الغزل والمدح والذم { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } وهم شعراء المؤمنين كحسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة، والكعبان كعب بن مالك، وكعب بن زهير، قال جار الله: استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين يكثرون ذكر الله وتلاوة القرآن، وإذا قالوا شعرا قالوه في توحيد الله والثناء عليه والحكمة والموعظة والزهد ومدح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومدح الأمة وكان هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لحسان:
" قل فروح القدس معك "
{ وذكروا الله كثيرا } يعني لم يشغلهم الشعر عن ذكر الله { وانتصروا من بعد ما ظلموا } أي ردوا على المشركين فيما هجوا به وانتصروا لأنفسهم وللمسلمين { وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون } هذا مبالغة في وعد الكلمة وكان السلف الصالح يتواعدون بها.
[27 - سورة النمل]
[27.1-6]
{ طس } قد بينا ما قالوا، وقيل: إنها اسم السورة، وقيل: إسم الله، وقيل: كل حرف منها مأخوذ من اسم الله { تلك } إشارة إلى الحروق، وقيل: إلى السورة { آيات القرآن وكتاب مبين } والقرآن المجموع، ومعنى مبين بين الأحكام بالشرائع والمواعظ { هدى وبشرى للمؤمنين } وخصهم بالذكر لأنهم ينتفعون به { الذين يقيمون الصلاة } يديمونها { ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون } لا يشكون { إن الذين لا يؤمنون } لا يصدقون بالبعث { زينا لهم أعمالهم } ، قيل: زين لهم الشيطان في قوله:
وزين لهم الشيطان أعمالهم
[النمل: 24]، وقيل: هو مجاز يعني إمهال الشيطان وتخليته حتى زين لهم { فهم يعمهون } يتحيرون ويترددون في الحيرة { أولئك } من تقدم ذكرهم { الذين لهم سوء العذاب } في القتل والأسر يوم بدر، وقيل: عذاب الاستئصال، وقيل: عذاب القبر، والمراد بالسوء الشدة والصعوبة { وهم في الآخرة هم الأخسرون } لحرمان الثواب ودخول النار، ثم بين الله تعالى أن الله هو الذي أعطاه القرآن فقال: { وإنك لتلقى القرآن } تعطى، وقيل: يلقى إليك { من لدن حكيم عليم } أي من جهته تعالى، ثم أنه كما أنزل القرآن عليك أنزل التوراة على موسى.
[27.7-14]
قال سبحانه: { إذ قال موسى لأهله } امرأته ومن كان معه ليلة ذهابه من مدين إلى مصر { إني آنست نارا } أي رأيت { فامكثوا } مكانكم { سآتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس } والشهاب نور، كالعمود من النار، والقبس: القطعة، وقبس من النار اقتباسا: أخذ منها شعلة { لعلكم تصطلون } تستدفئون، ثم قال تعالى تمام قصة موسى (عليه السلام) فقال سبحانه: { فلما جاءها } الهاء كناية عن النار، والمعنى: جاء موضع النار { نودي } يعني موسى ناداه الله بأن أحدث الكلام في الشجرة { أن بورك من في النار } والمراد بالمبارك فيهم موسى والملائكة الحاضرون، والظاهر أنه عام في كل مكان في تلك الأرض وفي ذلك الوادي وحواليهما في أرض الشام، ولقد خص الله أرض الشام بالبركة في قوله:
ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين
[الأنبياء: 71]، وقيل: من حولها من الملائكة، وبركتها أن جعلها دلالة لموسى، وقيل: بورك من في النار الملائكة الموكلون بها { ومن حولها } الملائكة أيضا { وسبحان الله رب العالمين } تنزيها له عما لا يليق به وبصفاته { يا موسى إنه أنا الله العزيز } القادر { الحكيم } الذي لا يمتنع عليه شيء، الحكيم العالم بكل شيء { وألق عصاك فلما رآها تهتز } تحركت { كأنها جان } في اهتزازها وهي ثعبان في عظمها، فهاله أمرها وسرعة حركتها وعظم جسمها { ولى مدبرا } أي رجع إلى ورائه { ولم يعقب } أي لم يرجع إلى عقبه، فقال تعالى: { يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون } { إلا من ظلم } يعني إنما يخاف الظلمة { إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء } ، قيل: من كان ظالما بالمعاصي فتاب، روي في الحاكم قال: وهو الوجه لعموم الآية { فإني غفور رحيم } لذنوب التائبين، قال جار الله: { إلا من ظلم } يعني لكن من ظلم منهم، أي فرطت منه صغيرة مما لا يجوز على الأنبياء كالذي فرط من آدم ويونس وداوود وسليمان وأخوة يوسف وموسى (عليه السلام) بوكزة القبطي، قوله تعالى: { وادخل يدك في جيبك } ، قيل: ادخاله يده جيبه أي يجعلها على صدره، وقيل: جيب مدرعته، وروي أنه كان (عليه السلام) عليه جبة صوف، وقيل: كان كمها إلى بعض اليد فأمره أن يدخل يده جيبه { تخرج بيضاء } تضيء كالبدر { من غير سوء } أي من غير برص { في تسع آيات } معجزات: وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والبحر ورفع الطور وانفجار الحجر بالماء { إلى فرعون } أي أرسلنا إلى فرعون { وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين } خارجين عن طاعة الله والإيمان { فلما جاءتهم آياتنا مبصرة } يبتصر بها الصواب من الخطأ { قالوا هذا سحر مبين } أي ظاهر { وجحدوا بها } أي بالآيات { واستيقنتها أنفسهم } أي علموا يقينا أنها ليس بسحر، وأنها تدل على صانع حكيم، وتدل على نبوة موسى { ظلما وعلوا } يعني ظلما على أنفسهم، أو ظلما على موسى { فانظر } يا محمد أو أيها السامع { كيف كان عاقبة المفسدين }.
[27.15-21]
{ ولقد اتينا داوود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين } بالنبوة والمعجزة والملك { وورث سليمان داوود } نبوته وعلمه وملكه دون سائر بنيه وكانوا تسعة عشر، وكان داوود أكثر تعبدا، وسليمان أقضى وأشكر لنعمة الله { وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير } وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يفهم المراد بمعاني نغماتها والذي علمه سليمان، ويحكي أنه مر على بلبل في شجر يحرك رأسه، ويميل ذنبه فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ فقالوا: الله ونبيه أعلم، قال: يقول: أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفاء وصاح طاووس فقال: يقول: كما تدين تدان، وصاح هدهد فقال: يقول: استغفروا الله يا مذنبين، والديك يقول: اذكروا الله، والنسر يقول: يابن آدم عش ما شئت آخرك الموت، والعقاب يقول: في البعد من الناس أنس { وأوتينا من كل شيء } علما، وقيل: من الملك والنبوة والكتاب والتسخير { إن هذا لهو الفضل المبين } الظاهر من الله علينا { وحشر لسليمان جنوده } أي جمع لسليمان جنوده { من الجن والإنس والطير فهم يوزعون } أي يحشر أولهم على آخرهم، وروي أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة فرسخ خمسة وعشرون للجن، وخمسة وعشرون للإنس، وخمسة وعشرون للطير، وخمسة وعشرون للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وابرسم فرسخا في فرسخ وكان موضع منبره في وسطه وهو من ذهب فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فتقعد الأنبياء على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، فتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عنه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط فتسيره، وروي أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ويأمر الرخاء فتسيره، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء والأرض إني قد زدت في ملكك لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في أذنه، فنزل ومشى إلى الحراث وقال: أنا مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، ثم قال: تسبيحة واحدة تقبلها الله خير مما أوتي آل داوود، وروي أنه كان يقعد على البساط وهو على كرسي وحوله العلماء والناس { حتى إذا أتوا على واد النمل } ، قيل: هو بالطائف، وقيل: وادي النمل بالشام { قالت نملة } ، قيل: كانت ذات جناحين فسمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال { يأيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون } أي لا يعلمون بكم { فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه } وذلك أن سليمان لما سمع النملة أمر الرياح فوقفت لئلا يذعرون حتى دخلن مساكنهن ثم دعى بالدعوة، ومعنى { وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين } يعني واجعلني من أهل جنتك مع عبادك الصالحين، ثم ذكر تعالى ما جرى لسليمان مع الهدهد فقال سبحانه: { وتفقد الطير } أي طلبها وبحث منها { فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين } وذكر في قصة الهدهد أن سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج بحشره، فوافى الحرم وأقام به ما شاء الله وكان يقرب كل يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على المسير إلى اليمن، فخرج من مكة صباحا، فوافى صنعاء عند الزوال، فرأى أرضا حسناء أعجبه خضرتها، فنزل يتعبد ويصلي فلم يجد الماء، وكان يرى من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاج، فتجيء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب، وتفقد الطير لذلك، وحين نزل سليمان حلق الهدهد فرأى هدهدا رافعا فانحط إليه، فوصف له ملك سليمان وما سخر له من كل شيء، وذكر له صاحبه ملك بلقيس وأن تحت يدها اثني عشر ألف قائد تحت يد كل قائد مائة ألف، وذهب معه لينظر فما رجع إلا بعد العصر، فذكر أنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خاليا، فدعا عفريت الطير وهو النسر فسأله عنه فلم يجد عنده علمه، ثم قال لسيد الطير وهو العقاب علي به، فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته، فناشدها بالله وقال: سألتك بالله الذي قواك وأقدرك علي ألا رحمتني، فتركته وقالت: ثكلتك أمك ان نبي الله قد حلف ليعذبنك، قال: وما استثنى؟ قالت: بلى، أو ليأتيني بعذر بين، فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحه مكرها على الأرض تواضعا له، فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله، فارتعد سليمان وعفى عنه، قيل: كان يعذب سليمان الطير أن ينتف ريشه ويشمسه، وقيل: يلقيه في واد النمل، وقيل: بل يفرق بينه وبين الفه { أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين }.
[27.22-31]
{ فمكث غير بعيد } أي لبث قليلا وجاء الهدهد فقال: ما الذي أبطأك؟ { فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبأ يقين } أحطت يعني علمت شيئا، وسبأ: اسم رجل باليمن، وقيل: اسم مدينة { إني وجدت امرأة تملكهم } أي تملك أهل سبأ اسمها بلقيس { وأوتيت من كل شيء } أخبار عن سعة ملكها { ولها عرش عظيم } ، قيل: أن عرشها كان ثمانين ذراعا في ثمانين وسمك ثمانين، وقيل: ثلاثين، وكان من ذهب وفضة مكللا بأنواع الجواهر، وكان قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ودر وزمرد { وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم } يعني عبادتهم الشمس، قوله تعالى: { فصدهم عن السبيل } أي صدهم عن سبيل الحق { فهم لا يهتدون } إلى طريق الرشد { ألا يسجدوا } ، قيل: المراد سجود الصلاة، وقيل: هذا من كلام الهدهد قاله بحضر سليمان، وقيل: هو اعتراض في الكلام { لله الذي يخرج الخبء } ، قيل: الغيب وهو ما غاب عن الإدراك، يعني يعلم غيب السماوات والأرض، وقيل: خبء السماء المطر والرياح، وخبء الأرض النبات والأشجار { ويعلم ما تخفون وما تعلنون } يعني يعلم السر والعلانية { الله لا إله إلا هو } أي لا شريك له { رب العرش العظيم } ، وقيل: أيضا هذا من كلام الهدهد { قال سننظر } في أمرك { أصدقت أم كنت من الكاذبين } ثم كتب سليمان كتابا وختمه بالمسك ثم قال للهدهد: { اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون } وروي أنه حمله بمنقاره وطار حتى وقف على رأس المرأة وألقاه إليها وحولها الملأ، وقيل: دخل من كوة البيت وهي نائمة وألقى الكتاب عند رأسها فنبهت ورأت الكتاب ففزعت وخافت أن يكون وقع في ملكها شيء، وقيل: أتى اليها وهي لثلاثة أيام من صنعاء اليمن وكانت عربية كاتبة { فقالت يا أيها الملأ } وهم يومئذ اثني عشر ألف قائد مع كل قائد مائة ألف { إني ألقي إلي كتاب كريم } وسمي كريما لأنه كان مختوما، وقيل: شرف بشرف صاحبه ولأن الطائر أتى به { إنه من سليمان } لأنه كتب من عبد الله سليمان إلى بلقيس ملكة سبأ { إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم } ، وقيل: إنها كانت بخبر سليمان { ألا تعلوا علي } أي لا تتكبروا علي { وأتوني مسلمين } مؤمنين بالله ورسوله.
[27.32-37]
{ قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري } أي أشيروا علي بالصواب { ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون } أي حتى تحضرون وتشيرون علي، ثم { قالوا نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد } أي ذو سلاح وشدة في الحروب، فقالت لما عزوا الحرب { إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة } وقوله: { افسدوها } خربوها، وقيل: إذا دخلوا قرية عنوة وقهرا أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة، أي أهانوا أشرافها { وكذلك يفعلون } ، قيل: هو قول الله تصديقا لها فيما قالت، وقيل: قال ذلك قومها، قالت بلقيس: { وإني مرسلة إليهم بهدية } أي إلى سليمان وقومه { فناظرة بم يرجع المرسلون } بقبول أو رد، وقيل: ما يلتمسون من خير أو شر، قيل: أنها أرسلت بوصائف وغلمان على زي واحد وقالت ان رد الهدية وأبى إلا المبايعة على دينه فهو نبي وإن قبل الهدية فإنما هو ملك وعندنا ما يرضيه، وقيل: إني مرسلة إليهم بهدية أي مرسلة رسلا بهدية أصانعه بها على ملكي فناظرة ما يكون منه حتى أعمل على حسب ذلك، وروي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجوار وحليهن الأساور والأطواق والقرطة راكبين خيل مغشاة بالديباج محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجوهر وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع والمسك والعنبر، وحقا فيه درة عذراء معوجة الثقب، وبعثت رجلا من أشراف قومها المنذرين بن عمرو وآخر ذا رأي وعقل، وقالت: إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري، وثقب الدرة ثقبا مستويا وسلك في الخرزة خيطا ثم قالت للمنذر إن نظر اليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولك، وإن رأيته بشا لطيفا فهو نبي، فأقبل الهدهد فأخبر سليمان، فأمر الجن فصرفوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ، وجعلوا حول الميدان حائط فشرفوه من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان ويساره على اللبن، وأمر أولاد الجن وهم خلق فأقيموا على اليمين واليسار، ثم قعد على سريره والكراسي عن جانبيه، فاصطفت الشياطين صفوفا فراسخ والإنس صفوفا، والوحوش والسباع والطير والهوام كذلك، فلما دنا القوم ونظروا بهتوا ورأوا الدواب تروث على اللبن، فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم، ولما وقفوا بين يدي سليمان نظر إليهم بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟ وأين الحق؟ وأخبره جبريل بما فيه فقال لهم: إن فيه كذا وكذا، ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفرت فيها وجعل رزقها في الفاكهة، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب وجهها، والغلام كلما يأخذ به يضرب وجهه، ثم رد { ارجع إليهم } الآية، قالت: هو نبي وما لنا به من طاقة، فشخصت اليه في اثني عشر ألف قيل تحت كل قيل ألف.
[27.38-43]
{ قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها } ، قيل: رجعت الرسل إليها بالرسالة، قالت: ما هذا ملك، وبعثت إلى سليمان إني قادمة إليك، فعند ذلك قال سليمان لأشراف قومه: { يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها } ، وقيل: جلس سليمان ذات يوم فرأى غبارا قريبا منه فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس، فقال: أيكم يأتيني بعرشها، وروي أنه رأى الغبار على قدر فرسخ واختلفوا ما السبب الذي لأجله طلب العرش، قيل: أعجبه صفته فأحب أن يراه وكان من ذهب وقوائمه من جوهر مكلل باللؤلؤ، وقيل: معجزة الله تعالى في عرشها، وقيل: علم أنها إذا أسلمت حرم عليه مالها فأراد أخذه قبل اسلامها { قبل أن يأتوني مسلمين } طائعين { قال عفريت من الجن أنا آتيك به } أي بالعرش { قبل أن تقوم من مقامك } ، قيل: مجلسك الذي تقضي فيه بين الناس، وقيل: كان يقضي بين الناس إلى نصف النهار ولم يكن ذلك الحمل معجزة لأنه تعالى قوى الشياطين وقت سليمان فلما مات سليمان رجعوا إلى حالهم { وإني عليه لقوي أمين } قال سليمان أريد أسرع من هذا { قال الذي عنده علم من الكتاب } رجل كان عنده اسم الله الأعظم وهو يا حي يا قيوم، وقيل: يا إلهنا وإله كل شيء واحدا لا إله إلا أنت، وقيل: ياذا الجلال والإكرام، وعن الحسن: الله والرحمان، وقيل: هو آصف بن برخيا كاتب سليمان وكان صديقا عالما، وقيل: هو جبريل، وقيل: هو الخضر علم من الكتاب المنزل وهو علم الوحي والشرائع { انا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك } ، قيل: أراد المبالغة في السرعة، ومعنى قوله: قبل أن يرتد إليك طرفك إنك ترسل طرفك إلى شيء قبل أن تراه أبصرت العرش بين يديك، وروي أن آصف قال لسليمان: مد عينيك حتى ينتهي طرفك، فمد عينيه فنظر نحو اليمن ودعا آصف فغار العرش بمأرب ثم نبع عند مجلس سليمان بقدرة الله قبل أن يرتد طرفه { فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه } لأن نفعه يعود عليه { ومن كفر فإن ربي غني كريم } { قال } يعني سليمان { نكروا لها عرشها } غيروا هيئة السرير هل تهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون إلى أنه عرشها { فلما جاءت قيل أهكذا عرشك } فنظرت فيه و { قالت كأنه هو } فعرف سليمان كمال عقلها { وأوتينا العلم } هذا من كلام سليمان، يعني أوتينا العلم بالله وبقدرته على ما شاء من قبل هذه المرأة { وكنا مسلمين } ، وقيل: هو من كلام قوم سليمان { وصدها ما كانت تعبد من دون الله } وهو الشمس { إنها كانت من قوم كافرين }.
[27.44-58]
{ قيل لها ادخلي الصرح } القصر، وقيل: صحن الدار، وروي أنه أمر قيل: قدومها فبني له على طريقها قصر من زجاج أبيض وأجرى فيه من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره، ووضع سريره في صدره فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس، وإنما فعل ذلك ليزيدها استعظاما لأمره وتحقيقا لنبوته وبيانا على الدين، وزعموا أن الجن كرهوا أن يتزوجها فتفضي إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنية، وقيل: خافوا أن يولد له منها ولد فيجمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد وأفظع، فقالوا له: إن في عقبها شيئا وهو شعر الساقين ورجلها كحافر الحمار، فاختبر عقلها بتنكير العرش، واتخذ الصرح ليعرف ساقها فكشفت عنهما فإذا هي أحسن الناس ساقا إلا أنها شعراء، ثم صرف بصره وناداها: { إنه صرح ممرد من قوارير } ، وقيل: هي السبب في اتحاد النورة أمر بها الشياطين فاتخذوها، واستنكحها سليمان وأحبها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا لها سلحين وعمدان، وكان يزورها في الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له، وقيل: بل زوجها ذا تبع ملك همدان وسلطه على اليمن، وأمر زوبعة أمير جن اليمن أن يطيعه فبنى له المصانع ولم يزل أميرا حتى مات سليمان، روي ذلك في الكشاف، ثم بين تعالى قصة صالح فقال تعالى: { ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون } يعني فريق مؤمن وفريق كافر، وقيل: أراد بالفريقين صالح وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد، وقوله: { يختصمون } يقول كل فريق: الحق معي، وذلك أنهم سارعوا في الدين قبل اختصامهم ما حكى الله عنهم في سورة الأعراف قوله:
وقال الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا
[الأعراف: 75] إلى أن قالوا:
يا صالح ائتنا بما تعدنا
[الأعراف: 77] من العذاب فقال صالح: { يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة } ، قيل: بالعذاب قبل الرحمة، وقيل: السيئة العقوبة، والحسنة التوبة، وقيل: أنهم كانوا بجهلهم يقولون: أن العقوبة التي يعدها صالح إن وقعت بيننا حينئذ واستغفرنا مقدرين أن التوبة مقبولة في ذلك الوقت، وإن لم يقع فنحن على ما نحن عليه، فخاطبهم صالح على حسب قولهم واعتقادهم قال لهم: هلا { تستغفرون الله } قبل نزول العذاب { لعلكم ترحمون } { قالوا اطيرنا بك } أي تشاءمنا بك { وبمن معك } ممن هو على دينك، قيل: امسك عنهم المطر فحطموا فقالوا: هذا من شؤمك وشؤم أصحابك، ولم يعلموا أن ذلك شؤم كفرهم فقال صالح: { طائركم عند الله } مصائبكم، يعني ما يصيبكم من الخير والشر والخصب والجدب عند الله { بل أنتم قوم تفتنون } تعذبون أو يفتنكم الشيطان بوسوسته إليكم { وكان في المدينة تسعة رهط } يعني مدينة هود وهي الحجر { يفسدون } يعني تسعة نفر، وقيل: كانوا من أشرافهم، وروي أنهم الذين سعوا في عقر الناقة { قالوا تقاسموا بالله } أي تحالفوا بينهم، وقيل: لما آتاهم أمارات العذاب اجتمعوا وتقاسموا على قتله وقتل من معه من المؤمنين، وقيل: لما متعوا ثلاثة أيام فخافوا العذاب ودبروا في قتله فقالوا عند التحالف { لنبيتنه } ليلا ولنقتلنه { وأهله } الذين معه على دينه، ثم طلبوا عذرا عند أوليائه، وكانوا أهل شوكة فقالوا: { ثم لنقولن لوليه } ولي دمه { ما شهدنا مهلك أهله } أي إهلاكهم { وإنا لصادقون } في هذا العذر، قيل: لما اجتمعوا أتوا صالحا دفعهم الملائكة بالحجارة، وقيل: أخذتهم الصيحة { ومكروا مكرا } أي دبروا واحتالوا حتى قصدوا بيت صالح { ومكرنا مكرا } أي جازيناهم على مكرهم { وهم لا يشعرون } يعني لا يعلمون عاقبة أمرهم { فانظر } يا محمد أو أيها السامع { كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين } { فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا } يعني بيوت ثمود وهي بوادي الحجر بين المدينة والشام خاوية خربة خالية، وروي أنهم أهلكوا بالصيحة، وقيل: رموا بالحجارة { إن في ذلك لآية } لعبرة فيما تقدم من القصص { لقوم يعلمون } { وأنجنيا الذين آمنوا } من العذاب صالح ومن معه { وكانوا يتقون } الكفر والمعاصي { ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون } أنها فاحشة { أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون } ، قيل: تجهلون الحق، وقيل: تجهلون العقوبة { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون } عن إتيان الرجال { فأنجيناه وأهله } ومن آمن به، قوله تعالى: { إلا امرأته قدرناها } قضينا عليها، وقيل: كتبنا عليها { من الغابرين } الباقين في العذاب لأنها شاركتهم في الشرك ورضيت بفعلهم { وأمطرنا عليهم مطرا } وهي الحجارة، وقيل: مطر الغائب وخسف الحاضر في المدينة فهم يهوون إلى يوم القيامة عن الحسن { فساء مطر المنذرين } أي الكفار، قيل: الخطاب للوط، وقيل: للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: يحتمل لكل من سمع.
[27.59-68]
{ قل الحمد لله } على هلاك الأمم، وقيل: على ما علمك من هذه الأمور، وقيل: على نعمته دنيا ودينا { وسلام على عباده الذين اصطفى } أي اختار وهم الأنبياء اصطفاهم للرسالة، وقيل: الأنبياء والمؤمنين { آلله خير أما يشركون } يعني هو خير في أن يعبد أم الأصنام وهو الإله الذي ينفع ويضر خير من عبادة حجر لا ينفع ولا يضر، وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول عند قراءتها:
" بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم "
{ أمن خلق السماوات والأرض } خير تقديرا لهم بأن من قدر على خلق العالم خير من جماد لا يقدر على شيء { وأنزل لكم من السماء ماءا فأنبتنا به حدائق ذات بهجة } أي أنبتنا بالمطر الأشجار ذات بهجة، أي ذات حسن { ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } ما ها هنا للنفي، أي لا تقدرون على إنبات الأشجار { أإله مع الله } أي معبود معه يخلق مثل خلقه ويعينه، هذا استفهام والمراد الانكار، أي ليس معه إله يفعل هذا { بل هم قوم يعدلون } من الحق إلى الشرك، وقيل: يعدلون بالله غيره لجهلهم، يعني يثبتون من قولهم عدل يعدل عدلا إذا ساوى بين الشيئين { أمن جعل الأرض قرارا } أي مكانا تستوون { وجعل خلالها } أي وسطها { أنهارا } تجري من تحتها المياه { وجعل لها رواسي } أي جبالا ثوابت أي تميد بكم { وجعل بين البحرين حاجزا } أي بين العذب والمالح مانعا كيلا يختلط { أإله مع الله } أي معبود سواه يقدر على ذلك { بل أكثرهم لا يعلمون } الحق، لأنهم لم يتفكروا أمن يجيب المضطر إلى كذا والمضطر الذي أحوجه مرض أو فقر أو نازلة من نوازل الدهر إلى اللجوء والتضرع إلى الله، وعن ابن عباس: هو المجهود، وعن السدي: هو الذي لا حول له ولا قوة، وقيل: المذنب الذي يستغفره، قال جار الله: فإن قلت: قد جمع المضطرين بقوله: { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } لكم من مضطر يدعو فلا يجاب؟ قلت: الإجابة موقوفة على أن يكون المدعو به مصلحة { ويكشف السوء } أي المغر والضيق { ويجعلكم خلفاء الأرض } خلفاء وذلك يورثهم سكناها والتصرف فيها قرن بعد قرن أو أراد بالخلافة الملك والتسليط { أإله مع الله } أي معبود سواه يقدر على ذلك { قليلا ما تذكرون } تذكرا قليلا، والمعنى كفى التذكر والقلة تستعمل في معنى النفي { أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر } بالنجوم في السماء والعلامات في الأرض إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر { ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } أمام المطر { أإله مع الله } يقدر أن يفعل ذلك { تعالى الله عما يشركون } أي جل عن الشرك عما يزعمه المشركون ويصفوه { أمن يبدؤ الخلق } أي يحدثهم من العدم ابتداء ثم يعيدهم بعد الفناء للجزاء، يعني أنه المختص بالقدرة على ابتداء الأجسام وإعادتها فكان هو الله المعبود حقا { ومن يرزقكم من السماء والأرض } من السماء المطر ومن الأرض النبات { أإله مع الله } أي أإله سواه يفعل ذلك؟ { قل } يا محمد { هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله } نزلت في اليهود حتى سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الساعة والغيب ما غاب عن الحواس ولا دليل عليه عقلا وسمعا، وقيل: هو ما لم يعلم ضرورة { وما يشعرون } يعني ما يعلمون متى يبعثون، قوله تعالى: { بل ادارك } قرأ ابن كثير وأبو عمرو بل ادارك بقطع الألف وسكون اللام، وقرأ نافع وحمزة بكسر اللام موصولة الألف { بل ادارك علمهم في الآخرة } ، قيل: علموا ذلك لما عاينوا حين لا ينفعهم مع شكهم في الدنيا ولو لم يعلموا في الدنيا يعلمون في الآخرة ضرورة، وقيل: بل غاب وضل عليهم في الآخرة فليس لهم بها علم بل هم في شك منها، قيل: معناه هلا أدرك علمهم في الآخرة أم هم في شك من القيامة { بل هم منها عمون } حيث تركوا آية التدبر والنظر { وقال الذين كفروا } ، قيل مشركو مكة { أءذا كنا ترابا } بعد الموت { وآباؤنا أئنا لمخرجون } { لقد وعدنا هذا } البعث { نحن وآباؤنا من قبل } محمد { إن هذا إلا أساطير الأولين } أحاديثهم وأكاذيبهم.
[27.69-81]
{ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين } الذين كفروا وعصوا الله { ولا تحزن عليهم } أي على تكذيبهم إياك وإعراضهم عنك فإن وباله يعود عليهم { ولا تك في ضيق مما يمكرون } أي لا يضيق صدرك بما يريدون في أمر الله فالله حافظك وناصرك { ويقولون متى هذا الوعد } يعني البعث { إن كنتم صادقين } في ذلك { قل } يا محمد { عسى أن يكون ردف لكم } ، قيل: تبعكم، وقيل: حضركم، وعسى من الله واجب إنه قريب سيأتيكم وهو القتل والأسر وفد امامهم يوم بدر، وقيل: عند الموت، وقيل: عذاب القبر، وقيل: يوم القيامة وعذاب النار { بعض الذي تستعجلون } من العذاب قوله تعالى: { وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون } نعمه { وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون } يعني أنه يعلم سرهم وعلانيتهم { وما من غائبة في السماء والأرض } يعني كل شيء غائب، وقيل: هو أفعال العباد، وقيل: أسرار الملائكة والجن والإنس { إلا في كتاب مبين } يعني أنه محفوظ عنده، وقيل: الكتاب اللوح المحفوظ، أي مثبت فيه مبين، وقيل: جميع أفعالهم محفوظة عنده { إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل } أي يخبرهم بالصدق { أكثر الذي هم فيه يختلفون } ، قيل: في أمر الأديان، وقيل: في أمر نبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبرهم بسرائر أخبارهم وغوامضها معجزة له لما اطلعه الله عليها { وإنه لهدى } يعني القرآن أهدى دلالة على الحق، يهديكم يرشدكم، ويهديكم إلى الجنة لمن عمل به { ورحمة } أي نعمة { للمؤمنين } { إن ربك يقضي بينهم } بين المختلفين في الدين يوم القيامة { بحكمه } الذي لا يظلم فيه { وهو العزيز } القادر على ما يشاء لا يمتنع عليه شيء { العليم } بأموالهم { فتوكل على الله } في أمرك { إنك على الحق المبين } الواضح { إنك لا تسمع الموتى } يعني الكفار شبههم لقلة انتفاعهم بخبرك { ولا تسمع الصم الدعاء } شبههم بالأصم حيث لم يستعملوا ما ينتفعون به من الحق { إذا ولوا مدبرين } عن الحق { وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم } شبههم بالموتى ثم بالأصم الذين لا يسمعون وشبهوا بالعمي حيث لم يصل الطريق ولا يقدر أحد أن ينزع عنهم ويجعلهم هداة بصراء إلى الله عز وجل { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون } منقادون يعني إنما يسمع الحق من قبله وانتفع به.
[27.82-88]
{ وإذا وقع القول عليهم } يعني وجب العذاب { أخرجنا لهم دابة من الأرض } قال جار الله: جاء في الحديث: أن طولها ستون ذراعا لا يدركها طالب ولا يفوتها هارب، وروي لها أربع قوام وزغب وجناحان، وعن ابن صولج في وصفها: رأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، وقرن ايل، وعنق نعامة، وصدر أسد، ولون نمر، وخاصرة هرة، وذنب كبش، وخف بعير، وما بين العصلين اثنى عشر ذراعا بذراع آدم (عليه السلام)، وروي لا تخرج رأسها، ورأسها يبلغ أعنان السماء أو يبلغ السحاب، وعن أبي هريرة: فيها من كل لون وما بين قرنيها فرسخ للراكب، وعن الحسن: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام والناس ينظرون، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل من أين تخرج الدابة فقال:
" من أعظم المساجد حرمة عند الله يعني المسجد الحرام "
وروي أنها تخرج ثلاث خرجات، وقيل: تخرج من الصفا تكلمهم بالعربية بلسان ذلق { أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } وعن ابن عمر تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ثم تستقبل المشرق ثم الشام ثم اليمن فتعقل قبل ذلك، وروي تخرج من أجياد، وروي أنها تخرج من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان فتكتب المؤمن بين عينيه مؤمن وتكتب الكافر بالخاتم في أنفه وبين عينيه كافر تكلمهم { أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } بخروجي { ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب } يعني جماعة ممن يكذب { بآياتنا فهم يوزعون } يحشرون أولهم على آخرهم فيجمعون إلى موضع الحساب ثم يساقون إلى النار، وقيل: هم الرؤساء والقادة { حتى إذا جاءوا } يوم القيامة إلى المحشر قال الله تعالى لهم: { أكذبتم بآياتي } ، قيل: بالقرآن والساعة أو سائر المعجزات { ولم تحيطوا بها علما } يعني بالجهل جحدتموها، وقيل: لم تعرفونها حق معرفتها { أماذا كنتم تعملون } في الدنيا، وقيل : أراد ذلك يوم القيامة يعني أنعم عليك لتعبدوه فأفنيتم أيامكم في غير شيء فكيف تعملون اليوم لأنفسكم وهذا توبيخ { ووقع القول عليهم } أي وجب الوعيد والعذاب عليهم { بما ظلموا فهم لا ينطقون } بعذر ولا حجة، وقيل: لأن أفواههم مختومة { ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه } من التعب ويستريحون { والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } يصدقون { ويوم ينفخ في الصور } النافخ اسرافيل بأمر الله، قيل: الصور قرن ينفخ فيه { ففزع من في السماوات ومن في الأرض } والمراد فزعهم في النفخة الأولى حتى يصعقون { إلا من شاء الله } إلا من شاء الله من الملائكة قالوا: هم جبريل وميكائيل واسرافيل وملك الموت، وقيل: الشهداء، وقيل: الحور وحملة النار وحملة العرش، وروي أن منهم موسى { وكل أتوه داخرين } صاغرين عن ابن عباس { وترى الجبال } يا محمد أو أيها السامع { تحسبها جامدة } واقفة لا تحرك وهي تسير سيرا حثيثا عن ابن عباس، قيل: { تمر مر السحاب } حتى تقع على الأرض { صنع الله الذي أتقن كل شيء } خلقه { إنه خبير بما تفعلون }.
[27.89-93]
قوله تعالى: { من جاء بالحسنة } من أتى القيامة بحسنات عملها وحفظها، يعني جميع الطاعات { فله خير منها } يعني خير من الحسنة وهو الأمان من العذاب والفوز بالثواب، وقيل: هو الأضعاف فله عشر أمثالها، وعن ابن عباس: قول لا إله إلا الله { وهم من فزع يومئذ آمنون } ، قيل: هو اطباق باب النار على أهلها يفزعون فزعة عظيمة وأهل الجنة آمنون، وقيل: من كل فزع في القيامة { ومن جاء بالسيئة } بالشرك والمعاصي { فكبت وجوههم في النار } يعني يلقون على وجوههم في النار، ويقال لهم على وجه التوبيخ والذم: { هل تجزون إلا ما كنتم تعملون } ، قوله تعالى: { إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة } مكة { الذي حرمها } الله تعالى واختصها من بين سائر البلاد بإضافة إسمه إليها لأنها أحب بلدة إليه وأكرمها عليه وأعظمها عنده، وهكذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين خرج في مهاجرة الحرورة فلما بلغ الحروة فاستقبلها بوجهه الكريم فقال:
" إني أعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجت "
، ووصفها بأنها محرمة لا يهتك حرمتها إلا ظالم، وقيل: إن الله تعالى حرم الاستحقار بها وأوجب التعظيم لها، قوله تعالى: { وله كل شيء } خلقا وملكا { وأمرت أن أكون من المسلمين } { وأن أتلو القرآن } أي أقرأ عليهم القرآن { فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه } لأن نفعه يعود عليه { ومن ضل } يعني ضل عن الدين { فقل إنما أنا من المنذرين } يعني ليس علينا إلا الاعلام { وقل } يا محمد { الحمد لله } على نعمه { سيريكم آياته } ، قيل: أشراط الساعة، وقيل: سيريهم الله من آياته التي تلجئهم إلى المعرفة والإقرار بأنها آيات الله وذلك حين لا تنفعهم المعرفة في الآخرة، وقيل: ما نزل بهم يوم بدر { فتعرفونها } حينئذ { وما ربك بغافل } أي لا يخفى عليه شيء { عما تعملون } فيجازيهم على ذلك.
[28 - سورة القصص]
[28.1-6]
المعنى: { طسم } ، قيل: اسم السورة، وقيل: حرف [اسم] من أسماء الله وقد تقدم الكلام فيه { تلك } إشارة إلى السورة، ومعناه هذه { آيات } القرآن التي وعدتك، وقيل: هذا القرآن هو { الكتاب المبين } { نتلو عليك } أي نقرأ عليك { من نبأ موسى } أي من خبر موسى { وفرعون بالحق } أي بالصدق { لقوم يؤمنون } أي يصدقون بالحق { إن فرعون علا في الأرض } أي تكبر وتجبر { وجعل أهلها شيعا } فرقا وأصنافا، قيل: جعل بني إسرائيل فرقا في أعمالهم، وقيل: في الخدمة والتسخير { يستضعف طائفة منهم } وهم بنو إسرائيل { يذبح أبناءهم } لأنه أخبر أنه يولد فيهم من يكون زوال ملكه على يديه { ويستحيي نساءهم } أي يبقيهن أحياء { إنه كان من المفسدين } { ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض } وهم بنو إسرائيل { ونجعلهم أئمة } قادة، وقيل: دعاة إلى الخير { ونجعلهم الوارثين } للنبوة والحكم { ونمكن لهم في الأرض } يعني أرض مصر والشام بعد هلاك قوم فرعون { ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون } من ذهاب ملكهم وهلاكهم على يدي مولود منهم.
[28.7-11]
{ وأوحينا إلى أم موسى } ، قيل: ألقينا إليها وليس نبوة، وقيل: كان رؤيا منام أن أرضعيه ما دمت آمنة { فإذا خفت عليه فالقيه في اليم } وهو النيل { ولا تخافي } عليه الغرق { ولا تحزني } عليه الضيعة، وقيل: على فراقه { إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين } وروي أنه ذبح في طلب موسى تسعون ألف ولد، وروي أنها حين ضربها الطلق وكانت بعض العقايل الموكلات لأبناء إسرائيل مصافية لها فقالت لها: لينفعني حبك اليوم فعالجتها، فلما وقع على الأرض هالها نور بين عينيه وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها ثم قالت لها: ما جئتك إلا قبل مولودك واخبر فرعون، ولكني وجدت لابنك حبا ما وجدت مثله فاحفظيه، فلما خرجت جاء عيون فرعون فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور ولم تعلم ما تصنع لما طاش من عقلها، فطلبوا فلم يلقو شيئا، فخرجوا وهي لا تدري مكانه، فسمعت بكاءه من التنور فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما، فلما ألح فرعون في طلب الولدان أوحى الله إليها { فألقيه } ، وروي أنها أرضعته ثلاثة أشهر في تابوت من بردى مغطى بالقار من داخله، وقوله: { فالتقطه آل فرعون } أي أخذه من غير طلب، وذلك أنه جيء به إلى موضع فيه فرعون وامرأته وألقى الله تعالى عليه محبة في قلبها فهم فرعون بقتله فقالت آسية: { لا تقتلوه عسى أن ينفعنا } الآية { ليكون لهم عدوا وحزنا } اللام لام العاقبة، أي أخذه ليكون قرة عين فكان لهم عدوا وحزنا، قال الشاعر:
لدوا للموت وابنو للخراب
....................
{ إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطيئن } { وقالت امرأة فرعون قرة عين لي ولك لا تقتلوه } فإنه أتى من أرض أخرى وليس من بني إسرائيل، وكانوا القوم أشاروا عليه بقتله، وقوله: { عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا } الآية لأنه لم يكن له ولد وهم لا يشعرون أن هلاكهم على يديه { وأصبح فؤاد أم موسى فارغا } والمعنى أنها حين سمعت وقوعه في يد فرعون طار عقلها لما دهمها من فرط الجزع والدهش ونحوه، وقيل: خاليا من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى { إن كادت لتبدي به } أي قريب من أن تظهر، واختلفوا ما الذي تبدي به على قولين: أولهما أنه كناية عن الوحي إن كادت لتبدي بالوحي وما كان من أمره وأمرها { لولا أن ربطنا على قلبها } بإلهام الصبر كما تربط على الشيء، يعني شددنا عليه بالالطاف { لتكون من المؤمنين } من المصدقين بوعد الله وهو قوله: { إنا رادوه إليك } ، ثم ذكر تعالى تدبيره في أمر موسى وتسخير فرعون حين تولى تربيته حتى رده على أمه فقال سبحانه: { وقالت لأخته قصيه } يعني أخت موسى واسمها مريم، يعني اتبعي أثر موسى لنعلم خبره { فبصرت } في الكلام اختصار أي ذهبت فوجدت آل فرعون أخرجوا التابوت وأخرجوا موسى { فبصرت به } وهذا من إعجاز القرآن الدال على الكثير { عن جنب } أي نظرت إليه مذعورة متخافية وهم لا يحسنون أنها اخته.
[28.12-19]
{ وحرمنا عليه المراضع } أي منعناه، وقيل: كره اليه ألبان النسوان، والمراضع جمع مرضع وهي المرأة التي ترضع { من قبل } قصصها أثره، فلما رأت أخت موسى ذلك { قالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم } ، قوله تعالى: { وهم له ناصحون } يعني لموسى، قال هامان: إنها لتعرفه وتعرف أهله، فقالت: إنما أردت وهم للملك ناصحون، والنصح: إخلاص العمل من شائب الفساد، فانطلقت إلى أمها بأمرهم فجاءت بها والصبي على يد فرعون وهو يبكي، فطلب الرضاع، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها فقال فرعون: ومن أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ قالت: امرأة طيبة الريح وطيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني، فدفعه إليها وأجرى عليها وذهبت به إلى بيتها وأنجز الله وعده في الرد { فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون } من تحقيق ذلك الوعد، ثم بين تعالى حديث موسى بعدما شب سنة خروجه من مصر فقال سبحانه: { ولما بلغ أشده } ، قيل: كمال قوته في البدن والعقل، وقيل: الأشد ثلاثون سنة، وقيل: أربعون { واستوى آتيناه حكما وعلما } أعطيناه حكما وعلما قيل: النبوة والعلم، وقيل: فهما وعقلا، وقيل: هو علوم الشرائع { وكذلك نجزي المحسنين } { ودخل المدينة } يعني موسى دخل مدينة مصر، وقيل: أرض مصر { على حين غفلة من أهلها } ، قيل: وقت القائلة، وقيل: يوم عيد لهم قد اشتغلوا بلعبهم، وقيل: بين المغرب والعشاء { فوجد فيها رجلين يقتتلان } ، قيل: كانت خصومتهما الدين وقيل: في أمر الدنيا { هذا من شيعته } ممن شايعه على دينه { وهذا من عدوه } كان كافرا { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه } يعني الإسرائيلي استغاث موسى على القبطي لأنه علم منزلته من بني إسرائيل ولم يعلم الناس إلا من قبل الرضاعة فقال موسى للقبطي: خلي سبيله، فقال: إنما أخذته ليحمل الحطب إلى مطبخ أبويك، فتنازعا { فوكزه موسى } أي دفع في صدره بجميع كفه، وقيل: الوكز بأطراف الأصابع { فقضى عليه } وروي أن موسى لم يتعمد لقتله ولكن قصد لتخليص المؤمن من يد الكافر، وروي أنه لم يبح قتل الكافر حينئذ { قال هذا من عمل الشيطان } أي من اغوائه ووسوسته { إنه عدو } لبني آدم { مضل } الكافر بوسوسته { مبين } ظاهر العداوة { قال رب إني ظلمت نفسي } ، قيل: كان ذلك صغيرة لزمه التوبة، وقيل: ظلمت نفسي في هذا القتل فإنهم يقتلوني { فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم } { قال رب بما أنعمت علي } النعم دينا ودنيا { فلن أكون ظهيرا للمجرمين } أي معينا { فأصبح في المدينة } في اليوم الثاني { خائفا } من قتل القبطي { يترقب } ينتظر الأخبار { فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه } وذلك أنه لما فشى أمر القتل قيل لفرعون: إن بني إسرائيل قتلوا منا رجلا فقال: أتعرفون قاتله؟ ومن شهد عليه؟ وأمرهم أن يطلبوه، فصاح بموسى ف { قال له موسى إنك لغوي مبين } ظاهر الغواية ولم يرد أنه غوي في الدين وإنما أراد من خاصم آل فرعون مع كفرهم فإنه غوي، وقيل: بل قال للقبطي إنك لغوي مبين بطلبك وسخرك إياه ثم أراد موسى (عليه السلام) نصر الإسرائيلي فقال سبحانه: { فلما أراد أن يبطش } أن يأخذ بشدة { بالذي هو عدو لهما } يعني القبطي فقال: { أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ان تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض } بالقتل والظلم { وما تريد أن تكون من المصلحين } فانطلق إلى فرعون وأخبره به وأمر فرعون بقتل موسى.
[28.20-25]
قوله تعالى: { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى } ، قيل: كان من شيعة موسى فسلك طريقا قريبا فسبقهم إلى موسى وأخبره بالخبر وأنذره، وقيل: هو من آل فرعون، وقيل: اسمه شمعون، وقيل: كان ابن عم فرعون فأقبل يسعى سريعا لينذره ف { قال يا موسى إن الملأ } أي الأشراف من قوم فرعون { يأتمرون بك } يتشاورون في قتلك { فاخرج } من أرض مصر { إني لك من الناصحين } في هذا، ثم بين تعالى خروجه من مصر إلى مدين فقال سبحانه: { فخرج } موسى من المدينة { خائفا } من قوم فرعون أن يأخذوه ويقتلوه بالقبطي { يترقب } ينتظر { قال رب نجني من القوم الظالمين } يعني من فرعون وقومه { ولما توجه تلقاء مدين } أي أقبل بوجهه على ناحية مدين قاصدا لها، وقيل: لما خرج من مصر لم يدر أين يذهب فأخذ في طريق عنده أنها توديه إلى مدين وهي مدينة شعيب { قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } يعني وسط الطريق، وروي أن بين مصر ومدين مسيرة ثمان، وكان موسى (عليه السلام) لا يعرف إليها الطريق قيل: لما دعا الله سبحانه دله على الطريق حتى ورد ماء مدين، وقيل: جاءه ملك فانطلق به إلى مدين { ولما ورد ماء مدين } بئرا كانت { وجد عليها أمة من الناس يسقون } أي جماعة يسقون مواشيهم { ووجد من دونهم امرأتين تذودان } الناس عن مواشيهما، وقيل: يكفان الغنم أن تختلط بأغنام الناس، وقيل: يمنعان غنمهما عن الماء حتى يصدر الرعاء ويحلو لهما البئر ثم يسقيان وذلك لضعفهما، قال الحاكم: وهو الوجه { قال } لهما موسى { ما خطبكما } أي ما شأنكما لا تسقيان مع الناس؟ { قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير } أي هو لا يقدر أن يتولى ذلك بنفسه فإنا لا نختلط بالرجال، وقيل: لا نطيق السقي، فلما سمع موسى كلامهما رحمهما وسقى لهما غنمهما، وروي أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقلبه إلا سبعة رجال، وقيل: عشرة: وقيل: أربعون، وقيل: مائة فقلبه وحده، وروي أنه سألهم دلو من الماء فأعطوه وقالوا: استق بها وكان لا ينزعها إلا أربعون فاستقى بها وصبها في الحوض ودعا بالبركة، وروي أنه دفعهم عن الماء حتى سقى لهما وإنما فعل هذا رغبة في المعروف وإغاثة للملهوف مع ما كان به من النصب والجزع { ثم تولى إلى الظل } ، قيل: ظل شجرة { فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } ، قيل: أدركه جوع شديد، ويحتمل أن يريد أني محتاج إلى الدنيا لأجل ما أنزلت إلي من خير الدين وهو النجاة من الظالمين، وروي أنهما لما رجعا إلى أبيهما قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا وسقى لنا، قال لإحداهما: إذهبي فادعيه لي، فتبعها موسى وقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق، وقوله تعالى: { تمشي على استحياء } من موسى، وروي أنها كانت تمشي عادلة عن الطريق { فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف } سلطان فرعون في أرضنا { نجوت من القوم الظالمين } وقد روي أنها لما قالت: { ليجزيك أجر ما سقيت لنا } كره ذلك ولما قدم اليه الطعام امتنع وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بطلاع الأرض ذهبا ولا نأخذ على المعروف ثمنا، حتى قال شعيب: هذا عادتنا مع كل من نزل بنا.
[28.26-29]
{ قالت إحداهما يا ابت استأجره } لما رأت أمانته وقوته رغبت فيه قالت إحدى ابنتي الشيخ: يا أبت استأجره، قيل: هي التي تزوجها { إن خير من استأجرت القوي الأمين } { قال } الشيخ لموسى: { إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } ، قيل: الصغيرة، وقيل: الكبيرة صفراء والصغيرة صفيرا { على أن تأجرني } يعني على أن تكون أجيري { ثماني حجج } ، قيل: جعل مهر بنته هذا الذي عقد عليه، وقيل: بل زوجه بمهر واستأجره للرعاء ولم يجعل ذلك مهرا، ولكن شرط ذلك عليه { فإن أتممت عشرا } فمن عندك أي أنت متبرع به { وما أريد أن أشق عليك } أي أضيق { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } ، قيل : من الموفين بالعهد فقال موسى (عليه السلام): { ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت } وفية العشر أو الثمان { فلا عدوان علي } ، قيل: لا حجة، وقيل: حتى أطالب بزيادة { والله على ما نقول وكيل } قيل: شهيد وحافظ { فلما قضى موسى الأجل } وهو عشر سنين، وروي أنه وقف عنده عشرين سنة واستأذنه في الغدو إلى مصر ليزور والدته وأخاه فأذن له ف { سار بأهله } ، وقيل: لما قضى العشر سار بأهله وعياله وماله فأخذ على طريق متوجها نحو الشام وامرأته في شهرها فسار في البرية غير عارف بالطريق وألجأه السير إلى جانب الطور الأيمن في ليلة مظلمة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق وضل الطريق وتفرقت ماشيته وأصابه المطر والبرد فبقي لا يدري أين يتوجه فبينما هو كذلك إذ رأى نارا فقال سبحانه: { آنس } أي رأى أبصر { من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا } أقيموا ها هنا فإني رأيت نارا { لعلي آتيكم منها بخبر } من الطريق أو أجد من يدلني عليها { أو جذوة } بل شعلة { من النار لعلكم تصطلون } أي تستدفئون بالنار فيذهب البرد الذي أصابكم.
[28.30-38]
{ فلما أتاها } يعني موسى النار قرب منها { نودي } { يا موسى } أي أتاه النداء من شاطئ الوادي قيل: من طريق الوادي الأيمن في البقعة المباركة، قيل: كانت مباركة لكثرة الأشجار والثمار والخير والنعم، وقيل: لأنها معدن الخير والرسالة، وقيل: مباركة في الدين والدنيا من الشجرة، يعني كان الكلام مسموعا من الشجرة وذلك معجزة لموسى كما خلق السح في الحجر في يد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معجزة له { أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين } ثم بين حال موسى لما أتى الطور فقال سبحانه: { وأن ألق عصاك } وهذا أمر بالإلقاء { فلما رآها تهتز } تحرك { كأنها جان } والجان الحية الصغيرة والثعبان الحية العظيمة قيل: انقلبت بإذن الله ثعبانا عظيما كأنها جان في سرعة حركتها { ولى مدبرا ولم يعقب } لم يرجع إلى ذلك الموضع الذي هرب منه فنودي أن { يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين } وروي أن آدم (عليه السلام) هبط بالعصا من الجنة ولم يزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب ثم إلى موسى، وقيل: أخذها جبريل بعد موت آدم وكانت معه حتى لقى بها موسى ليلا، وقيل: أودعها شعيبا ملك في صورة رجل فأمر بنته أن تأتيه بعصا فأتت بها فردها سبع مرات فلم يقع في يدها غيرها فدفعها إليه ثم ندم لأنها وديعة فتبعه فاختصما فيها ورضيا أن يحكم بينهما أول طالع فأتاهما الملك فقال: ألقياها فمن رفعها فهي له، فعالجها الشيخ فلم يطقها ورفعها موسى، وعن الحسن: ما كانت إلا عصا من الشجر، وروي أنها من الشجرة التي نودي منها { اسلك يدك في جيبك } ، قيل: كان عليه قميصا بلا كم { تخرج بيضاء من غير سوء } ، قيل: كانت كالقمر من غير برص { واضمم اليك جناحك } ، قيل: يدك، قيل: أمره أن يضم يده إلى صدره ليذهب ما ناله من الخوف، وقيل: هو استعارة فإن الطائر إذا خاف لم يلزم موضعه ولم يضم جناحه وإذا أمن ضم جناحه فجعله مثلا { فذانك برهانان } أي العصا واليد برهانان أي حجتان { إلى فرعون وملائه إنهم كانوا قوما فاسقين } { قال } موسى { رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون } { وأخي هارون } هو أفصح { مني لسانا } وإنما قال ذلك للعقدة التي كانت في لسانه { فأرسله معي ردءا يصدقني } يعني هارون على قوله، وقيل: يصدقني فرعون { إني أخاف أن يكذبون } { قال سنشد عضدك بأخيك } وهذا استعارة حسنة، والمراد نقويك به ونعينك { ونجعل لكما سلطانا } حجة بينه { فلا يصلون إليكما } أي لا يقدرون أن يصلوا إليكما { أنتما ومن اتبعكما الغالبون } القادرون { فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر } تمويه وتخييل { مفترى } مختلق، قوله تعالى: { وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } مثل عاد وثمود وغيرهم من استهزاء بالنبيين وقلدوا آبائهم ف { قال موسى } مجيبا لهم { ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده } وهو التوحيد والعدل، وقيل: الحق من الباطل { ومن تكون له عاقبة الدار } أي العقبى المحمودة { إنه لا يفلح الظالمون } أي لا يظفر بطلبه من ظلم الناس، وقيل: من ظلم نفسه، فلما رأى فرعون ما لم يكن عنده جواب أخذ في التلبيس، وقال: { يا أيها الملأ } أشراف قومه { ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين } قال جار الله: لما أمر فرعون هامان ببناء الصرح جمع هامان العمال حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير، فشيدوه حتى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق، وكان الباني لا يقدر أن يقوم على رأسه يبني، فبعث الله جبريل عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع: وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، ووقعت قطعة في البحر، وقطعة في المغرب، ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك، ويروى في هذه القصة أن فرعون لعنه الله ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء، فأراد الله أن يفتنه فردت إليه وهي ملطخة بالدم، فقال: قد قتلت رب موسى، فعندها بعث الله جبريل لهدمه والله أعلم بصحته، وقوله: { وإني لأظنه من الكاذبين } ، قيل: إنما شك لما رأى المعجزات وقبل كان جاهلا بالصانع.
[28.39-44]
{ واستكبر هو وجنوده } أي تعظموا أن يقبلوا الحق { في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون } { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم } في البحر فأغرقناهم فيه قيل: نيل مصر، وقيل: من وراء مصر { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } { وجعلناهم أئمة } أي قادة رؤساء { يدعون إلى النار } ، قيل: أنه يأمر الملائكة أن يقودوهم إلى النار وقومهم يتبعونهم فيصيرون في حكم القادة، وقيل: هو في الدنيا، ومعنى جعلناهم حكمنا أنهم رؤساء الضلالة لأنهم يدعون إلى النار، يعني الأفعال التي بها تستحق النار { ويوم القيامة لا ينصرون واتبعناهم في هذه الدنيا لعنة } إلى آخر الدهر وذلك قوله تعالى:
الا لعنة الله على الظالمين
[هود: 18]، وقيل: هو من ذكرهم من المؤمنين وغيرهم لعنهم { ويوم القيامة هم من المقبوحين } ، قيل: من المشهورين الخلقة بسواد الوجوه وزرق الأعين، وقيل: من المهلكين { ولقد آتينا موسى الكتاب } يعني التوراة { من بعد ما أهلكنا القرون الأولى } يعني جماعات من كان قبله من الكفار كقوم نوح وعاد وثمود بصائر قيل: هو صفة لهلاكهم يعني جعلنا هلاكهم عظة وبصيرة يستدل بها العاقل على قبح أفعالهم، وهذا دلالة لمن تبعه واقتدى به ورحمة لمن آمن به، وقيل: جعلنا فيه { وهدى ورحمة } أي بيانا لطريق رشدهم في الدنيا والآخرة { لعلهم يتذكرون } فيه { وما كنت بجانب الغربي } ، قيل: أراد جانب الوادي الغربي، وقيل: غربي الجبل وهو الموضع الذي كلم الله فيه موسى وأرسله إلى فرعون { إذ قضينا إلى موسى } الأمر فصلنا الأمر بما أمرناه به وقومه { وما كنت من الشاهدين } ، قيل: من الحاضرين هناك ولكن أوحينا إليك بذلك.
[28.45-55]
{ ولكنا أنشأنا قرونا } أي خلقنا وأحدثنا جماعات { فتطاول عليهم العمر } على آخرهم وهو القرآن الذي أنت فيهم، أي أمد انقطاع الوحي واندرست العلوم فوجب إرسالك اليهم فأرسلناك وكسبناك العلم بقصص الأنبياء وقصة موسى، كأنه قال: وما كنت شاهدا لموسى وما جرى عليه ولكنا أوحينا إليك بذلك، وقيل: خلقنا خلقا كثيرا وقلنا لهم صفتك ونعتك وأمرنا الأول بإبلاغ الثاني فأمدهم الزمان فنسوا عهد الله فيهم فلم يصدق الآخر الأول في نعتك وصفتك { وما كنت ثاويا } مقيما { في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا } يعني ما كنت مقيما في أهل مدين شاهدا بتلك الأحوال فلولا الوحي ما علمك ذلك { ولكنا كنا مرسلين } إياك فعرفت من أمر شعيب ما عرفت من موسى { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } أي ما حضرت الطور حين كلم موسى (عليه السلام) بحضرة السبعين { ولكن رحمة من ربك } يعني نعمة أنعمها عليك بأن بعثناك نبيا { لتنذر قوما ما آتاهم من نذير من قبلك } وهم أهل مكة، وقيل: القرون الذي بعث إليهم { لعلهم يتذكرون } { ولولا أن تصيبهم مصيبة } عقوبة قيل: عذاب الدنيا والآخرة { بما قدمت أيديهم } من المعاصي { فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك } أي كنا نتبع الرسل { ونكون من المؤمنين } المصدقين { فلما جاءهم الحق من عندنا } ، قيل: محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والقرآن والإسلام { قالوا } الآية يعني كفار مكة قالوا ذلك، وقيل: مشركي العرب كفروا بالتوراة والقرآن، وقيل: هم الذين كانوا زمان موسى قالوا: كفرنا بما أتيت به { قل } يا محمد { فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما } يعني كتاب موسى ومحمد { إن كنتم صادقين } { فإن لم يستجيبوا لك } أي لم يجيبوا في ذلك ولم يأتوا بحجة { فاعلم إنما يتبعون أهواءهم } وهو تقليد السلف وما تهوى أنفسهم قوله تعالى: { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } أي من غير بيان وهداية { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } ، قيل: لا يهديهم إلى الجنة والثواب، وقيل: لا يلطف { ولقد وصلنا لهم القول } ، أي بينا، وقيل: وصلنا خير الدنيا بخير الآخرة حتى كأنهم عاينوا، وقيل: وصلنا الأمر والنهي والوعد والوعيد والمواعظ أي كررنا، وقيل: وصلنا لهم القول بما أهلكنا من القرون وأخبرناهم بأنا أهلكنا قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم { لعلهم يتذكرون } عاقبة ما نزل بهم { الذين آتيناهم الكتاب } نزلت في مؤمني أهل الكتاب، وقيل: في أربعين من أهل الانجيل اثنان وثلاثون جاؤوا مع جعفر من الحبشة وثمانية من الشام، وقد تقدم ذكرهم في سورة المائدة في قوله:
وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول
[المائدة: 83] الآية { من قبله } من قبل القرآن، والمراد بالكتاب التوراة والانجيل { هم به يؤمنون } يعني الذين أوتوا الكتاب يصدقون { وإذا يتلى عليهم } يعني القرآن { قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين } أي قبل نزول القرآن لأنهم وجدوا في كتبهم صفته فآمنوا به قبل البعث فلما بعث وعاينوه آمنوا به { أولئك يؤتون أجرهم مرتين } أي ضعفين لايمانهم بالكتاب الأول وبالكتاب الآخر، وقيل: الأول قبل البعث وبعده، أو بصبرهم على أذى المشركين وأهل الكتاب، { ويدرؤون بالحسنة السيئة } قيل: بالخير من الكلام يدفعوا العذاب بمجانبة المعاصي، وقيل: الطاعات والتوبة { ومما رزقناهم ينفقون } في سبل الخير والطاعة { وإذا سمعوا اللغو } من المبطلين ما يؤديهم وهو قبيح الكلام { أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكن أعمالكم } أي كل أحد يمادي بفعله { سلام عليكم } قالوا قولا لطيفا حسنا يسلمون من شرهم، وقيل: معناه ليس بيننا كلام، لا نخوض معكم، ولا نريد صحبتكم، وليس هو بسلام تحية وإنما هو سلام متاركة، وقيل: السلام هو الله أي الله شاهد عليكم بما تقولون فيجازيكم { لا نبتغي الجاهلين } ، قيل: مجازاة الجاهلين.
[28.56-60]
{ إنك لا تهدي من أحببت } أي لا تقدر أن تدخل في الاسلام كل من أحببت { ولكن الله يهدي من يشاء } لأن الالطاف تنفع فيه، والآية نزلت في أبي طالب الذي ذكره في الكشاف أنه مات كافر واحتج بالآية، والذي روي في الحاكم أنه أسلم وفي إسلامه إجماع أهل البيت وهم أعلم بأحواله، وكان لأبي طالب عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيادي مشكورة عند الله تعالى، وقد روي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعاه فأسلم ذكره في الحاكم { وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا } الآية نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف قالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إنا نعلم إنما جئت به حق ولكنا نخاف ان اتبعناك تخطفنا العرب لاجتماعهم على اختلافنا ولا طاقة لنا بهم فنزلت، وقالوا يعني الكفار: { إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا } أرض مكة والحرم { أولم نمكن لهم حرما } من دخله كان آمنا، وكانت العرب يقولون أهل مكة آمنون { يجبى اليه } تجمع إليه من كل جهة { ثمرات كل شيء رزقا من لدنا } من عندنا { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن الإسلام بالهدى { وكم أهلكنا من قرية } أي أهل قرية { بطرت معيشتها } أي أشرت وبطرت وكفرت بالله مثل عاد وثمود { فتلك مساكنهم } يعني من لم يصدقك فلينظر إلى آثارهم { لم تسكن من بعدهم إلا قليلا } يعني لم يعمر منها إلا قليل وأكثرها خراب وهم المؤمنون الذين فارقوا البلد حتى عذب الكفار وسكنوها بعدهم { وكنا نحن الوارثين } يعني لم يبق منهم أحد { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا } ، قيل: أم القرى مكة، وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء { يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } فلا نهلكهم مع كونهم ظالمين إلا بعد تأكيد الحجة والإلزام ببعثة الرسل كما قال:
وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون
[هود: 117] { وما أوتيتم من شيء } أي ما أعطيتم من مال ونحوه في الدنيا فهو { متاع الحياة الدنيا } أي يتمتع بها ويتزين بها { وما عند الله } من الثواب { خير وأبقى } لأنه دائم لا يفنى { أفلا تعقلون } أي هلا تعلمون؟!
[28.61-67]
{ أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه } نزلت الآية في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وفي أبي جهل بن هشام، وقيل: نزلت في حمزة..... (عليهما السلام) وفي أبي جهل، وقيل: في عمار والوليد بن المغيرة، والوعد الحسن الجنة وما فيها من النعم { كمن متعناه متاع الحياة الدنيا } يعني زينة الدنيا من الأموال ونحوها { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } للجزاء بالعقاب { ويوم يناديهم } يعني يوم القيامة { فيقول أين شركائي } الذين عبدتموهم فأين هم اليوم لا ينصرونكم؟ وهذا توبيخ وتقريع عند الاشهاد بما يوجب الجزاء، وقيل: المراد بالشركاء الرؤساء وأئمة الضلال بمنزلة طاعتهم لهم { قال الذين حق عليهم القول } أوجب عليهم الوعيد والعقاب قيل: هم الشياطين أو أئمة الضلال { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } اعترفوا بذنوبهم وكان يمكنهم أن لا يتبعونا ويتبعوا الحق، وقيل: تقديره أغويناهم فغووا عنا مثل ما غوينا، يعنون أنا لم نغو إلا باختيارنا ولم يكن الإغواء لهم إلا وسوسة وتسويلا لا قسرا والجاء، فهذا معنى ما حكى الله عز وجل عن الشيطان
إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فاخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي
[إبراهيم: 22] الآية { تبرأنا إليك } منهم ومما اختاروه من الكفر بأنفسهم هوى منهم للباطل ومقتا للحق { ما كانوا إيانا يعبدون } إنما كانوا يعبدون أهواءهم ويطيعون شهواتهم وهذا قول الرؤساء، أي لا ذنب لنا فإنهم وإنما عبدوا الأصنام { وقيل } للكفار { ادعوا شركاءكم } ، قيل: الأصنام على وجه الاستعانة { فدعوهم } للضرورة مبالغة في الخزي والفضيحة { فلم يستجيبوا لهم } أي لم يجيبوا لأنها جماد { ورأوا العذاب } ، قيل: العذاب النازل بهم، وقيل: الجحيم { لو أنهم كانوا يهتدون } ، قيل: تقديره رأوا حين عاينوا العذاب لو كانوا يهتدون، وقيل: لو بمعنى التمني لو كانوا مهتدين في الدنيا، وقيل: لو كانوا بما رأوا من العذاب { ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين } الذين بعثتهم إليكم وهذا أعظم النداء { فعميت عليهم الأنباء يومئذ } أي خفيت عليهم الأخبار والأعذار والحجج يومئذ { فهم لا يتساءلون } ، قيل: لا يجيبون، وقيل: سكوت لا يسأل بعضهم بعضا { فأما من تاب } والتوبة الندم على ما سلف ويعزم على أن لا يعود إلى مثله من فعل قبيح أو ترك واجب { فعسى أن يكون من المفلحين } أي يكون منهم.
[28.68-76]
{ وربك يخلق ما يشاء ويختار } والآية نزلت جوابا لقول الوليد حيث قال:
لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم
[الزخرف: 31] والله تعالى يختار ما هو أصلح لهم والله أعلم بعواقب الأمور، وقيل: يختار للنبوة { ما } يصلح لها ليس لهم أن يختاروا بل يجب أن يتبعوا أمر الله، وقوله: { ما كان لهم الخيرة } بيان لقوله ويختار، والمعنى أن الخيرة لله في أفعاله وهو أعلم بوجوه الحكمة { سبحان الله وتعالى عما يشركون } أي تنزيها عن شريك له في خلقه { وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون } لأنه يعلم الضمائر والسرائر { وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة } أي هو مستحق الحمد في الدارين دائما إلى يوم القيامة { وله الحكم وإليه ترجعون } ثم بين تعالى ما يدل على توحيده فقال سبحانه: { قل } يا محمد لهؤلاء: { أرأيتم ان جعل الله عليكم الليل سرمدا } دائما { إلى يوم القيامة } لا يكون معه نهار { من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون } ما بينه لكم؟ { قل } يا محمد { أرأيتم ان جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه } تستريحون { أفلا تبصرون } { ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه } يعني تسكنوا في الليل { ولتبتغوا من فضله } بالنهار { ولعلكم تشكرون } أي تشكروا هذه النعم، ثم عاد الكلام إلى ذكر القيامة فقال سبحانه: { ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون } انهم شفعاؤكم { ونزعنا } أي أخرجنا { من كل أمة } من أهل عصر وجماعة { شهيدا } ، قيل: هم الأنبياء يشهدون على الناس بالتبليغ وعلى العلماء بالإنذار { فقلنا هاتوا برهانكم } أي حجتكم على صحة ما كنتم عليه من الشرك { فعلموا أن الحق لله } يعني الحق في التوحيد لله، أو علموا أن الحجة كلها لله ولا حجة لهم { وضل عنهم ما كانوا يفترون } أي بطل ما كانوا يكذبون { إن قارون كان من قوم موسى } ، قيل: كان من بني إسرائيل نسبا، وقيل: كان ابن عم موسى، وقيل: كان من قومه ممن آمن به وقبل دينه، وقيل: كان موسى ابن أخيه، وقيل: كان ممن يقرأ التوراة { فبغى عليهم } أي طلب زيادة ليست له، واختلفوا في البغي فقيل: كان بغيه انه كان يستخف بهم ويتكبر عليهم بكثرة ماله وولده، وقيل: كان عاملا لفرعون على بني إسرائيل فكان يبغي عليهم ويظلمهم، وقيل: قصد إلى امرأة بغية مشهورة بذلك وضمن لها مالا على أن تقول أن موسى طلبني الفساد فأجابته إلى ذلك، فجاءت إلى موسى وأرادت أن تقول ذلك فأمسك الله لسانها عنه فجرى على لسانها براءة موسى فقالت: أن قارون ضمن لي مالا على أن أقول لموسى كذا وان موسى بريء الساحة { وآتيناه من الكنوز } يعني أعطيناه من الأموال المدخرة { ما إن مفاتحه } جمع مفتح وهو المفتاح الذي يفتح به { لتنوء } لتثقل، ويقال ناء به الحمل إذا أثقله، والعصبة: الجماعة من العشرة إلى الأربعين، وقيل: ستون، وقد قيل: إن مفاتيح خزائنه حمل ستون بغلا وكانت من الجلود { أولي القوة } أي تلك العصبة لهم { إذ قال له قومه } من بني إسرائيل { لا تفرح } أي.
... { إن الله لا يحب الفرحين } كقوله:
ولا تفرحوا بما آتاكم الله
[الحديد: 23] ولأنه لا يفرح بالدنيا إلا من رضي بها واطمأن إليها وأما من قلبه إلى الآخرة ويعلم أنه يفارق ما هو فيه عن قريب لم تحدثه نفسه بالفرح، والفرحين الأشرين البطرين.
[28.77-82]
{ وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة } من العلم والمال { ولا تنس نصيبك من الدنيا } وهو أن تأخذ منه ما يكفيك ويصلحك، وقيل: ما قدمت بين يديك من الدنيا لا ما خلفته فهو حق للوارث، وقيل: اطلب بدنياك آخرتك فإن ذلك حصن المؤمن منها { وأحسن } إلى عباد الله { كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض } ما كان عليه من الظلم والبغي { إن الله لا يحب المفسدين } أي لا يريد إكرامهم، وقيل: إن القائل موسى: { قال } يعني قارون { إنما أوتيته } أعطيته { على علم عندي } أي على استحقاق لما في العلم الذي فضلت به على الناس وذلك أنه كان أعلم بني إسرائيل بالبراءة، وقيل: هو علم الكيمياء، وقيل: كان موسى (عليه السلام) يعلم علم الكيمياء تعلم قارون منه، وقيل: علم قارون الكيمياء من أخت موسى { أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } ، قيل: الملائكة لا يسألون عنهم لأنهم يعرفونهم بسيماهم، وقيل: لا يسألون لأن الله يعلمها { فخرج على قومه في زينته } ، قيل: خرج ومعه أربعة آلاف على زينته، وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر وعن يمينه ثلاثمائة غلام وعن يساره ثلاثمائة جارية، وقيل: في تسعين ألفا عليهم المعصفرات وهو أول من لبسها { قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون } ، ومن الحسد كقوله:
ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض
[النساء: 32] والحاسد الذي يتمنى أن تكون نعمة صاحبه له { إنه لذو حظ عظيم } في الدنيا، قوله تعالى: { وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها } الكلمة التي تكلم بها العلماء والثواب لأنه في معنى التوبة والجنة { إلا الصابرون } على الطاعة عن الشهوات وعلى ما قسم الله من القليل عن الكثير { فخسفنا به وبداره الأرض } أي أذهبناه وداره في الأرض، وقد قيل : أن قارون كان يؤذي موسى (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، فاستكثره فسخت به نفسه، فجمع بني اسرائيل فقال: أن موسى أرداكم على كل شيء وهو يريد أن يأخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا وسيدنا فمر بما شئت، قال: نبرطل فلانة، فجعل لها ألف دينار، وقيل: طشت من ذهب مملوءة ذهبا، فلما كان يوم عيد لهم قام فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنا وهو غير محصن جلدناه، وإن أحصن رجمناه، فقال قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا، قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فأحضرت فناشدها موسى بالذي فرق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فقالت: كذبوا بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي، فخر موسى ساجدا لله يبكي فأوحى الله إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك، فقال: يا بني إسرائيل إن الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ومن كان معي فليعتزل، فاعتزلوا جميعا غير رجلين ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم الأرض إلى الركب، ثم قال: خذيهم فأخذتهم الى الأوساط، ثم قال: خذيهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بأمه والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه، ثم قال: خذيهم، فانطبقت عليهم، فأوحى الله إلى موسى: ما أقصاك استغاثوك مرارا فلم ترحمهم { فما كان له من فئة } جماعات { ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين } بنفسه { وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس } من المال والزينة، وقيل: من العلم { يقولون ويكأن } يعني ألم تعلم، وقيل: هي كلمة ابتدأ بها وتحقيق أن { الله يبسط الرزق لمن يشاء } أي يوسع على من يشاء { ويقدر } يضيق على من يشاء بحسب المصلحة { لولا أن من الله علينا لخسف بنا } يعني لولا أن من الله علينا بالإيمان لخسف بنا بما تمنيناه من منزلة قارون { ويكأنه لا يفلح الكافرون } أي لا يظفر تبعيته.
[28.83-88]
{ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض } أي تكبرا وتجبرا { ولا فسادا } إنفاقا في وجوه الظلم، وقيل: عملا بالمعاصي { والعاقبة للمتقين } أي العاقبة المحمودة وهي الجنة للمتقين { من جاء بالحسنة } أي من عمل حسنة { فله خير منها } قيل: ثوابها خير منها { ومن جاء بالسيئة } بالمعاصي { فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون } أي لا يزاد في عقابهم على قدر المستحق { إن الذي فرض عليك القرآن } قيل: أنزل عليك، وقيل: فرض عليك العمل بالقرآن، والآية نزلت في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وذلك لأنه لما هاجر وبلغ الجحفة مقاربا مكة والمسجد الحرام بكى فبشره الله تعالى بهذه الآية إنه يرده إلى مكة ظاهرا على قومه { إلى معاد } قيل: معاد الرجل بلده لأنه ينصرف ثم يعود، وقيل: إلى الموت، وظاهره أنه يقتضي العود إلى مكة { قل } يا محمد { ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين } أي ظاهر { وما كنت ترجو أن يلقى اليك الكتاب إلا رحمة من ربك فلا تكونن ظهيرا للكافرين } أي عونا لهم { ولا يصدنك عن آيات الله بعد إذ أنزلت إليك } أي يصرفنك هؤلاء القوم عن القرآن ودين الله إنزاله عليك { وادع إلى ربك } إلى توحيده وعبادته { ولا تكونن من المشركين } { ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه } يعني وانه { له الحكم } قيل: الحكم يوم القيامة حيث لا حكم لأحد غيره، وقيل: القضاء النافذ في خلقه { وإليه ترجعون }.
[29 - سورة العنكبوت]
[29.1-6]
قوله تعالى: { الم } { أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } الآية نزلت في عمار بن ياسر وكان يعذب في الله، وقيل: نزلت في أناس كانوا بمكة من المسلمين وكتب اليهم من في المدينة أنه لا يقبل منكم الإقرار بالشهادة حتى تهاجروا فخرجوا فردهم المشركون فنزلت هذه الآية فبعثوا بها اليهم فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوا فمنهم من قتل ومنهم من نجا، وقيل: نزلت في مهجع مولى عمرو كان أول من قتل من المسلمين يوم بدر فجزع أبوه وامرأته فنزلت الآية فقال (عليه السلام):
" سيد الشهداء مهجع "
وقيل نزلت في هشام بن المغيرة المخزومي ارتد عن الإسلام ولم يحتمل أذى المشركين بمكة، وقوله: { الم } اسم السورة، وقيل: إشارة إلى حروف القرآن، وقيل: هو ابتداء أسماء الله { أحسب الناس } أي ظنوا يعني الذين أصابهم محن الدنيا فجزعوا أن يتركوا بغير اختبار { أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } أي لا يختبرون، يعني يعاملون معاملة المختبر، وقيل: معناه أن لا يمتحنوا بعد إظهار الإسلام كلا بل يمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب، وقيل: يفتنون في أموالهم وأنفسهم، وقيل: يصابون بشدائد الدنيا والأولى حمله عن الجميع { ولقد فتنا الذين من قبلهم } أي من قبل أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } بظهور المعلوم { أم حسب الذين يعملون السيئات } يعني الكبائر والمعاصي { أن يسبقونا } أي يفوتونا فوت السابق للغير ولا يقدر على أخذهم والانتقام منهم { ساء ما يحكمون } أي بئس حكما حكمهم { من كان يرجو لقاء الله } يعني من يطمع في ثواب الله، وقيل: من كان يعلم ويؤمن بلقاء الله { فإن أجل الله لآت } وهو الموعد للجزاء والبعث { وهو السميع } لأقوالكم { العليم } بضمائركم { ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه } وهو جهاد العدو وجهاد النفس، يعني لأنه يقع له الثواب والجنة والغنيمة في الدنيا والآخرة { إن الله لغني عن العالمين } يعني عن خلقه وأعمالهم.
[29.7-13]
قوله تعالى: { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم } قيل: ذنوبهم بالتوبة، وقيل: الصغائر { ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون } يعني نجزيهم أحسن أعمالهم وهو الذي أمر الله تعالى في العبادات { ووصينا الإنسان بوالديه } الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص آمن فقالت أمه بنت أبي سفيان: لا يظلني سقف ولا آكل ولا أشرب حتى تكفر بمحمد فأتى سعد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسأله عن ذلك فقال:
" أحسن اليهما ولا تطعهما "
وقوله: { ووصينا الإنسان } أي أمرناه بوالديه أن يحسن إليهما { وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم } أي لا علم لك بالإلهية، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم كأنه قال: لتشرك بي ما لا يصح أن يكون إلها { فلا تطعهما } في ذلك { إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون } من خير وشر { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين } في زمرتهم { ومن الناس من يقول آمنا بالله } الآية نزلت في المؤمنين الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر فارتدوا، وقيل: نزلت في قوم ردهم المشركون إلى مكة، وقيل: هم أناس كانوا يؤمنون بألسنتهم فإذا مسهم أذى من الكفار وهو المراد بفتنة الناس كان ذلك صرفا لهم عن الايمان كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر فإذا نصر الله المؤمنين وغنموهم اعترضوهم، وقالوا: { إنا كنا معكم } أي تابعين لكم في دينكم ثابتين عليه فأعطونا نصيبا من المغنم، ثم أخبر سبحانه بأنه أعلم { بما في صدور العالمين } من الإخلاص في الايمان والنفاق { وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين } وعيد لهم فعلم المؤمن مؤمنا لوجود الايمان ونعلم المنافق منافقا لوجود النفاق، وقيل: يميز الله المؤمن من المنافق، فوضع العلم موضع التمييز لأنه بالعلم يميز بينهم { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا } الآية نزلت في كفار قريش قالوا للذين أسلموا مثل حسان: إن كنتم تخافون العذاب فنحن نحمله عنكم، فنزلت الآية تكذيبا لهم، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفة العامة وجهلتهم { ولنحمل خطاياكم } أوزاركم وذنوبكم { وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء } لأن الله تعالى هو المعذب فلا يعذب أحدا بذنب أحد { إنهم لكاذبون } في قولهم { وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم } قيل: يحملون أوزارهم وخطاياهم في أنفسهم ويحملون الذين ظلموا بها غيرهم نحو قوله:
ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم
[النحل: 25] وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" من سن سنة سيئة فعليه وزرها ومثل وزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا ومن سن سنة حسنة فله أجرها ومثل أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئا "
{ وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } وذلك سؤال توبيخ وتبكيت لا سؤال استعلام، عما يفترون: يكذبون.
[29.14-23]
{ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما } كان عمر نوح (عليه السلام) ألفا وخمسين سنة، قالوا: بعث على رأس أربعين سنة ولبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة وعاش بعد الطوفان ستين سنة، وعن وهب: أنه عاش ألف وأربعمائة سنة { فأخذهم الطوفان } ما أطاف أو أحاط بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام ليل ونحوها { وهم ظالمون } لأنفسهم { فأنجيناه وأصحاب السفينة } كانوا ثمانية وسبعون نفسا نصفهم ذكور ونصفهم إناث منهم أولاد نوح سام وحام ويافث ونساءهم، وقيل: كانوا عشرة خمسة رجال وخمسة نسوة، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" كانوا ثمانية نوح وأهله وبنوه الثلاثة "
، ف { جعلناها } السفينة أو الجارية { آية } أي عبرة { للعالمين } للخلق على توحيد الله وصدق نبيه، ثم بين تعالى قصة إبراهيم فقال سبحانه: { وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه } يعني وحدوه واتقوا معاصيه، أو اتقوا عذابه { ذلكم } أي ما تؤمرون به من الدين { خير لكم إن كنتم تعلمون } وجه الدلالة والتفكر { إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا } واختلاقهم تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله وشفعاء إليه { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا } لأنها لا تقدر على شيء من النعم فلا تستحق العباده { فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه } وحدوه { واشكروا له إليه ترجعون } إلى حكمه تصيرون يوم القيامة { وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم } وإن يكذبوك بما جئت به { فقد كذب أمم } من قبلهم فأهلكوا { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } أي أداء الرسالة وبذل النصيحة والدعاء إلى الدين المبين الواضح الظاهر { أولم يروا } قيل: ألم يعلموا { كيف يبدئ الله الخلق } أي هلا تفكروا في ابتداء خلق الله { ثم يعيده إن ذلك على الله يسير } لا تعب عليه فيه ولا نصب فإن من قدر على ذلك قدر على إرسال الرسل والمعجزات { قل } يا محمد لهم { سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق } ما ينشأ من الأشجار والنبات وسائر الحيوانات وغيرها فمن قدر عليها قدر على الإعادة { ثم الله ينشئ النشأة الآخرة } يعيدهم بعد فنائهم { إن الله على كل شيء قدير } فيفعل ما يشاء { يعذب من يشاء } وهو من استحق العذاب من الكافرين والفاسقين { ويرحم من يشاء } من أهل طاعته { وإليه تقلبون } تردون وترجعون، قوله تعالى: { وما أنتم بمعجزين } ربكم أي تفوتونه، أي هربتم من حكمه وقضائه في الأرض الفسيحة { ولا في السماء } التي أفسح منها وأبسط لو كنتم فيها كقوله تعالى:
إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا
[الرحمن: 33] وقيل: ولا من في السماء { وما لكم من دون الله } أي ليس سوى الله أحد يتولى نصرهم ونجاتهم من العذاب { والذين كفروا بآيات الله } قيل: بالقرآن، وقيل: سائر الحجج { ولقائه } ولقاء جزائه يوم البعث { أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب اليم }.
[29.24-27]
{ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه } لما أعجزتهم الحجة عدلوا إلى الوعيد والحريق، وهكذا حال الجاهلية والمبتدعة إذا أعيتهم الحجة عدلوا إلى السفاهة والوعيد { فأنجاه الله من النار } أي خلصه من الحريق، وروي أنه لم ينتفع في ذلك اليوم بالنار يعني يوم ألقي في النار وذلك لذهاب حرها { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } أي في نجاته في النار وهو في وسطها حجة على نبوته، وخص المؤمنين لأنهم ينتفعون بها ويتفكرون { وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا } يعني الذين اتخذتم هذه الأوثان وعبدتموها مودة بينكم تعاقبون على عبادتها، وقيل: إنكم لم تعبدوها بحجة وإنما عبدتموها اتباعا لأسلافكم ورؤسائكم لتدوم بينكم المودة في الدنيا { ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض } قيل: يتبرأ المعبود من عبادتها والعابدون من معبودها وهو الاتباع من المتبوعين والمتبوع من الاتباع وصار بعضكم أعداء لبعض { ويلعن بعضكم بعضا } أي يدعو بعضكم على بعض { ومأواكم النار } أي يصدكم إلى النار { وما لكم من ناصرين } ثم عطف تعالى قصة لوط، قوله تعالى : { فآمن له لوط } وهو ابن أخت إبراهيم وهو أول من آمن له حين رأى النار لم تحرقه { وقال } يعني إبراهيم { إني مهاجر } من كوثى وهو سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى فلسطين، ومن ثم قال: لكل نبي مهاجر ولإبراهيم مهاجران، وكان معه في هجرته لوط وامرأته سارة وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة { إلى ربي } إلى حيث أمرني بالهجرة إليه { إنه هو العزيز } الذي يمنعني من أعدائي { الحكيم } الذي لا يأمرني إلا بما هو مصلحتي { ووهبنا له اسحاق } أي أعطيناه إسحاق وهو ابنه من سارة { ويعقوب } ابن اسحاق { وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب } التوراة والإنجيل والزبور والفرقان { وآتيناه أجره في الدنيا } الثناء الحسن والولد الصالح { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } أي معهم وفي جملتهم وهم الأنبياء.
[29.28-35]
{ ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة } قيل: القبيح الشنيع { ما سبقكم بها من أحد من العالمين } أي من الخلق، أي أنتم أحدثتم هذه الفاحشة، ثم فسر الفاحشة فقال: { أئنكم لتأتون الرجال } في أدبارهم { وتقطعون السبيل } وكانوا يقطعون الطريق لأخذ أموال الناس، وقيل: للعمل الخبيث لأنهم كانوا يطلبون الغرباء، وقيل: الولد بإتيان الذكور { وتأتون في ناديكم المنكر } أي مجالسكم، ناديته: جالسته، قيل: كانوا يجامعون في المحافل كفعل الحمير، وقيل: المضارطة، وروي لعب الحمام والصقر والحذف والسواك في المجلس، وروي عنه أن قوم لوط كانوا يجلسون وعند كل رجل منهم قصعة فيها حصى فإذا مر بهم عابر سبيل حذفوه فأيهم أصابه كان أولى به، وقيل: السخرية بمن مر بهم، ولا يقال للمجلس نادي إلا ما دام فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يبق ناديا، ومنه عمل القمار والصفح [الصعق] وضرب المعازف والمزامير وكشف العورات، فلما نهاهم وهداهم أجابوه جواب الجهال فقال تعالى: { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين } فعند ذلك دعا عليهم، ف { قال رب انصرني على القوم المفسدين } فأجاب الله دعاءه فقال سبحانه: { لما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى } لما بعث الملائكة بإهلاك قوم لوط دخلوا على ابراهيم أولا فبشروه بإسحاق ويعقوب فقالوا لإبراهيم: { إنا مهلكوا أهل هذه القرية } يعني قوم لوط { إن أهلها كانوا ظالمين } وهي قرية سدوم فقال إبراهيم: { قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها } قيل: أراد إبراهيم كيف تهلك القرية وفيها لوط؟ فقالت الملائكة: { نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله } يعني نخلص لوطا بإخراجه منها { إلا امرأته كانت } كافرة { من الغابرين } الباقين في العذاب { ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم } يعني خاف الملائكة لوطا ظن أنهم من الإنس لأنهم جاؤوه على صورة الإنس { سيء بهم } قيل: بالملائكة ساءه مجيئهم لما جاؤوه في أحسن صورة لما يعلم من خبث قومه وأفعالهم الشنيعة { وضاق بهم ذرعا } أي ضاقت حيله، وقيل: ضاق قلبه وناله وباله الغم فلما رأت الملائكة حزنه وضيق صدره { وقالوا لا تخف } علينا وعليك { ولا تحزن } بما يفعله قومك { إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين } الباقين في العذاب { إنا منزلون على أهل هذه القرية } وهي سدوم { رجزا من السماء } وهي الحجارة التي أمطرت عليهم { بما كانوا يفسقون } أي بفسقهم وخروجهم عن أمر الله تعالى { ولقد تركنا منها آية بينة } حجة واضحة قيل: هي آثار منازلهم الخربة، وقيل: بقية الحجارة، وقيل: الماء الأسود على وجه الأرض، وقيل: الخبر عما صنع بهم { لقوم يعقلون } أي يستمعون عقولهم فيتفكرون.
[29.36-45]
قوله تعالى: { وإلى مدين أخاهم شعيبا } أي وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا، قيل: مدين قرية، والمراد أرسلنا إلى أهل مدين فكذبوا مدين شعيبا بعد ما أمرهم بالعدل والتوحيد { فقال يا قوم اعبدوا الله } وحدوه { وارجوا اليوم الآخر } واخشوا اليوم الآخرة وما فيه من العذاب { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } أي لا تسعوا في الأرض بالفساد { فكذبوه } بما به { فأخذتهم الرجفة } الزلزلة وعقاب يوم الظلة { فأصبحوا في دارهم جاثمين } قيل: كبوا على وجوههم هالكين، وقيل: جاثمين على ركبهم في بيوتهم، وقيل: صيحة جبريل لأن القلوب رجفت بها { في دارهم } بلدهم وأرضهم { جاثمين } باركين على الركب { وعادا } هم قوم هود أي وأهلكنا عادا { وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم } يعني ظهر لكم من آثارهم وبقايا دورهم وصنع الله بهم في إهلاكهم { وزين لهم الشيطان أعمالهم } أي بين لهم ما فيه من الضلال { فصدهم عن السبيل } أي عن طريق الحق { وكانوا مستبصرين } قيل: كانوا عقلاء ذوو بصائر يمكنهم التمييز بين الحق والباطل { وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات } بالحجج الظاهرة { فاستكبروا في الأرض } عن قبول الحق { وما كانوا سابقين } فائتين من عذابنا { فكلا أخذنا بذنبه } يعني ممن تقدم ذكرهم وأنهم أتوا في هلاكهم من جهة أنفسهم، بذنبه أي عاقبنا بذنبه { فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا } قيل: هم قوم لوط، وهي ريح عاصف فيها حصى، وقيل: ملك يرميهم { الصيحة } لمدين وثمود { ومنهم من خسفنا } الخسف لقارون { ومنهم من أغرقنا } وهم قوم نوح وفرعون { وما كان الله ليظلمهم } أي يعذبهم بغير ذنب { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } يكفرون { مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء } يعني من اتخذ الأصنام آلهة يرجو نصره والرجوع اليها عند الحاجة { كمثل العنكبوت اتخذت بيتا } لتسكنه فلم يغن عنها عند الحاجة، فكما أن بيت العنكبوت لا تدفع حرا ولا بردا ولا ضرا ولا نفعا كذلك الأوثان لا تملك لها ولا للعباد نفعا ولا ضرا ولا خيرا { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } أضعفها { لو كانوا يعلمون } ذلك ولم يجهلوه { إن الله يعلم ما يدعون من دونه } هذا وعيد منه تعالى، يعني ما يعبدون هؤلاء الكفار ويتخذونه أربابا من دون الله تعالى { وهو العزيز } القادر { الحكيم } الذي لا يفعل إلا الحكمة فأمهلهم لوجوه من الحكمة { وتلك الأمثال } في القرآن { نضربها للناس } أي الأشياء والأوصاف نبينها لهم لنعرفهم قبح ما هم فيه من عبادة غير الله { وما يعقلها إلا العالمون } قيل: العالمون بالتوحيد لا يعقل صحتها وحسنها إلا هم، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه تلا هذه الآية فقال:
" العالم من عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه "
، ثم بين تعالى على أنه المستحق للعبادة فقال سبحانه: { خلق الله السماوات والأرض بالحق } لغرض صحيح { إن في ذلك لآية للمؤمنين } وخصهم بذلك لأنهم ينتفعون بها { اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة } يعني بلغ ما أوحي إليك من القرآن وأقم الصلاة { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } المعاصي الذي ينكرها العقل والشرع، وعن ابن عباس وابن مسعود: الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، قيل: هي بمنزلة النواهي بالقول لأن فيها التكبير والتسبيح والقراءة { ولذكر الله أكبر } يعني دعاء الله وذكره أكبر من الصلاة، وقيل: ذكر الله في الصلاة أكبر منه خارج الصلاة، وعن ابن عباس: ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته { والله يعلم ما تصنعون } من الخير والطاعة فيثيبكم أحسن الثواب.
[29.46-52]
{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } قيل: لا تخاصموهم، قيل: هم نصارى نجران، وقيل: أراد من أسلم، وقيل: أراد اليهود وأمر باللطف معهم، إلا بالتي هي أحسن ألطف القول وأرأفه ليكونوا أقرب إلى القبول { إلا الذين ظلموا منهم } فسدوا الذمة ومنعوا الجزية فإن أولئك مجادلتهم بالسيف، وعن قتادة: الآية منسوخة بقوله:
قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر
[التوبة: 29] ولا مجادلة أشد من السيف { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم } التوراة والإنجيل { وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } مخلصون بالتوحيد منقادون بالطاعة { وكذلك أنزلنا إليك الكتاب } كما أنزلنا الكتب عليهم أنزلنا عليك الكتاب أيضا { فالذين آتيناهم الكتاب } أي علم الكتاب { يؤمنون به } ، قيل: الكتاب القرآن ومن آمن به أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { ومن هؤلاء } قيل: أصحاب مكة، وقيل: العرب { من يؤمن به } بالقرآن، وقيل: الكتاب هو التوراة والإنجيل والذين يؤمنون به عبد الله بن سلام وأصحابه { وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون } يعني آيات القرآن مع ظهورها وزوال الشبهة، قيل: هو كعب بن الأشرف وأصحابه، قوله تعالى: { وما كنت } يا محمد { تتلوا من قبله من كتاب } أي من قبل القرآن، وقوله: { ولا تخطه بيمينك } أي لو كنت تقرأ كتابا وتكتب لارتاب الكفار ولشكوا وقالوا لعله تعلم القرآن { إذا لارتاب المبطلون } قيل: مشركو مكة إذ قالوا شيء كتبه محمد { بل هو آيات } أي حجج واضحات يعني القرآن { في صدور الذين أوتو العلم } وهم علماء المؤمنين علموا أن القرآن معجزة فآمنوا به وعلموا بما فيه فهو محفوظ في صدورهم متلو على ألسنتهم لا يشكون فيه { وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون } لأنفسهم بأن أوردوها العذاب الأليم { وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه } يعني الكفار قالوا ذلك تعنتا، لولا أنزل عليه آيات أي وحي كما أنزل على الأنبياء قبله فجعلوا ما معه غير حجة إلقاء للشبهة على العوام، وقيل: أرادوا آيات القيامة { قل } يا محمد { إنما الآيات عند الله } المعجزات والحجج، أي هو القادر على جميع ذلك { وإنما أنا نذير مبين } { أولم يكفهم } قيل: أراد اليهود { انا أنزلنا عليك الكتاب } معجزة لك وبيانا للشرائع يزيد على معجزات الأنبياء { يتلى عليهم } يقرأ عليهم { إن في ذلك لرحمة } أي نعمة عظيمة { وذكرى لقوم يؤمنون } يصدقون { قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا } أني قد أبلغتكم ما أرسلت به اليكم وأنذرتكم وإنكم قابلتموني بالجحد والتكذيب، وروي أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا: يا محمد من يشهد لك { قل كفى بالله } { يعلم ما في السماوات والأرض } فهو مطلع على أمري وأمركم وعالم بخفي باطني وباطنكم { والذين آمنوا بالباطل } وهو ما تعبدون من دون الله { وكفروا بالله } وآياته { أولئك هم الخاسرون } حيث أشركوا الكفر بالايمان.
[29.53-63]
{ ويستعجلونك بالعذاب } وإنما قالوا ذلك استهزاء منهم وتكذيبا { ولولا أجل مسمى } وهو ما علم من الصلاح، وقيل: أراد يوم القيامة { لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون } بمجيئه { يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } { يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم } ويقال لهم توبيخا: { ذوقوا ما كنتم تعملون } { يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة } نزلت في المستضعفين الذين كانوا بمكة مؤمنين لا يقدرون على إظهار الايمان فحثهم على الهجرة، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد "
، وقيل: أرضي واسعة أي أرض الجنة { فاعبدون } لتنالوها، عن أبي علي، والأكثر أنها أرض الدنيا { كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون } { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا } قصورا { تجري من } تحت الغرف { الأنهار خالدين فيها نعم أجر العالمين } أي نعم الجزاء لمن عمل بطاعته، ثم بين وصف العاملين فقال سبحانه: { الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون } يعني آمنوا وصبروا على ميثاق [مشاق] التكليف، وترك المحرمات، وأداء الواجبات، واحتمال الأذى من الأعداء، وفراق الوطن والهجرة لأجل الدين، وعلى أذى المشركين، وعلى المحن والمصائب، فلم يتوكلوا في جميع الأمور إلا على الله { وكأين من دابة } والدابة كل نفس دبت على وجه الأرض عقلت أو لم تعقل { لا تحمل رزقها } لا تطيق أن تحمله لضعفها عن حمله { الله يرزقها وإياكم } أي لا يرزق تلك الدواب الضعاف إلا الله ولا يرزقكم إلا هو، وعن الحسن: لا تحمل رزقها أي لا تدخره إنما تصبح فيرزقها الله، وقيل: ليس شيء يخبئ إلا الإنسان والنملة والفأرة { وهو السميع } لأقوالكم { العليم } بما في ضمائركم، ثم بين تعالى قبح أقوال المشركين وأفعالهم مع اعترافهم بأنه الخالق فقال سبحانه: { ولئن سألتهم } أي معنى سألت يا محمد هؤلاء المشركين { من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر } ذللهما بأن سيرهما المنافع الخلق { ليقولن الله } أي فيقرون ويقولون هو الخالق لهما والمسخر { فأنى يؤفكون } تعجب من حالهم وسوء اختيارهم أي مع إقرارهم أنه الخالق كيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة حجر لا تضر { الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر } أي يوسع ويضيق بحسب المصلحة { إن الله بكل شيء عليم } يعلم مصالح عباده سبحانه وتعالى عما يقولون { ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء } وهو المطر، قوله تعالى: { فأحيا به الأرض من بعد موتها } يعني أن اسألهم عن المسبب لأرزاق العباد من المطر وينبت النبات ويخرج الأنهار { ليقولن الله } ينشئ ذلك كله، وإنما قال: فأحيى به الأرض لأنه أجرى العادة أن ينبت النبات بالماء والمطر ولولا هذه العادة لجاز أن يخرج النبات من غير ماء ولا مطر { قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون } يعني لا يشكرون الله على نعمائه والحمد لله على ما هدانا إلى معرفة توحيده وعدله والتمسك بعبادته.
[29.64-69]
{ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب } يعني التمتع بالحياة بمنزلة اللهو واللعب لقصر مدتها وسرعة زوالها { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } يعني هذه الحياة الدائمة { لو كانوا يعلمون } أي لو علموا ما اختاروا الدنيا على الآخرة { فإذا ركبوا في الفلك } وخافوا الغرق { دعوا الله مخلصين له الدين } له الدعوة ولا يدعون غيره عند الضرورة { فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } { ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا } وهذا تهديد، أي دعهم وما اختاروا من الكفر والتمتع { فسوف يعلمون } عند نزول العذاب بهم قبح ما كانوا عليه { أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا } أي لم يتفكروا ما خصهم الله من فضله والنعم العظيمة وهي الحرم الذي أسكنهم فيه آمنا لأن أحدا لا يتعرض لهم ولأنه { ويتخطف الناس من حولهم } أي تسب أموالهم حول الحرم وهم في الحرم آمنون، وقيل: يتخطف البادي يقتلون ويؤسرون { أفبالباطل يؤمنون } استفهام، والمراد الانكار، أي كيف يؤمنون بالباطل وهي الأصنام التي لا تنفع ولا تضر؟ { وبنعمة الله يكفرون } { ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } يعني لا ظلم أعظم من ظلم من يكذب على الله في صفاته وفعاله فيصفه بما لا يليق به، أو يصف الله بما لا يليق بحكمته كمن يقول أن له شريكا وولدا فإنه جسم كمن يقول القبائح خلقه { أو كذب بالحق } قيل: القرآن، وقيل: محمد { أليس في جهنم مثوى للكافرين } أي مقامهم ومنزلهم { والذين جاهدوا فينا } في طلب رضانا، أو جاهدوا الأعداء باليد واللسان، أو جاهدوا أنفسهم { لنهدينهم سبلنا } يعني سبيل الجنة والثواب، وقيل: سبل الخير بالتوفيق { لنهدينهم } هداية إلى الخيرات وتوفيقا كقوله:
والذين اهتدوا زادهم هدى
[محمد: 17] { وإن الله لمع المحسنين } لناصرهم ومعينهم.
[30 - سورة الروم]
[30.1-6]
{ ألم } قيل: اسم للسورة، وقيل: إشارة إلى حدوث القرآن، وقيل: إنه من أسماء الله تعالى، يعني : { الم } أنا الله عن ابن عباس { غلبت الروم } أي غلبهم فارس في بعض حروبهم وظهروا عليهم وكان ذلك في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { في أدنى الأرض } أي عدوهم، وقيل: أدنى الأرض من أرض الشام إلى أرض فارس، وقيل: الأردن وفلسطين { وهم من بعد غلبهم سيغلبون } فارسا { في بضع سنين } والبضع من الثلاث إلى العشر ولما بلغ الخبر إلى مكة ان فارسا غلبوا الروم فشق ذلك على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين لأن فارسا مجوس لا كتاب لهم والروم أهل كتاب، وفرح المشركون وشمتوا وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن وفارس أميون وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرن نحن عليكم فنزلت الآية، وظهور الروم على فارس يوم الحديبية وذلك عند رأس سبع سنين، وقيل: كان النصر يوم بدر، وروي:
" أن أبا بكر لما ظهرت قال: والله لتظهرن الروم على فارس، فقال له أبي بن خلف، كذبت اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه، والمناحبة: المراهنة، على عشر قلائص من كل واحد وجعل الأجل ثلاث سنين، وأخبر أبا بكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: البضع ما بين الثلاث إلى السبع فزايده في الخطر وماده في الأجل، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين، ومات أبي من جرح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وظهرت الروم على فارس يوم بدر، وأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي وجاء به إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: تصدق به فتصدق به "
والله أعلم { لله الأمر من قبل ومن بعد } أي في أول الوقتين وفي آخرهما حين غلبوا وحين غلبوا من قبل دول الروم على فارس وبعدها فلو أراد إهلاكهم لفعل، وقيل: الأمر فيما مضى وفيما بقي وهي عبارة عن ملكه في عموم الأوقات { ويومئذ } يعني يوم غلبت الروم فارس فقد كان فيه نصر الله وتصديق رسوله { يفرح المؤمنون } { بنصر الله } وبغلبة من له كتاب على من لا كتاب له وغيظ من شمت بهم من كفار مكة، وقيل: ذلك يوم بدر، ويومئذ عبارة عنه فرحوا بما نالهم من النصر والفتح وهذا أولى لأن الروم كفار لا ينصرهم تعالى، وقيل: نصر الله أنه ولى بعض الظالمين بعضا وفرق بين كلمتهم وفي ذلك قوة للإسلام بنصر الله { ينصر من يشاء } من عباده وهم الأنبياء والمؤمنون { وهو العزيز } القادر على نصر المؤمنين { الرحيم } بمن أناب اليه من خلقه، ثم أكد ذلك بالبشارة فقال سبحانه: { وعد الله } أي وعد الله المؤمنين بالنصر، وقيل: وعد الله في الروم أنها تغلب فارسا { لا يخلف الله وعده } في ذلك ولا في غيره { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } صحة الوعد والله أعلم.
[30.7-13]
{ يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون } يعني يعلمون منافع الدنيا ومضارها وعمارتها فكيف يجمعون وكيف يبنون فعمروا دنياهم وحرثوا حرثهم أو يعلمون الدنيا وينكرون الآخرة؟ قوله تعالى: { أولم يتفكروا في أنفسهم } بما فيها من آيات الله والدلالة على توحيده { ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق } أي ما خلقهما باطلا وعبثا بغير غرض صحيح وحكمة بالغة وإنما خلقهما مقرونة بالحق، وتقدير: لكافرون { أولم يسيروا في الأرض فينظروا } إلى آثار من تقدم من الأمم مع شدة قوتهم وكثرتهم مثل عاد وثمود وغيرهم من الأمم الماضية، قوله تعالى: { كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } وأنهم { كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض } وحرثوها، قال تعالى:
لا ذلول تثير الأرض
[البقرة: 71] والبقرة الحرث المثيرة، وقيل: سمي ثورا لاثارة الأرض { وعمروها } يعني أولئك المدمرون { أكثر مما عمروها } يعني أهل مكة واد غير ذي زرع ما لهم إثارة الأرض أصلا { وجاءتهم رسلهم بالبينات } فلما كذبوا أهلكهم الله { فما كان الله ليظلمهم } فما كان تدميره إياهم ظلما { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } حيث عملوا ما أوجب تدميرهم { ثم كان عاقبة الذين أساؤوا } أي عملوا السوء وكذبوا الرسل { السوأى } قيل: العذاب، وقيل: جهنم { أن كذبوا بآيات الله } ورسوله { وكانوا بها يستهزئون } { الله يبدأ الخلق ثم يعيده } أي خلقهم ابتداء ثم يعيدهم يوم القيامة بعد فنائهم { ثم إليه ترجعون } أي إلى ثوابه وعقابه { ويوم تقوم الساعة } قيل: تقوم الناس للساعة { يبلس المجرمون } أي ييأسون من رحمة الله، وقيل: تنقطع حجتهم والله أعلم { ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء } الذين عبدوهم في الدنيا من يشفع؟ { وكانوا بشركائهم كافرين } لأنهم زعموا أنها تشفع لهم فلما عرفوا ما كانوا فيه من الضلال كفروا بالشركاء، أي جحدوا وأنكروا الأوثان.
[30.14-23]
{ ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون } يعني أهل الجمع يجمعون ثم يتفرقون فيصيرون فريقين كما قال فريق في الجنة وفريق في السعير { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون } قيل: يكرمون أو يتمتعون ويسرون { وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب محضرون } أي يحضرون في جهنم للعذاب { فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون } هذا خبر والمراد الأمر أي سبحوه أو نزهوه عن أن تصفوه بما لا يليق به من الصفات والأسماء والأفعال، وقيل: المراد به الصلوات الخمس، وقيل لابن عباس: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ قال: نعم، وتلا هذه الآية { تمسون } صلاة المغرب والعشاء { وتصبحون } صلاة الفجر { وعشيا } صلاة العصر { وحين تظهرون } صلاة الظهر { وله الحمد في السماوات والأرض } يعني هو المستحق للحمد لأنه هو المنعم عليهم، ومعناه على المميزين كلهم من أهل السماوات والأرض أي يحمدوه { يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي } قيل: النطفة من الإنسان والإنسان من النطفة، وقيل: المؤمن من الكافر والكافر من المؤمن { ويحيي الأرض بعد موتها } من النبات والثمار بعد موتها وهو إخراج النبات منها { وكذلك تخرجون } ومثل ذلك الإخراج تخرجون وتبعثون { ومن آياته } من حججه { أن خلقكم من تراب } الآية، خلق أصلكم منه { ثم إذا أنتم بشر تنتشرون } { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا } لأن حواء خلقت من ضلع آدم والنساء بعدها خلقن من أصلاب الرجال أو من شكل أنفسكم وجنسها لا من جنس آخر { لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } بين المرأة وزوجها ولم يكن بينكم سابقة في معرفة ولا لقاء ولا سبب يوجب التعاطف من قرابة ورحم، وعن الحسن: المودة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد، وقيل: أن الرحمة والمودة من قبل الله { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } فيها { ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم } باختلاف اللغات وأجناس النطق وأشكاله، خالف عز وجل بين هذه الأشياء حتى لا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس ولا فصاحة ولا لكنة ولا نظم ولا أسلوب ولا غير ذلك من صفات النطق، وكذلك الصور والألوان ولاختلاف ذلك وقع التعارف، وإلا فلو اتفقت وتشاكلت وكانت ضربا واحدا لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصالح كثيرة { إن في ذلك لآيات للعالمين } المكلفين لأن ذلك يشاهده كل أحد { ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله } أي طلبكم من نعمته.
[30.24-29]
{ ومن آياته يريكم البرق خوفا } وهو نار يحدث في السحاب خوفا { وطمعا } من الحلف وطمعا في المطر، وقيل: خوفا للمسافر وطمعا للمقيم { وينزل من السماء ماء فيحي به الأرض بعد موتها } بعد يبسها { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } يستدلون { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } أي قومها من غير عمد، يعني قيام السماء والأرض واستمساكهما بغير عمد من أعظم الآيات على توحيده بأمره، أي بقوله كونا قائمتين { ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } وذلك خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة من الأرض دعوة واحدة يا أهل القبور اخرجوا والمراد سرعة وجود ذلك وهو منادي القيامة { وله من في السماوات والأرض } ملكا وخلقا { كل له قانتون } مطيعون في تصريفه لا يمتنع عليه شيء مما يريد بهم من إحياء أو موت أو صحة أو مرض { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده } أي يخلقهم ابتداء ثم يعيدهم بعد الفناء { وهو أهون عليه } أي هين عليه سهل يسير { وله المثل الأعلى } الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله مذ عرف به ووصف { في السماوات والأرض } وهو أنه القادر لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما من المقدروات، ويدل عليه قوله: { وهو العزيز الحكيم } أي القادر على كل مقدور الحكيم في صنعه، وعن مجاهد: المثل الأعلى قوله لا إله إلا الله ومعناه أوله الوصف الأعلى الذي هو الوصف بالوحدانية ويعضده قوله: { ضرب لكم مثلا من أنفسكم } معناه هل ترضون لأنفسكم وعبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد وأن يشاركهم بعضهم { فيما رزقناكم } من الأموال وغيرها أن تكونوا أنتم وهم فيه على السواء من غير تفصيلة بين حر وعبد، تهابون أن تستبدوا بتصرف دونهم وأن تفانوا بتدبير عليهم كما تهاب بعضكم بعضا من الأحرار، وإذا لم ترضوا فرب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء { كذلك نفصل الآيات } أي نبينها لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها { لقوم يعقلون } يعلمون بأن يستدلوا { بل اتبع الذين ظلموا } أي أشركوا بقوله تعالى:
إن الشرك لظلم عظيم
[لقمان: 13] { بغير علم } أي اتبعوا { أهواءهم } جاهلين { فمن يهدي من أضل الله } أي من خذله ولم يلطف به لعلمه أنه ممن لا لطف له { وما لهم من ناصرين } من ينصرهم لينجيهم من عذاب الله تعالى.
[30.30-39]
{ فأقم وجهك } ، قيل: أدم على الاستفتاء في الدين، وقيل: أطع الله في أمره { حنيفا } مائل من جميع الأديان إلا دين الإسلام { فطرة الله } التقوى { التي فطر الناس عليها } يعني ولأجلها خلق، وفيه إضمار، أي اتبع فطرته وهو ابتداء خلقه للأشياء لأنه خلقهم وركبهم وصورهم على وجه دل على أن لها صانعا قادرا عالما حيا سمعيا بصيرا واحدا لا يشبه شيء { لا تبديل لخلق الله } أي لدين الله { ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنه خلقهم للعبادة، وقيل: لا يعلمون أن الدين القيم الاسلام { منيبين إليه واتقوه } أي راجعين إليه بالتوبة مقبلين عليه بالطاعة { واتقوه } أي واتقوا عذابه { ولا تكونوا من المشركين } { من الذين فرقوا دينهم } تركوا دين الاسلام أو فرقوا، أي كل واحد منهم كان على دين ما تهواه فهم جعلوه إيمانا والحق واحد { وكانوا شيعا } أي فرقا لكل واحد منهم مذهب ودين، وقيل: هم اليهود والنصارى، وقيل: جميع الكفار، وقيل: هم أهل البدع { كل حزب } جماعة { بما لديهم فرحون } يعني بما يعبدونه من المذاهب والدين { وإذا مس الناس ضر } مرض أو فقر أو ما أصابهم في أنفسهم وأموالهم { دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة } قيل: استجاب دعاءهم ورحمهم، وقيل: أعطاهم نعمة، وقيل: الرحمة الخصب والنعم { إذا فريق منهم بربهم يشركون } ، قوله تعالى: { ليكفروا بما آتيناهم } بإضافة النعم إلى غيره { فتمتعوا } بهذه الدنيا { فسوف تعلمون } عاقبة أمرهم إذا بعثوا للجزاء { أم أنزلنا عليهم سلطانا } قيل: برهانا إلى ما ذهبوا إليه، وقيل: رسولا، وقيل: حجة، وقيل: كتاب { فهو يتكلم بما كانوا به يشركون } أي يتكلم بحجة وعذر لهم في شركهم { وإذا أذقنا الناس رحمة } أي نعمة من مطر وسعة أو صحة { فرحوا بها وإن تصبهم سيئة } أي بلاء من جدب أو ضيق بحسب المصلحة، فلا ينبغي أن يقنطوا عند الشدة { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } وخصهم لأنهم انتفعوا بالآيات { فآت ذا القربى حقه } ، قيل: خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: الخطاب لغيره، حق ذي القربى صلة الرحم، وحق { المسكين وابن السبيل } نصيبهما من الصدقة، والمسكين الذي لا شيء له، وابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله { ذلك خير } فعل ما أمر الله به { للذين يريدون وجه الله } أي ابتغاء مرضاته وثوابه { وأولئك هم المفلحون } الفائز بالبقاء الدائم { وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس } أراد الربا المحظور { فلا يربوا عند الله } ولا يبارك فيه { وما آتيتم من زكاة } أي أعطيتم من الزكاة على ما فرض الله وشرعه { تريدون وجه الله } أي طلب ثوابه ومرضاته { فأولئك هم المضعفون } أي يضاعف لهم الثواب على ذلك.
[30.40-50]
{ الله الذي خلقكم } أحدثكم ابتداء { ثم رزقكم } أي أعطاكم أنواع النعم { ثم يميتكم ثم يحييكم } بعد الممات { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } أي يقدر على مثل ذلك { سبحانه } براءة له من الشرك { و } من كل شيء { تعالى } جده { عما يشركون } { ظهر الفساد في البر والبحر } نحو الجدب والقحط، وقلة الريع في الزراعات، والربح في التجارات، ووقوع الموتان في الناس والدواب، وكثر الغرق والحرق، ومحق البركات من كل شيء، وقلة المنافع في الجملة، وكثرة المضار، وعن الحسن: المراد بالبحر مدن البحر، وعن عكرمة: العرب تسمي الأمصار البحار، وعن ابن عباس: ظهر الفساد في البر بقتل ابن آدم أخاه، وفي البحر بأن جلندى كان يأخذ كل سفينة غصبا { بما كسبت أيدي الناس } كسبت معاصيهم وذنوبهم { ليذيقهم بعض الذي عملوا } قيل: عقوبات بعض الذي عملوا { لعلهم يرجعون } عن أفعالهم القبيحة { قل سيروا في الأرض } روي عن ابن عباس أنه قال: من قرأ القرآن وعلمه فهو سائر في الأرض يعني أنه فيه أخبار الأمم { فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل } من قبلهم من الأمم الماضية كيف أهلكهم الله { كان أكثرهم مشركين } { فأقم وجهك للدين القيم } اي استقم للدين القيم { من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله } أي لذلك اليوم { يومئذ يصدعون } أي يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير { من كفر فعليه كفره } أي جزاء كفره { ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون } أي يفرشون ويسوون المضاجع في القبر والقيامة وهذا توسع، والمراد أن من أصلح عمله فالله يجزيه الجزاء الحسن { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله } ، قيل: من عطائه لأنه وعد الثواب الكثير على العمل القليل { إنه لا يحب الكافرين } أي لا يريد كرامتهم خلاف المؤمنين { ومن آياته أن يرسل الرياح } أي من حججه الدالة على توحيده أن يرسل الرياح لا يقدر عليه أحد إلا { مبشرات } أي تبين بالمطر { وليذيقكم } يعطيكم { من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } هذه النعم، قوله تعالى: { ولقد أرسلنا من قبلك } يا محمد { رسلا إلى قومهم فجاؤوهم بالبينات } بالحجج { فانتقمنا من الذين أجرموا } أي أغفلناهم فأهلكناهم بسوء أفعالهم وفيه بشارة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه ينتقم له من أعدائه { وكان حقا علينا نصر المؤمنين } { الله الذي يرسل الرياح } يعني هو القادر على إرساله { فتثير سحابا } أي تهيج سحابا وتجمعه { فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا } أي قطعا متفرقة أو متراكم بعضه ببعض { فترى الودق } المطر { يخرج من خلاله } من وسطه { فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون } { وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين } أي آيسين من نزول المطر { فانظر إلى آثار رحمة الله } أي المطر وانبات ما أظهر من النبات والأشجار { كيف يحيي الأرض بعد موتها } أي يحييها بالنبات والثمار بعد يبسها وجدوبتها فجعل اليبس والجدوبة بمنزلة الموت والنبات بمنزلة الحياة { إن ذلك لمحيي الموتى } يعني من كسى الأشجار وأخرج الثمار وكسى الأرض بأنواع النبات قادر على أن يحيي الموتى { وهو على كل شيء قدير } من البعث وغيره.
[30.51-60]
{ ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا } وهو العاصف، وقيل: رأوا سحابا مصفرا لا مطر فيه { لظلوا من بعده يكفرون } أي داموا على كفرهم ولم يرضوا بقضاء الله { فإنك لا تسمع الموتى } فيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتمهيلا بعذره يعني إنك كما تعجز عن استماع الموتى تعجز عن استماع هؤلاء { ولا تسمع الصم الدعاء } أي لا تملك إسماع الصم كذلك هؤلاء لأنهم بمنزلة الصم حين تهدي كذلك هؤلاء { إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا } لأنه ينتفع بما يتلى عليه ويتدبره { فهم مسلمون } أي منقادون لله بما يتدبرون ويعلمون، ثم عاد إلى ذكر الأدلة فقال سبحانه: { الله الذي خلقكم من ضعف } أي أوجدكم من نطفة { ثم جعل من بعد ضعف قوة } أي شبابا { ثم جعل من بعد قوة ضعفا } وهو حال الكبر والهرم { يخلق ما يشاء وهو العليم القدير } القادر على تصريفهم كيف يشاء وتقليبهم من حال إلى حال { ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون } أي يحلفون إظهار المذلة والصغر { ما لبثوا غير ساعة } قيل: في القبور، وقيل: بعد انقطاع عذاب القبر، وفيما بين فناء الدنيا إلى البعث، وفي الحديث:
" ما بين فناء الدنيا إلى البعث أربعون "
لا يعلم أهي أربعون سنة أم أربعون ألف سنة؟ وذلك وقت يقضون فيه وتنقطع عبراتهم، وقيل: في الدنيا وذلك لما عاينوا أمر الآخرة كأنهم قالوا ما الدنيا في الآخرة إلا ساعة { كذلك كانوا يؤفكون } يكذبون بالدنيا حيث أخبروا عما لم يعلموا { وقال الذين أوتوا العلم والإيمان } القائلون هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون { لقد لبثتم في كتاب الله } في اللوح المحفوظ أو في علم الله وقضائه { إلى يوم البعث } ، قيل: ظنوا أن العذاب يتأخر عنهم عدة قليلة فبين لهم العلماء ان العذاب لا يتأخر عنهم { فهذا يوم البعث } حق { فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ولا هم يستعتبون } بأن يردوا إلى الدنيا ليتوبوا، وقيل: لأن يقبل معاذيرهم { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } يعني أنه بالغ في البيان، وتصريف الآيات والأدلة، وضرب الأمثال، والوعد والوعيد، فلم ينقادوا ولا يطيعوا والله أعلم { ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون } { كذلك يطبع الله على قلوب الذين لا يعلمون } ، قيل: الطبع سمة يجعلها الله تعالى على قلوب الكافرين { فاصبر إن وعد الله حق } في نصرك وإظهار دينك، قوله تعالى: { ولا يستخفنك الذين لا يوقنون } ولا يحملنك على الخفة والقلق جزعا مما يقولون ويفعلون فإنهم ضالون شاكون، وقوله: { لا يوقنون } بما أخبر الله تعالى به.
[31 - سورة لقمان]
[31.1-9]
{ الم } قد بينا ما قالوا، وعن الحسن وأبي علي: إنه اسم للسورة، وقيل: مفتاح اسم الله عن ابن عباس، وذكر أنها إشارة إلى أن القرآن من هذه الحروف وأنتم تتكلمون بها ثم عجزتم عنها لتعلموا أنه معجزة { تلك آيات الكتاب } الذي وعدت به في التوراة، والكتاب القرآن { الحكيم } يعني المحكم ليس فيه ما ينقضه، وقيل: حكيم لأنه بين الحق من الباطل { هدى } أي دلالة { ورحمة } أي نعمة لأنه من عمل بما فيه نال الثواب الدائم { للمحسنين } أعمالهم { الذين يقيمون الصلاة } ويؤتون الزكاة أي يعطون حقوق أموالهم الواجبة { وهم بالآخرة } أي بالذات الآخرة يعني بالبعث والنشور والجزاء { يوقنون } لا يشكون فيه { أولئك على هدى من ربهم } أي على دين مستقيم يهديهم إلى الجنة { وأولئك هم المفلحون } الظافرون بالبغية والغرض وهو الثواب الدائم { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } الآية نزلت في النضر بن الحارث اشترى كتابا فيه أخبار الأعاجم وحدث بها قريشا، وقيل: كان يحدثهم بحديث عاد وثمود، وقيل: النضر يوم بدر اشترى ذات لهو، وقيل: اشترى حديث الباطل بحديث الحق { ليضل عن سبيل الله } ليضل الناس عن الدين ويمنعهم من قراءة القرآن وذكر الله { بغير علم } أي بغير حجة { ويتخذها هزوا } الهاء كناية عن جميع ما تقدم عن ذكر الصلاة والزكاة { أولئك لهم عذاب مهين } مذلة { وإذا تتلى عليه آياتنا } قيل: القرآن { ولى مستكبرا كأن لم يسمعها } أي لم يقبلها { كأن في أذنيه وقرا } ثقلا { فبشره بعذاب أليم } { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم خالدين فيها } أي مؤبدون فيها لا يموتون ولا يخرجون { وعد الله حقا } لا خلف فيه { وهو العزيز } القادر الذي لا يمتنع عليه شيء { الحكيم } في أفعاله.
[31.10-15]
{ خلق السماوات بغير عمد ترونها } قيل: ترونها بغير عمد يعني لا عمد لها وأنه عمدها بعمد لا يرى وهو إمساكها بقدرته { وألقى في الأرض رواسي } أي جبالا { أن تميد بكم } كيلا تضطرب وتتحرك يمينا وشمالا { وبث فيها من كل دابة } ما يدب على الأرض من أنواع الحيوان { وأنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم } حسن { هذا خلق الله } ما تقدم ذكره { فأروني ماذا خلق الذين من دونه } يعني آلهتكم الذين عبدتموها وسميتموها آلهة وهي لا تستحق ذلك { بل الظالمون في ضلال مبين } { ولقد آتينا لقمان الحكمة } لقمان بن باعورا ابن أخت أيوب أو ابن خالته، وقيل: كان من أولاد آزر، وعاش ألف سنة وأدرك داوود (عليه السلام)، وقيل: كان خياطا، وقيل: نجارا، وقيل: كان داعيا، وأكثر الأقاويل أنه كان حكيما، وروي أنه كان نبيا، وقيل: خير بين النبوة والحكمة، وروي أنه كان عبدا أسود غليظ الشفتين، وروي أن رجلا وقف عليه في مجلسه فقال: ألست الذي ترعى في مكان كذا؟ قال: بلى، قال: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدقت الحديث والصمت عما لا يعنيني، وروي أنه دخل على داوود (عليه السلام ) وهو يسرد الدروع وقد لين الله له الحديد كالطين فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت، وروي أن مولاه أمره بذبح شاة وأن يخرج منها أطيب مضغتين فأخرج اللسان والقلب، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام فأخرج اللسان والقلب، فسأله عن ذلك فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا وأخبث ما فيها إذا خبثا { أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه } أي نفعه له { ومن كفر فإن الله غني } عن الشاكرين وعن كل شيء لا يجوز عليه الحاجة { حميد } أي محمود فلا يجب الحمد إلا لله فله الحمد كثيرا دائما { وإذ قال لقمان لابنه } قيل: اسم ابنه أنعم، وقيل: أشكم، وقيل: ابنه وامرأته كافرين فما زال بهما حتى أسلما { وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم } معناه لا تشرك بالله بأن تعبد معه غيره { ووصينا الإنسان بوالديه } الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص حلفت أمه لا تأكل طعاما حتى يرجع عن دين محمد فلما رأته بعد ثلاثة أيام لا يرجع عن الإسلام أكلت، ومعنى وصيناه أمرناه بطاعة الوالدين وشكرهما { حملته أمه وهنا على وهن } أي ضعفا على ضعف أو شدة بعد شدة، وقيل: الولد وصعق الأم { وفصاله في عامين } أي فطامه { أن اشكر لي } على نعمتي { ولوالديك } على نعمتهما { إلي المصير } إلى حكمي المرجع، وروي عنه أنه قال: من صلى صلاة الخمس فقد شكر الله، ومن دعا للوالدين عقيب الصلاة فقد شكر الوالدين { وإن جاهداك } على الكفر { أن تشرك بي ما ليس لك به علم } إشارة إلى بطلانه { فلا تطعهما } في ذلك { وصاحبهما في الدنيا معروفا } يعني إذا كانا كافرين فلا تترك برهما وأحسن عشرتهما في أمور الدنيا وإن وجب مخالفتهما في الدين، فأما أبواب الدين: { واتبع سبيل من أناب إلي } أي سلك طريق العلماء وطريق محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { إلي مرجعكم } أي إلى حكمي { فأنبئكم بما كنتم تعملون } أي بأعمالكم.
[31.16-21]
{ يا بني إنها إن تك مثقال حبة } أي قدر حبة { من خردل } وزن حبة خردل { فتكن في صخرة } وهي الصخرة الذي تحت الأرض وهي السجين يكتب فيها أعمال الكفار { أو في السماوات } في العالم العلوي { أو في الأرض } السفلى { يأت بها الله } أي يجازي بها يوم القيامة { إن الله لطيف خبير } { يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف } أي بالطاعات { وانه عن المنكر } أي المعاصي { واصبر على ما أصابك } يجوز أن يكون عاما في كل ما يصيبه من المحن { إن ذلك من عزم الأمور } الواجبة التي أمر الله بها { ولا تصعر خدك للناس } يعني أقبل على الناس بوجهك تواضعا ولا تولهم بشق وجهك وصفحته كما يفعل المتكبرون، وقيل: هو الذي إذا سلم عليه أحد لوى عنقه تكبرا، وقيل: هو يكون بينك وبينه شيء فإذا لقيته أعرضت، وقيل: لا تحتقر الفقير وليكن الفقير والغني عندك سواء { ولا تمش في الأرض مرحا } أي بطرا { إن الله لا يحب كل مختال فخور } أي متكبرا على الناس { واقصد في مشيك } قيل: تواضع ولا تتكبر وليكن مشيك قصد { واغضض من صوتك } وانقص منه واقصر من قولك { إن أنكر الأصوات لصوت الحمير } فشبه الرافعين أصواتهم بالحمير وتمثيل أصواتهم بالنهاق، وعن زيد بن علي: أراد بالحمير الحمير من الناس وهم الجهال شبههم بذلك وهو أحسن ما قيل فيه قاله الحاكم { ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض } أي ألم تعلموا أنه سخر لمنافعكم ما في السماوات من الشمس والقمر والنجوم والسحاب والأمطار وما في الأرض من الحيوان وغير ذلك مما تنتفعون به { وأسبغ عليكم } أي أنعم وأتم { نعمه ظاهرة وباطنة } قيل: الظاهرة الدين والباطنة ما غاب عن العباد وعلمه الله، وقيل: الظاهرة الرزق من حيث يحتسب والباطنة الرزق من حيث لا يحتسب، وقيل: الظاهرة المدخل للغذاء والباطنة المخرج للأذى، وقيل: الظاهرة الإسلام والباطنة الستر { ومن الناس من يجادل في الله } الآية نزلت في النضر بن الحارث { بغير علم } بغير حجة موجبة للعلم { ولا هدى ولا كتاب } أنزله الله تعالى { منير } أي واضح { وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله } على محمد وهو القرآن { قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير } وهي نار جهنم فإنه يدعوهم إلى موجباتها وهو الكفر والمعاصي.
[31.22-32]
{ ومن يسلم وجهه إلى الله } مخلص دينه لله ويفوض أمره إليه وإسلام الوجه هو الانقياد له في أوامره ونواهيه { وهو محسن } يفعل الإحسان وهو الطاعات { فقد استمسك بالعروة الوثقى } من باب التمثيل مثل حال المتوكل بحال من أراد أن يتدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة من جبل متين مأمون انقطاعه، قيل: هو طاعة الله فيما أمر ونهى { وإلى الله عاقبة الأمور } { ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم } إلى حكمنا مصيرهم { فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور } { نمتعهم قليلا } أي نعمرهم ثم نمهلهم ونعطيهم من ملاذ الدنيا ونعيمها ما ينعمون به مدة قليلة { ثم نضطرهم } قيل: نلجئهم { إلى عذاب غليظ } كقوله:
زدناهم عذابا فوق العذاب
[النحل: 88] { ولئن سألتهم } يعني كفار مكة { من خلق السماوات والأرض ليقولن } هو { الله } وحده { بل أكثرهم لا يعلمون } أن ذلك يلزمهم { لله ما في السماوات والأرض } ملكا وخلقا { إن الله هو الغني الحميد } الغني عن حمد الحامدين المستحق للحمد { ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده } الآية عن ابن عباس: أنها نزلت جوابا لليهود لما قالوا قد أوتينا التوراة وفيها كل الحكمة والمعنى ولو أن أشجار الأرض أقلام والبحر ممدود { سبعة أبحر } وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد ما نفدت كلماته، وقيل: لو صار جميع أشجار العالم أقلاما والبحر يمده من بعده سبعة أبحر مداد يمد الأقلام { ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم } قادر على جميع ذلك، كلمات قيل: كلامه، وقيل: معلوماته { ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة } يعني القليل والكثير والابتداء والإعادة في مقدوره سواء لا يصعب عليه شيء من ذلك { إن الله سميع } لأقوالكم { بصير } بضمائركم، قوله تعالى: { ألم تر أن الله يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } قيل: المراد به إدخال أحدهما على الآخر وينقص من أحدهما ويزيد في الآخر { وسخر الشمس والقمر } بأن أجراهما لمنافع الخلق { كل يجري لأجل مسمى } قيل: هو يوم القيامة { وأن الله بما تعملون خبير } عليم بأعمالكم { ذلك بأن الله هو الحق } وأن ما تدعونه هي الأصنام هو الباطل { وأن الله هو العلي الكبير } القادر القاهر { ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله } أي برحمته { ليريكم من آياته } من حججه { إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور } لنعمائه { وإذا غشيهم موج كالظلل } في ارتفاعه وتغطية ما فيه، وقيل: كالجبال، وقيل: كالسحاب، وهو جمع ظلة وكل شيء أظلك فهو قلة { دعوا الله مخلصين له الدين } أي دعوه لينجيهم من العذاب { فلما نجاهم إلى البر } أي أجاب دعوتهم ونجاهم من تلك المخاطر { فمنهم مقتصد } مؤمن، وقيل: على طريقة مستقيمة وصلاح في الآخرة { وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور } ، قيل: ختار كفور غدار جحود.
[31.33-34]
{ يا أيها الناس اتقوا ربكم } أي اتقوا عذابه { واخشوا يوما } أي يوم القيامة { لا يجزي والد عن ولده } أي لا يكفي عنه { ولا مولود هو جاز عن والده شيئا } يعني لا يغني أحد عن أحد { إن وعد الله حق } في القيامة والجزاء لا يخلف فيه { فلا تغرنكم الحياة الدنيا } أي لا تغتروا بكثرة السلام وكثرة النعم فإنها تزول عن قرب فلا تغرنكم { ولا يغرنكم بالله الغرور } ، قيل: الشيطان، وقيل: الغرور ما يدعو لمعصية مثل الرؤساء والملوك وعلماء السوء { إن الله عنده علم الساعة } روي أن رجلا من محارث وهو الحارث بن عمرو بن حارثة أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله أخبرني عن الساعة متى قيامها؟ وقد أبطت عنا السماء فمتى تمطر؟ وأخبرني عن امرأتي فقد استملت ما في بطنها ذكر أم أنثى؟ وإني قد علمت ما عملت أمس فما أعمل غدا؟ وهذا مولدي فقد عرفته فأين أموت؟ فنزلت، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ):
" مفاتح الغيب خمس... "
وتلا هذه، وعن ابن عباس: من ادعى علم هذه الخمس فكذبوه إياكم والكهانة فإن الكهانة تدعو إلى الشرك، والشرك وأهله في النار، وعن المنصور أنه أهمه معرفة مدة عمره، فرأى في منامه أن خيالا كأنه أخرج يده من البحر وأشار إليه بالأصابع الخمس، فاستفتى العلماء في ذلك فأولوها بخمس سنين وبخمسة أشهر وغير ذلك، حتى قال أبو حنيفة: ان مفاتح الغيب خمس ويعلمها الله فقط { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام } أذكر أم أنثى؟ أتام أم ناقص؟ { وما تدري نفس ماذا تكسب غدا } برة أم فاجرة ما تكسب من خير وشر { وما تدري نفس بأي أرض تموت } أي تموت وقد تكون في مكان لم يخطر ببالها، وروي أن مالك الموت مر على سليمان فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه فقال الرجل: من هذا؟ قال: مالك الموت، قال: كأنه يريدني، وسأل سليمان أن يحمله على الريح ويلقيه ببلاد الهند ففعل، فقال مالك الموت لسليمان (عليه السلام): كان دوام نظري اليه تعجبا منه لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.
[32 - سورة السجدة]
[32.1-6]
{ الم } قيل: اسم للسورة، وقيل: إنها مفاتيح أسمائه { تنزيل الكتاب } يعني نزله الله { لا ريب فيه } أي لا شك فيه أنه الحق { من رب العالمين } أي من جهته { أم يقولون افتراه } يعني يقولون أن محمدا افترى القرآن من نفسه { بل هو الحق من ربك } أي ليس كما يقولون { لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك } هم أهل الفترة بين عيسى ومحمد لم يأتهم نذير، قيل: محمد، وقيل: هم أمة محمد وأراد قريشا { لعلهم يهتدون } { الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام } أي في تقديره { ثم استوى على العرش } أي استوى وقدر على إيجاده، قيل: العرش السماء، وقيل: الملك { ما لكم من دونه من ولي } ، قيل: من ناصر، وقيل: من يلي أمركم، وقيل: { شفيع } أي من يدعو لكم النصرة { أفلا تتذكرون } { يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه } أي يصير إليه ويثبت عنده ويكتب في صحف ملائكته كل وقت من أوقات هذه المدة ما يرتفع من ذلك الأمر يدخل تحت الوجود إلى أن يبلغ آخرها ثم يدبر أيضا ليوم آخر وهلم جرا إلى يوم القيامة، وقيل: ينزل الوحي مع جبريل من السماء إلى الأرض ثم يعرج اليه ما كان من قبل الوحي أورده مع جبريل في وقت هو في الحقيقة ألف سنة، لأن المسافة مسيرة ألف سنة في الهبوط والصعود، لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمس مائة سنة وهو يوم من أيامكم لسرعة جبريل لأنه يقطع مسيرة ألف سنة في يوم واحد، وقيل: يدبر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة ثم يعرج إليه ذلك الأمر كله، أي يصير إليه ليحكم فيه { في يوم كان مقداره ألف سنة } وهو يوم القيامة { ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الرحيم }.
[32.7-14]
قوله تعالى: { الذي أحسن كل شيء خلقه } لأنه ما من شيء خلقه إلا وهو مرتب على ما اقتضته الحكمة وأوجبته المصلحة لجميع المخلوقات حسنة كما قال:
لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم
[التين: 4] { وبدأ خلق الإنسان من طين } يعني آدم { ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين } يعني نسل آدم وهم أولاده، وقوله: { من سلالة } لأنها نسل من الأنساب وتخرج منه، وقوله: { ماء مهين } ضعيف أو حقير { ثم سواه } أي خلق جسده { ونفخ فيه من روحه } قيل: الروح محل الحياة والصحيح الروح جسم ولذلك يصح فيه النفخ وهو النفس، أي يحصل من مخاريق الإنسان فإذا هو في الهوى سمي ريحا، فإن قيل: لم أضاف الروح إلى نفسه؟ قالوا: لأنه خلقه واختص بالقدرة عليه { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } أي مع هذه النعم قليل شكركم { وقالوا أئذا ضللنا } يعني منكرو البعث { أئذا ضللنا في الأرض } أي متنا وصرنا ترابا، وقيل: هلكنا { أئنا لفي خلق جديد } أي نحيا بعد الموت { بل هم بلقاء ربهم كافرون } بلقاء ما وعد الله من الثواب والعقاب { قل يتوفاكم ملك الموت } الذي يقبض أرواحكم { الذي وكل بكم } فأما الموت فلا يقدر عليه غير الله تعالى { ثم إلى ربكم ترجعون } إلى حكمه وجزائه تصيرون بعد الموت { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم } يعني لا يرفعونها من الغم والحسرة { ربنا ابصرنا وسمعنا } أي أبصرنا صدق وعدك وما كنا نكذب وسمعنا منك تصديق رسلك { فارجعنا } إلى دار الدنيا والتكليف { نعمل صالحا إنا موقنون } { ولو شئنا لأتينا كل نفس هداها } أي هدى النفس حيرا والجاء إلا أن فيه ابطال التكليف وفساد التدبير { ولكن حق القول مني } قيل: وجب الوعد والوعيد، وقيل: هو قوله:
لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين
[ص: 85] { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } أي أهل النار من أهل هذين الجنسين { فذوقوا } أي يقال لهم يوم القيامة ذوقوا { بما نسيتم لقاء يومكم } لأنكم تركتم فصار كالمنسي { لقاء يومكم هذا } يوم القيامة { إنا نسيناكم } قيل: جزيناكم بالنسيان، وقيل: تركناكم في النار كالمنسي { وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون } من المعاصي.
[32.15-22]
{ إنما يؤمن بآياتنا } أي بالقرآن وسائر الحجج { الذين إذا ذكروا بها } أي وعظوا سجدوا تواضعا لله وخشوعا وشكروا على ما رزقهم من الإسلام { وسبحوا بحمد ربهم } ونزهوا الله من نسبة القبائح اليه وأثنوا عليه حامدين له { وهم لا يستكبرون } كما من يصر مستكبرا كأن لم يسمعها ومثله قوله:
إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا
[الإسراء: 107] { ويقولون سبحان ربنا } { تتجافى جنوبهم } ترتفع وتتنحى { عن المضاجع } عن الفرش وموضع النوم { يدعون ربهم } داعين ربهم عابدين له لأجل خوفهم من سخطه ولجمعهم في رحمته وهم المتهجدون، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسيرها:
" قيام العبد من الليل "
وعن الحسن: أنه التهجد، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء منادي ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم، ثم يرجع فينادي: ليقوم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فيقوموا وهم قليل، ثم يرجع فينادي ليقوم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون جميعا إلى الجنة، ثم يحاسب سائر الناس. "
وعن أنس: كان أناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء فنزلت، وقيل: هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } والمعنى لا تعلم النفوس كلهن ولا نفس واحدة منهن لا ملك مقرب ولا نبي مرسل أي نوع عظيم من الثواب إذا أجزى الله أولئك وأخفاه من جميع خلائقه لا يعلمهم إلا هو مما تقر به عيونهم { جزاء بما كانوا يعملون } ، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، أقرأوا إن شئتم { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } "
{ أفمن كان مؤمنا } نزلت في علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) { كمن كان فاسقا } نزلت في الوليد بن عقبة، جرى بينهما كلام فقال له: اسكت فإنك فاسق فنزلت، { أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا } نوع من الجنان، قال الله تعالى:
ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى
[النجم: 13-15] سميت بذلك لما روي عن ابن عباس قال: تأوي إليها أرواح الشهداء، وقيل: هي عن يمين العرش { وأما الذين فسقوا } خرجوا من الطاعة { فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها } كلما كادوا يخرجوا لأنها ترفعهم بلهبها ضربوا بمقامع حتى يهووا فيها، وقيل: كلما قصدوا أن يخرجوا منعوا من ذلك { وقيل لهم ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون } { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر } ، قيل: مصائب الدنيا ومحنها، وقيل: القتل يوم بدر، وقيل: العذاب في القبر، وقيل: الأخدود { لعلهم يرجعون } أي يتوبون عن الكفر ولعلهم يريدون الرجوع ويطلبونه، فإن قيل: كيف يصح قوله: { لعلهم يرجعون }؟ قالوا: معناه وعدهم بها وأخبرهم دون العذاب الأكبر وهو يوم القيامة { ومن أظلم } أي لا أظلم أعظم { ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون } بإحلال العذاب بهم.
[32.23-30]
{ ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه } ، قيل: لا تكن في شك من لقاء الأذى كما لقي موسى، ومعناه آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله وجعلنا الكتاب المنزل على موسى هدى لقومه { وجعلنا منهم أئمة يهدون } الناس ويدعون إلى ما في التوراة من دين الله وشرائعه { لما صبروا } لصبرهم وايقانهم بالآيات، وكذلك لنجعلن الكتاب المنزل اليك هدى ونورا ولنجعلن من أمتك أمة يهدون مثل تلك الهداية لما صبروا عليه من نصر الدين ثم ثبتوا عليه من اليقين، وقيل: من لقائك موسى ليلة الإسراء ويوم القيامة وقرئ لما صبروا أي بصبرهم { وكانوا بآياتنا يوقنون } { إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة } أي يقضي ويحكم { فيما كانوا فيه يختلفون } قيل: من أمور دينهم، وقيل: من أعمالهم { أو لم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون } وهم عاد وثمود وقوم لوط { يمشون في مساكنهم } يعني أهل مكة يمرون في متاجرهم وبلادهم { إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون } { أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز } اليابسة التي لا نبات عليها، وأكثر المفسرين على أنها عامة في الأرض، وعن ابن عباس: هي أرض اليمن والله أعلم { فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم } من ذلك الزرع، أنعامهم كالابل والبقر والغنم { وأنفسهم } من حبه { أفلا يبصرون } وهذا توبيخ على ترك النظر والتدبير { ويقولون متى هذا الفتح } أي في أي وقت يكون { إن كنتم صادقين } في أنه كائن، و { يوم الفتح } يوم القيامة وهو يوم الفصل بين المؤمنين وأعدائهم ويوم نصرهم عليهم، وقيل: هو يوم بدر، وعن المجاهد والحسن: يوم فتح مكة، وقيل: يوم القيامة، قال الحاكم: وهو الوجه { لا ينفع الذين كفروا إيمانهم } لأنهم يضطرون إلى ذلك ولا ينفعهم، فإن قلت: فمن فسره بيوم الفتح أو يوم بدر كيف يستقيم على تفسيره ألا ينفعهم الإيمان؟ قلت: أن المراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل كما لم ينفع فرعون ايمانه عند إدراك الغرق { فأعرض عنهم } إعراض استحقاق { وانتظر } ما ينزل بهم، أو انتظر النصرة عليهم وهلاكهم { إنهم منتظرون } الغلبة عليكم وهلاككم ومعناه فانتظر بهؤلاء هلاكهم فإنهم أحقاء بأن ينتظر هلاكهم، يعني أنهم هالكون لا محالة، أو انتظر ذلك فإن الملائكة في السماء ينتظرونه.
[33 - سورة الأحزاب]
[33.1-3]
{ يا أيها النبي اتق الله } الآية نزلت في أبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل قدما المدينة بأمان ونزلوا على عبد الله بن أبي ودخلوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وسألوه أن يرفض ذكر آلهتهم، وأن يقول أن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك، فشق ذلك عليه وقال لهم عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، وقيل: نزلت في وفد من ثقيف طلبوا أن يمتعهم باللات والعزى، قوله: { اتق الله } خطاب له (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد المكلفين، وقوله: اتق الله معناه داوم على التقوى { ولا تطع الكافرين والمنافقين } لا تساعدهم على شيء ولا تقبل لهم رأيا ولا مشورة فإنهم أعداء الله وأعداء الدين والمؤمنين { إن الله كان عليما حكيما } بالصواب من الخطأ والمصلحة من المفسدة، وقوله: { حكيما } لا يفعل شيئا ولا يأمر به إلا بداعي الحكمة { واتبع ما يوحى إليك } في ترك طاعة الكافرين والمنافقين وغير ذلك، يعني ما يوحى اليك من القرآن والشرائع واعمل به { إن الله كان بما تعملون خبيرا } فيجازي كل أحد بعمله { وتوكل على الله } وأسند أمرك إليه { وكفى بالله وكيلا } حافظا موكولا إليه كل أمر.
[33.4-8]
{ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } نزلت في معمر كان رجلا من أحفظ العرب، وقيل: هو جميل بن أسيد الفهري، وكان يقول: لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد، فروي أنه انهزم يوم بدر فمر بأبي سفيان وهو معلق إحدى نعليه في يده والأخرى في رجله فقال له: ما فعل الناس؟ فقال: هم ما بين مقتول وهارب، فقال: ما بال إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلا أنهما في رجلي، فأكذب الله قوله وقولهم، وعن ابن عباس: كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان فأكذبهم الله تعالى، وقيل: سها في صلاته فقال اليهود: له قلبان قلب مع أصحابه وقلب معكم { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن } الآية نزلت في قصة أوس بن الصامت وامرأته خولة بنت ثعلبة لما ظاهر منها وقصته في المجادلة، وكان ذلك طلاق الجاهلية يقول الرجل: أنت علي كظهر أمي، فإنها لا تحرم كتحريم الأم ولكن تكون معصية وفيه الكفارة وللظهار أحكام يذكرها الفقهاء { وما جعل أدعياءكم } يعني من تدعونه ولدا وهو ثابت النسب من غيركم لا يصير ولدا، والآية نزلت في زيد بن حارثة وكان عبدا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأعتقه فلما تزوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) زينب بنت جحش وكانت قبل ذلك عند زيد قالت اليهود والمنافقون تزوج محمد بامرأة ابنه فأنزل الله هذه الآية: { ذلكم قولكم بأفواهكم } هذا ابني لا غير تقولون بألسنتكم ما لا حقيقة له { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل } يدل على طريق الحق { ادعوهم لآبائهم } أي انسبوهم إلى آبائهم الذين ولدوا على فراشهم { هو أقسط عند الله } أعدل في القول: لأن الانسان نسابته إلى المدعي كذب { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين } لأن المؤمنين أخوة { ومواليكم } في أصدقائكم، وقيل مواليكم في وجوب النصرة { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } يعني إذا نسبتم أحدا إلى الجد ظنا منكم أنه أباه فلا حرج { ولكن ما تعمدت قلوبكم } فنسبتموه إلى غيركم مع علمكم بخلافه فإذا كان خطأ فلا حرج { وكان الله غفورا رحيما } لعفوه عن الخطأ، عن العمد إذا تاب العامد { النبي أولى بالمؤمنين } في كل شيء من أمور الدين والدنيا { من أنفسهم } ولهذا أطلق ولم يقيد فيجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ما من مؤمن إلا وأنا أولى به في الدنيا والآخرة من نفسه، اقرأوا إن شئتم: { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } "
{ وأزواجه أمهاتهم } نسبته لهن بالأمهات وفي بعض الأحكام وهو وجوب تعظيمهن واحترامهن وتحريم نكاحهن، قال الله تعالى:
ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا
[الأحزاب: 53] { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } أي ذوي الأرحام القرابات بعضهم أولى ببعض في المواريث { في كتاب الله } في اللوح أو فيما أوحى الله إلى نبيه وهو في هذه الآية أو فيما فرض { من المؤمنين والمهاجرين } يجوز أن يكون بيانا لأولي الأرحام أي الأقارب من هؤلاء بعضهم أولى ببعض، ويجوز أن يكون لابتداء الغاية أي أولو الأرحام نحو القرابة أولى بالميراث من المؤمنين نحو الولاية في الدين ومن المهاجرين نحو الهجرة { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا } قيل: توصلوهم، وقوله: { في الكتاب } يعني اللوح المحفوظ، وقيل: في القرآن مكتوبا مسطورا { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم } قيل: على ما حملوا والعمل به { ومنك } يا محمد وإنما قدم لشرفه { ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا } قيل: هو العهد واليمين بالله على الوفاء بما حملوا والقيام بما حملوا من الرسالة ودعاء الخلق وتبليغ الشرائع والصبر على الأذى { ليسأل الصادقين عن صدقهم } يعني ليسأل الله يوم القيامة عند توافق الأشهاد المؤمنين الذين صدقوا عهدهم وشهادتهم فشهد لهم الأنبياء بأنهم صدقوا عهدهم وشهادتهم وكانوا مؤمنين، أو ليسأل الصادقين الأنبياء ما الذي أجابهم به أمتهم [أممهم]، وقيل: ليسأل الصادقين ليزيدهم سرورا بإظهاره ويسأل الكاذبين توبيخا وليظهر جزاءهم { وأعد للكافرين عذابا أليما }.
[33.9-11]
{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود } يعني يوم الأحزاب من قريش وغطفان واليهود { فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها } وهم الملائكة وكانوا ألفا بعث الله عليهم صبا في ليلة شاتية فأحصرتهم وسفت التراب في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت الأطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم، فانهزموا من غير قتال، وحين سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة، أشار عليه بذلك سلمان الفارسي (رضي الله عنه) ثم خرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ثلاثة آلاف من المسلمين وضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام واشتد الخوف وظن المؤمنون كل ظن، وظن النفاق في المنافقين حتى قال معتب بن قشير: كان محمدا يعدنا كنوز كسرى وقيصر فنحن اليوم لا نقدر أن نذهب إلى الغائط، وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان، وخرج غطفان في ألف ومن بايعهم من أهل أحد وقائدهم عتبة بن حصن وعامر بن الطفيل في هوازن وبني قريظة، ومضى على الفريقين قريب شهر بغير حرب إلا الترامي حتى وقع النصر { إذ جاؤوكم من فوقكم } من أعلى الوادي، قيل: من المشرق وبنو غطفان { ومن أسفل منكم } من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش تحزبوا وقالوا: سنكون حملة حتى نستأصل محمدا وأصحابه { وإذ زاغت الأبصار } مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة وشخوصا { وبلغت القلوب الحناجر } رأس الغلصمة وهو منتهى الحلقوم مدخل الطعام والشراب { وتظنون بالله الظنونا } ظنونا كاذبة، وقيل: هو قولهم ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا، وقيل: هي ظنون مختلفة ظن الكافرين أن يستأصلوهم وظن المؤمنين أنهم سينصرهم، وقيل: أراد المنافقين وصفه المسلمين { هنالك ابتلي المؤمنون } أي ابتليوا بالتخلية ليظهر المؤمنين المخلصين { وزلزلوا زلزالا شديدا } أي حركوا بالحرب حركة شديدة تصبروا ووثقوا بالله، وقيل: حركهم الأعداء من كل جهة، وقيل: اضطروا فمنهم من اضطرب خوفا على نفسه من القتل ومنهم من اضطرب على دينه عن أبي علي، قال الحاكم: ولما اشتد على الناس الأمر هم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمصالحة القوم على نصف ثمار المدينة تكون لهم فنهاه سعد بن عبادة وخرج عمرو بن ود وطلب البراز فلقيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقتله، وجاء نعيم بن مسعود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد أسلم سرا وقال: يا نبي الله الحرب خدعة، وخرج فاغرى بينهم.
[33.12-20]
{ وإذ يقول المنافقون } معتب بن قشير وأصحابه { والذين في قلوبهم مرض } شك وضعف { ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا } أي خبر بما لا حقيقة له ولم يعلموا أن النصر في دار الدنيا يكون عقيب الامتحان { وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب } قيل: هم المنافقون عبد الله بن أبي وأصحابه، وقيل: هم اليهود الذين هم قرب المدينة { لا مقام لكم } أي ليس هذا موضع إقامة، وقيل: لا إقامة لكم ها هنا { فارجعوا } إلى منازلكم، أمروهم بالهرب من معسكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: قالوا لهم: ارجعوا كفارا وأسلموا محمدا { ويستأذن فريق منهم النبي } في الرجوع إلى منازلهم وهم بنو حارثة { يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة } ، قيل: مكشوفة ليست بحصينة فأكذبهم الله فإنهم لا يخافون ذلك وإنما يريدون الفرار من الزحف { ولو دخلت } المدينة، وقيل: بيوتهم { من أقطارها } من حواليها { ثم سئلوا } عند ذلك الفزع وهو دخول المدينة { والفتنة } الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين { لأتوها } لجاؤوها وفعلوا، وقرئ لآتوها لأعطوها { وما تلبثوا بها إلا يسيرا } يعني ما لبثوا عن الإسلام إلا ساعة ثم ارتدوا هذا قول أكثر المفسرين، وقيل: ما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا { ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل } عاهدوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم، وقيل: هم قوم غابوا عن بدر، وقيل: عاهدوا بعد أحد ألا يفروا بعدما نزل فيهم ما نزل { وكان عهد الله مسؤولا } مطلوبا { قل لن ينفعكم الفرار } مما لا بد لكم من نزوله من موت أو قتل { وإذا لا تمتعون إلا قليلا } في الدنيا ثم الموت، ويقال الدنيا كلها { قل } يا محمد { من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا } يلي أمرهم ويعينهم { ولا نصيرا } ينصرهم { قد يعلم الله المعوقين منكم } المثبطين الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { والقائلين لإخوانهم } يعني اليهود قالوا لإخوانهم من المنافقين، وقيل: القائلون هم المنافقون لإخوانهم من ضعفة المسلمين { هلم إلينا } أي تعالوا إلينا ولا تحاربوا ودعوا محمدا لا تشهدوا معه الحرب { ولا يأتون البأس إلا قليلا } يعني قليلا من المنافقين يخرجون رياء وسمعة يحضرون بأنفسهم ويمنعون غيرهم { أشحة عليكم } بالمواساة بأنفسهم وأموالهم، وقيل: كانوا يحضرون الوقعة للغنيمة كيلا يختص بها المؤمنون { فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك } في تلك الحالة كما ينظر المغشي عليه من معالجة سكرات الموت { فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد } قيل: جادلوكم مدحوا أنفسهم وذم غيرهم يقولون: نحن فعلنا كذا وضربنا بالسيف كذا، ولم يفعلوا شيئا من ذلك، وقيل: خاصموكم طلبا للغنيمة وقت القسمة ويقولون: أعطونا وانا قد شهدنا معكم القتال، وقيل: اطلقوا ألسنتهم بالمعاذير الكاذبة { أشحة على الخير } قيل: بخلاء الخير، وقيل: يبخلون أن يتكلموا بكلام فيه خير كأنهم عند الخوف أخير القوم وعند القسمة أبخل القوم { أولئك لم يؤمنوا } كما آمن غيرهم بالخير { فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا } هينا { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } أي ظن المنافقون أن جماعات قريش وغطفان وغيرهم من اليهود والذين تحزبوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يذهبوا ولم ينصرفوا، وإنما ظنوا ذلك لشدة خبثهم وقلة إيمانهم وقد انهزموا بالريح { وإن يأت الأحزاب } أي رجعوا مرة ثانية { يودوا لو أنهم بادون في الأعراب } أي كانوا بالبادية مع الأعراب ولم يشهدوا هذا المقام لكراهة الجهاد { يسألون عن أنبائكم } أي عن أخباركم، قيل: يسأل بعضهم بعضا: { ولو كانوا فيكم } يعني المنافقين { ما قاتلوا إلا قليلا } منهم يراؤون بأنهم فيكم وقصدهم الغنيمة.
[33.21-27]
{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } أي قدوة حسنة، والقدوة الحسنة أن يقتدوا به في الصبر على الجهاد والشكر على النعمة والثبات في الدين { لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } أي يرجو ثوابه ويخاف عقابه { وذكر الله كثيرا } أي من عادتهم ذكر الله كثيرا { ولما رأى المؤمنون الأحزاب } مع كثرتهم واجتماع كلمتهم على حرب المسلمين لم يزدهم إلا الثبات والتسليم والتوكل فقال سبحانه: { هذا ما وعدنا الله ورسوله } قيل: وعدهم عند لقاء المشركين الظفر بهم بظهور دينهم، وقيل: وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوا ويستنصروه في قوله:
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم
[البقرة: 214] فلما جاء الأحزاب { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله } وأيقنوا بالجنة والنصر، وعن ابن عباس (رضي الله عنه) قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه:
" ان الأحزاب سائرون إليكم في آخر تسع ليال أو عشر "
فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد { قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا ايمانا } وتصديقا { وتسليما } للنفس وثباتا في الحرب { من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه } قيل: عاهدوهم ليلة العقبة، وقيل: إذا لقوا العدو لا يولون الأدبار { فمنهم من قضى نحبه } قيل: قضى عهده ونذره، يعني صبروا على الجهاد حتى قتلوا أو مات ما عاهد عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعني حمزة ومصعبا { ومنهم من ينتظر } قيل: ينتظر ما أصاب إخوانهم من الشهادة وثوابها لصبرهم في القتال ولا ينتظروا القتل لأنه قبح { وما بدلوا } يعني في عهدهم، أي استمروا على الوفاء ولم يغيروا { ليجزي الله الصادقين بصدقهم } عليه في استحقاق الثواب { ويعذب المنافقين إن شاء } إذا لم يتوبوا { أو يتوب عليهم } إذا تابوا { إن الله كان غفورا } لمن تاب { رحيما } بالمؤمنين، ثم عاد إلى ذكر نعمته فقال سبحانه: { ورد الله الذين كفروا } الأحزاب { بغيظهم } مغتاظين { لم ينالوا خيرا } غير ظافرين { وكفى الله المؤمنين القتال } بالريح والملائكة { وكان الله قويا عزيزا } { وأنزل الذين ظاهروهم } أي ظاهروا الأحزاب { من أهل الكتاب من صياصيهم } من حصونهم،
" وروي أن جبريل (عليه السلام) أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم على فرسه الخيزوم والغبار على وجه الفرس والسرج فقال: " ما هذا يا جبريل؟ " قال: من متابعة فرسي، فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه، فقال: يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فأذن في الناس " ان من كان سامعا مطيعا فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة " فما صلى كثير من الناس العصر إلا بعد العشاء الآخرة لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، فقال لهم: " تنزلون على حكمي " فأبوا، فقال: " على حكم سعد بن عبادة؟ " فرضوا به، فقال سعد: حكمت فيكم أن يقتل مقاتلكم وتستبى ذراريهم ونسائهم، فكبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: " لقد حكمت فيه بحكم الله من فوق سبع أرفعة " ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقا وقذفهم فضرب أعناقهم من ثمان مائة إلى تسع مائة، وقيل: كانوا ستمائة مقاتل وسبع مائة أسير، وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار "
{ وقذف في قلوبهم الرعب } أي الخوف { فريقا تقتلون وتأسرون فريقا } قتلوا المقاتلين وأسروا النساء والذراري { وأورثكم أرضهم } أي أعطاكم أرضهم { وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطأوها } أي أعطاكم، وعن الحسن: أنها فارس والروم، وعن قتادة: وكنا نحدث أنها مكة، وعن مقاتل: هي خيبر، وقيل: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة.
[33.28-34]
{ يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها } يعني سعة العيش وزينة الدنيا من الحلي وغيره الآية، قيل: كان بعض أزواج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) سألت شيئا من عرض الدنيا والزينة وزيادة في النفقة فهجرها شهرا فنزلت الآية، وقيل: كان تسع نسوة خمس قرشيات عائشة وحفصة ورملة بنت أبي سفيان وسودة وأم سلمة وأربع من سائر العرب صفية بنت حيي اليهودي وزينب بنت جحش من بني أسد وجويرية بنت الحارث من بني المصطلق فلما نزلت الآية قرأها (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهن، وقوله: { أمتعكن } أعطيكن متعة الطلاق، والمتعة واجبة للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها في العقد واجبة عند أبي حنيفة وأصحابه، وأما سائر المطلقات فمتعة مستحبة { وأسرحكن سراحا جميلا } على وفق الشرع من غير ضرر، وقيل: خيرهن بين الدنيا والآخرة وليس بتخيير الطلاق عن الحسن، وقيل: هو تخيير الطلاق { يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة } أي معصية ظاهرة { يضاعف لها العذاب ضعفين } يعني في الجزاء ما يكون على غيرهن، وإنما كان كذلك لأن نعم الله تعالى عليهن أكثر لمكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونزول الوحي في بيوتهن وذكرهن في القرآن، وإذا كانت النعم عليهن أعظم كانت المعصية أفحش { ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين } ، { واعتدنا لها رزقا كريما } قيل: الجنة، وقيل: في الدنيا { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } في الفضل والشرف { إن اتقيتن } الله أي أطعتن الله { فلا تخضعن بالقول } أي لا تلن بالقول للرجال { فيطمع الذي في قلبه مرض } قيل: شهوة الزنا، وقيل: نفاق، وقيل: من كان مائلا إلى المعاصي { وقلن قولا معروفا } أي صحيحا جميلا يقطع الطمع { وقرن في بيوتكن } قرئ بفتح القاف اسكن، وبكسرها كن أهل وقار { ولا تبرجن } أي لا تظهرن، وقيل: هو إظهار الزينة والمحاسن للرجال، وقيل: مشي المرأة بين الأجانب من التبرج { تبرج الجاهلية الأولى } قيل: هي ما قبل الإسلام، وقيل: ما بين عيسى ومحمد، وقيل: ما بين آدم ونوح، وقيل: ما بين إدريس ونوح، وقيل: زمن داوود وسليمان { وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله } فيما يأمر به وينهى عنه { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } الآية نزلت في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) يعني إنما يذهب بأمره ونهيه فيأمركم بمكارم الأخلاق ومعالي الأمور، والرجس الإثم الذي نهى الله عنه، قيل: الشيطان والشرك، وقيل: كل قبيح، وقوله: { أهل البيت } وهم أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم من تقدم، وقيل: كل من حرم عليه الصدقة من بني هاشم وأزواجه { واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله } القرآن والحكمة يعني السنة { إن الله كان لطيفا خبيرا }.
[33.35-36]
{ إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } الآية، قيل: إن أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قلن: يا رسول الله ذكر الله تعالى الرجال في القرآن دون النساء، فنزلت الآية { والصادقين والصادقات } يعني المخلصين { والصابرين والصابرات } يعني في تحمل المشقة في الدين { والخاشعين والخاشعات } يعني المتوضعين { والمتصدقين والمتصدقات } قيل: أراد صدقة الفرض، وقيل: أراد صدقة الفرض والنفل { والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما } { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } الآية نزلت في زينب بنت جحش خطبها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لزيد بن حارثة، فأتت هي وأخوها عبد الله بن جحش، وهي بنت آمنة بنت عبد المطلب وكان زيدا اشتراه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأعتقه فنزلت الآية، قوله: { ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } فرضيت هي وأخوها وقالا: رضينا يا رسول الله، فأنكحها إياه وساق اليها عنه مهرا ستون درهما وخمارا وملحفة ودرعا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر، وقيل: هو عام، قال الحاكم: وهو الصحيح { إذا قضى الله ورسوله أمرا } وأوجبه وأمر به { أن تكون لهم الخيرة من أمرهم } أي أن يختاروا غير ذلك وهو كل شيء أمر الله به وحكم به فليس لأحد مخالفته { ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا } أي ذهب عن الرشد ذهابا بعيدا.
[33.37-40]
{ وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه } الآية نزلت في زيد بن حارثة وامرأته زينب بنت جحش مكثت عنده أياما ثم أراد فراقها فقال له الرسول (عليه السلام): " اتق الله وأمسك عليك زوجك " فأبى وقال: تؤذيني بلسانها، فطلقها فخطبها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتزوجها، وقيل: أن رسول الله أبصرها بعدما أنكحها زيدا فوقعت في نفسه فقال: " سبحان مقلب القلوب " وذلك أن نفسه كانت تجفو عنها قبل ذلك لا يريدها ولو أرادها لخطبها، وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لرسول الله: إني أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: " ما لك أرأيت منها شيئا " فقال: لا والله ما رأيت منها إلا خيرا ولكنها تتعظم علي لشرفها وتؤذيني، فقال له: " امسك عليك زوجك واتق الله " ثم طلقها، فلما اعتدت قال له رسول الله: " ما أحد أوثق مني بنفسي منك أخطب علي زينب " قال زيد: فانطلقت فإذا تخمر عجينتها فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أنظر إليها حين علمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكرها، فوليتها ظهري وقلت: يا زينب أبشري ان رسول الله يخطبك، ففرحت وفات إلى مسجدها { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه } بالعتق { امسك عليك زوجك } يعني زينب { واتق الله } في مضارتها فلا تضارها يا زيد { وتخفي في نفسك ما الله مبديه } أي مظهره، قيل: أخفى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسه ان طلقها زيد أنه يتزوجها لأنها ابنة عمته وأحب ضمها إلى عنده بعد فراق زيد لئلا يصيبها ضيعة وخشي إظهار ذلك خشية القالة { والله أحق أن تخشاه } أي تخافه { فلما قضى زيد منها وطرا } أي قضى حاجته من نكاحها { زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج } أي ضيق { في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } بالنكاح { وكان أمر الله مفعولا } في تزويج الله من رسول الله { ما كان على النبي من حرج } إثم وضيق { فيما فرض الله له } في أمره وأباح له من تزويج زينب { سنة الله } أي طريقة وشريعته { في الذين خلوا من قبل } أراد سنته في الأنبياء أنه كلفهم الإبلاغ والصبر على الشدائد، وقيل: سنة الله في تحليل نكاح الادعاء، وقيل: النكاح من سنة الأنبياء، وقيل: كثرة الأزواج كما فعله داوود وسليمان، فكان لداوود مائة امرأة ولسليمان ثلاثمائة امرأة وسبع مائة سرية { وكان أمر الله قدرا مقدورا } أي أمرا جاريا على وجه الحكمة والصواب، ثم وصف الأنبياء فقال: { الذين يبلغون رسالات الله } الى أممهم { ويخشونه } أي يخافون عقابه { ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا } وهذا وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } قيل: رجال ذلك الوقت ولم يكن أحد من أبنائه، وقيل: أراد برجالكم زيدا، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا الطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم، وقد أخرجوا من حكم النفي بقوله من رجالكم من وجهين: أحدهما أن هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال، والثاني أنه قد أضاف الرجال اليهم وهؤلاء رجاله لا رجالهم، قال جار الله: فإن قلت: أما كان أبا للحسن والحسين؟ قلت: بلى ولكنهما لم يكونا رجلين حينئذ وهما أيضا من رجاله لا من رجالهم { وخاتم النبيين } فلا نبي بعده { وكان الله بكل شيء عليما }.
[33.41-49]
{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا } قيل: باللسان ذكر أسمائه الحسنى وصفاته العليا، وقيل: بالقلب، وعن ابن عباس: لم يفرض الله على عباده فريضة لا جعل عليها حدا، وأمرهم بذكره في الأحوال كلها، قيل: هو الاعتقاد والتوحيد والعدل فإنه واجب في جميع الأحوال، وقيل: ذكر الله باللسان بالتحميد والتهليل والتكبير وما هو أهله، وأكثروا ذلك { بكرة وأصيلا } أي في كافة الأوقات، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ذكر الله على فم كل مسلم "
وعن قتادة: قولوا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم { وسبحوه بكرة وأصيلا } يعني الصبح والعصر، وقيل: أراد الصلاة بكرة وعشيا { هو الذي يصلي عليكم } الصلاة منه بمعنى الرحمة، ومن الملائكة بمعنى الاستغفار، ومن النبي الشفاعة، والمعنى هو الذي يترحم عليكم بإكثار الذكر { ليخرجكم } من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة { وكان بالمؤمنين رحيما } والمراد بالرحمة هو الثواب في الجنة { تحيتهم يوم يلقونه سلام } يعني تحية المؤمنين يوم يلقون جزاءه، قيل: هو سلام ملك الموت، وقيل: سلام الملائكة عند الخروج من القبور، وقيل: عند دخول الجنة { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا } على الخلق بالقبول والرد { ومبشرا } بالقابلين عليه بالثواب { ونذيرا } { وداعيا إلى الله بإذنه } أي إلى توحيده وبإذنه يعني بأمره { وسراجا منيرا } يعني يهتدى به في الدين كما يهتدى بالسراج، وقيل: أراد بالسراج الشمس { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا } أي نعما كثيرة، وعن جابر لما نزلت:
إنا فتحنا لك
[الفتح: 1] الآيات قالت الصحابة: هنيئا لك يا رسول الله هذا الفارق فما لنا؟ فأنزل الله: { وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ولا تطع الكافرين } من أهل مكة فيما دعوه من المراهنة { والمنافقين } من أهل المدينة { ودع أذاهم } أي أعرض عن أذاهم فإني أكفيك أمرهم إذا توكلت علي { وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا } ، ثم بين سبحانه أحكام الناس فقال سبحانه: { يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات } أي تزوجتموهن { ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } قيل: تجامعوهن، وقيل: حصل بينكم مسيس هو عبارة عن الخلوة الصحيحة { فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } أي تحصونها بالاقراء والأشهر { فمتعوهن } أي أعطوهن ما يستمتعن به، قيل: إن كان سمى مهرها فلها نصفه وإن لم فالمتعة { وسرحوهن سراحا جميلا } من غير ضرار، وقيل: هو أمر ندب المتعة مستحبة ونصف المهر واجب، وسرحوهن يعني خلوا سبيلهن، سراحا جميلا بالمعروف وهو أن يعطيها ما وجب لها.
[33.50-52]
{ يا أيها النبي انا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن } قيل: لما بذلت الموهوبة نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالت عائشة: ما بال النساء يبذلن أنفسهن بلا مهر؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية { أجورهن } مهورهن لأن المهر أجرا على البضع، وايتاؤها إما اعطاؤها عاجلا وإما فرضها وتسميتها في العقد { وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك } أي أحللنا ما ملكت يمينك وهو على وجهين: السري وأن يعتقن ويتزوجهن كصفية بنت حيي وجويرية بنت الحارث أعتقهما { وبنات عمك وبنات عماتك } وهم أولاد عبد المطلب { وبنات خالك وبنات خالاتك } أولادهم من بني زهرة، وليس الإباحة مقصورة عليهم بل هو عام في جميع المؤمنين { اللاتي هاجرن معك } فشرط الاباحة الهجرة { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي } قيل: لما وهبت نفسها للنبي قالت عائشة: ما بال النساء يبذلن أنفسهن بلا مهر فنزلت: { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك } الآية، فقالت عائشة: يا رسول الله إني أرى ربك يسارع إلى هواك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" وإنك وإن أطعت الله يسارع في هواك "
فاختلفوا في هذه الإمرأة الواهبة نفسها من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هل كانت عنده أم لا؟ فقيل: لم تكن عنده امرأة بالهبة عن ابن عباس، وقيل: الموهوبات أربع: ميمونة بنت الحارث، زينب بنت خزيمة أم المساكين الأنصارية، وأم شريك، وخولة، وقيل: زينب بنت جحش { إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين } أي لا يجوز لهم ذلك والله أعلم { قد علمنا ما فرضنا عليهم } على المؤمنين { في أزواجهم } ، قيل: أراد العدد فإذا تزوج أربع لا يجاوزها، وقيل: المهر، وقيل: المهر والعدد { وما ملكت أيمانهم } يعني الاماء { لكيلا يكون عليك حرج } ضيق واثم، يعني بينا لك قيل: هو ما أباح من نكاح أربع وما شاء من البراري، وقيل: ما متصل بخالصة لك من دون المؤمنين { وكان الله غفورا رحيما } لذنوب التائبين رحيما بهم { ترجي من تشاء منهن وتؤوي إليك من تشاء } الآية، قيل: طلبت بعض أمهات المؤمنين زيادة في النفقة وغضب رسول الله فهجرهن شهرا ونزل التخيير فأشفقن أن يطلقن فقلن: يا رسول الله افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت ودعنا على حالنا فنزلت، وقيل: أن عائشة عيرت الموهوبة نفسها فنزلت هذه الآية: { ترجي من تشاء } وقرئ بالهمز وبغير همز { وتؤوي } تضم بمعنى تترك مضاجعة من تشاء، أو تطلق من تشاء وتمسك من تشاء، أو لا تقسم لأيتهن شئت وتقسم لمن شئت، وروي أنه أرجى منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة، وروي أم حبيبة، وكان يقسم لهن ما شاء كما شاء، وروي أنه كان يسوي بينهن مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة فانها وهبت ليلتها لعائشة وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك { ومن ابتغيت ممن عزلت } يعني طلبت اصابتها فيمن كنت عزلت عنها من نسائك { فلا جناح عليك } وأباح له ترك القسم فيهن حتى يؤخر من يشاء عن وقت نوبتها، وأن يعزل من يشاء وله أن يرد المعزولة، فضله الله تعالى بذلك على جميع الخلق { ذلك أدنى أن تقر أعينهن } أي أطيب لنفوسهن وأقل لحزنهن { ويرضين بما آتيتهن كلهن } من التسوية والتفضيل، وذلك أنهن علمن أن هذا من عند الله وبأمره فطابت أنفسهن وقرت أعينهن { والله يعلم ما في قلوبكم } فيه وعيد لمن لم ترض منهن لما دبر الله من ذلك { لا يحل لك النساء من بعد } أي من بعد التسع اللاتي كن عنده واخترنه { ولا أن تبدل بهن من أزواج } يعني التسع اللاتي اخترتهن { ولو أعجبك حسنهن } من غير التسع، وقيل: من غير ما أحل لك { إلا ما ملكت يمينك } يعني إلا ما استثنى مما حرم عليه { وكان الله على كل شيء رقيبا } أي حفيظا.
[33.53-55]
{ يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي } بغير إذن { إلا أن يؤذن لكم } الآية نزلت في وليمة زينب بنت جحش وذلك لما أطعم الناس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرجوا وبقي ثلاثة يتحدثون وأطالوا المكث، واستحيا أن يأمرهم بالخروج بعد أن رفعوا الطعام وتفرق الناس، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حجرة عائشة، فقال:
" السلام عليكم أهل البيت "
فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله، ورجع وإذا الثلاثة جلوس يتحدثون، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شديد الحياء فولى، فلما رأوه موليا خرجوا فرجع ونزلت، وقيل: نزلت في أناس كانوا يدخلون على رسول الله قبل الطعام ويجلسون حتى يدرك فنزلت الآية { إلا أن يؤذن لكم } فأباح الدخول عند الإذن إلى طعام { غير ناظرين إناه } ، قيل: وقته أي غير ناظرين وقت الطعام وساعة أكله، وقيل: لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الإذن، ولا تدخلوها إلا غير ناظرين، وهؤلاء قوم كانوا يتحينون طعام رسول الله فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه، ومعناه لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين، وإلا فلو لم يكن لهؤلاء خصوصا لما جاز لأحد أن يدخل بيوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن يؤذن له اذنا خاصا وهو الإذن إلى الطعام فحسب ذكره جار الله { ولا مستأنسين لحديث } فهو أن يطلبوا الجلوس ويستأنس بعضهم ببعض { إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحيي منكم } من إخراجكم من منزله { والله لا يستحيي من الحق } أي ينزله ويبينه لكم، وقيل: الحق هو مما لا يستحيى منه { وإذا سألتموهن متاعا } الآية، روت عائشة أن عمر قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): احجب نساءك فنزلت الآية، وقيل: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يطعم الطعام ومعه بعض أصحابه فأصابت يد رجل منهم يد عائشة فكره النبي ذلك فنزلت، متاعا أي شيئا ينتفع به { فاسألوهن من وراء حجاب } من خلف ستر { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } من التهمى والريبة ووسوسة الشيطان { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } لأنه اختاره لرسالته فليس لأحد أن يؤذيه { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا } قيل: نزلت في رجل قال لهن: لئن قبض رسول الله لأنكحن عائشة { إن ذلكم كان عند الله عظيما } أي إثما عظيما لأن من لم يعتقد ذلك كفر { إن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليما } إشارة إلى أنه عالم لم يزل بجميع الأشياء ثم استثنى الأقارب فقال سبحانه: { لا جناح عليهن في آبائهن ولا أبنائهن ولا إخوانهن } أي لا حرج عليهن في ترك الحجاب بين النساء وبين هؤلاء، ومتى قيل: لم لم يذكر العم والخال؟ قالوا: لأن العم كالأب والخال كالأم أو لأجل أولادهم لأنهما يجريان مجرى الوالدين { ولا نسائهن } قيل: نساء دينهن، وقيل: جميع النساء الحرائر والإماء، وقيل: نساء قراباتهن وجيرانهن { ولا ما ملكت أيمانهن } قيل: من العبيد والإماء الذين يقومون لخدمتهن عن أبي علي، وقيل: أراد النساء، وقيل: الذكور والإناث في حال الصغر { واتقين الله } خطاب عام في جميع المؤمنين النساء { إن الله كان على كل شيء شهيدا } في جميع أفعالكم فلا يخفى عليه شيء.
[33.56-59]
{ إن الله وملائكته يصلون على النبي } قيل: يثنون عليه بأحسن الثناء ويعظمونه بالوصف الجميل { يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } أي قولوا صلى الله على الرسول والسلام، ومعناهما الدعاء، قال جار الله: فإن قلت: الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واجبة أم مندوبة قلت: بل واجبة، وقد اختلفوا فمنهم من أوجبها كما ذكر في الحديث:
" من ذكرت عنده ولم يصلي علي فدخل النار فأبعده الله "
" وروي أنه قيل: يا رسول الله أرأيت قول الله: { إن الله وملائكته يصلون على النبي }؟ قال: " هذا من العلم المكنون ان الله وكل في ملكين فلا أذكر عند رجل فيصلي علي إلا قال الملكان: غفر الله لك، وقال الله وملائكته لذينك الملكين: آمين "
ومنهم من قال: يجب في كل مجلس مرة وكذلك في كل دعاء مرة في أوله وآخره، والذي يقتضيه الاحتياط الصلاة عند كل ذكر لما ورد من الأخبار الصلاة جائزة على كل مؤمن { إن الذين يؤذون الله ورسوله } قيل: يؤذون أولياءه، وقيل: يؤذون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأضاف الإيذاء إلى نفسه تعظيما، وقيل: في أذى الله هو قول اليهود والنصارى والمشركين:
يد الله مغلولة
[المائدة: 64] و
ثالث ثلاثة
[المائدة: 73] و
المسيح ابن مريم
[المائدة: 17] والملائكة بنات الله والأصنام شركاؤه، وقيل: في إيذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قولهم: ساحر شاعر كاهن مجنون { لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا } { والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا } بغير جناية واستحقاق للأذى، والآية نزلت في ناس من المنافقين كانوا يؤذون عليا (عليه السلام)، وقيل: نزلت في ناس كانوا يتبعون النساء إذا مررن { فقد احتملوا بهتانا } أي كذبا { وإثما مبينا } أي ظاهرا { يا أيها النبي قل لأزواجك } وكان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تسع نسوة { وبناتك } وكان له أربع بنات: فاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم، جاء من السيرة جميع أولاده (صلى الله عليه وآله وسلم) من خديجة إلا إبراهيم فإنه من مارية { ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن } يرخينها عليهن ويغطين وجوههن، الجلباب ثوب واسع أوسع من الخمار دون الرداء تلويه المرأة على رأسها وتبق منه ما ترسله على صدرها، وعن ابن عباس، الرداء ما يستر من فوق إلى أسفل، وقيل: الملحفة، وقيل: كل ما يستر به من رداء وغيره { ذلك أدنى } أقرب { أن يعرفن فلا يؤذين } قيل: يعرفن بالحرية دون الإماء، وقيل: يعرفن بالستر والصلاح، وقيل: يعرفن بأنهن من المؤمنات دون نساء الكفار والمنافقات { وكان الله غفورا رحيما } من أطاعه.
[33.60-69]
{ لئن لم ينته المنافقون } أي يمتنع { والذين في قلوبهم مرض } شك { والمرجفون في المدينة } وهم الذين يخبرون بالكذب والباطل، وكان ناس إذا خرجت سرية أرجفوا بأنهم قتلوا وهربوا ويقولون: أتاكم العدو، وقيل: كانوا يحبون أن يفشوا الأخبار والفاحشة في الذين آمنوا { لنغرينك بهم } قيل: لنسلطنك عليهم، وقيل: لنأمرن بقتلهم { ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا } حتى يقتلوا، ثم ذكر المنافقين بوعيدهم فقال سبحانه: { ملعونين أينما ثقفوا } أي مطرودين على وجه الإهانة أينما وجدوا وظفر بهم أحد { أخذوا وقتلوا تقتيلا } قيل: أراد المنافقون إظهار ما في قلوبهم فأوعدهم الله بهذه الآية { سنة الله } طريقته وعادته { في الذين خلوا من قبل } قيل: سنة الله في هؤلاء المنافقين كسنته في الكفار الذين كانوا في الأمم { ولن تجد لسنة الله تبديلا } أي ما جعل سنة لا يغيره أحد { يسألك الناس } عن السرعة التي يموتون فيها ويخرجون من القبور، وكان المشركون يسألون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزوء، فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به لم يطلع عليه ملكا ولا نبيا، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع { إن الله لعن الكافرين } أي أبعدهم من رحمته { وأعد لهم سعيرا } أي نارا مسعرة موقدة أجارنا الله منها بحقه العظيم آمين { خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا } يقوم بأمرهم { ولا نصيرا } { يوم تقلب وجوههم في النار } قيل: الملائكة تقلبها، وقيل: هم يقلبون وجوههم لغاية التضرع، وقيل: من البياض إلى السواد، وقيل: تقلب وجوههم إلى ظهورهم { يقولون } على وجه الأعذار: { يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا } { وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا } يعني قادة الكفر وأئمة الضلال { فأضلونا السبيلا } فاتبعناهم في ذلك، ومتى قيل: ومن السادة والكبراء؟ قالوا: علماء السوء، وقيل: الكبرياء { ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كثيرا } لما تقدم ذكر النهي عن إيذاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عقبه بذكر من آذى موسى تسلية له فقال سبحانه: { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى } الآية، قيل: نزلت في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من قاله بعض الناس، وقيل: اتهامهم إياه بقتل هارون وقد خرج معه إلى الجبل فمات هناك فحملته الملائكة ومروا به عليه ميتا فأبصروه حتى عرفوه أنه غير مقتول، وقيل: أحياه الله فأخبرهم ببراءة موسى، وقيل: قذفوه بعيب في جسده من برص أو ادرة فأطلعهم الله أنه بريء، وقيل: من جهة قارون وبذله المال للمرأة على أنها تكذب عليه، وقد تقدم الكلام عليه في سورة القصص في قوله:
إن قارون كان من قوم موسى
[القصص: 76] { فبرأه الله مما قالوا } أي أظهر براءته { وكان عند الله وجيها } عظيم القدر والمنزلة.
[33.70-73]
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } أي اتقوا ما نهاكم عنه أو اتقوا عذابه { وقولوا قولا سديدا } أي قصدا حقا، قيل: صوابا، وقيل: عدلا، وقيل: قول لا إله إلا الله { يصلح لكم أعمالكم } قيل: يقبلها لكم ويثيبكم عليها { ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما } { إنا عرضنا الأمانة } اختلفوا في الأمانة قيل: الطاعة لله، وقيل: الفرائض وحدود الدين، وقيل: ما أمر به ونهى عنه، وقيل: ما يخفى من الشرائع كالصوم والاغتسال ونحوه، وقيل: هي أمانات الوفاء بالعقود والعهود عن ابن عباس، واختلفوا في معنى الآية قيل: إنا عرضنا الأمانة أي العبادات والتكاليف بما في أدائها من الثواب وفي تضييعها من العقاب { على السماوات والأرض } أهل السماوات والأرض والجبال كقوله:
واسأل القرية
[يوسف: 82] وأهل السماء الملائكة، وأهل الأرض والجبال الجن والإنس { فأبين أن يحملنها } أي امتنعوا أن يخونوا فيها، والمراد يحملن تضييع الأمانة { وأشفقن } من ذلك { وحملها الإنسان } بالتضييع فتركها وخانها بالتضييع عن أبي علي، وقيل: هذا على التقدير، أي لو كانت السماوات والأرض والجبال مع عظمها حية قادرة عالمة ثم عرضت عليها هذه الأمانة بما فيها من الوعد والوعيد عرض تخيير خافت حملها لما فيه من الوعيد { وحملها الإنسان } ولم يخف الوعيد لحمله وظلمه، وعلى هذا الحمل ما روي عن ابن عباس أنها عرضت على السماوات فأبت وأشفقت { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } بتضييع الأمانة والتوحيد { ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما } لمن تاب وأصلح.
[34 - سورة سبإ]
[34.1-5]
{ الحمد لله } وهو صفة بأسمائه الحسنة وصفاته العليا وشكره على نعمه في الدين والدنيا { الذي له ما في السماوات وما في الأرض } ملكا وخلقا { وله الحمد في الآخرة } وهو المحمود على أفعاله المستحق للحمد في الدارين لكونه منعما فيهما { وهو الحكيم } الذي أحكم أمور الدارين ودبرهما بحكمته { الخبير } بكل كائن يكون { يعلم ما يلج في الأرض } من الغيب والكنوز والأموات { وما يخرج منها } من الشجر والنبات لا يعلمها إلا هو { وما ينزل من السماء } من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والملائكة وأعمال العباد { وهو الرحيم الغفور } للمفرطين في أداء مواجيب شكرها وغفور لذنوبهم إذا تابوا { وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل } يا محمد { بلى } تأتيهم الساعة { وربي } أخبر به وأكده باليمين { عالم الغيب } يعني يعلم كل ما يغيب لا تخفى عليه خافية لأنه عالم لذاته فلا يختص بمعلوم دون معلوم { لا يعزب عنه } أي لا يغيب عن علمه { مثقال ذرة } وهي النملة { في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } يعني محفوظ عنده، وقيل: في اللوح المحفوظ { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي ليكافي من آمن وعمل صالحا بما يستحقه من الثواب { أولئك لهم مغفرة ورزق كريم } أي هنيء لا يكدره شيء يعني في الجنة { والذين سعوا في آياتنا } أي في حجتنا { معاجزين } أي عملوا في إبطالها وهو الكتاب وسائر المعجزات وسعيهم ردها بالتكذيب، وقيل: سعيهم دعاءهم إلى الكفر، وقوله: { معاجزين } أي منافقين، أي يحسبون أنهم يعجزوننا ويفوتوننا، وقرئ معجزين { أولئك لهم عذاب من رجز أليم } قيل: هي الأمور الكريهة، وعن قتادة: الرجز سوء العذاب.
[34.6-11]
{ ويرى الذين أوتوا العلم } أعطوا العلم قيل: هو أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: من آمن من علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وقيل: كل من أوتي العلم إلى يوم القيامة، وقيل: هم علماء التوحيد والعدل { الذي أنزل إليك } أي يعلمون أنه { الحق } وهو القرآن { ويهدي } يعلمون أنه حق ويعلمون أنه يهدي { إلى صراط العزيز } القادر { الحميد } المحمود والصراط قيل: هو دين الإسلام { وقال الذين كفروا } القادة والاتباع متعجبين منه: { هل ندلكم على رجل } يعنون محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { ينبئكم } يخبركم { إذا مزقتم كل ممزق } بليتم وتفرق أجزاؤكم وتقطع أوصالكم وصرتم ترابا، كل ممزق يعنون تفريقا عظيما { إنكم لفي خلق جديد } أي تعودون أحياء كما كنتم { أفترى على الله كذبا } قيل: هو من كلام المتبوعين أيضا قالوه معجبين، وقيل: هو من كلام الاتباع جوابا لهم { أم به جنة } أو مجنون لا يدري { بل } الكفار { الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب } أي يصيرون إلى العذاب { والضلال البعيد } يعني بعيد عن الحق { أفلم يروا } أفلم ينظروا { إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض } ألم يروا أن السماء محفوظة بهم والأرض، وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم لا يقدروا أن ينفذوا من أقطارها وان يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله، وقيل: بالسماء والأرض أنعم عليهم أفلا يدبرون { إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء } لتكذيبهم بالآيات وكفرهم بالرسول وبما جاء به كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة { إن في ذلك } النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلان عليه من قدرة الله { لآية } دلالة { لكل عبد منيب } وهو الرجع إلى ربه المطيع له تائب من ذنوبه { ولقد آتينا داوود منا فضلا } أي أعطيناه فضلا، والمراد أنا فضلناه على غيره بما أعطيناه من النبوة والكتاب وهو الزبور والمعجزات الظاهرات { يا جبال أوبي معه } وقلنا: يا جبال أوبي من التأويب والأوب أي رجعي معه التسبيح، ومعنى تسبيح الجبال أن الله سبحانه خلق فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجر فسمع منها كما يسمع من المسبح معجزة لداوود (عليه السلام) { والطير } بأصواتها، قال جار الله: والذي ذكره الحاكم قال معناه يا جبال أوبي معه أي سخرنا الجبال له وسهلناها فلا يصعب عليه ما يريده منها من قطع وغيره لأنه ليس بحي مخاطب، وقيل: كانت الجبال تسبح إذا سبح، عن ابن عباس: أي رجعي معه بالتسبيح، وقيل: إذا قرأ الزبور بصوت حزين والطير تعظيما لقراءته، وهذا يحتمل أن الله خلق ذلك فيها معجزة لداوود { وألنا له الحديد } وجعلناه له لينا كالطين والعجين والشمع يصرفه كيف شاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة { ان اعمل سابغات } وهي الدروع الواسعة الصافية، وهو أول من اتخذها، وكان يأكل من كسب يده، وروي أنه كان يبيع الواحد بأربعة آلاف { وقدر في السرد } في نظم الحلق والسرد حلق الدرع، وقيل: السابغات الدروع والسرد الإرسال والله أعلم { واعملوا صالحا } أي قلنا لهم اعملوا { إني بما تعملون بصير } فمجازيكم به.
[34.12-14]
{ ولسليمان الريح } أي وسخرنا لسليمان { غدوها شهر } أي سيرتها في غدوها إلى انتصاف النهار مسيرة شهر، وكذلك رواحها مسيرة شهر كل يوم مسيرة شهرين { وأسلنا له عين القطر } عين النحاس، وقيل: سيل في الشهر ثلاثة أيام، وروي أنه سال في اليمن { ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه } أي من الجن من سخرنا له بأمر الله { ومن يزغ منهم } ومن يعدل { عن أمرنا } الذي أمرنا به { نذقه من عذاب السعير } عذاب الآخرة، وروي أنه كان معه ملك بيده سوط من نار كلما استعصى عليه ضربه من حيث لا يراه الجني { يعملون له ما يشاء من محاريب } المساكن والمجالس الشريفة، وقيل: هي المساجد { وتماثيل } صور الملائكة والنبيين والصالحين، وكانت تعمل المحاريب من نحاس وصفر وزجاج ورخام ويجوز أن يكون غير صور الحيوان كصور الأشجار وكانت جائز في شريعته { وجفان } هي القصاع الكبار الذي يوكل فيه { كالجواب } قيل: الحياض، وقيل: كحياض الابل، وقيل: كان يجمع على كل جفنة ألف رجل { وقدور راسيات } ثابتات لا تحمل عن مكانها، وقيل: كانت عظيمة كالجبال { اعملوا آل داوود شكرا } يعني اشكروا الله على هذه النعمة { وقليل من عبادي الشكور } يعني المؤمنين الذي يشكر الله قليل { فلما قضينا عليه الموت } أوجبنا عليه الموت على سليمان { ما دلهم على موته } أي ما دل الجن على موت سليمان { إلا دابة الأرض تأكل منسأته } أي عصاه { فلما خر } سقط { تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين } وقرأ ابن مسعود: تبينت الانس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب، وروي أنه كان من عبادة سليمان أن يعتكف في بيت المقدس المدد الطوال، فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله سبحانه فسألها لأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا، حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة، فسألها فقالت: نبت لخراب هذا المسجد، فقال: ما كان الله ليخربه وأنا حي أنت التي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس، فنزعها وغرسها في حائط له وقال: اللهم عم على الجن موتي حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب، وقال لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني، فقال: أمرت بك وقد بقي من عمرك ساعة، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، وقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكئ عليها، فمر به شيطان فلم يسمع صوته، فنظر فإذا سليمان قد خر ميتا، ففتحوا عليه فإذا العصا قد أكلتها الأرضة، وأرادوا أن يعرفوا ذلك فوضعوا الأرض على العصا فأكلت منها يوم وليلة مقدارا فحسبوه فوجدوه قد مات منذ سنة وكانوا يعملون بين يديه ويحسبونه حيا، فأيقن الناس أنهم لو علموا الغيب ما لبثوا في العذاب المهين سنة، وروي أن سليمان ملك الأمر وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فبقي في ملكه أربعين سنة، ثم ذكر ما أنعم به على سبأ وكانوا بنعمة، وروي أن الله بعث اليهم ثلاثة عشر نبيا يدعونهم إلى الله تعالى ويذكرونهم نعمته عليهم فكذبوهم.
[34.15-21]
{ لقد كان لسبأ } قيل: حي باليمن، وقيل: أرض باليمن، وقيل: كان رجل من العرب { في مسكنهم } بلدهم { آية جنتان } حجة على وحدانيته وقدرته { عن يمين وشمال } عن يمين البلد وشمالها { كلوا من رزق ربكم واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور } { فأعرضوا } عن أمر الله { فأرسلنا عليهم سيل العرم } السيل الماء الجاري الكثير، واختلفوا في العرم قيل: أن بلقيس الملكة سدت ما بين الجبلين بالصخر، فحقنت فيهما العيون والأمطار وتركت فيه حروقا على مقدار ما يحتاجون إليه في سقيهم، وقيل: العرم اسم الوادي، وقيل: الخرق بقية العرم الذي بين السد من أسفله فسال منه الماء فخرب الجنان، وقيل: هو صفة السيل يعني سيل شديد { وبدلناهم بجنتيهم جنتين } سماهما جنتين توسعا { ذواتى أكل خمط } قيل: هو كل شجرة ذي شوك، وقيل: الخمط الاراك لا أكل له، و { وأثل } قيل: الاثل الخشب { وشيء من سدر قليل } قال قتادة: كان شجرهم خير شجر فصيره الله شر شجر لسوء أعمالهم { ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور } يعني هل يعاقب بمثل ذلك العقاب إلا الكفار { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها } قيل: هي الشام، وقيل: هي بيت المقدس { قرى ظاهرة } وقيل: كان بين اليمن والشام قرى متصلة يرى بعضها من بعض، وقيل: قرى صنعاء عن وهب { وقدرنا فيها السير } أي قلنا لهم: { سيروا } وهي إباحة وليس بأمر { فيها } أي في القرى { ليالي وأياما آمنين } يعني أي وقت شئتم ليلا أو نهارا، آمنين لا يخافون جوعا ولا عطشا ولا ظمأ من أحد ولا يحتاجون إلى زاد ، وذلك أن القوم كانوا يسيرون فيها ليالي وآياما آمنين لا يخافون وإن تطاولت مدة سفرهم فيها وامتدت أياما وليالي، أو سيروا فيها لياليكم وأيامكم مدة أعماركم فإنكم في كل حين وزمان لا تلقون فيها الأمان { فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا } وبعدنا ربنا على الدعاء، بطروا النعمة وشموا من طيب العيش وكلوا العافية فطلبوا الكد والتعب، كما طلبت بنو إسرائيل البصل والثوم مكان المن والسلوى وقالوا: لو كان حسابنا كان أجدر أن نشتهيه، وتمنوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزودوا الأزواد فجعل الله لهم الإجابة { وظلموا أنفسهم } بالكفر والمعاصي { فجعلناهم أحاديث } يتحدث الناس بهم وتعجبوا من أحوالهم { ومزقناهم كل ممزق } وفرقناهم تفريقا، قيل: أهلكناهم بعذاب الاستئصال فتمزقت أجسادهم، وروي أنهم أهلكوا بالجوع والعطش { إن في ذلك } أي فيما تقدم { لآيات لكل صبار شكور } { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه } قيل: ظن ذلك عند اخبار الله والملائكة أنه يجعل فيها من يفسد فيها، وقيل: إنه حين وجد آدم ضعيف العزم قد أصغى إلى وسوسته قال: إن ذريته أضعف عزما منه، فظن بهم اتباعهم وقال: لأضلنهم ولأغوينهم، فلما دعاهم أجابوه صدق ظنه فيهم، والضمير في عليهم واتبعوه اما لأهل سبأ أو لبني آدم { إلا فريقا من المؤمنين } عملوا بما أمر الله { وما كان له عليهم من سلطان } من تسليط سيف ولكن دعاهم إلى ما وافق هداهم فأجابوه { الا لنعلم } بمعنى لكن التخلية بينكم وبينه ليظهر المعلوم ممن تبعه وممن لا يتبعه { من يؤمن بالآخرة } قيل: ليتميز من يؤمن بالآخرة ويرد دعوة إبليس، وقيل: العلم بمعنى الروية أي ليرى المؤمنين ويميزه ممن ليس بمؤمن { ممن هو منها في شك وربك على كل شيء حفيظ } أي حافظ يحفظ عليهم ليجازيهم على أفعالهم.
[34.22-30]
{ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله } وهو الأوثان إذا نزل بكم العذاب { لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض } أي لا يقدرون على مثقال ذرة، وقيل: من أرزاق العباد، وقيل: من خير وشر في السماوات ولا في الأرض، { وما لهم فيهما من شرك } أي الأوثان { وما له منهم من ظهير } أي معين { ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن اذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم } يعني كشف الخوف عن قلوبهم { قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق } أي القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى، وعن ابن عباس: عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" فإذا أذن لمن أذن أن يشفع فزعته الشفاعة "
وذلك بعد الخروج من القبور يعني إنما كشف الفزع عن قلوب المشركين قالت الملائكة: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، ومنهم من قال: هو راجع إلى الملائكة، وقيل: ذلك يكون عند فزع أرواحهم وقلوبهم يعود إلى الكفار، وذلك أن اعترافهم حين لا ينفعهم { وهو العلي الكبير } { قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى } والمعنى أنا لعلى هدى وإنكم لفي { ضلال مبين } { قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون } أي لا تؤخذون بعملنا ولا نؤخذ بعملكم { قل } يا محمد { يجمع بيننا ربنا } يوم القيامة { ثم يفتح بيننا } يثيب المحق ويعاقب المبطل { وهو الفتاح العليم } { قل أروني الذين ألحقتم به شركاء } قل لهم يا محمد اعلموني ولم يرد الروية للنظر لأنهم كانوا يرون الأصنام، وقيل: أروني ما هو خلق الشركاء الذين ألحقتم بالله، شركاء أي أشركتموهم { كلا } ليس كما يفعلون { قل هو الله } لا شريك له ولا ند فيستحق العبادة { العزيز الحكيم } { وما أرسلناك } يا محمد { إلا كافة للناس } قيل: جامعا لهم بالإنذار والدعوة إلى العرب والعجم وسائر الأمم لمن اتبعه بالجنة { ونذيرا } مخوفا لمن خالفه بالنار { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } رسالتك { ويقولون متى هذا الوعد } قيل: القيامة، وقيل: العذاب { إن كنتم صادقين } في ذلك { قل } يا محمد { لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون } وهو يوم القيامة.
[34.31-38]
{ وقال الذين كفروا لن نؤمن بهذا القرآن } قيل: إن قريشا بعثوا إلى رؤساء اليهود فسألوهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنكرت اليهود نبوته وقالوا: لن نؤمن بهذا القرآن فنزلت الآية، وقيل: نزلت في مشركي قريش، وقوله: { لن نؤمن بهذا القرآن } أي لم نصدق أنه من الله وأنه حق { ولا بالذي بين يديه } قيل: من الكتب المنزلة، وقيل: الذي بين يديه الآخرة وما دل عليه البعث والجزاء { ولو ترى } يا محمد { إذ الظالمون } الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، وقيل: ظلموا الرسول بالتكذيب، يعني لو ترى حالهم في الآخرة لرأيت العجب { موقوفون عند ربهم } أي محبوسون، ومعنى عند ربهم أي في الموضع الذي يحكم فيه بينهم { يرجع بعضهم إلى بعض القول } يعني يتلاومون ويرد كل واحد القول على صاحبه { يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا } للرؤساء والمتبوعين من علماء السوء والقادة { لولا أنتم لكنا مؤمنين } أي لولا مكانكم ودعاءكم إيانا لكنا مؤمنين حين دعوهم إلى الكفر فقبلوا تقليدا، وقيل: بل منعوهم من الايمان بالقهر { قال الذين استكبروا } والمتبوعين مجيبين { للذين استضعفوا } الاتباع { أنحن صددناكم } يعني أنحن منعناكم { عن الهدى } وهو الاسلام { بعد إذ جاءكم } على لسان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { بل كنتم مجرمين } كافرين لاختياركم لقولنا { وقال الذين استضعفوا } { بل مكر الليل والنهار } قيل: مكركم في الليل والنهار، أو حملكم إيانا على الشرك واتخاذكم الانداد، ثم بين ما دعوهم إليه فقال سبحانه: { إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة } قيل: أخفوا الندامة في أنفسهم خوف الفضيحة، وقيل: أظهروا الندامة وهو يرجع إلى الجميع الاتباع والمتبوعين { لما رأوا العذاب } أي عاينوه { وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا } يعني فغل أيديهم إلى أعناقهم { هل يجزون } بما فعل بهم { إلا ما كانوا يعملون } من الكفر والمعاصي { وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها } رؤساؤها وأغنياؤها الذين بطروا { إنا بما أرسلتم به كافرون } { وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا } ولو لم يرض بما نحن عليه من الدين ما أعطانا ذلك { وما نحن بمعذبين } كما يقول البعث، وقيل: لا يعذبنا إذ لو أردنا إلا الآخرة لأعطانا مثل ما أعطانا في الدنيا من النعم { قل } يا محمد مجيبا لهم: { إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي يوسع لمن يشاء ويضيق على من يشاء بحسب المصلحة { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } ذلك، وروى (صلى الله عليه وآله وسلم):
" اللهم من عصاني فأكثر ماله وولده واجعل رزق محمد الكفاف "
وقيل: كانوا يتفاخرون بالمال { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } أي لا يغرنكم ثواب الله ورضائه كثرة أموالكم وأولادكم، والزلفى القربى { إلا من آمن } إلا بمعنى لكن الذي يقرب من ثوابه من آمن { وعمل صالحا } وهو استثناء، والمعنى أن الأموال لا تقرب أحد إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله { فأولئك لهم جزاء الضعف } أي جزاء الأضعاف بقوله:
فله عشر أمثالها
[الأنعام: 160] { بما عملوا وهم في الغرفات آمنون } قيل: القصور آمنون من زوالها ومن كل ما يخاف { والذين يسعون في آياتنا معاجزين } أي حججنا، قيل: يسعون في منع الناس عن الايمان معاجزين، قرأ ابن كثير وأبو عمرو معجزين بغير ألف وتشديد الجيم، وقرأ الباقون بالألف، قيل: معاجزين للأنبياء والمؤمنين { أولئك في العذاب محضرون } أي يحضرون العذاب، وقيل: أراد الاتباع والمتبوعين.
[34.39-45]
{ قل } يا محمد { إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر } يضيق بحسب المصلحة { وما أنفقتم من شيء } أي أخرجتم من أموالكم في وجه البر { فهو يخلفه } أي يعطي في الدنيا والآخرة أما في الدنيا زيادة النعم وفي الآخرة ثواب الجنة، واختلفوا فمنهم من قال: هو في النفقة وأعمال البر والمباحات وما كان من غير إسراف، ومنهم من حمله على أعمال البر وهو اختيار أبي علي { وهو خير الرازقين } لأنه يعطي بمنافع عباده { وهو خير الرازقين } وأعلاهم رب العزة لأن كل ما رزق غيره من سلطان يرزق جنده، أو السيد يرزق عبيده، أو رجل يرزق عياله، فهو من رزق الله خالق الرزق وخالق الأسباب { ويوم نحشرهم جميعا } الكفار الذين تقدم ذكرهم { ثم يقول للملائكة أهؤلاء } الكفار { إياكم كانوا يعبدون } في الدنيا وهو سؤال توبيخ { قالوا } يعني الملائكة { سبحانك } أي تنزيها لك عن الشرك { أنت ولينا من دونهم } لأن كلنا عبيد لك، فبينوا إثبات موالاة الله ومعادات الكفار { بل كانوا يعبدون الجن } يريدون الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله، وقيل: صورت لهم الشياطين صورة قوم من الجن وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها { أكثرهم بهم مؤمنون } يعني أكثر الغواة يطيعون الشياطين في معصيته { فاليوم لا يملك بعضكم لبعض } أي يجازيهم الله فلا يملك أحد منهم لصاحبه { نفعا ولا ضرا ونقول للذين ظلموا ذوقوا عذاب النار الذي كنتم بها تكذبون } { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } على هؤلاء الكفار بسائر الحجج، وقيل: القرآن الذي جاء به { قالوا ما هذا } أي محمد { إلا رجل يريد أن يصدكم } يمنعكم { عما كان يعبد آباؤكم } ولذلك فزعوا إلى تقليد الآباء { وقالوا ما هذا } يعني القرآن الذي جاء به { إلا إفك مفترى } قيل: الإفك الكذب، والمفترى الذي افتراه غيره { وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين } { وما آتيناهم من كتب } ولا حجة في صحة ما رموك به أو ما آتيناهم من كتب { يدرسونها } فيها برهان على صحة الشرك { وما أرسلنا إليهم قبلك } يا محمد { من نذير } يعني ما آتاهم رسول بصحة ما ادعوه من الشرك فهم لا يرجعون في ذلك إلا إلى الجهل وتقليد الآباء { وما بلغوا معشار ما آتيناهم } أي لم يبلغ الكفرة الذين بعث اليهم محمد عشر ما أوتي الأمم من القوة قبلهم { فكذبوا رسلي فكيف كان نكير } نكيري عليهم بالهلاك نحو عاد وثمود.
[34.46-54]
{ قل إنما أعظكم بواحدة } آمركم وأوصيكم، يعني إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهو { أن تقوموا لله } لوجه الله خالصا متفرقين { مثنى وفرادى } اثنين اثنين أو واحدا واحدا { ثم تتفكروا } في أمر محمد وما جاء به، وقيل: آمركم وأوصيكم بواحدة مقرونا بالزجر والوعيد والوعد وهي كلمة التوحيد، وقيل: فسر الواحدة بما بعده فقال: { أن تقوموا لله } أي بطاعته وطلب مرضاته مسترشدين مناصحين لأنفسهم { مثنى } أي اثنين اثنين مناظرين واحد واحد متفكرين في أحوال النبي وأقواله وأفعاله وما ظهر عليه من المعجزات { ما بصاحبكم من جنة } قيل: تعلموا حينئذ أنه ليس بمجنون { إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد } قيل: عذاب الآخرة { قل ما سألتكم من أجر } يعني على أداء الرسالة وبيان الشريعة { فهو لكم إن أجري } ثوابي { إلا على الله وهو على كل شيء شهيد } أي شاهد بيني وبينكم { قل إن ربي يقذف بالحق } يلقيه وينزله ويرمي به الباطل فيدمغه ويزهقه { علام الغيوب } مبالغة في كونه عالم لذاته ومعلوماته { قل } يا محمد { جاء الحق } وهو القرآن والإسلام { وما يبدئ الباطل وما يعيد } يعني ذهب الباطل فلم يبق له مع الحق بيان ولا ظهور لزوال شبههم، وقيل: الباطل كل معبود دون الله، يعني لا يخلق شيئا ابتداء ولا يعيد، وعن الحسن وابن مسعود قال: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة وداخل البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود معه ويقول:
" جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا { جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد } "
{ قل } يا محمد، إذا نسبوك إلى الضلال وترك دين الآباء { إن ضللت فإنما أضل على نفسي } أي آخذ بذلك { وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي } فله المنة دون الخلق { إنه سميع } لأقوالنا { قريب } منا لا يخفى عليه شيء { ولو ترى إذ فزعوا } قيل: هو وقت البعث وقيام الساعة، وقيل: وقت الموت يوم بدر، وعن ابن عباس: نزلت في خسف البيداء، وذلك أتت ثمانون ألفا يغزون الكعبة ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم { فلا فوت } فلا يفوتون الله ولا يسبقونه { وأخذوا من مكان قريب } من الموقف إلى النار إذا بعثوا أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم وقيل: من مكان قريب من بطن الأرض يحشرون على وجهها { وقالوا آمنا به } قيل: بالله، وقيل: بالرسول، وقيل: بالقرآن، وذلك حين لا ينفعهم لأنهم عاينوا العذاب فقالوا: آمنا به، وقيل: هو يوم القيامة، وقيل: عند الموت، وقيل: عند الخسف { وأنى لهم التناوش } أي تناول النبوة { من مكان بعيد } أي في الآخرة وهم غير مكلفين، يعني كيف ينفعهم إيمانهم في هذا الوقت، وقيل: كيف لهم أن يتناولوا ما كان قريبا منهم { وقد كفروا به من قبل } في الدنيا ولم يرد بعد المكان وإنما أراد بعد انتفاعهم به وبعدهم من الصواب وقد كفروا بالله وبالرسول وبالقرآن من قبل في الدنيا { ويقذفون بالغيب من مكان بعيد } وهو قولهم في رسول الله شاعر ساحر كذاب، وقيل: هو قولهم لا جنة ولا نار، وقذف الغيب من مكان بعيد عبارة عن الكلام الذي يقوله الجاهل: { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } أي منعوا من مشاهيهم، وقيل: الموت الذي حل بهم كما حل بأمثالهم، وقيل: حيل بينهم وبين نعيم الجنة عن أبي علي، وقيل: مشاهيهم التوبة والإيمان والرد إلى الدنيا { كما فعل بأشياعهم من قبل } أهل دينهم موافقيهم من الأمم الماضية { إنهم كانوا في شك مريب } أي لم يكونوا في دينهم على شيء بل كانوا شاكين.
[35 - سورة فاطر]
[35.1-2]
{ الحمد لله } أي الثناء الحسن وشكر النعم كلها لله الذي تحق له العبادة، الذي هو { فاطر السماوات والأرض } أي خالقها فأمر بحمد وشكره على نعمه في الدنيا، ثم عف بنعيم الدين فقال سبحانه: { جاعل الملائكة رسلا } أي الأنبياء ليعرفهم مصالح الخلق أو بعضهم إلى بعض { أولي أجنحة } أي خلق لهم أجنحة ليطيروا بها { مثنى وثلاث ورباع } قيل: منهم من له جناحان، ومنهم من له ثلاثة أجنحة، ومنهم من له أربعة { يزيد في الخلق ما يشاء } أي يزيد في خلق الأجنحة وفي غيره ما تقتضيه مشيئته وحكمته، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه رأى جبريل وله ستمائة جناح،
" وروي أنه سأل جبريل (صلوات الله عليه) أن يتراءى له في صورته فقال: إنك لن تطيق ذلك، فقال: " إني أحب أن تفعل " فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ليلة مقمرة وأتاه جبريل في صورته فغشي عليه، ثم أفاق وجبريل (عليه السلام) مسنده وإحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه فقال: " سبحان الله ما كنت أرى أن أحدا من الخلق هكذا " قال جبريل: كيف لو رأيت اسرافيل له اثني عشر جناحا: جناح بالمشرق وجناح بالمغرب والعرش على كاهله "
" وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: { يزيد في الخلق ما يشاء } " الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن "
وقيل: الخط، والآية مطلقة فتناول كله زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء { إن الله على كل شيء قدير } يزيد وينقص { ما يفتح الله للناس } يعني أي شيء يطلق الله { من رحمة } أي من نعمة رزق أو مطر و صحة أو أمن أو غير ذلك { فلا ممسك لها } أي لا يقدر أحد أن يمنعها منه { وما يمسك } عنهم من الأرزاق، وقيل: من العذاب { فلا مرسل له من بعده وهو العزيز } القادر { الحكيم } فيما يعطي ويمسك.
[35.3-10]
{ يا أيها الناس } خطاب للمكلفين { اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله } لأنه خلقهم وخلق جميع الأشياء وهذا استفهام، والمراد تحقيق النفي أي لا خالق غيره { يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو } أي لا تحق الإلهية والعبادة إلا له { فأنى تؤفكون } كيف تكذبون وتزعمون أن لله شريكا، وقيل: أنى تصرفون عن الحق أو من أن تكذبون { وإن يكذبوك } يا محمد { فقد كذبت رسل من قبلك } تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { وإلى الله ترجع الأمر } يعني أمور الخلق فيجازيهم بما يستحقونه { يا أيها الناس إن وعد الله حق } يعني الساعة والثواب والعقاب وسائر ما أخبر به { فلا تغرنكم الحياة } أي لا تغتروا بالدنيا وأراد ملاذها وزينتها { ولا يغرنكم بالله الغرور } قيل: الشيطان بوسواسه والأماني الباطلة، وقيل: كلما استرزخ إلى المعاصي { إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا } أي عادوه ولا تتبعوه بأن تعملوا بإرادته { إنما يدعو حزبه } أتباعه وأولياءه { ليكونوا من أصحاب السعير } ليصيروا إلى النار، اللام لام العاقبة، أي يصيروا في العاقبة إلى النار { والذين كفروا لهم عذاب شديد } بمخالفة أمر الله تعالى وهو عذاب النار { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } أي الطاعات { لهم مغفرة } يغفر الله لهم ذنوبهم { وأجر كبير } أي ثواب عظيم { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا } يعني سوء عمله حسنا، ومتى قيل: من زين له؟ قيل: نفسه والشيطان، وقيل: علماء السوء، وقيل: الرؤساء فإنهم يصورونه حسنا { فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } قيل: يحكم بالضلال والهداية { فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } أي لا يغمك حالهم إذا كفروا واستحقوا العذاب كقوله:
لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين
[الشعراء: 3] { إن الله عليم بما يصنعون } فيجازيهم بذلك، ثم عاد إلى أدلة التوحيد فقال سبحانه: { والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت } أي إلى أرض بعد موتها، أي أحييناها بالنبات والأزهار بعد أن كانت ميتة { كذلك النشور } أي أحيى الموتى من القبور { من كان يريد العزة } في الدنيا بعبادة غيره فيعلم أنه لا ينالها، وقيل: يحيي الله الخلق بماء يرسله من تحت العرش كمني الرجال تنبت منه أجساد الخلق، روي ذلك في الكشاف { فلله العزة جميعا } فيعز من تمسك بطاعته، فبين لا عزة إلا لله ولأوليائه وقال:
ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين
[المنافقون: 8] { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه } والكلم الطيب لا إله إلا الله، عن ابن عباس: يعني أن هذه الكلم لا تصعد إلى السماء فتكتب حيث تكتب الأعمال المقبولة كما قال عز وجل:
إن كتاب الأبرار لفي عليين
[المطففين: 18]، وقيل: الرافع الكلم والمرفوع العمل، وقيل: الكلم الطيب كل ذكر من تهليل وتسبيح وتكبير وقراءة قرآن ودعاء واستغفار وغير ذلك، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" هو قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمان فإذا لم يكن له عمل صالح لم تقبل "
وفي الحديث:
" لا يقبل الله قولا إلا بعمل ولا يقبل قولا وعمل إلا بالنية "
وقيل: الكلم الطيب ذكر الله والعمل الصالح أداء فرائضه وإن لم يؤد فريضة رد عليه، وليس الايمان بالتمني، ومن قال حسنا وعمل صالحا رفع عمله أي قبله { والذين يمكرون السيئات } أي يزيدون في عمل المعاصي، وقيل: يعملون الشرك، وقيل: هم أصحاب الربا { لهم عذاب شديد } في الآخرة { ومكر أولئك هو يبور } أي يبطل ويفسد.
[35.11-14]
{ والله خلقكم من تراب } يعني آدم وهو أبوهم { ثم من نطفة } أي خلق البشر من ماء الرجل والمرأة { ثم جعلكم أزواجا } أي ذكرا وأنثى { ولا تضع إلا بعلمه } يعني هو العالم بحمله وكيفيته ووضعه { وما يعمر من معمر } قيل: لا حياة لأحد مدة طويلة ولا قصيرة إلا بعلمه، ومعناه ما يعمر من أحد وإنما سماه معمر إنما هو صائر إليه { إلا في كتاب } وصورته أن يكتب في اللوح إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن الصدقة والصلة يعمران الديار ويزيدان في الأعمار "
وعن كعب أنه قال حين طعن عمر: لو أن عمر دعا الله لأخر في أجله، فقيل لكعب: أليس الله قد قال:
إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
[يونس: 49]، قال: قد قال الله: { ما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب } ، وعن سعيد بن جبير: يكتب في الصحيفة عمر كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان حتى يأتي على آخره، عن قتادة: العمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة، والكتاب: اللوح، ويجوز أن يريد بكتاب الله علمه أو صحيفة الانسان { وما يستوي البحران } العذب والمالح وهو مثل للمؤمن والكافر، ومن كل واحد منهما { تأكلون لحما طريا } وهو السمك { وتستخرجون حلية } وهو اللؤلؤ والمرجان { وترى الفلك فيه مواخر } أي جواري تشق الماء شقا { لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون } هذه النعمة { يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل } وهو إدخال أحدهما في الآخر، قيل: بالزيادة والنقصان، وقيل: بإذهاب أحدهما بالآخر { وسخر الشمس والقمر } يجريا كما يريد { كل يجري لأجل مسمى } قيل: لوقت معلوم إلى أن تظهر أشراط الساعة { ذلكم الله ربكم } مدبر هذه الأمور { له الملك } في الدنيا والآخرة { والذين تدعون من دونه } أي يدعونه آلها وهو الأصنام { ما يملكون من قطمير } أي لا يقدرون على ذلك على قليل ولا كثير، والقطمير قشر النوى عن ابن عباس { إن تدعوهم } أي تدعو الأوثان { لا يسمعوا دعاءكم } لأنهم جماد { ولو سمعوا ما استجابوا لكم } قيل: هذا على وجه التقدير أي لو أحياهم وأسمعهم ما أجابوا ولا قدروا على معونتهم { ويوم القيامة يكفرون بشرككم } يحيي الله الأصنام يوم القيامة فتتبرأ منهم، يعني من المشركين، وقيل: المراد به الملائكة وكل معبود { ولا ينبئك مثل خبير } قيل: لا يخبرك بالصدق إلا الله لأنه عالم بكل شيء، قال جار الله: ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل خبير عالم، يريد به أنه المخبر بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين.
[35.15-28]
{ يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله } أي المحتاجون إليه { والله هو الغني } لا يحتاج إلى شيء { الحميد } المستحق للحمد فله الحمد كثيرا بكرة وأصيلا { إن يشأ يذهبكم } أي لا يبعد عليه ان يشأ يهلككم { ويأت بخلق جديد } { وما ذلك على الله بعزيز } أي متعزز { ولا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا تؤاخذ بذنب أحد { وإن تدع مثقلة } أي حاملة حملا ثقيلا { إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى } وإن كان أقرب الناس إليه { إنما تنذر الذين يخشون ربهم } إنما خصهم لقبولهم وانتفاعهم به وإلا فهو منذر للجميع، ومعنى يخشون يخافون الله تعالى { بالغيب وأقاموا الصلاة } أداموها { ومن تزكى } قيل: تطهر من المآثم، وقيل: صلح وعمل خيرا { فإنما يتزكى لنفسه } لأن جزاؤه يصل إليه { وإلى الله المصير } المرجع للجزاء { وما يستوي الأعمى والبصير } قيل: الأعمى عن الدين والبصير به، وقيل: المؤمن والكافر { ولا الظلمات ولا النور } ، قيل: هو النور والظلمة بعينها، وقيل: ظلمات الكفر ونور الايمان { ولا الظل ولا الحررو } قيل: الجنة والنار، وقيل: هو مثل للحق والباطل { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } قيل: أراد المؤمن والكافر { إن الله يسمع من يشاء } من عباده مواعظ فيتعظ بها وهو من له لطف { وما أنت بمسمع من في القبور } وهم الأموات شبههم بالأموات حيث لاينتفعون بما يسمعون { إن أنت إلا نذير } مخوف { إنا أرسلناك بالحق بشيرا } للمؤمنين { ونذيرا } للكافرين { وإن من أمة } من الأمم الماضية { إلا خلا فيها نذير } { وإن يكذبوك } فلا يغمك تكذيبهم إياك { فقد كذب الذين من قبلهم } من الأمم { جاءتهم رسلهم بالبينات } بالحجج { وبالزبر } بالكتب { وبالكتاب المنير } الواضح نحو التوراة والانجيل والزبور { ثم أخذت الذين كفروا } بالعقاب { فكيف كان نكير } { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء } وهو المطر { فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها } أجناسا من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرهما ما لا يحصر { ومن الجبال } التي خلقها { جدد } طرائق { بيض وحمر مختلف ألوانها } الجبال { وغرابيب سود } أي بعضها أسود كالغراب، يعني ومن الجبال مختلف ألوانه كما قيل ثمرات مختلف ألوانه { ومن الناس والدواب والأنعام } الابل والبقر والغنم { مختلف ألوانه } بيض وسود وحمر وصفر ذلك { كذلك } أي جعلناه مختلفا كما جعلنا الجبال والثمار مختلفا وذلك يدل على صانع حكيم مدبر { إنما يخشى الله من عباده العلماء } الذين علموا بصفاته وعدله وتوحيده وما يجوز عليه وما لا يجوز، فعظموه وقدروه قدره وخشوه حق خشيته، ومن ازداد به علما ازداد منه خوفا، وفي الحديث:
" أعلمكم بالله أشدكم خشية "
وقال رجل للشعبي: افتني أيها العالم، فقال: العالم من خشي الله { إن الله عزيز } قادر { غفور } يغفر ذنوب عباده.
[35.29-35]
{ إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة } يعني يتلون كتاب الله يداومون على تلاوته وعن مطرف (رحمه الله) هي آية، وعن الكلبي: يأخذون بما فيه، وقيل: يعملون بما فيه ويعملون به، وعن السدي: هم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: هم المؤمنون { وأنفقوا مما رزقناهم } قيل: على سبيل الخير { سرا وعلانية } قيل: السر التطوع والعلانية الفريضة { يرجون تجارة لن تبور } وللتجارة طلب الثواب بالطاعة { ليوفيهم أجورهم } وهي ما استحقوه من الثواب { ويزيدهم } التفضيل على المستحق { إنه غفور } لمن استغفر { شكور } لمن عمل بطاعته { والذي أوحينا إليك } يا محمد { من الكتاب } وهو القرآن { مصدقا لما بين يديه } قيل: مصدق الكتب الذي بين يديه، أو أراد القيامة { إن الله بعباده لخبير بصير } أي عالم بمصالحهم وأعمالهم فيجازيهم { ثم أورثنا الكتاب } أعطينا، وقيل: هو القرآن لأمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: هو التوراة وسائر الكتب أعطاها الله الأنبياء عن أبي علي { الذين اصطفينا } اخترنا { من عبادنا } قيل: هم الأنبياء اختارهم الله تعالى، وقيل: هم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: هم علماء هذه الأمة كما روي: " العلماء ورثة الأنبياء " { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } قيل: الكناية تعود إلى العباد فمنهم ظالم لنفسه مستحق النار مصر على الذنب، والمقتصد: المؤمن المستحق للجنة، والسابق هم الذين سبقوا مع الأنبياء، ونظير هذه الآية قوله في الواقعة:
وكنتم أزواجا
[الواقعة: 7] وهذا قول أبي علي، فعلى هذا فريقان ناجيان وفرقة هالكة، وروي نحوه عن ابن عباس، وقيل: أراد بالمصطفين آدم ونوحا وآل ابراهيم وآل عمران على العالمين والله أعلم، قال الهادي (عليه السلام) في تفسيره: المراد بالآية { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا } إلى آخرها قال: هم آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاختارهم لأبيهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم ميزهم وأخبر الخلق بصفتهم لكيلا يبقى حجة عليه ولئلا يعطى طاغي على مؤمنهم بفسق فاسقهم فقال: فمنهم ظالم لنفسه وهو فاسق آل محمد، ومقتصدهم أهل الدين والورع، ومنهم سابق بالخيرات أئمة آل محمد (عليهم السلام)، وقيل: ظالم لنفسه بالصغائر، ومقتصد بالطاعة، وسابق بالخيرات في الدرجة العليا،
" وروي عنه أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا هذه الآية فقال: " كلكم في الجنة "
{ جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير } قيل: الديباج، وقيل: أي إذا دخلوا الجنة { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } قيل: حزن الدنيا، وقيل: الموت والحشر وأهوالها، وقيل: حزن الدنيا والمعاش والمصائب والأوجاع { إن ربنا لغفور شكور } يعطي المحسن جزيل الثواب { الذي أحلنا دار المقامة } أي الإقامة لأنهم يقيمون فيها دائما { من فضله } من نعمته { لا يمسنا فيها نصب } تعب { ولا يمسنا فيها لغوب }.
[35.36-41]
{ والذين كفروا لهم نار جهنم لا يقضي عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها كذلك نجزي كل كفور } { وهم يصطرخون فيها } أي يستغيثون بصوت عال لما نالهم من العذاب يقولون: { ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل } في الدنيا، فيقول الله مجيبا لهم: { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } أي لسنا أبقيناكم وعمرناكم مدة طويلة قيل: أربعون سنة، وقيل: ستون عن ابن عباس، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أكثر أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين "
{ وجاءكم النذير } قيل: هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم عن ابن عباس وأبي علي وجماعة، وقيل: القرآن، وقيل: هو الشيب، وروي في العجائب والغرائب أن النذير هو العقل { فذوقوا } العذاب { فما للظالمين من نصير } { إن الله عالم غيب السماوات والأرض } أي اتقوا معاصيه فإنه عالم بجميع ذلك وبما في الصدور فيجازيكم به { هو الذي جعلكم خلائف } يا أمة محمد { فمن كفر فعليه كفره } أي يعود وباله وضرره عليه { ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتا } وهو أشد البغض، وقيل: عذابا { ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا } قيل: هلاكا { قل } يا محمد أو أيها السامع لهؤلاء الكفار { أرأيتم شركاءكم الذين } أشركتموهم في أموالكم وهي الأوثان، وقيل: أشركتموهم في العبادة { الذين تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض } حتى يستحق على ذلك الشرك في الإلهية، وقيل: ما خلقوا في الأرض من شيء أم لهم مع الله شريك في خلق السماوات { أم آتيناهم كتابا } يدل على ما هم عليه { فهم على بينة منه } أي حجة، يعني لا دليل لهم عقلا ولا سمعا وإنما اعتقدوا تقليدا { بل إن يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا } يعني أن ذلك منهم غرورا، وهو قولهم: إن هؤلاء شفعاؤنا عند الله { إن الله يمسك السماوات والأرض ان تزولا } كراهة أن تزولا، أي يمنعهما من أن تزولا لأن الإمساك منع { إنه كان حليما غفورا } غير معاجل بالعقوبة.
[35.42-45]
{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم } الآية نزلت في مشركي قريش أي حلفوا بالله مجتهدين { لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم } ، قيل: اليهود والنصارى { فلما جاءهم نذير } وهو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { ما زادهم إلا نفورا } بعدا عنه { استكبارا في الأرض } قيل: نفروا تكبرا { ومكر السيء } قيل: هو كفرهم وعبادتهم غيره، وقيل: هو اجتماعهم على مكر السيء { ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله } قيل: لا يحل وبال المكر السيء إلا بأهله أي عقوبته، وقيل: دبروا قتله فقتلوا يوم بدر { فهل ينظرون } إلا سنة الأولين أي طريقتهم وهو إنزال العقوبة على العصاة { فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا } { أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم } ممن كفروا فأهلكناهم { وكانوا أشد منهم قوة وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض انه كان عليما قديرا } { ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا } من المعاصي { ما ترك على ظهرها من دابة } قيل: ما يدب من سائر الحيوانات محنة، وقيل: إذا هلك المكلفون لا بد أن يهلك الحيوانات إذ لا أحد ينتفع، وعن أبي هريرة أنه سمع رجل يأمر بمعروف وينهي عن منكر فقال له ذلك المأمور: عليك نفسك والظالم لا يضر إلا نفسه، فقال أبو هريرة: كذبت ان الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم، وقيل: يحبس الله المطر فتهلك الدواب، وقيل: الدابة اسم لمستحق العقاب من الكفار، وقيل: أراد الجن والإنس، وقيل: أراد المكلفين من الإنس { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } وقت معلوم وهو القيامة { فإذا جاء أجلهم } أي وقتهم المعروف لهم فعل بهم ما يستحقونه فحذف لدلالة الكلام عليه { فإن الله كان بعباده بصيرا } أي عالم بأحوالهم وأعمالهم وما يستحقونه عليها.
[36 - سورة يس]
[36.1-8]
{ يس } ، قيل: اسم السورة، وقيل: إشارة إلى أن القرآن مؤلف من هذه الحروف، وقيل: اسم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { والقرآن الحكيم } المظهر للحكمة { إنك لمن المرسلين } هذا جواب القسم أقسم أنه نبي من الأنبياء جوابا لقول الكفار لست مرسلا { على صراط مستقيم } أي على طريق في الدين مستقيم { تنزيل } أي هذا القرآن { تنزيل العزيز } القادر { الرحيم } بعباده { لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم } فيه وجهان: أحدهما ما بمعنى الذي تقديره كالذي أنذر آباؤهم، والثاني ما للنفي أي ما أنذر آباؤهم في حال الفترة لأن قريشا لم يأتهم نبي قبل نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) { فهم غافلون } عن الايمان { لقد حق القول على أكثرهم } أي وجب الوعيد على أكثرهم لعلمه تعالى أنهم لا يؤمنون { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون } رفعوا رؤوسهم وشخصوا أبصارهم، قيل: المراد بالأغلال يوم القيامة، وصف الأغلال بالشدة وأنها تضمن اليد والعنق واكتفى بذكر، وقيل: جعلنا في أعناقهم أغلالا ظلمات وضلالات كأنهم فيها، وجعلنا حكمنا عليهم بها.
[36.9-14]
{ وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا } ، قيل: سدا عن الحق، عن قتادة ومجاهد أي على جهة الذم حكمنا على أنهم بغير حق وبينهم وبين الحق سدا، وقيل: أراد التشبيه أي كان بين أيديهم سدا يمنعهم من الايمان، وقيل: بل هو على حقيقته في القيامة وهو عبارة عن ضيق المكان في النار لا يجدون متقدما ولا متأخرا { فأغشيناهم فهم لا يبصرون } في النار، وقيل: معناه أنهم وإن انصرفوا عن الإيمان والقرآن لزمهم ذلك حتى لا يتخلصون عنه { وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } أي لا ينفع الانذار بهم { إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمان بالغيب } ، قيل: في حال غيبتهم عن الناس، وقيل: ما غاب عنه في أمر الآخرة { فبشره } يعني هؤلاء { بمغفرة } من الله { وأجر كريم } أي ثواب خالص { إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا } من الأعمال { وآثارهم } مالهم، وقيل: أعمالهم التي صارت سنة بعد حسنا كان أو قبيحا أو ما خلفوه من الأموال { وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } أي كتاب مبين وهو اللوح المحفوظ { واضرب لهم مثلا أصحاب القرية } يعني خبر القرية التي أهلكها الله تعالى بتكذيب الرسل، والقرية انطاكية { إذ جاءها المرسلون } ، قيل: رسل عيسى، وقيل: هم رسل الله بعثهم إلى القرية، قال الحاكم: وهو الوجه، والذي قال جار الله: أنهم رسل عيسى وقد ذكره أيضا في الحاكم إلى أهلها بعثهم دعاة إلى الحق وكانوا عبدة أوثان أرسل { اليهم اثنين } ، فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له وهو حبيب النجار صاحب يس، فسألهما فأخبراه، فقال: معكما آية؟ فقالا: نشفي المريض ونبرئ الأكمه والأبرص، وكان له ولد مريض سنين فمسحا عليه فقام، فآمن حبيب وفشا الخبر فشفي على أيديهما خلق كثير، ورقى حديثهما إلى الملك فقال لهما الملك: ألكما إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم من أوجدك وآلهتك، فقال: حتى انظر في أمركما وتبعهما الناس فضربوهما، وقتل حبيبا فبعث عيسى شمعون فدخل متنكرا وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ورفعوا خبره إلى الملك وأنس به، وقال له ذات يوم: بلغني أنك حبست رجلين هل سمعت ما قالا؟ قال: لا حال بيني وبينهما الغضب، فدعاهما وقال شمعون: من أرسلكما؟ قالا: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك، فقال: صفاه وأوجزا، فقالا: يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فقال: وما آيتكما؟ قالا: ما تمنى الملك، فدعا بغلام مطموس العينين فدعوا الله حتى انشق له بصر وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين يبصر بهما، فقال له شمعون: أرأيت لو سألت إلهك حتى يصنع مثل هذا فيكون لك وله الشرف؟ فقال: ليس لي عنك سر ان آلهتنا لا تبصر ولا تسمع ولا تضر ولا تنفع، وكان شمعون يدخل معهم إلى الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبونه منهم، ثم قال: ان قدر إلهكما على إحياء ميتا آمنا به فدعوا بغلام مات من سبعة أيام فقام وقال: إني دخلت في سبعة أودية من النار وأنا أحذركم ما أنتم فيه فآمنوا، وقال: فتحت أبواب السماء فرأيت شابا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة، قال الملك: فعرفتهم قال شمعون: وهذان، فتعجب الملك، فلما رأى شمعون أن كلامه قد أثر فيه نصحه وآمن وآمن قوم بإيمانه، ومن لم يؤمن صاح بهم جبريل فهلكوا، وقوله تعالى: { فعززنا } قوينا { بثالث } وهو شمعون { فقالوا إنا إليكم مرسلون } يعني الرسل.
[36.15-25]
{ قالوا } ذلك فقال القوم مجيبين { ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمان من شيء إن أنتم إلا تكذبون } قال الرسل مجيبون: { ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون } { وما علينا إلا البلاغ المبين } أي الاعلام بالرسالة { قالوا إنا تطيرنا بكم } تشاءمنا بكم، وذلك أنهم كرهوا دينهم كما حكى الله في القبط
وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه
[الأعراف: 131]، وعن مشركي مكة
وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك
[النساء: 78]، وقيل: حبس عنهم القطر فقالوا ذلك، وقيل: زعموا أنهم متى خلوا الأصنام أصابتهم مصائب في أموالهم وأنفسهم { لئن لم تنتهوا } أي لئن لم تدعوا هذا الذي دعوتم إليه { لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم } ، قيل: نرميكم بالحجارة حتى نقتلكم وليمسنكم منا عذاب أليم، قال الرسل يعني لقومهم: { طائركم معكم } أي شؤمكم معكم وهو الكفر الموجب للعذاب { أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون } أي مجازون بالكفر والعصيان { وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى } أي من أسفل المدينة وهو حبيب النجار بن إسرائيل وكان يتجنب الأصنام، وهو ممن آمن برسول الله وبينهما ستمائة سنة كما آمن تبع الأكبر، قيل: كان في غار يعبد الله، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة وقالوا: رأيت تخالف رأيت تخالف ديننا فوثبوا عليه فقتلوه، وقيل: تواطؤه بأرجلهم حتى خرج قصبه من دبره، وقيل: رجموه وهو يقول: اللهم إهد قومي، وقبروه في سوق انطاكية، فلما قتل غضب الله عليهم فأهلكوا بصيحة جبريل، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب، وصاحب يس، ومؤمن آل فرعون "
{ اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون } كلمة جامعة في الترغيب فيهم، أي لا تخسرون عليهم شيئا في دنياكم وتربحون صحة دينكم فينظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة، ثم أبرز الكلام في موضعين المناصحة لنفسه وهو يريد لهم فقال: { وما لي لا أعبد الذي فطرني } مكان قوله: وما لكم لا تعبدون الذي فطركم، ألا ترى إلى قوله: { وإليه ترجعون } ولو أنه قصد ذلك لقال: وإليه ارجع، وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال: { إني آمنت بربكم فاسمعون } قولي وأطيعوني فقد نهيتكم { أأتخذ من دونه آلهة } يعني كيف أترك عبادة الفاطر واتبع عبادة الحجر { إن يردن الرحمان بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون } { إني إذا } أي لو فعلت ذلك لكنت { في ضلال مبين } { إني آمنت بربكم فاسمعون } ، قيل: خطاب للرسل فاسمعوا لتشهدوا لي، وقيل: خطاب لقومه أي اسمعوا قولي: نصحي، فلما قال هذا قتلوه.
[36.26-39]
{ قيل ادخل الجنة } ، قيل: جنة الخلد، وقيل: جنة في السماء { قال يا ليت قومي يعلمون } { بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } من المعظمين { وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء } كما فعل يوم بدر والخندق، قال جار الله: فإن قلت: وما معنى قوله: { وما كنا منزلين } ، قلت: معناه وما صح في حكمتنا إن ننزل في إهلاك قوم حبيب { إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون } ميتون هالكون، وقيل: صاح بهم جبريل فماتوا { يا حسرة على العباد } ، قيل: معناه حلوا محل من يتحسر عليه، وقيل: معناه يا حسرة على العباد على أنفسهم، وهو متحسر عليهم من جهة الملائكة والمؤمنين من الثقلين { ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون } ، قيل: هذا من كلام الرجل المؤمن، وقيل: إنما نفع هذه عند النزع، وقيل: في القيامة { ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون } يعني ألم يعلموا أهل مكة كم أهلكنا مثل عاد وثمود وغيرهم { أنهم إليهم لا يرجعون وإن كل لما جميع لدينا محضرون } للجزاء والحساب { وآية لهم الأرض الميتة } التي لا نبات فيها { أحييناها } بالنبات { وأخرجنا منها } من الأرض { حبا } وهو ما يأكلون { فمنه يأكلون } { وجعلنا فيها جنات } بساتين { من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون } أو الماء الخارج من العيون { ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم } والمعنى ليأكلوا مما خلق الله من الثمار وما عملته أيديهم من الغرس والسقي، وقيل: الذي عملته أيديهم كالخبز وغيره من أنواع الأشربة { أفلا يشكرون } هذه النعمة { سبحان الذي خلق الأزواج كلها } أي تنزيها له من الشرك الذي خلق الأزواج قيل: الأصناف والأشكال { مما تنبت الأرض } من الحبوب والفواكه وغيرها { ومن أنفسهم } من الأولاد { ومما لا يعلمون } يعني أشياء من الحيوانات والجماد لا يعلمونها، ومن أزواج لم يطلعهم الله عليها ولا يصلون إلى معرفتها بطريق من طرق العلم، ولا يبعد أن يخلق الله من الخلائق والحيوان والجماد مما لا يجعل للبشر طريقا إلى العلم به لأنه لا حاجة لهم إلى العلم به في دينهم ودنياهم، ولو كانت لهم إليه حاجة لأعلمهم بما لا يعلمون كما أعلمهم بموجود ما لا يعلمون، وفي الحديث:
" ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "
فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين
[السجدة: 17] { وآية لهم الليل نسلخ منه النهار } أي نخرج وننزع، سلخ جلد الشاة إذا كشطه { فإذا هم مظلمون } داخلون في الظلام { والشمس تجري لمستقر لها } حد لها مؤقت مقدر تتهيأ إليه، قيل: مستقرها أجلها الذي أقرها الله سبحانه عليه أمرها في جريها فاستقرت عليه وهو آخر السنة، وقيل: الوقت الذي تستقر فيه وينقطع جريها وهو يوم القيامة لا مستقر لها غيره، أو أراد المنازل في المشارق والمغارب { ذلك تقدير العزيز العليم } القادر على ما يشاء، العالم بجميع الأشياء { والقمر قدرناه منازل حتى عاد } بتقدير مضاف لأنه لا معنى لتقدير نفس القمر منازل، والمعنى قدرنا سيره منازل وهي ثمانية وعشرون منزلة ينزل القمر في كل ليلة في واحدة منها فإذا صار إلى آخر منزلة { عاد كالعرجون } يعني العذق الذي فيه الشماريخ { القديم } المتقادم وإذا تقادم عهده يبس وقوس فشبه به.
[36.40-52]
{ لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } أي لا تدركه بل يعاقبان ويستويان، وذلك أن القمر لا يجمع معه في وقت واحد ويداخله في سلطانه فيطمس نوره { ولا الليل سابق النهار } ولا يسبق الليل النهار يعني آية النهار وهما النيران، ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يجمع الله بين الشمس والقمر وتطلع الشمس من مغربها { وكل في فلك يسبحون } يعني الشمس والقمر والنجوم { وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون } الصبيان والنساء في الفلك، قيل: في سفينة نوح، وقيل: هي السفن الجارية في البحار، وقيل: الفلك المشحون سفينة نوح، ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين وفي أصلابهم ذرياتهم { وخلقنا لهم من مثله } من مثل الفلك { ما يركبون } من السفن أو ما يركبون من الابل وهي سفائن البر { وإن نشأ نغرقهم فلا صريح لهم } أي لا مغيث لهم { ولا هم ينقذون } لا ينجون من الموت بالغرق { إلا رحمة منا } بالحياة { ومتاعا إلى حين } إلى أجل يموتون فيه لا بد لهم منه بعد النجاة من موت الغرق { وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم } ، قيل: اتقوا ما بين أيديكم من عذاب الله ووقائعه كما حل قبلكم بالأمم { و } اتقوا { ما خلفكم } من أمر الساعة وعذاب الآخرة، وقيل: ما خلفكم يعني الذنوب وبين أيديكم ما يأتي من الذنوب، وقيل: ما تقدم من أفعالكم وما تأخر، وقيل: المراد به عذاب الدنيا وعذاب الآخرة { لعلكم ترحمون } { وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين } يعني أعرضوا عنها { وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله } أي أعطاكم من نعمة { قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } قالوا ذلك استهزاء وشكا في قدرة الله تعالى { إن أنتم إلا في ضلال مبين } في اتباع محمد، وقيل: هو من قول الله تعالى لهؤلاء الكفار الذين قالوا: { أنطعم من لو يشاء الله أطعمه } ، وقيل: هو من قول أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { ويقولون متى هذا الوعد } أي القيامة { إن كنتم صادقين } في أنا نبعث { ما ينظرون إلا صيحة واحدة } ، وقيل: الصيحة الأولى عند قيام الساعة تأتيهم بغتة { تأخذهم وهم يخصمون } يعني تأتيهم فجأة وهم في أحوال الدنيا يخاصم بعضهم بعضا، واختلفوا في هذه الصيحة قيل: صيحة الموت ونفخة إسرافيل عند قيام الساعة { فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون } لو أرادوا الرجوع إلى أهلهم لم يمكنهم { ونفخ في الصور } ، قالوا: النافخ اسرافيل { فإذا هم من الأجداث } القبور { إلى ربهم ينسلون } أي يخرجون سراعا، ونفخة الصور هي نفخة البعث وبين النفختين أربعون سنة، لما رأى القوم أهوال القيامة { قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا } لأنه رفع عنهم العذاب بين النفختين فيرقدون، وقيل: وصفوا القبور بالمرقد لأنهم استقروا فيها، وقيل: عاينوا لأنهم عاينوا عذاب جهنم وأهوال القيامة ومتى قيل: هلا قلتم أنه يدل على عذاب القبر؟ قلنا: عذاب القبر لا يدوم بل ينقطع { هذا ما وعد الرحمان } من البعث { وصدق المرسلون } في ذلك قيل: هذا من قول المؤمنين جوابا للكفار لما قالوا: { من بعثنا من مرقدنا } ، وقيل: بل هو قول الملائكة جوابا لهم، وقال أبو علي: هذا من قول الكفار أقروا ظنا منهم أنه ينفعهم.
[36.53-67]
{ إن كانت إلا صيحة واحدة } ، قيل: النفخة { فإذا هم جميع لدينا محضرون } أي في موضع الجزاء والحساب { فاليوم لا تظلم نفس شيئا } أي لا يبخس أحد حقه { ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون } أي يجزى كل أحد بعمله { إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون } كناية عن افتضاض الأبكار، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" أهل الجنة كلما جامعوا نساءهم عدن أبكارا "
، وقيل: هم في شغل التناول كل لذة من المنزل والفرش والخدم والجواري والغلمان والفاكهة وغير ذلك، وقوله: { فاكهون } فرحون، وقيل: عجبون { هم وأزواجهم } نساؤهم في الدنيا، وقيل: في الآخرة من المسلمات، وقيل: الحور العين { في ظلال } جمع ظل { على الأرائك } جمع أريكة وهي السرر { متكئون } يعني جلستهم جلسة الملوك { لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون } ما يشاؤون، وقيل: إذا دعوا شيئا من نعيم الجنة أتاهم { سلام قولا من رب رحيم } وهو السلامة والأمن من ربهم { وامتازوا اليوم أيها المجرمون } أي يقال لهم للمجرمين امتازوا { ألم أعهد إليكم } اليوم، يعني ألم آمركم على ألسنة الرسل في الكتب المنزلة؟ قال جار الله: العهد الوصية، وعهد الله اليهم ما ركزه فيهم من أدلة العقل وأنزل عليهم من دلائل السمع { أن لا تعبدوا الشيطان } وعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به اليهم { وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم } أي طريق مستوي أي تؤديكم إلى الجنة { ولقد أضل منكم جبلا كثيرا } ، قيل: خلقا كثيرا { أفلم تكونوا تعقلون } أي هلا استعملتم عقولكم؟ { هذه جهنم التي كنتم توعدون } { اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون } أي جزاء على كفركم { اليوم نختم على أفواههم } بمعنى نمنعهم من الكلام { وتكلمنا أيديهم } بما عملوا { وتشهد أرجلهم } بما كسبوا { ولو نشاء لطمسنا على أعينهم } أي محونا على أعينهم فأعميناهم قيل: أعميناهم عن الهدى، وقيل: عميا يرددون { فاستبقوا الصراط } أي طلبوا الطريق إلى مقاصدهم فلم يهتدوا، وقيل: طلبوا طريق الحق وقد عموا منه { فأنى يبصرون } أي فكيف يبصرون { ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم } أي لو نشاء لعذبناهم بأن أقعدناهم في منازلهم ممسوخين قردة وخنازير، والمكانة والمكان واحد كالمقامة والمقام، وقيل: حجارة، وقيل: لو نشاء لجعلناهم مبعدين { فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون } المضي التقدم، والرجوع التأخير، وقيل: لا يستطيعون الرجوع إلى ما كانوا فيه وعليه.
[36.68-76]
{ ومن نعمره ننكسه في الخلق } أي نطيل عمره فيصير إلى حال الهرم، وقيل: يصير بعد القوة إلى الضعف ومن بعد الزيادة إلى النقصان، يعني ينقل من حال إلى حال { أفلا يعقلون } تدبرون وإن من قدر على ذلك قدر على الإعادة { وما علمناه الشعر } وكانوا يقولون لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شاعر، وروي أن القائل عقبة بن أبي معيط، وما علمناه بتعليم القرآن الشعر على معنى، أن القرآن ليس بشعر وما هو من الشعر وأين المعاني التي ينتجها الشعراء من معانيه؟ وأين نظم كلامه من كلامه؟ { وما ينبغي له } أي وما يقوله من عند نفسه { إن هو } يعني القرآن المنزل { إلا ذكر } لأن فيه ذكر الله تعالى وذكر الثواب والعقاب والأحكام وما بين إلا قرآن كتاب سماوي { لينذر } قوما بالتاء خطاب للرسول وبالياء، وقيل: القرآن { لينذر من كان حيا } أي عاقلا يتأمل الحق { ويحق القول على الكافرين } { أولم يروا أنا خلقنا لهم } أي لمنافعهم { مما عملت أيدينا } أي خلقناه نحن { أنعاما فهم لها مالكون } ولو لم نخلقها ما ملكوها ولما انتفعوا بها فمن منافعهم أصوافها وألبانها ولحومها وجلودها وركوبها إلى غير ذلك من المنافع { وذللناها لهم } أي سخرناها حتى صارت منقادة لهم { فمنها ركوبهم ومنها يأكلون } أي ركوبهم يركبون من غير امتناع وهو الإبل فيأكلون الجميع من لحومها وألبانها { ولهم فيها منافع } من أصوافها وأشعارها وأولادها { ومشارب } من ألبانها { أفلا يشكرون } هذه النعمة { واتخذوا من دون الله آلهة } يعني هؤلاء الكفار اتخذوا إلها غيره وهو الأوثان { لعلهم ينصرون } أي ينصروهم من عذاب الله { لا يستطيعون نصرهم } أي لا يقدرون لأنها جماد { وهم لهم جند محضرون } أي يغضبون في الدنيا الأوثان، وقيل: هم لهم جند في الدنيا محضرون في القيامة، وقيل: يجمعون في النار { فلا يحزنك قولهم } أي تكذيبهم وكفرهم بك، وقيل: قولهم في القرآن ان شعر أو سحر { إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون } أي ما يفعلون ظاهرا وباطنا.
[36.77-83]
{ أولم ير الانسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين } بعد أن كان نطفة { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام } { قل } يا محمد { يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم } { الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا } يريد المرخ والغفار والعرب تقول: في كل شجر نار، والمفسرون على أن كل شجر نار الا العناب، وروي في العجائب والغرائب عن أحمد بن أبي معاذ النحوي: من الشجر الأخضر يعني ابراهيم، نارا أي نورا وهو محمد (عليهما السلام) { فإذا أنتم منه توقدون } تقبسون منه النار والله أعلم بهذا الخبر { أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } يعني خلق هذه الأشياء أعجب من إعادة الاحياء { وهو الخلاق العليم } لذاته ومخلوقاته { إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون } يعني إذا أراد فعل شيء فعله { فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء } يعني هو مالك كل شيء { واليه ترجعون } إلى حكمه وجزائه.
[37 - سورة الصافات]
[37.1-10]
{ والصافات صفا } ، قيل: لما قال كفار مكة أجعل الآلهة إلها واحدا أقسم الله بهذه الأشياء إن إلههم لواحد، قيل: الصافات الملائكة تصف صفوفا في السماء كصف المؤمنين للصلاة، وقيل: تصف أجنحتها في الهواء، وقيل: هم المؤمنون يقومون مصطفين في الصلاة { فالزاجرات زجرا } ، قيل: هم الملائكة يزجرون السحاب ويسوقونه، وقيل: يزجر عن معاصي الله، وقيل: هم المؤمنون يرفعون أصواتهم، قال جار الله: ويجوز أن يقسم بنفوس العلماء العمال وصفوف الجماعات والزاجرات بالمواعظ { فالتاليات ذكرا } ، قيل: القارئات، وقيل: جبريل والملائكة يتلون كتاب الله، وقيل: اللوح المحفوظ، وقيل: هم المؤمنون يتلون القرآن { إن إلهكم لواحد } جواب القسم، أي من يحق له العبادة والإلهية { رب السماوات والأرض وما بينهما } أي خالقهما وما بينهما من الخلق { ورب المشارق } أي خالق مطالع الشمس والقمر والنجوم، وقيل: مشارق الشمس وهي ثلاثمائة وستون مشرقا وثلاثمائة وستون مغربا بعدد أيام السنة { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب } يعني زين السماء بالكواكب { وحفظا من كل شيطان مارد } أي خبيث خالي عن الخير، ومتى قيل: ما وجه الحفظ؟ قالوا: منعهم من الفساد باستراق السمع { لا يسمعون } أي لئلا يسمعون { إلى الملأ الأعلى } أي إلى كلام الأعلى وهم الملائكة { ويقذفون } أي يرمون { من كل جانب } أي من جوانب السماء أو من جوانبهم { دحورا } أي طردا { ولهم عذاب واصب } ، قيل: دائم، وقيل: شديد { إلا من خطف الخطفة } أصلها الخطف وهو أخذ الشيء بسرعة، وما خطف الذئب من أعضاء الشاة وهي حية { فأتبعه شهاب ثاقب } ، قيل: مضيء، وقيل: نافذ.
[37.11-32]
{ فاستفتهم } أي استخبرهم { أهم أشد خلقا } ، قيل: أراد كفار مكة، وقيل: نزلت في أيام الأسد بن كلدة، قيل: هذا سؤال تقرير، وقيل: سؤال توبيخ { أمن خلقنا } يريد ما ذكر من خلائقه من الملائكة والسماوات والأرض والمشارق والكواكب والشهب الثاقب والشياطين، وقيل: أراد الأمم الماضية، وقيل: أهلكناهم بذنوبهم { إنا خلقناهم من طين لازب } أي لازم يعني آدم (عليه السلام) { بل عجبت } من قدرة الله على هذه الخلائق العظيمة وهم يسخرون منك ومن تعجبك، أو من إنكارهم البعث وهم يسخرون من أمر البعث { وإذا ذكروا لا يذكرون } إذا وعظوا لا يتعظون { وإذا رأوا آية } من آيات الله كانشقاق القمر وغيره { يستسخرون } يبالغون في السخرية { وقالوا إن هذا } القرآن وسائر ما يذكره الرسول { إلا سحر مبين } { أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون } { أو آباؤنا الأولون } أي كيف يبعث آباؤنا بعد أن صاروا ترابا { قل نعم وأنتم داخرون } صاغرون، والمعنى تبعثون وأنتم داخرون صاغرون { فإنما هي } جواب شرط مقدر تقديره إذا كان ذلك فما هي إلا { زجرة واحدة } وهي النفخة الثانية، والزجرة الصيحة من قولك زجر الراعي الابل والغنم إذا صاح عليها { فإذا هم ينظرون } إحياء، وقيل: ينظرون إلى ما نزل بهم، وقيل: ينظر بعضهم إلى بعض: { وقالوا يا ويلنا } يدعون بالويل لما عاينوا من العذاب { هذا يوم الدين } يوم الجزاء والحساب، هذا من كلام الكفرة بعضهم لبعض إلى قوله: { احشروا الذين } أو يكون من كلام الملائكة بعضهم لبعض { هذا يوم الفصل } أي يوم يفصل الله بين عباده { الذي كنتم به تكذبون } يعني يكذبون الرسل { احشروا الذين ظلموا } الناس أو ظلموا الرسل بالتكذيب { وأزواجهم } أشباههم، وقيل: أتباعهم، وقيل: أزواجهم المشركات { وما كانوا يعبدون } { من دون الله } في الدنيا مثل الأصنام، وقيل: الشياطين الذين أطاعوهم { فاهدوهم } ، قيل: ادعوهم، وقيل: دلوهم { إلى صراط الجحيم } ، قيل: طريق النار { وقفوهم إنهم مسؤولون } ، قيل: هذه مساءلة توبيخ، وقيل: عن قول لا إلا إلا الله، وقيل: عن خطاياهم، وقيل: عن جميع أحوالهم وأفعالهم { ما لكم لا تناصرون } يقال لهم توبيخا: ما لكم لا ينصر بعضكم بعضا في دفع العذاب؟ { بل هم اليوم مستسلمون } ، قيل: خاضعين عن ابن عباس، وقيل: منقادين { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } ، قيل: الاتباع والمتبوعون، وقيل: الانس على الجن { إنكم كنتم تأتوننا } أي من جهة النصيحة، وقيل: انتم صدتمونا { عن اليمين } أي أصحاب الجنة، وقيل: عن طريق الجنة { قالوا } الرؤساء مجيبين { بل لم تكونوا مؤمنين } { وما كان لنا عليكم من سلطان } أي قوة تكرهكم على الكفر { بل كنتم قوما طاغين } أي جاوزتم الحد في العصيان { فحق علينا قول ربنا } أي وجب علينا { إنا لذائقون } { فأغويناكم إنا كنا غاوين } فأردنا إغواءكم لتكونوا مثلنا.
[37.33-53]
{ فإنهم } فإن الاتباع والمتبوعين جميعا { يومئذ } يوم القيامة { في العذاب مشتركون } كما كانوا مشتركين في الغواية { إنا كذلك نفعل بالمجرمين } أي كذلك نجزي ونعذب { إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون } أي يتكبرون عن قول الحق { ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون } يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) { بل جاء بالحق } رد على المشركين { وصدق المرسلين } في الدعاء إلى التوحيد، وقيل: نبوتهم { إنكم } أيها الكافرون { لذائقوا العذاب الأليم } الوجيع { وما تجزون إلا ما كنتم تعملون } من المعاصي في الدنيا { إلا عباد الله المخلصين } الذين أخلصوا العبادة لله تعالى فاصطفاهم { أولئك لهم رزق معلوم } منعوت من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر، وقيل: معلوم الوقت كقوله:
ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا
[مريم: 62]، وعن قتادة: الرزق المعلوم الجنة { وهم مكرمون } معظمون { في جنات النعيم } { على سرر متقابلين } أي يقابل بعضهم بعضا { يطاف عليهم بكأس } إناء فيه شراب، وعن الأخفش: كل كأس في القرآن فهي الخمر وكذا في تفسير ابن عباس { من معين } وهو الجاري على وجه الأرض الظاهر للعيون { بيضاء } صافية في نهاية النظافة { لذة للشاربين } { لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون } ، قيل: لا تغتال العقول فتذهب بها، والغول ما غاله يغوله إذا أهلكه وأفسده، ومنه الغول التي في تكاذيب العرب، وفي أمثالهم: الغضب غول الحليم { ولا هم عنها ينزفون } أي لا ينزف عقولهم بالسكر من نزف الشارب إذا ذهب عقله، ويقال للسكران: نزيف ومنزوف، والمعنى لا فيها فساد قط من أنواع الفساد التي في شرب الخمر من مرض أو صداع أو خمار أو تأثيم أو غير ذلك ولا هم يسكرون { وعندهم قاصرات الطرف } قصرت أبصارهن على أزواجهن، والعين النجل العيون { كأنهن بيض مكنون } أي مصون شبههم ببيض النعام المكنونة في الاداح، وقيل: شبه لونهن بالبيض في البياض { فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } يعني أهل الجنة يسأل بعضهم بعض عما جرى لهم وعليهم: { قال قائل منهم إني كان لي قرين } أي صاحب في الدنيا، قيل: كان شيطانا، وقيل: كان من الإنس، ثم اختلفوا قيل: كانا أخوين، وقيل: شريكين، وقد تقدم خبرهما في سورة الكهف في قوله:
واضرب لهم مثلا رجلين
[الكهف: 32] الآية وكان أحدهما مؤمن يسمى ياهودا والآخر كافر اسمه فرطوس، وقيل: هذا في كل قرين شر يصاحب مسلما يقول القرين: { أئنك لمن المصدقين } بالبعث { أئذا متنا وكنا ترابا } في الأرض { وعظاما } بالية { أئنا لمدينون } لمجزيون من الدين وهو الجزاء.
[37.54-74]
قال هذا المؤمن: { هل أنتم مطلعون } إلى النار لأريكم ذلك القرين { فاطلع } هذا المؤمن فرأى قرينه { في سواء الجحيم } في وسط النار، وقيل: القائل الله عز وجل، وقيل: بعض الملائكة تقول لأهل الجنة: هل تحبون أن تطلعون؟ { قال تالله إن كدت لتردين } { ولولا نعمة ربي } أي ما أنعم به علي من اللطف والهداية { لكنت من المحضرين } في النار كما حضرت في النار ثم زاد في التوبيخ فقال: { أفما نحن بميتين } { إلا موتتنا الأولى } في الدنيا { إن هذا لهو الفوز العظيم } { لمثل هذا فليعمل العاملون } يعني مثل هذا الثواب والفوز { أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم } ، قيل: لما نزلت هذه الآية قالت صناديد قريش: كيف يكون في النار شجر والنار تحرق الشجر؟ وقال ابن الزبعرى: قال لهم: أن محمدا يخوفنا بالزقوم، فأدخلهم أبو جهل بيته وقال: يا جارية زقمينا، فأتاهم بالزبد والتمر فقال: تزقموا فهذا ما وعدكم محمد، أذلك خير يعني هذا الذي ذكرناه أم نعيم الجنة { أم شجرة الزقوم } في النار { إنا جعلناها فتنة للظالمين } أي تلك الشجرة محنة وعذابا لهم في الآخرة، وروي نابتة لهم { في أصل الجحيم } { طلعها } أي ثمرها { كأنه رؤوس الشياطين } وروي أنه شبه برأس حية تسمى شيطانا عند العرب كريهة المنظر، قال الحسن: أصلها في قعر الجحيم وأغصانها في الدركات، والطلع النخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم، وشبه برأس الشياطين دلالة على تناهيه في الكراهة وقبح المنظر لأن الشيطان مكروه ومستقبح في طباع الناس، لاعتقادهم أنه شر فيقولون في القبيح الصورة كأنه وجه شيطان، كأنه رأس شيطان، وقيل: أنه شبه بنبت يعرف برؤوس الشياطين وهي شجرة قبيحة { فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون } لما يغلبهم من الجوع الشديد، أو يقسرون على أكلها وان كرهوا ليكون بابا من العذاب، فإذا عطشوا غلبهم العطش فيسقون شرابا من غساق { ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم } خلطا ومزاجا، والشوب خلط الشيء بما ليس منه وهو شر منه يشربه، وقيل: شراب من حميم أي من ماء حار { ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم } ، قيل: يكونون بمعزل من النار عند شراب الزقوم فيعذبون ثم يصيرون إلى النار { إنهم ألفوا آباءهم ضالين } أي وجدوا آباءهم ضالين عن الحق { فهم على آثارهم يهرعون } أي آثار آبائهم إلى النار، وقيل: قد رأوا آباءهم في الشرك وأسرعوا فيه تقليدا { ولقد ضل قبلهم } قبل قريش { أكثر الأولين } { ولقد أرسلنا فيهم منذرين } أنبياء حذروهم العواقب { فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } الذين أنذروا وحذروا أي أهلكوا جميعا { إلا عباد الله المخلصين } الذين آمنوا وأخلصوا دينهم لله.
[37.75-97]
{ ولقد نادانا نوح } يعني لما آيس من إيمان قومه دعى الله { فلنعم المجيبون } يعني أنه أسرع بالإجابة { ونجيناه وأهله } وهم المؤمنون { من الكرب العظيم } ، قيل: من أذى قومه، وقيل: هو الغرق { وجعلنا ذريته هم الباقين } بعد الغرق { وتركنا عليه في الآخرين } من الأمم هذه الكلمة وهي: { سلام على نوح في العالمين } { إنا كذلك نجزي المحسنين } نكافئهم بإحسانهم { إنه من عبادنا المؤمنين } { ثم أغرقنا الآخرين } يعني كفار قومه { وإن من شيعته لإبراهيم } أي على منهاج نوح وهو ممن شايعه على أصول الدين وإن اختلفت شرائعهما، ويجوز أن بين شريعتهما اتفاق في أكثر الأشياء، وعن ابن عباس: من أهل دينه وسنته، وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان هود وصالح (عليهم السلام) وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة { إذ جاء ربه بقلب سليم } من جميع آفات القلوب، وقيل: من الشرك، ولا معنى للتخصيص لأنه مطلق { إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون } فأراد به التوبيخ لعلمه بأنهم يعبدون الأصنام { أئفكا آلهة دون الله تريدون } { فما ظنكم برب العالمين } يعني فما ظنكم بمن هو الحقيق بالعبادة؟ لأن من كان ربا للعالمين استحق عليكم أن تعبدوه حتى تركتم عبادته إلى عبادة الأصنام، أو فما ظنكم به أي شيء هو من الأشياء حتى جعلتم الأصنام له أندادا، فما ظنكم بذلك؟ { فنظر نظرة في النجوم } في علم النجوم، أو في كتابها، أو في أحكامها { فقال إني سقيم } أي مشارف للسقم وهو الطاعون، وكان أغلب الأسقام عليهم، وقيل: سقيم بما أرى من أحوالكم القبيحة، في عبادة غير الله، وقيل: مات رجل فالتفت عليه الناس فقالوا: مات وهو صحيح، فقال الاعرابي: أصحيح من الموت في عنقه؟ وروي عن ابن عباس وجماعة أنه كان لهم عيد وكانوا يقربون للأصنام قبل الخروج وإذا رجعوا أكلوه فدعوه ليأكل معهم { فقال إني سقيم } فتركوه { فتولوا عنه مدبرين } معرضين مولين { فراغ إلى آلهتهم } أي مال على رغمهم، قيل: كانت اثنين وسبعين صنما أكثرهم من ذهب { فقال ألا تأكلون } { ما لكم لا تنطقون } استهزاء بها وبانحطاطها عن حال عبدتها { فراغ عليهم ضربا باليمين } ضربا قويا شديدا، وقيل: بسبب الحلف وهو قوله:
وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين
[الأنبياء: 57] { فأقبلوا إليه يزفون } يسرعون من عيدهم إلى ابراهيم، وقيل: إلى بيت الأصنام بعد الفراغ من عيدهم وقالوا: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ فأجابهم، و { قال أتعبدون ما تنحتون } يعني كيف ترضون لأنفسكم أن تنحتون صنما من خشب تعبدونه { والله خلقكم وما تعملون } يعني خلقكم وما تعملون من الأصنام، ولم يرد الأعمال، لأن المعبود هي الأصنام دون عملهم، ولأنه احتج عليهم، والعجب من المجبرة كيف هم يحرفون، { قالوا ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم } النار الشديدة الوقود، وقيل: كل نار على نار وجمر فوق جمر فهو جحيم ، وذلك أن القوم لما عجزوا عن الحجة عدلوا إلى الوعيد تلبيسا على العوام.
[37.98-113]
{ فأرادوا به كيدا فجعلناهم الأسفلين } حيلة وتدبيرا، فنجاه الله منه ومنع النار من الإحراق { وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين } إلى حيث أمره بالمهاجرة منكم إليه إلى أرض الشام، وقيل: إلى الأرض المقدسة، وقيل: أول من هاجر إبراهيم { رب هب لي من الصالحين } أي أعطني ولدا صالحا من جملة الصالحين { فبشرناه بغلام حليم } أي يكون حليما { فلما بلغ معه السعي } أي اتخذ الذي يقدر معه على السعي، وقيل: السعي في طاعة الله، وقيل: بلغ مبالغ الرجال، وقيل: كان ثلاث عشرة سنة { قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك } اختلفوا في الذبيح قيل: هو اسحاق ويدل عليه كتاب يعقوب إلى يوسف بن يعقوب اسرائيل الله ابن اسحاق ذبيح الله ابن ابراهيم خليل الله، وقيل: هو اسماعيل عن ابن عباس، قال القاضي: وهو الصحيح لأنه قال بعد قصة الذبح وبشرناه بإسحاق، وقد دل عليه قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أنا ابن الذبيحين "
قيل: رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ولدك هذا، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله هذا الحلم أم من الشيطان؟ فسمي يوم التروية فلما أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنه من الله، ثم سمي يوم عرفة، ثم رأى مثل ذلك في الليلة الثالثة فسمي يوم النحر وروي أن الملائكة حين بشرته قال: هو إذن ذبيح الله، فلما ولد وبلغ معه حد السعي قيل له: أوف بنذرك، وقوله: { فانظر ماذا ترى } من الرأي على وجه المشاورة { قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين } ، وقيل: إنه رأى قائلا يقول له: اذبح ابنك، ورؤيا الأنبياء وحي كاليقظة { فلما أسلما } أخلص نفسه وجعلها خالصة لله سالمة، وعن قتادة: أسلم هذا ابنه وهذا نفسه، وقيل: أسلما انقادا وخضعا لأمر الله { وتله للجبين } صرعه على شقه فوقع أحد جنبيه على الأرض، وروي أن ذلك المكان عند الصخرة التي بمنى، وعن الحسن: في الموضع المشرف على مسجد منى، وعن الضحاك: في المنحر الذي ينحر فيه اليوم { وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا } أي فعلت ما أمرت به { إنا كذلك نجزي المحسنين } { إن هذا لهو البلاء المبين } أي الاختبار العظيم الذي تميز فيه المخلصون من غيرهم، والمحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها { وفديناه بذبح عظيم } اسم لما ذبح، وفي رواية عن ابن عباس: هو الكبش الذي قربه هابيل وقبل به وكان يرعى في الجنة حتى فدى به إسماعيل، وعن ابن عباس: لو تمت تلك الذبيحة لصارت سنة وذبح الناس أبناءهم، وروي أنه هرب من ابراهيم عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فبقيت سنة في الرمي، وروي أنه رمى الشيطان حين تعرض له بالوسوسة عند ذبح ولده، وروي أنه لما ذبح قال جبريل (عليه السلام): الله أكبر الله أكبر، فقال الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر، فقال ابراهيم: والله أكبر ولله الحمد، فبقي سنة، وحكي في قصة الذبيح أنه حين أراد ذبحه قال: يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحطب، وروي أنه قال: أشدد رباطي لا أضطرب، واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها من دمي شيء فينتقص من أجري فتراه أمي فتحزن، وأشحذ شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي فإن الموت شديد، ثم أقبل عليه يقبله، وقد ربطه وهما يبكيان، ووضع السكين على حلقه فلم تعمل، لأن الله ضرب صفيحة من نحاس على حلقه، فقال له: كبني على وجهي لئلا ترحمني، فوضع السكين على قفاه فانقلبت السكين ونودي: يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، فنظر فإذا جبريل معه كبش أقرن أملح فكبر جبريل والكبش وابراهيم وابنه وأتى المنحر من منى فذبحه { وبشرناه بإسحاق نبيا } ، قيل: هو من بشارة الولد، وقيل: بنبوته { وباركنا عليه وعلى إسحاق } أي أنعمنا عليهما { ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه } بالمعاصي { مبين } أي بين.
[37.114-138]
{ ولقد مننا على موسى } أي أنعمنا على موسى { وهارون } { ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم } وهو استعباد فرعون إياهم { ونصرناهم } على أعدائهم { فكانوا هم الغالبين } { وآتيناهم الكتاب المستبين } الواضح يعني التوراة { وهديناهما الصراط المستقيم } وهو دين الإسلام { وتركنا عليهما في الآخرين } ، قيل: أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { سلام على موسى وهارون } { إنا كذلك نجزي المحسنين } { إنهما من عبادنا المؤمنين } { وإن الياس لمن المرسلين } وهو إدريس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقرأ ابن مسعود: وإن إدريس مكان الياس، وقيل: هو الياس بن ياسين من ولد هارون أخ موسى { إذ قال لقومه ألا تتقون } عذاب الله { أتدعون بعلا } وهو اسم الصنم الذي كان لهم، وروي أنه كان من ذهب طوله عشرون ذراعا وله أربعة أوجه، وروي أن الشيطان كان يدخل في جوفه ويتكلم بشريعة الضلالة، وبه سميت مدينتهم في بلاد الاسلام { وتذرون أحسن الخالقين } فلا تعبدونه { الله ربكم ورب آبائكم الأولين } { فكذبوه فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين } من قومه { وتركنا عليه في الآخرين } الأمم الآخرة { سلام على إل ياسين } ، قيل: هو اسم لإدريس، وقيل: آل محمد روي في الحاكم، وقيل: ياسين اسم القرآن كأنه قيل: سلام على من آمن بالكتاب { إنا كذلك نجزي المحسنين } { إنه من عبادنا المؤمنين } { وإن لوطا لمن المرسلين } أي أرسلناه رسولا كسائر الرسل { إذ نجيناه وأهله أجمعين } أي من آمن { إلا عجوزا } امرأته { في الغابرين } في الباقين في العذاب { ثم دمرنا الآخرين } أهلكناهم { وإنكم لتمرون عليهم مصبحين } أي في وقت الصباح { وبالليل } أيضا تمرون قيل: كان منازلهم في الأحقاف على طريق الشام { أفلا تعقلون } تستعملون عقولكم، يعني تمرون على منازلهم في متاجرهم إلى الشام ليلا ونهارا فما لكم عقول تعتبرون بها.
[37.139-157]
{ وإن يونس لمن المرسلين } { إذ أبق إلى الفلك المشحون } { فساهم } ، ويقال: أسهم القوم إذا قرعوا، يعني ألقوا السهام، والفلك المشحون السفينة المملوءة بالناس وغيرهم، واختلفوا في سببه فقيل أشرفوا على الغرق فرأوا أن طرح واحد لم يغرق الباقون، وقيل: رأوا حوتا تعرض لهم فقالوا فينا مذنب، وقيل: احتبست السفينة، وروي أنه حين ركب السفينة وقفت فاقترعوا ووقعت القرعة على يونس ثلاث مرات فقال: أنا العبد الآبق وألقى نفسه في البحر، وقيل: أكرهوه وألقوه في البحر { فكان من المدحضين } المغلوب المقروع { فالتقمه الحوت وهو مليم } داخل في الملامة { فلولا أنه كان من المسبحين } من الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح والتقديس، وقيل: هو قوله في بطن الحوت
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
[الأنبياء: 87]، وقيل: من المصلين، وعن ابن عباس: كل تسبيح في القرآن فهو صلاة، وقيل: من المطيعين، وقيل: من العابدين { للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } الظاهر لبثه فيه حيا إلى يوم البعث، وعن قتادة: لكان بطن الحوت له قبرا إلى يوم القيامة، وروي أنه حين ابتلعه أوحى الله إلى الحوت اني جعلت بطنك له سجنا ولم أجعله لك طعاما، واختلفوا في مقدار لبثه فعن الكلبي: أربعون يوما، وعن الضحاك: عشرون، وقيل: سبعة أيام، وعن بعضهم: ثلاثة أيام، وعن الحسن: لم يلبث إلا قليلا، ثم أخرج من بطنه بعد الوقت الذي التقم فيه، وروي أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس ويونس يسبح ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البرية فلفظه سالما لم يتغير منه شيئا قط، وروي أن الحوت لفظه بساحل قرية الموصل { فنبذناه بالعراء } العراء المكان الخالي لا شجر ولا شيء يغطيه، وروي أنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد { وهو سقيم } ضعيف { وأنبتنا عليه شجرة من يقطين } ، قيل: هو كل ما يسجد على وجه الأرض ولا يقوم على ساقه كشجرة البطيخ والحنظل،
" وقيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك تحب القرع، قال: " أجل هي شجرة أخي يونس "
، وقيل: هي شجرة الموز، وقيل: كان يستظل بالشجرة وكانت وعلة تختلف اليه فشرب من لبنها، وروي أنه مر زمان على الشجرة فيبست فبكا جزعا، فأوحي اليه: بكيت على شجرة ولم تبكي على مائة ألف في يد الكفار؟ وقوله: { وأرسلناه إلى مائة ألف } المراد به ما سبق من إرساله إلى قومه، وقيل: هو إرسال ثان بعد ما جرى عليه إلى الأولين وإلى غيرهم { أو يزيدون } في مرأى الناظر إذا رآهم الرائي قال: هم مائة ألف أو أكثر، والغرض الوصف بالكثرة، ولا يجوز أن يكون أو يزيدون عطف على قوله مائة ألف لأنه فعل والتقدير إلى مائة وجماعة يزيدون على مائة ألف أو يزيدون والايهام في حق المخاطبين، وقرئ ويزيدون { فآمنوا فمتعناهم إلى حين } إلى أجل مسمى { فاستفتهم } الآية نزلت في قريش وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله، يعني سلهم يا محمد وإنما هو سؤال إنكار وتوبيخ { ألربك البنات ولهم البنون } يعني كيف اخترتم لأنفسكم البنين وأضفتم البنات إلى الله { أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون } يعني اشهدوا خلقهم فعلموا أنهم اناث، قال سبحانه: { ألا إنهم من إفكهم ليقولون } { ولد الله وإنهم لكاذبون } في ذلك، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا { أم لكم سلطان مبين } أي حجة نزلت عليكم من السماء، وخبر بأن الملائكة بنات الله { فأتوا بكتابكم } الذي أنزل عليكم في ذلك { إن كنتم صادقين } وهذه الآيات صادرة عن سخط عظيم وإنكار فظيع.
[37.158-182]
{ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا } أرادوا بذلك الملائكة وهو زعمهم أنهم بناته، والمعنى وجعلوا إنما قالوا نسبته بين الله وبينه، وأثبتوا له بذلك جنة جامعة له الملائكة، فإن قلت: لم سمي الملائكة جنة؟ قلت: الجنس واحد، وقيل: قالوا: إن الله صاهر الجن فخرجت الملائكة، وقيل: قالوا: إن الله والشيطان اخوان، وعن الحسن: أشركوا الجن في الطاعة لهم { ولقد علمت الجنة إنهم لمحضرون } للكفرة، والمعنى أنهم يقولون ما يقولون في الملائكة وقد علمت الملائكة في ذلك لكاذبون مفترون { سبحان الله عما يصفون } أي تنزيها له وبراءة عما يصفون، وأنهم محضرون النار معذبون بما يقولون، ويجوز إذ فسر الجنة بالشياطين أن يكون الضمير في أنهم لمحضرون لهم، والمعنى أن الشياطين عالمون أن الله يحضرهم النار ويعذبهم، ولو كانوا مناسبين له وأشركوا في وجوب الطاعة لما عذبهم { إلا عباد الله المخلصين } استثناء منقطع من المحضرين معناه: ولكن المخلصين ناجون { فإنكم وما تعبدون } ، معناه: فإنكم ومعبودكم من دون الله أنتم وهم جميعا { بفاتنين } على الله إلا أصحاب الجحيم ، والفاتن المهلك { إلا من هو صال الجحيم } مثلكم { وما منا إلا له مقام معلوم } في العبادة والانتهاء إلى أمر مقصور عليه لا يتجاوزه، كما روي فمنهم راكع لا يقوم صلبه وساجد لا يرفع رأسه { وإنا لنحن الصافون } نصف أقدامنا في الصلاة وأجنحتنا في الهواء منتظرين ما نؤمر، وقيل: نصف أجنحتنا حول العرش داعيين للمؤمنين، وقيل: أن المسلمين إنما اصطفوا في الصلاة عند نزول هذه الآية وليس يصف أحد من أهل الملل في صلاتهم غيرهم { وإنا لنحن المسبحون } المنزهون والمصلون، وإن كانوا هم مشركو قريش { لو أن عندنا ذكرا من الأولين } أي كتابا من كتب الأولين الذي نزل عليهم التوراة والانجيل لأخلصنا عبادة الله ولما كذبنا كما كذبوا به ولآمنا كما آمنوا به المنزل عليهم { فكفروا به } في الكلام حذف فلما آتاهم الكتاب وهو القرآن كفرو به { فسوف يعلمون } وعيد لهم { ولقد سبقت كلمتنا } يعني وعدنا { لعبادنا المرسلين } ، قيل: هو قوله:
كتب الله لأغلبن أنا ورسلي
[المجادلة: 21]، وقوله:
وكان حقا علينا نصر المؤمنين
[الروم: 47] { إنهم لهم المنصورون } { وإن جندنا لهم الغالبون } وصفا للمؤمنين بأنهم جنده وتشريفا لهم { فتول عنهم حتى حين } إلى مدة، قيل: يوم بدر، وقيل: يوم الفتح، وقيل: إلى الموت، وقيل: نسختها آية القتال { وأبصرهم فسوف يبصرون } ، قيل: أنظرهم فسوف يرون العذاب { أفبعذابنا يستعجلون } ، قيل: لما أوعدهم بالعذاب قالوا إنكارا واستهزاءا، ائتنا بما تعدنا، فقال: أفبعذابنا يستعجلون { فإذا نزل بساحتهم } يعني العذاب ينزل بساحتهم، قيل: بدارهم { فساء صباح المنذرين } أي بئس صباح الكافرين حينئذ، ولا صباح أسوأ من صباح حل في عذاب الله، وقيل: هو نزول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم السلاح فقالوا: محمد والجيش، فرجعوا إلى حصنهم فقال (عليه السلام):
" الله أكبر خربت خيبر انا إذا أنزلنا بساحة قوم { فساء صباح المنذرين } "
{ وأبصرهم فسوف يبصرون } ما لا يحيط به الذكر من صنوف المسرة وأنواع المساءة، وقيل: أريد بأحدهما عذاب الدنيا، والثاني عذاب الآخرة { سبحان ربك } أي تنزيها له من كل سوء { رب العزة } أراد بالعزة ما يفعله بالأنبياء والمؤمنين من الرفعة والاعزاز، وقيل: المالك للعزة القادر عليها { وسلام على المرسلين } أي السلامة في الدنيا والآخرة والنبأ الجميل { والحمد لله رب العالمين } أي شكرا له على ما أنعم به وأسبغ ودفع من المكاره، وعن علي (عليه السلام): " من أحب أن يكال له بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه: { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } { وسلام على المرسلين } { والحمد لله رب العالمين } ".
[38 - سورة ص]
[38.1-6]
{ ص } ، قيل: قسم، وقيل: اسم من أسماء الله تعالى عن ابن عباس، وقيل: من أسماء القرآن، وقيل: فاتحة السورة { والقرآن ذي الذكر } ذي الشرف، وقيل: ذي البيان،
" وروي أن صناديد قريش وهم خمسة وعشرون رجلا: الوليد بن المغيرة، وأبو جهل، وأمية بن خلف، والعاص وغيرهم، أتوا أبا طالب حين اشتد عليهم أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وقد أتينا لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فدعا أبو طالب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك، فقال: " وماذا يسألوني؟ ". فقال: دعنا وآلهتنا وندعك وإلهك، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أتعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب والعجم؟ " فقال أبو جهل: نعطيك ذلك وعشر أمثالها، فقال: قولوا: " لا إله إلا الله "
، فقال تعالى وقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا؟ كيف يسع الخلق كلهم إلها واحدا؟ فنزلت هذه الآيات { بل الذين كفروا في عزة وشقاق } أي تكبر عن الحق ومخالفه { كم أهلكنا من قبلهم من قرن } يعني قبل هؤلاء الكفار جماعة بعد جماعة { فنادوا } يعني حين أصابهم العذاب نادوا نداء مستغيث بالايمان { ولات حين مناص } أي ليس حين مهرب، وقيل: ليس منجى، والمناص: المنجى { وعجبوا أن جاءهم منذر منهم } يعنوا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يعني عصوا بأن جاءهم منذر منهم { وقال الكافرون هذا ساحر كذاب } { اجعل الآلهة إلها واحدا } أي جعل العالم إلها واحدا { إن هذا لشيء عجاب } أي متناهي في الأعجوبة { وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم } نزلت الآية في الذين اجتمعوا عند أبي طالب قيل: امشوا ولا تقيموا على سماع القرآن { واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد } أي يريده الله ويحكم بإمضائه، أو أن دينكم لشيء يراد أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه.
[38.7-19]
{ ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة } في ملة عيسى التي هي آخر الملل { إن هذا إلا اختلاق } افتعال وكذب { أءنزل عليه الذكر من بيننا } يعني القرآن { بل هم في شك من ذكري } فيما أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { بل لما يذوقوا عذاب } ولو ذاقوه لما قالوا هذا القول { أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب } كثير الهبات والعطايا { أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما } حتى يتكلموا في الأمور الربانية والتدابير الإلهية التي يختص بها رب العزة { فليرتقوا في الأسباب } تهكم بهم يعني إذا لهم ذلك فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوصل بها الى العرش حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم { جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب } يعني ما هم إلا جند من الكفار المتحربين على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { كذبت قبلهم } أي قبل هؤلاء الكفار { قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد } كذبوا موسى وهارون، وسمي الأوتاد، قيل: كان يشج المعذب من أربع سوار كل طرف من أطرافه إلى سارية مضروب فيه، وتد من حديد ويتركه حتى يموت، وقيل: كان يمده بين أربعة أوتاد في الأرض ويرسل عليه العقارب والحيات، وقيل: كان له أوتاد وحبال يلعب بها بين يديه، وقال جار الله: أصله من ثبات الثبت المطنب بأوتاد الثبات العزة والملك والاستقامة كما يقال في ظل ملك ثابت الأوتاد { وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة } وهم قوم شعيب، وقد تقدم الكلام فيهم { أولئك الأحزاب } أي هم القوم الذين وجد منهم التكذيب { إن كل إلا كذب الرسل } أي ما منهم أحد إلا كذب { فحق عقاب } أي وجب عليهم { وما ينظر هؤلاء إلا صيحة } ، قيل: النفخة الأولى في الصور في حديث مرفوع، وقيل: صيحة عذاب { مالها من فواق } أي من إقامة بالرجوع إلى الدنيا { وقالوا ربنا عجل لنا قطنا } أي نصيبنا من العذاب الذي وعدته كقوله:
ويستعجلونك بالعذاب
[الحج: 47]، وقيل: ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعد الله المؤمنين الجنة فقالوا: على سبيل الهزء، وعجل لنا نصيبا منها، أو عجل لنا صحيفة أعمالنا ننظر فيها { قبل يوم الحساب } أي قبل يوم القيامة، قيل: لما قال: عجل لنا نصيبنا استهزاء نزل قوله: { اصبر على ما يقولون } يعني هؤلاء الكفار من التكذيب { واذكر عبدنا داوود } يعني اذكر أخاك داوود وكرامته على الله { ذا الأيد } ، قيل: ذا القوة على الأعداء وقهرهم أو ذا القوة في العباد { إنه أواب } يعني مع سلطانه أنه كان أوابا، قيل: مطيعا، وقيل: راجعا إلى الله بالتوبة { إنا سخرنا الجبال معه يسبحن } لله وكان إذا سبح داوود يسبحن الطيور والجبال، وقيل: كانت تسير معه إذا سار { بالعشي والإشراق } بالصباح والرواح { والطير محشورة } مجموعة ملتفة من كل ناحية ويحتمل أن الله ألهمها ذلك، ويحتمل أن الملائكة حشرت الطيور عنده { كل له أواب } مطيع.
[38.20-26]
{ وشددنا ملكه } قويناه بالجنود والهيبة وكثرة العدد، وعن ابن عباس: كان أشد الملوك سلطانا، وقيل: كان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف رجل، وقيل: أربعون ألف، والذي شد الله به ملكه وقذف في قلوب قومه الهيبة أن رجلا ادعى على رجل بقرة وعجز عن إقامة البينة، فأوحى الله اليه في المنام أن اقتل المدعى عليه فقال: هذا منام، فأعيد الوحي عليه في اليقظة فأعلم الرجل فقال: إن الله لم يأخذني بهذا الذنب ولكن بأني قتلت اباه غيلة فقتله، فقال الناس: إن أذنب أحد ذنبا أظهره الله عليه { وآتيناه الحكمة } ، قيل: كل كلام وافق الحق فهو حكمة { وفصل الخطاب } المتميز بين الشيئين، وعن علي ابن أبي طالب (عليه السلام) قوله: " البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه " وروي ان كان أهل زمان داوود يسأل بعضهم بعضا أن ينزل أحدهم لصاحبه من امرأته فيتزوجها إذا أعجبته وكان لهم عادة في المواساة بذلك، وروي أن الأنصار كانوا يواسون المهاجرين بمثل ذلك، روي أن عين داوود وقعت على امرأة رجل يقال له أوريا فأحبها فسأله النزول منها فاستحيا وفعل وهي أم سليمان، فقيل له: في عظم منزلتك لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول عنها، وقيل: خطبها أوريا ثم خطبها داوود، وكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن فقال سبحانه: { وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } أي إذا اتوا داوود من سواره محرابه قيل: هو مصلاه { إذ دخلوا } من غير إذن { قالوا لا تخف خصمان } يا داوود نحن خصمان، وقيل: نحن خصمين، وأكثر المفسرين أنهما ملكين، وكان فزعه لأنهم دخلوا من غير إذن { بغا بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط } وهو مجاوزة الحد { واهدنا إلى سواء الصراط } أي وسط الطريق وهو الحق { إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة } تمثيلا، وكانا ملكين وقيل: أخي في الدين، وقيل كانا أخوين من بني إسرائيل، النعجة كناية عن الضأن، وقيل: كناية عن المرأة { فقال اكفلنيها } ملكنيها { وعزني في الخطاب } { قال لقد ظلمك } ، قيل: لما سمع الدعوى استعجل وقال: لقد ظلمك وكان ينبغي ألا يحكم بالظلم إلا بعد سماع كلامه فهذا كان ذنبه، وقيل: إنه اعترف صاحبه فعند ذلك قال: لقد ظلمك { وإن كثيرا من الخلطاء } يعني من الشركاء { ليبغي } بطلب الزيادة يعترض { بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم } يعني هؤلاء { وظن داوود أنما فتناه } ، قيل: علم لما لم يؤاخذهما، وقيل: أنه أخطأ بالقضاء على المدعى عليه، وروي أن الخصم قال لداوود: أنت أحق بهذا عند أن قال لقد ظلمك { فاستغفر ربه } أي طلب المغفرة { وخر راكعا } ، قيل: ساجدا لله { وأناب } أي تاب ورجع إلى مرضاة الله { فغفرنا له } يعني ما تقدم قيل: الصغيرة التي أتاها ويجوز أن يسأل المغفرة وإن كانت مغفورة { وإن له عندنا لزلفى } لقربى من رحمة الله ودرجات { وحسن مآب } أي حسن مرجع، وعن علي (عليه السلام): " من حدثكم بحديث داوود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وسبعين " { يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض } ، قيل: خلف بمن مضى من الأنبياء في الدعاء إلى توحيد الله وعدله وشرائعه والحكم بين عباده { فاحكم بين الناس بالحق } أي افصل أمورهم { ولا تتبع } في أمورك { طريق الهوى } بل اتبع طريق الجنة { فيضلك عن سبيل الله } عن دين الله { إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب }.
[38.27-34]
{ وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا } والباطل ما لا يكون فيه غرض صحيح { ذلك ظن الذين كفروا } أي خلقهما للعبث لا للحكمة { فويل للذين كفروا من النار } { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية { كتاب أنزلناه إليك } يعني القرآن { مبارك } لما فيه من منافع الدين والدنيا { ليدبروا آياته } يعني ليفكروا فيها، والتأمل الذي يؤدي إلى معرفة ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني الحسنة، وعن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيد وصبيان لا علم لهم بتأويله حفظوا حروفه وضيعوا حدوده { وليتذكر أولوا الألباب } يعني أولوا العقول، ثم عطف على داوود حديث ابنه سليمان فقال سبحانه: { ووهبنا لداوود سليمان } أي أعطينا داوود سليمان { نعم العبد } كناية عن سليمان لأنه أقرب المذكورين، وقيل: كناية عن داوود { إنه أواب } الى طاعة الله سبحانه { إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد } الواقعات على ثلاث قوائم، وقيل: أن ترفع أحد يديها حتى تكون على طرف، وروي أن سليمان (عليه السلام) غزا أهل دمشق فأصاب ألف فرس، وقيل: ورثها من أبيه وأصابها أبوه من العمالقة، وقيل: خرجت من البحر لها أجنحة، فقعد يوما بعدما صلى الأولى على كرسيه واستعرضها، فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وغفل عن العصر وعن ورده ومن الذكر كان له وقت العشي وتهيبوه فلم يعلموه، واغتم لما فاته فاستردها وعقرها تقربا لله وبقي مائة، فما في أيدي الناس من الجياد فمن نسلها، وقيل: لما عقرها أبدله الله خيرا منها وهي الريح تجري بأمره، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة "
، وقال في زيد الخيل حين قدم عليه { فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي } يعني أحببت حب الخيل، وقيل: أراد بالخير المال، عن ذكر ربي أي عن صلاة العصر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال أبو علي: كانت صلاة العصر لم تكن مفروضة فاشتغل عنها بالخيل، وقيل: كانت صلاة منذورة { حتى توارت بالحجاب } ، قيل: توارت الشمس بالحجاب، يعني غربت { ردوها علي } الهاء كناية عن الخيل عن أكثر المفسرين، وقيل: كناية عن الشمس يعني سأل الله أن يردها عليه فردت حتى صلى { فطفق مسحا بالسوق والأعناق } ، قيل: عقرها بالسيف، وقيل: جعل يمسح أعناق الخيل والأعقاب { ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا } روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" قال سليمان: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله، ولم يقل ان شاء الله، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل فألقته على كرسيه بين يديه، فلو قال: ان شاء الله كان كما قال "
، وكان الابتلاء لأجل الاستثناء، والجسد هو نصف الولد، وقيل: بل ولد له ولدا ميتا بلا روح فألقي على سريره، وقيل: امتحنه بمرض شديد ومرض على كرسيه، وأما ما يرووا من حديث الخاتم والشيطان وعبادة الوثن في بيت سليمان قال جار الله: فالله أعلم بصحته، والذي ذكره في الحاكم في تفسير الطرسشس أن هذا من كلام الحسوتة ولا يجوز على سليمان ذلك { ثم أناب } أي رجع إلى الله.
[38.35-44]
{ قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب } ، قال جار الله: دعاه فقال: { فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب } { والشياطين } أي سخرنا { كل بناء وغواص } يغوصون في البحر ويستخرجون اللآلئ والحلي { وآخرين } هم المردة الكفرة { مقرنين في الأصفاد } ، قيل: القيود، وقيل: الأغلال، وقيل: السلاسل تجمع اليدين إلى العنق { هذا عطاؤنا } يا سليمان { فامنن } اعط { أو أمسك } ولا تعط { بغير حساب } أي أعط كما شئت أو أمسك كما شئت بغير حساب { وإن له عندنا لزلفى } لقربى { وحسن مآب } أي حسن مرجع { واذكر عبدنا } إضافة إلى نفسه تشريفا لأيوب { إذ نادى ربه } دعاه { أني مسني } الضر { الشيطان بنصب } ومشقة { وعذاب } بوسوسة يقول: ذهب الأهل والمال وطال مرضك، وذكر في سبب بلائه أن رجلا استغاثه على ظالم فلم يغثه، وقيل: كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه، وقيل: أعجب بكثرة ماله { اركض برجلك } أي اضرب برجلك الأرض فنبعت عين فقيل له: { هذا مغتسل بارد وشراب } أي هذا ما يغتسل به ويشرب منه، وقيل: نبعت له عينان فاغتسل من أحدهما وشرب من الأخرى فذهب الداء من ظاهره وباطنه بإذن الله، قيل: ضرب برجله اليمنى فنبعت عين فاغتسل منها ثم اليسرى فنبعت باردة فشرب منها { ووهبنا له أهله } أعطيناه، وقيل: زال وجعه ورجع أهله، وقيل: كانوا مائة فأحياهم، ويخيل أنهم كانوا مرضى فشفاهم، وقيل: عافاه وقواه حتى كثر ماله وأولاده { رحمة منا } أي نعمة على أيوب { وذكرى لأولي الألباب } أي تذكرة وموعظة لذوي العقول { وخذ بيدك ضغثا } أي قلنا خذ بيدك ضغثا والضغث الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك، وعن ابن عباس (رضي الله عنه): قبضه من الشجر كان حلف في مرضه ليضرب امرأته إذا برئ فحلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها وهذه الرخصة ثابتة، وكان السبب في يمينه أنها أبطأت عليه ذاهبة في حاجة فضاق صدره، وقيل: باعت ذوابتها برغيفين وكانت متعلق أيوب (عليه السلام) إذ قام، وقيل: قال لها الشيطان: اسجدي لي سجدة فأرد عليكم أموالكم وأولادكم فأدركتها العصمة فذكرت ذلك له فحلف { إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب }.
[38.45-64]
{ واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب } ، قيل: اذكرهم بفضلهم وصبرهم لتسلك طريقهم { أولي الأيدي } أي ذو القوة على العباد { والأبصار } الفقه في الدين، وقيل: أولوا العلم والعمل { إنا أخلصناهم } جعلناهم لنا خالصين { بخالصة ذكرى الدار } يعني ذكرهم الآخرة ورغبهم فيها وتزهيدهم في الدنيا كما هم ببيان الأنبياء، وقيل: اخلصوا ذكر الله وأخلص الله قلوبهم لذكر دار الآخرة، وقيل: ذكر الدار يعني ذكر الناس لهم بالثناء الحسن الذي ليس لغيرهم من أجل قيامهم بالنبوة { وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار } المختارين للنبوة الأخيار في الدنيا للمنزلة الرفيعة وفي الآخرة بالدرجة العظيمة { واذكر اسماعيل واليسع } أي يسع الحكمة والعلم ومعرفة الله تعالى { وذا الكفل } ، قيل: ذا الضعف من الثواب قال تعالى:
يؤتكم كفلين من رحمته
[الحديد: 28] قيل: هو زكريا تكفل بأمرهم، وقيل: هو حزقيل { وكل من الأخيار } وكلهم من الأخيار { هذا ذكر } أي هذا نوع من الذكر وهو القرآن، وقيل: معناه هذا شرف وذكر جميل تذكرون به، وعن ابن عباس: { هذا ذكر } من مضامن الأنبياء { وإن للمتقين } من يتقي المعاصي { لحسن مآب } مرجع وهو الجنة، والمآب أحسن مكان، فسره فقال: { جنات عدن مفتحة لهم الأبواب } { متكئين فيها } يعني جالسين آمنين جلسة الملوك { يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب } { وعندهم قاصرات } قصرن أعينهن على أزواجهن { أتراب } ، قيل: أقران على سن واحد ليس فيهن عجوز { هذا ما توعدون ليوم الحساب } { إن هذا لرزقنا ما له من نفاد } أي انقطاع، أي { هذا } الثواب للمتقين { وإن للطاغين } العصاة { لشر مآب } مرجع ولا مآب أشر من نار تلظى { جهنم يصلونها } أي يصيرون وقود جهنم { فبئس المهاد } أي بئس الفراش { هذا فليذوقوه حميم وغساق } ، قيل: هو القيح الذي يسيل منهم، وقيل: هو عين في جهنم يسيل اليها كل ذات حمة من حيات وعقارب، وقيل: هو ما يسيل من دموعهم يسبقونه نعوذ بالله منه ونستجير { وآخر من شكله } أي من ضعف العذاب وجنسه في الشدة، وقيل: هو الزمهرير، وقيل: السلاسل والأغلال { أزواج } أجناس { هذا فوج } جماعة { مقتحم معكم } النار، وهذه حكاية كلام الطاغين بعضهم مع بعض أي يقولون هذا، والمراد الفوج اتباعهم الذين اقتحموا معهم الضلالة فيقحمون معهم العذاب { لا مرحبا بهم } دعا منهم على اتباعهم يقولون لمن دعا عليهم لا مرحبا أي لا رحبا من البلاد، ونحو قوله تعالى:
كلما دخلت أمة لعنت أختها
[الأعراف: 38]، وقيل: هذا فوج مقتحم كلام الخزنة لرؤساء الكفار في اتباعهم لا مرحبا بهم، فقالوا: النار كلام الرؤساء، وقيل: هذا كله كلام الخزنة { قالوا } اي الاتباع { بل أنتم لا مرحبا بكم } يريدون الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به، وعللوا بقولهم: { أنتم قدمتموه لنا } والصبر للعذاب أو لصلبهم { فبئس القرار } { قالوا } يعني الأتباع { ربنا من قدم لنا هذا } من شرع لنا هذا وهم القادة والرؤساء { فزده عذابا ضعفا } على عذابنا { في النار } ، وقيل: حيات وأفاعي { وقالوا } يعني الكفار، وقيل: صناديد قريش { ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار } مثل بلال وصهيب وعمار وغيرهم يعنون بذلك فقراء المسلمين { اتخذناهم سخريا } وليسوا كذلك فلم يدخلوا النار { أم زاغت } أبصارنا عنهم وهم فيها، وقيل: يجوز أنهم علموا أنهم استحقوا الثواب لإيمانهم ولأنهم كانوا أعداء فلا بد من انصاف، قالوا: معناه الآية أم بمعنى بل، زاغت: مالت أبصارنا عنهم ولا شك أنهم في الجنة، وقيل: بل هو خطاب الأتباع والقادة، يعني أيا من كنتم تقولون أنهم أشرار وكنا نسخر منهم بقولكم { إن ذلك لحق تخاصم أهل النار } يعني تخاصمهم على ما تقدم من قولهم لا مرحبا بكم، أو قولهم اتخذناهم سخريا.
[38.65-88]
{ قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار } على ما يشاء { رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار } الذي لا يمتنع عليه شيء، الغفار يستر ذنوب عباده { قل } يا محمد { هو نبأ عظيم } ، قيل: القرآن وصفه بالعظمة لما فيه من الزجر والأجر والأحكام والتوحيد والعدل والقصص والشرائع وجميع ما يحتاج إليه، وقيل: هو يوم القيامة عن الحسن، قال جار الله: هو نبأ عظيم أي هذا الذي أنبأتكم به من كوني رسولا منذرا وأن الله وحده لا شريك له نبأ عظيم لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة { ما كان لي من علم بالملأ الأعلى } هم الملائكة وآدم وإبليس { إذ يختصمون } في حديث آدم وقالوا:
أتجعل فيها من يفسد فيها
[البقرة: 30] فما علمت ما كانوا فيه إلا بوحي من الله تعالى، وهذا محمول أنهم تناصروا أولا فيما بينهم ثم دعوا الله فبين لهم، وقيل: اختصامهم فيما طريقه الاجتهاد، وقيل: بل على طريق المذاكرة لأن بعضهم أعلم من بعض، وقد يجتمع أهل الحق للمناظرة مع اتفاقهم على كلمة واحدة وهم على كلمة الحق، ولما تقدم ذكر مخاصمة الملأ الأعلى في حديث آدم بين تعالى ذلك فقال سبحانه: { إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا } أي آدم { من طين } فإنما تصير تلك الأجزاء بشرا بما يخلق فيه من التأليف والحياة { فإذا سويته } أي خلقته وتم خلقي إياه { ونفخت فيه من روحي } أي أحييته وجعلت فيه الروح وهو النفس المترددة { فقعوا له ساجدين } وقد قدمنا ما قالوا فيه وأنه سجدة التحية لا سجدة العبادة { فسجد الملائكة كلهم أجمعون } { إلا ابليس استكبر وكان من الكافرين } لأنه مأمور معهم بالسجود ولم يكن منهم بل كان من الجن وخلق من النار والملائكة من الريح { قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي } قيل: خلقته من غير واسطة، وقيل: بنعمتي نعمة الدين والدنيا، أو نعمة الظاهرة والباطنة، أو خلقته للدين والدنيا ليكون هو وذريته خلفاء الأرض { استكبرت أم كنت من العالين } { قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين } وفضل النار على الطين وذلك خطأ منه { قال فاخرج منها } ، قيل: من الجنة، وقيل: من السماء، وقيل: من الخلقة التي أنت فيها لأنه كان يفتخر بخلقه فغير الله خلقه فاسود بعدما كان أبيض وأقبح بعدما كان حسنا { فإنك رجيم } ، قيل: مطرود، وقيل: مرجوم بالشهب { وإن عليك لعنتي } على لسان عبادي إذ أمرتهم بلعنك { إلى يوم الدين } يعني لا تنقطع الى يوم القيامة { قال رب فانظرني } أي امهلني وأخرني { إلى يوم يبعثون } يوم القيامة يبعث فيه الخلق { قال فإنك من المنظرين } { إلى يوم الوقت المعلوم } والذي أضيف إليه اليوم وهو الذي يقع فيه النفخة الأولى، ومعنى المعلوم أنه معلوم عند الله معين لا يستقدم ولا يستأخر، وقد قدمنا ما قالوا فيه في سورة الأعراف { قال فبعزتك } أقسم بالله { لأغوينهم } يعني بني آدم كلهم { أجمعين } تأكيد { إلا عبادك منهم المخلصين } وإنما استثناهم لعلمه بأنهم لا يقبلون فأيس منهم { قال } سبحانه { فالحق والحق أقول } والمراد بالحق أنا اسمه في قوله تعالى:
إن الله هو الحق المبين
[النور: 25] والحق الذي هو يقبض الباطل، وقيل: لما أقسم على اغوائهم أقسم الله تعالى أنه يدخله ومن معه النار فقال سبحانه: { فالحق والحق أقول لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين } من بني آدم { قل } يا محمد { ما أسألكم } أيها الناس على تبليغ الوحي والرسالة { من أجر } أي لا طمع لي فيكم { وما أنا من المتكلفين } المقولين القرآن من قبل نفسي، وقيل: لا أتكلف أمرا لم يأمرني به الله، قال جار الله: المتكلفين الذين يتصنعون ويتحلون بما ليسوا من أهله وما عرفتموني قط متصنعا ولا مدعيا ما ليس عندي، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم "
{ ولتعلمن نبأه بعد حين } أي ما يأتيكم عند الموت، أو يوم القيامة، أو عند ظهور الاسلام { ولتعلمن } صحة خبره ووعده ووعيده { بعد حين } بعد مدة ودهر.
[39 - سورة الزمر]
[39.1-4]
{ تنزيل الكتاب } أي هذا القرآن المنزل تنزيل { من الله } أنزله فاعلموا أنه { العزيز } القادر الذي لا يمتنع عليه { الحكيم } الذي أحكمه لأنه يحكم أقواله وأفعاله، وقيل: معناه العليم أنزله وهو عليم بما تقتضيه الحكمة { إنا أنزلنا إليك } يا محمد { الكتاب بالحق } لأن جميع ما فيه حق من الأخبار والأوامر والوعد والوعيد { فاعبد الله } وحده كما أمرتم { مخلصا له الدين } بمعنى أخلصوا العبادة له لا تعبدوا غيره { ألا لله الدين الخالص } ، قيل: جميع العبادات خالصة له لا يستحقها إلا هو، وعن قتادة: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله، وعن الحسن: الاسلام { والذين اتخذوا من دونه أولياء } وهي الأصنام والملائكة وعيسى، والمتخذ هم الكفرة { ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى } ، قيل: كانوا إذا قيل لهم: من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، فإذا قيل: ما معنى عبادتكم الأوثان؟ قالوا: يقربنا إلى الله زلفى يشفع لنا عند الله تعالى: { إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون } من أمر الدين فيثيب المحق ويعاقب المبطل { إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار } أي لا يهدي طريق النجاة، وقيل: لا يحكم بالهداية لمن كان كافر { لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء } يعني لو أراد اتخاذ الولد لامتنع ولم يصح لكونه محالا ولم يتأت إلا أن يصطفي من خلقه بعضه ويختصهم ويقربهم كما يختص الرجل ولده ويقربه، وقد فعل ذلك في الملائكة فافتتنتم به وغركم اختصاصه إياهم فزعمتم أنهم أولاده جهلا منكم به، كأنه قال: لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفائه الملائكة وما شاء من خلقه، إلا أنكم لجهلكم حسبتم أنه اصطفاهم اتخذهم أولادا فكنتم كافرين متتابعين بالافتراء على الله وملائكته { سبحانه } أي تنزيها له { هو الله الواحد القهار } فوق عباده بالقدرة.
[39.5-8]
{ خلق السماوات والأرض بالحق } يعني إقامة الحق وعبادة الله والدلالة على وحدانيته { يكور الليل } التكوير اللف، وقد يقال: كان العمامة على رأسه وكورها، وقيل: يدخل أحدهما في الآخر بالزيادة والنقصان، أو يأتي أحدهما خلف الآخر { وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى } قيل: هو قيام الساعة، وقيل: هو المطلع والمغرب لكل واحد منهما وقت معلوم في الشتاء والصيف { ألا هو العزيز الغفار } مع قدرته على أخذكم لا يؤاخذكم ويغفر لكم إن تبتم { خلقكم } يا بني آدم { من نفس واحدة } وهو آدم لأنه أب البشر { ثم جعل منها زوجها } خلقها من ضلع من أضلاعه، وقيل: من بقية طينته { وأنزل لكم من الأنعام } ، قيل: خلقها في الجنة ثم أنزلها { ثمانية أزواج } ذكرا وأنثى من الابل والبقر والضأن والمعز، والزوج اسم لواحد معه آخر قال تعالى:
فجعل منه الزوجين
[القيامة: 39]، وقيل: أعطاكم الأنعام بأن خلقها لكم، والإعطاء بلفظ الإنزال { يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق } حيوانا سويا من بعد عظاما مكسوة لحما من بعد عظام عارية، من بعد مضغ من بعد علق من بعد نطف { في ظلمات ثلاث } البطن والرحم والمشية، وقيل: الصلب والرحم والبطن { ذلكم الله } الذي هذه أفعاله هو الله { ربكم } { لا إله إلا هو فأنى تصرفون } فكيف يعدل بكم عن عبادته إلى عبادة غيره { إن تكفروا فإن الله غني عنكم } وعن إيمانكم وإنكم المحتاجون إليه { ولا يرضى لعباده الكفر } رحمة لهم لأنه لا يوقعهم في الهلكة { وإن تشكروا يرضه لكم } أي يرضى لكم الشكر لأنه فلاحكم { ولا تزر وازرة وزر أخرى } أي لا يؤاخذ أحد بذنب آخر { ثم إلى ربكم مرجعكم } مصيركم { فينبئكم } يخبركم { بما كنتم تعملون } { انه عليم بذات الصدور } ثم بين تعالى حال العصاة فقال سبحانه: { وإذا مس الإنسان ضر } أي ما يضره من المحن والشدائد في نفسه مخلصا راجعا اليه مستغيثا به { ثم إذا خوله } أعطاه نعمة منه { نسي ما كان يدعو إليه } أي نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، وقيل: نسي ربه الذي كان يتضرع إليه ويبتهل إليه { من قبل } يعني نسي في حال الرخاء ما كان يدعو في حال الضر والشدة { وجعل لله أندادا } أي أشباها قيل: هي الأوثان { ليضل عن سبيله } عن طريق الجنة، وقيل: يريد به إضلال الناس، وقيل: يضل عن طريق الجنة واللام للعاقبة، أي عاقبته أن يضل { قل } يا محمد لهؤلاء الكفار { تمتع بكفرك قليلا } مدتكم في الدنيا ثم تموتون وتزول نعمتكم { إنك } إذ مت كنت { من أصحاب النار } تعذب فيها دائما.
[39.9-16]
{ أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما } الآية نزلت في عمار بن ياسر، وفيه نزل:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون
[الزمر: 9] أبو حذيفة بن المغيرة، قانت أي دائم على طاعة الله، وقيل: القنوت قراءة القرآن وقيام الليل، وقوله (عليه السلام): " أفضل الصلاة صلاة القنوت " وهو القيام فيها، ومنه القنوت في الوتر لأنه دعاء المصلي { آناء الليل } ساعته { ساجدا وقائما يحذر الآخرة } أي عذاب الآخرة { ويرجوا رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } أي هل يستوي العالم والجاهل، أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون كذلك لا يستوي القانتون والعاصون { إنما يتذكر أولو الألباب } أي يستعمل عقله { قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم } أي احذروا نقمته في مخالفة أمره { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } معناه الذين أحسنوا في هذه الدنيا لهم حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة، وقيل: الاحسان على ضربين: إحسان إلى الغير بالانعام عليه والدعاء إلى الدين، وإحسان بأن يطيع الله بما كلفه، والحسنة على ضربين: في الدنيا بالمدح، وحسنة في الآخرة بالثواب الجزيل { وأرض الله واسعة } أي الدنيا واسعة هاجروا عن دار الشرك حتى إذا اعتلوا بأوطانهم وبلادهم، وإنهم لا يتوفرون على الاحسان قيل لهم: فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة فلا يحتموا على العجز وتحولوا إلى بلاد أخرى واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم، وقيل: هي أرض الجنة فاطلبوها بالأعمال الصالحة { إنما يوفى الصابرون } الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم وعلى غيرهما من تجرع الغصص واحتمال البلايا في طاعة وازدياد الخير { أجرهم بغير حساب } لا يحاسبون عليه، وقيل: بغير مكيال وغير ميزان وهذا تمثيل للكثير، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" تنصب الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتى بأهل الزكاة فيوفون أجورهم بالموازين، ويؤتي بأهل الحج فيعطون كذلك، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزانا ولا ينشر لهم ديوان حتى يتمنى أهل العافية أن أجسادهم كانت تقص بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل "
{ قل إني أمرت } بإخلاص الدين { وأمرت } بذلك لأجل { أن أكون أول المسلمين } أي مقدمهم وسابقهم في الدنيا والآخرة فمن أخلص دينه كان سابقا لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أول من خالف دين آبائه { قل إني أخاف إن عصيت ربي } فاحذروا أنتم معصيتة { عذاب يوم عظيم } { قل الله اعبد مخلصا له ديني } فلا أعبد معه شيئا { فاعبدوا ما شئتم من دونه } فستجدون جزاءه { قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم } لوقوعها في الهلكة لا هلكة بعدها { و } خسروا { أهليهم } لأنهم كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا ذهابا لا رجوع بعده، وقيل: خسروهم لأنهم لم يدخلوا مدخل المؤمنين الذين لهم أهل في الجنة، يعني وخسروا أهليهم الذين كانوا يكنوا لهم أهل لو آمنوا، ولقد وصف الله خسرانهم بغاية الفظاعة في قوله: { ألا ذلك هو الخسران المبين } { لهم من فوقهم ظلل من النار } سرادقات وأطباق من النار { ومن تحتهم } أطباق من النار { ذلك } يعني العذاب المذكور { يخوف الله به عباده } أي يخوفهم فعل المعاصي { يا عباد فاتقون } أي اتقوا معاصي الله.
[39.17-23]
{ والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها } الآية نزلت في زيد بن عمرو، وورقة بن نوفل، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وكانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله، والطاغوت الأوثان، وقيل: الشيطان { وأنابوا إلى الله } أي رجعوا اليه وأخلصوا عبادته { لهم البشرى } في الدنيا والآخرة { فبشر عباد } { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } ، قيل: أحسنه طاعة الله، وقيل: أحسنه يتبعون الناسخ دون المنسوخ، وقيل: يتبعون القرآن لأنه أحسن الحديث { أولئك الذين هداهم الله } بالألطاف، وقيل: هداهم إلى الجنة، وقيل: حكم بهدايتهم { وأولئك هم أولو الألباب } أولو العقول { أفمن حق عليه كلمة العذاب } بكفره { أفأنت تنقذ من في النار } هذا نفي، أي لا ينقذهم طهرك { لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف } أي منازل عالية أنشأها الله { من فوقها غرف } على بعضها فوق بعض { مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله } ذلك المتقين والله لا يخلف الميعاد { ألم تر } ألم تعلم { أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع } عيونا { في الأرض } معناه أنزل من السماء ماء المطر، وكل ما في الأرض فهو ينزل من السماء إلى الصخرة ثم يقسمه الله، فسلكه وأدخله ويطعمه، ينابيع في الأرض عيونا ومسالك ومجاري كالعروق في الأجساد { ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه } كالبر والشعير والذرة والسمسم ونحوه، وقيل: من ألوان النبات أخضر وأصفر وأحمر وأبيض وأسود { ثم يهيج } يتم حفافه { فتراه مصفرا } بعد خضرته؟ { ثم يجعله حطاما } يابسا مكسرا { إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب } أي حجة للعاقل إذا تفكر فيها علم أن لها صانعا { أفمن شرح الله صدره للإسلام } الآية نزلت في عمار بن ياسر، وقيل: نزلت في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
" وقرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية فقيل: يا رسول الله كيف شرح الصدر؟ فقال: " إذا دخل النور القلب انفسح " ، فقيل: يا رسول الله فما علامة ذلك؟ قال: " الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت "
{ فهو على نور من ربه } ، قيل: على دلالة وهدى من ربه { فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله } الآية نزلت في أبي جهل وأصحابه وقسوتهم أنهم ردوا الحق واعتقدوا الباطل { أولئك } يعني القاسية قلوبهم { في ضلال } عن الحق { مبين } وعن ابن مسعود وابن عباس: قالت الصحابة: حدثنا يا رسول الله، فنزل: { الله نزل أحسن الحديث } سماه أحسن لأنه معجزة تشتمل على ما يحتاج إليه المكلف من التنبيه على أدلة التوحيد، والعدل، وبيان أحكام الشرائع والمواعظ، والزواجر، وقصص الأنبياء وأممهم، والوعد والوعيد { كتابا } هو القرآن سمي كتابا لأنه يكتب { متشابها } لأنه يشبه بعضه بعض فلا تناقض فيه { مثاني } أي يثبت فيه القصص، والأخبار، وذكر الجنة والنار، وقيل: لأنه بينا في التلاوة { تقشعر منه } أي تضطرب من القرآن إذا سمع ما فيه من الوعد والوعيد والاخبار { جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين } تطمئن بالايمان { جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } تعالى { ذلك هدى الله } يعني القرآن { يهدي به من يشاء } وهم الذين آتاهم القرآن وهداهم به { ومن يضلل الله فما له من هاد } ، قيل: من يضل عن رحمة الله فلا هادي له، وقيل: من يضلله عن زيادة الهدى والالطاف لأن الكفارة لا لطف لهم عنده، وقيل: يحكم الله بضلالته ولا يحكم بهدايته أحد، وقيل: من يضلل الله عن طريق الجنة والثواب لا يهديه إليها أحد ، ولا يجوز حمله على أنه يضل عن الدين لأنه قبيح فلا يجوز عليه تعالى.
[39.24-31]
{ أفمن يتقي بوجهه } الآية نزلت في أبي جهل { سوء العذاب يوم القيامة } أي يدفع شدة العذاب منه بوجهه وهو غاية الضرورة لأن الوجه أعز عضو من الانسان، وقيل: يده مغلولة إلى عنقه { وقيل للظالمين } والقائلون الخزنة { ذوقوا ما كنتم تكسبون أي وباله وجزاؤه { كذب الذين من قبلهم } يعني قبل قريش من أمم الأنبياء مثل قوم نوح وعاد وثمود { فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون } أي من حيث لا يعلمون { فأذاقهم الله الخزي } الذل والهوان { في الحياة الدنيا } فخسف بعضهم وأغرق بعضهم ومسخ بعضهم { ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } يعني أن العذاب المعد لهم أعظم { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } يعني ما قص من أخبار الأمم وما نزل بهم وما ذكر من المواعظ { لعلهم يتذكرون } أي لكي يتذكرون ويتدبرون فيها { قرآنا عربيا } يعني تلك الأمثال في القرآن بلغة العرب يفهموا ذلك { غير ذي عوج } يعني ليس فيه لبس ولا تناقص ولا يختلف ولا يكذب { لعلهم يتقون } أي ليتقوا الكفر والمعاصي { ضرب الله مثلا رجلا فيه } شركاء { متشاكسون } هذا مثل للمؤمن والكافر، فمثل الكافر في عبادة الأصنام في عبد فيه شركاء { متشاكسون } متشاجرون على خدمته مختلفون وكل واحد يطالبه { ورجلا سلما } أي خالص، وذلك ضرب مثلا للمؤمن في عبادة الله خالصا، ووجه ذلك أن المشرك لا يجد من الله كرامة لأنه لا يعبده خالصا، ولا من الأصنام، فهو كالعبد المشترك بين جماعة مختلفين، ومثل المؤمن الذي يعبد الله وحده في أنه يجد كرامته كعبد له مولا وحده يتوفر على خدمته { هل يستويان مثلا } أي لا يستوي حالهما { الحمد لله } الواحد الذي لا شريك له دون كل معبود { بل أكثرهم لا يعلمون } فيشركون به غيره { إنك ميت وإنهم ميتون } كانوا يتربصون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبر أن الموت يعمهم جميعا { ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون } في الموضع الذي يحكم فيه المحق والمبطل والظالم والمظلوم.
[39.32-40]
{ فمن أظلم ممن كذب على الله } أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله بأن أضاف إليه الولد، أو أضاف اليه القبيح { وكذب بالصدق إذ جاءه } ، قيل: القرآن، وقيل: الأنبياء والشرائع { أليس في جهنم مثوى } أي منزل ومقام { للكافرين } يعني جهنم مثواهم { والذي جاء بالصدق وصدق به } نزلت في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: الذي جاء بالصدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والذي صدق به المؤمنون، يعني جاء بالقرآن وصدقوا به وهو حجتهم في الدنيا والآخرة عن مجاهد وقتادة ومقاتل واحتجوا بقوله: { وأولئك هم المتقون } ، وقيل: الذي جاء بالصدق جبريل وصدق به محمد تلقاه بالقبول ذكر ذلك الحاكم، قال جار الله: والذي جاء بالصدق وصدق به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء بالقرآن وآمن به وأراد به إياه ومن تبعه كما أراد بموسى إياه وقومه في قوله:
ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون
[المؤمنون: 49] فلذلك قال: { أولئك هم المتقون } ، وفي قراءة ابن مسعود: والذي جاء بالصدق وصدقوا به أولئك هم المتقون، اتقوا عذاب الله باتقاء معاصيه { لهم ما يشاؤون عند ربهم } أي ما شاؤوا من النعيم بوصاة الله اليهم { ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا } وإنما يصير مكفرا بالتوبة { ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون } أي يجازيهم إلى حسن أعمالهم { أليس الله بكاف عبده ويخوفونك } وذلك أن قريشا قالت: إنا نخاف أن تخبلك آلهتنا وإنا نخشى عليك معرتها، يعني أن الله يعصمه من كل شيء ويدفع عنه كل بلاء في مواطن الخوف، أوليس الله بكاف أنبياءه، ولقد قالت أممهم نحو ذلك نحو قول قوم هود:
إن نقول الا اعتراك بعض آلهتنا بسوء
[هود: 54] { ومن يضلل الله فما له من هاد } ، قيل: من لم يجده ضالا فما له من هاد ما لم يهتد نفسه، وقيل: من يضلل من طريق الجنة والثواب لا يهديه اليها أحد { ومن يهد الله فما له من مضل } ، وقيل: يحكم بهدايته، وقيل: يهديه إلى طريق الجنة والثواب { أليس الله بعزيز ذي انتقام } استفهام، والمراد التقرير، يعني الله عز وجل عزيز قادر ينتقم من أعدائه { ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله } فإذا اعترفوا قيل لهم: { أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته } يعني لا يقدر على ذلك فكيف يعبدونهم ويخافونهم ولا يخافون خالق السماوات والأرض { قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون } ثم أوعدهم فقال سبحانه: { قل } يا محمد { اعملوا } وليس بأمر وإنما هو تهديد { على مكانتكم } أي على ما أنتم عليه، وقيل: على ما أنتم عليه من الاعتقاد { إني عامل } على ديني { فسوف تعلمون } إذا آتاكم عذاب الله { من يأتيه عذاب يخزيه } أي ستعلمون من يأتيه العذاب منا ومنكم { ويحل عليه عذاب مقيم } دائم للخزي والعذاب الأول في الدنيا.
[39.41-48]
{ إنا أنزلنا عليك الكتاب بالحق فمن اهتدى } بالقرآن { فلنفسه } لأن نفعه يعود عليه { ومن ضل فإنما يضل عليها } حيث يعود وبال ضلاله عليه { وما أنت عليهم بوكيل } لتجبرهم على الهدى، لأن التكليف مبني على الاختيار { الله يتوفى الأنفس حين موتها } يعني يقبضها عن التصرف ويمسكها ويحفظها حين موتها { والتي لم تمت في منامها } يريد ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، أي يتوفاها حين منامها، وشبه النائمين بالموتى، ومنه:
وهو الذي يتوفاكم بالليل
[الأنعام: 60] حيث لا يميزون ولا يتصرفون والموتى كذلك { فيمسك } الأنفس { التي قضى عليها الموت } الحقيقي إلى يوم القيامة { ويرسل الأخرى } النائمة { إلى أجل مسمى } إلى وقت ضربه لموتها { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } في الأدلة { أم اتخذوا من دون الله شفعاء } يعني اتخذوا وزعموا أنها تنفعهم [تنفعكم] وهن الأصنام { قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون } أنكم تعبدونها { قل لله الشفاعة جميعا } أي هو مالكها فلا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه { له ملك السماوات والأرض ثم اليه ترجعون } يوم القيامة فلا يكون الملك في ذلك اليوم إلا له تعالى: { وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة } ، قيل: نفرت، وقيل: أنكرت { وإذا ذكر الذين من دونه } يعني الأوثان { إذا هم يستبشرون } يفرحون { قل } يا محمد { اللهم فاطر السماوات والأرض } أي خالقهما ابتدأ من غير شيء { عالم الغيب والشهادة } يعني ما غاب وما حضر، وقيل: الموجود والمعدوم { أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون } في أمر دينهم ودنياهم، وحكمه اثابة المؤمنين وعقوبة الظالمين وإنصاف المظلوم من الظالم قال سبحانه: { ولو أن للذين ظلموا } يعني ظلموا أنفسهم بالعصيان، وقيل: ظلموا الناس { ما في الأرض جميعا } من الأموال { ومثله معه لافتدوا به } أي جعلوا ذلك فداء لأنفسهم { من سوء العذاب يوم القيامة } أي أشده وسمي سوء لأنه يسوء صاحبه { وبدا لهم } أي ظهر لهم ما لم يكونوا يحتسبون، يعني ظهر جزاء أعمالهم الذي ينزل بهم ما لم يكن في حسابهم في الدنيا، وقيل: ظنوا أنها حسنات فبدت لهم سيئات { وبدا لهم سيئات ما كسبوا } أي سيئات أعمالهم التي كسبوها وسيئات كسبهم حين تعرض صحائفهم وكانت خافية عليهم كقوله:
أحصاه الله ونسوه
[المجادلة: 6]، وأراد بالسيئات أنواع العذاب التي يجازون بها على ما كسبوا فسماها سيئات، كما قال:
وجزاء سيئة سيئة مثلها
[الشورى: 40] { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } أي نزل بهم وأحاط بهم جزاء هزئهم لأنهم كانوا يستهزئون إذا ذكر عندهم البعث والنشور.
[39.49-55]
{ فإذا مس الانسان ضر دعانا ثم إذا خولناه } أعطيناه { نعمة منا قال إنما أوتيته على علم } برضاه عني فلذلك أعطاني ما أولاني من النعم، وقيل: على علم من الله بأني له أهل { بل هي فتنة } أي امتحان من حيث يوجب الشكر، وقيل: هذه الكلمة التي قالها، وقيل: للنعم فتنة أي عذاب لهم إذا أضافوها إلى أنفسهم { ولكن أكثرهم لا يعلمون } مواضع النعمة وما يجب فيه من الشكر، وقيل: لا يعقلون عواقب أمرهم { قد قالها الذين من قبلهم } يعني هذه الكلمة، الذين من قبلهم يعني الكفار، وقيل: أراد قارون { فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } يعني لم يغني عنهم اكتسابهم شيئا من العذاب { فأصابهم سيئات ما كسبوا } يعني جزاء ذلك { والذين ظلموا من هؤلاء } الذين كانوا في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { وما هم بمعجزين } الله، يعني لا يعجزون الله بالخروج عن قدرته، وقيل: لا يفوتون الله { أولم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء } أي يوسع على من يشاء من عباده { ويقدر } أي يضيق بحسب المصلحة { إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون } { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا } الآية نزلت في أهل مكة لما قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر الله له فكيف ولم يهاجروا وقد عبدنا الأوثان وقتلنا النفس التي حرم الله فنزلت، وقيل: نزلت في وحشي قاتل حمزة (رضي الله عنه)،
" وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما أحب أن لي في الدنيا وما فيها بهذه الآية " ، فقال رجل: يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال: " ألا ومن أشرك ثلاث مرات "
، وقيل: في قراءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وفاطمة (رضي الله عنها) اغفر الذنوب جميعا ولا أبالي { انه هو الغفور الرحيم } ، وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود: يغفر الذنوب جميعا، لمن يشاء من تاب لأن مشيئة الله تابعة لحكمته وعدله، ومعنى اسرفوا جاوزوا الحد في العصيان { لا تقنطوا من رحمة الله } أي لا تيأسوا من رحمته { إن الله يغفر الذنوب جميعا } بشرط التوبة { إنه هو الغفور الرحيم } { وأنيبوا إلى ربكم } أي ارجعوا إليه بالطاعة { وأسلموا له } وأخلصوا له العمل وانقادوا في جميع ما آتاكم { من قبل أن يأتيكم العذاب } ، قيل: عذاب الاستئصال، وقيل: في وقت النزع { ثم لا تنصرون } أي لا ينصركم { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } مثل قوله: { الذين يتبعون القول فيتبعون أحسنه } ، وقيل: اتبعوا القرآن فإنه أحسن شيء أنزل، وقيل: الأحسن الناسخ دون المنسوخ، وقيل: الأحسن أن يفعل ما أمر الله به وينهى عما نهى الله عنه { من قبل أن يأتيكم العذاب } ، قيل: وقت النزع { بغتة وأنتم لا تشعرون } أي يفاجئكم وأنتم غافلون.
[39.56-66]
{ أن تقول نفس } كراهة أن تقول نفس { يا حسرتا على ما فرطت } قصرت في طاعة الله { وإن كنت لمن الساخرين } لمن المستهزئين بالنبي وبالكتاب، وقيل: لمن الساخرين لمن يدعوني إلى الايمان، وروي في الحاكم: عن الحسن: أن هذه الآية نزلت في المجبرة، وروي أن الشيطان يقال له: لم لم تسجد لآدم وعصيت الله؟ فقال كان ذلك بقضاء الله وقدره، فيقال له: كذبت، فيقول: لي على ذلك شهود، فينادي أين شهود الشيطان وخصماء الرحمان؟ فتقوم طائفة من هذه الأمة يشهدون بذلك، فيخرج من أفواههم دخان أسود وتسود وجوههم، ويدل عليه أنه ورد عقيب قوله: { لو أن الله هداني لكنت من المتقين } وهذا مذهب المجبرة، وقيل: الآية عامة في المجبرة والمشبهة وكل من يكذب على الله، وروي أنه كان في بني اسرائيل عالم ترك علمه وفسق، أتاه ابليس فقال: تمتع من الدنيا ثم تب فأطاعه، وكان له مال فأنفقه في الفجور فأتاه ملك الموت في الذ ما كان فقال: { يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله } ذهب عمري في طاعة الشيطان وسخط الله فندم حين لم ينفعه الندم فأنزل الله خبره في القرآن { أو تقول لو أن الله هداني } لا يخلو إما أن يريد به الهداية بالالجاء أو بالإلطاف أو بالوحي، فالإلجاء خارج من الحكمة ولم يكن من أهل اللطف، وأما الوحي فقد كان ولكنه أعرض عنه ولم يتبعه، وإنما يقول هذا محيرا في أمره { أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة } أي رجعة في الدنيا { فأكون من المحسنين } ، وقوله: { بلى قد جاءتك آياتي } رد من الله عليه، معناه بلى قد هديت بالوحي فكذبت به { واستكبرت } في قولك وآثرت الكفر على الإيمان والضلالة على الهدى { وكنت من الكافرين } { ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله } بإضافة الولد اليه والتشبيه بخلقه { وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى } مقام { للمتكبرين } { وينجي الله الذين اتقوا } أي خلص من يتقي معاصيه { بمفازتهم } من العذاب، قيل: بأعمالهم الحسنة { لا يمسهم السوء } أي لا يصيبهم مكروه { ولا هم يحزنون } { الله خالق كل شيء } يعني محدثه ومبتدعه على حسب إرادتي، { وهو على كل شيء وكيل } أي حافظ { له مقاليد السماوات والأرض } أي هو مالك أمرهما وحافظهما وهو باب من الكناية لأن حافظ الخزائن ومدبر أمرهما هو الذي يملك مقاليدها، ومنه قوله في فلان: ألقيت اليه مقاليد الملك وهي المفتاح، وقيل: الخزائن، وقيل: مفاتيح وهي عبارة عن النعم لأنها تكون مخزونة ولها مفاتيح { والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون } خسروا أنفسهم بأن فوتوها الجنة { قل } لهؤلاء الكفار { أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } نزلت الآية في المشركين دعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى دين الآباء، يعني تدعونني إلى من لا يستحق العبادة وهي الأصنام { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك } من الأنبياء، وقيل: من الأمم على لسان الأنبياء { لئن أشركت ليحبطن عملك } ، قيل: ذكر النبي والمراد غيره، وقيل: أراد المبالغة والزجر عن الشرك { ولتكونن من الخاسرين } من جملة الخاسرين الذين خسروا أنفسهم { بل الله فاعبد } لأنه يستحق العبادة { وكن من الشاكرين } النعمة دنيا ودينا.
[39.67-72]
{ وما قدروا الله حق قدره } أي ما عظموه حق تعظيمه ولا عرفوه حق معرفته إذ وصفوه بما لا يجوز عليه وعبدوا معه غيره { والأرض جميعا قبضته يوم القيامة } يعني الأرض مقدورة فيتصرف كيف يشاء كالذي يقبض عليه القابض، وقيل: خص يوم القيامة لأنه المالك خاصة وقد يملك في الدنيا غيره { والسماوات مطويات بيمينه } مجموعات مطويات مع كبرها يعني بيمينه قيل: بقدرته { ونفخ في الصور } ، قيل: هو بأن ينفخ فيه اسرافيل نفختان نفخة يغشى عليهم ثم يموتون ويفني الله الأجسام ثم يحييهم { فصعق من في السماوات ومن في الأرض } ، قيل: مات، وقيل: غشي عليه، ثم يموتون بعد ذلك { إلا من شاء الله } فإنه لا يموت حتى يميته، واختلفوا في الاستثناء قيل: صاحب الصور وجبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت، وقيل: هم الشهداء، وقيل: حملة العرش { ثم نفخ فيه أخرى } يعني نفخ في الصور نفخة أخرى { فإذا هم قيام } الخلق { ينظرون } من قبورهم إلى ما يروا أما المؤمن إلى النعم والمسار والعاصي إلى أنواع المضار { وأشرقت الأرض بنور ربها } قال جار الله: قد استعار الله النور للخلق والقرآن والبرهان في مواضع من التنزيل، وهذا من ذلك، والمعنى { وأشرقت الأرض } بما يقيمه فيها من الحق والعدل فلا يبقى هناك ظلم، وقيل: أضاءت بنور يخلقه الله لا يكون بنور شمس ولا قمر، وأضاف النور إليه لأنه خلقه، وقيل: المراد كثرة رحمته كما يقال: فلان نور هذه البلدة إذا كان منافع أهلها ومحاسنهم { ووضع الكتاب } يعني صحائف الأعمال كتبها الحفظة، وقيل: اللوح المحفوظ { وجيء بالنبيين والشهداء } الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخيار، وقيل: المستشهدون في سبيل الله { وقضي بينهم بالحق } بالثواب للمؤمنين والعقاب للكافرين والانتصار للمظلوم من الظالم { وهم لا يظلمون } { ووفيت كل نفس } تمام حقها { وهو أعلم بما يفعلون } الحفظة والشهود وإنما أحضر الشهود ليظهر لأهل الجمع أحوالهم ويزداد سرور المؤمنين وحسرة الكافرين والأخبار عنه لطف للمكلفين، ثم بين تعالى جزاء الفريقين فقد فصل القضاء فقال سبحانه: { وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا } يساقون سوقا عنيفا ويسحبون على وجوههم في النار زمرا قيل: جماعات { حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها } ليدخلوها { وقال لهم خزنتها } على سبيل التوبيخ { ألم يأتكم رسل منكم } هو استفهام، والمراد التقرير، أي قد أتاكم رسل منكم { يتلون عليكم آيات ربكم } حججه ودليله على توحيده وعدله وسائر أحكامه وشرائعه { وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى } قد جاءنا الرسل { ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين } أي آيات الوعيد على من كفر بالله ونحن كفرنا فحق وعده علينا، فيقول لهم الخزنة: { ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها } متفرقين على قدر الاستحقاق، قال الحسن: سبعة أبواب لسبعة أصناف، وقد قدمنا ما قالوا فيه { فبئس مثوى المتكبرين } يعني الذين تكبروا عن قبول الحق.
[39.73-75]
{ وسيق الذين اتقوا ربهم } يعني يساقون مكرمين كقوله:
ونحشر المتقين إلى الرحمان وفدا
[مريم: 85] { إلى الجنة } زمرا أي جماعات ركبانا { حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها } ، قيل : أن أبواب الجنة ثمانية { وقال لهم خزنتها } عند الاستقبال { سلام عليكم } أي سلام يحيونهم بالسلام فيزدادون سرورا وقيل: هو الدعاء بالسلامة والخلود، أي سلمتم من الآفات، وقيل: ذلك تشريف أعمالكم، وقيل: طبتم نفسا بما نلتم من الجنة ونعيمها، وقيل: إذا قربوا من الجنة يردون على الماء فيغسلون ويشربون فيطهر الله أجوافهم فلا يكون بعد ذلك منهم حدث، وإذا فتقول الملائكة طبتم { فادخلوها خالدين } دائمين { وقالوا } يعني أهل الجنة { الحمد لله الذي صدقنا وعده } يعني أنجز ما وعدنا على ألسنة الرسل وفي الكتب قوله:
وعد الله المؤمنين والمؤمنات
[التوبة: 72] { وأورثنا الأرض } ، قيل: صارت لنا في الآخرة فهو كالميراث، وقيل: ورثوها عن أهل النار، يعني أرض الجنة { حيث نشاء فنعم أجر العاملين } أي نعم أجر المطيعين { وترى الملائكة حافين } ، قيل: حافين، وقيل: محدقين من حول العرش سقف الجنة { يسبحون بحمد ربهم } ، يقولون: سبحان الله والحمد لله متلذذين لا متعبدين { وقضي بينهم بالحق } ، قيل: بين أهل الجنة وأهل النار، ذكر تأكيدا أنه لا يعاقب أحدا إلا بحق، وقيل: المراد به في الجنة، أي يعطي كل أحد ما يستحقه بعد دخولهم الدارين، وقيل: بل هو قبل الدخول { وقيل الحمد لله رب العالمين } من كلام أهل الجنة حمدوه على نعمه العظيمة تلذذا، وقيل: من كلام الله تعالى حين قضى بالحق تمدحا، وعن ابن عمران النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ على المنبر آخر سورة الزمر فتحول المنبر مرتين يتلو ذلك الكلام في الحواميم.
[40 - سورة غافر]
[40.1-5]
{ حم } اسم السورة، وقيل: اسم من أسماء الله عن ابن عباس، وقيل: هو قسم أقسم بحكمه وملكه لا يعذب من عاذ، يقول: لا إله إلا الله مخلصين من قلبه، وقيل: هو افتتاح اسمائه حليم، حميد، محمود، منان، قال في الغرائب والعجائب: حم اسم الله الأعظم، وقيل: محمد، وقيل: معنى حم ما هو كائن تنزيل الكتاب أي القرآن أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ إلى الملك ويأتي به الملك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { من الله العزيز } القادر على ما يشاء ولا يمتنع عليه شيء { العليم } بجميع الأشياء { غافر الذنب } يعني غافر ذنب من قال لا إله إلا الله { وقابل } توبة من قال لا إله إلا الله { شديد العقاب } لمن لم يقل لا إله إلا الله، وقيل: غافر ذنب المذنبين بالتوبة والطاعة، وقيل: يقبل توبة التائبين { شديد العقاب } على المصرين { ذي الطول } ، قيل: ذي النعم، وقيل: ذي الفضل على المؤمن، وقيل: ذي السعة، وقيل: ذي القدرة { لا إله إلا هو } أي هو الموصوف بهذه الصفات دون غيره { إليه المصير } أي المرجع للجزاء { ما يجادل في آيات الله } في القرآن بالتكذيب والرد { إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد } وكانت قريش تتحرك للتجارة، وقيل: تصرفهم في البلاد للتجارات وبقاؤهم آمنين سالمين مع كفرهم فإنه أمهلهم، ثم قال سبحانه ذاكرا حال الأمم: { كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب } الذين تحزبوا على رسول الله وهم عاد وثمود وفرعون { وهمت كل أمة } من هذه الأمم { برسولهم ليأخذوه } وقرئ برسولها ليأخذوه ليتمكنوا منه بما أرادوا من تعذيب أو قتل { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } ليدفعوا ويزيلوا { فأخذتهم } يعني أنهم قصدوا أخذه فجعلت جزاءهم على إرادة أخذه أن أخذتهم { فكيف كان عقاب } فإنكم تمرون على بلادهم ومساكنهم فتعاينون أثر ذلك.
[40.6-12]
{ وكذلك حقت } وجبت { كلمة ربك على الذين كفروا } قريش { أنهم أصحاب النار } يعني كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة { الذين يحملون العرش ومن حوله } من الملائكة، قيل: هم صنفان: صنف هم حملة العرش، وصنف يطوفون، قال جار الله: حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا تفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق الله من الملائكة، فإن خلقا من الملائكة يقال له اسرافيل زواية من زوايا العرش على كاهله قدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من السماء السابعة، وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع "
وفي الحديث:
" أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة "
وقيل: خلق الله العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام، وقيل: حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون مهللين ومكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين بالتهليل والتكبير، ومن ورائهم مائة ألف صف وقد وضعوا الايمان على الشمائل ما بينهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر { ويستغفرون للذين آمنوا } أي يستغفروا لهم بطلب المغفرة لهم من الله { ربنا } أي يقولون ربنا { وسعت كل شيء رحمة وعلما } أي وسعت رحمتك كل شيء وعلمك { فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك } أي دينك { وقهم عذاب الجحيم } أي النار { ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم } أي اجعل معهم الصالحين من آبائهم { وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم } { وقهم السيئات } ، قيل: اصرف عنهم جزاء السيئات، وقيل: قهم أنواع العقاب، وقيل: قهم أنواع المعاصي بالألطاف { ومن تق السيئات } بلطفك { يومئذ } يعني يوم القيامة { فقد رحمته } وأنعمت عليه { وذلك هو الفوز العظيم } { إن الذين كفروا ينادون لمقت الله } ، قيل: مقتوا أنفسهم حين عاينوا العذاب فقيل لهم: { مقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم } ، وقيل: مقت الله إياكم وأنتم في الدنيا أكبر { إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون } أكبر من مقتكم، والمقت أشد البغض { قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } أي موتتين وحياتين، وأرادوا بالاماتتين خلقهم أمواتا أولا وأماتهم عند انقضاء أجلهم، وبالإحياء بين الحياة الأولى وحياة البعث، قال جار الله: وناهيك تفسيرا لذلك قوله تعالى:
وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم
[البقرة: 28] عن ابن عباس، وذكر الحاكم: أن الموتة الأولى في الدنيا بعد الحياة والثانية في القبر قبل البعث، والحياة الأولى في القبر والثانية في الحشر عن الحسن السدي، وقيل: الحياة الأولى في الدنيا والثانية في القبر، والآية تدل على صحة عذاب القبر واسم الموت على النطفة مجاز فحمل الكلام على حقيقته أولى، ثم بين تعالى علة الخلود فقال سبحانه: { ذلكم بانه إذا دعي الله وحده كفرتم } وانكرتم أن يكون وحده إلها وقلتم: أجعل الآلهة إلها واحدا { وإن يشرك به تؤمنوا } أي تصدقوا { فالحكم لله } في إدامة العذاب ومنع الرجوع { العلي } القادر على ما يشاء { الكبير } العظيم الشأن.
[40.13-19]
{ هو الذي يريكم آياته } من الريح والسحاب والرعد والبرق والصواعق ونحوها { وينزل لكم من السماء رزقا } يعني المطر { وما يتذكر إلا من ينيب } وما يتيقظ ويتذكر بآيات الله إلا من ينيب من يتوب من الشرك ويرجع إلى الله من المعاصي بالتوبة { فادعوا الله مخلصين له الدين } أي الطاعة والعبادة { ولو كره الكافرون } { رفيع الدرجات } ، كقوله:
ذي المعارج
[المعارج: 3] وهي مصاعد الملائكة إلى أن تبلغ العرش، وعن ابن جبير سماء فوق سماء والعرش من فوقهن، وقيل: هي درجات ثوابه التي ينزلها أولياءه في الجنة { ذو العرش } أي خالقه ومالكه، وقيل: العرش الملك أي ذو الملك { يلقي الروح } أي ينزل الوحي، وقيل: يرسل جبريل، وقيل: ينزل القرآن، وقيل: هو كل كتاب أنزله الله { بأمره على من يشاء من عباده } ممن يعلم أنه يصلح أن ينذر أي يخوف { يوم التلاق } أي يوم القيامة، وسمي بذلك لأنه يلتقي فيه الأولون والآخرون، وقيل: يلتقي أهل السماء وأهل الأرض ويلقى المرء مع عمله، وقيل: يلتقي الظالم والمظلوم، وقيل: العابد والمعبود، وقيل: يلتقي كل واحد مع قرينه { يوم هم بارزون } من القبور فلا يستترون بشيء { لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم } يعني يوم القيامة { لله الواحد القهار } حكاية لمن سأل عنه في ذلك اليوم، ومعناه أنه ينادي منادي فيقول: { لمن الملك }؟ فيجيبه أهل الحشر: لله الواحد القهار، وقيل: يجمع الله الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد بأرض بيضاء كأنها سبيكة فضة لم يعص الله فيها قط فأول ما يتكلم به ينادي منادي { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } { اليوم تجزى كل نفس } الآية وهذا يقتضي أن يكون المنادي هو المجيب، لما قرر أن الملك لله وحده في ذلك اليوم عدد نتائج ذلك اليوم، وهو أن كل نفس تجزى { بما كسبت } والظلم مأمون لأن الله ليس بظلام للعبيد { إن الله سريع الحساب } إن الحساب لا يبطئ لأن الله لا يشغله حساب عن حساب، فيحاسب الخلق كله في وقت واحد وهو أسرع الحاسبين، وعن ابن عباس: إذا أخذ في حسابهم لم يقل لأهل الجنة إلا فيها ولم يقل لأهل النار إلا فيها { وأنذرهم يوم الأزفة } ، قيل: هو يوم القيامة لأن كل آت قريب وهو الذي يعرب القلوب ويبلغ الأرواح إلى الصدور والحناجر، يعني من الخوف زالت عن صدورهم فتعلقت بحلوقهم فلا هي تعود إلى مكنتها ولا تخرج فيموتون { كاظمين } لها أي للقلوب والنفوس { ما للظالمين } يومئذ { من حميم } قريب وصديق { ولا شفيع يطاع } أي يخاف فيطاع محار { يعلم خائنة الأعين } ، قيل: فيه تقديم وتأخير أي يعلم الأعين الخائنة، وقيل: هو مسارقة النظر إلى المرأة عن ابن عباس، وقيل: نظر العين إلى ما نهى الله عنه { وما تخفي الصدور } أي يعلم سرائر الصدور.
[40.20-27]
{ والله يقضي بالحق } أي يحكم بين عباده بالحق { والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء } يعني الأصنام لأنها جماد { إن الله هو السميع البصير } { أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم } من كفار الأمم { كانوا هم أشد منهم قوة } في أنفسهم { وآثارا في الأرض } وهو ما بقي من أبنيتهم العجيبة، وقيل: أثارا في الأرض أي ذهابا بالطلب في الدنيا فلم ينفعهم ذلك حتى أخذوا { فأخذهم الله بذنوبهم } أي أهلكهم بذنوبهم { وما كان لهم من الله من واق } أي من عذابه من واق يقيهم ويدفع العذاب عنهم { ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات } بالحجج والمعجزات { فكفروا فأخذهم الله } أي أهلكهم عقوبة على كفرهم { إنه قوي } أي قادر على الانتقام منهم { شديد العقاب } { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين } ، قيل: الآيات والسلطان شيء واحد وذكرها تأكيدا وذكرها حجج التوحيد والعدل، والسلطان المعجزات التي بها ظهرت نبوته وقهر فرعون وقومه { إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب } فيما يدعي ويدعو إليه { فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه واستحيوا نساءهم } ، قيل: أمر فرعون بقتل الأبناء مرتين: مرة قبل بعثه موسى خوفا على ملكه حين أنذر، ومرة بعد البعثة لئلا يتقوى بهم وليتفرقوا عنه، وقيل: عقوبة لهم، قال قتادة: كان فرعون أمسك عن قتل الولدان فلما بعث موسى أعاد القتل وأما استحياء النساء قيل: للمهنة، وقيل: لما قتلوا الأبناء واستحيوا النساء ليصدوهم بذلك { وما كيدالكافرين } أي مكرهم { إلا في ضلال } ، قيل: في هلاك، وقيل: في ذهاب عن الصواب، ولما أحس فرعون بزوال ملكه على يديه هم بقتله فقال لملائه ما حكى الله { وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه } الذي زعم، الذي أرسله لينصره علي ويمنعه مني، وهذا جهل عظيم منه، وقيل: قاله عنادا حفاظا على مملكته { إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد } يعني يغير دينكم الذي أنتم عليه من عبادة فرعون والأصنام وظهور الفساد قيل: أراد بظهور دينه وبعمل عبادة الله، وقيل: يظهر الحرب بين الفريقين فيحارب موسى بمن آمن معه فيخرب البلاد، وقيل: أراد بالأرض أرض مصر، فلما بلغ ذلك موسى قال: { إني عذت } أي اعتصمت { بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب } لأن الإيمان بيوم الحساب يمنع القبيح.
[40.28-33]
{ وقال رجل } وكان قبطيا ابن عم فرعون آمن بموسى سرا، وقيل: كان اسرائيليا { من آل فرعون } صفة للرجل { يكتم إيمانه } واسمه شمعان أو حبيب، وقيل: حرمل، والظاهر أنه كان من آل فرعون { أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله } يعني موسى { وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه } أي يعود عليه كذبه { وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي } يدعوكم { يعدكم } من العذاب قيل: ذكر البعض وأراد الكل على طريق المظاهرة في الاحتجاج قال الشاعر:
قد يدرك المتاني بعض حاجته
وقد يكون مع المستعجل الزلل
فذكر البعض وأراد الكل، وقيل: بعضه في الدنيا { إن الله لا يهدي } ، قيل: إلى الجنة، وقيل : إلى الخير، قيل: هذا من كلام المؤمن، وقيل: هذا من كلام الله { من هو مسرف } مجاوز للحد { يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين } عاليين { في الأرض } ، قيل: أرض مصر { فمن ينصرنا من بأس الله } من عذابه { إن جاءنا } أضاف الملك اليهم والعذاب إلى نفسه، وقيل: هذا من لطيف الكلام { قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى } ذلك لنفسي، وقيل: ما أعلمكم إلا ما أعلم { وما أهديكم إلا سبيل الرشاد } يريد سبيل الصواب، أو ما أعلمكم إلا ما أعلم من الصواب، وقد كذب فقد كان مستسعرا للخوف الشديد من جهة موسى ولكنه كان يتجلد { وقال الذي آمن } هو مؤمن آل فرعون وهو الصحيح، وقيل: بل هو موسى { يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب } ، وذلك لما رأى فرعون وقومه مكابرين حذرهم أن ينزل بهم ما نزل بالأمم الذي هلكوا، وأراد بالأحزاب الجماعات التي هلكوا { مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود } ، قيل: مثل عادتهم، وقيل: مثل عادة الله فيهم { والذين من بعدهم } الذين هلكوا { وما الله يريد ظلما للعباد } يعني لا يريد ظلما لهم وإنما أهلكوا بذنوبهم { ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد } يعني التنادي هو أن ينادي بعضهم، وقيل: يوم ينادي بعض الظالمين بعضا بالويل والثبور، وقيل: يوم ينادي
أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا
[الأعراف: 44] الآية
ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء
[الأعراف: 50]، وقيل: ينادي الملائكة بعقاب العصاة أن أخذوهم وهم يتولون مدبرين، وقيل: ينادي المؤمن
هاؤم اقرؤا كتابيه
[الحاقة: 19]، وقيل: ينادي باللعنة على الظالمين والجميع مراد { يوم تولون مدبرين } أي تتصرفون غير معجزين { ما لكم من الله من عاصم } حافظ من عذاب الله { ومن يضلل الله فما له من هاد }.
[40.34-39]
{ ولقد جاءكم يوسف } يعني يوسف بن يعقوب { من قبل بالبينات } أي بالحجج والمعجزات، أي قبل موسى، وقيل: من قبل المؤمن، وقيل: هو يوسف بن إبراهيم، وقيل: أن فرعون موسى هو فرعون يوسف عمر إلى زمنه، وقيل: هو فرعون آخر وبخهم بأن يوسف أتاهم بالمعجزات فشككتم فيها ولم تزالوا شاكين كافرين { حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا } حكما من عند أنفسكم من غير برهان وتقدمة عزم منكم على تكذيب الرسل، فإذا جاء رسول جحدتم وكذبتم بناء منكم على حكمكم الباطل، وليس قولهم: { لن يبعث الله من بعده رسولا } تصديق لرسالة يوسف، فكيف وقد شكوا فيها وكفروا بها وإنما هو تكذيب لرسالته من بعده { كذلك } الكاف للتشبيه { يضل الله من هو مسرف } يعني أنهم لما كذبوا الرسل خذلهم الله فضلوا، وإنما فعل ذلك لأن في معلومه أن ليس لهم لطف، وقيل: كذلك يعاقب كل كافر ويضله عن طريق الجنة { مرتاب } شاك في دينه { الذين يجادلون في آيات الله } أي يخاصمون في حججه { بغير سلطان أتاهم } أي بغير حجة أتتهم في ذلك من الله { وعند الذين آمنوا } يعني أنه تعالى يبغض ذلك الفعل اليهم { كذلك يطبع الله } أي هكذا يعاقب والطبع علامة في القلب يتميز به الكافر من المؤمن { على كل قلب متكبر } من عباد الله { جبار } ، قيل: المتجبر الذي يأنف عن قبول الحق، ثم بين تعالى ما أمر به فرعون عند الانقطاع عن الحجة، فقال سبحانه: { وقال فرعون يا هامان } ، قيل: هو وزيره وصاحب أمره { ابن لي صرحا } ، قيل: قصرا عاليا، وأمره بالصرح لا يخلو من وجهين: أحدهما أن يكون تمويها على العوام وليس له أن يتمكن من صعود السماوات، وثانيها أن يكون من جهله اعتقادا منه أنه يقدر على بلوغ السماء، وفيه على كل حال جهل، قال الحسن: إنما قال ذلك تمويها وكذبا وهو يعلم أن له إلها { لعلي أبلغ الأسباب } { أسباب السماوات } ، قيل: منازل السماوات، وقيل: أبوابها { فاطلع إلى إله موسى } أي أنظر إليه فأراه { وإني لأظنه كاذبا } يعني أظن موسى يكذب فيما يقول له آلها غيري { وكذلك } أي هكذا { زين لفرعون سوء عمله } ، قيل: زين له نفسه سوء عمله، وقيل: زينه قومه وأتباعه، وقيل: شياطين الإنس والجن { وصد عن السبيل } ضيع عن طريق الحق { وما كيد فرعون } أي مكره وحيلته { إلا في تباب } أي في خسران، وقيل: في هلاك { وقال الذي آمن } يعني مؤمن آل فرعون عن الحسن ومجاهد، وقيل: هو موسى عن أبي علي { يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد } طريق الحق، وقيل: طريق الثواب { يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع } فيتمتع بها كل أحد ثم ينقطع { وإن الآخرة هي دار القرار } ، قيل: استقرت الجنة بأهلها والنار بأهلها والقرار المحل الذي يستقر فيه الإنسان.
[40.40-48]
{ من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها } أي من عمل مصيبة فإنه لا يعاقب إلا بمقدار ما يستحق عليها { ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب } ثم زاد في توبيخهم ووعظهم فقال سبحانه حاكيا عن المؤمن: { ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار } أي أدعوكم إلى الإيمان الذي هو سبب النجاة وتدعونني إلى الكفر الذي هو سبب النار { تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم } يعني لا أعلم لله شريكا لأن الدليل دل على أنه لا شريك له وأنتم تدعونني إليه { وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار } أي عبادة الله ومغفرته وتوحيده { لا جرم } معناه حق وجب، ولأن ذلك ربهم، ولأن معناه حقا مقطوعا من الجزم وهو القطع، وقيل: هو رد الكلام كأنه لا محالة أن لهم النار { أنما تدعونني إليه } الى عبادته وهو الأصنام { ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة } قال جار الله: ليس له دعوة إلى نفسه، أي من حق المعبود بالحق أن يدعو العباد إلى الطاعة ثم يدعو العباد إليها إظهارا لدعوة ربهم وما يدعوهم إليه وإلى عبادته لا يدعو هؤلاء ذلك لا يدعي الربوبية ولو كان جوابا لصح من دعائكم، وقوله: { في الدنيا ولا في الآخرة } يعني أنه في الدنيا جماد لا يستطيع شيئا من دعاء وغيره وفي الآخرة أنشأه الله حيوانا يتبرأ من الدعاء إليه ومن عبده { وأن مردنا } مصيرنا { إلى الله } إلى حكمه { وأن المسرفين } ، قيل: بقتل النفس بغير حقها، وقيل: بالشرك والمعاصي { هم أصحاب النار } الدائمون فيها { فستذكرون ما أقول لكم } أي ستذكرون أيها الكفار هذه العصاة وما قدمت من النصح يوم القيامة يوم لا ينفع { وقيل } إذا آتاكم عذاب الله في الغرق، وقيل: عند النزع { وأفوض أمري إلى الله } هذا من كلام مؤمن آل فرعون { إن الله بصير بالعباد } أي عالم بأحوالهم { فوقاه الله سيئات } أي منعه الله من سوء ما دبروا وحفظه منهم، وقيل: هموا بقتله، وقيل: نجا مع موسى وكان قبطيا ولم ينج من قوم فرعون غيره، وقيل: هموا بأخذه وصلبه فهرب إلى جبل فبعث فرعون في طلبه فوجدوه قائما يصلي وحوله الوحوش صفوفا فرجعوا هاربين { وحاق } ، قيل: نزل ووقع، وقيل: وجب آله اتباعه ومن كان على دينه من العذاب في الدنيا الغرق وفي الآخرة { النار يعرضون عليها غدوا وعشيا } ، قال جار الله: في هذين الوقتين يعذبون بالنار وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم فأما أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب أو ينفس عنهم، ويجوز أن يكون غدوا وعشيا عبارة عن الدوام هذا ما دامت الدنيا فإذا قامت الساعة قيل لهم: { أدخلوا آل فرعون أشد العذاب } أي يقال لخزنة جهنم ادخلوهم { وإذ يتحاجون في النار } أي يتخاصمون { فقال الضعفاء } الأتباع { للذين استكبروا } يعني الرؤساء والمتبوعين الذين تكبروا وأبقوا عن قبول الحق { إنا كنا لكم تبعا } أي تابعين لكم في الدنيا مطيعين فيما تأمرونا به { فهل أنتم مغنون عنا } أي تكفون عنا من الغنى الذي هو الكفاية { نصيبا } أي قدرا من العذاب، وإنما قالوا على وجه النياحة وإلا فهم يعلمون أنهم لا يكفون، فأجابوهم { قال الذين استكبروا إنا كل فيها } أي نحن وأنتم { إن الله قد حكم بين العباد } بإنزال كل أحد ما يستحقه، فلما سمعوا ذلك أقبلوا على الخزنة.
[40.49-57]
{ وقال الذين في النار لخزنة جهنم } وهم الملائكة { ادعوا ربكم } أي كونوا شفعاء لنا عند الله { يخفف عنا يوما من العذاب } وقد علموا أنه لا يكون وإنما قالوا تحسرا من شدة العذاب، فتجيبهم الخزنة، وقيل: لا تجيبهم إلا بعد ألف سنة ثم يقولوا: { قالوا أولم تك تأتيكم رسلكم بالبينات } بالحجج على التوحيد والعدل { قالوا بلى قالوا فادعوا } ، قيل: يقولون الشفاعة فيكم غير مقبولة فادعوا أنتم فدعاؤنا ودعاؤكم واحد في أنه لا يجاب { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } أي هلاك لأنه لا يزيدهم إلا يأسا وقنوطا { إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا } ، قيل: ننصرهم بوجوه النصر: فمنها النصر بالحجة، ومنها النصر بالغلبة في الحروب، ومنها النصر بالهلاك للعدو وتعذيبهم { ويوم يقوم الأشهاد } ، قيل: الملائكة والنبيون والمؤمنون أن يشهدون على الخلق واليوم يوم القيامة، وقيل: أراد الحفظة والأنبياء والمؤمنين من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ليكونوا شهداء على الناس { يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم } وهو قولهم إن كنا لكم تبعا، وقيل: لأنهم يعتذرون بالباطل { ولهم اللعنة } أي البعد من رحمة الله { ولهم سوء الدار } شر منقلب وهو الجحيم { ولقد آتينا موسى الهدى } يعني الحجج والبينات { وأورثنا بني إسرائيل الكتاب } أي التوراة { هدى وذكرى } مواعظ، وقيل: يذكر شرائع دينهم { لأولي الألباب } ، قيل: لمن يستعمل عقله ويتفكر، وقيل: للعلماء، ثم عاد الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال سبحانه: { فاصبر } يا محمد فإنا ننصرك كما نصرنا موسى وإن أذاك قومك، وقيل: الخطاب للمؤمنين كأنه قال: فاصبر أيها السامع { إن وعد الله حق } وهو وعده بإهلاك أعدائه وإظهار وعده { واستغفر لذنبك } ، قيل: صغيرة تقدمت منك، وقيل: استعمل الصبر قبل وقته { وسبح بحمد ربك } أي نزهه بإضافة النعم إليه { بالعشي والإبكار } من زوال الشمس إلى الليل ومن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقيل: هي كناية عن الصلوات الخمس، وقيل: أراد طرفي الفجر والعصر { إن الذين يجادلون في آيات الله } نزلت في اليهود كانوا يجادلوا في القرآن حسدا عن ابن عباس، وقيل: كانوا يقولون صاحبنا المسيح، يعني الدجال يخرج في آخر الزمان فيبلغ سلطانه البر والبحر ورد الملك الينا وتسير معه الأنهار فأنزل الله فيهم هذه الآيات، يعني { بغير سلطان } حجة { أتاهم } من جهة { إن في صدورهم } أي في قلوبهم { إلا كبر } يتكبرون عن قبول الحق واتباع الرسل حسدا { ما هم ببالغيه } ، قيل: في صدورهم عظمة ما هم ببالغيه لأنهم يصيرون إلى الذل { فاستعذ بالله } أي اعتصم به يكفيك شرهم { إنه هو السميع البصير } لأقوال هؤلاء الذين خالفوا وجادلوا بالباطل العليم بضمائرهم { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس } يعني خلق السماوات والأرض أعجب وأعظم من البعث { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } يعني الكفار.
[40.58-66]
{ وما يستوي الأعمى والبصير } أي لا يستوي من أهمل نفسه فهو كالأعمى فهو لا يبصر شيئا ومن يتفكر فيعرف الحق، وكذلك لا يستوي { والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء } الذي يعمل الصالحات { قليلا ما تتذكرون } أي قل تفكرهم في العواقب { إن الساعة لآتية لا ريب فيها } أي لا شك في مجيئها { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } أي لا يصدقون بها { وقال ربكم ادعوني أستجب لكم } قال ابن عباس: أفضل العبادة الدعاء، وعن ابن عباس أيضا: وحدوني اغفر لكم وهذا تيسير الدعاء بالعبادة، ثم العبادة بالتوحيد، وفي حديث آخر:
" الدعاء هو العبادة "
{ إن الذين يستكبرون عن عبادتي } قيل: توحيدي وطاعتي { سيدخلون جهنم داخرين } صاغرين { الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه } يعني محلا لسكونكم يسكن فيه كل الحيوان ويستريحون من الكد والتعب { والنهار مبصرا } أي خلق النهار مضيئا تبصرون فيه مصالح دنياكم { إن الله لذو فضل } بهذه النعم عليكم { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } لجهلهم بالنعم والمنعم { ذلكم } يعني من أنعم عليكم هذه النعم { الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو } أي لا يستحق العبادة غيره { فأنى تؤفكون } ، قيل: تصرفون عن هذه الأذية مع وضوحها، وقيل: كيف تصرفون عن عبادته مع هذه النعم التي أنعم عليكم بها { كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون } ، قيل: كما صرف هؤلاء عن الحق كذلك تصرفون عن الثواب وطريق الجنة جزاء على إفكهم، وقيل: يؤفك يهلك من كان قبلهم بآيات الله يجحدون { الله الذي جعل لكم الأرض قرارا } مستقرا تستقرون عليه فخلق فيها السكون { والسماء بناء } كالسقف للأرض { وصوركم فأحسن صوركم } لأن صورة الإنسان أحسن الصور { ورزقكم من الطيبات } فجعل كل طيب ولذيذ رزقا للناس { ذلكم الله ربكم } أي خالق هذه الأشياء هو خالقكم { فتبارك الله رب العالمين } هو إشارة إلى إنما يمدح به لأنه الحي لم يزل ولا يزال { فادعوه } أي اعبدوه { مخلصين له الدين } أي مخلصون له العبادة { الحمد لله } أي أحمده على هذه النعم { رب العالمين } وعن ابن عباس: من قال: لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين { قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله } أي تدعونه إلها وتعبدونه وهي الأوثان { لما جاءني البينات من ربي } أي أعطاني الحجج { وأمرت أن أسلم لرب العالمين } ، قيل: انقاد له، وقيل: أخلص العبادة له.
[40.67-78]
{ هو الذي خلقكم من تراب } يعني آدم وهو أبو الجميع، خلقه من تراب فأحال التراب لحما ودما وعظما وعصبا، وصور منه شخصا سويا { ثم من نطفة } أي خلق أولاده من نطفة وهو ماء الرجل والمرأة { ثم من علقة } تصير النطفة قطعة دم { ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم } أي حال القوة والكمال { ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل } أي يموت قبل بلوغ الأشد، وقيل: قبل بلوغ الشيوخة { ولتبلغوا أجلا مسمى } أي يبقيه البلوغ وقتا محدودا لا يجاوزه، وقيل: ما سمي له من الوقت فيموت عنده { ولعلكم تعقلون } ، قيل: لتعقلوا ذلك، وقيل: لتعلموا الآيات { هو الذي يحيي ويميت فإذا قضى أمرا } أي خلق وقدر { فإنما يقول له كن فيكون } ، قيل: يوجده من غير امتناع { ألم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله } في حججه بالباطل، قيل: الآيات التوحيد والعدل، وقيل: المعجزات الدالة على نبوته { أنى يصرفون } أي كيف يصرفون عنها مع وضوحها { الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون } عاقبة أمورهم { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون } أي يجرون { في الحميم ثم في النار يسجرون } أي يوقد عليهم النار، وقيل: يصيرون وقود النار، وقيل: يطرحون في النار كما يطرح الحطب على النار عن أبي علي { ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون } { من دون الله } أي يقال لهؤلاء الكفار إذا دخلوا النار أين ما كنتم تشركون، { من دون } يعني الأصنام التي عبدوها، وهذا سؤال توبيخ { قالوا ضلوا عنا } أي ضاعوا وهلكوا فلا نراهم ولا نقدر عليهم { بل لم نكن ندعو من قبل شيئا } يعني لم نكن ندعو من قبل شيئا يستحق العبادة وينتفع بعبادته، وقيل: لم ندعو شيئا ينفعنا { كذلك يضل الله الكافرين } ، قيل: يضلهم عن طريق الجنة والثواب، وقيل: يهلكهم ويعذبهم، وقيل: كذلك يضل الله أعمالهم بإبطالها { ذلكم } يعني هذا العذاب الذي أصابكم إنما هو { بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق } أي يفرحهم بالباطل { وبما كنتم تمرحون } أي تبطرون وتفرحون { ادخلوا أبواب جهنم } وهي سبعة { خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين } أي مقام من تكبر من قول الحق { فاصبر } يا محمد على تبليغ الرسالة وإن نالك منهم الأذى { إن وعد الله حق } بالنصر لأنبيائه والانتقام من أعدائه حق، أي صدق لا خلف فيه { فإما نرينك بعض الذي نعدهم } من العذاب في حياتك وإنما قال بعض لأن المعجل في الدنيا بعض ما يستحقه الكفار { أو نتوفينك } قبل أن يحل بهم ذلك { فإلينا يرجعون } مرجعهم فنجازيهم { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك } وذلك تسلية له (صلى الله عليه وآله وسلم) { منهم من قصصنا عليك } بإخبارهم { ومنهم من لم نقصص عليك } من جرى عليهم من أممهم، ذهب بعض المفسرين إلى أن الأنبياء غير معلوم، وذهب بعضهم إلى أنهم معدودون وإنما عدهم مائة وأربعة وعشرون ألفا، وذهب بعضهم إلى أن عددهم ثمانية آلاف أربعة آلاف من بني اسرائيل وأربعة آلاف من سائر الناس، وعن علي (عليه السلام): " بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته " { وما كان لرسول أن يأتي بآية } معجزة { إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله } قيل: الساعة، وقيل: عذابه في الدنيا والآخرة { قضي بالحق } أي حكم لكل أحد ما يستحقه { وخسر هنالك المبطلون } أي ظهر خسرانهم بحرمانهم الثواب ونزول العقاب.
[40.79-85]
{ الله الذي جعل لكم الأنعام } أي خلقها لمنافعكم { لتركبوا منها ومنها تأكلون } يعني بعضها للركوب والأكل كالإبل والبقر، وبعضها للأكل كالأغنام، وقيل: الأنعام الإبل وحدها، وقيل: الأصناف الثمانية وهو الوجه قاله الحاكم { ولكم فيها منافع } في أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها { ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم } أي في الأسفار تحمل عليها الأثقال وتركب وتبلغ المقاصد { وعليها وعلى الفلك تحملون } يعني الأنعام في البر وعلى الفلك في البحر { ويريكم آياته فأي آيات الله تنكرون } لأن جميعها دالة على توحيده وعدله، ثم وعظهم بذكر الأمم الماضية تسلية له ووعد له ودعا إلى الإيمان فقال سبحانه: { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم } عددا { وأشد قوة } في أنفسهم وأعوانهم { وآثارا في الأرض } في اتخاذ الأبنية والمنازل والقصور واستخراج الكنوز { فينظروا } إلى آثارهم فيعتبروا بذلك لأنهم تعالوا وتركوا جميع ذلك { فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون } أي لم ينفعهم كسبهم { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات } يعني الأمم والبينات الحجج { فرحوا بما عندهم من العلم } ، قيل: نحن أعلم منهم لا نبعث ولا نعذب، وقيل: رضوا بالشرك الذي كانوا عليه، يعني أعجبوا به وظنوا أنه علم، وقيل: فرحوا بما عندهم من الجاه والمال والرئاسة وبطروا، ويدل على ذلك قوله: { وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون } ، وقيل: يجعل الفرح للرسل، ومعناه أن الرسل لما رأوا جهلهم والتمادي واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا لله عليه، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم، وحاق بهم أي حل بهم ونزل، وقيل: وجب ما كانوا به يستهزئون من العذاب { فلما رأوا بأسنا } عذابنا { قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين } من الأصنام { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } أي لم ينفعهم الإيمان بعد رؤية العذاب { سنة الله } أي طريقته { التي قد خلت في عباده } يعني في عذاب الكفار، وقيل: في قبول التوبة لأنه لا يقبلها إلا من المختار دون الملجأ { وخسر هنالك الكافرون } أي خسر فارق مجيء أمر الله أو وقت القضاء بالحق.
[41 - سورة فصلت]
[41.1-7]
{ حم } قد تقدم الكلام فيه، وقيل: هو اسم السورة، وعن ابن عباس: انه افتتاح أسماء الله تعالى { تنزيل } يعني هذه السورة { تنزيل من الرحمان الرحيم } ثم فسره فقال تعالى: { كتاب فصلت آياته } بالأمر والنهي والوعد والوعيد والحلال والحرام والمواعظ والأمثال { قرآنا عربيا } أي بلغة العرب { لقوم يعلمون } { بشيرا ونذيرا } أي: { بشيرا } للمؤمنين بما فيه من الوعد { ونذيرا } للكافرين بما فيه من الوعيد { فأعرض أكثرهم } فلم يفهموه ولم ينتفعوا به { فهم لا يسمعون } { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه } الآية نزلت في أبي جهل وستة من مشركي قريش أعرضوا عن القرآن، وقوله: { تدعونا إليه } فلا نفقه ما تقول { وفي آذاننا وقر } أي صمم فلا نسمع ما يقول { ومن بيننا وبينك حجاب } أي حلاف في الدين فجعل خلافهم ذلك حاجزا { فاعمل إننا عاملون } ، قيل: اعمل بما يقتضيه رأيك ودينك، إننا عاملون أي إننا نعمل بما يقتضيه ديننا، وقيل: اعبد إلهك فإنا عابدون إلهنا، وقيل: أراد بأنا لا نفهم ما تقول فاعمل ما شئت { قل } يا محمد { إنما أنا بشر مثلكم } ، قيل: أراد بذلك استعطافهم بأنه من جنسهم، وقيل: أراد أنه لا يخالفهم في البشرية وإنما خالفهم في الدين لأنه أوحي إليه { يوحى إلي إنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه } أي اعدلوا عن عبادة غيره واجعلوا قصدكم إليه، وقيل: إليه بمعنى له { واستغفروه } بمعنى تطلبوا منه المغفرة من ذنوبكم { وويل للمشركين } كلمة وعيد { الذين لا يؤتون الزكاة } يعني لا يشهدون أن لا إله إلا الله وهي زكاة الأبدان عن أبي علي، وقيل: لا يؤتون الزكاة ولا يدينون بها { وهم بالآخرة هم كافرون }.
[41.8-12]
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون } ، قيل: ثواب غير مقطوع، وقيل: غير منقوص، وقيل: لا يلحقهم تنقيص { قل أئنكم لتكفرون } ، قل يا محمد لهؤلاء الكفار وهذا تعجيز، أي تستجيزون أن تكفروا بمن هو خالق كل شيء ورب كل حي { بالذي خلق الأرض في يومين } يعني مقدار يومين { وتجعلون له أندادا } أمثالا وأشباها تعبدونها { ذلك رب العالمين } يعني الذي خلق الأرض هذا خالق العالمين دون الأنداد { وجعل فيها رواسي من فوقها } جبالا ثوابت { وبارك فيها } خلق فيها من المنافع التي لا تحصى { وقدر فيها أقواتها } أرزاق أهلها ومعايشهم وما يصلحهم، وفي قراءة ابن مسعود: وقسم فيها أقواتها { في أربعة أيام سواء } خلق الأرض وما فيها مستوية كاملة لا فيها نقصان، قيل: خلق الله الأرض في يوم الأحد ويوم الاثنين وباقيها يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء { للسائلين } الله حوائجهم، وقيل: كل ذلك بيان لما خلق للسائلين، وقيل: السائلين وغير السائلين { ثم استوى إلى السماء } أي قصد إلى خلق السماء، قيل: كان عرشه قبل خلق السماوات والأرض على الماء فأخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء وعلا عليه فأيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها أرضين، ثم خلق السماء من الدخان المرتفع، ومعنى أمر السماء والأرض بالاتيان وامتثالهما أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه فوجدتا كما أرادهما فكانتا كذلك كالمأمون المطيع وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل { فقضاهن } أي تممهن { سبع سماوات في يومين } وفي خبر مرفوع أن الله تعالى خلق الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والعمران والخراب، وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة والجن، وخلق آدم في آخر ساعة يوم الجمعة وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة، وقيل: إنما سميت الجمعة لاجتماع خلق السماوات والأرض وما فيها في ذلك الوقت، ومتى قيل: إذا قدر على أن يخلقها في طرفة عين فلم خلقها في هذه المدة؟ قالوا: ليعتبر فيها الملائكة فإنه أبلغ في الأدلة على قدرته، وقيل: ليعلم عباده أن الأناة خير من العجلة، وقيل: ليعلم الملائكة كيفية الترتيب والجمع والتفريق { وأوحى في كل سماء أمرها } ، إلى أهل كل سماء أمرها من الملائكة ما تعدهم من أمره ونهيه { وزينا } السماء الدنيا { بمصابيح } ، قيل: بالنجوم { وحفظا } لها من استراق السمع من الشياطين { ذلك } أي ما تقدم ذكره { تقدير العزيز العليم } الذي لا يمتنع عليه شيء.
[41.13-21]
{ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود } الآية عن جابر بن عبد الله قال: قال الملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد فإن التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة فأتاه فكلمه، ثم أتانا ببيان عن أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الكهانة والشعر وعلمت من ذلك علما وما يخفى علي، فأتاه فقال: يا محمد أنت خير أم هشام أم عبد المطلب؟ فبم تشتم آلهتنا؟ فإن كنت تريد الرئاسة عقدنا لك اللواء وكنت رئيسنا، وإن بك الباءة زوجناك أي بنات قريش شئت، وإن كان بك الحاجة إلى المال جمعنا لك ما تستغني به، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ساكتا، فلما فرغ قال: " { بسم الله الرحمن الرحيم حم } ، إلى قوله: { مثل صاعقة عاد وثمود } " ، فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش، احتبس عنهم، قالوا: ما نرى عتبة إلا قد صبا، فانطلقوا اليه وقالوا له: قد صبوت، فغضب وأقسم لا يكلم محمدا أبدا، وقال لهم: والله ما هو سحر ولا كهانة ولا شعر { إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم } ، قيل: من قبلهم ومن بعدهم ونقلت أخبارهم إليكم { ألا تعبدوا إلا الله قالوا } يعني الكفار للرسل: { لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون } { فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة } ، وبلغ من قوتهم أن الرجل ينزع الصخرة من الجبل فيقلعها بيده { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون } { فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا } أي باردة شديدة الهبوب والصوت، وقيل: شديدة السموم { في أيام نحسات } ، قيل: مشؤمات، وقيل: نحسات باردات { لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا } أي عذاب الصيحة والذل { ولعذاب الآخرة أخزى } أشد في القضاء { وهم لا ينصرون وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى } يعني هديناهم أي دللناهم وبينا لهم فاختاروا الكفر على الإيمان { فأخذتهم صاعقة العذاب الهون } يعني لهيئتهم بذلك { بما كانوا يكسبون } { ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون } { ويوم يحشر أعداء الله إلى النار } أي نجمع من قبورهم من سائر البقاع أعداء الله وهم الكافرون والعصاة { فهم يوزعون } يحبسون أولهم على آخرهم، وقيل: يسحبون من ورائهم ويجمعون من بين أيديهم، وقيل: يطردون ويساقون معجلا بهم إلى النار { حتى إذا ما جاؤوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم } قيل: أراد الجلود المعروفة تشهد بما باشرت، وقيل: أراد الفرج، ومتى قيل: وكيف تشهد الجوارح؟ قالوا: فيه وجهان: أحدهما أن يبنى بنية الحيوان ويعطى آلة النطق ويلجأ إلى الشهادة، والثاني أن يخلق الله الشهادة ويضاف إليها مجازا، والفائدة في شهادة الجوارح زيادة فضيحتهم، وقيل: إظهار العذاب { وقالوا } يعني الكفار { لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء } أعطاها آلة النطق والقدرة { وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون } أي كما قدر على خلق جميع الأشياء قدر على انطاق الجوارح وإلى حكمه ترجعون.
[41.22-29]
{ وما كنتم تستترون } ، قيل: تستحقون، وقيل: ما كنتم تستترون معاصيكم عن الخلق فيما كنتم تسترون عن أنفسكم لأن الإنسان لا يمكنه أن يستر عن نفسه كما يستر عن غيره، وقيل: تتقون، وقيل: تظنون { أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما كنتم تعملون } أي بجهلكم بالتوحيد ظننتم أن أعمالكم تخفى على الله تعالى { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } بذلك يوم القيامة { فإن يصبروا فالنار مثوى لهم } فيه حذف، يعني أن يصبروا أو لا يصبروا { وإن يستعتبوا } يطلبوا أن يرضى الله عنهم فما الله براضي عنهم، والمعتب الذي قبل عتابه وأجيب إلى ما سأل { وقيضنا لهم قرناء } بالتخلية والتمكين، يعني لما كفروا واستبدلوا بالأنبياء والمؤمنين شياطين الإنس والجن وصاروا قرناء لهم، وأضافه إلى نفسه لأنه كان عند تخليته، وهذا لمن ترك العلم واشتغل بالسرقة مع اللصوص فتصير اللصوص بدلا من العلماء له قرناء، وتقديره خلينا بينه وبين قرناء السوء امتحانا فتبعوهم، وقوله: { قرناء فزينوا } قرناؤهم { ما بين أيديهم } من أمور الدنيا زينوا لهم حتى آثروها وعملوا لها { وما خلفهم } من أمور الآخرة دعوهم إلى التكذيب به وإنكار البعث، وقيل: رغبوهم في الدنيا وزهدوهم في الآخرة، وقيل: زينوا لهم الفساد الذي في زمانهم، وقيل: زينوا لهم إنكار البعث في الآخرة، وقيل: إنكار النبوة { وحق عليهم القول } ، قيل: وجب عليهم وعيده بالعذاب الذي أخبر أنه يعذب به من عصاه كما حق على أمم مضوا قبل هؤلاء { من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين } خسروا الجنة ونعيمها { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } ، قيل: كان بعض المشركين يوصي بعضهم فيقول إذا رأيتم محمدا يقرأ فعارضوه بالزجر والاشعار فنزلت الآية، وذلك أن القوم لما عجزوا عن معارضته عدلوا إلى التواصي بترك استماعه، واللغو فيه قيل: التخليط في القرآن والتصفير، وقيل: الزجر والشعر، وقيل: الصياح { لعلكم تغلبون } يعني لتغلبوا محمدا على قراءته { فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا ولنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون } نجازيهم على أعمالهم السيئة { ذلك جزاء أعداء الله النار لهم فيها دار الخلد جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون } { وقال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس } يعني إذا أخذهم العذاب وعلم الاتباع أن البلاء حل بهم بسبب المتبوعين الذين أضلوهم فقالوا هذا القول وتمنوا أن يريهم، وقيل: اللذين أضلانا قيل: أراد ابليس من الجن وقابيل الذي قتل أخاه، وقيل: أراد الدعاة إلى الضلال وأئمة الكفر والبدع { نجعلهما تحت أقدامنا } في النار { ليكونا من الأسفلين } أي في الدرك الأسفل فيكون عذابهما أشد.
[41.30-35]
{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } قولا، وقيل: استمروا على الدين وثبتوا على الاعتقاد للتوحيد والعدل وعلى طاعته واجتناب معصيته، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أدوا الفرائض "
، وقيل: استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لعن الله اليهود، قالوا ربنا الله ثم لم يستقيموا " ، وكذلك النصارى، ورحم الله أمتي { قالوا ربنا الله ثم استقاموا } "
{ تتنزل عليهم الملائكة } عند الموت، وقيل : إذا خرجوا من قبورهم تستقبلهم الملائكة بهذا القول: { لا تخافوا ولا تحزنوا } الآية، وقيل: البشرى تكون في ثلاثة مواطن: عند الموت وفي القبر وفي البعث { ألا تخافوا } ، قيل: الخوف يتناول المستقبل والحزن يتناول الماضي وهذا نهاية المطلوب، وقيل: لا تخافوا على ما تقدمون عليه من أمور الآخرة ولا تحزنوا على ما خلفتم في دنياكم من مال وولد { وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون } على ألسنة الرسل وفي الكتب { نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا } أي تقول الملائكة لهم قيل: هم الحفظة، وقيل: ملائكة البشارة نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا { وفي الآخرة } بأنواع الكرامة { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } من أنواع النعم { ولكم فيها ما توعدون } ما تشاؤون { نزلا } أي رزقا، والنزل ما تضمنه لضيفه إكراما له { من غفور رحيم } من الله الذي يغفر الذنوب ويرحم { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله } أي لا قول أحسن من قول من دعا إلى الله إلى توحيد الله وعدله، وعن ابن عباس: هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا إلى الإسلام { وعمل صالحا } فيما بينه وبين ربه وجعل الإسلام نحلة له، وقيل: هم جميع الأئمة والدعاة إلى الحق، وقيل: هم المؤذنون، وقيل: الآية الإقامة، وعمل صالحا صلى ركعتين بين الأذان والإقامة { وقال إنني من المسلمين } ، قيل: من المناقد من يقول أنا على دين محمد وعلى ملة إبراهيم أدعوكم إليه { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } يعني أنهما متفاوتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن فادفع بها السيئة التي ترد عليك من بعض أعدائك، ومثال ذلك رجل أساء إليك إساءة فالحسنة أن تعفو عنه، والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، مثال ذلك أن يذمك فتمدحه، ويقتل ولدك فتفتدي ولده من يد عدوه، فإنك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاق مثل الولي الحميم مصافيا لك، قال في الغرائب والعجائب عن علي (عليه السلام): " الحسنة حب آل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والسيئة بغضهم " ، ثم قال: { وما يلقاها } أي ما يلقى هذه الخليقة والسجية التي هي مقابلة السيئة بالإحسان { إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } إلا أهل الصبر، وإلا رجل خير وفق لحظ عظيم من الخير، وعن ابن عباس: بالتي هي أحسن الصبر عند الغضب والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة، وفسر الحظ بالثواب، وعنه: والله ما عظم دون الجنة، وقيل: نزلت في أبي سفيان بن حرب وكان عدوا للرسول فصار وليا.
[41.36-43]
{ وإما ينزغنك من الشيطان نزغ } أي وسوسة وقول فاسد { فاستعذ بالله } أي اعتصم به ليكفيك كيدهم ومكرهم { إنه هو السميع العليم } بما في ضميرك { ومن آياته } أي ومن حجته الدالة على وحدانيته { الليل والنهار } أصلهما ومقدارهما والزيادة والنقصان فيهما { والشمس والقمر } يعني حركتهما وزيادة القمر ونقصانه، وجميع ذلك من الدلالة على حدوثها، وإن لها محدثا مدبرا سبحانه وتعالى { لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون } ، قيل: كان قوم من العرب يسجدون لها فنهوا عن ذلك، وقيل: هم المجوس والصابئون { فإن استكبروا } يعني تكبروا وانفوا عن قبول الحق والسجود له تعالى { فالذين عند ربك } يعني عنده بالكرامة والمنزلة { يسبحون له بالليل والنهار } يعني على الدوام ولا يدعون عبادته و { لا يسأمون } عنها { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة } يابسة لا نبات فيها { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } يعني بالماء المطر اهتزت أي تحركت الأرض بالنبات، وقيل: فيه تقديم وتأخير في ربت واهتزت، وقيل: انفخت، وقيل: زادت يعني خرجت النبات ونمت واهتزت { إن الذي أحياها لمحيي الموتى } يعني من قدر على إحياء الأرض قدر على إحياء الأموات وإعادة الخلق { إنه على كل شيء قدير } { إن الذين يلحدون في آياتنا } أي يميلون عن الحق وهو آيات القرآن، قيل: بالتكذيب، وقيل: ترك محكمه والتعلق بمتشابهه، وقيل: المراد آيات التوحيد والعدل انحرفوا عنها ولا يستدلون بها، وقيل: الإلحاد فيها الميل عنها إلى القول بالطبائع { لا يخفون علينا } نعلمهم ونعلم أحوالهم فنجازيهم { أفمن يلقى في النار } نزلت في أبي جهل { خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة } نزلت في عمار بن ياسر { اعملوا ما شئتم } هذا تهديد، أي من عمل الخير نجا ومن عمل الشرك هلك { إنه بما تعملون بصير } عالم يجازيكم بما تستحقون { إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم } وهو القرآن { وإنه لكتاب عزيز } بإعزاز الله من إكرامه وحفظه، وقيل: عزيز أي ممتنع لا يقدر أحد من العباد أن يأتي بمثله { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } ، قيل: الباطل الشيطان أن ينقص منه حقا أو يزيد فيه باطلا، وقيل: ليس فيه باطل من أول تنزيله إلى آخره، وقيل: لا باطل في أخباره مما تقدم ولا فيما تأخر، وقيل: لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات ولا نقص في آياته ولا كذب في أخباره ولا نسخ في أحكامه ولا تعارض ولا يرد فيه ولا تغيير، بل هو محفوظ ثابت حجة إلى يوم القيامة { تنزيل من حكيم حميد } في جميع أفعاله، والحميد المحمود { ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك } يعني ما يقول لك كفار مكة إلا مثل ما قد قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزلة { إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم } فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافوه أهل معصيته والغرض تخويف العصاة، وقيل: ذو مغفرة لمن أطاعه وأناب إليه وذو عقاب أليم لمن عصاه.
[41.44-49]
{ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي } ، قيل: إن المشركين قالوا: إنما تعلم محمدا لسان أبو فكيهة غلام الحضرمي وكان يهوديا أعجمي، فمر به الحضرمي وقال له: إنك تعلم محمدا؟ فقال: بل هو يعلمني، وقيل: قال المشركون هلا أنزلت القرآن بعضه عربيا وبعضه عجميا فنزلت الآية، يعني لو جعلناه أعجميا بلغة العجم { لقالوا لولا فصلت } أي هلا بينت آياته { أأعجمي وعربي } ، قيل: لأنه ادعى بأنه مبعوث إلى العرب والعجم قال: هلا قال القرآن مشتملا على العجمي والعربي، وقيل: إنا أنزلنا القرآن عربيا معجزا ليكون حجة ولو أنزلناه أعجميا اعتلوا بأنا لا نعرفه { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } من كل شك { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر } ثقل عن سماعه { وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد } يسمع صوتا ولا يفهم معنى ما يخاطبون به كالذي ينادون من مكان بعيد { ولقد آتينا موسى الكتاب } يعني التوراة { فاختلف فيه } كما صنع قومك من التكذيب كذلك فعل قوم موسى { ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم } وهو تأخير العذاب عنهم، وقيل: الكلمة الباقية قوله تعالى:
بل الساعة موعدهم
[القمر: 46] { وإنهم لفي شك منه مريب } والريب شك مع مهمه { من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها } يعني النفع والضر يعود على نفسه { وما ربك بظلام للعبيد } لا يبخس المحسن من ثوابه ولا يزيد المسيء على ما يستحق { إليه يرد علم الساعة } ، قيل: إن المشركين قالوا: إن كنت نبيا فأخبرنا عن الساعة فنزلت الآية، وكذلك علم الثمرات { وما تخرج من ثمرات من أكمامها } من أوعيتها { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } يعني يعلم قدر الثمرات وكيفيتها وإخراجها وطعمها وروائحها ويعلم الحبالى وما في بطونها { ويوم يناديهم } ، قيل: ينادي مناد: { أين شركائي } الذين كنتم تعبدون فإنها لا تنفعكم اليوم { قالوا آذناك } أي أعلمناك، ولا يجوز أعلمناك على أنهم أعلموا الله تعالى لأنهم مضطرون أنه تعالى عليم بذات الصدور وعالم لذاته بكل معلوم، فالمراد به الدلال والخضوع، وقيل: أمرا بالملك { ما منا من شهيد } إن لك شريكا، وقيل: هذا قول الأصنام يحييهم الله تعالى فيقولون ذلك ردا عليهم { وضل عنهم } وبطل عنهم { ما كانوا يدعون من قبل وظنوا } أيقنوا { ما لهم من محيص } أي مهرب وملجأ { لا يسأم الإنسان } أي لا يمل { من دعاء الخير } من طلب السعة في المال والنعمة { وإن مسه } ناله شدائد الدنيا { فيؤوس قنوط } يعني يقل صبره ويستشعر اليأس والقنوط هو أبلغ اليأس.
[41.50-54]
{ ولئن أذقناه رحمة منا } أي نعمة وعافية { من بعد ضراء مسته } أي بعد شدة نالته في ماله ونفسه وأولاده، فإذا أتاه النعمة جهل فضل الله ولم يشكر نعمه، بل يعتقد أنه من علمه وتدبيره ويقول: هذا لي أنا أحق به لأنه بفضل علمي حصل { وما أظن الساعة قائمة } على ما وعدته الأنبياء { ولئن رجعت إلى ربي } على التقدير لا على التحقيق، يعني لا تقوم الساعة ولئن قامت و { رجعت } إلى الله على ما تزعمون، ف { إن لي عنده للحسنى } ، قيل: شفاعة الأصنام، وقيل: لأنه أعطانا في الدنيا وذلك لمنزلة لنا عنده فيعطينا كذلك في أمر الآخرة، فأمن أمر الدنيا في الآخرة، وعن بعضهم: للكافر أمنيتان: يقول في الدنيا: { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } ، ويقول في الآخرة:
يا ليتني كنت ترابا
[النبأ: 40]، وقيل: نزلت في الوليد بن المغيرة { فلننبئن الذين كفروا } بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب { ولنذيقنهم من عذاب غليظ } ، قيل: شديد، وقيل: دائم، وقيل: متراكم أنواع العذاب { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض } عن شكر الله الإعراض والتولي والإدبار نظائر { ونأى بجانبه } النأي بالجانب التباعد عن طريق الاستكبار، وأصل النأي البعيد { وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض } أي إذا نالته مصيبة ضجر وإذا نالته نعمة بطر، والدعاء العريض الكثير { قل } يا محمد لهؤلاء { أرأيتم إن كان } هذا القرآن { من عند الله } يعني إنما أنتم عليه من إنكار القرآن وتكذيبه ليس بأمر صادر عن حجة قاطعة وإنما هو كفر منكم به وكذبتم { ومن أضل ممن هو في شقاق بعيد } أي عصيان ومفارقة عن الحق، أي من أضل منكم ومن أشد معصية { سنريهم آياتنا في الآفاق } ما كان من الفتوح فيها { وفي أنفسهم } فتح مكة، وقيل: في أنفسهم البلايا والأمراض، وقيل: في الآفاق الفتح لمحمد، وقيل: الآفاق وقائع الله في الأمم وفي أنفسهم يوم بدر، وقيل: في الآفاق الأقطار من الأرض وفي السماء من الشمس والقمر والنجوم والنبات والأشجار والأنهار والبحار والجبال، وفي أنفسهم من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، وقيل: في الآفاق ما كان النبي يخبرهم من الحوادث، وفي أنفسهم ما كان بمكة من انشقاق القمر { حتى يتبين لهم أنه الحق } أي يظهر لهم أن القرآن حق، وقيل:الإسلام، وقيل : محمد حق { أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } ، قيل: هو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين أنه يجازي كل أحد بعمله وينصف المظلوم من الظالم { ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم } في شك من لقائه { ألا إنه بكل شيء محيط } عالم.
[42 - سورة الشورى]
[42.1-6]
{ حم } { عسق } ، قيل: اسم للسورة، وقيل: إشارة إلى القرآن مؤلف من هذه الحروف فيكون محدثا، وقيل: قسم أقسم الله تعالى بهذه الأشياء، وقيل: من أسماء الله تعالى { كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك } كل وحي نزل إلى نبي فإنما أنزل من جهة الله تعالى الذي تحق له العبادة { العزيز الحكيم } القادر العالم المحكم الأفعال { له ما في السماوات وما في الأرض } خلقا وملكا { وهو العلي العظيم } في صفاته لا يشاركه فيها أحد، العظيم في أفعاله فلا قبح فيها { تكاد } تقرب { السماوات يتفطرن } يتشققن، وقيل: كادت القيامة تقوم وتفطر السماوات، اختلفوا من أي شيء قيل: من عظمة الله وجلاله عن ابن عباس، وقيل: استعظاما للكافرين الله والعصيان له، وقيل: عظم قول المشركين اتخذ الله ولدا وهذا على طريق أي لو كانت السماوات تتفطرن لشيء لانفطرن لهذا { من فوقهن } ، قيل: السماوات يفطرن بعضها فوق بعض وكل واحد فوق الذي يليه، وقيل: فوق الأرضين { والملائكة يسبحون } أي ينزهون الله عن وصفه بما لا يليق، وقيل: الملائكة الذين اتخذوهم الكفار آلهة ينزهون الله عن مقالتهم وتسبيحهم { بحمد ربهم } أي بإضافة النعم إليه والثناء الحسن { ويستغفرون لمن في الأرض } من المؤمنين، وقيل: التائبين { ألا إن الله هو الغفور الرحيم } لذنوبهم، الرحيم لا يعاجلهم بالعقوبة { والذين اتخذوا من دونه أولياء } أي اتخذوا الأوثان آلهة { الله حفيظ عليهم } أي يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها { وما أنت عليهم بوكيل } أي يحفظ أعمالهم فيمنعهم منها إنما عليك البلاغ، وفيه تسلية له (صلى الله عليه وآله وسلم).
[42.7-13]
{ وكذلك أوحينا إليك } أي كما أوحينا إلى الرسل أوحينا إليك { قرآنا عربيا } بلغة العرب { لتنذر أم القرى } يعني مكة، وسميت بذلك لأنها أفضل القرى، وقيل: لأنها أول بيت وضع ، وأم كل شيء أصله { ومن حولها } أي لتنذر من حول مكة، قيل: المراد به العرب، وقيل: أراد به سائر الناس { وتنذر يوم الجمع } وهو يوم القيامة، وقيل: الإنذار يوم الجمع إنذار بالفضيحة الذي تظهر { لا ريب فيه } أي لا شك { فريق في الجنة وفريق في السعير } وهو النار، وفي الجنة الأنبياء والمؤمنون وفي النار الكفار والفاسقون { ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة } ، قيل: لو شاء لجعلهم على دين واحد وهو الاسلام بأن يلجئهم اليه وإنما لم يفعل لأنه مزيل للتكليف وإنما التكليف والثواب والعقاب مع الاختيار ولو فعل ذلك لبطل الفرض، وقيل: لو شاء لجعل الفريقين فرقة واحدة بأن يجعلهم في الجنة لفعل ولكن اختار لهم أعلى الدرجتين وهو استحقاق الثواب { ولكن يدخل من يشاء في رحمته } وهم المؤمنون { والظالمون ما لهم من ولي } يحفظهم { ولا نصير } يتولى نصرهم { أم اتخذوا من دونه أولياء } هذا استفهام، والمراد الإنكار أي لا تتخذوا من دونه أولياء والله هو الولي عن أبي علي { فالله هو الولي } الذي يملك النفع والضر { وهو على كل شيء قدير } { وما اختلفتم فيه من شيء } من أمر الدين والكتاب والرسول فصدق بعضهم وكذب بعضهم والخطاب للأمة، وقيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا وقع بينك وبين الكفار خلاف { فحكمه إلى الله } ، قيل: يضاف الصواب إليه بنص الدلالة، وقيل: يحكم للمحق بالثواب والمدح وللمبطل بالعقاب والذم، وقيل: يحكم يوم القيامة ويجازي كل أحد بما يستحقه { ذلكم الله ربي عليه توكلت } ، قيل: هذا وعيد { وإليه أنيب } أي إلى حكمه المرجع والإنابة { فاطر السماوات والأرض } أي خالقهما ومبتدئهما { جعل لكم } أي خلق لكم { من أنفسكم أزواجا } ، قيل: من جنسكم، وقيل: المراد حواء خلقت من ضلع آدم { ومن الأنعام أزواجا } ذكرا وأنثى { يذرؤكم فيه } أي يخلقكم فيه، قيل: في الرحم، وقيل: في البطن { ليس كمثله شيء } أي ليس مثله شيء فادخل الكاف، والمثل تأكيدا لنفي السنة على التحقيق والتقدير { وهو السميع } العليم بجميع المسموعات { البصير } { له مقاليد السماوات والأرض } ، قيل: جوانبهما وأحدهما اقليد، وقيل: مفاتحهما وإنما هو مفتاح الرزق { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } أي يوضع على من يشاء { إنه بكل شيء عليم شرع لكم من الدين } ، قيل: فرض، وقيل: بين { ما وصى به نوحا } أي أمر الأنبياء به، وقيل: شرع لعباده من الدين ما تعبد به أنبياؤه، واختلفوا في المراد بالدين قيل: التوحيد والعدل فإن ذلك لا يختلف، وقيل: أراد الإقرار بالله والطاعة له، والقيام بعبادته وشكره على نعمه، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، ما وصى به نوحا (عليه السلام) { والذي أوحينا إليك } ثم فسره فقال: { أن أقيموا الدين } وإقامته اعتقاده والعمل به { ولا تتفرقوا فيه } ، قيل: لا تتفرقوا في الدين فتعتقد كل طائفة شيئا فإن الحق واحد { كبر على المشركين ما تدعوهم إليه } أي عظم عليهم ما دعوتموهم اليه من توحيد الله وخلع الأنداد { الله يجتبي } من رسله إليه أي ليس اليهم الاختيار لأن الله { يجتبي } لرسالته { من يشاء } واختارك كما اختار موسى ومن قبله ومن بعده من الأنبياء { ويهدي إليه من ينيب } أي من يرجع إلى ربه في إخلاص دينه.
[42.14-18]
{ وما تفرقوا } في الدين، قيل: أهل الأديان المختلفة، وقيل: أراد أهل الكتاب { إلا من بعدما جاءهم العلم } بعثة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وصفته فعلموا وعاندوا، والمراد به العلماء، ويجوز على مثلهم العناد { بغيا } أي طلبا للدنيا واتباع الهوى والحسد والعداوة { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى } أي لولا وعد الله وإخباره بتبقيتهم إلى وقت معلوم وتأخير العذاب عنهم، وقيل: لولا وعد الله بتأخيرهم إلى يوم القيامة وهو الأجل المسمى { لقضي بينهم } بهلاك المبطل وإثابة المحق { وان الذين أورثوا الكتاب من بعدهم } يعني اليهود والنصارى الذين أورثهم الله الكتب من الأنبياء من بعدهم من بعد الأمم الخالية، وقيل: بعد اليهود وهم مشركو مكة والعرب أورثوا القرآن من بعد الكتب الماضية { لفي شك منه مريب } يعني كفرهم بجهالتهم، وقيل: هم في شك من نبوتك، وقيل: من الكتاب الذي أورثوه { فلذلك فادع } أي لأجل الشك والذي هم فيه فادعهم إلى الحق، وقيل: اللام بمعنى الذي أي الذي شرعه الله ورضي به { فادع واستقم } بما أتاك من النبوة والكتاب، وقيل: استقم في الرسالة وأبلغها { كما أمرت } { ولا تتبع أهواءهم } يعني أهواء المشركين بل اتبع الوحي { وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب } منزل { وأمرت لأعدل بينكم } في الدين والدنيا والدعاء ولا أحابي أحدا فيكون القريب والبعيد سواء، وقيل: { لأعدل بينكم } في جميع الأشياء { الله ربنا وربكم } أي خالق الجميع والمنعم عليهم { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم } أي جزاء أعمالنا لنا وجزاء أعمالكم لكم { لا حجة بيننا وبينكم } ، قيل: لا خصومة قد ظهر الحق فسقط الجدال بالحجة لنا عليكم { الله يجمع بيننا وإليه المصير } يعني يجمع بيننا يوم القيامة والمرجع إليه { والذين يحاجون في الله } أي يجادلون ويخاصمون في الله قيل: في دينه { من بعد ما استجيب له } من بعدما استجاب له الناس ودخلوا في دينه ليردوهم إلى دين الجاهلية، وقيل: من بعد ما استجيب دعاؤه لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في إظهار المعجزات وقيام الحجة، وقيل: من بعدما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر واظهر دين الإسلام { حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } { الله الذي أنزل الكتاب } القرآن { والميزان } ، قيل: هو ما أمر به من العدل، وقيل: أنزل الميزان الذي يوزن به { وما يدريك لعل الساعة قريب } أي لست تدري متى تقوم الساعة فإذا أنت لا تعلم مع الوحي والكتاب فكيف يعلمه غيرك { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } يعني من لا يؤمن بها { والذين آمنوا مشفقون منها } أي يخافون قيامها { ويعلمون أنها الحق } أي يعلمون صحتها { ألا إن الذين يمارون في الساعة } ، قيل: يخاصمون فيها { لفي ضلال بعيد }.
[42.19-23]
{ الله لطيف بعباده } ، قيل: بارئهم، وقيل: اللطيف الذي يقبل القليل ويعطي الجزيل { يرزق من يشاء وهو القوي } القادر { العزيز } الذي لا يمتنع عليه شيء { من كان يريد حرث الآخرة } يعني من أراد بعمله الدار الآخرة ووجه الله وجاهد وغيره { نزد له في حرثه } في جزائه كقوله:
فله عشر أمثالها
[الأنعام: 160] وإن أراد بالحرث العمل { ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها } أي نزد له بعمله، أي نعطيه رزقه ما قسم له من الدنيا، وقيل: من جاهد مع المؤمنين وطلب الغنائم يعطى من الغنائم ولا نصيب له في الثواب، وقيل: أراد بذلك المنافقين، وقيل: أراد الجهاد وسائر العبادات { وما له في الآخرة من نصيب } أي لا حظ له في الآخرة { أم لهم شركاء } ، قيل: لهم آلهة يعني الأصنام، وقيل: علماء السوء يعني لم يشرعوا دينا فكيف يخالفون ما شرع الله { ما لم يأذن به الله } يعني لم يأمر الله { ولولا كلمة الفصل } أي لولا وعد القضاء إلى مدة { لقضي بينهم } بعذاب يعاجلهم { وإن الظالمين لهم عذاب أليم } موجع { ترى الظالمين مشفقين } خائفين { مما كسبوا وهو واقع بهم } يعني ما استحقوا من العذاب نازل بهم يوم القيامة لا محالة { والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات } والرياض اسم لمواضع مخصوصة { لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير } { ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فإنهم المستحقون له فيسرون به { قل لا أسألكم عليه أجرا } أي على ما أدعوكم إليه { إلا المودة في القربى } ، قال جار الله: أنها لما نزلت قيل:
" يا رسول الله من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: " علي وفاطمة وابناهما "
ويدل عليه ما روي عن علي (عليه السلام) قال:
" شكوت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسد الناس، قال: أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين، وأزواجنا عن ايماننا وشمائلنا وذرياتنا خلف أزواجنا "
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي، ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولما يجازه فأنا أجازه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة "
،
" وروي أن الأنصار قالوا: فعلنا وفعلنا كأنهم افتخروا فقال عباس أو ابن عباس: لنا الفضل عليكم، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأتاهم في مجالسهم فقال: " يا معاشر الأنصار ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله بي؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، قال: " أفلا تجيبوني؟ " قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: " ألا تقولون ألم يخرجك قومك فأويناك، أولم يكذبوك فصدقناك، أولم يخذلوك فنصرناك " قال: فما زال يقول حتى جثوا على الركب، وقالوا: أموالنا وما في أيدينا لله ورسوله "
، فنزلت الآية، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من مات على حب آل محمد مات شهيدا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له، ومن مات على حب آل محمد مات تائبا، ومن مات على حب آل محمد مات مغفورا له مؤمنا مستكملا للايمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير، ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد فتح الله له في قبره بابان إلى الجنة، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزاره لملائكة الرحمة، ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله، ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا، ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة "
، ذكر الكلام المتقدم في الكشاف، قال في الحاكم، قيل: اجتمع المشركون وقالوا: أترون أن محمدا سأل على ما يتعاطاه أجرا فنزلت الآية، وقيل: لما نزلت: { إلا المودة في القربى } ، قال قوم: يحث على مودة أقاربه من بعده فنزل جبريل فقال: اتهموك { ومن يقترف حسنة } أي يعمل طاعة { نزد له فيها حسنا } ، قيل: يثيبه ويزد له من فضله { إنه غفور } للذنوب { شكور } لمن أطاعه، يقبل القليل ويثيب عليه الجزيل.
[42.24-27]
{ أم يقولون } هؤلاء الكفار { افترى } محمد { على الله كذبا } فيما يقول أنه رسوله { فإن يشأ الله يختم على قلبك } ، قيل: يربط على قلبك حتى لا يشق عليك أذاهم، وقيل: يطبع على قلبك ينسيك القرآن، وهو زجر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وبيان للكفار أنه لا يفعل ما يقولون { ويمح الله الباطل } أي يزيله ويبطله { ويحق الحق بكلماته } أي يبينه وكلماته ما أثبته في الكتب { إنه عليم بذات الصدور } من حق أو باطل { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } عن المعاصي { ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ، قيل: معناه يجيب الله دعاء المؤمنين { ويزيدهم من فضله } ولا يجيب دعاء الكافرين، وقيل: يستجيب أي يقبل الله طاعتهم ويعطيهم ما يستحقون من الأجر، وقيل: الفعل للذين آمنوا، ثم اختلفوا فقيل: ولا يجيب المؤمنين ربهم فيما دعاهم، وقيل: يطيعونه فيما أمرهم به، وعن ابن عباس: والاستجابة الطاعة { والكافرون لهم عذاب شديد } أي دائم عظيم { ولو بسط الله الرزق لعباده } ، قيل: لو وسع عليهم برهم وفاجرهم، وقيل: بسط بحسب ما يطلبونه ويتمنونه { لبغوا في الأرض } أي ترفع كل أحد من درجته فيبغي بعضهم على بعض، وقيل: يعصوا الله تعالى، وقيل: لو رزق العباد من غير كسب لطغوا وسعوا في الأرض فسادا ولكن شغلهم بالكسب رحمة منه { ولكن ينزل بقدر ما يشاء } بقدر صلاحهم، وقيل: يجعل واحدا غنيا وواحدا فقيرا بحسب المصلحة { إنه بعباده خبير بصير } وقد روى أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبريل عن الله تعالى في حديث طويل:
" إن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم، ولو صححته لأفسده، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة، ولو أسقمته لأفسده، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده، ذلك أدبر عبادي بعلمي بقلوبهم "
ومتى قيل: فنحن نرى موسعا عليه شكور ومضيقا عليه يكفر، قالوا: لعل المضيق عليه يستوي حالته أو كان يزيد كفره لو أغناه والله أعلم بتفاصيل ذلك، وإنما نعلم أنه يغني ويفقر بحسب المصلحة على ما يقتضي علمه.
[42.28-39]
{ وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته } لجميع خلقه { وهو الولي } ، قيل: الذي يتولى تدبير عباده، وقيل: الولي المالك للعباد { الحميد } المحمود { ومن آياته خلق السماوات والأرض } أحدثهما كما يشاء { وما بث فيهما من دابة } وهو ما يدب من الحيوانات { وهو على جمعهم } يوم الحشر { إذا يشاء قدير } { وما أصابتكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم } من الأجرام، واختلفوا في المصائب، قيل: القحط والمرض وما أشبهه، وقيل: ما يصيب الكفار من الحدث من المسلمين، وقيل: العقوبات، وقيل: هو عام في كل المصائب، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ما من اختلاج عرق ولا خدش عود ونكتة حجر إلا بذنب وما يعفو الله أكثر "
وعن عكرمة: ما من نكتة أصابت عبدا إلا بذنب لم يكن الله ليغفر له إلا بها، ودرجة لم يكن ليبلغها إلا بها، وقيل: المصائب يجوز أن تكون عقوبة للدنيا كالحدود ولذلك امتحن الأنبياء بالمصائب ولم تكن عقوبة { ويعفو عن كثير } أي ولا يؤاخذهم بكثير من أفعالهم بل يعفو عنها، وقيل: لولا العفو لهلك العالم لأن الذنب موجبه ولكن الله يعفوا أما بالتوبة أو بالطاعات، وعن علي (عليه السلام): " من عفى في الدنيا عفى الله عنه في الآخرة " ، وعنه: " هذه أرجى آية في القرآن " { وما أنتم بمعجزين في الأرض } بفائتين ما قضى عليكم من المصائب { وما لكم من دون الله من ولي } يلي أمركم { ولا نصير } ينجيكم من عذابه { ومن آياته الجوار في البحر } يعني السفن { كالأعلام } ، قيل: كالجبال تجريها الرياح { إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد } يعني السفن { على ظهره } ، قيل: على ظهر الماء { إن في ذلك } في ذكره خزائن والسفينة { لآيات لكل صبار شكور } كبير الصبر والشكر { أو يوبقهن بما كسبوا } يهلكهن، يعني السفن بالغرق إما بحبس الريح فلا تجري السفن أو يهلكها بالغرق بما عملوا من المعاصي فيهلكهم عقوبة لهم { ويعف عن كثير } من معاصيهم فلا يهلكهم إمهالا ورحمة { ويعلم الذين يجادلون } أي يعلم الذين يخاصمون بالباطل في رد آيات الله { ما لهم من محيص } أي ملجأ قيل: إذا سكن البحر وركدت السفن علم المجادل أنه لا محيص { فما أوتيتم } أعطيتم { من شيء } من نعم الدنيا تبتغون بها عاجلا { فمتاع الحياة الدنيا } أي منافع الدنيا { وما عند الله خير وأبقى } من ملاذ الدنيا لأنها باقية وهذه فانية { خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } يفوضون أمرهم إليه { والذين يجتنبون كبائر الاثم } هو الشرك { وإذا ما غضبوا هم يغفرون } أي هم الأحقاء بالغفران في حال الغضب، أي يتجاوزون، وقد تقدم الكلام في الكبائر، ومتى قيل: لم أضاف الكبائر إلى الإثم؟ قالوا: لوجهين: أحدهما أن الإثم صغيرا أو كبيرا عن أبي علي، وثانيهما ما يكون الإثم كله كبائر فيكون بمنزلة اضافة الصفة إلى الموصوف { والفواحش } كل قبيح، وقيل: الزنا { والذين استجابوا لربهم } أي أجابوا فيما دعاهم إليه من الدين { وأقاموا الصلاة } في أوقاتها { وأمرهم شورى بينهم } أي لا يعلمون إلا المشاورة أهل الدين { ومما رزقناهم ينفقون } مما أعطيناهم في وجوه البر { والذين إذا أصابهم البغي } لا يستسلمون بل يتناصرون ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وقيل: يتناصرون ممن يبغي عليهم من غير أن يعتدوا، ومتى قيل: أليس وصفوا في الآية الأولى بأنهم يغفرون؟ قالوا: ذلك في حقوق لا قصاص، وقيل: ذلك في حقوق نفسه كالأموال والحقوق وهذا في حقوق الله يفعله على سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيل: إذا غضب لدينه انتصر وإذا غضب لدنياه أو في حق نفسه غفر.
[42.40-46]
{ وجزاء سيئة سيئة مثلها } سمي الجزاء على الشيء باسم الشيء وإن كان الثاني حسنا كقول الشاعر:
ألا لا يجهلن أحد علينا
فجهل فوق جهل الجاهلينا
{ فمن عفى وأصلح فأجره } لأنه من الأعمال الصالحة { فأجره } أي ثوابه { على الله } وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إذا كان يوم القيامة نادى منادي: من له على الله أجر فليقم، قال: فيقوم خلق كثير فيقال لهم: ما أجوركم على الله؟ فيقولون: نحن الذين عفونا عن من ظلمنا، فيقال لهم: ادخلوا الجنة بإذن الله "
{ إنه لا يحب الظالمين } أي لا يريد اعزاز الظالمين { ولمن انتصر بعد ظلمه } أي انتقم من ظالمه بعد أن ظلمه، والانتقام بالقصاص { فأولئك ما عليهم من سبيل } أي يأثم { إنما السبيل } أي الإثم والعقاب { على الذين يظلمون الناس } ابتداء { ويبغون في الأرض بغير الحق } ويظلموا في الأرض بغير الحق { أولئك لهم عذاب أليم } موجع { ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } أي تحمل المشقة في رضى الله وغفر لأخيه فإن ذلك من عزم الأمور، أي من ثابت الأمور التي أمر الله بها { ومن يضلل الله } ، قيل: يعذبه ويهلكه يوم القيامة باستحقاقه ذلك، وقيل: يضله عن رحمته وجنته { فما له من ولي من بعده } أي أضر من بعده سوى الله { وترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل } أي إلى رجعة إلى الدنيا { وتراهم يعرضون عليها } أي على النار { خاشعين } أي خاضعين { ينظرون من طرف خفي } أي من عين خفي قيل: دليل، وقيل: يسارقون النظر، وقيل: من عين لا تفتح كلها إلى النار لعظم ما فيها من العذاب، وقيل: ينظرون إلى النار بقلوبهم لأنهم عمي والنظر بالقلب خفي { وقال الذين آمنوا } لما رأوا ما نزل بالظالمين { إن الخاسرين } في الحقيقة { الذين خسروا أنفسهم } لأن رأس المال هو النفس فإذا أوثقوها فلا خسران أعظم منه لأنهم أهلكوها بالعذاب وفوتوها نعيم الجنة { وأهليهم } ، قيل: أزواجهم وأولادهم، وقيل: أهليهم من الحور العين { ألا إن الظالمين في عذاب مقيم } دائم، وقيل: هذا تمام كلام المؤمنين، وقيل: خبر مبتدأ من الله في عذاب مقيم، يعني الظلمة { وما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله } أي لا ولي لهم ولا ناصر يتولى تخليصهم من العذاب { ومن يضلل الله فما له من سبيل } ، قيل: هذا جواب قولهم: { هل إلى مرد من سبيل } يعني من أهلكه الله فما له من طريق إلى النجاة، وقيل: من أبعده الله من الجنة ما يرشده أحد إليها.
[42.47-50]
{ استجيبوا لربكم } أي أجيبوا ما يدعوكم إليه من الايمان { من قبل أن يأتي يوم } يعني بادروا إلى الطاعة قبل يوم القيامة، وقبل يوم الموت { لا مرد له من الله } أي لا يقدر أحد على رده { ما لكم من ملجأ يومئذ } والملجأ ما يلجأ اليه من معقل يعصمهم من العذاب { وما لكم من نكير } ناصر { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا } تحفظهم عن اعتقاد خلاف الحق { إن عليك إلا البلاغ } يعني إبلاغ الرسالة ليس عليك غير ذلك { وإنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها } عجبا وبطرا ولم يشكر الله { وإن تصبهم سيئة } أي يمسهم من مرض أو فقر { فإن الانسان كفور } يجحد النعمة فحاله بخلاف حال المؤمن وإذا أصابته نعمة شكر أو محنة صبر وعلم أن جميع ذلك مصلحة { لله ملك السماوات والأرض } أي هو القادر على إحداثهما وإمساكهما { يخلق ما يشاء } من أنواع الجواهر والأعراض والجنين في الأرحام { يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور } { أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما } ، قيل: نزلت في الأنبياء (صلوات الله عليهم)، وهب لشعيب ولوطا إناثا ولابراهيم ذكورا ولمحمد ذكورا وعيسى ويحيى عقيمين، يعني أنه { يهب لمن يشاء إناثا } فلا يولد ذكر { ويهب لمن يشاء الذكور } البنين { أو يزوجهم ذكرانا وإناثا } أي يولد له الابن والابنة، وقيل: يجتمع في الرحم الذكر والأنثى فيكونا توأمين { ويجعل من يشاء } من الرجال والنساء { عقيما إنه عليم } بمصالح العباد { قدير } قادر على تكوين ما يصلحهم.
[42.51-53]
{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا } وما صح لأحد أن يكلمه الله إلا على أحد ثلاثة أوجه: إما على طريق الوحي وهي الإلهام والقذف في القلب، أو المنام كما أوحى إلى موسى وإبراهيم (عليهم السلام) في ذبح ولده، وعن مجاهد: أوحى الله إلى داوود الزبور في صدره، واما أن يسمعه كلامه الذي يخلقه في بعض الأجرام غير أن يبصره السامع من يكلمه { أو من وراء حجاب } فيسمع صوته ولا يرى شخصه وذلك كما كلم موسى وكلم الملائكة، وأما على أن { يرسل رسولا } من الملائكة { فيوحي } إليه كما كلم الأنبياء غير موسى والله تعالى لا يجوز عليه الحجاب ولا يكون كلامه كلام من يرى ومن يدرك، وقيل: يحجب ذلك الكلام عن جميع خلقه إلا ممن يريد أن يكلمه به نحو كلامه لموسى في المرة الأولى خلاف كلامه له في المرة الثانية لأنه سمع ذلك معه السميعون عن أبي علي، وقيل: حجاب لمحل الكلام، وقيل: بمنزلة ما يسمع من وراء الحجاب { أو يرسل رسولا } من الملك ما يأتي به النبي فيسمعه منه فيؤديه إلى الخلق { بإذنه } ، قيل: بأمره { ما يشاء } يعني يوحي كما يشاء أنه علي عن صفات المخلوقين { حكيم } يجري أفعاله على موجب الحكمة فكلم تارة بواسطة وأخرى بغير واسطة وإما الهاما وإما خطابا { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا } يريد ما أوحى اليه لأن الخلق يحيون له في دينهم كما يحيى بالروح { ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان } يا محمد، ما الكتاب قيل: ما كنت تعلم أن الكتاب يأتيك وما كنت تعلم بالإيمان بالكتاب فعد نعمة عليه، وقيل: أراد بالإيمان الصلاة كقوله:
ما كان الله ليضيع إيمانكم
[البقرة: 143] { ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } يعني جعلنا القرآن نورا لأن فيه معالم الدين، وقيل: جعلنا الايمان عن ابن عباس، لأنه طريق النجاة نورا، يعني الكتاب والايمان نورا توسعا، وقوله: { نهدي به من نشاء من عبادنا } ، قيل: نرشد إلى الجنة { وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم } هو القرآن، وقيل: الاسلام { صراط الله } ، قيل: دين الله، وقيل: طريق الجنة { الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور } إلى حكمه فيقدر فيها ما يشاء.
[43 - سورة الزخرف]
[43.1-8]
{ حم } أقسم بالكتاب المبين وهو القرآن وجعل قوله: { إنا جعلناه قرآنا عربيا } جوابا للقسم المبين الذي أبان طريق الهدى من طريق الضلالة وأبان ما تحتاج إليه الأمة من أبواب الديانة { إنا جعلناه } أي أحدثناه وأنزلناه { قرآنا عربيا } بلغة العرب { لعلكم تعقلون } أي تعلمون ذلك { وإنه في أم الكتاب } في اللوح المحفوظ، وإنما سمي أم لأن سائر الكتب تنسخ منه { لدينا } عندنا يحتمل أن يريد اللوح المحفوظ، ويحتمل أن يريد القرآن لشريف التخصيص { لعلي } يعني القرآن علا كل كتاب بما خصه لكونه مع أواخر الكتب إثابة العمل به { حكيم } دلالة على كل حق وصواب فهو بمنزلة المحكم الذي لا ينطق إلا بالحق، ويجوز أن يكون حكيما ها هنا بمعنى محكم { أفنضرب عنكم الذكر صفحا } قيل: أنعرض عنكم ولا ندعوكم لإسرافكم وترككم القبول { أن كنتم قوما مسرفين } مجاوزين الحد { وكم أرسلنا من نبي في الأولين } يعني الأمم الماضية { وما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزئون } { فأهلكنا أشد منهم بطشا } قيل: أشد قوة من قومك { ومضى مثل الأولين }.
[43.9-19]
{ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض } أي ابتدأهما وأنشأهما، والكناية إلى من ترجع، قيل: لئن سألت الماضين أو لقيتهم، أو سألت من تريد منهم أو تمسك بطريقتهم، أو سألت عن كتبهم، وقيل: لو سألت كفار قريش لأنهم كانوا يقرون بالله وأنه خالق السماوات والأرض { ليقولن خلقهن العزيز العليم } بكل معلوم { الذي جعل لكم الأرض مهادا } أي فراشا تستقرون عليها { وجعل لكم فيها سبلا } أي طرقا إلى مقاصدكم { لعلكم تهتدون } لتهتدوا في أسفاركم إلى مقاصدكم، وقيل: لتهتدوا إلى الحق في الدين بالاعتبار الذي جعل لكم { والذي نزل من السماء ماء بقدر } قيل: من جهة السماء وإنما هو من السحاب، وقيل: من السماء نفسه، بقدر يعني مقدار ما يحتاج إليه حتى لو نقص الأجل ولو زاد لأفسد { فأنشرنا به بلدة ميتا } يعني أخرجنا النبات من بلدة ميتة يابسة لم يكن عليها النبات، ثم بين وجه الدلالة على الإعادة فقال: { كذلك تخرجون } من قبوركم كما أحيينا البلدة الميتة { والذي خلق الأزواج } يعني أزواج الحيوان ذكرا وأنثى، وقيل: الأزواج الأصناف من الحيوانات { وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون } أي جعل الفلك مركبا في البحر والأنعام مركبا في البر { لتستووا على ظهوره } ليستوي الراكب على ظهره وينتفع بما في البر والبحر { ثم تذكروا نعمة ربكم } إذا استويتم عليه، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم )
" أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: " بسم الله " فإذا استوى على الدابة قال: " الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا - إلى قوله - لمنقلبون " وكبر ثلاثا وهلل ثلاثا، وقالوا: إذا ركب السفينة قال: " بسم الله مجراها ومرساها ان ربي لغفور رحيم "
{ إذا استويتم عليه } استقررتم عليه { وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا } أي ذلل لنا حتى ركبناه { وما كنا له مقرنين } أي مطيقين { وإنا إلى ربنا لمنقلبون } فنحن إليه نصير في المعاد، فسخر هذا لمصالحنا ومنافعنا { وجعلوا له من عباده جزءا } قيل: نصيبا، وبعضا زعموا أن الملائكة بنات الله { إن الإنسان لكفور } أي جحود لنعمه { مبين } ظاهر الكفران { أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين } أي كيف خصكم بالبنين واتخذ لنفسه بنات، فلو جاز عليه الولد لما اختار البنات على ما يزعمونه، فقد غلطوا من وجهين أحدهما جواز اتخاذ الولد في الأصل، والثاني اتخاذ البنات مع أنهم يكرهون ذلك لأنفسهم { وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمان مثلا } يعني البنات التي أضافوها إليه { ظل وجهه مسودا } من ذلك مبالغة في الكراهة { وهو كظيم } مملوء كربا وغيظا، ثم بين حال النساء فقال سبحانه: { أو من ينشؤا في الحلية } في زينة النساء { وهو في الخصام غير مبين } في المنازعات والخصومات في أمور الدين والدنيا، وقوله: { غير مبين } أي لا يبين ولا يظهر الحجة لضعفهن { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا } أي قالوا: الملائكة بنات الله { تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا } { أشهدوا خلقهم } أي أحضروا خلق الملائكة حتى شهدوا أنهم بنات الله؟ وقيل: شهدوا صورهم وخلقهم فعلموا أنهم إناث.
[43.20-30]
{ وقالوا } يعني الكفار { لو شاء الرحمان ما عبدناهم } أي لو شاء أن لا نعبدهم ما عبدناهم قيل: الملائكة، وقيل: الأوثان { ما لهم بذلك من علم } أي لا يقولون ذلك عن صحة وعلم { إن هم إلا يخرصون } أي يكذبون { أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون } وهذا استفهام والمراد الإنكار، أي ما أنزلنا كتابا، ثم بين تعالى أن أمرهم مبني على التقليد، فقال سبحانه: { بل قالوا } يعني المشركين وهذا جواب لمقالتهم، يعني لم يشهدوا خلقهم ولا يرجعوا إلى كتاب { قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة } قيل: على ملة كانوا مجتمعين متوافقين على هذا الذي نحن عليه { وإنا على آثارهم مهتدون } { وكذلك ما أرسلنا من قبلك } يا محمد { في قرية من نذير } أي نبي { إلا قال مترفوها } أي رؤساؤها ومنعموها: { إنا وجدنا آباءنا } على طريقة، وقيل: وجدناهم مجتمعين على هذا { وإنا على آثارهم مقتدون } نقتدي بهم فلا نخالفهم { قل } يا محمد { أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } يعني أصوب وأولى لما عليه من الدليل { قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } { فانتقمنا منهم } عذبناهم بكفرهم، وقيل: انتقمنا للمؤمنين منهم { فانظر كيف كان عاقبة المكذبين } { وإذ قال إبراهيم لأبيه } آزر { وقومه إنني براء مما تعبدون } يعني من الأوثان والنجوم { إلا الذي فطرني } خلقني ابتداء وهو الله تعالى { فإنه سيهدين } إلى الحق بما نصب لي من الدلالة وفيه بيان ثقته بالله، وقيل: سيهدين إلى جنته وثوابه { وجعلها كلمة باقية في عقبه } يعني إبراهيم جعل هذه الكلمة باقية في ذريته لم يزل منهم من يقولها، وقيل: إنه تعالى جعلها باقية يعني بأمره ولطفه، وقيل: إبراهيم جعلها باقية بأن يوصي بها، وأكد الأمر بالتكرير وهي كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وقيل: كلمة التوحيد التي تكلم بها إبراهيم قوله: { إنني براء مما تعبدون } في عقبه في ذريته، فلا يزال من يوحد الله ويدعو إلى توحيده { لعلهم يرجعون } لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحده منهم، ونحوه
ووصى بها إبراهيم بنيه
[البقرة: 132] { بل متعت } أي أنعمت عليهم بالنعم ولم أعاجلهم بالعقوبة فتمتعوا { حتى جاءهم الحق } قيل: القرآن { ورسول مبين } { قالوا هذا سحر } أي تمويه.
[43.31-40]
{ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } اتفقوا على أن القريتين مكة والطائف، واختلفوا في القريتين قيل: الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود... ينكرون أن يبعث بشرا رسولا { عظيم } أي عظيم الشأن ممجدا في الدنيا بالمال والجاه { أهم يقسمون رحمة ربك } استفهام والمراد الإنكار، أي ليس اليهم قسمة الرحمة حتى يجعلوا النبوة إلى من يشاؤوا، ورحمة ربك أي رزقه ونعمته بين عباده دنيا ودينا { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا } يعني لم يرض قسمتهم أسباب الدنيا لأنهم لا يصلحون لها ومن لا يصلح لقسمة دنياه كيف يصلح لقسمة النبوة؟ فنحن قسمنا ذلك بينهم لحسب ما علمناه في صالحهم، فبعضهم غني وبعضهم فقير، وبعضهم مالك وبعضهم مملوك { ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات } في المال { ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } وهو تسخير الفقير للغني بماله واللام لام العاقبة، والمعنى ينتفع كل طبقة بالأخرى وكل واحد يحتاج إلى صاحبه من وجه ويتملك بعضهم فيتخذهم عبيدا { ورحمة ربك خير مما يجمعون } قيل: ثواب الآخرة والجنة خير مما يجمعون من أموال الدنيا لأنها باقية { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } أي جماعة واحدة كلهم على طلب الدنيا واختاروها على العقبى، وقيل: كلهم كفار عن ابن عباس، وإنما لم يفعل ذلك لكونه مفسدة { لجعلنا لمن يكفر بالرحمان لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج } قيل: درجات { عليها يظهرون } { ولبيوتهم أبوابا } من فضة { وسررا عليها يتكئون وزخرفا } قيل: هو الذهب، وقيل: الفرش { وإن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا } أي لو جعل ذلك لكان متاع الحياة الدنيا يتمتع بها قليلا ثم تزول، وهو معنى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء "
{ والآخرة عند ربك للمتقين } أي الثواب والجنة التي هي دائمة باقية { ومن يعش عن ذكر الرحمان } قيل: يعرض، وقيل: يعمى، قال أبو علي: هذا مجاز شبهت بالعمى لما لم يبصروا الحق، وقيل: العشق النير في الظلم، واختلفوا في الذكر قيل: الايمان والدلالة، وقيل: القرآن { نقيض له شيطانا فهو له قرين } يعني من يعرض عن ذكر الله نخلي بينه وبين الشيطان فيصير قرينه، وقيل: يقرنه في الآخرة ليذهب به إلى النار كما أن المؤمن يصير قرينه في الآخرة ملك يذهب به إلى الجنة، وقيل: هو قرينه في الدنيا يوسوس له ويزين له سوء عمله ويقرن به في الآخرة { وإنهم } يعني الشياطين { ليصدونهم عن السبيل } أي يصرفون هؤلاء الكفار عن طريق الحق { ويحسبون أنهم مهتدون } { حتى إذا جاءنا } يعني جاء عرصة القيامة التي لا حكم إلا لله فيها { قال } يعني الكافر الذي هو تابع للشيطان: { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } قيل: المشرق والمغرب فغلب أحدهما على الآخر، والمعنى يا ليت بينك وبيني من البعد ما بين المشرق والمغرب، وهي كلمة دالة على الندم { فبئس القرين } في الدنيا حيث أظللتني، وقيل: في النار { ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون } لأن حقكم إنكم تشتركوا أنتم وشركاؤكم في العذاب كما كنتم مشتركون في الدنيا { أفأنت تسمع الصم أو تهدي العمي } يعني من لا يبصر الحق بمنزلة الأعمى والأصم لأنهم لا يتفكرون ولا ينظرون ولا يسمعون { ومن كان في ضلال مبين } ظاهر لأنه لا يهتدي ولا يقبل.
[43.41-50]
{ فإما نذهبن بك } نميتك { فإنا منهم منتقمون } أي نعاقبهم على فعلهم { أو نرينك الذي وعدناهم } قيل: هو القتل والأسر { فإنا } على هلاكهم { مقتدرون } { فاستمسك بالذي أوحي إليك } من القرآن والشرائع { إنك على صراط مستقيم } طريق واضح { وإنه } يعني القرآن { لذكر لك ولقومك } تذكرون به أمر دينكم قيل: أمر ووعظ أذكركم به وهو مكة تجمع أمتك { وسوف تسألون } عما تفعلون من قبوله والعمل به ومن الاعراض عنه { واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا } والسؤال مجاز عن النظر به أديانهم هل جاءت بعبادة الأوثان قط في ملة من الملل، وقيل: معنى مثل أمم من أرسلنا وهم أهل الكتابين التوراة والانجيل، وعن الفرا: إنما يخبرونه عن كتب الرسل فإذا سألهم فكأنهم سئلوا، قيل: الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمراد إقامة الحجة على غيره { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } بالحجج والمعجزات { إلى فرعون وملئه } أي إلى الجماعة من قومه { فقال إني رسول رب العالمين } { فلما جاءهم بآياتنا } أي أظهر معجزات لهم وهو اليد والعصا { إذا هم منها يضحكون } استهزاء واستخفافا { وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها } قيل: هي أعجب في أبصارهم من التي مضى قبلها { وأخذناهم بالعذاب } قيل: بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم { لعلهم يرجعون } إلى الحق { وقالوا } يعني قوم فرعون حين رأوا العذاب شملهم وأيقنوا أن فرعون لا يقدر على كشف ما رجعوا إلى موسى متطوعين { وقالوا يا أيها الساحر } قيل: كان الساحر عندهم العالم ولم يكن صفة ذم عن أبي علي، وقيل: قالوا له ذلك لجهلهم، وقيل: استهزاء، والأصح أنهم أرادوا تعظيمه لأنهم جاؤوا متضرعين { ادع لنا ربك بما عهد عندك } أي أخبرك إذا آمنا كشف عنا العذاب { إننا لمهتدون } نؤمن بما تدعونا إليه { فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم ينكثون } عهودهم مصرين على الكفر.
[43.51-60]
{ ونادى فرعون في قومه } يعني أمر بالنداء في مجامعهم وأماكنهم من نادى فيها بذلك حين رأى من موسى أنه يظهر ويعلو خاف على مملكته فخطب الناس بعدما اجتمعوا وأظهر التفاضل بينه وبين موسى فقال: { أليس لي ملك مصر } وأراد البسطة في المال والملك { وهذه الأنهار تجري من تحتي } قيل: أنهار النيل ومعظمها نهر الملك ونهر دمياط ونهر طولون، من تحتي: من جانبي، وقيل: من حولي، وقيل: كان النيل يجري تحت قصره وبين يديه { أفلا تبصرون } لحالي وحاله { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين } يعني أنا خير من موسى وهو مهين، وقيل: أنا خير أم هو وهو مهين ضعيف حقير، وقيل: فقير { ولا يكاد يبين } يفصح بكلامه، قيل: كان في لسانه ثقل، وقيل: كان في لسانه لثغة فرفعها وبقي ثقل في لسانه { فلولا ألقي عليه أسورة } لأنهم كانوا إذا أرادوا تسوير الرجل سوروه بسوار وطوقوه بطوق { من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين } قيل: متابعين، وقيل: مجتمعين يشهدون له بالرسالة { فاستخف قومه } يعني القبط واتباعه، وقيل: يخافونه إن اتبعوا موسى { فأطاعوه } قبلوا منه { إنهم كانوا قوما فاسقين } خارجين عن طاعة الله تعالى { فلما آسفونا } أغضبونا والله تعالى يغضب على العصاة ويرضى على المطيعين لانتقمنا منهم { فأغرقناهم أجمعين } لم ينج منهم أحد { فجعلناهم سلفا } أي جعلناهم قدوة { للآخرين } من الكفار يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم، وقيل: سلفا يعتبر بهم ومثلا وعبرة وموعظة للآخرين لمن جاء بعدهم، وقيل: لأمته (صلى الله عليه وآله وسلم) { ولما ضرب ابن مريم مثلا } يعني عيسى، واختلفوا في ضرب المثل قيل: ضرب الله مثل عيسى بأنه خلقه من غير أب، وقيل: أن قوما من الكفار ضربوا المسيح مثلا لآلهتهم فقالوا: نحن نعبد هؤلاء الأوثان كما عبدت النصارى المسيح وسهلوا بذلك عبادة الأوثان على أنفسهم، وقيل: لما مدح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عيسى وأمه وأنه تعالى خلقه من غير أب قالوا: أن محمد يريد أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى، وقيل: أراد مناظرة عبد الله بن الزبعري مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند نزول قوله:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
[الأنبياء: 98] الآية قال ابن الزبعري: المسيح يكون في النار { إذا قومك منه يصدون } يعرضون، وقيل: صدوا سرورا لهم عبدوا الأوثان عبدت النصارى عيسى، والذي ذكره الهادي (عليه السلام) في تفسيره أنه قال: روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال لعلي (عليه السلام) ذات يوم:
" يا علي لولا أن تقول فيك طوائف من أمتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك مقالا لا تمر بملأ من الناس إلا أخذوا من تراب نعليك غير أنه يكفيك أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي "
، فقال المنافقون لما سمعوا ذلك: ما رضي محمد إلا أن يضرب لابن عمه مثلا الا عيسى ابن مريم فقالوا: والله لآلهتنا خير منه، يعنوا عليا، فأنزل الله ذلك فيهم وإنما ذكروا ذلك { جدلا } طلبا لنعت روى ذلك الهادي (عليه السلام) { بل هم قوم خصمون } بالباطل { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه } بالحق من غير أب وبالنبوة { وجعلناه مثلا لبني إسرائيل } أي عظة وحجة أتى بالمعجزات كإبراء الأكمه والأبرص { ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون } قيل : تكون خلفاء، يعني أهلكناهم وجعلنا الملائكة سكان الأرض يعبدون الله، وقيل: يخلف بعضهم بعضا.
[43.61-71]
{ وإنه لعلم للساعة } وقرئ شاذ لعلم، يعني نزوله علم للساعة، وقيل: القرآن دليل القيامة لأنه آخر الكتب، وقيل: إذا نزل المسيح وقع التكليف، وقيل: الدجال ويخرب البيع والكنائس، فإن قيل: بماذا يأمر عند نزوله بشريعته أم بشريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: فيه ثلاثة أقوال: الأول أنه لا يأمر إلا بشريعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والثاني لا يأمر إلا بشريعته، والثالث أنه يبقي نفسه على شريعته ويأمر بشريعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { فلا تمترن بها واتبعون } في عبادة الله { هذا صراط مستقيم } { ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين } هي العداوة { ولما جاء عيسى بالبينات } يعني بالمعجزات الدالة على نبوته { قال قد جئتكم بالحكمة } { ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه } أي أظهر الحق من الباطل { فاتقوا الله } أي اتقوا معاصيه { وأطيعون } فيما أوحي إلي { إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم } طريق واضح { فاختلف الأحزاب } أي الجماعات { من بينهم } قيل: اختلف اليهود والنصارى في أمر عيسى فزعمت النصارى أنه إله وزعمت اليهود أنه من غير رشدة، وقيل: هو اختلاف النصارى بينهم بعضهم قالوا: إله، وبعضهم قالوا: ابنه، وبعضهم قالوا: ثالث ثلاثة { فويل للذين ظلموا } لمخالفتهم من هؤلاء الأحزاب { من عذاب يوم أليم } { هل ينظرون } هؤلاء الكفار ما ينظرون بعد ورود الرسول والقرآن { إلا الساعة } أي القيامة { أن تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون } لا يعلمون وقت قيامها { الأخلاء يومئذ } المتواصلين في معصية الله يوم القيامة { بعضهم لبعض عدو } لأنها كانت موافقة على شيء يورث سوء العاقبة { إلا المتقين } الأخلة المتصادقين في الله فإنها الخلة الباقية، وقيل: إلا المتقين المجتنبين خلة السوء، وقيل: نزلت في أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وقيل: المتقين المتحابين في الله وفي طاعته، وقيل: إذا مات المؤمن بشر بالجنة فيذكر صاحبه فيجمع بينهما في الجنة وإذا مات الكافر وجمع بينه وبين قرينه في النار { يا عباد } أي ويقال لهم يا عبادي { لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون } { الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين } منقادين لله مطيعين { ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم } قيل: نساؤهم التي كانت لهم في الدنيا، وقيل: الحور العين عن أبي علي والقاضي { تحبرون } تنعمون، وقيل: تكرمون { يطاف عليهم } يعني الوصائف والوصفاء والحور يطوفون عليهم { بصحاف من ذهب وأكواب } أباريق { وفيها } أي وفي الجنة { ما تشتهيه الأنفس } من أنواع النعم { وتلذ الأعين وأنتم فيها خالدون } دائمون.
[43.72-85]
{ وتلك الجنة التي أورثتموها } أعطيتموها، وقيل: ورث الله منازل الذين لم يؤمنوا الذين آمنوا { بما كنتم تعملون } أي جزاء على أعمالكم { لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون } لما تقدم ذكر ما وعد المتقين عقبه بوعيد المجرمين على عادته في الجمع بين الوعد والوعيد فقال سبحانه: { إن المجرمين } المذنبين { في عذاب جهنم خالدون } دائمون { لا يفتر عنهم } أي لا يخفف عنهم { وهم فيه مبلسون } أي آيسون من الفرج { وما ظلمناهم } أي ما عاقبناهم ظلما بغير ذنب { ولكن كانوا هم الظالمين ونادوا يا مالك } يعني المجرمين الذين هم في النار { يا مالك } هو خازن النار { ليقض علينا ربك } ليحكم علينا ربك بالثواب نستريح من العذاب، وهذا منهم على وجه التمني والاستغاثة وإلا فهم علموا ضرورة أنه تعالى لا يجيبهم إلى ذلك ف { قال إنكم ماكثون } ، قيل: أجابهم بعد ألف سنة { لقد جئناكم } قيل: هذا من كلام مالك، وقيل: بل هو من كلام الله تعالى { ولكن أكثركم للحق كارهون } قيل: تركوا وقلدوا كبارهم فكرهوا الحق { أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون } قيل: أجمعوا على التكذيب فإنا مجمعون على الجزاء، وقيل: التعذيب، وقيل: أم احكموا أمرا في المخالفة فإنا محكمون على حفظه أمرا في الجزاء، وقيل: أم أبرموا أمرا في الكيد برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { فإنا مبرمون } على حفظه وعصمته ومنعهم منه وفعل ذلك بهم يوم بدر { أم يحسبون } يظنون { أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى } نسمع ذلك ونعلمه { ورسلنا } يعني الحفظة { لديهم يكتبون } عليهم أعمالهم { قل إن كان للرحمان ولد فأنا أول العابدين } قيل: معناه ما كان للرحمان ولد، وقيل: أنا أول الآبقين من اتخاذ رب له ولد، وقيل: أنا أول الآبقين من عبادة الرحمان إن كان له ولد لاستحالة أن يكون له ولد، وقيل: أول الآبقين من هذا القول المكذبين له، وقيل: إن كان للرحمان ولد في زعمكم فأنا أول العابدين لله، أي الموحدين له المنكرين لقولكم، وقيل: إن كان للرحمان ولد بزعمكم فأنا أول العابدين أنه واحد لا ولد له، ثم نزه نفسه فقال سبحانه: { سبحان رب السماوات والأرض رب العرش } أي خالق العرش هذه الأشياء ومالكها { عما يصفون } به كذبا عليه { فذرهم يخوضوا ويلعبوا } فذرهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم { حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون } يوم القيامة { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } أي تعبده الملائكة في السماوات وفي الأرض المؤمنون { وهو الحكيم العليم } بمصالح العباد { وتبارك } الثابت الباقي لم يزل ولا يزول ولا يزال { الذي له ملك السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون } إلى حكمه والموضع الذي يختص بالأمر وإلا لحكم.
[43.86-89]
{ ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق } قيل: لا يملك الأوثان الشفاعة ولكن من شهد بالحق وهم عيسى وعزير والملائكة { ولئن سألتهم من خلقهم ليقولون الله فأنى يؤفكون } ، قيل: لئن سألت هؤلاء المشركين من خلقهم اعترفوا بالله أنه خلقهم فكيف صرفوا عن عبادته وهو خالقهم إلى عبادة غيره { وقيله يا رب } قرأ عاصم وحمزة بكسر اللام والهاء في قيله قيل: معناه، وقيل: محمد أي وقوله شاكيا إلى ربه من قومه: { إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } ، وقيل: قيله منكرا عليهم { إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } ، وقيل: قيله عيسى أي اذكر قيل عيسى وشكايته عن قومه إنهم لا يؤمنون عن أبي علي، قال جار الله: إن هؤلاء قوم لا يؤمنون جواب لقسم كأنه قيل: وأقسم بقيله يا رب، أو قيله يا رب قسم { إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } والضمير في قيله لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) واقسام الله بقيله وقع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه { فاصفح عنهم } وأعرض عن دعوتهم يائسا عن إيمانهم، وقيل: اعرض عنهم ولا تجازيهم إنما عليك البلاغ وهذا وعيد، وقيل: منسوخ بآية السيف، { وقيل سلام } أي ما يسلم به من شرهم وأذاهم { فسوف يعلمون } وعيد من الله وتسلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
[44 - سورة الدخان]
[44.1-5]
{ حم } قد بينا ما قالوا فيه قيل: أقسم بالكتاب وهو القرآن وسورة حم، وقيل: برب الكتاب ومنزله عن أبي علي { المبين } لأنه بين مصالح المخلوقين وما يحتاجون اليه في الدين { إنا أنزلناه } يعني القرآن { في ليلة مباركة } هي ليلة القدر، وقيل: ليلة النصف من شعبان ولها أربعة أسماء: الليلة المباركة، وليلة البراءة، وليلة الصك، وليلة الرحمة، وقيل: بينها وبين ليلة القدر أربعون ليلة لأن الله يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة، وقيل: هي مختصة بخمس خصال تفريق { كل أمر حكيم } وفضيلة العبادة فيها قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من صلى هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله اليه مائة ملك، ثلاثون يبشرونه بالجنة، وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، وعشر تصد عنه مكائد الشيطان "
ونزول الرحمة، قال (عليه السلام): " أن الله يرحم من أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أنعام بني كلب " وحصول المغفرة، قال (عليه السلام): " ان الله يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن أو لساحر أو مدمن خمر أو عاق لوالديه أو قاطع رحم " ، وقيل: ليلة النصف من شعبان، وقيل: أنزل القرآن إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم أنزل نجوما على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: ابتدأ بانزاله في ليلة القدر { مباركة } لأن الله يقسم فيها رحمته بين العباد من السنة إلى السنة ويعفو ويقسم الرزق { إنا كنا منذرين } مخوفين لهم أن عصوا بالعقاب فيها في هذه الليلة { يفرق } ويقضي { كل أمر حكيم } قيل: مبرم فيها كل أحد وعمل ورزق وما يكون في تلك السنة { من عندنا } يعني الفصل يكون بأمرنا { إنا كنا مرسلين } بذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: مرسلين الأنبياء إلى الخلق، وقيل: مرسلين الملائكة إلى الأنبياء.
[44.6-18]
{ رحمة من ربك } أنزلناه رحمة، وقيل: أرسلناه رحمة { إنه هو السميع العليم } لما يقوله المحق والمبطل { رب السماوات والأرض وما بينهما } يعني خالقهما ومالكهما { إن كنتم موقنين } إن الله ربكم ومحمد رسول الله { لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الأولين } أي خالق الجميع { بل هم } يعني الكفار { في شك يلعبون } في أحوال الدنيا والقرآن إذا قرئ عليهم { فارتقب } انتظر هؤلاء ومجازاتهم { يوم تأتي السماء بدخان مبين } اختلفوا في الدخان فعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) وبه أخذ الحسن: " أنه دخان يأتي من السماء " ، قيل: يوم القيامة يدخل في اسماع الكفرة ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام وتكون الأرض كلها كتيت أوقد فيه، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أول الآيات الدخان يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة "
، وقيل: أن قريشا لما استعصت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا عليهم وقال:
" اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف "
فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهن وكان الرجل منهم يرى بين السماء والأرض الدخان، وكان يحدث الرجل الرجل يسمع كلامه ولا يراه من الدخان، فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه وناشده الله والرحم، وواعده إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا فلما كشف عنهم رجعوا إلى الشرك، بدخان مبين ظاهر حاله لا يشك أحد في أنه دخان، وقيل: إن هذا الدخان يوم القيامة أو يكون من علامات الساعة لأنه تعالى أخبر أن دخان يأتيهم وهو عذاب وفي سنين القحط ما كان هناك دخان { يغشى الناس } يشملهم ويلبسهم { هذا عذاب أليم } { ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون } قيل: ان أبا سفيان تضرع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى دعا فكشف الله ذلك { أنى لهم الذكرى } حين لا تنفعهم التوبة في الآخرة بعد زوال التكليف وأبعد على الدنيا فمعنى لا يتذكرون ولا يتعظون { ثم تولوا عنه } أعرضوا عنه { وقالوا معلم مجنون } أي يعلمه غيره من أهل الكتاب ووصفوه بالجنون وهو زوال العقل على اعتقاد أن الجن تخالط وتزيل العقل كما يعتقده العوام { إنا كاشفو العذاب قليلا إنكم عائدون } في العذاب، وقيل: في الضلال فمن ذهب إلى أن الدخان في القيامة قال عائدون في العذاب، ومن ذهب إلى أنه في الدنيا مع بقاء التكليف قال عائدون إلى الشرك { يوم نبطش البطشة الكبرى } أي نأخذ الأخذ الأعظم، قيل: هو يوم القيامة، وقيل: هو يوم بدر، قال في الحاكم: والوجه الأول { إنا منتقمون } أي نعذبهم جزاء أعمالهم { ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون } أي عاملناهم معاملة المختبر، وقيل: عذبناهم، قيل: قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { وجاءهم رسول كريم } يعني موسى، ومعنى كريم أي شريف { أن أدوا إلي عباد الله } أي قال لهم موسى: أدوا إلي عباد الله أي ادفعوا إلي عباد الله وهم بنو إسرائيل { ولا تعذبهم } ، وقيل: أدوا إلي عباد الله ما آمركم به، أي أسلموا { إني لكم رسول أمين } أي أنصحكم.
[44.19-36]
{ وأن لا تعلوا على الله } قيل: لا تكبروا على الله بترك طاعته، وقيل: لا تعلوا على أولياء الله بالبغي عليهم، وقيل: لا تكبروا على الله { إني آتيكم بسلطان مبين } بحجة ظاهرة، قيل: العصا واليد { وإني عذت بربي وربكم } أي اعتصمت بربي وربكم { أن ترجمون } قيل: بالحجارة، وقيل: بالشتم بالقول، فقالوا: ساحر كذاب { وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون } يعني جئتكم برسالة من ربكم فإن لم تصدقوني فاعتزلون خلوا سبيلي ولا تقبلون ولا تستمعون { فدعا ربه } يعني موسى لما أيس منهم فقال: { أن هؤلاء قوم مجرمون } مصرون على كفرهم فأوجبت، وأوحى الله إليه أن { أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون } يتبعكم فرعون وقومه { واترك البحر رهوا } إذا قطعته أنت وأصحابك قيل: ساكنا كما كان، والرهو الساكن، وقيل: المفتوح المنكشف، وقيل: إن قوما سألوه ألا يترك البحر مفتوحا لئلا يدخل فرعون فأمره الله أن يتركه كما هو: { إنهم جند مغرقون } { كم تركوا من جنات وعيون } جارية، يعني فرعون وقومه { وزروع ومقام كريم } قيل: مجلس شريف، وقيل: مقام الملوك، وقيل: المنازل الحسنة، وقيل: المنابر، وقيل: المقام المزخرف بالزينة { ونعمة } أي عطية وسرور { كانوا فيها فاكهين } لاعمين ناعمين { كذلك } كان الأمر فيهم، وقيل: كذلك فعلنا بهم ونفعل بأمثالهم { وأورثناها قوما آخرين } أي أعطيناها بني إسرائيل { فما بكت عليهم السماء والأرض } فيه أقوال: قيل: أهل السماء وأهل الأرض، قال الحسن وأبو علي: ما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون بل كانوا بهلاكهم فرحين، وقيل: لو كانت السماء والأرض مما يبكيا على أحد لم يبك عليهم ما يبك على المؤمن إذا مات من مصلاه ومصعد عمله، وفي حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ما من مؤمن مات في خير عمله غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض "
{ ولقد نجينا } أي خلصنا { بني إسرائيل من العذاب المهين } وهو ما نالهم { من فرعون } من الأعمال الشاقة { إنه كان عاليا } أي متكبرا { من المسرفين } مجاوز للحد { ولقد اخترناهم على علم على العالمين } أي وأنا عالم بحالهم، وقوله: على العالمين أي على عالمي زمانهم { وآتيناهم من الآيات } من الحجج من فلق البحر والجراد { ما فيه بلاء مبين } نعمة ظاهرة لأن الله تعالى يبلو بالنعمة كما يبلو بالمعصية وهو ما فعل لهم من المن والسلوى والغمام وفلق البحر، وقيل: الابتلاء بالشدة والرخاء، وقيل: الآيات المعجزات وفيه نعمة على الأنبياء وعلى قومهم { إن هؤلاء ليقولون } هم المشركون أهل مكة والعرب { إن هي إلا موتتنا الأولى } يعني نموت ثم لا بعث ولا نشور { فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين }.
[44.37-59]
{ أهم خير } يعني مشركو مكة خير أعز وأمنع وأكثر مالا وعددا { أم قوم تبع } الحميري كان مؤمنا وقومه كافرون، ولذلك ذم الله قومه ولم يذمه، وهو الذي سار بالجيوش أو خير الخيرة وبنى سمرقند، وقيل: هدمها، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم "
وعنه:
" ما أدري كان تبعا نبيا أو غير نبي "
، وهو الذي كسى البيت، وقيل: لملوك اليمن التبابعة لأنهم يتبعون، وإنما ذكر تبعا لأنهم عرفوا أخباره لانتشاره وقرب زمانه ومكانه منهم، وكان في مكة والمدينة والطائف، وأجرى أنهارا، وأبر نارا، وفتح بلادا { والذين من قبلهم } من الأمم الماضية { أهلكناهم } لما كفروا { إنهم كانوا } قوما { مجرمين } مذنبين { وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين } غائبين، يعني لم يكن الجزاء مع التخلية في الدنيا لكان ذلك عبثا { ما خلقناهما إلا بالحق } قيل: إلا بغرض صحيح وهو أن يطيعوه فيستحقوا الثواب، وقيل: إلا لداعي الحكمة { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن الغرض الذي لأجله خلقنا الانسان { إن يوم الفصل } يوم القيامة وفيه يفصل بين الخلق أمورهم { ميقاتهم أجمعين } يعني وقتهم الذي أمهلهم إليه { يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا } أي لا يدفع صديق عن صديق، ولا ابن عم عن ابن عم، ولا ولي عن وليه من العذاب الذي نزل به { ولا هم ينصرون } أي ولا ينصرهم أحد { إلا من رحم الله } من المؤمنين، أي أنعم عليهم فإنه يشفع، وقيل: لا يشفع أحد إلا من رحم الله وأذن له بالشفاعة { إنه هو العزيز } القادر الذي لا يمتنع عليه شيء { الرحيم } بعباده، قيل: نزل قوله: { إن شجرة الزقوم } { طعام الأثيم } في أبي جهل وكان يقول: ما بين لابتيها أعز وأكرم مني، فيقال له يوم القيامة توبيخا: ذق إنك أنت العزيز الكريم كما زعمت، وروي أن أبا جهل دعا بتمر وزبد وقال: زقموا فإن هذا الذي يخوفكم به محمد { إن شجرة الزقوم } { طعام الأثيم } وهو الفاجر، وهي شجرة تأخذهم بحلوقهم وتحرق أجوافهم { كالمهل } وهو ما أذيب بالنار { يغلي في البطون } { كغلي الحميم } الماء الحار { خذوه } ، يقال: { خذوه فاعتلوه } بشره وعنف وجروه إلى { الجحيم } ، وقيل: ادفعوه { إلى سواء الجحيم } أي وسط النار { ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم } الماء الحار يقال له حميم { ذق إنك أنت العزيز الكريم } الذي دعيت بالعزة والكرم، وقيل: العزيز في قومك الكريم فيهم، وقيل: هو على النقيض كأنه قال: أنت الذليل المهين ، إلا أنه قيل: ذلك على وجه الاستخفاف به { إن هذا ما كنتم به تمترون } أي يقال لهم: إن هذا ما كنتم به تشكون، ثم عطف الوعيد بذكر ما أعد للمتقين فقال سبحانه وتعالى: { إن المتقين } الذي اتقوا معاصي الله { في مقام } في موضع إقامة { أمين } قيل: أمنوا العذاب وأمنوا زوال النعمة { في جنات } بساتين فيها أشجار { وعيون } أنهار جارية { يلبسون من سندس واستبرق } نوعان من الحرير، وقيل: السندس الحرير والاستبرق الديباج الغليظ { متقابلين } أي يقابل بعضهم بعضا { كذلك } قيل: كذلك فعلنا بهم، وقيل: كذلك على تلك الحالة { وزوجناهم بحور عين } وهي النساء النقيات البياض، وقيل: الحور البيض والعين واسعة العين، وقيل: يحتار فيهن الطرف لبياضهن { يدعون فيها بكل فاكهة } اسهرا لها { آمنين } من نفادها، وقيل: آمنين من الموت { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } إلا بمعنى سوى، وقيل: بمعنى لكن الموتة الأولى وإنما استثنى لأنهم به أخبر بذلك في الدنيا فيصح الاستثناء فيه عن القاضي { ووقاهم عذاب الجحيم } { فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم } الظفر العظيم، ومتى قيل: إذا كان مستحقا فكيف يكون فضلا؟ قالوا: سبب الاستحقاق هو التكليف والتمكين وهو تفضل منه، وقيل: لأنه خلق وأنعم فاستحق أن يعبد ويشكر وإذا جازى على الفعل كان فضلا، وقيل: لأنه أعطى المستحق وزاد، أعطى على القليل كثيرا { فإنما يسرناه بلسانك } أي مهلناه، وقيل: جعلناه بالعربية ليسهل عليك { لعلهم يتذكرون } ما فيه من الأمر والنهي والوعد والوعيد { فارتقب إنهم مرتقبون } أي ارتقب للمجازاة وإنهم مرتقبون، وقيل: انتظر بهم عذاب الله فإنهم ينتظرون بك الدوائر.
[45 - سورة الجاثية]
[45.1-10]
{ حم } قد بينا ما قالوا فيه، وأن بعضهم قال: اسم السورة، وبعضهم قال إشارة إلى أن القرآن معجز، وبعضهم قال: إشارة إلى حدوث القرآن، وبعضهم قال: هي مفاتيح أسماء الله تعالى { تنزيل الكتاب } أي أنزله الله في كتابه { العزيز الحكيم } أي إنزاله دليل على مدبر صانع قادر عالم حي سميع، قال الحسن: مسافة كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، وكنافة كل أرض مسيرة خمس مائة عام { وفي خلقكم } أي في خلق البشر من كونه نطفة في الرحم ونقلها من حال إلى حال { وما يبث من دابة } أي فرق من الحيوانات وفي الأرض من أنواع مختلفة وصور متفرقة { آيات لقوم يوقنون } يصدقون { واختلاف الليل والنهار } أي أحدهما يجيء خلف الآخر، وقيل: اختلاف حالهما من زيادة ونقصان { وما أنزل الله من السماء من رزق } أي سبب الرزق وهو المطر { فأحيا به الأرض بعد موتها } أي أحياها بالنبات { آيات لقوم يعقلون } ذلك ويتدبرون فيه { تلك آيات الله } ذكره آيات الله { نتلوها عليك بالحق } أي بالصدق { فبأي حديث بعد الله } أي بعد حديث الله وهو القرآن { وآياته يؤمنون } أي إن لم يؤمنوا بحديث الله وآياته مع انه أصدق القائلين فبأي حديث يؤمنون؟ والفرق بين الحديث الذي هو القرآن وبين الآيات أن الحديث قصص واخبار بين الحق والباطل، والآيات الدالة بين الصحيح من الفاسد { ويل } ، قيل: كلمة وعيد وأد سائل من صديد جهنم { لكل أفاك أثيم } كذاب مذنب { يسمع آيات الله } يعني القرآن { تتلى عليه ثم يصر مستكبرا } يعني لا يؤمن بها بل يصر على كفره { كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليم } وجيع { وإذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا } يستهزئ بها فيزداد ضلالا { أولئك لهم عذاب مهين } ثم فسره فقال سبحانه: { من ورائهم جهنم } عبر بلفظ الجمع ومرة بلفظ الواحد لأنه أراد الجنس، والمعنى بين أيديهم جهنم يصيرون إليها { ولا يغني عنهم } ولا يكفي في المنع من عظم عذاب الله { ما كسبوا شيئا } من أموالهم { ولا ما اتخذوا من دون الله أولياء } ، قيل: الأوثان، وقيل: الرؤساء وعلماء السوء { ولهم عذاب عظيم }.
[45.11-20]
{ هذا هدى } القرآن دلالة على الدين { والذين } كذبوا بآيات الله { لهم عذاب من رجز أليم } { الله الذي سخر لكم } أي لمصالحكم ومنافعكم { ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } في الدلالة { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } الآية نزلت في عمر بن الخطاب وذلك أن رجلا من غفار شتمه فهم عمر أن يبطش به فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمر بالعفو عنه، يعني يتركوا مجازاتهم على الأذى لهم، وقيل: هو وعيد لهم كما يقال: دعني وفلانا لا يرجون أيام الله، قيل: لا يرجون آياته نعمه وثوابه في الآخرة، وقيل: لا يخافون عقابه ونقمته { ليجزي قوما بما كانوا يكسبون } { من عمل صالحا فلنفسه } أي منافعه { ومن أساء فعليها } أي من عمل معصية فعليها أي وبالها عليه { ثم إلى ربكم ترجعون } إلى الموضع الذي يحكم فيه بين عباده { ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب } يعني التوراة، قيل: كتب الأنبياء من بني إسرائيل { والحكم } ، قيل: العلم بالدين، والحكم قيل: الفصل في الأمور بين الناس { والنبوة } فبعث منهم أنبياء { ورزقناهم من الطيبات } أي أعطيناهم من أنواع الطيبات، وقيل: المراد به المن والسلوى { وفضلناهم على العالمين } ، قيل: على عالمي زمانهم { وآتيناهم بينات من الأمر } أحكام التوراة { فما اختلفوا } في أمر دينهم { إلا من بعدما جاءهم العلم بغيا بينهم } طلبا للرئاسة وترك الانابة إلى الله تعالى { إن ربك يقضي بينهم } أي يحكم ويفصل { يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون } فيقضي بين المحق والمبطل { ثم جعلناك على شريعة من الأمر } أي طريقة وسنة من الأمر من الدين وهو الإسلام { فاتبعها } أي فاتبع الشريعة بأن تعمل { ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } أي الجهال { إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا } أي لا يدفعون عذابا إن نزل بك { وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض } ينصر بعضهم بعضا ويتولى بعضهم بعضا { والله ولي المتقين } أي ناصرهم { هذا } أي القرآن { بصائر للناس } أي معالم في الدين يبصرون به أمر دينهم { وهدى } بيان ودلالة { ورحمة } أي نعمة { لقوم يوقنون } خصهم لانتفاعهم به.
[45.21-26]
{ أم حسب الذين اجترحوا السيئات } الآية نزلت في نفر من قريش شيبة وعتبة والوليد بن المغيرة قالوا للمؤمنين: إن كان ما تقولون حقا لنفضلن عليكم في الآخرة كما فضلنا في الدنيا فنزلت أي عملوا المعاصي { أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون } أي يطلبون استواء حال المطيع والعاصي في الثواب بئس الحكم ذلك { وخلق الله السماوات والأرض بالحق } ، قيل: الحق الجزاء، وقيل: الحق الغرض صحيح حق { ولتجزى كل نفس بما كسبت } عملت { وهم لا يظلمون } { أفرأيت } يا محمد { من اتخذ إلهه هواه } ، قيل: دينه ما يهواه في أموره لا بحجة تقوى، وقيل: اتخذه معبودا هواه فيعبد ما يهوى دون ما دلت الدلالة على أن العبادة تحق له، وكانت العرب تعبد العزى وهو حجر أبيض وحسا من آلهته، وكانوا يعبدون الحجارة والذهب والفضة وإذا وجدوا شيئا أحسن من الأول رموه وكسروه وألقوه في بئر وعبدوا الثاني فأنزل الله: { أفرأيت من اتخذ آلهة هواه } ، وقيل: نزلت في الحارث بن قيس السهمي كان يعبد ما تهوى نفسه، وهو أحد المستهزئين { وأضله الله على علم } ، قيل: وجده الله ضالا على علم أنه يضل، وقيل: ظهور الضلال منه أي عالم بأنه ضال، وقيل: أضله عن ثوابه وجنته { وختم على سمعه وقلبه } ، قيل: وسم عليها الملائكة علامة، وقيل: خذله وخلاه على ما اختاره حتى استحكم عبادة السوء في قلبه، فلم يسمع الحق ولا يفهمه فكأنه مختوم على قلبه وعينه { وجعل على بصره غشاوة } أي غطاء، يعني يصير كأنه كذلك من حيث لا يبصر الحق تشبيها { فمن يهديه من بعد الله } أي إن لم يهتدي بهدى الله فمن يهديه سواه، وقيل: إذا لم يهده الله إلى الجنة فمن يهديه { أفلا تذكرون } يعني أفلا تتفكرون في هذا حتى تفهموه { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا } أي لا دار سوى هذه الدار { نموت ونحيا } أي نموت فيها ونحيى نحن من غير صانع قيل: هو على التقديم والتأخير، أي يموت بعضنا ويحيى بعضنا { وما يهلكنا إلا الدهر } أي ما يهلكنا إلا مرور الزمان وطول العمر { وما لهم بذلك من علم } أي ما يقولونه ليس كذلك عن حجة وعلم بل ظنا وتقليدا { إن هم إلا يظنون } { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات } واضحات { ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بأبآئنا إن كنتم صادقين } أي جيئوا بآبائنا الذين ماتوا إن كنتم صادقين في دعواكم { قل الله يحييكم ثم يميتكم } ثم يحييكم في الدنيا ثم يميتكم فيها { ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه } أي لا شك { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } الله حق معرفته حتى يعلمون صحة البعث، وقيل: لا يعلمون من الباطل.
[45.27-37]
{ ولله ملك السماوات والأرض } ملكا وخلقا وتدبيرا { ويوم تقوم الساعة } القيامة { يومئذ يخسر المبطلون } وإنما كان خاسرا لأنه يدخل النار فيهلك نفسه، وقيل: المبطل خاسر في الأحوال كلها ولكن يظهر الخسران يوم القيامة { وترى كل أمة جاثية } ، قيل: الملل المختلفة، وقيل: أرباب الملك والعصاة { كل أمة } من الأمم { تدعى إلى كتابها } ، قيل: الكتب التي فيها أعمالهم كتبها الحفظة، وقيل: كتابها المنزل على رسول الله ليسألوا ما عملوا به { اليوم تجزون ما كنتم تعملون } { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } ، قيل: ديوان الحفظة المعهود عليهم وفيه شهادة الملائكة، وأضاف النطق إلى الكتاب توسعا، وعن علي (عليه السلام): " إن لله ملائكة ينزلون في كل يوم يكتبون أعمال بني آدم " ، وقيل: يشهدوا عليكم بما عملتم بالحق من غير زيادة ولا نقصان { إنا كنا نستنسخ } ، قيل: نكتب، وقيل: نحفظ { ما كنتم تعملون } { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته } أي نعمته وهي الجنة { ذلك الفوز المبين } الواضح { وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم } يعني القرآن وسائر الأحكام تتلى عليكم { فاستكبرتم } عن سماعه { وكنتم قوما مجرمين وإذا قيل إن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها } أي لا شك فيها، أي لا شك في كونها { قلتم } أيها الكافرون { ما ندري } حديث القيامة أنه حق أن نظن إلا ظنا { وما نحن بمستيقنين } يعني لا نعلم نفسا أنها كائنة { وبدا لهم سيئات ما عملوا } ، قيل: أظهر أعمالهم القبيحة وكانوا ظنوها حسنة، وقيل: ظهر جزاء أعمالهم السيئة وكانوا يعدونها طاعة { وحاق بهم } ، قيل: حل بهم { ما كانوا به يستهزئون } من العذاب { وقيل اليوم ننساكم } نترككم في العذاب كما تركتم الايمان بيومكم هذا، وقيل: نترككم في العذاب بمنزلة المنسى { ومأواكم النار } منزلتكم ومقامكم هذا { وما لكم من ناصرين } ينجيكم من العذاب { ذلكم } يعني هذا العذاب الذي نزل بكم { بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا } أي استهزاء ولعبا { وغرتكم الحياة الدنيا } أي ملاذها وزينتها وأضاف الغرور إليها توسعا لأنها سبب الغرور { فاليوم لا يخرجون منها } أي العذاب { ولا هم يستعتبون } أي لا يقبل منهم العتبى وهو إعطاء الرضى { فلله الحمد } أي الشكر في إنعامه بالجزاء وتمييز المحسن من المسيء { رب السماوات ورب الأرض رب العالمين } يعني وحدوا الله الذي هو ربكم ورب كل شيء من السماوات والأرض والعالمين { وله الكبرياء } أي العظمة والعلو والرفعة، وقيل: أراد عظيم نعمته على أهل السماوات والأرض { وهو العزيز } القادر على ما يشاء لا يمتنع عليه شيء { الحكيم } في أفعاله فلا يعاب في شيء منها ولا يفعل إلا الحسن الجميل.
[46 - سورة الأحقاف]
[46.1-6]
{ حم } قد بينا ما فيه وأن بعضهم قال: اسم السورة، وبعضهم ذكر أنه إشارة إلى إعجاز القرآن، وبعضهم ذكر أنه إشارة إلى حدوثه، وبعضهم قال: إنها مفاتيح أسماء الله { تنزيل } يعني هذه السورة أو القرآن { تنزيل الكتاب } أنزله الله في كتابه { من الله العزيز } القادر على كل مقدور { الحكيم } في أفعاله العليم بكل شيء { ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق } أي خلقهما بالحكمة والغرض الصحيح وتقدير { وأجل مسمى } ينتهي إليه وهو يوم القيامة { والذين كفروا عما أنذروا معرضون } أي هو ذلك اليوم الذي لا بد لكل خلق من انتهائه إليه معرضون لا يؤمنون به ولا يهتمون بالاستعداد له { قل } يا محمد { أرأيتم ما تدعون من دون الله } أي تدعونه إلها { أروني ماذا خلقوا من الأرض } كما أن الله خلق جميع الأرض وابتدعها { أم لهم شرك في السماوات } يعني ليس لهم شرك في خلقهما ولا إمساكها { ائتوني بكتاب } فيه حجة لكم { من قبل هذا } الكتاب وهو القرآن، يعني أن هذا الكتاب ناطق بالتوحيد وإبطال الشريك، وما من كتاب أنزله من قبله من كتب الله إلا وهو ناطق بمثل ذلك، وأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحة ما أنتم عليه من عبادة غير الله { أو أثارة من علم } بقية من علم بقيت عليكم من علوم الأولين { إن كنتم صادقين } فيما تزعمونه { ومن أضل ممن يدعو من دون الله } أي لا أحد أضل عن طريق الرشد ممن يدعو من دون الله { من لا يستجيب له } إذا دعاه لأنه جماد وهي الأوثان { إلى يوم القيامة } وإذا قامت القيامة { وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا } عليهم ضدا، لا يتولاهم في الدنيا بالاستجابة وفي الآخرة يعاديهم، ويجحد عبادتهم حين أنطقها الله، ويجوز أن يريد كل معبود من دون الله من الجن والإنس والأوثان.
[46.7-10]
{ وإذا تتلى عليهم } على هؤلاء الكفار { آياتنا } قيل: آيات القرآن { بينات } واضحات ظاهرات { قال الذين كفروا للحق } وسائر الحجج { لما جاءهم هذا سحر مبين } { أم يقولون افتراه } واختلقه من عنده كذبا { قل إن افتريته } يعني كذبت في هذا القرآن أنه منزل { فلا تملكون لي من الله شيئا } أي لا تقدرون على دفع ما يريد الله بي { هو أعلم بما تفيضون فيه } أي تتحاورون به بينكم وتخوضون فيه { كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور } لذنوب التائبين { الرحيم } بعباده قيل: يخوضون في أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وتكذيبه، وقيل: في القرآن غفور لم يعاجلهم بل انظرهم، رحيم يقبل توبتهم { قل } يا محمد { ما كنت بدعا من الرسل } أي ما أنا بأول رسول، يعني إذا لم أكن بأول رسول وقد خلت من قبلي الرسل فلم تنكروني؟ قال جار لله: ما كنت بدعا من الرسل فآتيكم بكل ما تقترحونه وأخبركم بكل ما تسألون عنه، وإن الرسل لم يكونوا يأتون إلا ما آتاهم الله من آياته ولا يخبرون إلا بما أوحي إليهم، ولقد أجاب موسى فرعون في قوله تعالى:
قال فما بال القرون الأولى
[طه: 51]، قال:
علمها عند ربي
[الأعراف: 187] { وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } ، وقيل: معناه لا أدعي علم غيب ولا معرفة ما يفعل بي ولا بكم من إحياء ولا إماتة والنعمة والجدب إلا أن يوحى إلي في ذلك شيء فاتبعه، وقيل: من صحة ومرض وغنى وفقر، وقيل: في أمر الهجرة أي لا أدري أترك ها هنا أو أؤمر بالهجرة إلى موضع آخر، وقيل: لما اشتد البلاء بأصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رأى فيما يرى النائم وهو بمكة.....، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه: " رأيت كذا وكذا فلا أدري ما يكون ذلك؟ " ، فنزلت الآية، وقيل: لا أدري فيما لم يوح إلي فأعلم { إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين } { قل } يا محمد { أرأيتم إن كان من عند الله } يعني القرآن { وكفرتم به } ألستم ظالمين { وشهد شاهد من بني إسرائيل } هو عبد الله بن سلام
" لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة نظر إلى وجهه فعلم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر وقال: إني اسألك عن ثلاث لا تظهر إلا لنبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ والولد يفزع إلى أبيه أو إلى أمه؟ فقال (عليه السلام): " أما أول أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزائدة كبد حوت، وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل نزعه وإن سبق ماء المرأة نزعته " ثم قال: أشهد أنك رسول الله حقا، فقال: يا رسول الله ان اليهود قوم بهت وأنه إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عني بهتوني عندك، فجاءت اليهود فقال رسول الله: " أي رجل عبد الله فيكم؟ " ، فقالوا: حبرنا وابن حبرنا وسيدنا وابن سيدنا، فقال: " أرأيتم ان أسلم عبد الله؟ " ، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج إليهم عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، قالوا: شرنا وابن شرنا، فقال: هذا ما كنت يا رسول الله أخاف وأحذر "
، قال سعد بن أبي وقاص، ما سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمشي على الأرض انه من أهل الجنة إلا عبد الله بن سلام، وفيه نزلت: { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } الضمير للقرآن أي على مثله في المعنى وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة لمعاني القرآن من التوحيد والوعد والوعيد وغير ذلك، ويدل عليه قوله تعالى:
وإنه لفي زبر الأولين
[الشعراء: 196]
إن هذا لفي الصحف الأولى
[الأعلى: 18] { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } ، قيل: إلى الجنة، وقيل: إلى زيادة الألطاف.
[46.11-16]
{ وقال الذين كفروا } الآية نزلت في اليهود قالوا: { لو كان } دين محمد { خيرا ما سبقونا إليه } يعنون الفقراء مثل عمار وصهيب وابن مسعود { وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم } متقادم يعنون أساطير الأولين { ومن قبله } أي من قبل القرآن ونزوله { كتاب موسى } أنزله { إماما } يؤتم به في الدين ودلالة { ورحمة } أي نعمة إلى العباد { وهذا } يعني القرآن { كتاب مصدق } الآيات والكتب، وقيل: لأنه ورد موافقا لما فيها ولأنه يخبر بأنها حق { لسانا عربيا } أي بلغة العرب { لينذر } ليخوف { الذين ظلموا } بالعذاب { وبشرى للمحسنين } { إن الذين قالوا ربنا الله } أي خالقنا ومالكنا { ثم استقاموا } بما لزمهم عقلا وشرعا { فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون } { أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها } دائمين { جزاء بما كانوا يعملون } { ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا } أي أمرنا بالإحسان إليهما ثم بين ما لهم من الحق وذلك أقل الحمل، وقيل: نزلت في سعيد بن أبي وقاص { حتى إذا بلغ أشده } عن قتادة، ثلاث وثلاثين سنة وذلك أول الأشد وغايته إلى الأربعين، لم يبعث الله نبيا إلا بعد الأربعين { قال رب أوزعني } ، قيل: ألهمني، وقيل: معناه وفقني للعمل الصالح { أن اشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي } لأن النعمة على الآباء تكون نعمة على الأولاد { وأن اعمل صالحا ترضاه } أي لا أعمل من الطاعات إلا ما يرضاه { وأصلح لي في ذريتي } ، قيل: وفق لي ولذريتي العمل الصالح فيكون دعاؤه دعاء لأولاده، وقيل: ارزقني ذرية صالحة فيكون دعاؤه لنفسه { إني تبت إليك } أي رجعت إليك { وإني من المسلمين } المنقادين لله { أولئك الذين نتقبل عنهم } يعني من تقدم ذكره { أحسن ما عملوا } يعني جزاء أعمالهم وهو الطاعات { ونتجاوز عن سيئاتهم } ، قيل: هي الصغائر، وقيل: جميع ذنوبهم يغفرها بالتوبة { في أصحاب الجنة } أي مع أصحاب الجنة { وعد الصدق } لا خلف فيه { الذي كانوا يوعدون } على ألسنة الرسل.
[46.17-23]
{ والذي قال لوالديه أف } الآية نزلت في عبد الرحمان بن أبي بكر قبل إسلامه، وقيل: دعاه أبواه أبو بكر وأمه إلى الإسلام فأفف بهما وقالوا: بعثوا إلى جدعان بن عمر وعثمان بن عمر وهما من أجداده ومشايخ قريش حتى أسألهم عما يقول محمد، وأنكرت عائشة نزولها فيه، وقيل: هي في الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث، وعن قتادة هو نعت عبد سوء عاق بوالديه فأحد لربه والله أعلم، وقوله: { أف لكما } ، قيل: كلمة ضجر، وقيل: هي كلمة، تقال لكل من أتى أمرا قبيحا { أتعدانني أن أخرج } بعد الموت حيا وأبعث للجزاء { وقد خلت القرون من قبلي } أي مضت القرون من قبلي هلكوا فلم يبعث منهم أحد { وهما يستغيثان الله } أي يطلبان الغوث منه ويقولان: { ويلك آمن } ترحما { إن وعد الله حق } في البعث والجزاء فقال: { ما هذا إلا أساطير الأولين } يعني ما هذا إلا شيء كتبه الأولون { أولئك الذين حق عليهم القول } أي وجب عليهم الوعيد بالعذاب { في أمم قد خلت } أي مضت { من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين } لأنفسهم إذ أهلكوها بالمعاصي { ولكل درجات مما عملوا } أي منازل ومراتب من جزاء ما عملوا من خير وشر { وليوفيهم أعمالهم } أي جزاء أعمالهم من الثواب والعقاب { وهم لا يظلمون } أي لا ينقصون شيئا { ويوم يعرض الذين كفروا على النار } ليروا أهوالها فقال لهم توبيخا: { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } قيل: الطيبات القوة والشباب، وقيل: الأرزاق أنفقوها في شهواتهم. وقيل: الملاذ والملاهي ونعيم الدنيا، أي أذهبتم في المعاصي غافلين عن الآخرة لأنها باقية دون الدنيا فإنها فانية { واستمتعتم } انتفعتم بها معرضين عن ذكر البعث { فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق } أي يرفعون عن الإيمان { وبما كنتم تفسقون } تخرجون عن طاعة الله { واذكر } يا محمد { أخا عاد } يعني هودا وكان أخاهم نسبا والإنذار التخويف { قومه } وهم عاد وكانت العرب تعرف ديارهم { بالأحقاف } وهو ما بين عمان إلى حضرموت، وقيل: كانوا من أهل اليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشحر { وقد خلت } مضت { النذر } يعني الرسل المنذرين المخوفين { من بين يديه } أي من قبل هود ومن بعده، وروي أن في قراءة ابن مسعود من يعبده { ألا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم } إن فعلتم ذلك { عذاب يوم عظيم } ، قيل: عذاب الآخرة، وقيل: عذاب الاستئصال، وكان من جوابهم أن { قالوا } لهود: { أجئتنا لتأفكنا } لتصرفنا { عن آلهتنا } التي نعبدها { فأتنا بما تعدنا من العذاب إن كنت من الصادقين } في ذلك، يعني في العذاب، وقيل: في النبوة، وكان استعجالهم على وجه التكذيب { قال } هود { إنما العلم عند الله } أي هو يعلم وقته { وأبلغكم ما أرسلت به } إليكم يعني ليس علي إلا تبليغ الرسالة { ولكني أراكم قوما تجهلون } في استعجال العذاب.
[46.24-29]
{ فلما رأوه } الضمير يرجع إلى العذاب { عارضا } ، قيل: سحابا، وقيل: عذابا، ساق الله اليهم سحابة سوداء وكان حبس عنهم المطر فلما رأوها { مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا } استبشروا وقالوا: هذا غيث ممطرنا { بل هو ما استعجلتم به ريح } ، قيل: هو كلام هود، وقيل: هو كلام على سبيل الحكاية { تدمر كل شيء بأمر ربها } أي تهلك من نفر من عاد وأموالهم الجم الكثير { فأصبحوا لا يرى } الخطاب للرأي من كان، وقرئ لا يرى، وقيل: اقتلعت الريح كل شيء منتصب، وقيل: كانت ترفع الظعينة حتى ترى كأنها جرادة، وقيل: أول من أبصر العذاب امرأة منهم قالت: ريحا فيها كشهب، وروي أول ما عرفوا أنه عذاب أنهم رأوه ما كان في الصحراء من رجالهم ومواشيهم تطير بهم الريح بين السماء والأرض، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم فقلعت الريح الأبواب وصرعتهم، وأمال الله عليهم فكانوا تحتها سبع ليال وثمانية أيام، ثم كشف الريح عنهم فاحتملتهم فطرحتهم في البحر، وروي أن هودا لما أحس بالريح خط على نفسه وعلى المؤمنين خطا إلى عين تنبع، وعن ابن عباس: اعتزل هو ومن معه، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا رأى الريح فزع وقال:
" اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به "
فلما ذكر هلاك قوم عاد وعظ قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وحذرهم أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك فقال سبحانه: { ولقد مكناهم فيما ان مكناكم فيه } التخلية والإمهال، أي لم يعاجلهم، وقيل: وسعنا عليهم فيما إن مكناكم فيه كذلك مكناكم، وقيل: فيما لم نمكنكم فيه، وعن ابن عباس: يعني في طول الأعمار، وقوة الأبدان، وكثرة الأموال { وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة } يعني مع هذا التمكين أعطيناهم حواسا سليمة: أعينا يبصرون بها، وأذانا يسمعون بها، وقلوبا يتفكرون بها، لينتفعوا بهذه الحواس { فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء } أي لم تغن عنهم من عذابه لما نزل بهم { إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم } أي حل بهم { ما كانوا به يستهزئون } من الوعيد والعذاب { ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } خطاب لأهل مكة مثل عاد وثمود أو أرض سدوم { وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون } { فلولا نصرهم } أي هلا نصرهم عند نزول العذاب بهم { الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة } يعني الأصنام اتخذوها سبب يتقربون بها إلى الله على زعمهم { بل ضلوا عنهم } أي ذهبوا عن نصرهم { وذلك إفكهم وما كانوا يفترون } ، قيل: كذبهم الذي كانوا يقولون، ثم بين تعالى أن في الجن مؤمنا وكافرا كما في الإنس فقال سبحانه: { وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن } ، قيل: صرفهم اليه بالأمر، أمرهم يصيروا اليه، وقيل: صرفهم إليه بالألطاف، وقيل: صرفهم إليه بالشهب، فإنها لما كثرت في أيام الرسول وحرست السماء علم جماعة من الجن أنه لأمر عظيم فصرفوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لطلب العلم فكان الشهب لطفا للجن، قيل: كانوا سبعة نفر فجعلهم رسلا إلى قومهم، وقيل: تسعة، وقيل: من جن نصيبين من أشرافهم منهم زوبعة، فقربوا حتى بلغوا تهامة ثم اندفعوا إلى وادي نخلة، فرأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو قائم في جوف الليل يصلي أو في صلاة الفجر فاستمعوا لقراءته، وذلك عند منصرفه من الطائف حين خرج اليهم يستنصرهم فلم يجيبوه إلى طلبته وأغروا به سفهاؤهم، وقيل: بل
" أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينذر الجن ويقرأ عليهم، فصرف الله نفرا منهم جمعهم له فقال: " إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة فمن يتبعني؟ " قالها ثلاثا، فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) قال: لم يحضره ليلة الجن غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة في شعب الحجون فخط لي خطا وقال: لا تخرج حتى أعود إليك، ثم افتتح القراءة وسمعت صوتا شديدا حتى خفت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وغشيه أسودة كثيرة حالت حتى ما أسمع صوته ثم انقطعوا كقطع السحاب، فقال لي رسول الله: " رأيت شيئا؟ " قلت: نعم رجالا سودا بثياب بيض، فقال: " أولئك جن نصيبين وكانوا اثني عشر ألفا "
والسورة التي قرأها
إقرأ باسم ربك
[العلق: 1] { فلما حضروه } للقرآن قالوا: { انصتوا } اسكتوا مستمعين { فلما قضى } تم قراءته وفرغ { ولوا إلى قومهم منذرين }.
[46.30-35]
{ قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى } عن عطاء: إنهم كانوا على اليهودية، وعن ابن عباس: الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى فلذلك قالوا من بعد موسى { مصدقا لما بين يديه } من الكتب، يعني يصدق أنها حق { يهدي إلى الحق } يدل عليه { وإلى طريق مستقيم } ثم بين تمام خبر الجن فقال سبحانه حاكيا عنهم: { يا قومنا أجيبوا داعي الله } يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه يدعو إليه كما أن الكفار يدعون إلى الأوثان، وقيل: هو عام في كل من يدعو إلى توحيد الله وعدله وصدق وعده ووعيده { وآمنوا به } ، قيل: آمنوا بالله، وقيل: برسوله { يغفر لكم من ذنوبكم } ، وقيل: من للتبعيض فيغفر ما يتم عنه { ويجركم من عذاب أليم } ، قيل: استجاب لهم سبعون رجلا من الجن، وقوله تعالى: { ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض } أي لا يفوت على الله ولا يعجزه بالهرب { وليس له من دونه أولياء } أي من دون الله ناصر يدفع العذاب عنه { أولئك في ضلال مبين } أي ذهاب عن الحق ظاهر، ثم عاد إلى الرد على منكري البعث فقال سبحانه: { أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض }.... عرشي { ولم يعي بخلقهن } لم يعجز عنه، وقيل: لم يصبه كلال ولا إعياء ولا ضعف { بقادر على أن يحيي الموتى } بعد تفرق أجسادهم لأن اختراع الشيء أعظم من إعادته { بلى } جواب الاستفهام، إذا قيل: ألم تعلم ذلك؟ فيقول: به فاعلموا إنه قادر على ذلك، ثم عقبه بذكر الوعد فقال سبحانه: { ويوم يعرض الذين كفروا على النار } قيل: يعرض عليهم النار مع شدة أهوالها، وقيل: يدخلون النار، ثم يقال لهم توبيخا: { أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا } ، قيل: أنهم يعترفون في وقت لا ينفعهم، بل يقال لهم: { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } { فاصبر } يا محمد على أذاهم وأداء الرسالة { كما صبر أولو العزم من الرسل } ، قيل: من للتأكيد والبيان لا للتبعيض، جميع الرسل أولو العزم لأنهم عزموا على أداء الرسالة والصبر فيها وتحمل الشدائد وأداء ما أمروا به، وقيل: من للتبعيض، وأراد بعضهم قيل: هم المذكورون في سورة الأنعام، وقيل: الذين أمروا بالقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا وقاسوا قومهم كإبراهيم وموسى وعيسى، وقيل: اثني عشر من أنبياء بني إسرائيل منهم من قتل ومنهم من نشر بالمناشير، ومنهم من سلخ جلده، وقيل: أربعة موسى وعيسى ورابعهم محمد، وقيل: نوح صبر على أذى قومه كانوا يضربونه حتى يغشى عليه، وإبراهيم على النار وذبح ولده، وإسحاق على الذبح، ويعقوب على فقد ولده وذهاب بصره، ويوسف على الجب والسجن، وأيوب على الضر، وموسى، وداوود { ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ } يعني أن هؤلاء وإن امتد تقادمهم فعند رؤية العذاب لم يكن ذلك إلا قليلا كساعة من نهار، أي هذا { بلاغ } الذي وعظتم به كفاية في الموعظة { فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } الخارجون عن الاتعاظ به والعمل بموجبه.
[47 - سورة محمد]
[47.1-3]
قيل: نزل قوله: { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } في المطعمين ببدر وكانوا عشرة، وقيل: هو عام في جميع الكفار، وقيل: الذين كفروا أهل مكة والذين آمنوا الأنصار { الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } أعرضوا، وقيل: صدوا غيرهم عن دينه المؤدي إلى رضاه { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد } من القرآن والشرائع فلم يخالفوه في شيء { وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم } يعني كما أبطل أعمال الكفار كفر معاصي المؤمنين { وأصلح بالهم } ، قيل: حالهم، وقيل: شأنهم، أي أصلح حالهم في الدارين { ذلك بأن الذين كفروا } أي فعلنا لكل واحد من الفريقين لأجل فعلهم جزاء لهم، والكافرون { اتبعوا الباطل } قيل الشيطان، وقيل: هو كل باطل من قول وعمل { والذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم } وهو القرآن { كذلك يضرب الله للناس أمثالهم } أي يريد بضرب الأمثال بيانا ووضوحا، يعني أهل الحرب المصرين على الحرب لأن أهل الذمة لا يجوز قتالهم وقتلهم، وكذلك من جاء مسترشدا وتائبا لا يجوز قتله.
[47.4-14]
فإذا حاربتم الكفار { فضرب الرقاب } الأعناق وإنما عبر بذلك عن القتل لأنه لا يبقى حياة بعد ضرب الرقبة، وقيل: أمر بقتلهم من غير أسر ولا فداء { حتى إذا أثخنتموهم } أي قهرتموهم وعزرتموهم، وقيل: أكثرتم الجراح والقتل وقتلتم بعضهم وجرحتم البعض حتى ضعفوا { فشدوا الوثاق } يعني شدو وثاق الأسارى، فأمر تعالى بالقتل والأسر لكيلا يقوى الكفر، وقيل: أراد كيلا يهربوا { فإما منا بعد وإما فداء } أي إما منا منكم عليهم بالإطلاق بعد الأسر من عوض وأما فداءا يعوض، وقيل: المن بالإطلاق وبالإسلام لأن أسير العرب إذا أمن يطلق وأسير العجم إذا سلم يستعبد { حتى تضع الحرب أوزارها } أثقالها قيل: أراد أن تضع أهل الحرب سلاحها حتى تزول الحرب وهم المحاربون، أوزارها آثامها بأن يتوبوا من كفرهم ويؤمنوا بالله، أي أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يظهر الحق والإسلام على الأديان، وقيل: حتى ينقطع الحرب عند نزول عيسى فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة وهي آخر أيام التكليف، وقيل: حتى يعبد الله ولا يشرك به شيئا، وقيل: حتى لا يكون دين إلا الإسلام { ذلك } ، قيل: الأمر بالجهاد، وقيل: ما ذكرناه من أحكام الكفر { ولو يشاء الله لانتصر منهم } لأهلكهم { ولكن ليبلو بعضكم ببعض } لو كان الغرض زوال الكفر فقط لأهلكهم لكن الغرض استحقاق الثواب وذلك لا يحصل إلا بالبعيد { والذين قتلوا في سبيل الله } أي في الجهاد في دين الله، وقيل: قتلوا يوم أحد، وقاتلوا معناه جاهدوا، وقرئ بهما جميعا { فلن يضل أعمالهم } بل هي مقبولة يجازون عليها ثوابا { سيهديهم } الجنة وثوابها { ويصلح بالهم } أي حالهم في الدارين { ويدخلهم الجنة عرفها لهم } ، قيل: طيبها لهم، وقيل: بينها لهم وأعلمهم بوصفها، وقيل: عرفها لهم يوم القيامة حتى أنهم يعرفون منازلهم في الدنيا { يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } أي تنصروا دين الله ونبيه ينصركم { ويثبت أقدامكم } بالطاعة بتقوية قلوبكم، وقيل: ينصركم بالآخرة ويثبت أقدامكم عند الحساب وعلى الصراط، وقيل: ينصركم في الدنيا والآخرة ويثبت أقدامكم في الدارين { والذين كفروا فتعسا لهم } في الآخرة، وقيل: في الدارين، ومعنى تعسا بعدا، والتعس الانحطاط للعثار، وفي حديث عائشة: تعس مسطح، أي أتعسه الله، ومعناه انكب وعثر، وقيل: بعدا لهم { وأضل أعمالهم } قيل: انحط ثوابها { ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله } من القرآن { فأحبط أعمالهم } { أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم } أي أهلكهم ودمر منازلهم، { وللكافرين أمثالها } أي ولهؤلاء الكافرين أمثال ما تقدم من العناد للعدى { ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا } يتولى نصرهم وحفظهم { وإن الكافرين لا مولى لهم } أي لا ناصر يدفع العذاب عنهم { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار } أي من تحت أبنيتها وأشجارها { والذين كفروا يتمتعون } في هذه الدنيا وملاذها { ويأكلون كما تأكل الأنعام } وهم غافلون عن الآخرة { والنار مثوى لهم } أي منزل وموضع إقامة { وكأين من قرية } أي كم من قرية { هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك } أعظم من قوة أهل قريتك، وقوله: { التي أخرجتك } ألجأتك إلى الخروج لأنه خرج بنفسه { أفمن كان على بينة من ربه } يعني من كان على دينه وما يعتقده من التوحيد والعدل والشرائع، قيل: محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنون، { كمن زين له سوء عمله } ، قيل: زينه لنفسه، وقيل: زينه للشيطان، وقيل: زينه بعضهم لبعض { وسوء عمله } ما يدينون به من الكفر والمعاصي { واتبعوا أهواءهم } في ذلك معناه لا يستوي من يتبع الدليل ومن يتبع الهوى والآية عامة.
[47.15-19]
{ مثل الجنة } قيل: شبه الجنة، وقيل: صفة الجنة { التي وعد المتقون } أي........ لمن اتقى معاصيه، ثم بين تعالى صفة الجنة فقال سبحانه: { فيها أنهار } ، قيل: أراد بالأنهار المعروفة، وقيل: أراد بالأنهار هذه الأشياء { من ماء غير آسن } أي غير متغير { وأنهار من لبن لم يتغير طعمه } لأنه لم يخرج من ضرع { وأنهار من خمر لذة للشاربين } ، قيل: يبقى طيبها في الحلق أربعين سنة ولا يخامر العقل ولا يصدع ويلتذون بها لطيب طعمها { وأنهار من عسل مصفى } أي خالصا من كل شائب صمغ أو غيره { ولهم فيها من كل الثمرات } أي من أنواعها { ومغفرة من ربهم } لذنوبهم { كمن هو خالد في النار } ، قيل: فيه حذف، أي من كان في هذه الجنة كمن هو خالد في النار { وسقوا ماء حميما } حار { فقطع أمعاءهم } ، قيل: إذا قربوه من وجوههم شوى وجوههم وإذا شربوه قطع أمعاءهم { ومنهم من يستمع إليك } عبد الله بن أبي وأصحابه { حتى إذا خرجوا من عندك } يعني المنافقين { قالوا للذين أوتوا العلم } مثل عبد الله بن مسعود كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا خطب الناس يعيب المنافقين فإذا خرجوا قالوا لابن مسعود: { ماذا قال آنفا } ، وعن ابن عباس: أنا منهم وقد سألت فيمن سئل آنفا وهم المنافقون كانوا يحضرون مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسمعون كلامه ولا يعونه فإذا خرجوا قالوا لأولي العلم من أصحابه: ماذا قال الساعة؟ على جهة الاستهزاء، والذين أوتوا العلم الذين استمعوا القرآن وقبلوه وعملوا به { ماذا قال آنفا } يعني أي شيء كان يقول الرسول الساعة، وقيل: قالوا ذلك تبعيدا من الصواب وتحقيرا لقوله ولم يقل شيئا فيه فائدة: { أولئك الذين طبع الله على قلوبهم } أي وسمهم بسمة الكفار، وقيل: خلا بينهم وبين اختيارهم { واتبعوا أهواءهم } أي اتبعوا الهوى دون الدليل { والذين اهتدوا } يعني المؤمنين اهتدوا بما سمعوا { زادهم هدى } ، وقيل: زادهم الله، وقيل: زادهم قراءة القرآن، وقيل: استهزاء المنافقين زاد هؤلاء المؤمنين قيل: أدلة شرح بها صدورهم، وقيل: زادهم ألطافا، وقيل: زادهم استماع القرآن هدى { وآتاهم تقواهم } ، قيل: آتاهم ثواب تقواهم { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة } فجأة من غير أن يشعرون بها { فقد جاء أشراطها } ، قيل: علاماتها، مبعث محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم الأنبياء منها، وانشقاق القمر والدخان، وعن الكلبي: كثرة المال والتجارة، وشهادة الزور، وقطع الأرحام، وقلة الكرام، وكثرة اللئام، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" بادروا بالأعمال الصالحة قبل طلوع الشمس من مغربها "
، والدجال، والدخان، والدابة { فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم } يعني من أين لهم الذكرى والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة، والذكرى ما أمر الله به عباده أن يتذكروا به { فاعلم أنه لا إله إلا الله } الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: فاعلم أيها السامع { واستغفر لذنبك } ، وقيل: الخطاب لغيره، وقيل: ليبشر به أمته، وقيل: المراد به الانقطاع إلى الله تعالى { والله يعلم متقلبكم ومثواكم } ، قيل: متقلبكم في الأصلاب إلى الأرحام ومثواكم مقامكم في الأرض، وقيل: متقلبكم منصرفكم في الدنيا ومثواكم مصيركم إلى الجنة أو إلى النار عن ابن عباس: وقيل: متقلبكم منصرفكم في النهار ومثواكم مضجعكم بالليل، يعني لا يخفى عليه شيء من أحوالكم.
[47.20-25]
{ ويقول الذين آمنوا } حرصا على الجهاد { لولا نزلت سورة } بالجهاد { محكمة } بالأمر والنهي قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي ملحمة محكمة وهي أشد القرآن على المنافقين { وذكر فيها القتال } أي أمروا به { رأيت } يا محمد { الذين في قلوبهم مرض } أي شك وكفر يعني المنافقين { ينظرون إليك } من الخوف والجبن { نظر المغشي عليه } وهو نظر شزر بتحديق شديد مخافة القتال كنظر المغشي عليه { من الموت } كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت { فأولى لهم } وعيد، يعني فويل لهم، ومعناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه { طاعة وقول معروف } كلام مستأنف أي طاعة وقول خير لكم، وقيل: هي حكاية قولهم أي قالوا: طاعة وقول معروف، وقيل: طاعة وقول معروف أمثل لهم وأولى بالحق { فإذا عزم الأمر } أي جد العزم والعزم الجد لأصحاب الأمر { فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم } فيما زعموا من الحرص على الجهاد، أو فلو صدقوا في إيمانهم وأطاعت قلوبهم فيه ألسنتهم لكان خيرا لهم { فهل عسيتم إن توليتم } الآية نزلت في بني أمية وبني هاشم وهو ترك القبول، يعني أمرتم بالطاعة فأعرضتم عنها، وقيل: هو من الولاية، والمعنى هل تقدرون إذا أمرتم بالطاعة وأعرضتم { أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم } يعني هل تقدرون أنكم تتمكنون في الأرض فتفسدوا بالقتل والأسر وتقطعوا أرحامكم لمحاربة أقاربكم من المسلمين فآيسهم الله تعالى مما قدروا، وقيل: معناه لعلكم إن أعرضتم عن القرآن أن تفسدوا في الأرض وتعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية وفي قراءة علي بن أبي طالب (عليه السلام) { توليتم } أي تولاكم ولاة غشمة خرجتم معهم ومشيتم تحت لوائهم وفسدتم بإفسادهم، وقرئ وتقطعوا من التقطيع والتقطع { أولئك } إشارة إلى المذكورين { لعنهم الله } لإفسادهم تقطعهم أرحامهم { فأصمهم وأعمى أبصارهم } أي لا يعون ما يسمعون، ولا ينظرون ما به يعتبرون فهم بمنزلة الأصم والأعمى { أفلا يتدبرون القرآن } ويتفكرون فيه في أوامره ونواهيه { أم على قلوب أقفالها } وأم بمعنى بل، يعني أن قلوبهم مقفلة لا يوصل إليها ذكر { إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعدما تبين لهم الهدى } أي تركوا الإسلام بعدما تبين لهم طريق الحق، قيل: أهل الكتاب، وقيل: هم المنافقون والله أعلم { الشيطان سول لهم وأملى لهم } ، قيل: زين لهم أفعالهم ما وافق هواهم، وقوله: أملى لهم، قيل: أوهمهم طول العمر مع الأمن من المكاره، وأبعد لهم في الأمل والأمنية.
[47.26-35]
{ ذلك } إشارة إلى التسويل من الشيطان، يعني إنما يمكن الشيطان منهم وقبلوا منه لما في قلوبهم من الكيد والخيانة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولولا ذلك ما قبلوا { بأنهم } يعني المنافقين والكفار أهل الكتاب، وقيل: الذين اهتدوا { قالوا للذين كفروا ما نزل الله } وهم المشركون { سنطيعكم في بعض الأمر } يعني مخالفة محمد والقعود عن الجهاد { والله يعلم إسرارهم } أي يعلم ما يخفون في ضمائرهم { فكيف إذا توفتهم الملائكة } أي يقبضون أرواحهم عند الموت { يضربون وجوههم وأدبارهم } عقوبة لهم وفضيحة { ذلك } أي ما تقدم ذكره من العذاب بما نالهم { بأنهم اتبعوا ما أسخط الله } من الكفر والفسق { وكرهوا رضوانه } وهو الايمان والطاعة { فاحبط أعمالهم } قيل: أبطل ما عملوا في كيد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمسلمين وأظهره عليهم، وقيل: أحبط ثواب أعمالهم التي هي محاسن عقلية نحو فك الأسارى وصلة الرحم وقرى الضيف { أم حسب } ظن { الذين في قلوبهم مرض } ونفاق { أن لن يخرج الله أضغانهم } أي أحقادهم وبغضهم للنبي والمؤمنين { ولو نشاء لأريناكهم } لأعلمناكهم { فلعرفتهم بسيماهم } بعلاماتهم ووصفهم، وروى أنس قال: ما خفي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين شكوهم الناس، فناموا ليلة فأصبحوا وعلى وجه كل واحد منهم هذا منافق { ولتعرفنهم في لحن القول } أي فيما يظهر في مجاري كلامهم، وقيل: لحن القول في المعاذير الكاذبة { والله يعلم أعمالكم } أي لا ينفعكم كتمانه فإنه تعالى يعلمه ويجازي عليه { ولنبلونكم } نعاملكم معاملة المختبر بالأمر والنهي { حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين } ، قيل: يعلم البالي، وقيل: يعامله معاملة من يطلب العلم، وقيل: حتى يميز المعلوم يعني المجاهد والمخلص من غيره، وذكره العلم وأراد المعلوم لأن الاختبار يريد ليعلم المعلوم { ونبلو أخباركم } ، قيل: نبين أخباركم وأعمالكم، وقيل: نجازيكم عليها { ان الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } ، قيل: أعرضوا عن دينه والآية نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا عشرة { وشاقوا الرسول } عصوه { من بعدما تبين لهم الهدى } أنصح لهم الحق بالأدلة، وقيل: هم المنافقون آمنوا ثم كفروا، وقيل: هم أهل الكتاب، وقيل: علماء السوء ورؤساء الضلال { لن يضروا الله شيئا } بكفرهم فإن وبال عنادهم يعود عليهم { وسيحبط أعمالهم } التي قدروها طاعة وليست كذلك { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } فيما أمركم { ولا تبطلوا أعمالكم } بالمعاصي، وقيل: بالعجب والرياء، وقيل: بالكبائر { إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار } أصروا على الكفر { فلن يغفر الله لهم } ثم عاد الكلام إلى الجهاد فقال سبحانه: { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم } قيل: لا تضعفوا وتملوا لقاء العدو، وقوله: { وتدعوا إلى السلم } إلى الصلح والمسالمة { وأنتم الأعلون } أي القاهرون والغالبون إشارة إلى أن الغلبة للمؤمن في الدنيا والثواب في الآخرة { والله معكم } أي ناصركم { ولن يتركم أعمالكم } ، قيل: لا ينقصكم أجوركم بل يثيبكم عليها ويزيدكم من فضله.
[47.36-38]
{ إنما الحياة الدنيا لعب ولهو } ، قيل: أراد التشبيه كاللعب واللهو هو سرعة الانقطاع { وأن تؤمنوا بالله وتتقوا يؤتكم } يعطكم ربكم { أجوركم } أي ثواب حسناتكم { ولا يسألكم أموالكم } أي لا يسألكم جميعها إنما يقبض منكم ربع العشر، وقيل: لا يسألكم الرسول على أداء الرسالة أجرا أموالا تعطونه، وقيل: لا يسألكم أموالكم وإنما يسأل أموال الله المفروضة في أموالكم { إن يسألكموها } كناية عن الله أو عن الرسول { فيحفكم } أي يلح عليكم ويلحف، وقيل: الإحفاء أن يأخذ جميع ما في يده { تبخلوا } بذلك وتمنعوا الواجب { ويخرج أضغانكم } وحقدكم وعدوانكم، وقيل: يخرج الله تعالى إلى المشقة التي في قلوبكم { ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله } أي دعاكم الله والرسول لتنفقوا بعض أموالكم في سبيل الله ووعدكم الثواب الجزيل { فمنكم من يبخل } مع الايمان بالله ويمنع الواجب من النفقة، يعني إذا كان المؤمن يبخل فكيف من لا يؤمن { ومن يبخل } يمنع الواجب { فإنما يبخل عن نفسه } لأنه يحرمها مثوبة عظيمة ويلزمها عقوبة دائمة { والله الغني } عن صدقاتكم { وأنتم الفقراء } المحتاجون إلى ثوابه والفقراء إلى الجزاء { وإن تتولوا } وتعرضوا عن الحق وما لزمكم من الانفاق { يستبدل قوما غيركم } يعني أنه تعالى يأتي بقوم غيركم بدلا منكم { ثم لا يكونوا أمثالكم } في الطاعة بل يكونوا خيرا منكم خلقا سواكم راغبين في الإيمان والتقوى، وقيل: هم الملائكة، وقيل: الأنصار، وعن ابن عباس والنخعي وعن الحسن: العجم،
" وسئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن القوم وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه فقال: " هذا وقومه " وقال: " والذي نفسي بيده لو كان الايمان منوط بالثريا لتناوله رجال من فارس ".
[48 - سورة الفتح]
[48.1-3]
{ إنا فتحنا لك } يا محمد { فتحا مبينا } بينا لك في الفتح والنصر أي ظاهر قيل: هو فتح مكة عن جماعة من المفسرين منهم أبو علي قال نزل بعد رجوعه من الحديبية كان بشر في ذلك الوقت بفتح مكة، والحديبية اسم بدر، والفتح الظفر بالبلد عنوة أو صلحا بحرب أو بغير حرب، وقيل: هو فتح الحديبية، ولم يكن فيه قتال شديد ولكن ترام بين القوم بسهام وحجارة، عن ابن عباس (رضي الله عنه): رموا المشركين حتى أدخلوهم ديارهم، قال الشعبي: نزلت بالحديبية يوم بيعة الرضوان وظهرت الروم على فارس وبلغ الهدي محله، وقيل: هو فتح خيبر { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } ، قيل: تقدم قبل النبوة وما تأخر عنها، وقيل: هو على التقدير أي لو كان لك كل ذنب لغفرناه { ويتم نعمته عليك } بالنبوة والعلم، وقيل: في الدنيا بإظهارك على عدوك وفي الآخرة برفع محلك { ويهديك صراطا مستقيما } قيل: يدلك على الطريق المستقيم بألطافه { وينصرك الله نصرا عزيزا } أي عاليا.
[48.4-9]
{ هو الذي أنزل السكينة } الطمأنينة وقوة القلب وزوال الرعب، وقيل: قوى قلوبهم بالوعد والوعيد { ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم } ، قيل: ليزدادوا مع النصرة في الدين طاعة، وقيل: يقينا مع يقينهم، وعن ابن عباس: أول ما أتاهم به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التوحيد، فلما آمنوا به وحده أنزل الصلاة والزكاة ثم الحج ثم الجهاد، فازدادوا إيمانا إلى إيمانهم { ولله جنود السماوات والأرض } من الملائكة والمؤمنين قيل: أنصار دينه ينتقم به من أعدائه، وهم أهل التوحيد والعدل، كما أن المحبرة جنود الشيطان ينفون الشرعية ويضيفون إلى الله تعالى، والثاني المجاهد بالسيف لاعزاز دينه وإعلاء كلمته وهم الأنبياء أهل التوحيد والعدل لأنهم يجاهدون بالسيف ليتركوا الكفر ويؤمنوا بالله ويدينون دين الله ليدينون به وبعث أنبيائه بالدعاء إليه، فأما أهل الحبر إذا قالوا إن الكفر خلق الله فيهم وارادته ثم يحاربون في إزالته ولا يرضون به فهم يحاربون الله حيث لم يرضوا بما خلق { وكان الله عليما } بالأشياء { حكيما } يفعل ما هو الصلاح { ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار } روي أنها لما نزلت:
إنا فتحنا
[الفتح: 1] الآية قال رجل: هنالك قد بين الله لنا يا رسول الله ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله: { ليدخل المؤمنين والمؤمنات } الآية { وكان ذلك عند الله فوزا عظيما } { ويعذب الله المنافقين والمنافقات } الذين أبطنوا الكفر { والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء } ، قيل: ظنهم أن الله لا ينصر نبيه والمؤمنين، وقيل: ظنهم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا، أي لا يرجعوا من الحديبية سالمين { عليهم دائرة السوء } ، قيل: هو دعاء عليهم بالهلاك، وقيل: ما يظنونه ويتربصون به بالمؤمنين فهو كائن بهم دائر عليهم، والسوء الهلاك والدمار { وغضب الله عليهم } إرادة عقوبتهم { ولعنهم } أبعدهم { وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا } أي بئس المرجع { ولله جنود السماوات والأرض } من الملائكة والمؤمنين { وكان الله عزيزا حكيما } { إنا أرسلناك } يا محمد { شاهدا } على أمتك كقوله:
ويكون الرسول عليكم شهيدا
[البقرة: 143] { ومبشرا } للمطيعين بالجنة { ونذيرا } للعاصين من النار { لتؤمنوا بالله } أي جعلنا لطفا لتؤمنوا بالله { ورسوله وتعزروه } ، قيل: تعظموه، وقيل: تنصروه { وتوقروه } تعظموه { وتسبحوه } قبل الوقف على قوله: { وتوقروه } وقد تم، ثم يبتدئ: { وتسبحوه } أي تنزهوا الله سبحانه، وقيل: هو عبارة عن الدوام عن ابن كثير وأبو عمرو: لتؤمنوا وتعزروه وتوقروه وتسبحوه في الأربعة بالتاء كناية عن المؤمنين، قال جار الله: الضمائر لله عز وجل، والمراد تعزير الله دينه ورسوله، ومن فرق الضمائر فقد أبعد، وعن ابن عباس: صلاة العصر والظهر.
[48.10-17]
{ إن الذين يبايعونك } الآية نزلت في أهل الحديبية، قال جابر: كنا أهل الحديبية ألفا وأربع مائة بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا نفر، فما نكث أحد منا البيعة إلا جد بن قيس، فكان منافقا اختبأ تحت ابط بعيره { يد الله فوق أيديهم } أي يد رسول الله التي تعلو يدي المنافقين هي يد الله، والله تعالى منزها عن الجوارح وعن صفات الأجسام وإنما المعنى تقدير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما كقوله: { من يطع الرسول فقد أطاع الله } والمراد بيعة الرضوان { فمن نكث فإنما ينكث على نفسه } أي يرجع وبال ذلك النكث عليه { ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما } { سيقول لك المخلفون من الأعراب } ، قيل: نزلت الآية في غفار وجهينة وأشجع وأسلم والذين تخلفوا عن الحديبية، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أشعر الأعراب حول المدينة لما أرادوا الخروج إلى مكة معتمرا حذرا من قريش، وأحرم وساق الهدي ليعلموا أنه لا يريد حربا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب واعتلوا بالشغل فنزلت الآية، وقيل: نزلت في المتخلفين عن غزوة تبوك لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبية اعتذروا بالمعاذير الكاذبة { شغلتنا أموالنا وأهلونا } يعني اشتغلنا بأمرهما وخفنا الضياع عليهما لو خرجنا معك { فاستغفر لنا } أي اطلب لنا المغفرة من الله فرد الله عليهم أنهم قالوا: { بألسنتهم ما ليس في قلوبهم } من العذر وطلب الاستغفار { قل } يا محمد { فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا } قيل: أراد خير الدنيا ونفعها { بل كان الله بما تعملون خبيرا } أي عالما بأعمالكم { بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا } قيل: أنهم ظنوا أنهم لا يرجعون من سفرهم لأن العدو يستأصلهم والله أعلم { وزين ذلك في قلوبكم } قيل: زينه الشيطان، وقيل: زينه بعضهم لبعض { وكنتم قوما بورا } هالكين { ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا اعتدنا للكافرين سعيرا } { ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء } بشرط التوبة والايمان { ويعذب من يشاء } بترك الايمان والطاعة والإصرار على الكبائر { وكان الله غفورا رحيما } { سيقول المخلفون } ، قيل: عن الحديبية، وقيل: عن تبوك { إذا انطلقتم إلى مغانم } خيبر على أنه في شأن الحديبية، وقيل: غنائم مطلقة إذا ان المسلمين غالبون غانمون { لتأخذوها } أي تلك الغنائم { يريدون أن يبدلوا كلام الله } قيل: ما وعد الله أهل الحديبية أن الغنيمة [غنيمة خ] خيبر لهم خاصة، وقيل: النفير كقوله:
لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا
[التوبة: 83] عن الحسن وأبي علي فإذا خرجوا كان ذلك نبذا لكلام الله تعالى: { كذلكم قال الله من قبل } أنكم لا تخرجون معنا { فسيقولون بل تحسدوننا } أن نصيب معكم من الغنائم { بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا } يعني قالوا ذلك لجهلهم ولما نهاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الخروج معه أمرهم بالخروج مع داع آخر فقال سبحانه: { قل } يا محمد { للمخلفين من الأعراب } قيل: من تبوك عن أبي علي، وقيل: عن الحديبية { ستدعون } اختلفوا في الداعي فقيل: هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: ان هذا لا يصح لما بينا من قوله:
لن تخرجوا معي أبدا
[التوبة: 83] وعن قتادة: أنهم ثقيف وهوازن وكان ذلك في أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعنى:
لن تخرجوا معي أبدا
[التوبة: 83] ما دمتم على ما أنتم عليه من مرض القلوب والاضطراب في الدين، أو على قول مجاهد: كان الوعد أنهم لا يتبعون رسول الله إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم، وقيل: الداعي أمير المؤمنين علي (عليه السلام) دعا إلى حرب معاوية وحرب أهل البغي { أولي بأس شديد } ، قيل هوازن وغطفان يوم حنين، وقيل: فارس والروم { تقاتلونهم أو يسلمون } يقرون بالاسلام ويقبلونه، وقيل: ينقادون لكم { فإن تطيعوا } هذا الداعي { يؤتكم الله أجرا حسنا } وهي الجنة { وأن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما } قال ابن عباس: لما نزل قوله: { قل للمخلفين } قال أهل الزمان: كيف بنا يا رسول الله؟ فنزلت: { ليس على الأعمى حرج } أي ضيق في التخلف عن الجهاد { ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } قال قتادة: هذا كله في الجهاد، وقيل: نزل قوله: { ليس على الأعمى حرج } في ابن أم مكتوم { ومن يطع الله ورسوله ندخله جنات تجري من تحتها الأنهار } أي تجري الأنهار تحت أشجارها وأبنيتها { ومن يتول يعذبه عذابا أليما }.
[48.18-20]
{ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة }
" وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين نزل الحديبية بعث جواس بن أمية المخزومي رسولا إلى أهل مكة، فهموا به فمنعه الأحابيش، فلما رجع دعا بعمر ليبعثه فقال: إني أخافهم على نفسي، فبعث عثمان بن عفان فخبرهم أنه لم يأت لحرب وإنما جاء زائرا لهذا البيت معظما لحرمته، فوقروه وقالوا: إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل، فقال: ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فأحبس عندهم فأوجف أنهم قتلوه، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لا نبرح حتى نناجز القوم " ودعا الناس الى البيعة فبايعوه تحت الشجرة وكانت سمرة، فبايعوه على الموت دونه وعلى أن لا يفروا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنتم اليوم خير أهل الأرض "
وكان عدد المبايعين ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين، وقيل: ألفا وأربع مائة، وقيل: ألفا وثلاثمائة، ثم أتى عثمان بالصلح فصالحهم وانصرف بعد أن نحر بالحديبية وحلق { فعلم ما في قلوبهم } من الإخلاص وصدق الضمائر فيما بايعوه عليه فأنزل الله السكينة أي الطمأنينة والأمر بسبب الصلح { وأثابهم فتحا قريبا } قيل: هو خيبر عند انصرافهم من مكة { ومغانم كثيرة يأخذونها } هي مغانم خيبر وكانت أيضا ذات عقار وأموال فقسمها عليهم، وقيل: هو فتح مكة { وعدكم الله مغانم كثيرة } يعني الفتوح إلى يوم القيامة فعجل لكم هذه قيل: خيبر، وقيل: هوازن، وقيل: هما { وكف أيدي الناس عنكم } يعني أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان حين جاؤوا لينصرونهم فقذف الله في قلوبهم الرعب، وقيل: أيدي أهل مكة بالصلح { ولتكون آية للمؤمنين } وغيرهم يعرفون بها أنهم من الله بمكان وانه نصرهم والفتح عليهم، وقيل: هزيمتكم وسلامتكم حجة للمؤمنين يعلمون أن الله ينصرهم ويحفظهم { ويهديكم صراطا مستقيما } أي يدلكم إلى الإسلام وهو الطريق المستقيم، وقيل: ليزيدكم نصرة بفتح خيبر فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) رجع عن الحديبية إلى المدينة وأقام بها بقية ذا الحجة وبعضا من محرم، ثم خرج إلى خيبر وفتح حصنا وصالح أهل فدك { وأخرى لم تقدروا عليها } أي وعدكم فتح بلاد أخرى، وقيل: وعدكم غنائم أخرى قيل: هو فارس والروم، عن ابن عباس والحسن: قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" بشرهم بكنوز كسرى وقيصر "
وقيل: هو يوم حنين انهزم أصحابه فأيدهم الله بالملائكة، وقيل: فتح مكة، وقيل: ما فتحوا بعد ذلك إلى يوم القيامة { قد أحاط الله بها } يعني إحاطة القدرة أي أنه قادر عليها { وكان الله على كل شيء قديرا }.
[48.21-26]
{ ولو قاتلكم الذين كفروا } قيل: مشركوا مكة يوم الحديبية، وقيل: صالحوا أسد وغطفان وحنين { لولوا الادبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا } { سنة الله } أي طريقته، وقيل: سنة الله أي نصره من أمره بالقتال من أنبيائه { التي قد خلت } مضت { من قبل } سنة نصر المؤمنين { ولن تجد لسنة الله تبديلا } { وهو الذي كف أيديهم } أي أهل مكة، أي قضى بينهم وبينكم بالمكافأة بعدما خولكم الظفر عليهم والغلبة وذلك يوم الفتح، وقيل: كان ذلك في الحديبية، لما روي أن عكرمة ابن أبي جهل خرج في خمسمائة، فبعث الرسول من هزمه وأدخله حيطان مكة، وعن ابن عباس: أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت، وقيل: كف أيديهم عن المؤمنين بالرعب وأيدي المؤمنين عنهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: أقبل النبي معتمرا فأخذ أصحابه ناسا منهم من أهل الحرم غافلين فأرسلهم فذلك الإظهار { ببطن مكة } { هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام } ودخوله وذلك يوم الحديبية { والهدي } وهو ما يهدى إلى الحرم، أي وصدوا الهدي { معكوفا } أي محبوسا { أن يبلغ محله } وكان سبعون بدنة ساقها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عام الحديبية وأشعرها، وأحرم بالحديبية ومنعه المشركون وكان الصلح، وكتب الصلح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سهيل بن عمرو وكتبها علي بن أبي طالب (عليه السلام) على وضع الحرب عشرين سنة، وعلى أن يخلو له مكة عام القابل ليعتمر وهي عمرة القضاء، فلما تم الصلح نحروا البدن ورجعوا إلى المدينة، ثم خرج إلى خيبر ودخل مكة في العام القابل في ذلك الشهر فنزل قوله:
الشهر الحرام بالشهر الحرام
[البقرة: 194] ثم بين تعالى المعنى وكف المؤمنين عن الكافرين فقال سبحانه: { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } يعني أن الضعفاء من المؤمنين الذين كانوا بمكة، وقيل: لولا كراهة أن يهلكوا رجالا مؤمنين وأنتم تعرفون { فتصيبكم منهم معرة } بإهلاكهم مكروه ومشقة لما كف أيديكم عنهم، وحذف جواب لولا لدلالة الكلام عليه، قال جار الله: فإن قلت: أي معرة تصيبهم إذا قتلوهم وهم لا يعلمون؟ قلت: تصيبهم وجوب الدية والكفارة وسوء قالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز { ليدخل الله في رحمته من يشاء } لأنه جعل ذلك لأجل هذا الغرض
ليدخل المؤمنين والمؤمنات
[الفتح: 5]، قيل: في الإسلام بلطفه من الكفار { لو تزيلوا } لو تميز الكفار من المؤمنين، وقيل: هم المؤمنون الذين في أصلاب الكفار لو تميزوا منهم { لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما } ، قيل: بالسيف، وقيل: بالنار { إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية } والمراد بحمية الذين كفروا وسكينة المؤمنين، والحمية الأنفة { فأنزل الله سكينته } السكينة الوقار،
" يروى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزل بالمدينة بعث قريش سهيل بن عمرو القرشي وخويطب بن عبد العزى أن يعرضوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرجع من عامه ذلك على أن يخلي له قريش في العام القابل ثلاثة أيام ففعل ذلك، فكتبوا كتابا فقال (عليه السلام) لعلي: " اكتب بسم الله الرحمان الرحيم " فقال سهيل وأصحابه: ما نعرف هذا ولكن اكتب باسمك اللهم، قال: " اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول لله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل مكة " فقالوا: لو كنا نعلم إنك رسول ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب ما صالح عليه محمد ابن عبد الله أهل مكة، فقال (عليه السلام): " اكتب ما يريدون فأنا أشهد أني رسول الله " فهم المسلمون يأبوا ذلك، فأنزل الله على رسوله السكينة فتوقروا "
و { كلمة التقوى } بسم الله الرحمان الرحيم ومحمد رسول الله قد اختارها الله لنبيه والذين معه أهل الخير، وقيل: هي كلمة الشهادة، وعن الحسن: هي التقوى.
[48.27-29]
{ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } وهي رؤيا رآها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند خروجه إلى الحديبية أنه دخل هو وأصحابه إلى المسجد، وأخبر بذلك أصحابه فاعتقدوا دخوله، وكان رسول الله لم يقل ندخلها هذه السنة فلما صدوا بين عليهم فبشرهم أنهم يدخلوه وحقق الله رؤياه، قال جار الله: فإن قلت: ما وجه دخول { إن شاء الله } في أخبار الله؟ قلت: فيه وجوه: أن يعلق عدته بالمشيئة تعليما لعباده أن يقولوا في عداتهم... { إن شاء الله } ولم يمت منكم أحدا، أو كان ذلك على لسان ملك فأدخل الملك { إن شاء الله } أو هي حكاية ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقص عليهم { فعلم ما لم تعلموا } من الحكمة والصواب في تأخير مكة إلى العام القابل { فجعل من دون ذلك } أي من دون مكة { فتحا قريبا } وهو فتح خيبر { هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } دين الاسلام { ليظهره } ليعلمه { على الدين كله } على جنس الدين كله، يريد الأديان المختلفة من أديان المشركين والجاحدين وأهل الكتاب، ولقد حقق ذلك سبحانه فإنك لا ترى دينا إلا والإسلام دونه العز والغلبة، وقيل: هو عند نزول عيسى حتى لا يبقى على وجه الأرض كافر، وقيل: هو إظهاره بالحجج والآيات { وكفى بالله شهيدا } على أن ما وعده كائن، عن الحسن: شهد على نفسه أنه سيظهر دينك { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار } أي غلاظ عليهم في قتالهم ومعاداتهم { رحماء بينهم } يعني يتعاطفون ويتوادون { تراهم ركعا سجدا } يعني يصلون { يبتغون فضلا من الله } ، قيل: يطلبون فضلا بأن يدخلهم الجنة { ورضوانا } أن يرضى عنهم { سيماهم في وجوههم } ، قيل: علاماتهم يوم القيامة، وقيل: علاماتهم في الدنيا { من أثر } الخشوع وعن عطاء وجد في هذه الآية من صلى الخمس، وقيل: صعره السهم وغض البصر { ذلك } يعني ما ذكرناه { مثلهم في التوراة } صفتهم في التوراة، قيل: تم الكلام ها هنا ثم ابتدأ { ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه } قيل: نبات، وقيل: سنبلة، وقيل: فراخه الذي يكثر ويقوى فأراد أنهم يكونوا كثيرا بعد القلة { فآزره } قواه وأعانه { فاستغلظ } أي صار غليظا { فاستوى على سوقه } أي قام على سوقه لقوته وصلابته { يعجب الزراع } لكماله وحسنه { ليغيظ بهم الكفار } الغيظ: الغم والأسف، وقيل: { شطأه } الداخلون في الاسلام إلى يوم القيامة، وقيل: مكتوب في الانجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وهذا مثل ضربه لبدء الاسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قام وحده ثم قواه الله بمن آمن معه كما يقوي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتف بها مما يتولد منها حتى { يعجب الزراع } ، وعن عكرمة: { أخرج شطأه } بأبي بكر { فآزره } بعمر { فاستغلظ } بعثمان { فاستوى على سوقه } بعلي (عليه السلام) وليس في الآية دليل على ذلك والله أعلم { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم } نبأتهم لتخصيصهم بالوعد دون غيرهم ويجوز أن يكون أراد من أقام ذلك منهم { مغفرة } لذنوبهم { وأجرا عظيما } ثوابا دائما.
[49 - سورة الحجرات]
[49.1-5]
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } اختلفوا في سبب نزولها فقيل: نزلت في الذبح يوم الأضحى وذلك أن ناسا ذبحوا قبل صلاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأمرهم أن يعيدوا الذبح، وقيل: نزلت في قوم صاموا قبل صوم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: نزلت في الشرائع والقتال، يعني لا تقضوا أمرا دونه، وقيل: نزلت في قوم كانوا يحضرون مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا سئل خاضوا فيه قبله وأفتوا، وقيل: هو عام { يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي } قيل: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وكان جوهري الصوت وفي أذنيه وقر فإذا كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رفع صوته لأن فيه أحد شيئين إما لأن فيه نوع استخفاف فهو كفر وإما سوء أدب وفيه خلاف التعظيم المأمور به، ومتى قيل: أليس ثابت لم يكفر ولم يفسق؟ قلنا: لم يقصد الاستخفاف: { ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم } كما يرفع بعضكم صوته على بعض، وقيل: خاطبوا بالتعظيم { أن تحبط أعمالكم } أي لئلا تحبط أعمالكم يعني إن فعلتم ذلك { إن الذين يغضون أصواتهم } ناسا من العرب إذا أتوه يناجونه يا محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل: نزلت في قوم رفعوا أصواتهم في القراءة خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي يخفونها ولا يجهرون بها جهرا عظيما كذلك مع الأئمة والعلماء { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } فوجدها خالصة، وقيل: امتحنهم ليظهر ما فيها من التقوى { لهم مغفرة } لذنوبهم { وأجر عظيم } { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون }
" روى جابر بن عبد الله أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عمن نزلت فيه هذه الآية فقال: " نزلت في بني تميم "
في وفد فيهم الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن وقيس بن عاصم جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنادوه يا محمد أخرج إلينا نفاخرك فإن مدحنا زين وإن ذمنا شين، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأجابهم نثرا، وأمر حسان فأجابهم نظما، فارتفعت الأصوات فنزلت الآية: { أكثرهم لا يعقلون } يعني جهال { ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم } أنفع وأسلم من الآثام، وقيل: أقرب إلى الصلاح { والله غفور رحيم }.
[49.6-8]
{ يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ } الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صدقات بني المصطلق فخرجوا يلقونه فرحا به إكراما وتعظيما لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم } فظن أنهم هموا بقتله فرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: منعوني صدقاتهم، وقيل: كان بينه وبينهم عداوة في الجاهلية فلذلك قال ما قال، فغضب رسول الله وهم أن يغزوهم فبلغهم ذلك فجاؤوا وذكروا ذلك لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبعث خالد بن الوليد فلم ير منهم إلا الطاعة في الوليد نزل قوله: { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } حتى تعلموا حقيقته وقرئ بالثاء يعني حتى يثبت عندكم { أن تصيبوا } بقتل أو قتال وأنتم لا تعلمون حقيقة الأمر { فتصبحوا على ما فعلتم نادمين } { واعلموا أن فيكم رسول الله } فاتقوا الله أن تقولوا باطلا فإن الله يخبر به { لو يطيعكم } أي يتبع مرادكم { في كثير من الأمر } قيل: يقبل قول بعضكم، وقيل: يقضي برأيكم { لعنتم } يعني أثمتم، وقيل: أفعنتم في عنت وهو الهلاك { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم } وأنتم تطيعون الله ورسوله فيذهب عنكم العنت، وقيل: حبب بالأدلة على صحته واستقامته، وقيل: بالطاعة { وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان } قيل: بألطافه، وقيل: بما وصف من العقاب عليه { أولئك هم الراشدون } أي من تمسك بهذه الطريقة كان على رشد وصواب { فضلا من الله ونعمة } يعني رشادهم بدعاء الرسول أو تمكين الله ولطفه { والله عليم حكيم } لا يفعل إلا بحكمة وعالم بالمصالح.
[49.9-12]
{ وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } اختلفوا في سبب نزولها فعن ابن عباس (رضي الله عنه): وقف رسول الله على مجلس بعض الأنصار وهو على حمار فبال الحمار، فأمسك عبد الله بن أبي بأنفه وقال: خل سبيل حمارك فقد أذانا نتنه، فقال عبد الله بن رواحة : والله ان بول حماره لأطيب من مسكك، وروي: حماره أفضل منك وبول حماره أطيب من مسكك، وطال الخوض بينهما حتى استبا فتجالدوا وجاء قوماهما وهم الأوس والخزرج فتجالدوا بالعصي، وقيل: بالأيدي والنعال، فرجع اليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأصلح بينهم ونزلت، وعن مقاتل: قرأها عليهم فاصطلحوا { فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء } البغي الاستطالة والظلم، وأتى الصلح، والفيء الرجوع وقد سمي به الظل والغنيمة لأن الظل يرجع بعد نسخ الشمس والغنيمة ما ترجع من أموال الكفار إلى المسلمين، وقيل: نزلت في رجلين من الأنصار جرت بينهما منازعة، وقيل: نزلت في حرب الأوس والخزرج في الجاهلية فلما جاء الاسلام أنزل الله هذه الآية وأمر نبيه فأصلح بينهم { فإن فاءت } رجعت { فأصلحوا بينهما بالعدل } بالقسط حتى يكونوا سواء { واقسطوا ان الله يحب المقسطين } العادلين { إنما المؤمنون إخوة } قيل: سماهم مؤمنين وإخوة قبل القتال، وقيل: بذلك بعد الصلح والرجوع { فأصلحوا بين أخويكم } قيل: يحملوهم على حكم الشرع { واتقوا الله } في الفرقة { لعلكم ترحمون } { يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم } الآية، قيل: نزلت في قوم من بني تميم استهزؤا ببلال وخباب وعمار وصهيب وأبي ذر، وروي أنها نزلت في ثابت بن قيس وكان به وقر، وكانوا يوسعون له في مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليسمع فأتى يوما وهو يقول: تفسحوا حتى أتى إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لرجل: تنح، فلم يفعل فقال: من هذا؟ فقال: أنا فلان، فقال: أنت ابن فلانة يريد أما كان يعير بها في الجاهلية فخجل الرجل فنزلت فقال ثابت: لا أفخر في الحسب على أحد بعدها، وعن عبد الله بن مسعود: البلاء موكل بالقول لو سخرت من كلب لخشيت أن أحول كلبا، يعني لا يسخر أحد من أحد، ورجال من رجال، والسخرية أن يستخف به ويضحك عليه حتى يغمه، عسى أن يكونوا خيرا منهم عند الله، وإن كان الساخر ذا مال وجاه { ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن } نزلت في صفية بنت حيي، عن ابن عباس:
" أن صفية أتت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: إن النساء يعيرنني ويقلن يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " هلا قلت إن أبي هارون وعمي موسى وان زوجي محمد "
، وقيل: نزلت في حفصة وعائشة سخرا بأم سلمة وذلك أنها ربطت شعرها بشيء فأسدلته خلفها فقالت عائشة: انظري ما تجر خلفها كأنه لسان كلب، وقيل: أن عائشة كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية وكانت قصيرة { ولا تنابزوا بالألقاب } نزلت في الأنصار كانوا يتنابزون بالألقاب فنزلت الآية، وقيل: نزلت في قوم كان لهم اسما في الجاهلية فلما أسلموا نهوا أن يدعوا بها بعضهم بعضا، واللمز الطعن والضرب باللسان، وقرئ تلمزوا بالضم، والمعنى وخصوا أيها المؤمنون أنفسكم بالانتهاء عن غيبتها والطعن فيها ولا عليكم أن تعيبوا غيركم ممن لا يدين بدينكم ولا يسير بسيرتكم، وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس "
يعني لا يغتب بعضكم بعضا ولا يطعن عليه بالألقاب قيل: هو كل اسم أو صفة يكره الرجل أن يدعا به، وقيل: هو قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق، وقيل: كان اليهود والنصارى تسلم فيقال له بعد ذلك: يا يهودي، يا نصراني، فنهوا عن ذلك وقيل لهم: بئس الذكر أن يذكر الرجل الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه، وقيل: أن يعمل إنسان شيئا قبل التوبة فيعير بما سلف { بئس الإسم الفسوق بعد الإيمان } بئس الاسم فلا تفعلوا ذلك فتستحقوا اسم الفسوق، وقيل: بئس الاسم الذي سميته بقولك: يا فاسق بعد أن علمت أنه مؤمن { ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } لأنفسهم، وقيل: ظالم لأخيه بما قال فيه والله أعلم { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن } وهو الظن القبيح ممن ظاهره الستر، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الله حرم من المؤمن المسلم دمه وعرضه أن يظن به ظن السوء { ولا تجسسوا } قيل: لا تتبعوا عورات المسلمين عن ابن عباس، يعني خذوا ما ظهر ودعوا ما ستر ولا تتبعوا عوراتهم لتقعوا على ما تكرهوا { ولا يغتب بعضكم بعضا } قيل: أن تذكر أخاك بما يكره فإن كان فيه فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته، ثم أكد التحريم فقال: { أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } شبه الغيبة به فلا شيء أعظم منه، قال قتادة: يقول: كما أنت تكره لحم الجيفة كذلك فاكره لحم أخيك وكذلك لم يقتصر على لحم الأخ حتى جعل ميتا { واتقوا الله إن الله تواب رحيم } يعني اتقوه في جميع ما نهاكم عنه.
[49.13-18]
{ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } آدم وحواء، وقيل: خلقنا كل منكم من أب وأم { وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا } لا للتفاخر وذلك أنه لولا الأنساب لما عرف الناس وإنما يعرف زيد بن زيد بالنسب، واختلفوا في الشعوب والقبائل، فقيل: الشعوب النسب الأبعد كمضر وربيعة والأوس والخزرج، والقبائل الأقرب كبني هاشم، وبني أمية وتميم، وقيل: الشعوب أعم والقبائل أخص، وقيل: الشعوب دون القبائل سموا بذلك لتشعبها وتعرمها، وقيل: الشعوب من العجم والقبائل من العرب { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله "
{ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } الآية نزلت في نفر من بني اسرائيل وبني خزيمة قدموا المدينة في سنة جدب وأظهروا الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في السر، وقيل: نزلت في قوم من المنافقين استسلموا خوف السيف والقتل { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } يعني يظهر دون ما ليس في قلوبكم فبين أنهم منافقون { وإن تطيعوا الله ورسوله } ظاهرا وباطنا { لا يلتكم } لا ينقصكم { من أعمالكم شيئا إن الله غفور } يغفر الذنوب { رحيم } لا ينقص من ثوابكم شيئا { إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } أي لم يشكوا في شيء من أمور الدين { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } أي في دينه { أولئك هم الصادقون } في قولهم: انا مؤمنون { قل أتعلمون الله } الذي تعتقدون، هو استفهام والمراد الإنكار والتقريع، أي كيف تعلمون الله { بدينكم } وتحلفون في ضمائركم خلاف ذلك وهو يعلم ما في الضمائر من النفاق { والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم } { يمنون عليك أن أسلموا } أي يعدون إسلامهم نعمة على الرسول ويتوهمون أنهم نفعوك به حيث قالوا آمنا وأسلمنا وهاجرنا وفعلنا { قل } يا محمد { لا تمنوا علي إسلامكم } فإن نفعه يعود عليكم { بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان } يعني أنعم عليكم أكثر حيث هداكم وأمركم فأراح عليكم ووفقكم { إن كنتم صادقين } في أنكم مؤمنين به { إن الله يعلم غيب السماوات والأرض والله بصير بما تعملون } أي عالم بأعمالكم وبالمحق والمبطل فيجازي كل أحد بما يستحقه ولا ينقصه ما يجب له.
[50 - سورة ق]
[50.1-5]
{ ق } قيل: اسم من أسماء الله تعالى عن ابن عباس، وقيل: افتتاح أسماء الله تعالى نحو قديم وقادر وقاهر وقريب، وقيل: اسم من أسماء القرآن، وقيل: اسم للسورة عن الحسن وأبي علي، وقيل: جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء السماء منه، وقيل: اسم للسورة فكأنه قال: أقسم بهذه السورة تنبيها على عظمها، وقيل: القسم برب القرآن كأنه قال: وبرب ق { والقرآن } وسمي القرآن لجمعه { المجيد } الكريم على الله العظيم في نفسه الكثير الخير والنفع وفيه حذف، أي لتبعثن يوم القيامة، وقد قيل أنه جواب القسم، وقيل: جوابه قد علمنا، وقيل: { بل عجبوا } فلما وعدهم بالبعث أنكروا فقال سبحانه: { بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم } أي رسول مخوف يخوفهم عقاب الله، وقيل: يخوفهم بالبعث، وقيل: عجبوا من كون الرسول بشرا منهم { فقال الكافرون هذا شيء عجيب } ثم بين ماذا تعجبهم فقالوا: { أئذا متنا وكنا ترابا } فيه حذف، أي لنبعث، ثم أنكروا فقالوا: { ذلك رجع بعيد } أي رجع إلى حال الحياة بعيد، فأجابهم الله تعالى بأنه لا موضع للعجب والإنكار فإنه القادر على الإعادة والعالم بالأجزاء المتفرقة فما المانع من الإعادة فقال سبحانه: { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } أي ما أكل من لحومهم وعظامهم حتى صاروا ترابا مفترقا، وقيل: معناه قد علمنا ما يبقى منهم وما يفنى { وعندنا كتاب حفيظ } محفوظ من الشياطين ومن التغيير وهو اللوح المحفوظ، وقيل: كتاب الموكل بهم يكتبون أعمالهم فهو محفوظ للجزاء إلى وجوب الإعادة مفاخرا: { بل كذبوا بالحق لما جاءهم } قيل: بالقرآن، وقيل: بالرسول، فمرة قالوا: مجنون، ومرة قالوا: كاهن، ومرة قالوا: ساحر { فهم في أمر مريج } مختلط، وقيل: في ضلالة، وقيل: مختلف، وقيل: ملتبس.
[50.6-16]
{ أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم } أي هلا نظروا إلى السماء فوقهم، أي تفكروا ليعلموا أن لها صانعا يقدر على البعث { كيف بنيناها } مع عظمها { وزيناها } بالكواكب المختلفة { وما لها من فروج } من فتوق، يعني أنها ملساء سليمة من العيوب لا فتق فيها ولا صدع ولا خلل { والأرض مددناها } دحوناها { وألقينا فيها رواسي } جبالا ثوابت جعلها أوتادا لولاها لاضطربت لحركات الناس عليها عن الحسن { وأنبتنا فيها } في الأرض { من كل زوج } صنف { بهيج } أي حسن المنظر، يعني بهج به لحسنه { تبصرة وذكرى } ليبصر به ويتذكر كل { عبد منيب } راجع إلى ربه متفكر في بدائع خلقه { ونزلنا من السماء ماء } قيل: من السحاب، وقيل: من السماء { مباركا } لعظم النفع به { فأنبتنا به جنات } وهي البساتين أي فيها الأشجار { وحب الحصيد } يعني حب كل شيء يحصد كالبر والشعير وغيرهما { والنخل باسقات لها طلع نضيد } يعني طوال في السماء، وقوله: لها طلع نضيد يعني منضود بعضه على بعض أما أن يريد كثرة الطلع وتراكمه أو كثرة ما فيه من التمر { رزقا للعباد } أي جعلنا ذلك رزقا للعباد { وأحيينا به بلدة ميتا } أي أحياها بالماء المبارك فشبه ما لا نبات فيه بالميت وما فيه نبات بالحي توسعا { كذلك الخروج } يعني كما نبت الأشياء عن عدم كذلك تخرج الموتى عن قبورهم أحياء بعد موتهم { كذبت قبلهم قوم نوح } قد تقدم قصصهم { وأصحاب الرس } قيل: هم قوم قتلوا نبيهم ورسوه فيها ، وقيل: الرس واد بقرب المدينة، وقيل: هم أهل البئر الذي قال الله:
وبئر معطلة وقصر مشيد
[الحج: 45] { وثمود } هم قوم صالح أهلكوا بالصيحة { وعاد } قوم هود أهلكوا بالريح، وفرعون موسى أغرق { وإخوان لوط } قلبت بهم الأرض وأرسلت عليهم الحجارة { وأصحاب الأيكة } الغيضة وقوم شعيب { وقوم تبع } إنما ذكر قومه دونه لأنه آمن، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لا تلعنوا تبعا فإنه قد كان أسلم "
وروي أنه كان يعبد النار فأسلم ودعا قومه وهم خمسون فكذبوه، وقيل: هم أسعد أبي كرب أقبل من مشرق وأتى المدينة على أن يخربها فجاءه حبران فانتهى عما كان يريد، وروي أنه لما أسلم قال: شهدت على أحمد أنه رسول الله، وروي أنه أول من كسى البيت { كل كذب الرسل فحق وعيد } أي وجب عليهم وعيدي بالعذاب قيل: عذاب الاستئصال، وقيل: عذاب الآخرة { أفعيينا بالخلق الأول } يعني لماذا أنكروا الإعادة، والمعنى أنا لم نعجز كما علموا عن الخلق الأول حتى يعجزوا عن الخلق الثاني، وقيل: الخلق الأول خلق الأشياء، وقيل: بل خلق آدم وكانوا يقرون به وأنه من ولده { بل هم في لبس من خلق جديد } أي أتوا من قلة بكفرهم في الأدلة فبقوا في أمر ملتبس، أي في شك من خلق جديد { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } أي تحدث به، يعني لا يخفى علينا سرائره { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } قيل: حبل الوريد عرق الحلق، وقيل: عرق يتعلق بالقلب، يعني نحن أقرب إليه من قلبه، ومتى قيل: بأي شيء هو أقرب؟ قلنا: بالعلم والقدرة.
[50.17-30]
{ إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد } وقد وكلهما الله تعالى علمه بأعمالهم ليكتب أعمالهم تأكيدا للحجة ولطفا للخلق، وقيل: الحفظة أربعة ملكان بالنهار وملكان بالليل، وقيل: عن اليمين ملك يكتب الحسنات وعن الشمال ملك يكتب السيئات، قعيد قاعد { ما يلفظ من قول إلا لديه } أي ما يتكلم بشيء وخص القول لأنه أكثر لتعلق أمر الناس { إلا لديه رقيب عتيد } حاضر معه للزوم ذلك، وقيل: يكتبان كل شيء ثم يطرح والمباحات، وقيل: يكتبان ما فيه جزاء فإذا مات طويت الصحيفة، وقيل: يوم القيامة
اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا
[الإسراء: 14]، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ان مقعد مليكيك على ثنيتيك، ولسانك قلمهما، وريقك مدادهما، وأنت تجري فيما لا يعنيك لا تستحيي من الله ولا منهما "
، وروي:
" يكتبان كل شيء حتى أنينه في مرضه "
وروي:
" إذا عمل العبد حسنة يكتبها ملك اليمين عشرا وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر "
وقيل: أن الملائكة يجتنبون عن غائط الإنسان وجماعه { وجاءت سكرة الموت بالحق } سكرته الذاهبة بالعقل، يعني وحضرت سكرة حقيقة الأمر الذي أنطق الله به كتبه وبعث به رسله { ذلك ما كنت منه تحيد } قيل: تهرب، وقيل: تميل، وقيل: تكره { ونفخ في الصور } قيل: ينفخ الروح في الأبدان والصوت ويحيون، وقيل: هو قرن ينفخ فيه اسرافيل { ذلك يوم الوعيد } الذي وعدنا الله أن يعذبهم أو اليوم الذي يحق الوعيد على العصاة { وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد } ملك سائق يسوقها إلى المحشر، وملك يشهد عليها بما عملت، وقيل: هما الحافظان، وملك جامع بين الأمرين { لقد كنت في غفلة من هذا } في قلة تدبير في الدنيا، أي يقال له ذلك توبيخا { فكشفنا عنك غطاءك } لأنه يرى ما يصير إليه { فبصرك اليوم حديد } قوي نافذ يرى كل ما كان محتويا عليك { وقال قرينه } قال جار الله: هو الشيطان الذي كان يضله يشهد عليه، وقيل: قرينه الملك الذي كان يصحبه في الدنيا يشهد عن الحسن رواه الحاكم، وقيل: هم قرناء السوء { هذا ما لدي عتيد } أي يقول هذا الذي وكلتني به من بنى آدم أحضرته وأحضرت ديوان عمله هذا على أن القرين هو الملك { ألقيا } خطاب من الله للملكين السائق والشهيد { في جهنم كل كفار عنيد } ذاهب عن الحق { مناع للخير } لكل واجب عليه من ماله، والآية نزلت في الوليد بن المغيرة { معتد } ظالم { مريب } شاك في الحق في الدين { الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد } { قال قرينه } يعني الشيطان الذي قرن بهذا الكافر وهول من الذنب عليه عن ابن عباس، وقيل: قرينه من الإنس وهم علماء السوء والرؤساء والمتبوعين، وقيل: القرين هو الملك الشاهد أيضا { ربنا ما أطغيته } أي أظللته ولا أوقعته في العصيان { ولكن } دعوته فأجاب وهذا قول الشيطان أو متبوع أهل الضلال، وقيل: هذا قول الملك أي ما شهدت عليه بالطغيان { ولكن كان في ضلال } عن الحق ولما كثرت المخاصمة بين الشياطين وأتباعهم، قال الله عز وجل: { لا تختصموا لدي } لأنهما مستوجبان بالعذاب { وقد قدمت إليكم بالوعيد } قيل: قد قدمت من عمل سيئة يجزى بها، وقوله:
لأملأن جهنم
[الأعراف: 18] وفي القرآن وعلى ألسنة الرسل لأصحاب النار فإنه أخبرهم { ما يبدل القول لدي } أي ما يبدل وعدي ووعيدي { وما أنا بظلام للعبيد } لا أعاقبهم بغير ذنب { يوم نقول لجهنم هل امتلأت } قيل: هذا خطاب لأصحاب النار أخبرهم أنه لما أوها بقوله:
لأملأن جهنم
[الأعراف: 18] بحيث لا مزيد فيقول له يومئذ هل امتلأت ليقروا الصدق رسوله، وقيل: بل خطاب لخزنة جهنم بأنها هل امتلأت فيقولون: بل لم يبق موضع لمزيد ليعلم صدق وعده، وقيل: هذا اخبار من امتلاء جهنم بحيث لا مزيد، وقيل: معناه لا مزيد، وقيل: هذا مجاز كقوله:
قالتا أتينا طائعين
[فصلت: 11] قيل: هم خزنة جهنم، وقيل: أهل النار ويجوز أنها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها وفيها موضع لمزيد.
[50.31-37]
{ وأزلفت الجنة للمتقين } أي قربت حتى يرى ما فيها من النعم قبل أن يدخلوها { غير بعيد } جهنم، ثم قيل: { هذا } يعني نعيم الجنة { ما توعدون } في الدنيا على ألسنة الرسل { لكل أواب } تواب، قيل: المصلي، وقيل: المطيع { حفيظ } حفظ ذنوبه حتى رجع عنها، وقيل: الحافظ لنفسه وجوارحه من المعاصي أو حفظ أعماله مما يحبطها { من خشي الرحمن بالغيب } أي خاف الرحمان بحيث لا يراه أحد { وجاء بقلب منيب } قيل: مقبل على الطاعة، وقيل: منيب يتوكل على الله الراجع في أموره إليه { ادخلوها بسلام } قيل: سلامه من العذاب، وقيل: سلامه من الزوال والفناء، وقيل: سلام من الله وملائكته { ذلك يوم الخلود } أي وقت الخلود لأهل العذاب والثواب { لهم ما يشاؤون فيها } من أنواع النعم { ولدينا مزيد } هو ما لم يخطر ببالهم ولم يبلغه أمانيهم، وقيل: الزيادة على ما يستحقون بأعمالهم { وكم أهلكنا } أي كثير قد أهلكنا { قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا } في الدنيا وأكثر تصرف وأموالا { فنقبوا في البلاد } ، قيل: طوفوا وضربوا في الأرض وطلبوا الأمان من العذاب، وقيل: حرفوا، وقيل: تباعدوا، والنقب الطريق، وقيل: نقبوا النقباء يقال: نقب السلطان فلانا أي جعله نقيبا { هل من محيص } أي طافوا هل من مهرب وملجأ من الموت ومن العذاب { إن في ذلك } أي فيما تقدم ذكره من العبر { لذكرى } أي عظة وتذكرة { لمن كان له قلب } عقل يتفكر به { أو ألقى السمع وهو شهيد } أي يسمع القرآن والدين، وقيل: شهيد بأن يحضر سمعه وقلبه وبصره إحضار مسترشد.
[50.38-45]
{ ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب } أكذب الله اليهود حيث قالوا: استراح يوم السبت، وهو عيد لهم يوم الراحة، أو عيدهم على ما قالوا فقال سبحانه: { فاصبر } يا محمد { على ما يقولون } مما لا يليق به وبصفاته { وسبح بحمد ربك } قيل: نزه الله في عموم أوقاتك، وقيل: قل سبحان الله والحمد لله { قبل طلوع الشمس } قيل: صلاة الفجر { وقبل الغروب } قيل: صلاة العصر، وقيل: قبل الغروب الظهر والعصر { ومن الليل فسبحه } يعني صلاة العشائين { وأدبار السجود } قيل: هما الركعتان بعد المغرب، وأدبار النجوم الركعتان قبل الفجر عن علي بن أبي طالب { واستمع يوم يناد المناد } هو خطاب عام، يوم ينادي المنادي قيل: استمع كلام الله فيما يخبرك به من حديث القيامة، يوم ينادي المنادي هو إسرافيل ينفخ وجبريل ينادي بالمحشر { من مكان قريب } من صخرة بيت المقدس وهي أقرب الأرض من السماء باثني عشر ميلا وهي وسط السماء، وقيل: من تحت أقدامهم، وقيل: من تحت شعورهم تسمع من كل شعرة أيتها العظام البالية { يوم يسمعون الصيحة } الصيحة النفخة الثانية { بالحق } والانتصاف { ذلك يوم الخروج } من القبور للجزاء { إنا نحن نحيي ونميت وإلينا المصير } أي إلى حكمنا { يوم تشقق الأرض عنهم سراعا } إلى المحشر { ذلك حشر } أي جمع بين الخلق بعيد الموت { علينا يسير } أي سهل { نحن أعلم بما يقولون } في توحيد الله في نبوتك وتكذيبك { وما أنت عليهم بجبار } قيل: لا تجبر عليهم، وقيل: لا تجبرهم على الإسلام أي لست بمسلط لتجبرهم إنما بعثت منذر { فذكر بالقرآن } في توحيد الله { من يخاف وعيد } خصهم بالذكر لأنهم ينتفعون به.
[51 - سورة الذاريات]
[51.1-14]
{ والذاريات } وهي جمع ذارية وهي ذرت التراب إذا طيرته، وهو الريح الوسط فإذا زادت فهي عاصف، سئل أمير المؤمنين وهو يخطب على المنبر ما { الذاريات ذروا }؟ قال: " الرياح " { فالحاملات وقرا } قال: " السحاب " { فالجاريات يسرا } قال: " السفن " { فالمقسمات أمرا } قال: " الملائكة " ، وقيل: الذاريات الرياح تحمل السحاب التي قد أوقرها بثقله من بلد إلى بلد، { والجاريات يسرا } قيل: السحاب تجري بما يسر الله لها، { فالمقسمات أمرا } الملائكة يقسمون ما كلفها الله تعر من أرزاق العباد، وقيل: المقسمات أيضا الرياح تقسم المطر فيصيب قوما دون قوم وبلدا دون بلد { إنما توعدون } من الثواب والعقاب { لصادق } أي بصدق { وإن الدين } قيل: الجزاء، وقيل: الحساب { لواقع } كائن لا محالة { والسماء ذات الحبك } قيل: اقسم بنفس السماء لما فيها من الدلائل على صانع قادر عالم وما فيها من عجائب الصنعة، وقيل: القسم برب السماء ذات الحبك، قيل: ذات الخلق الحسن المستوي، وقيل: ذات الزينة، وقيل: ذات الطرائق { إنكم لفي قول مختلف } في الدين، وقيل: في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقولون: شاعر ساحر كذاب مجنون، وقيل: في البعث، وقيل: في القرآن { يؤفك عنه من أفك } يصرف عن الحق من أفك وقيل: الصارف علماء السوء وأئمة الضلال ورؤساء البدع لأن القوم تبع لهم { قتل الخراصون } لعن الكذابون، وقيل: المرتابون، وقيل: الكهنة { الذين هم في غمرة ساهون } { يسألون أيان يوم الدين } يعني متى يوم الدين وهو وقت الجزاء إنكار واستهزاء فقال تعالى: { يوم هم على النار يفتنون } أي يعذبون ويحرقون وتقول لهم الخزنة: { ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون }.
[51.15-23]
{ إن المتقين } الذين يتقون المعاصي { في جنات وعيون } تجري فيها { آخذين ما آتاهم ربهم } من كرامته وثوابه جزاء لهم { إنهم كانوا قبل ذلك محسنين } في أعمالهم في الدنيا { كانوا قليلا من الليل ما يهجعون } قيل: قليلا هجوعهم، وقيل: كانوا لا ينامون حتى يصلون العتمة عن محمد بن علي، وقيل: يصلون ما بين المغرب والعشاء { وبالأسحار هم يستغفرون } من الذنوب، وقيل: يصلون، وقيل: يستغفرون من تقصيرهم في طاعتهم { وفي أموالهم حق } قيل: الزكاة، وقيل: سائر الأمور الواجبة { للسائل والمحروم } السائل الذي يستجدي والمحروم الذي يحسب غنيا فيحرم الصدقة لتعففه، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان والتمرة والتمرتان " ، قالوا: فما هو؟ قال: " هو الذي لا يجدي ولا يتصدق عليه "
، وقيل: المحارف الذي لا يكاد يكسب { وفي الأرض آيات للموقنين } تدل على الصانع وقدرته وحكمته وتدبيره كما قال:
الذي جعل لكم الأرض مهادا
[النبأ: 6] وفيها المسالك والفجاج للمتقلبين فيها وما فيها من أنواع الخيرات والنعم والمخلوقات والمعادن وأنواع الأشجار بالثمار المختلفة الألوان والطعوم والروائح تسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الأكل وقوله: { للموقنين } بالحق { وفي أنفسكم } حال ابتدائها وتنقلها من حال إلى حال وفي بواطنها وظواهرها من عجائب الفطرة وبدائع الخلق ما تتحير فيه الأذهان من حيث خلقه وصوره وركب فيه الحواس والأعضاء ومجاري الطعام والشراب وغير ذلك { أفلا تبصرون } في ذلك لتعلموا أن لها صانعا مدبرا { وفي السماء رزقكم } قيل: هو المطر الذي هو سبب الرزق، وقيل: أراد بالسماء المطر أي في المطر رزقكم، قال الشاعر:
إذا وقع السماء بأرض قوم
رعيناه وإن كانوا عصابا
وقيل: وعلى رب السماء رزقكم، وفي بمعنى على كقوله:
في جذوع النخل
[طه: 71]، وقيل: قسمه رزقكم في السماء لا يزيد ولا ينقص فكيف تتعبون بطلبه { وما توعدون } قيل: الساعة، وقيل: الجنة والنار ، وقيل: ما توعدون من خير وشر، وقيل: الجنة وهي في السماء السابعة { فورب السماء والأرض } قسم من الله تعالى { إنه لحق } أي ما ذكره صدق { مثل ما أنكم تنطقون } قيل: كما لا تشكون في منطقكم فلا تشكون فيما توعدون، قال الحسن: قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه فلم يصدقوه، وقيل: كما أنكم تقولون أن الرزق في السماء وهو المطر فهو كذلك، وقيل: إنه قسم رزقكم كما قسم النطق فكنتم ذو نطق دون سائر الحيوان كذلك قسم لكل رزقا.
[51.24-42]
{ هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } سماهم ضيفا من غير أن يأكلوا من طعامه لأنهم دخلوا مدخل الأضياف واختلفوا في عدهم قيل: كانوا اثنا عشر ملكا، وقيل: جبريل ومعه سبعة، وقيل: ثلاثة المكرمين من عند الله { إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما } أي سلموا عليه سلاما { قال سلام قوم منكرون } قيل: غرباء لا نعرفهم، وقيل: لأنهم دخلوا من غير إذن { فراغ إلى أهله } أي مال إليهم { فجاء بعجل سمين } { فقربه إليهم } شويا، و { قال ألا تأكلون } تحريصا على الأكل، وقيل: امسكوا فقال: ألا تأكلون { فأوجس منهم خيفة } وفي الكلام حذف فلما لم يأكلوا فدخل في نفسه خيفة منهم وأوجس منهم أنهم لصوص أو كفار يريدون هلاكه، وقيل: ظن أنهم ملائكة وأنهم لا يحضرون إلا له، وقيل: دعوا الله فأحيى الله تعالى ذلك العجل فعلم أنهم ملائكة، ف { قالوا لا تخف } وقوله تعالى: { وبشروه بغلام عليم } أي مبلغ ويعلم، وقيل: نبي وهو إسحاق { فأقبلت امرأته } سمعت البشارة وأقبلت، وقيل: أخبرها إبراهيم { في صرة } قيل: صيحة { فصكت } قيل: ضربت بأطراف أصابعها جبهتها، وقيل: لطمت { وجهها } قال الحسن: أقبلت إلى بيتها وكانت في زواية تنظر إليهم لأنها وجدت حرارة الدم ولطمت وجهها من الحياء { وقالت عجوز عقيم } أي تلد عجوز عاقر كانت بنت تسع وتسعين سنة { قالوا } ذلك { كذلك قال ربك } أي أتعجبين من قدرة الله فإنه حكيم عليم { قال فما خطبكم أيها المرسلون } أي فما شأنكم وما ظنكم ولأي أمر جئتم أيها المرسلون { قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } يعني قوم لوط أرسلنا لنهلكهم { لنرسل عليهم حجارة من طين } يريد السجيل وهو طين طبخ الآجر حتى صار فيه صلابة الحجار { مسومة } معلمة على كل واحدة منها اسم من يهلك به، وقيل: معلمة بأنها من حجارة العذاب { عند ربك } أي معدة في حكمه { للمسرفين } المجاوزين الحد في العصيان { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين } { فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين } دليل على أن الايمان والإسلام واحد وإنهما صفتا مدح، قيل: هم لوط وابنتاه (عليهم السلام)، وقيل: كان لوط وأهل بيته، عن قتادة: لو كان فيها أكثر من ذلك لأنجاهم الله { وتركنا فيها آية } يعتبر بها الخائفون دون القاسية قلوبهم، وقيل: ما اسود منتن { وفي موسى } معطوف على { وفي الأرض آيات } ، أو على قوله: { وتركنا فيها آية } على معنى وجعلنا في موسى { إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين } أي بحجة { فتولى } أي أعرض عن قبول الحق { بركنه } بعزته من جنوده وقومه { وقال } موسى { ساحر أو مجنون } لا عقل له { فأخذناه وجنوده } أي عاقبناهم { فنبذناهم } أي ألقيناهم كما يلقى { في اليم } أي في البحر { وهو مليم } يعني موسى فعل ما تلام عليه { وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم } التي لا تلقح شجرا ولا تنشر سحابا، وقيل: لم يكن فيه إلا خروج، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" نصرت بالصبا وأهلك عاد بالدبور "
{ ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم } قيل: كالطعام، وقيل: كالنبات إذا يبس، وقيل: كالشيء الهالك، وقيل: كالتبن، وقيل: كالتراب.
[51.43-60]
{ وفي ثمود إذ قيل لهم تمتعوا } أي انتفعوا بأعماركم ودنياكم { حتى حين } إلى وقت آجالكم { فعتوا عن أمر ربهم } أي تعظموا واستكبروا ولم يقبلوا أمر الله { فأخذتهم الصاعقة } أي العذاب { وهم ينظرون } إليها نهارا لا يقدرون على دفعها { فما استطاعوا من قيام } أي ما قدروا على قيام العذاب بعد نزوله { وما كانوا منتصرين } قيل: منتقمين منا { وقوم نوح } يعني وأهلكنا قوم نوح { من قبل } أي من قبل عاد وثمود { إنهم كانوا قوما فاسقين } خارجين عن طاعة الله { والسماء بنيناها } ألقيناها على حسن نظامها وعظمها وزينتها { بأيد } بقوم { وإنا لموسعون } الرزق على الخلق، وقيل: لموسعون السماء { والأرض فرشناها } أي بسطناها { فنعم الماهدون } أي فنعم الباسطون { ومن كل شيء خلقنا زوجين } قيل: الليل والنهار والشمس والقمر والسماء والأرض والإنس والجن، وقيل: الزوجين الذكر والأنثى { لعلكم تذكرون } أي تفكرون فيه { ففروا إلى الله } أي اهربوا من عقابه إلى رحمته، وقيل: بإخلاص طاعته انقطعوا إليه، وقيل: فروا من مخافته إلى طاعته ومن أعدائه إلى أوليائه { إني لكم منه نذير مبين } مخوف من عقابه { ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين } { كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون } فشبه حال قومه في تكذيبه بحال الأمم { أتواصوا به } يعني أوصى بعضهم بالتكذيب، وقيل: كان الأول أوصى الآخر بالتكذيب { بل هم قوم طاغون } مجاوزون الحد في العصيان { فتول عنهم } أعرض عنهم أمر بالاعراض عنهم استخفافا بهم { فما أنت بملوم } على إقبالهم إنما عليك البلاغ { وذكر } أي ذكرهم بالمواعظ، وقيل: بنعم الله ليشكرونها { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } يعني الغرض في خلقهم تعريضهم للثواب وذلك لا يحصل إلا بأداء العبادات فصار كأنه خلقهم للعبادة { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } لأنه غني لا يجوز عليه الحاجة فبين أنه خلقهم للعبادة ولم يكلهم إلى أنفسهم { إن الله هو الرزاق } لجميع خلقه { ذو القوة المتين } { فإن للذين ظلموا } قيل: كفروا، وقيل: عصوا ربهم وظلموا بذلك أنفسهم، والمعنى فإن للذين ظلموا رسول الله بالتكذيب من أهل مكة لهم نصيب من عذاب الله مثل نصيب أصحابهم ونظائرهم من القرون، وعن قتادة: محلا من عذاب الله مثل محل أصحابهم { فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون } قيل: هو يوم القيامة، وقيل: يوم بدر.
[52 - سورة الطور]
[52.1-16]
{ والطور } الجبل الذي كلم الله عليه موسى (عليه السلام)، قال مجاهد: أقسم الله به لعجيب خلقه وما أودع فيه من عجيب خلقته وأنواع نعمته وهو بالأرض المقدسة واسمه رأس وهو بمدين { وكتاب مسطور } قيل: هو الكتاب الذي فيه الأعمار، والمسطور المكتوب، قال الله تعالى:
ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا
[الإسراء: 13] وقيل: ما كتب الله لموسى وهو يسمع صرير القلم، وقيل: اللوح المحفوظ، وقيل: القرآن { في رق منشور } مبسوط { والبيت المعمور } قيل: بيت في السماء حيال الكعبة يعمر بكثرة صلاة الملائكة، عن أمير المؤمنين وابن عباس قيل: هو في السماء الرابعة، وقيل: في السماء السابعة يعمره الملائكة بالعبادة، وقيل: يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه، وقيل: هذا البيت أنزل مع آدم من الجنة، ثم حمل أيام الطوفان إلى السماء، وقيل: هي الكعبة معمورة بالحج والعمرة وهو أول مسجد وضع للعبادة في الأرض { والسقف المرفوع } يعني السماء { والبحر المسجور } المملوء، وقيل: الموقد من قوله:
وإذا البحار سجرت
[التكوير: 6]، وروي أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار كلها نارا يسجر بها نار جهنم، وعن علي (عليه السلام) أنه سأل يهوديا: " أين تكون النار في كتابكم؟ " قال: في البحر، قال علي: " ما أراه إلا صادقا، لقوله: { والبحر المسجور } " { إن عذاب ربك لواقع } جواب القسم لواقع أي نازل بأهله { ما له من دافع } يدفعه ويمنعه { يوم تمور السماء مورا } قيل: تدور دورانا، وقيل: تحرك، وقيل: تموج، وقيل: تضطرب { وتسير الجبال سيرا } أي تمور عن أماكنها وتصير هباء منبثا، وكل ذلك من أشراط القيامة { فويل يومئذ للمكذبين } أي العذاب يومئذ للمكذبين { الذين هم في خوض يلعبون } أي في كلام باطل يخوضون ويلعبون، وقيل: غافلين عن ذلك { يوم يدعون إلى نار جهنم } أي يدفعون إليها ارعابا، قيل: إن الخزنة يغلون أيديهم إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعون إلى النار على وجوههم فإذا قربوا عاينوا العذاب على ما أخبر به، قيل لهم: { هذه النار التي كنتم بها تكذبون } { أفسحر هذا } يعني كنتم تقولون للوحي سحرا فهذا سحرا المصادف، وجعلت الفاء لهذا المعنى { أم أنتم لا تبصرون } كما كنتم لا تبصرون في الدنيا وهذا تقريع وتهكم { اصلوها } أي أخلوها فالزموها { فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم } قيل: مستوي صبركم وجزعكم لا محيص لكم { إنما تجزون ما كنتم تعملون } من المعاصي بالدنيا.
[52.17-28]
{ إن المتقين في جنات ونعيم } أي بساتين فيها أشجار ونعيم { فاكهين } قيل: مسرورين، وقيل: ناعمين { بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم } ويقال لهم على سبيل الإكرام: { كلوا واشربوا } من نعيم الجنة { هنيئا } وهو الذي لا تنغيص فيه { بما كنتم تعملون } أي جزاء أعمالكم في فعل الواجبات واجتناب المعاصي { متكئين } قيل: فيه حذف، أي على نمارق وهي الوسائد { على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين } قيل: بيض البشر وسواد العين، وقيل: شدة بياض العين وسواد سوادها { والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } قيل: هم الأطفال الحقوا بآبائهم من بعد إيمان الآباء ليتم سرورهم، وقيل: هم البالغون الحقوا بدرجة آبائهم وإن قصرت أعمالهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه "
ثم تلا الآية يجمع لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم ومزاوجة الحور العين ومؤانسة الأخوان المؤمنين بأولادهم، ثم قال: { بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم } أي بسبب إيمان عظيم رفيع وهو إيمان الآباء { وما ألتناهم } وما نقصناهم، يعني وفرنا عليهم جميع ما ذكرنا من الثواب والتفصيل وما نقصناهم من ثواب { من عملهم من شيء كل امرء بما كسب رهين } يعني كل مرهون بعمله وأخذ به { وأمددناهم } أعطيناهم حالا بعد حال { بفاكهة ولحم مما يشتهون } { يتنازعون فيها } قيل: يتعاطون ويتناولون، وقيل: سقى بعضهم { كأسا } من خمر { لا لغو فيها ولا تأثيم } قيل: لا يذهب عقولهم فيها فيلغوا ويرفثوا خلاف خمر الدنيا، ولا تأثيم فعل ما يأثم به، وقيل: لا يكذب بعضهم بعضا { ويطوف عليهم غلمان لهم } قيل: ولدانهم وأطفالهم يطوفون ليزدادون قرة عين، وقيل: هو الحور العين، وقيل: أطفال المشركين، ومتى قيل: هل يلحقهم مشقة بتلك الخدمة؟ قلت: لا بل يتلذذون، وعنه (عليه السلام): " إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادي الخادم من خدامه فيجيبه ألف لبيك لبيك " { كأنهم } يعني الغلمان { لؤلؤ مكنون } يعني في الحسن والملاحة والصلاحة كالدر المصون المخزون، وقيل: مكنون في الصدف،
" وروى الحسن قال: قالوا: يا رسول الله الخادم كاللؤلؤة فكيف المخدوم؟ قال: " كالقمر ليلة البدر "
{ وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } يسأل بعضهم بعضا، قيل: عن أحوالهم في الدنيا وذلك من عظم سرورهم { قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين } أي خائفين من عذاب الله { فمن الله علينا } أنعم علينا بقبول طاعتنا وغفران سيئاتنا { ووقانا عذاب السموم } أي منعنا، والسموم اسم من أسماء جهنم { إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر } المحسن { الرحيم } العظيم الرحمة.
[52.29-44]
{ فذكر } أي عظهم ولا تترك دعوتهم وإن أساؤوا قولهم { فما أنت بنعمة ربك } أي برحمته وعظمه { بكاهن } هو من قولهم أنه يعلم الغيب ينظر نفسه حصل خدمة الجن والكهانة ويزعم أنه يعلم الغيب كذبا { ولا مجنون } { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } أي ننتظر حوادث الدهر، وقيل: الموت، والآية نزلت في رؤساء مكة أبو جهل والوليد بن المغيرة وغيرهم فأجابهم الله تعالى فقال: { قل } يا محمد { تربصوا فإني معكم من المتربصين } وفيه وعده بالنصر { أم تأمرهم أحلامهم } أي عقولهم { بهذا } وهذا إنكار عليهم وقرئ: { بل هم قوم طاغون } وقيل: تأمرهم أحلامهم بعبادة الأوثان وهي حجر لا ينفع ولا يضر { أم يقولون تقوله } يعني يقول محمد القرآن من عند نفسه { بل لا يؤمنون } استكبارا { فليأتوا بحديث مثله } أي مثل القرآن { إن كانوا صادقين } أن محمد يقوله من تلقاء نفسه { أم خلقوا من غير شيء } قيل: من غير خالق ورب، وقيل: خلقوا من غير أب { أم هم الخالقون } لأنفسهم { أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون } أي لا يعلمون لقلة تدبيرهم { أم عندهم خزائن ربك } قيل: المطر والرزق، وقيل: علم ما يكون { أم هم المصيطرون } الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية وسو الأمور على إرادتهم، وقيل: المالكون للناس المسلطون عليهم القاهرون لهم { أم لهم سلم } إلى السماء { يستمعون } صاعدين { فيه } إلى كلام الملائكة وما يوحى إليهم من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم { فليأت مستمعهم بسلطان مبين } بحجة ظاهرة { أم له البنات ولكم البنون } أي لو جاز عليه اتخاذ الواحد لما اختار البنات على البنين { أم تسألهم أجرا } أي جعلا على ما أديت من الرسالة { فهم من مغرم مثقلون } حمل مجهودون ليس عليهم ذلك العرم { أم عندهم الغيب } اللوح المحفوظ { فهم يكتبون } ما فيه حتى يقولوا لا نبعث { أم يريدون كيدا } أي مكرا بك على ما دبروه في دار الندوة { فالذين كفروا هم المكيدون } الممكور بهم بتدمير الله عليهم فيأتيهم من حيث لا يحتسبون ويعود الضرر عليهم، قيل: خرجوا يوم بدر فقتلوا، وقيل: نعاقبهم يوم القيامة { أم لهم إله غير الله } أي من يستحق العبادة { سبحان الله عما يشركون } براءة له عن شركهم { وإن يروا كسفا من السماء } والكسف القطعة وهو جواب قولهم أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا يريد أنهم لشدة طغيانهم وعنادهم لو أسقطنا عليهم لقالوا هذا { سحاب مركوم } بعضه فوق بعض يمطرنا ولم يصدقوا.
[52.45-49]
{ فذرهم } وذلك وعيد لهم { حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون } يموتون وقرئ يلقوا ويلقوا والصعق عند النفخة الأولى { يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا } يعني تدبيرهم واحتيالهم شيئا من عذاب الله { ولا هم ينصرون } { وإن للذين ظلموا عذابا دون ذلك } أي دون عذاب النار، وقيل: هو عذاب القبر، وقيل: القتل يوم بدر، وقيل: الجوع والقحط سبع سنين { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن العذاب نازل بهم { واصبر } على أذى قومك في تبليغ رسالتك { لحكم ربك فإنك بأعيننا } أي بحفظنا { وسبح بحمد ربك } قيل: نزهه عما لا يليق عليه { حين تقوم } أي من أي مكان قمت، وقيل: من منامك { وإدبار النجوم } وإذا أدبرت النجوم من آخر الليل، والمراد الأمر بقوله: سبحان الله والحمد لله ولا في هذه الأوقات، وقيل: تسبيح الصلاة إذا قام من نومه { ومن الليل } صلاة العشاءين { وإدبار النجوم } صلاة الفجر.
[53 - سورة النجم]
[53.1-10]
{ والنجم إذا هوى } قيل: إن المشركين قالوا: ضل محمد عن الدين وغوى فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأقسم بأنه ما ضل وما غوى { والنجم إذا هوى } الثريا إذا سقطت وغابت مع الفجر أو انتثرت يوم القيامة، أو النجم إذا رجم، إذا هوى إذا انقض، أو النجم من نجوم القرآن وقد نزل نجوما في عشرين سنة، إذا هوى إذا نزل، يعني أن القرآن نزل ثلاث آيات وأربع آيات وسورة وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرين سنة { ما ضل صاحبكم } يعني محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والخطاب لقريش، وهو جواب القسم، والضلال نقيض الهدى والغي نقيض الرشد، أي هو مهتد راشد وليس كما تزعمون { وما ينطق عن الهوى } لا يتكلم عن جهة نفسه في أمور الشرع { إن هو إلا وحي يوحى } { علمه شديد القوى } قيل: هو جبريل وهو القوي في نفسه، ومن قوته أنه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وصاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده في الوحي من رجعة الطرف، ورأى ابليس يكلم عيسى في بعض عقاب الأرض المقدسة فنفخه نفخة فألقاه في أقصى جبل بالهند { ذو مرة } حدة، وقيل: ذو مرة شديد حفظه لما يحمله الله من الوحي { فاستوى } فاستقام على صورة نفسه الحقيقة دون الصورة التي كان عليها كلما هبط بالوحي، وكان ينزل في صورة دحية، وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحب أن يراه على صورته، وقيل: ما رآه أحد على صورته غير محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء { فكان قاب قوسين } يعني دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى { فتدلى } قيل: إلى محمد بالوحي وكان بينهما قاب قوسين وكان بينهما { قاب قوسين أو أدنى } قيل: بل أدنى، وقيل: أراد مقدار قوسين عربتين، وقيل: أراد الوتر، وقيل: أراد تأكيد القرب { فأوحى } الله { إلى عبده } وقيل: أوحى جبريل إلى عبده { ما أوحى } وقيل: ما أوحى إليه من كلامه وأمره ونهيه، وقيل: أوحى اليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها أنت وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.
[53.11-25]
{ ما كذب الفؤاد ما رأى } ما كذب فؤاد محمد ما رأى بصره في ذلك الوقت من صورة جبريل { أفتمارونه } من المراء وهو المجادلة، وقيل: إنه لما أسري برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصبح بمكة فأخذوا يجادلونه ويجحدونه وكان الإسراء بمكة بعد موت أبي طالب من المسجد، وقيل: من بيت أم هاني بعدما صلى العشاء الآخرة وعاد قبل الفجر { ولقد رآه نزلة أخرى } { عند سدرة المنتهى } هو جبريل قيل: هي شجرة النبق، وقيل: هي في السماء السابعة المنتهى لأنه ينتهي إليها أرواح الشهداء { إذ يغشى السدرة ما يغشى } قيل: يغشاها جبريل في خلقته العجيبة سد الأفق، وقيل: غشيها أمر الله فتحولت ياقوتا وزبرجدا حتى لا يستطيع أحد وصفها { ما زاغ البصر وما طغى } أي ما جاوز ما أمر به ولا مال، يعني ما رأى لاحقا وصوابا، وروي عنه أنه قال:
" رأيت على كل ورقة من ورقها ملك يسبح الله "
{ لقد رأى من آيات ربه الكبرى } قيل: هي السموات والملائكة وما في السماوات من ملكوته، وعن ابن مسعود: رأى زبرقا أخضرا من زبارق الجنة قد سد الأفق، وقيل: هي سدرة المنتهى، وقيل: رأى جبريل في صورته التي تكون في السماء، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" رأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح الله "
وعنه:
" يغشاها رفرف من طير خضر "
، وعن ابن مسعود وغيره: يغشاها فراش من ذهب، وقيل: غشيها من أمر الله ما غشى { أفرأيتم اللات والعزى } أصنام كانت لهم وهي مؤنثات، فاللات كانت لثقيف بالطائف، وقيل: نخلة تعبدها قريش، والعزى كانت لغطفان وهي سمرة وأصلها تأنيث الأعز، وبعث رسول الله إليها خالد بن الوليد فقطعها، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يدها على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول:
يا عزا كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
ولن تعبدها أبدا { ومناة الثالثة } كانت لهذيل وخزاعة وسميت مناة لأن دم النسائك كانت تمنى، وقيل: زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى عن ذلك وصوروا الأصنام على صورتهم اللات والعزى ومناة، وقيل: كانت حجارة في جوف الكعبة { ألكم الذكر وله الأنثى } { تلك إذا قسمة ضيزى } جائرة، وقيل: مخالفة، وكانوا يقولون أن الملائكة وهذه الأصنام بنات الله، وكانوا يعبدونهم ويزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله، فقيل: { ألكم الذكر وله الأنثى } { إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان } من حجة وسميت الحجة سلطانا لأن صاحبها يقهر { إن يتبعون إلا الظن } في قولهم إنها آلهة { وما تهوى الأنفس } أي تهواه وتألفه لأنهم وجدوا آباءهم وقومهم يعبدونها فمالوا إليها { ولقد جاءهم من ربهم الهدى } أنها ليست بآلهة ولا تحق لها العبادة { أم للإنسان ما تمنى } قيل: تمنوا أن تشفع لهم عند الله وظنوا ذلك وليس كما ظنوا، وقيل: تمنوا أن الأصنام كانت آلهة { فلله الآخرة والأولى } يعطي من يشاء، وقيل: أم للإنسان ما تمنى من نعيم الدنيا والآخرة بل يفعله الله تعالى بحسب المصلحة يعطي في الآخرة المؤمنين دون الكافرين.
[53.26-32]
{ وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } يعني لا يشفع أحد إلا بعد إذن من الله { إن الذين لا يؤمنون بالآخرة } البعث والجزاء { ليسمون الملائكة تسمية الأنثى } قيل: قالوا: هم بنات الله { وما لهم به من علم } أي لا يقولون ذلك عن علم { إن يتبعون } في ذلك { إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } { فأعرض عن من تولى } قيل: أعرض عن مكافأته { عن ذكرنا } قيل: القرآن { ولم يرد إلا الحياة الدنيا } { ذلك مبلغهم من العلم } أي نهاية قدر علمهم حيث آثروا الدنيا على الآخرة { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله } أي دينه { وهو أعلم بمن اهتدى } فيجازي كل أحد بعمله { ولله ما في السماوات وما في الأرض } ملكا وخلقا { ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى } ثم وصف الذين أحسنوا فقال سبحانه: { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } قيل: ان أكثر ما يزيد عقابه على ثواب فاعله كالقتل والزنا ونحو ذلك، وقيل: لا يكفره إلا بالتوبة والفواحش كل قبيح فاحشة، وقيل: الزنا { إلا اللمم } قيل: الصغائر من الذنوب عمدا وسهوا ونظير هذه الآية قوله تعالى:
ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم
[النساء: 31] وهو قول أبي علي وأبو مسلم والقاضي، وقيل: هو ما ألم على القلب أي خطر، وهو حديث النفس بشيء من غير عزم لأن العزم على الكبير كبيرة، فعلى هذا يكون إلا بمعنى لكن اللمم، وقيل: إلا بمعنى الواو { إن ربك واسع المغفرة } أي كثير المغفرة يكفر الصغائر باجتناب الكبائر بالتوبة { هو أعلم بكم } بأحوالكم، وقيل: هو أعلم بتفاصيل أموركم وأعمالكم فيجازيكم بها { إذ أنشأكم من الأرض } أي خلق آباءكم آدم من التراب { وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم } حين الولد في البطن أخذ من الستر، يعني من علم بتفاصيل الجنين وكيفيته لا يخفى عليه شيء من أعمالكم { فلا تزكوا أنفسكم } قيل: لا تمدحوها، وقيل: لا تزكوا أنفسكم بما ليس فيها وهو أحسن ما قيل: فأما تزكية النفس على وجه الاستطالة فلا يجوز { هو أعلم بمن اتقى } الشرك والكبائر، قيل: عمل حسنة وارتدع عن السيئة عن علي (عليه السلام).
[53.33-62]
{ أفرأيت الذي تولى } الآية نزلت في عثمان كان يعطي ماله في الخير، فقال له عبد الله بن سعيد بن سرح وهو أخوه من الرضاعة، يوشك الا يبقى لك شيء، فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا، فقال عبد الله: أعطي ناقتك برجلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك، فأعطاه وأشهد عليه وأمسك عن العطاء فنزلت، روي ذلك في الكشاف والحاكم والثعلبي، ومعنى تولى ترك المركز يوم أحد وعاد عثمان إلى ما كان من الانفاق، وقيل: نزلت في أبي جهل، وقيل: في الوليد بن المغيرة وكان يأتيه (صلى الله عليه وآله وسلم) يستمع قوله ثم يتولى عنه، وقيل: نزلت في العاص بن وائل، وقيل: في النضر بن الحارث { أعطى } المهاجرين خمس قلائص { وأكدى } اقطع، وقيل: أعرض عن الدين، وقيل أنفق المال قليلا وأكدى أي قطع { أعنده علم الغيب فهو يرى } فهو يعلم أن المؤمنين لا يظفرون بتبعتهم، وقيل: عنده علم المصالح فهو يرى أن البخل خيرا، ثم بين تعالى أنه يأخذ كل بذنبه خلاف ما قالوا ردا عليهم على ما تقدم فقال سبحانه: { أم لم ينبأ بما في صحف موسى } يعني أسفار التوراة { وإبراهيم الذي وفى } قيل: فعل ما أمر الله على التمام من تبليغ رسالته وبيان شرائعه، وقيل: امتحن بذبح ولده وإلقائه في النار وتحمل الأذية من قومه فوفى ما عليه من جميع ذلك، وقيل: في تبليغ الرسالة التي هي قوله: { ألا تزر وازرة وزر أخرى } وكانوا يأخذون القريب بذنب القريب، والجار بذنب الجار، وقيل: الصبر على ذبح ولده، وعلى نار نمرود، وقيامه بأضيافه وخدمته إياهم بنفسه، وأنه كان يخرج كل يوم يمشي فرسخا يرتاد ضيفا فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم، وقيل: وفى سهام الإسلام وهي ثلاثون عشر سهما في التوبة وعشرة التائبون في الأحزاب
إن المسلمين
[الأحزاب: 35] وعشرة في المؤمن
قد أفلح المؤمنون
[المؤمنون: 1]، وروي عنه: " فسماه الله خليله.... يقول إذا أصبح أو أمسى:
فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون
[الروم: 17]، إلى قوله:
وحين تظهرون
[الروم: 18] " { وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } أي لا ينتفع إلا بعمله { وأن سعيه سوف يرى } قيل: يراه مكتوبا في ديوانه وقيل:.... { ثم يجزاه الجزاء الأوفى } أي يكافأ على سعيه، وقيل: يعرف أعماله ثم يجزى عليه لأن ثم للتعتيب { وأن إلى ربك المنتهى } أي المرجع الذي ينفذ فيه أمره وحكمه، وقيل: ثوابه وعقابه ينتهي الخلق { وأنه هو أضحك وأبكى } قيل: فعل سبب الضحك وأبكى، وقيل: أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار، وقيل: أضحك الأشجار بالأنوار وأبكى السحاب بالأمطار، وقيل: أضحك المطيع بالرحمة وأبكى العاصي بالسخطة، وقيل: أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا { وأنه هو أمات وأحيا } قيل: هو القادر على أن يحيي ويميت، وقيل: أمات في الدنيا وأحيى في الآخرة، وقيل: أمات قوما وأحيى قوما، وقيل: أمات الآباء وأحيى الأولاد { وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى } { من نطفة إذا تمنى } قيل: تخرج من الرجل وتصب في الرحم { وأن عليه النشأة الأخرى } إن عليه أن يبعث الناس أحياء يوم القيامة للجزاء { وأنه هو أغنى وأقنى } قيل: أغنى بالمال وأقنى بأصول الأموال، وقيل: أغنى بالأموال وأقنى بالخدام، وقيل: أغنى بالمال وأقنى أيضا مما أعطى، وقيل: أغنى أكثر وأقنى أقل { وإنه هو رب الشعرى } أي خالقه ومالكه وهو نجم مضيء، وقيل: النجم الذي حلف الجوزاء وكانت خزاعة يعبدونه، سن لهم ذلك أبو كبشة رجل من أشرافهم، وكانت قريش تقول لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أبو كبشة تشبيها له بهم لمخالفته إياهم في دينهم، يريد أنه رب معبودهم هذا { وأنه أهلك عاد الأولى } قوم هود، وعاد الأخرى آدم، وقيل: الأولى القدماء لأنهم أول الأمم هلاكا بعد قوم نوح، وقيل: عادا أهلكت بالصيحة والثانية أهلكت بالرياح العظيم { وثمود فما أبقى } أي قوم صالح أهلكوا بالصيحة فما أبقى منهم أحد { وقوم نوح } أي أهلكنا قوم نوح { من قبل } هؤلاء { إنهم كانوا هم أظلم وأطغى } أي أشد ظلما وأشد بغيا، كانوا يؤذونه ويضربونه وما أثر فيهم دعاؤه قريبا من ألف سنة { والمؤتفكة أهوى } والقرى التي ائتفكت بأهلها، أي أهلكت وهم قوم لوط، رفعهم إلى السماء على جناحه جبريل ثم أهواها إلى الأرض أي أسقطها { فغشاها ما غشى } تهويلا وتعظيما لما صب عليهم من العذاب وأمطر عليها من الصخر المنضود، وقيل: أن قرى قوم لوط أربع: صنوا وذادرما وعامورا وسدوم { فبأي آلاء ربك تتمارى } نعم ربك تشك أيها الإنسان، نعم الدين أو نعم الدنيا { هذا نذير من النذر الأولى } قيل: هذا كناية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: عن القرآن، وقيل: هذه الأخبار الذي أخبر بها عن إهلاك الأمم من النذر الأولى من الأنبياء الذين خوفوا أممهم { أزفت الآزفة } وهي القيامة لأن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) خاتم النبيين { ليس لها من دون الله كاشفة } أي لا أحد يظهرها ويعينها غير الله تعالى { أفمن هذا الحديث تعجبون } إنكارا من حديث البعث والنشور والقيامة، وقيل: من القرآن { وتضحكون } استهزاء، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه لم ير ضاحكا بعد نزولها { وأنتم سامدون } لاهون لاعبون { فاسجدوا لله واعبدوا } ولا تعبدوا إلا له.
[54 - سورة القمر]
[54.1-6]
{ اقتربت الساعة } أي قربت القيامة بخروج خاتم الأنبياء وآخر الأمم، وقيل: اقتربت ساعتهم يوم بدر فإنهم يهلكون بالسيف { وانشق القمر } بمكة، قال ابن عباس: انفلق فلقتين وانشقاقه من آيات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعجزاته النيرة، عن أنس: أن الكفار سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية فانشق القمر مرتين، وكذا عن ابن عباس، قال ابن عباس انفلق فلقتين: فلقة ذهبت وفلقة بقيت، وقيل: انشق القمر بمكة فلقتين: فلقة فوق الجبل والأخرى أسفل من الجبل { وإن يروا آية } أي معجزة وحجة على صدقه { يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } قيل: ذاهب مضمحل ولا يبقى، وقيل: سحر مستمر من الأرض إلى السماء { وكذبوا بآيات الله } التي أنزلها، وقيل: بالقرآن، وقيل: بمحمد { واتبعوا أهواءهم } بالتكذيب { وكل أمر مستقر } أي كل أمر لا بد أن يصير إلى غاية يستقر عليها حاله خذلان أو نصرة في الدنيا وشقاوة في الآخرة وإن أمر محمد سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق، وقيل: مستقر حتى يجازى به في الجنة أو النار، معناه يستقر بأهل الخير الخير وبأهل الشر الشر والعذاب { ولقد جاءهم } يعني أهل مكة ومن حولهم { من الأنباء } قيل: من أخبار الأمم الذين هلكوا بأنواع العذاب ما فيه كفاية في الزجر عن الكفر والمعاصي، وقيل: هو القرآن الذي جاءكم فيه من الحكمة البالغة والعظة الباهرة ما فيه كفاية { ما فيه مزدجر } متناهي { حكمة بالغة } يعني القرآن فإنه لا تناقض فيه { فما تغن النذر } مع تكذيبهم وأعراضهم، والنذر الزواجر والوعد والوعيد، وقيل: الرسل { فتول عنهم } أي أعرض عنهم إذا تعرضوا لشفاعتك { يوم يدع الداع } وهو يوم القيامة فلا تشفع لهم لأنهم لم يقبلوا منك، وقيل: { فتول عنهم } فإنهم يوم يدع الداعي صفتهم هاتين، ولا خلاف أن اليوم القيامة والداعي اسرافيل وجبريل { إلى شيء نكر } غير معتاد وهو القيامة وأهوالها.
[54.7-23]
{ خشعا أبصارهم } وقرأ خاشعا أي خاضعا ذليلا { يخرجون من الأجداث } من القبور سراعا إلى المحشر { كأنهم جراد منتشر } منبت حيارى { مهطعين } مسرعين { إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر } أي شديد { كذبت قبلهم قوم نوح } قيل: أهل مكة { فكذبوا عبدنا } نوحا { وقالوا مجنون } أي هو مجنون { وازدجر } قيل: زجرا بالشتم والرمي بالقبيح، وقيل: زجرا بالوعيد { فدعا ربه أني مغلوب } ضعيف غلبني هؤلاء السفهاء { فانتصر } فانتقم بالنصر ثم بين تعالى كيف أجاب دعاء نوح وكيف أهلك قومه فقال سبحانه: { ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر } شديد الانصباب لم يقلع ولم ينقطع أربعين يوما، وقيل: سائل { وفجرنا الأرض } أي شققنا الأرض بالماء { عيونا } حتى جرى الماء على وجه الأرض { فالتقى الماء } أي ماء السماء وماء الأرض { على أمر قد قدر } فيه هلاك القوم على أمر قد قدره الله تعالى وهو هلاكهم، وقيل: على أمر قدره الله تعالى وعرف تقديره لا زيادة فيه ولا نقصان، وقيل: ماء السماء وماء الأرض { وحملناه } أي نوحا ولم يذكر القوم لأنهم تبع له { على ذات ألواح ودسر } المسامير التي شد بها السفينة { تجري بأعيننا } بحفظنا { جزاء لمن كان كفر } قيل: لنوح وتقديره كمن كفر بنبوته وأنكر حقه وكفر بالله، يعني أغرقناهم بكفرهم بالله، وقيل: بكفرهم بنوح { ولقد تركناها آية } يعني السفينة ونجاة من فيها { فهل من مدكر } أي متعظ وخائف ينزل به مثل ما نزل بأولئك، وقيل: هل من طالب عليهم ليعان عليه، ومتى قيل: لماذا أعاد فهل من مدكر؟ قلنا: أراد بالأول الاعتبار بأحوال المعذبين وبالناجين والثاني التذكر بمواعظ القرآن فلم يكن تكرار { فكيف كان عذابي ونذر } أي انذاري فكيف رأيتم انتقامي منهم { ولقد يسرنا القرآن للذكر } أي سهلنا للذكر لكي يتفكر فيه من تذكر متعظ { كذبت عاد } وهم قوم هود { فكيف كان عذابي ونذر } أي إنذاري { إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا } أي شديد الهبوب { في يوم نحس } أي يوم شؤم { مستمر } استمر بهم العذاب إلى نار جهنم، وقيل: استمرت بهم سبع ليال وثمانية أيام { تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر } قيل: تقتلع الناس ثم ترمي بهم على رؤوسهم فتدق رقابهم، وشبههم بالنخل بقوله: { منقعر } منقلع عن مغارسه، وقيل: لأن الريح تقلع رؤوسهم وتبقى أجساد بلا رؤوس { فكيف كان عذابي ونذر } { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } متعظ ومعتبر { كذبت ثمود بالنذر } وهم قوم صالح { فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه } فقالوا: إنه بشر فلم خص بالنبوة دوننا نتبعه { إنا إذا لفي ضلال وسعر } يعني ان اتبعناه كنا في ذهاب عن الحق والصواب، وقيل: في ضلال، وسعر قيل: في عذاب، وقيل: في هلاك.
[54.24-40]
{ أؤلقي الذكر عليه من بيننا } يعني كيف ألقي الوحي اليه من بيننا مع استوائنا في الأحوال، وقيل: كيف أوحي اليه مع فقره وقلة جاهه ونحن رؤساء متبعون { بل هو كذاب أشر } مبالغة أشر قيل: بطر لا يبالي ما يقول: { سيعلمون غدا } إذا نزل بهم { من الكذاب الأشر } { إنا مرسلو الناقة } أي باعثوها بانشائها على ما طلبوها معجزة لصالح وقطعا لعذرهم { فتنة لهم } أي امتحانا واختبارا { فارتقبهم } أي انتظر أمر الله فيهم { واصطبر } أي اصبر على آذائهم حتى يأتي أمر الله فيهم { ونبئهم } أي أخبرهم { أن الماء قسمة بينهم } بين الناقة وبين قوم صالح يوم لهم ويوم لها { كل شرب } نصيب من الماء { محتضر } يحضره من كان يومه ففي يوم الناقة وفي يومهم يحضرون الماء { فنادوا صاحبهم } دعاء أهل البلد واحدا منهم وهو من أسرارهم قذار بن سالف أشقاء ثمود { فتعاطى } أي تناول الناقة بسيفه فعقرها { فكيف كان عذابي ونذر } إياهم { إنا أرسلنا عليهم صيحة واحدة } صاح بها جبريل { فكانوا كهشيم المحتظر } وهو الشجر اليابس المتهشم بعدما كان أخضرا، المحتظر بفتح الظاء، وأراد الحظيرة، وقرأ الباقون بكسر الظاء وأرادوا صاحب الحظيرة، وقيل: كحشيش يابس يجمعه المحتظر لغنمه فتأكل الغنم عن أبي علي، وقيل: كشراب الحظيرة { ولقد يسرنا القرآن للذكر } سهلنا القرآن للذكر { فهل من مدكر } متعظ، ثم بين قصة لوط وقومه فقال سبحانه: { كذبت قوم لوط بالنذر } بالآيات المشتملة على الوعيد { إنا أرسلنا عليهم حاصبا } قيل: ريحا رمتهم بالحجارة وحصبتهم بها، وقيل: الحجارة لمن كان خارج البلد، وأما أهل البلد فانقلبت بهم { إلا آل لوط } من كان تبعا له وعلى دينه { نجيناهم بسحر } أي وقت السحر أمر الله تعالى جبريل فأخرجهم وترك فيها امرأته لأنها كانت كافرة { نعمة من عندنا } عليهم حيث نجيناهم وأهلكنا أعداءهم { كذلك نجزي من شكر } يعني نكافئ من شكر بنعمتنا { ولقد أنذرهم بطشتنا } أي خوف لوط قومه بأخذ الله إياهم ان لم يؤمنوا { فتماروا بالنذر } جادلوا بالباطل واستهزؤا بالآيات { ولقد راودوه عن ضيفه } أي طلبوا أن يخلي بينهم وبين ضيفه وهم الملائكة النازلون بهم على صورة الغلمان { فطمسنا أعينهم } قيل: محونا، وقيل: عميت أبصارهم، وقيل: مسح جبريل وجوههم وأعماهم { فذوقوا عذابي ونذر } أي تخويفي وما كنت أنذركم وأوعدكم قيل: الملائكة قالوا: ذوقوا عذاب الله، وقيل: الله قال لهم: ذلك الحال ذوقوا وهو الظاهر { ولقد صبحهم بكرة } أي نزل بهم صباحا { عذاب } وهو الانقلاب والحجارة { مستقر } قيل: استقر بهم العذاب إلى يوم القيامة، وقيل: استقر بهم حتى هلكوا { فذوقوا عذابي ونذر } وقيل: لهم ذلك الحال، ومتى قيل: لم كرر ذوقوا عذابي ونذر قالوا: الأول عند الطمس والثاني عند الانقلاب مما يحدد العذاب يحدد التقريع { ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } متعظ بذلك.
[54.41-55]
{ ولقد جاء آل فرعون } أي قومه الذين اتبعوه في دينه { النذر } الآيات، وقيل: الرسل موسى وهارون { كذبوا بآياتنا كلها } بالآيات التسع التي جاء بها موسى، وقيل: بجميع الآيات لأن التكذيب ببعضها تكذيب بكلها { فأخذناهم } بالعذاب { أخذ عزيز } قادر ولا يمتنع عليه شيء { مقتدر } على ما يشاء ثم خوف قومه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينزل بهم مثل ذلك، فقال: { أكفاركم خير من أولئكم } أي ليس كفار قريش خير من هؤلاء الذين تقدم ذكرهم لا في القوة ولا في العدد { أم لكم براءة في الزبر } من العذاب في الكتب السابقة وهذا إنكار، أي ليس لهم ذلك { أم يقولون نحن جميع منتصر } أي كما ليسوا بخير من أولئك ولا لهم براءة كذلك لا جمع لهم يمنعهم عذابي وينصرهم { سيهزم الجمع } يعني وإن جمعوا الجموع فإن الله يهزمها { ويولون الدبر } قيل: يوم بدر { بل الساعة موعدهم } يعني يوم القيامة موعدهم جميعا { والساعة أدهى } سميت بذلك لسرعة مجئيها إذ هي أعظم بلية وأشد مرارة من عذاب يوم بدر لأن عذاب النار يدوم { إن المجرمين } إلى آخر السورة نزلت في وفد نجران، وقيل: في القدرية من هذه الأمة وعن كعب نجد في التوراة أن القدرية { يسحبون } { على وجوههم } في النار، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا " ، قيل: يا رسول الله ومن القدرية؟ قال: " قوم يعملون المعاصي يقولون الله قدرها عليهم " قيل: ومن المرجئة؟ قال: " هم قوم يقولون الايمان بلا عمل وقد علمنا أن المحبرة أعداء الرحمان وشهود الشيطان "
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" القدرية مجوس هذه الأمة "
{ في ضلال } في ذهاب عن الحق وعن وجه النجاة، وقيل: في هلاك، { وسعر } نار مسعرة { يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر } أي عذاب النار، والسقر جهنم، وقيل: باب من أبوابها { إنا كل شيء خلقناه بقدر } يعني كل شيء خلقناه على قدر معلوم، فاللسان على مقدار يصلح الكلام، واليد للبطش، والرجل للمشي، والعين للبصر، والاذن للسمع، والمعدة للطعام، وقيل: خلق النار بمقدار استحقاق أهلها، ومتى قيل: هلا حملتم ذلك على أفعال العباد وأنه خلق فيهم الخير والشر، قلنا: ليس في الظاهر ذلك لأن أفعالهم ليست بخلق الله تعالى لأن فيها الكفر والظلم { وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر } قيل: أراد قيام الساعة، يعني إذا أردنا قيامها أعدنا السماوات والأرض وجميع المخلوقات في قدر لمح البصر بسرعة { ولقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر } { وكل شيء فعلوه في الزبر } { وكل صغير وكبير مستطر } وعيد لهم، ولقد أهلكنا أشياعكم من كان على دينكم معتبر لكم، وقيل: الأمم السالفة فهل من مدكر؟ { وكل شيء فعلوه } الأتباع { في الزبر } في الكتب التي كتبها الحفظة، وقيل: في اللوح { وكل صغير وكبير } من أفعالهم { مستطر } مكتوب { إن المتقين } الذين اتقوا المعاصي { في جنات ونهر } أنهار جارية { في مقعد صدق } قيل: في مجلس حق لا لغو فيه وهو الجنة ووصف المكان بالصدق لأنه يدوم وغيره يزول { عند مليك مقتدر } قيل: في علم الله صائر إلى ذلك الموضع، وقيل: المكان الذي هيأه لأوليائه والمليك الملك، والمقتدر هو القادر تبارك وتعالى.
[55 - سورة الرحمن]
[55.1-13]
قيل: نزلت هذه السورة حين قالوا وما الرحمان؟ فجوابه الذي: { علم القرآن } و { خلق الإنسان } ، وقيل: هو جواب لأهل مكة حين قالوا إنما يعلمه بشر فبين الذي يعلمه القرآن هو { الرحمان } وهو اسم من أسماء الله تعالى لا يسمى به غيره، لأن معناه الذي وسعت رحمته كل شيء، فأما راحم ورحيم فيجوز في صفات العباد وقوله: { علم القرآن } أي من رحمته أن علمكم القرآن بأن أنزله على رسوله فتأخذوا سنة { خلق الإنسان } قيل: الإنس، وقيل: آدم، { علمه البيان } قيل: أراد اللغات وكان آدم يتكلم بسبع مائة ألف لغة أفضلها العربية، وقيل: بين له الحلال والحرام والخير والشر { الشمس والقمر بحسبان } قيل: بحسبان ومنازل يجريان فيها ولا يعدوانها، وقيل: بحساب الأوقات والأعمار والآجال، لولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدر أحد كيف يحسب شيئا، وقيل: كيف يجريان بقدر عن الضحاك { والنجم } النبات الذي ينجم من الأرض لا ساق له كالبقول { والشجر } الذي له ساق وسجودهما انقيادهما لله فيما خلقا له، وأنهما لا يمنعان تشبيها بالساجد من المكلفين وانقياده، وعن مجاهد: النجم نجوم السماء { والسماء رفعها } خلقها مرفوعة { ووضع الميزان } العدل، وقيل: الذي يوزن به ليتوصل به إلى الإنصاف، وقيل: القرآن الذي هو أصل الدين { ألا تطغوا في الميزان } أي لا تجاوزوا فيه الحد { وأقيموا الوزن بالقسط } أي بالعدل { ولا تخسروا الميزان } لا تنقصوا ما تزنون { والأرض وضعها } أي خلقها مسكنا ومنصرفا، وقيل: بسطها { للأنام } ، وقيل: للجن والانس، وقيل: لكل ذي روح { فيها فاكهة } ما يتفكهون به من النعم التي لا تحصى { والنخل ذات الأكمام } قيل: الأكمام ليف النخل التي يكم فيه، وقيل: الطلع { والحب ذو العصف } ، قيل: التبن، وقيل: هو ورق الزرع { والريحان } الذي يشم، وقيل: الريحان الثمرة قوت الانس والعصف قوت البهائم { فبأي آلاء ربكما تكذبان } الخطاب للإنس والجن وكرر لطول الغفلة وتأكيد للحجة وتذكر للنعم، ومن عادة العرب التكرير فيما استعظموه.
[55.14-32]
{ خلق الإنسان } آدم { من صلصال } من طين يابس يسمع له صلصلة، وقيل: الحمأ مختلط أحمر المنتن { كالفخار } كالآجر { وخلق الجان } أبو الجن كما أن آدم أبو الإنس، وقيل: هو إبليس { من مارج من نار } مختلط أحمر وأبيض وأسود، وقيل: مختلط أحمر وأصفر { فبأي آلاء ربكما تكذبان } { رب المشرقين ورب المغربين } قيل: مشرق الشتاء ومشرق الصيف { مرج البحرين يلتقيان } أرسل البحر المالح والبحر العذب متجاورين متلاقين لا فصل بين الماءين في العين، { بينهما برزخ لا يبغيان } حاجز من قدرة الله سبحانه لا يبغي أحدهما على الآخر فيختلطان { يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } اللؤلؤ: الدر، والمرجان: الخرز الأحمر، وقيل: اللؤلؤ كبار الدر، والمرجان صغاره، وقيل: هو بحر فارس والروم، وقيل: هو بحر السماء والأرض يلتقيان في كل عام، وروي في الثعلبي: مرج البحرين علي وفاطمة، بينهما برزخ محمد، يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان الحسن والحسين (عليهم السلام) { وله الجوار المنشآت في البحر كالأعلام } السفن كالأعلام كالجبال العظام { كل من عليها فان } أي كل من على الأرض { ويبقى وجه ربك } يعني يبقى ربك وذكر الوجه تأكيدا { ذو الجلال والإكرام } { يسأله من في السماوات والأرض } يعني يسأل الملائكة والجن والإنس وغيرهم حوائجهم { كل يوم هو في شأن } يوم يحيي ويميت ويأمر وينهي، وكذلك صحة أو سقم وشاب وشيب ونجاة وهلاك، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد سئل عن هذه الآية وما ذلك الشأن فقال:
" يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما، ويضع آخرين "
{ سنفرغ لكم } قيل: هذا تهديد، وفي قراءة أبي سنفرغ إليكم على معنى سنقصد اليكم وهو مستعار من قول الرجل لمن يتهدد سأفرغ لك، والثقلان الجن والانس، وعنه:
" إني تارك فيكم الثقلان كتاب الله وعترتي "
وسميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض.
[55.33-55]
{ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم } أن تهربوا من قضائي وتخرجوا من ملكوتي ومن سمائي وأرضي فافعلوا، ثم قال: لا تقدرون على النفوذ { إلا بسلطان } يعني بقوة وقهر وغلبة وأنا لكم ذلك ونحوه، وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء إن الملائكة تنزل فتحيط بجميع الخلائق فإذا رأوهم الجن والإنس هربوا فلا يأتون وجها إلا وجدوا الملائكة أحاطت، قيل: يكون ذلك يوم القيامة عن أكثر المفسرين، وقيل: في الدنيا إن قدرتم أن تنفذوا هاربين من العذاب طالبين النجاة، من أقطار أطراف السماوات والأرض { لا تنفذون } لا تنجون من العذاب { إلا بسلطان } أي بحجة { يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس } كلهما بالضم والكسر والشواظ اللهب الخالص والنحاس الدخان { فلا تنتصران } فلا تمتنعان { فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان } كدهن الزيت أو اسم ما يدهن به كالحرم والأدم، وقيل: الدهان الأديم الأحمر { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } وإنما لم يسألوا في ذلك اليوم لما كان قد السماء كافي عن السؤال، قال تعالى: { يعرف المجرمون بسيماهم } بسيماء المجرمين وهو سواد الوجوه وزرقة العيون، قال جار الله: فإن قلت: هذا خلاف قوله سبحانه:
فوربك لنسألنهم أجمعين
[الحجر: 92]، وقوله:
وقفوهم إنهم مسؤولون
[الصافات: 24]، قلت: ذلك يوم طويل وفيه مواطن فيسألون في موطن ولا يسألون في آخر، قال قتادة: تكون المسألة ثم يختم على أفواه القوم وتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، وقيل: لا يسأل عن ذنبه ليعلم من جهته ولكن يسأل سؤال توبيخ { فيؤخذ بالنواصي والأقدام } قيل: يجمع ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره، وقيل: تسحبهم الملائكة تارة فيؤخذ بالنواصي وتارة بالأقدام { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون يطوفون بينها وبين حميم آن } يعني بين عذاب جهنم وبين حميم آن قد انتهى حره، وقيل: هو وادي من أودية يجمع فيه صديد أهل النار { ولمن خاف مقام ربه } أي مقامه للجزاء والمحاسبة يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين، ويجوز أن يريد مقام ربه أن الله قائم عليه، أي حافظا فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت { جنتان } جنة من ذهب وجنة من فضة، وقيل: من الياقوت الأحمر والزبرجد الأخضر ترابها الكافور والعنبر، وقيل: هما جنة عدن وجنة نعيم { ذواتا أفنان } قيل: ذواتا ألوان من النعم والفواكه { فبأي آلاء ربكما تكذبان } بهذه الجنتان أم بغيرهما { فيهما عينان تجريان } قيل: بالكرامة على أهل الجنة، وقيل: بالماء الزلال أحدهما التسنيم والأخرى السلسبيل { فيهما من كل فاكهة زوجان } أي صنفان، قال ابن عباس: ما في الدنيا ثمرة إلا في الجنة { متكئين } أي قاعدين كالملوك { على فرش بطائنها } جمع بطانة وهو خلاف الظاهر { من استبرق } قيل: غليظ الديباج، وقيل: هو رقيق الديباج والبطائن، من استبرق وهو الديباج الغليظ، قال ابن مسعود وأبو هريرة: هذه البطانة فما ظنكم بالظهارة، وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من استبرق مما الظاهر؟ فقال: هذا مما قال الله:
فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين
[السجدة: 17] { وجنى الجنتين دان } أي تمرها قريبة تنالها يدي القائم والقاعد { فبأي آلاء ربكما تكذبان } بما وعد من هذه النعم أم بغيره.
[55.56-78]
{ فيهن قاصرات الطرف } أي نسوة غاضات الأعين قصرن أعينهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم، قال أبو زيد: تقول لزوجها: وعزة ربي ما أرى في الجنة أحسن منك، وقيل: لا ينظرن بطرفهن إلى غيرهم، قيل: هن المؤمنات، وقيل: الحور المنشآت { لم يطمثهن إنس قبلهم } كأنه قيل: هن أبكار لم يطمثهن أحد { كأنهن الياقوت والمرجان } قيل: الياقوت في الحسن والصفاء، والمرجان في النور وهو أشد اللؤلؤ بياضا، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن المرأة من أهل الجنة يرى مخ ساقيها من وراء سبعين حلة من حرير الجنة "
{ هل جزاء الإحسان } هل جزاء من أحسن العمل في الدنيا { إلا الإحسان } اليه بالثواب، وعن محمد بن الحنفية: هي مستحلة للبر والفاجر، أي مرسلة، أي كل من أحسن أحسن الله إليه وكل من أساء أساء إليه { فبأي آلاء ربكما تكذبان } بنعم الدين أم بالثواب الجزيل { ومن دونهما } قيل: من دونهما في الدرجة، وقيل: دونهما في الفضل، وقيل: أمامهما، وقيل: غيرهما { جنتان } قيل: هي أربع جنات للسابقين وجنتان للتابعين، وقيل: الأولتان من ذهب وفضة والأخرتان من ياقوت وزمرد { مدهامتان } قد أدهامتا من شدة الخضرة { فيهما عينان نضاختان } فوارتان بالماء ينبع من أصلهما ثم يجريان، وقيل: ينضخان على أولياء الله بالمسك والكافور، وقيل: أنواع الخيرات { فيهما فاكهة ونخل ورمان } قيل: أفرد النخل والرمان بالذكر فضيلة لهما { فيهن خيرات حسان } قيل: خيرات فاضلات، عن الحسن: { حور مقصورات في الخيام } أي قصرن على أزواجهن فلا يردن بدلا بهم، وقيل: محبوسات في الحجاب مستورات قيل: الخيمة درة محفوفة فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" الخيمة درة طولها في السماء ستون ميلا "
{ لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } أي لم يمسهن لجماع { متكئين } جلوس جلسة الملوك من النعم { على رفرف خضر } قيل: هو رياض الجنة، وقيل: هو المجالس، وقيل: الوسائد، وقيل: فرش مختلفة الألوان { وعبقري حسان } قيل: زرابي وهي الطنافس، وقيل: العبقري الديباج، وقيل: البسط، وقيل: منسوب إلى عبقرين عم العرب أنه بلد الجن فينسبون إليه كل شيء عجيب { فبأي آلاء ربكما تكذبان }.
[56 - سورة الواقعة]
[56.1-14]
{ إذا وقعت الواقعة } القيامة، قيل: سميت بها لأنها كائنة لا محالة { ليس لوقعتها كاذبة } أي ليس في كونها تكذيب { خافضة رافعة } تخفض قوما إلى النار وترفع قوما إلى الجنة، وقيل: رفعت أقواما إلى عليين كانوا أذلة في الدنيا وخفضت أقواما إلى أسفل السافلين كانوا مرتفعين { إذا رجت الأرض رجا } زلزلت زلزالا شديدا { وبست الجبال بسا } قيل: بثت بثا أي قربت، وقيل: بسطت بسطا كالرمل والتراب { فكانت هباء منبثا } قيل: هي الغبار يدخل الكوة مع الشعاع، وقيل: رهج الدواب عن علي (عليه السلام) { وكنتم أزواجا ثلاثة } أي أصنافا، ثم بين الأصناف فقال سبحانه: { فأصحاب الميمنة } قيل: الذي يؤخذ بهن ذات اليمين، وقيل: هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم { ما أصحاب الميمنة } تفخيما لشأنهم كما يقال: زيد ما زيد { وأصحاب المشأمة } قيل: يؤخذون ذات الشمال، وقيل: يعطون كتبهم بشمالهم { والسابقون السابقون } قيل: هم الذين حذاء القبلتين، وقيل: أنواع الأنبياء، وقيل: السابقون إلى طاعة الله، وقيل: إلى الصلوات الخمس عن علي (عليه السلام)، وقيل: إلى الجهاد، وقيل: الناس ثلاثة: رجل ابتكر في حدث سنه طاعة الله وداوم عليها حتى خرج من الدنيا فهذا من السابقين، ورجل ابتكر ذنوبه بالذنوب ثم تاب فهو صاحب اليمين، ورجل ابتكر الشر وداوم عليه حتى مات فهو صاحب الشمال { أولئك المقربون } من رحمة الله وكرامته { في جنات النعيم } { ثلة من الأولين } { وقليل من الآخرين } من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وروي عنه أنه قال:
" الثلثان جميعا من أمتي "
، وقيل: جماعة من هذه الأمة وهم الصحابة وقليل من الآخرين ممن قرن حالهم بحال أولئك.
[56.15-45]
{ على سرر موضونة } مشبوكة بالذهب والجواهر، وقيل: بالدر مشتبكة والياقوت، وقيل: مصفوفة، وقيل: طول كل سرير ثلاثمائة ذراع فإذا أراد العبد أن يجلس عليهم تواضعت فإذا جلست ارتفعت { متكئين عليها } جالسين جلوس الملوك من النعمة { متقابلين } يقابل بعضهم بعضا للزيارة ولا يرى بعضهم بعضا قفا صاحبه، وقيل: تقابل المرأة زوجها { يطوف عليهم ولدان مخلدون } لا يموتون، وقيل: مقرطون، قيل: هم أطفال المشركين خدم أهل الجنة، وقيل: هم ولدان خلقهم الله لخدمة أهل الجنة { بأكواب } جمع كوب وهي الأباريق واسعة الرؤوس لا خراطيم لها { وأباريق } جمع إبريق وهي التي لها عرى وخراطيم { وكأس من معين } أي كأس خمر معين طاهرة للعيون جارية { لا يصدعون عنها } أي لا تصدع رؤوسهم من شربها { ولا ينزفون } ولا يترددون بسكر { وفاكهة مما يتخيرون ولحم طير مما يشتهون } { وحور } قيل: بيض واسعات العيون كأمثال { اللؤلؤ المكنون } في الصدف لا تمسه الأيدي { جزاء بما كانوا يعملون لا يسمعون فيها لغوا } أي لا يتكلم بشيء لا فائدة فيه { ولا تأثيما } كلما يأثم به قائله { إلا قيلا سلاما سلاما } أي لكن يسلم بعضهم على بعض، وقيل: الملائكة تسلم عليهم { وأصحاب اليمين } الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، وقيل: يأخذون ذات اليمين إلى الجنة { ما أصحاب اليمين } تعظيما لشأنهم { في سدر } السدر شجرة خضراء وبها رائحة طيبة، وقيل: هي شجرة النبق { مخضود } أي لا شوك فيه، وقيل: الموقر حملا { وطلح } قيل شجر الموز، وقيل شجرة تشبه الطلح { منضود } ثمرها متراكم نضد بعضه على بعض، وقيل: أشجار الجنة من عروقها إلى فنائها ثمر { وظل ممدود } لا تنسخه الشمس { وماء مسكوب } دائم { وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة } بل تظل في كل وقت { وفرش مرفوعة } قيل: التبسط والمرفوعة العالية، وقيل: رفيعة القدر { إنا أنشأناهن } أي خلقناهن واخترعناهن اختراعا { فجعلناهن أبكارا } عذارى { عربا } قيل: العواشق لأزواجهن، وقيل: حسان الكلام { أترابا } مستويات على نسق واحد، قيل: هن نساء الدنيا، وقيل: هن الحور العين، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا أبناء ثلاث وثلاثين على خلق آدم طوله ستون ذراع في سبعة أذرع "
{ لأصحاب اليمين } أي أنشأنا هزلهم { ثلة من الأولين وثلة من الآخرين } قيل: جماعة من الأمم الماضية وجماعة من أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال } قيل: يأخذ كتابه بشماله، وقيل: الذين يؤخذ بهم طريق الشمال إلى النار { في سموم } ريح حارة وهي سموم جهنم، وقيل: حر النار وما يصيبهم من لهبها { وحميم } ماء حار { وظل من يحموم } قيل: دخان شديد السواد، وقيل: الحميم جبل فيء يستغيث أهل النار إلى ظله، وقيل: اسم جهنم، وقيل: النار سوداء وأهلها سود { لا بارد } لأنه دخان جهنم { ولا كريم } ولا حسن { إنهم كانوا قبل ذلك مترفين } في الدنيا منعمين.
[56.46-70]
{ وكانوا يصرون على الحنث العظيم } كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت { وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما } بعد الموت { أئنا لمبعوثون } أحياء قالوه على وجه التعجب والإنكار { أو آباؤنا الأولون } الضالون عن الدين لأنهم صاروا رمما { قل } يا محمد جوابا لهم { إن الأولين والآخرين } { لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم } وهو يوم القيامة { ثم إنكم أيها الضالون } عن الدين { المكذبون } بالآيات { لآكلون من شجر من زقوم } ، قيل: شجرة في جهنم، وقيل: هو شيء موحش كريه يأخذ بالنفس والحلق { فمالئون منها البطون } { فشاربون عليه } أي على الأكل، وقيل: على الشجر { من الحميم } الماء الحار { فشاربون شرب الهيم } الإبل العطاش التي لا تروى، وقيل: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل { هذا نزلهم يوم الدين } أي يوم الجزاء { نحن خلقناكم فلولا تصدقون } بالبعث لأن من قدر على الابتداء قدر على الإعادة { أفرأيتم ما تمنون } في الأرحام من النطف فيصير ولدا { أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون } لذلك { نحن قدرنا بينكم الموت } أي رتبناه على مقدار، فمنهم من يموت صبيا، ومنهم من يموت شابا، ومنهم من يصير هرما، وقيل: قدرنا أي كتبنا آجال الموت { وما نحن بمسبوقين } قيل: لا يسبق أحد فيميتكم قيل: نميتكم، وقيل: الوقت الذي قدر الموت فيه، وقيل: عاجزين عن إهلاككم { على أن نبدل أمثالكم } أي نهلككم وننشئ قوما آخرين مثلكم، وقيل: على بمعنى اللام، أي قدرنا الموت لنبدل أمثالكم { وننشئكم } نخلقكم { فيما لا تعلمون } قيل: في النشأة الثانية من حيث لا تعلمون كيف كان، وقيل: ننشئكم بصورة القردة والخنازير { ولقد علمتم النشأة الأولى } يعني الخلقة الأولى وهي خلقة الأشياء من عدم { فلولا تذكرون } أي هلا تذكرون أنه قادر على إعادتكم كما قدر على اتخاذكم ابتداء { أفرأيتم ما تحرثون } أي تبذرون الأرض وتلقون البذر { أأنتم تزرعونه } تنبتون { أم نحن الزارعون } { لو نشاء لجعلناه حطاما } هشيما متكسرا لا ينتفع به، وقيل: نبتا لا حب فيه { فظلتم تفكهون } تعجبون، وقيل: تندمون على ما سلف منكم في معصية الله { إنا لمغرمون } أي وتقولون أنا لمغرمون وهو الذي ذهب ماله، وقيل: غرمنا النفقة التي أنفقناها عليها، وقيل: لمعذبون، وقيل: لمهلكون { بل نحن محرومون } أي نحن قوم محرومون لا حظ لنا ولا بخت، وقيل: ممنوعون من الرزق والخير { أفرأيتم الماء الذي تشربون } { أأنتم أنزلتموه من المزن } فإذا لم تقدروا على إنزاله فاعلموا أن له منزلا غيركم { لو نشاء جعلناه أجاجا } قيل: شديد الملوحة { فلولا تشكرون } أي هلا تشكرون على إنزاله عذبا تلتذون بشربه.
[56.71-96]
{ أفرأيتم النار التي تورون } تقدحون وتستخرجونها من زندكم، أي تظهرونها بالأزند { أأنتم أنشأتم شجرتها } أي أنتم خلقتم الشجرة التي بها النار، وقيل: هو المرخ والغفار، ومنه الحديث:
" في كل شجر نار "
{ أم نحن المنشئون } المخترعون { نحن جعلناها تذكرة } يعني جعلنا نار الدنيا تذكرة للنار الكبرى نار جهنم، وروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من حر جهنم "
{ ومتاعا للمقوين } المسافرين، يعني النار التي في الأرض المقفرة، وقيل: متاعا للناس كلهم { فسبح باسم ربك العظيم } الذي خلق هذه الأشياء { فلا أقسم } قيل: معناه أقسم ولا صلة، وقيل: لا يراد، وقيل: القسم كقوله: لا والله لأفعل كذا { بمواقع النجوم } قيل: نجوم القرآن التي أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه أنزل نجوما، وقيل: بمساقط النجوم ومطالعها، وقيل: انتشارها وانكدارها يوم القيامة، قيل: القسم برب النجوم، وقيل: بهذه الأشياء { وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } أي لو علمتم عظمه { إنه لقرآن كريم } هذا جواب القسم، ومعنى هذا الكتاب قرآن كريم { في كتاب مكنون } محفوظ مصون وهو اللوح المحفوظ { لا يمسه } قيل: أنها كناية عن اللوح، يعني لا يمسه إلا الملائكة { المطهرون } ، وقيل: هو القرآن فلا يمسه ولا يقرأه إلا المطهرون من الجنابة، وقيل: المطهرون من الشرك، وقيل: لا ينبغي أن يمسه إلا من هو على الطهارة من الناس { تنزيل من رب العالمين } أي منزل من جهته { أفبهذا الحديث } قيل: القرآن، وقيل: الإعادة، وقيل: النبوة { أنتم مدهنون } مكذبون { وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون } قيل: على حذف المضاف، يعني تجعلون شكر رزقكم التكذيب، أو وضعتم التكذيب موضع الشكر، وقرئ وتجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون، والمعنى تجعلون شكركم لنعمة القرآن أنكم تكذبون به { فلولا إذا بلغت الحلقوم } يعني فهلا إذا بلغت الروح وهي النفس عند خروجها من الجسد في حال النزاع { وأنتم حينئذ تنظرون } إلى أمري وسلطاني، وقيل: الخطاب لمن حضر الميت من أهله فلا يقدرون على دفع شيء منه، وقيل: الخطاب للمريض أي تنظرون فلا تقدرون على دفع ما نزل بكم { ونحن أقرب إليه منكم } بالقدرة { ولكن لا تبصرون } { فلولا إن كنتم غير مدينين } أي غير محارين مدينين، قيل: مديونين، وقيل: محاسبين، وقيل: مصدقين، وقيل: موقنين { ترجعونها } أي هل تردون الروح إلى النفس إن كان ما تزعمون، و { كنتم صادقين } إلا صانع ولا بعث فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أن ذلك تقدير صانع مدبر حكيم { فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنات نعيم } قيل: الروح: الراحة، والريحان: الرزق، وقيل: الروح: الفرح، والريحان: المشموم، وقيل: روح في القبر والريحان في الجنة { وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين } أي فسلام لك يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين، أي يسلمون عليك كقوله:
الا قيلا سلاما سلاما
[الواقعة: 26] { وأما إن كان من المكذبين الضالين } عن الحق { فنزل من حميم } أي نزله الذي يقام له ورزقه المعد له الحميم ما يجمع من صديد أهل النار { وتصلية جحيم } الحار النار وألزموها دائما { إن هذا } ما تقدم من الوعد والوعيد { لهو حق اليقين } أي الحق الثابت من اليقين { فسبح } فصل بذكره، وقيل: نزهه وعظمه.
[57 - سورة الحديد]
[57.1-4]
المعنى: { سبح لله ما في السماوات و الأرض } إما ما يعقل في السماوات الملائكة والأرض والمؤمنون فيسبحونه قولا وفعلا واعتقادا، وإما ما لا يعقل فتسبيحه على وجهين: أحدهما بما فيه من الدلالة على تنزيهه، والثاني دلالة العبادة له فيصرفه كيف يشاء { وهو العزيز الحكيم } القادر الذي لا يمتنع عليه شيء ومع ذلك حكيم محكم لأفعاله لا يفعل إلا الحسن، وقيل: الحكيم العالم بكل شيء { له ملك السماوات والأرض } اختراعهما وتصرفهما كما يشاء، وقيل: خزائنهما من مطر ونبات ورزق وإحياء وإماتة وإيجاد وإعادة { يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير } { هو الأول والآخر } قيل: الموجد أولا قبل كل موجود والآخر بعد فناء كل شيء يعني أنه قديم باقي { والظاهر } بالأدلة الدالة عليه، { والباطن } لكونه غير مدرك بالحواس، وقيل : الظاهر على كل شيء بالقدرة، والباطن العالم بما ظهر وبطن { وهو بكل شيء عليم } موجودا كان أو معدوما { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } لاعتبار الملائكة بأنه يظهر شيئا بعد شيء { ثم استوى على العرش } المعروف، والاستواء عليه كونه قادرا عليه وعلى خلقه قال:
قد استوى بشر على العراق
من غير سيف ودم مهراق
وهو العرش المعروف في السماء، وقيل: العرش الملك، وقيل: على بمعنى إلى يعني لما خلق السماوات والأرض استوى على العرش فخلقه، والاستوى بمعنى القصد كقوله:
ثم استوى إلى السماء
[البقرة: 29] { يعلم ما يلج في الأرض } أي ينزل في الأرض من الحيوانات والأموات والكنوز والمياه { وما يخرج منها } من أنواع النبات والجواهر والميات { وما ينزل من السماء } من الملائكة والأمطار { وما يعرج فيها } أي يصعد من الأعمال حتى لا يخفى عليه شيء { وهو معكم } بالعلم والقدرة { أينما كنتم والله بما تعملون بصير }.
[57.5-12]
{ له ملك السماوات والأرض } لا مالك لهما سواه { وإلى الله ترجع الأمور } { يولج الليل في النهار } أي يدخل ما ينقص من الليل في النهار وفي الليل ونزيده وما ينقص من النهار في الليل { وهو عليم بذات الصدور } أي ما يكون في القلوب { آمنوا بالله ورسوله } أي صدقوا رسوله فيما أدى { وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه } أي أنفقوا في سبيل الله من المال الذي خلفتم فيه غيركم بأن أورثكم إياه عمن كان قبلكم { فالذين آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا لهم أجر كبير } أي عظيم دائم { وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم } معناه ولا عذر لكم يا أهل مكة من ترك الايمان مع دعاء الرسول وظهور المعجزات، أي عذر بعده { وقد أخذ ميثاقكم } بالايمان حيث ركب فيكم العقول، ونصب لكم الأدلة، ومكنكم من النظر، وأراح عللكم ماذا يبقى لكم عليه بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول، فما لكم لا تؤمنون وكأنه أخذ العهد والميثاق، والرسول يدعوكم إلى ما ركب الله في عقولكم في معرفة الصانع وصفاته { هو الذي ينزل على عبده آيات بينات } القرآن والأدلة { ليخرجكم من الظلمات إلى النور } قيل: من الضلال إلى الهدى { وإن الله بكم لرؤوف رحيم } أي بتوفيقه ورحمته يريد بكم طريق الفوز والنجاة { وما لكم ألا تنفقوا } يعني أي شيء يمنعكم من الإنفاق { في سبيل الله } وهو سبيل البر { ولله ميراث السماوات والأرض } يفني الخلق ويبقى هو { لا يستوي منكم } في الفضل والكمال والثواب { من أنفق من قبل الفتح } قيل: فتح مكة { وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد } أي من بعد الفتح { وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير } أي عالم فيجازيكم { من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } أي ينفق في سبيل الله إنفاقا فيجازيه الله تعالى عليه فيكون كالقرض في وجوه البر، وقيل: من الحلال، وقيل: يفعل لله مخلصا { فيضاعفه له } قيل: يضاعف له الجزاء إلى سبع مائة { وله أجر كريم } خالص لا يشوبه صفة نقص { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات } في المحشر { يسعى نورهم } الضياء الذي تمرون فيه، وقيل: لكل مؤمن نور على قدر عمله، وقيل: هذا النور يكون في المحشر، قيل: على الصراط، وقيل: فيهما ولا مانع من ذلك فقوله: { نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } قيل: أراد جميع جوانبهم فعبر عنها بالبعض { بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار } أي من تحت أبنيتها وأشجارها { خالدين فيها } إشارة إلى دوامهم ودوام النعم { ذلك هو الفوز العظيم } أي الظفر بالمطلوب فلا ظفر مثله تعالى الله العظيم.
[57.13-17]
{ يوم يقول المنافقون والمنافقات } يعني إذا رأى المنافقون نور المؤمنين يقولون لهم: { انظرونا نقتبس من نوركم } انظرونا بصلة الهمز وضم الظاء وهي قراءة نافع ومن تابعه، يعني اصبروا لنا، فأما بكسر الظاء وقطع الألف وهي قراءة حمزة أمهلونا لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف ركاب على نوق تزف بهم وهؤلاء مشاة، أو انظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به { قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا } طردا لهم وتهكم بهم، أي ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوا نورا هناك فمن ثم يقتبس، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورا وهو أنه لا سبيل إليه وإنما قالوه توبيخا { فضرب بينهم بسور } الباء صلة وهو حاجز بين الجنة والنار يعني بين المؤمنين والمنافقين بحائط حيل من شق الجنة وشق النار، وقيل: هو الأعراف، ولذلك السور { باب } لأهل الجنة يدخلون فيه { باطنه } باطن السور والباب وهو الشق الذي يلي الجنة { وظاهره } ما ظهر لأهل النار { من قبله } من عنده ومن جهته { العذاب } وهو الظلمة والنار فيقول المنافقون عند ذلك للمؤمنين { ينادونهم ألم نكن معكم } في الدنيا نصلي ونصوم ونوافقكم في الدين { قالوا } يعني المؤمنين { بلى } كنتم معنا في الظاهر { ولكنكم فتنتم أنفسكم } بالمعاصي، وقيل: أهلكتم أنفسكم بالنفاق { وتربصتم } انتظرتم بالرسول والمؤمنين الدوائر { وارتبتم } شككتم في الدين { وغرتكم الأماني } أي ما كنتم تمنون من الباطل، وقيل: غركم طول الأمال، وقيل: الأماني الكاذبة في الخلاص من الرسول بهلاكه وإبطال { حتى جاء أمر الله } أي كنتم على ذلك مصرين حتى جاء الموت { وغركم بالله الغرور } الشيطان، وقيل: الدنيا، وقيل: علماء السوء { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية } أي بدل { مأواكم النار هي مولاكم } أي مصيركم { وبئس المصير } { ألم يأن } من أنى الأمر إذا جاء أناه، أي وقته، وقيل: نزلت الآية في المنافقين الذين أظهروا الاسلام وأسروا الكفر، وقيل: نزلت في المؤمنين عن ابن مسعود لما سألوا أن يحدثهم وكرروا نزلت، وعن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين، { أن تخشع قلوبهم لذكر الله } القرآن والمواعظ { وما نزل من الحق } القرآن { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل } يعني اليهود والنصارى { فطال عليهم الأمد } الجزاء، وقيل: ما بين زمانهم وزمان موسى، وقيل: زمان أنبياءهم، وقيل: الأمد الآخرة { فقست قلوبهم } واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره { وكثير منهم فاسقون } وهم الذين كفروا بعيسى ومحمد، وقيل: الذين حرفوا الكتاب { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها } أي يحييها بالنبات كذلك يحيي الموتى { قد بينا لكم الآيات } الحجج على إثبات الصانع وصحة الإعادة { إن كنتم تعقلون }.
[57.18-21]
{ إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله } أي أنفقوا في سبيله { قرضا حسنا } قيل: هو التطوع، وقيل: الفرائض { يضاعف لهم } الثواب لأنه دائم { ولهم أجر كريم } دائم لا ينقطع ولا يمن به { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون } هو اسم تعظيم ومدح، وقيل: هم الذين سبقوا إلى الإسلام مثل علي (عليه السلام) وعمه حمزة وزيد وسعد وأبو بكر وعمر { والشهداء عند ربهم } هم الأنبياء، وقيل: العلماء، وقيل: نزلت في المؤمنين المخلصين { لهم أجرهم } جزاؤهم عند ربهم في ظلمة القبور والقيامة { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم } { اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو } يعني كاللعب في الزوال { وزينة } منظر يتزينون به لأنه يتحلى فيه أعين الناظرين { وتفاخر بينكم } يفتخر بعضكم على بعض { وتكاثر في الأموال والأولاد } يعني قسمتم همتكم بين لعب ولهو وزينة وهو طلب الملاذ والتفاخر والتكاثر وهو طلب المال وكل ذلك إلى زوال { كمثل غيث } أي سحاب، وقيل: مطر، وقيل: كمثل نبات أصابه غيث { أعجب الكفار } الزراع لأنه يغطي البذر بالتراب نباته من حسنه، وقيل: المراد به الكفار لأن مثلهم يركنون إلى الدنيا ويعجبهم حسنها ولا يرون زينة الآخرة بخلاف المؤمن فإنه لا ينظر إلى زينتها ويؤثر الآخرة عليها { ثم يهيج } أي ييبس، والهيج جفاف فيصفر بعد خضرته، هاج الزرع يهيج هيجا { فتراه مصفرا } من يبسه بعد خضرته { ثم يكون حطاما } متكسرا، وأصل الحطم الكسر { وفي الآخرة عذاب شديد } للمصرين { ومغفرة من الله ورضوان } للمؤمنين والتائبين { وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور } لأنها يغتر بها لما يرى من حسن ظاهرها إذا لم يتفكر في عاقبتها { سابقوا } أي بادروا { إلى مغفرة } أي إلى الأعمال الموجبة للمغفرة من الايمان والطاعات، وقيل: إلى التوبة، وقيل: إلى التكبيرة الأولى { وجنة عرضها كعرض السمآء والأرض } قال السدي (رحمه الله): كعرض سبع سماوات وسبع أرضين، ومتى قيل: لم ذكر العرض دون الطول؟ قالوا: لأن عظم العرض يدل على الطول وعظم الطول لا يدل على عظم العرض، واختلفوا في هذه الجنة فقيل: جنة الخلد ولم تحلق لأنها لما صح فيها هذا الوصف، ومعنى أعدت أي ستعد، ولو كانت لفنيت عن أبي علي وابن هاشم، وقيل: بل مخلوقة ثم يفنيها ويعيدها الله تعالى يوم القيامة ويريد فيها طولا وعرضا عن الحسن، وقيل: أراد جنة واحدة من الجنان { أعدت } هيئت { للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } وهم المؤمنون.
[57.22-27]
{ ما أصاب من مصيبة في الأرض } القحط وقلة الزرع والضرع والنبات، والمصيبة في النفس الأمراض والعلل والموت { إلا في كتاب } في اللوح المحفوظ { من قبل أن نبرأها } يعني الأنفس والمصيبات { إن ذلك } أي تقدير ذلك وإثباته في كتاب { على الله يسير } وإن كان عسير على العباد، ثم علل ذلك وبين الحكمة فقال: { لكي لا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا } يعني أنكم إذا علمتم إن كل شيء مقدر مكتوب عند الله قلت إساءتكم على الفائت وفرحكم بالآتي، وقيل: لأن ما فات ضمن الله تعالى العوض عليه في الآخرة فلا ينبغي أن تحزن عليه وما بالها كلفت الشكر في الحقوق الواجبة { والله لا يحب كل مختال فخور } أي يتكبر بما أوتي فخور على الناس { الذين يبخلون } بمنع الواجبات { ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول } أعرض عما دعا الله إليه { فإن الله هو الغني الحميد } في جميع أفعاله { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } بالحجج { وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } وروي أن جبريل (عليه السلام) نزل بالميزان ودفعه إلى نوح (عليه السلام) وقال: مر قومكم أن يزنوا به، وقيل: هو الميزان الذي يوزن به، وقيل: المراد به العدل { وأنزلنا الحديد } قيل: نزل آدم (عليه السلام) ومعه خمسة أشياء من حديد الجنة: السندان والكلبتان والمنفعة والمطرقة والإبرة، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إن الله تعالى أنزل من السماء أربع بركات من السماء إلى الأرض، أنزل الحديد والنار والماء والملح "
، وعن الحسن: { وأنزلنا الحديد } خلقناه { فيه بأس شديد } وهو القتال به { ومنافع للناس } في مصالح ومعائشهم وصناعتهم فما من صناعة إلا والحديد أو ما يعمل بالحديد له فيها { وليعلم الله من ينصره } أي ليظهر المعلوم ليعلم الله وجود النصرة منهم في الحال ويظهر المعلوم نصره، أي ينصر دينه وأولياءه { إن الله قوي عزيز } أي قادر لا يغالب { ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم } عطفا على ما تقدم { وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم } أي من الذرية { مهتد } أي اتبع الحق { وكثير } من الذرية { فاسقون } { ثم قفينا على آثارهم } أي اتبعنا بالإرسال على آثارهم، أي بآثار الأنبياء { برسلنا } وأرسلنا رسولا بعد رسول { وقفينا بعيسى ابن مريم } أي أرسلناه بعدهم { وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة } أي اتبعوا عيسى في دينه، والرأفة أشد الرحمة، ومتى قيل: لما أضاف الرأفة والرحمة إلى نفسه؟ قالوا: بالأمر والترتيب ووعد الثواب عليه، لأنه أمرهم بالترحم فأطاعوه، وقيل: باللطف الذي قوى دواعيهم فصارت قلوبهم بهذه الصفة، وقيل: بالاختيار والتعريف كما يقال: فلان عدله القاضي ورعاه { ابتدعوها } أحدثوها { ما كتبناها عليهم } أي ما فرضناها عليهم تلك الرهبانية برفض النساء واتخاذ الصوامع، وقيل: لحاقهم بالبراري والجبال، وقيل: الانقطاع والانفراد بالعبادة { إلا ابتغاء رضوان الله } قيل: معناه ما كتبناه عليهم البتة لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، وقيل: اتبعوا بتلك الرهبانية رضوان الله، وقيل: ما كتبناها عليهم ولكن لما دخلوا فيها أوجبنا ذلك ابتغاء رضوان الله، وقيل: الاستثناء منقطع، أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله فبدلوا ولم يفعلوا ما أمروا به { فما رعوها حق رعايتها } فيه قولان: إذا حملت الأمة على أنه لم كتب الرهبانية عليهم اتباع الله فما رعوا ما كتب عليهم من أمر الدين والملة فيكون كناية عن غير مذكور، وإذا حملت على أن الرهبانية طاعة فما رعوا تلك الرهبانية، يعني ما حفظوا ذلك، وقيل: فما رعوا حق رعايتها لكن كفروا بعيسى وتهودوا وتنصروا وشربوا الخمر وأكلوا الخنزير، وقيل: فما رعوها لتكذيبهم بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن من آمن بمحمد فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن فأولئك هم الهالكون، وقيل: اتخذوا الترهب والتزهد شوقا ومكيدة ولم يتبعوا به رضى الله لمد هذه زماننا هذا { فآتينا الذين آمنوا منهم } يريد أهل الرأفة والرحمة { أجرهم } جزاء أعمالهم { وكثير منهم فاسقون } كافرون عاصون.
[57.28-29]
{ يأيها الذين آمنوا } يجوز أن يكون خطأ باللذين آمنوا من أهل الكتاب والذين آمنوا من غيرهم { اتقوا الله وآمنوا برسوله } قيل: آمنوا بعيسى وموسى واتقوا عذاب الله وآمنوا بمحمد، وقيل: آمنوا بالأنبياء وبمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { يؤتكم كفلين } نصيبين { من رحمته } بإيمانكم بمحمد وإيمانكم بعيسى ومن قبله { ويجعل لكم نورا } يوم القيامة { تمشون به } ، وقيل: النور المذكور في قوله:
يسعى نورهم
[الحديد: 12] { ويغفر لكم } ما سلف من الكفر والمعاصي { لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله } قيل: ليعلم أهل الكتاب الذين حسدوا المؤمنين على ما وعدوا أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، وقيل: يتصل بما قبله في قوله: { أرسلنا رسلا } أي يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على فضل الله الذين يصرفون النبوة عن محمد إلى بني إسرائيل، فعلى هذا لا صلة محذوف، وقيل: المعنى لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدر الرسول والمؤمنون على شيء من فضل الله لأن من لا يعلم أنه لا يقدر يعلم أنه لا يقدر، ومتى قيل: لما سمى الثواب فضلا وهو مستحق؟ قالوا: لأنه بالتكليف والتمكين عرضه للثواب فكأنه منه، وقيل: لأنه يحصل بالإيمان بتمكينه ولطفه وهدايته فكأنه منه { وأن الفضل بيد الله } أي هو القادر على ذلك { يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }.
[58 - سورة المجادلة]
[58.1-4]
{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها } قيل:
" أن الآيات نزلت في رجل من الأنصار وامرأته خولة بنت ثعلبة وزوجها أوس بن الصامت رآها وهي تصلي وكانت حسينة الجسم فلما سلمت راودها فأبت فغضب فظاهر منها، فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: أن أوسا تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما نحل سني وثمرة بطني أي كثر ولدي جعلني عليه كأمه، وروي أنها قالت له: إن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا، فقال: " ما عندي في أمرك شيء " ، وروي أنه قال لها: " حرمت عليه " ، فقالت: يا رسول الله ما ذكر طلاقا وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إلي، فقال: " حرمت عليه " فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي، كلما قال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " حرمت عليه "
هتفت وشكت إلى الله فنزلت المجادلة وهي مراجعتها في أمر زوجها { وتشتكي إلى الله } أي تظهر شكواها { والله يسمع تحاوركما } أي مراجعة كلامكما { إن الله سميع بصير } { الذين يظاهرون منكم من نسائهم } أي يقولون لها أنت علي كظهر أمي { ما هن أمهاتهم } ليس هذه المرأة بأم الزوج { إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ليقولون منكرا من القول وزورا } أي قولا ينكره العقل والشرع، وزورا كذبا لأنهم للمرأة أم وللحلال حرام { وإن الله لعفو غفور } حيث لم يعاجلهم بالعقوبة { والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا } الظهار أن يقول: أنت علي كظهر أمي، واختلفوا في العود، فقيل: هو العزم على الوطء وهو قول الهادي، وعن قتادة وأبي حنيفة ومالك مثل ذلك، وقيل: هو إمساكها عقيب الظهار مدة يتمكن أن يطلقها عند شى، وقيل: هو أن يكرر لفظ الظهار عن أصحاب الظاهر، وقيل: أن تجامعها عن الحسن { فتحرير رقبة } أي عتق مملوك، يعني إذا ظاهر ثم عاد في ذلك فعليه تحرير رقبة { من قبل أن يتماسا } أي يجامعها { ذلك توعظون به } أي تؤمرون به { والله بما تعملون خبير } أي عالم بأعمالكم { فمن لم يجد } يعني الرقبة ولا ثمنها { فصيام شهرين متتابعين } لا يتخللهما فطر { فمن لم يستطع } الصوم لعلة أو كبر { فإطعام ستين مسكينا } فقيرا { ذلك لتؤمنوا بالله } يعني تقروا بالله لتعبدكم بما شاء من أحكامه، وقيل: لتؤمنوا بالله وما شرع، وقيل: لتتركوا عادة الجاهلية { وتلك حدود الله } شرائعه وأحكامه { وللكافرين عذاب أليم } موجع.
[58.5-8]
{ إن الذين يحادون الله ورسوله } أي يخالفون أمره ويحادون رسوله { كبتوا } قيل: أهلكوا، وقيل: أذلوا { كما كبت الذين من قبلهم } من الكفار { وقد أنزلنا آيات بينات } حجج واضحات { وللكافرين عذاب مهين } يذلهم وهو عذاب النار { يوم يبعثهم الله جميعا } من القبور وهو يوم القيامة ويحشر الخلق للجزاء والحساب { فينبهم بما عملوا } أي يجزيهم بما عملوا من الخير والشر { ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض } يعني جميع المعلومات { ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم } بالعلم والحفظ والتدبير والسماع يسمع قولهم ويعلم ضمائرهم ولا يحمل على أنه معهم في المكان لأن ذلك من صفات الأجسام تعالى الله عن ذلك { ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك } بأن يكونا اثنين { ولا أكثر } بأن يزيد على الخمسة { إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا } يجزيهم بأعمالهم توبيخا، وقيل: يجازيهم { يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم } { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } قيل: أنها نزلت في اليهود والمنافقين وكانوا يتناجون بين المؤمنين وينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون بأعينهم فيظن المؤمنون أنه بلغهم عن قرابتهم وإخوانهم الذين خرجوا في السرايا قتل أو موت أو هزيمة فشكوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنهاهم عن ذلك فلم ينتهوا فنزلت: { ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } أي المناجاة وأسروا الكلام بينهم دون المسلمين مما يغم المسلمين ويحزنهم وهم اليهود والمنافقون { ثم يعودون لما نهوا عنه } أي يرجعون بعد النهي { ويتناجون بالإثم والعدوان } بالأمر الذي يأثمون به ويخرجون عن الدين والعدوان الظلم والله أعلم { ومعصية الرسول وإذا جاؤوك حيوك } أي حضروك في مجلسك يا محمد { بما لم يحيك به الله } لأنهم يقولون: السام عليك، والآية نزلت في اليهود، والله أمر أن يقال: السلام عليك يا رسول الله ويا نبي الله { ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول } كانوا يقولون ما له إن كان نبيا لا يدعو علينا حتى يعذبنا الله بما نقول، فقال تعالى: { حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير }.
[58.9-11]
{ يا أيها الذين آمنوا } إذا ناجيتم الرسول خاطبتم، والخطاب للمنافقين الذين آمنوا بألسنتهم، ويجوز أن يكون للمؤمنين، أي إذا ناجيتم فلا تشبهوا بأولئك في تناجيهم بالشر { وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله } ، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إذا كنتم ثلاثة فلا يناج اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه "
وروي:
" دون الثالث "
يعني فلا تتناجوا بما يوجب العذاب وتناجوا بالبر والتقوى اتقاء معاصي الله { واتقوا الله } أي أطيعوه واتقوا عذابه { الذي إليه تحشرون } أي تجمعون إلى موضع الحساب الذي يحكم بينكم فيه { إنما النجوى } اللام إشارة إلى النجوى { بالاثم والعدوان } بدليل قوله تعالى: { ليحزن الذين آمنوا } والمعنى أن الشيطان يزينها لهم فكأنه منه ليغيظ الذين آمنوا ويحزنهم { وليس } الشيطان أو الحزن { بضارهم شيئا إلا بإذن الله } قال جار الله: فإن قلت: كيف يضرهم الشيطان أو الحزن إلا بإذن الله؟ قلت: كانوا يوهمون المؤمنين في تغامزهم ونجواهم ان غزاتهم غلبوا وإمارتهم قتلوا، فقال: لا يضرهم الشيطان أو الحزن بذلك الوهم إلا بإذن الله بمشيئته، وهو أن يقضي الموت على أقاربهم أو الغلبة على الغزاة { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } يعني المؤمن لا يبالي بمناجاته فليتوكل على ربه فيكفيه { يأيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجلس } الآية نزلت في قوم كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وإذا رأوا من جاءهم ضيقوا مجلسهم وأبوا أن يفسح بعضهم لبعض، وقيل: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الصفة يوم الجمعة وفي المكان ضيق، فجاء أناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكرم أهل بدر وسلموا وقاموا ينظرون أين يوسع لهم، فلم يفعلوا، فأقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقعدهم فكرهوا ذلك وشق عليهم، وقال المنافقون: ما عول على هؤلاء حيث أقامهم فنزلت، وقيل: نزلت في مجلس الحرب وكانوا يشاحون على الصف الأول حرصا على الجهاد، والمراد تفسحوا في المجلس توسعوا فيه وتنفسحن بعضكم عن بعض، من قولهم: افسح عني أي تنح، والمراد مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكانوا يتصافون فيه حرصا على القرب منه وحرصا على استماع كلامه، وقيل: هو المجلس من مجالس القتال وكان الرجل يأتي الصف فيقول: افسحوا، فيأبوا لحرصهم على الشهادة، وقرئ المجالس بفتح اللام وهو الجلوس أي توسعون في جلوسكم ولا تضايقوا فيه { يفسح الله لكم } مطلق في كل ما يبتغي الناس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر وغير ذلك { وإذا قيل انشزوا } انهضوا للتوسعة على المقبلين، معناه إذا قيل لكم ارفعوا وتحركوا أو فرقوا ووسعوا على إخوانكم، وقيل: إذا قيل ارتفعوا فافعلوا، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرفع أهل العلم في مجلسه، وقيل: إذا قيل: انهضوا إلى الصلاة وعمل الخير والجهاد { فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا } بطاعته لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { والذين أوتوا العلم درجات } قيل: هو رفعة المجلس والترتيب فيه، وقيل: المراد درجات الثواب في الجنة، وعن عبد الله بن مسعود (رضي الله عنه) أنه كان إذا قرأها قال: يا أيها الناس افهموا هذه الآية ولترغبنكم في العلم، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حصر الجواد المضمر سبعين سنة "
، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" فضل العالم على العابد فضل القمر ليلة البدر على الكواكب "
وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):
" يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء "
، وعن ابن عباس: خير سليمان بين العلم والمال فاختار العلم وأعطي المال والملك معه، وعنه (عليه السلام):
" أوحى الله إلى إبراهيم (عليه السلام) اني عليم أحب كل عليم "
، وعن بعض الحكماء: ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم، وأي شيء فات من أدرك العلم.
[58.12-20]
{ يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة } قيل: نزلت في الأغنياء كانوا يناجون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيغلبون الفقراء ويكثرون الجلوس فكره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك فنزلت، وأمروا بالصدقة فانتهوا { ذلك } التقديم { خير لكم } في دينكم { وأطهر } لأن الصدقة طهره، روي أن الناس أكثروا في مناجاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما يريدون فأمروا بأن من أراد أن يناجيه قدم في مناجاته صدقة،
" قال أمير المؤمنين: " لما نزلت دعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ما تقول في دينار؟ فقلت: لا يطيقونه، قال: كم؟ قلت: حبة أو شعيرة، قال: إنك لزاهد، فلما رأوا ذلك ارتدعوا وكفوا إما الفقراء فلعسره وإما الأغنياء فلشحهم "
وقيل: كان ذلك عشر ليال ثم نسخ، وعن علي: " إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي، كنت إذا ناجيت تصدقت بدرهم " وعن ابن عمر: كانت لعلي (رضوان الله عليه) ثلاث لو كانت لي منهن واحدة كانت أحب إلي من حمر النعم: تزويجه فاطمة وإعطاءه الراية يوم خيبر وآية النجوى، قيل: هي منسوخة بالزكاة، وقيل بالآية التي بعدها { أأشفقتم } أخفتم تقديم الصدقات لما فيه من الانفاق الذي يكرهونه وإن { الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء } { فإذ لم تفعلوا } ما أمرتم به وشق عليكم { وتاب الله عليكم } وعذركم ورخص لكم في أن لا تفعلوا فلا تفرطوا في الصلاة والزكاة وسائر الطاعات { ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم } الآية نزلت في المنافقين تولوا اليهود ونقلوا اليهم أسرار المؤمنين، وقيل: نزلت في عبد الله بن أبي المنافق وكان يحضر مجلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويرفع حديثه إلى اليهود، فإذا قيل له حلف وحلف أصحابه فتولوا اليهود { غضب الله عليهم ما هم منكم } أيها المؤمنون { ولا منهم } يعني اليهود { ويحلفون على الكذب وهم يعلمون } قيل: يحلفون للنبي والمؤمنين أنهم منهم وهم يعلمون كذبهم { أعد الله لهم عذابا شديدا } قيل: عذاب النار، وقيل: عذاب القبر { إنهم ساء ما كانوا يعملون } أي بئس العمل عملهم وهو النفاق { اتخذوا أيمانهم } الكاذبة { جنة } أي وقاية { فصدوا عن سبيل الله } أعرضوا عن الدين { فلهم عذاب مهين } { لن تغني عنهم } يوم القيامة { أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } { يوم يبعثهم الله جميعا } من القبور أحياء { فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون } قيل: أنهم يحلفون أنهم لم يكونوا كفارا من عند أنفسهم لأن دار الآخرة لا يمكنون فيها من الكذب، وقيل: يحلفون في الآخرة أنهم كانوا في الدنيا من المؤمنين وظنوا أن ذلك يجوز إلا أنهم هم الكاذبون في أقوالهم وإيمانهم، وعن ابن عباس: أن الآية نزلت في القدرية ثم قال: والله هم القدريون، والله هم القدريون، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ينادي منادي يوم القيامة أين خصماء الله؟ فيقوم القدرية مسودة وجوههم "
وقد تقدم في سورة القمر أن القدرية هم المجبرة الذين يجعلون كل القبائح بقدره، وقد بين أمير المؤمنين علي (عليه السلام) تبيانا شافيا وفي هذا الخبر ما يدل على ذلك لأن خصماء الرحمان من يضيف جميع المعاصي والظلم إلى الله، وهم الذين يشهدون لابليس بالبراءة، وقد بينا في قوله:
ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة
[الزمر: 60] انها في المجبرة { استحوذ عليهم الشيطان } أي غلب عليهم الشيطان فاستولى حتى تبعوه وتركوا أمر الله { فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان } قرناؤه وأتباعه { ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون } خسروا أنفسهم حيث أوثقوا لها { إن الذين يحادون الله ورسوله } أي يخالفونه وكانوا من حزب الشيطان وهم المنافقون { أولئك في الأذلين } في الجملة المتناهين في الذل والخزي فهم أذل خلق الله.
[58.21-22]
{ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز } نزلت في قصة جرت بين عبد الله بن أبي وبين المؤمنين وذلك أن المؤمنين قالوا: إن فتح لنا الله مكة وخيبر وما حولها رجونا أن ينصرنا الله على فارس والروم، فقال عبد الله: أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتم عليها لهم أكثر عددا وأشد بطشا، ومعنى كتب قيل: قضى ووعد، وقيل: كتب في اللوح المحفوظ { لأغلبن أنا ورسلي ان الله قوي عزيز } أي قادر على النصر لأوليائه عزيز ذو انتقام من أعدائه ولا يمتنع عليه شيء { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله } أي يولون من حاد الله، أي خالفه وخالف رسوله، واختلفوا فيمن نزلت فقيل: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة ينذرهم بمجيء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل:
" نزلت في ولد عبد الله بن أبي حين قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ابق فضلة من شرابك اسقيها أبي لعل الله يطهر قلبه فأتى بها أباه، فقال: ما هذا؟ قال: بقية شرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تشربها لعل الله يطهر بها قلبك، فقال: هل جئتني ببول أمك؟ فرجع إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: ائذن لي في قتله، قال: " بل ترفق به "
، وقيل: نزلت في أبي بكر وأبيه أبو قحافة لأن أبا قحافة سب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فصكه أبو بكر صكة سقط منها، ذكر ذلك للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " لو كان معي سيف لقتلته " ، وقيل: نزلت في جماعة من الصحابة { ولو كانوا آباءهم } يعني أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم أحد { أو أبناءهم } يعني أبا بكر دعا ابنه إلى البراز يوم بدر { أو إخوانهم } يعني مصعب بن عمير قتل أخاه يوم أحد { أو عشيرتهم } يعني أمير المؤمنين علي وحمزة وعبيدة بن الجراح قتلوا عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة يوم بدر { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } أثبته فيها بما وفقهم فيه وشرح له صدورهم { وأيدهم بروح منه } بلطف من عنده حبب به قلوبهم ويجوز أن يكون المصير للإيمان أي بروح من الإيمان على أنه في نفسه روح الحياة القلب به { ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله } أي جنده { ألا إن حزب الله هم المفلحون }.
[59 - سورة الحشر]
[59.1-2]
قيل: نزلت السورة في أجلاء بني النضير صالحوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن لا يكونوا لا عليه ولا له، ولما ظهر يوم بدر قالوا: هو النبي الذي نعته في التوراة لا بد له من آية، فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة يحالفون قريشا عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الكعبة فأمر (عليه الصلاة والسلام) محمد بن سلمة فقتل كعبا غيلة، وكان أخاه من الرضاعة، ثم صبحهم بالكتائب وطلبهم الخروج من المدينة فقالوا: الموت أحب إلينا من ذلك، فتنادوا الحرب، وقيل: استمهلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشرة أيام ليتجهزوا للخروج، وبعث عبد الله بن أبي والمنافقون أنهم ينصرونهم، فحاصرهم إحدى وعشرون ليلة، فلما قذف الله عز وجل الرعب في قلوبهم، وأيسوا من نصرهم المنافقين طلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من متاعهم، فحملوا إلى الشام إلى أريحا، هذا الكلام في { سبح } في الحديد { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني من بني النضير وكانوا بقرب المدينة { من ديارهم } حصونهم وأوطانهم قال ابن اسحاق: كان آخر بني النضر عند رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أحد وفتح قريظة وانصرافه من الأحزاب وبينهما سنتان { لأول الحشر } وهم أول من أخرج من أهل الكتاب من جزيرة إلى الشام ثم تبعهم إخوانهم من يهود خيبر وغيرهم، وقيل: أول الحشر من المدينة والثاني من خيبر، وقيل: أول حشر اليهود إلى أرض الشام، وثاني الحشر حشر الناس يوم القيامة إلى الشام { ما ظننتم } أيها المؤمنون { أن يخرجوا } من ديارهم لشدتهم وشوكتهم { وظنوا } أن حصونهم تمنعهم من بأس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { فأتاهم الله من حيث } لم يظنوا ولم يخطر ببالهم وهو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف، وذلك مما أضعفهم وأوهن قوتهم، وقل من شوكتهم، وسلب قلوبهم الأمن والطمأنينة بما قذف فيها من الرعب، وألهمهم أن يوافقوا المؤمنين في تخريب بيوتهم، ويعينوا على أنفسهم، وثبط المنافقين الذين كانوا يتولوهم ومظاهرتهم وهذا كله لم يكن في حسابهم، وقيل: كان المسلمون يهدمون بيوتهم ليسمع لهم المقاتل وهم يخربون في داخل، وقيل: كان المسلمون يخربون ما يليهم وهم يخربون من دواخلها { فاعتبروا } بهذا ليعلموا كيف فتح الله عليهم تلك الحصون.
[59.3-10]
{ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء } واقتضته الحكمة { لعذبهم في الدنيا } بالقتل كما فعل بإخوانهم بني قريظة { ولهم في الآخرة عذاب النار } يعني إن نجوا من الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة { ذلك بأنهم شاقوا الله } أي خالفوه { ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب } { ما قطعتم من لينة } قيل: أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقطع نخلهم فقالت اليهود: زعمت يا محمد إنك تريد الصلاح أفمن الصلاح قطع النخل فترك بعضه وقطع بعض، وقيل: قالوا: دعوه فإنه لمن غلب فتركه من لينة، قيل: هو من أنواع النخل سمي بذلك للين تمرها { أو تركتموها قائمة على أصولها } فلم تقطعوها { فبإذن الله } فبأمره { وليخزي الفاسقين } قيل: لما خرج بنو النضير من ديارهم سأله المسلمون قيمة أموالهم فنزلت الآية، وجعل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحكم فيه بما شاء، وقيل: لما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني النضير جمع الأنصار واعتدالهم بحسن فعالهم مع المهاجرين، ثم قال: إن شئتم قسمتم بينكم والمهاجرين في بيوتكم كما كانوا وإن شئتم خصصتم بها المهاجرين وتخرجوا من بيوتكم فنادوا كلهم من كل جانب ان أقسمها بينهم ويكونوا في بيوتنا كما كانوا، ثم بين تعالى حال أموال بني النضير وحال الفيء وكيفية قسمه فقال سبحانه: { وما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } أي مما يرجع إليهم من مال بني النضير { فما أوجفتم } أي ما وضعتم عليه { من خيل ولا ركاب } وهي الإبل التي ركبتها الرجال يعني لم يكن بقتال ولا بتكليف مشقة ولا مؤنة وإنما صارت للمسلمين بما أوقع الله في قلوبهم من الرعب فخرجوا وتركوا أموالهم، وقيل: لم يحاربوا ولكن فتحها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلحا وأجلاهم { ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شيء قدير } ثم بين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما يصنع بما أفاء الله عليه وأمره أن يضعه حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوما على الأقسام الخمسة قال سبحانه: { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول } الآية { كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم } أي كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء بين الأغنياء يتكاثرون به، أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم، ومعنى الدولة الجاهلية، واختلفوا في الآيتين فقيل: المراد بالأولى ما فتح صلحا وفي الثانية خمس الغنائم عن أبي علي، وقيل: بل المراد بالأولى الفيء بين في الآية الأولى أن حكم ذلك إلى رسول الله يقسم كما شاء، ولذلك كان ينفق على نفسه وعياله ووجوه البر والكراع وغير ذلك، ثم بين في هذه الآية مصرف من تجوز صدقته إليه ومن دفعه إليهم لا يجوز، والمراد بالآيتين ما فتحه صلحا وصار فتح المسلمين بغير قتال { فلله } قيل: جميع الأشياء إليه وذكر اسمه للتبرك، وقيل: بل السهم المضاف إليه يصرف إلى أعمال البر { وللرسول } فكأن له سهم سقط بموته، وقيل: بل يصرف إلى الخليفة { ولذي القربى } يعني قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا خلاف أنهم كان لهم سهم، فالذي رواه الهادي (عليه السلام) يدفع اليهم يستوي فيه الغني والفقير من كان منهم على الحق { للفقراء المهاجرين } يعني الفيء الذي يكون يمنع أن يكون دولة بين الأغنياء إنما هو للفقراء المهاجرين الذين هاجروا إلى المدينة الذين أخرجوا فبقوا في المدينة غرباء فقال: { يبتغون فضلا من الله } يطلبوا بما فعلوا رضى الله { وينصرون الله } أي دين الله { ورسوله أولئك هم الصادقون } في إيمانهم ثم ثنى بالأنصار فقال: { والذين تبوءو الدار والإيمان } قيل: فرعوا ديارهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: تمكنوا وسكنوا في الدار يعني المدنية لأنهم أسلموا قبل مجيء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة فصارت المدينة دار إيمان ودار هجرة وأثبتوا المساجد { من قبلهم } أي من قبل قدوم المهاجرين وأسكنوهم دورهم { يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا } قيل: لا يجدون في قلوبهم حسدا مما أعطي المهاجرون، وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قسم أموال بني النضير على المهاجرين ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين، وقوله تعالى: { ويؤثرون على أنفسهم } الآية نزلت في الأنصار وأبروا المهاجرين في الفيء، وقيل: نزلت في بيت من الأنصار كان لهم رأس غنم مشوي فاهدوه إلى غيرهم وقالوا: هم أحوج إليه، فبعث الثاني إلى الثالث والثالث إلى الرابع حتى تداول بين سبعة أنفس، وقيل: نزلت في سبعة عطشوا يوم أحد فأتي بما لا يكفي إلا واحد منهم فقال: ناول فلانا حتى طيف بالماء على جملتهم، وماتوا ولم يشرب منهم أحد، وقيل: نزلت في رجل أضاف عنده رجل وليس عنده إلا قوته وعياله فقدمه فأثنى الله عليه { ومن يوق شح نفسه } أي بخل نفسه { فأولئك هم المفلحون } ثم ثلث بالتابعين فقال سبحانه: { والذين جاؤوا من بعدهم } قيل: من أسلم في أيام الرسول، وقيل: هم التابعون بإحسان إلى يوم القيامة، ثم وصفهم فقال سبحانه: { يقولون ربنا اغفر لنا ولأخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا } قيل: غشا، وقيل: خيانة سألوا الله أن يزيل ذلك.
[59.11-17]
{ ألم تر إلى الذين نافقوا } قيل: نزلت في المنافقين حيث بعث عبد الله بن أبي جماعة من المنافقين إلى بني النضير أن يحصنوا أحصنهم فإنا ننصركم، فأخبر الله تعالى نبيه بذلك وبين أنهم لا يفعلون ذلك، ألم تر تعجيب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حالهم { إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب } يعني بني النضير الذي حاربوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبني قريظة { لئن أخرجتم } من ديارنا { لنخرجن معكم } يعني لئن أخرجكم محمد من دياركم بالغلبة { لنخرجن معكم } أروهم بذلك أنهم يوافقونهم في حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { ولا نطيع فيكم أحدا أبدا } أي لا نطيع رسول الله ولا المؤمنين ان أمرونا بخذلانكم وإن قاتلكم محمد { لننصرنكم } عليه { والله يشهد إنهم لكاذبون } في هذا القول { لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون } { لأنتم } يا معشر.... { أشد رهبة في صدورهم من الله } قيل: هذا تعجب من حالهم حيث خافوا المؤمنين ولم يخافوا الله، وقيل: تذكيرا لنعمه عليهم بما ألقى في قلوبهم من الرعب من المسلمين { ذلك بأنهم قوم لا يفقهون } أي لا يعلمون عظمة الله وشدة عقابه { لا يقاتلونكم جميعا } يعني اليهود لا يقاتلون المسلمين { إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر } قيل: لاختلاف قلوبهم لا يحشدون البروز للحرب إلا في مواضع حصنة وخلف جدار { بأسهم بينهم شديد } قيل: عداوة بعضهم شديدة { تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى } أي يحسب الناظر أنهم مجتمعون وقلوبهم متفرقة، وقيل: قلوبهم شتى أي قلوب المنافقين وأهل الكتاب، وقيل: أهل الباطل مختلفة أهواءهم وهم مجتمعون على عداوة أهل الحق { ذلك بأنهم قوم لا يعقلون } أمر الله { كمثل الذين من قبلهم قريبا } ، قيل: مشركي مكة { ذاقوا وبال أمرهم } جرى قتلهم يوم بدر { كمثل الشيطان } قيل: مثل المنافقين في وعدهم لبني النضير مثل الشيطان في وعده الغرور، وقيل: كمثل الشيطان يوم بدر دعا إلى حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما رأى الملائكة تنزل رجع القهقرى { قال إني بريء منك } إني بريء منك { إني أخاف الله رب العالمين } ولا بد من محذوف كأنه قيل: فلما كفر استنصره قال إني بريء منك، وقيل: أراد بالشيطان والإنسان الجنس، وقيل: هو إنسان بعينه كان من الرهبان كان اسمه برصيصا فأغواه الشيطان بأنه سحبه من بلية وقع فيها فقال له: اسجد لي سجدة واحدة، ففعل، ثم لما احتاج إليه أسلمه حتى قتل عن ابن مسعود وابن عباس، والله أعلم، وفيه قصة طويلة لا تصح أكثرها، ومتى قيل: كيف يقول إني أخاف الله وهو يدعوهم إلى الكفر؟ قلنا: يقولها يوم القيامة، وقيل: قال يوم بدر حين رأى الملائكة { فكان عاقبتهما أنهما في النار } يعني عاقبة الشيطان والإنسان { انهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين }.
[59.18-24]
{ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله } أي اتقوا عذابه، بأداء الواجبات واجتناب المعاصي { ولتنظر نفس ما قدمت لغد } ليوم القيامة { واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } فيجازيكم به وكرر الأمر بالتقوى تأكيدا { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } قيل: تركوا ذكر الله فأنساهم بأن خذلهم حتى صاروا كالمنسي { أولئك هم الفاسقون } { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة } أي لا يستوي حالهما وأحدهما في النار والجحيم والثاني النعيم { أصحاب الجنة هم الفائزون } الظافرون بطلبته.
فصل: هذه الآيات روى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من قرأ آخر سورة الحشر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر "
وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من قرأ آخر سورة الحشر في ليل أو في نهار فقبض في ذلك اليوم فقد وجبت له الجنة، ومن قرأ آخر سورة الحشر { لو أنزلنا } إلى آخر السورة فمات في ليله مات شهيدا "
، وعن أبي هريرة:
" سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن اسم الله الأعظم فقال: " عليك بآخر سورة الحشر فأكثر قراءتها " فأكثرت عليه وأعاد علي، فأعدت عليه فأعاد علي "
، ثم بين تعالى عظم حال القرآن وقسوة القلوب فقال سبحانه وتعالى: { لو أنزلنا هذا القرآن على جبل } مع شدته وقسوته { لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله } قيل: معناه لو أحيينا الجبل وركبنا فيه العقل { لرأيته خاشعا } ، وقيل: لو كان الجبل ينصدع من هذا القرآن لعظم ذلك، قال في الحاكم: وهو الوجه { وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون } في ذلك فيتعظون به تدل الآية على عظم حال القرآن وموقعه في الدين ووجوب الخشوع عند قراءته والعمل بما فيه والتفكر فيه والاتعاظ بمواعظه { هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة } قيل: ما شاهد العبد وما لم يشاهد وما لا ينبغي عليه الحس كالمعدومات وما يرى من الموجودات والشهادة ما تقع عليه الحواس، وقيل: ما غاب عن علم الخلق وما علموه، وقيل : السر والعلانية { هو الرحمن } المنعم على كل حي { الرحيم } على المؤمنين بالثواب { هو الله الذي } تحق له العبادة { الذي لا إله إلا هو } ولا تحق العبادة لغيره { الملك } المالك لجميع الأشياء، وقيل: القادر على اختراع الأجسام والأعراض { القدوس } الطاهر من كل ما لا يليق المنزه عن الشرك والولد والفحشاء، وقيل: تسبيح الملائكة سبوح قدوس رب الملائكة والروح { السلام } قيل: الذي يسلم عباده، وقيل: المسلم من جميع الآفات، وقيل: الذي من عنده ترجى السلامة { المؤمن } قيل: المصدق لرسله بالمعجزات، وقيل: يصدق المؤمنين ما وعدهم من الثواب والكافرين ما وعدهم من العذاب، وقيل: الذي أمن الناس من ظلمه { المهيمن } الرقيب على كل شيء الحافظ له { العزيز } القادر الذي لا يرام ولا يمتنع عليه شيء، وقيل: العظيم، وقيل: الباهر { الجبار } قيل: العظيم، وقيل: العالي الذي لا تناله يد أحد، وقيل: الذي يجبر خلقه على ما يريد ويصرفهم كيف شاء { المتكبر } البليغ الكبرياء والعظمة، وقيل: المتكبر عن ظلم عباده { سبحان الله عما يشركون } أي تنزيها له عن إضافة الشريك والفحشاء إليه { هو الله الخالق } المحدث للأشياء { البارئ } المخترع للأجسام والأعراض { المصور } الذي يصور الخلق على ما يريد { له الأسماء الحسنى } أسماؤه على ضربين وكل ذلك معنى مفيد لأن الألقاب يجوز عليها فمنها ما يفيد صفته في ذاته كقوله: قادر عالم وحي وقديم وسميع ونحوها، وكل ذلك يقتضي تعظيما والثاني يفيد صفة ترجع إلى فعله كخالق رازق حكيم ونحوه.
[60 - سورة الممتحنة]
[60.1-2]
{ يأيها الذين آمنوا لا تخذوا عدوي وعدوكم أولياء }
" الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة لما كتب إلى قريش يخبرهم ببعض أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقدومه مكة ليتخذ عندهم يدا، وكان ممن شهد بدرا فاعتذر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصدقه وقبل عذره، وقال: لا تقولوا له إلا خيرا "
، وقيل:
" أن امرأة من مكة يقال لها سارة أتت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد بدر بسنتين، وكساها، وكان يجهز لفتح مكة وكان حاطب كتب إلى أهل مكة ودفعه إليها وأعطاها عشرة دنانير أن رسول الله يريدكم فخذوا حذركم، وخرجت المرأة ونزل جبريل أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فبعث خلفها عليا وعمر وعمارا ومقداد فقال: " خذوا الكتاب وخلوا سبيلها فإن لم تدفعه اليكم فاضربوا عنقها " ، فخرجوا وأدركوها بالمكان الذي قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالوا: أين الكتاب؟ فحلفت ولم يجدوا في متاعها شيئا، فهموا بالرجوع فقال علي بن أبي طالب: " والله ما كدتنا " وسل سيفه وقال: " أخرجي الكتاب وإلا ضربت عنقك " فأخرجت من ذؤابتها كتابا فخلوا سبيلها، ورجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدعا حاطبا وقال: ما حملك على ما صنعت، وقال: والله ما كفرت أردت أن اتخذ عندهم يدا لأن أهلي بين أظهرهم، فتركه "
، معنى عدوي لمخالفته لأمري وهذه الموالاة المنهي عنها وهي الموالاة في الدين والتناصر { تلقون إليهم بالمودة } أي تفضون إليهم بمودتكم سرا { وقد كفروا بما جاءكم من الحق } يعني القرآن { يخرجون الرسول } من مكة { وإياكم أن تؤمنوا بالله } أي لأجل ايمانكم بالله { إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي } يعني إن كان عرضكم في خروجكم وجهادكم وهجرتكم الإيمان وطلب رضى الله فلا تتخذوه { تسرون إليهم بالمودة } أي تخفون مودتهم { وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم } أي سركم وعلانيتكم { ومن يفعله منكم } يعني من يفعل هذه الأسرار فقد أخطا طريق الحق والصواب { إن يثقفوكم } أي يظهروا عليكم { يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء } قيل: أيديهم بالقتل وألسنتهم بالشتم، يعني لا يتركوا في إلحاق السوء بكم باليد واللسان { وودوا لو تكفرون } أي يحبون أن ترجعوا عن دينكم.
[60.3-7]
{ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } يعني إن واليتم أعداء الله لأجل الرحم أو لأجل الأولاد فذلك لن ينفعكم { يوم القيامة يفصل بينكم } قيل: يفرق بينكم فيدخل المطيعين الجنة والعاصين في النار، وقيل: يفصل بينكم من فصل القضاء، ثم بين قصة ابراهيم مع أبيه فقال سبحانه: { قد كانت لكم أسوة حسنة } أي قدوة حسنة { في إبراهيم والذين معه } واتبعوه إذ قالوا لقومهم: { انا برءآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله } يعني الأوثان لا تعبدوها ولا تواصلوها { كفرنا بكم } أي جحدنا دينكم وأنكرنا معبودكم { وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده } أي ظهرت العداوة بيننا إلا أن تؤمنوا فتسقط العداوة { إلا قول ابراهيم لأبيه لأستغفرن لك } قيل: معنى الاستثناء قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم في كل أموره إلا في قول ابراهيم { لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء } فنهوا أن يقتدوا به في هذه خاصة، وقيل: نهوا أن يستغفروا لآبائهم للمشركين، وبين قصة إبراهيم وقيل: كان آزر أبو إبراهيم ويريد أنه مسلم فاستغفر له فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وقيل: قوله: { لأستغفرن لك } هو قوله: { الا عن موعدة وعدها إياه } يعني وعد إبراهيم أباه أن يستغفر له { وما أملك لك من الله من شيء } أي لا أقدر على رفع العذاب { ربنا عليك توكلنا } في أمور ديننا ودنيانا، والتوكل تفويض الأمر إليه { وإليك أنبنا } أي رجعنا إليك بالطاعة والعبادة { وإليك المصير } أي إلى حكمك المرجع { ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا } بإظهارهم علينا ليروا أنهم على دين، وقيل: ألطف بنا حتى نصبر على آذائهم { واغفر لنا } ما سلف من ذنوبنا { إنك أنت العزيز الحكيم } الذي لا تفعل إلا بحكمة { لقد كان لكم } أيها المسلمون { فيهم } أي في إبراهيم والأنبياء والمؤمنين على ما تقدم { أسوة } قدوة { حسنة } من حيث يوجب الثواب، وقيل: لأنها موعظة في نهاية الصلاح، ومتى قيل: لم كرر ذلك؟ قلنا: في الأول أمر بالاقتداء به في البراءة من الكفار وفي الثاني أمر بالاقتداء به في التوكل عليه فلم يكن تكرارا، وقيل: تأكيدا لقطع المعتاد من موالاة الأقارب، وقيل: أمرا بعد أمر في وقتين { لمن كان يرجو الله واليوم الآخر } أي يرجو ثوابه ورحمته { ومن يتول } أي يعرض عن طاعة الله { فإن الله هو الغني الحميد } لا يحتاج إلى شيء الحميد المنعم على من يطيعه ويعصيه، وقيل: المحمود في أفعاله { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة } لما نزلت الآية المتقدمة عادى المؤمنون أقاربهم وأظهروا العداوة فأنزل الله { عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم } من الكفار كفار مكة بأن يسلموا فيصيروا أولياء وأخوانا لكم، وعسى من الله وأحب، يعني يحصل بينكم المودة أيها المؤمنون وبين الذين عاديتم منهم مودة بالاسلام، وكان ذلك حين أسلم كثير منهم، وقيل: صار بينه وبينهم وصلة فتزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأم حبيبة وصاروا موالي بأن تلطف حتى تظهر المودة { والله غفور رحيم }.
[60.8-9]
{ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين } الآية، قيل: نزلت في قوم من خزاعة عاهدوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ألا يقاتلوا ولا يعينوا عليه عدوا، وقيل: نزلت في أسماء بنت أبي بكر، وقد قدمت عليها أمها وسيلة بنت عبد العزى وهي مشركة بهدايا فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول فنزلت، وأمرها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها، وقيل: هي عامة في كل من كان بهذه الصفة، وعن قتادة: نزلت نسختها آية القتال { أن تبروهم } أي تحسنوا إليهم في الأموال والعشرة { وتقسطوا إليهم } أي تعدلوا فيهم { إن الله يحب المقسطين } { إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين } أي ينهاكم عن موالاتهم { وأخرجوكم من دياركم } أي آذوا المسلمين وبلغوا في ذلك الغاية حتى أخرجوهم { وظاهروا على إخراجكم } أي عاونوا وهم العوام عاونوا الرؤساء على الباطل { أن تولوهم } أي توالوهم ولا تقطعوا العلائق { فأولئك هم الظالمون } هم الكافرون، وقيل: الظالمون لأنفسهم.
[60.10-13]
{ يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات } سماهن مؤمنات لصدقهن بالنبيين ونطقهن بكلمة الشهادة { مهاجرات فامتحنوهن } فابتلوهن بالحلف والنظر في الإمارات ليغلب على ظنكم صدق إيمانهن، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول للممتحنة:
" بالله الذي لا إله إلا هو ما خرجت من بغض زوج، بالله ما خرجت رغبة في أرض إلى أرض، بالله ما خرجت التماس دنيا، بالله ما خرجت إلا حبا لله ورسوله "
{ الله أعلم بإيمانهن } منكم { فإن علمتموهن مؤمنات } العلم الذي تبلغه طاقتكم وهو الظن الغالب بالحلف وظهور الإمارات { فلا ترجعوهن إلى الكفار } فلا تردوهن إلى أزواجهن المشركين لأنه حل بين المؤمنة والمشرك { وآتوهم ما أنفقوا } وأعطوا أزواجهن مثل ما دفعوا إليهن من المهور، وذلك الصلح الحديبية كان على أن من آتاهم من أهل مكة رد اليهم ومن اتى مكة منكم لم يرد إليكم، وكتبوا بذلك كتابا وختموه فجاءت سيفه بنت الحارث الأسلمية مسلمة والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديبية، فأقبل زوجها مسافر المخزومي، وقيل: صيفي بن الراهب فقال: يا محمد اردد علي امرأتي فإنك قد شرطت لنا أن ترد لنا من أتاك وهذه طينة الكتاب لم تجف، فنزلت بيانا لأن الشرط إنما كان في الرجال دون النساء، وعن الضحاك: كان بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وبين المشركين عهد أن لا يأتيك منا امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج أن ترد إلى زوجها الذي أنفق عليها وللنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الشرط مثل ذلك، وعن قتادة: ثم نسخ هذا الحكم وهذا العهد ببراءة فاستحلفها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق وزوجها عمر { ولا جناح عليكم } أيها المؤمنون { أن تنكحوهن } يعني النساء المهاجرات وإن كان لهن أزواج في دار الكفر لأن الإسلام فرق بينهما { ولا تمسكوا بعصم الكوافر } أي بعقد الكوافر، فمن كانت له امرأة بمكة فقد انقطعت عصمتها عنه، والتمسك بعصم: الأخذ بالأيدي، وذلك عبارة عن التزويج، وقيل: يفرق بينهما الإسلام { واسألوا ما أنفقتم } عليهن من الصداق { وليسألوا ما أنفقوا } يعني الكفار ما أنفقوا من الصداق، فرد المهر من الجانبين منسوخ، وإذا جاءت امرأة مهاجرة وجاء زوجها وقد وقع الصلح على الرد لا ترد ولا مهرها وهو قول الهادي { وإن فاتكم شيء من أزواجكم } يعني إذا لحقت امرأة منكم بالكفار { فعاقبتم } أي أصبتم الغنيمة { فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا } من المهر وكان رد الصداق على الزوج من الغنيمة فنسخ ذلك { يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا } لا يعبدن غيره { ولا يسرقن } وهو أخذ مال الغير { ولا يقتلن أولادهن } وهو ما كانت العرب عليه من دفن البنات، وقيل: هو قتل الأولاد في الأرحام { ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن } يعني لا يأتين بكذب في مولود وجد بين أيديهن وأرجلهن، وقيل: هو السحر والسعي بالنميمة، وقيل: كانت المرأة تلتقط الولد وتقول لزوجها هذا ولدي منك، فهذا هو البهتان المفترى، وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما فرغ يوم فتح مكة من بيعة الرجال أخذ في بيعة النساء وهو على الصفا، وعمر أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنكرة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لئلا يعرفها، فقال (عليه السلام): " أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئا " فرفعت هند رأسها وقالت: والله عندنا الأصنام وإنك لتأخذ علينا أمرا ما أراك أخذته على الرجال، تبايع الرجال على الاسلام والجهاد، فقال (عليه السلام): { ولا يسرقن } ، فقالت: ان أبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله هيات فما أدري أتحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت في مضى وفيما عبر فهو لك، فضحك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعرفها فقال: " وإنك لهند بنت عتبة " فقالت: نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفى الله عنك، فقال: { ولا يزنين } ، فقالت: أوتزني الحرة؟ وفي رواية ما زنت منهن امرأة قط، فقال: { ولا يقتلن أولادهن } ، فقالت: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتيلا يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { ولا يأتين ببهتان } ، فقالت: والله ان البهتان لأمر قبيح وما يأمر إلا بالرفق ومكارم الأخلاق، فقال: { ولا يعصينك في معروف } ، فقالت: والله ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء فإن قيل: كيف بايعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قيل: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا بقدح من ماء فغمس يده ثم غمس أيديهن، وقيل: صافحهن وكان على يده ثوب، وقيل: كان عمر يصافح عنه، وروي أن بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فقيل لهم: { لا تتولوا قوما } مغضوبا { عليهم قد يئسوا من الآخرة } انه يكون لهم حظا فيها لعنادهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم يعلمون أنه الرسول المنعوت في التوراة { كما يئس الكفار من أصحاب القبور } أي من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء، وقيل: من أصحاب القبور بيان للكفار، أي كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة تبينوا حالهم وقبح منقلبهم.
[61 - سورة الصف]
[61.1-6]
{ يأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون } الآية نزلت في قوم قالوا لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليه فلما نزل فرض الجهاد تثاقلوا فيه، وقيل: نزلت في قوم كانوا يقولون جاهدنا وقاتلنا ولم يفعلوا شيئا، وقيل: كان رجل أذى المسلمين يوم بدر فقتله صهيب فقال رجل: أنا قتلت فلانا، ففرح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال عمر وعبد الرحمان: إنما قتله صهيب فنزلت، وقيل: نزلت في المنافقين ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم، وقيل: لما أخبر الله تعالى رسوله بثواب شهداء الله ببدر قالت الصحابة: إن لقينا بعده قتالا فلنبلغن جهدنا، ثم فروا يوم أحد فعيرهم الله تعالى بهذه الآية: { كبر مقتا } والمقت أشد البغض وأبلغه { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص } محكم لا خلل فيه ولا يمكن نقضها، كأنه رص بعضها إلى بعض، والمراد الثبات في الحرب لأن من كان صاحب نية وعزيمة لا يزال في الحرب كما لا يزال البنيان المحكم، ثم ذكر حديث موسى في صدق نيته تسلية لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال سبحانه: { وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني } الايذاء هو تكذيبهم في الأحوال، وقيل : رموه بالأدرة، وقيل: رميه بهتك هارون { وقد تعلمون أني رسول الله إليكم } لأن الإيذاء مع العلم بكونه رسولا أعظم { فلما زاغوا } أي مالوا عن الحق والاستقامة { أزاغ الله قلوبهم } قيل: جازاهم على زيغهم بالغرق والعذاب فسمي عقوبة الزايغ زيغا، وقيل: خلاهم ومنعهم الألطاف { والله لا يهدي القوم الفاسقين } أي لا يهديهم إلى الجنة والرحمة أو لا يحكم بالهداية، ثم عطف بقصة عيسى على قصة موسى تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما كذبوه قومه فقال سبحانه: { وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد } ومحمد من أسماء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال حسان:
فذوا العرش محمود وهذا محمد
{ فلما جاءهم بالبينات } يعني عيسى جاءهم بالبينات وهي المعجزات والحجج الدالة على نبوته كإحياء الميت وإبراء الأكمه والأبرص { قالوا هذا سحر } أي تخييل وتمويهات { مبين } أي يبين في ذلك ظاهر، وقيل: جاءهم أحمد بالبينات { قالوا هذا سحر مبين }.
[61.7-14]
{ ومن أظلم } أي من أشد ظلما { ممن افترى على الله الكذب } أي يختلق الكذب عليه ويقول لمعجزاته سحر ويقول للرسول أنه كاذب { وهو يدعى إلى الإسلام } الطاعة، ويقول الله: لم يرد منا الإسلام ولو فعل ذلك آمنا { والله لا يهدي القوم الظالمين } لا يحكم بهداية من ظلم، وقيل: لا يثيبه ولا يهديه إلى جنته، وقيل: لا يلطف بهم { يريدون ليطفئوا نور الله } لام ليطفئوا لام كي، أو بمعنى أن تقديره أن يطفئوا نور الله، يعني هؤلاء الكفار في إرادتهم إبطال الاسلام بقولهم في القرآن هذا سحر مبين، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور بفيه ليطئفه { والله متم نوره } أي متم الحق ومبلغه غايته ومظهر كلمته ومؤيد دينه { ولو كره الكافرون } ذلك هو { الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق } قيل: الهدى الايمان، ودين الحق الشرائع { ليظهره على الدين كله } ليظهر الرسول الدين وليحكم به دون سائر الأديان، وقيل: ليظهر الله الدين على سائر الأديان { ولو كره المشركون } ظهوره { يأيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم } تخلصكم { من عذاب أليم } موجع وهو عذاب النار { تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } يدخل فيه أنواع الجهاد فجهاد مع الكفار بالحجة أولا وبالسيف آخرا، وجهاد المبتدعة بالحجة، وجهاد النفس بالصبر على الطاعة { ذلكم } بذل الجهد مع طاعة الله { خير لكم إن كنتم تعلمون } الخير والشرائع { يغفر لكم ذنوبكم } إذا تبتم { ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار } أي يجري الماء تحت الأشجار والأبنية و { مساكن طيبة } ، أي مواضع يسكنونها طيبة من طيبها لا يبغون عنها حولا، سأل الحسن عمران بن الحصين وأبي هريرة عن تفسير { ومساكن طيبة } فقالا: على الخبير سقطت، سألنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فقال:
" قصر من لؤلؤة في الجنة، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريرا، على كل سرير سبعون فراشا من كل لون، على كل فراش امرأة من الحور العين، وفي كل بيت سبعون مائدة من ألوان الطعام "
{ في جنات عدن } أي في إقامة لا طعن عنها { ذلك الفوز العظيم } الظفر المطلوب { وأخرى } ولكم خصلة، أي مع الثواب الدائم، وقيل: تجارة أخرى { تحبونها } الهاء كناية عن محذوف، أي تحبون الخصلة، ثم فسرها بقوله: { نصر من الله وفتح قريب } ، وقيل: بل هو فتح مكة، وقيل: بل هو عام وقد توالت فتوح الإسلام، ومعنى قريب كونه { يأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله } ، وقيل: أنصار أوليائه ونبيه { كما قال عيسى ابن مريم للحواريين } هم أول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلا، وحواري الرجل صفيه وخلاصته من الحوار وهو البياض الخالص، وقيل: كانوا صيادين السمك، وقيل: الحواري خاصة الإنسان لأنهم خلصوا من كل عيب { قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم } الكفار { فأصبحوا ظاهرين } أي غالبين قاهرين، وقيل: أيدنا من كان في زمانهم على من كفر بعيسى، وعن زيد بن علي (رضي الله عنه): كان ظهورهم بالحجة.
[62 - سورة الجمعة]
[62.1-4]
{ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض } أي ينزهه كل شيء ويشهد بالوحدانية والربوبية بما ركب فيه من التدابير العجيبة والصنيع البديع الدال على أنه عالم حي سميع بصير لا يشبهه شيء وإنه حكيم، وأما قوله مرة سبح ومرة يسبح إشارة إلى دوام تنزيهه بالماضي والمستقبل { الملك } القادر على جميع الأشياء { القدوس } الطاهر المنزه عن المثل والشبه والأفعال القبيحة { العزيز } القادر الذي لا يمتنع عليه شيء { الحكيم } العالم { هو الذي بعث في الأميين رسولا } الأمي منسوب إلى أم القرى لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرون من بين الأمم، وقيل: { منهم } كقوله: من أنفسكم { يتلو عليهم آياته } يقرؤها عليهم مع كونه أميا لم يعهد منه قراءة { ويزكيهم } ويطهرهم من الشرك { ويعلمهم الكتاب والحكمة } القرآن والسنة { وإن كانوا من قبل } أي قبل مبعثه { لفي ضلال مبين } عن الحق وذهاب عن الدين لا يرى ضلالا أعظم منه { وآخرين منهم } ، قيل: ويعلم آخرين من المؤمنين، قيل: كل من بعد الصحابة، وقيل: هم العجم التابعين، وقيل: جميع من يدخل في الاسلام إلى يوم القيامة، وقيل: لما نزلت قيل:
" من هم يا رسول الله؟ فوضع يده على سلمان وقال: " لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال من هؤلاء "
وقوله: { لما يلحقوا بهم } أي لم يلحقوا بالعرب { وهو العزيز الحكيم } في تمكينه رجلا أمينا من ذلك الأمر العظيم من بين كافة البشر { ذلك فضل الله } الذي أعطاه محمدا { يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم }.
[62.5-8]
{ مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها } يعني اليهود كلفوا علمها والعمل بها { ثم لم يحملوها } في الحقيقة صفه اليهود في أنهم حملوا التوراة وقرأوها، ثم أنهم غير عاملين بها ولا منتفعين بآياتها وذلك أن فيها بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والبشارة به ولم يؤمنوا { كمثل الحمار يحمل أسفارا } أي.... العلم فهو يمشي بها ولا يدري منها إلا ما يمر بجنبيه وظهره من الكد والتعب، وكل من علم ولم يعمل فهو مثله، وبئس المثل وفيه إشارة إلى أهل القرآن إذا لم يعملوا به { مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله } وهم اليهود الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صحة نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { والله لا يهدي القوم الظالمين } قيل: لا يثيبهم ولا يهديهم إلى رحمته، وقيل: لا يحكم بهدايتهم { قل يأيها الذين هادوا } الآية نزلت في اليهود لما قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه ولنا الجنة دون الناس، فأنزل الله فيهم { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } قيل: سموا يهودا نسبتهم الى يهودا، وقيل: لقولهم انا هدنا اليك، وعلى أي وجه كان فقد صار في الشرع اسم ذم { إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس } وان لكم الجنة { فتمنوا الموت إن كنتم صادقين } فيما زعمتم أنه يوصلكم إلى الجنة، ثم قال: { ولا يتمنونه أبدا } بسبب ما قدموا من الكفر والمعاصي، وقد قال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" والذي نفسي بيده لا يقولها أحد منكم إلا غص بريقه "
، فلولا أنهم كانوا موقنين بصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لتمنوا، ولكنهم علموا أنهم لو تمنوا من ساعتهم ولحقهم الوعيد وهي أحد المعجزات للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { قل } يا محمد { إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة } إلى المواضع الذي يحكم فيه { فينبئكم بما كنتم تعملون } قيل: يحشركم بأفعالكم ويجازيكم عليها.
[62.9-11]
{ يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة } ، قيل: كان قوم بالبقيع يسكنون يبيعون ويشترون إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ولا يقومون فنزلت، نودي للصلاة قيل: هو آذان الجمعة للوقت، وقيل: هو الآذان عند وجود الإمام على المنبر للخطبة، وقيل: كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤذن واحد وكان إذا جلس على المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل أقام الصلاة، وأول جمعة جمعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قدم مهاجرا فنزل قباء على بني عمرو وبني عوف وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة وأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واديهم فخطب وصلى الجمعة، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة وفيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أهبط إلى الأرض، وفيه تقوم الساعة، وهو عند الله يوم المزيد "
، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" أتاني جبريل (عليه السلام) في كفه درة بيضاء وقال هذه الجمعة يعرضها عليك ربك لتكون لك عيدا ولأمتك من بعدك، وهو سيد الأيام عندنا، ونحن ندعو إلى الآخرة يوم المزيد "
، وعنه:
" إن لله في كل يوم جمعة ستمائة ألف عتيق من النار "
وعن كعب: أن الله فضل من البلدان مكة ومن الشهور رمضان ومن الأيام الجمعة، وقال (عليه السلام):
" من مات يوم الجمعة كتب له أجر شهيد ووقي فتنة القبر "
وفي الحديث:
" إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المساجد بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب يكتبون الأول فالأول على مراتبهم "
وقوله: { فاسعوا إلى ذكر الله } قيل: امضوا إليه مسرعين، وقيل: ما أمروا بالسعي على الأقدام وقد نهوا أن يؤتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع، والمراد بالذكر قيل: بالخطبة، وقيل: الصلاة والله أعلم { وذروا البيع } ، قيل: يحرم البيع عند الأذان الثاني، وقيل: عند خروج الإمام { إن كنتم تعلمون } بمصالح نفوسكم { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض } أي تفرقوا للتصرف والتجارة وهو إباحة وليس بأمر، وروي: ليس أتطلب شيئا ولكن عيادة مريض أو حضور جنازة وزيارة أخ في الله، وقيل: هو طلب العلم، وقيل: التطوع { وإذا رأوا تجارة أو لهوا }
" وروي أن أهل المدينة أصابهم جوع وغلاء شديد، فقدم دحية والنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخطب يوم الجمعة، فقاموا اليه خشيوا أن يسبقوا فما بقي معه الا نفر يسير، قيل: ثمانية، وقيل: أحد عشر، وقيل: ثمانية عشر، وقيل: أربعون فقال (عليه الصلاة والسلام ): " والذي نفس محمد بيده لو خرجوا جميعا لأظلم الله عليهم الوادي نارا "
وكانوا إذا قيل لهم: العير استقبلوها بالطبل والتصفيق وهو المراد باللهو، وعن قتادة: فعل ذلك ثلاث مرات وقرئ { انفضوا } وقرئ اليهما { قل } يا محمد { ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين } سبحانه وتعالى.
[63 - سورة المنافقون]
[63.1-4]
قوله تعالى: { إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } فيما أظهروا { اتخذوا ايمانهم جنة } أي جعلوا ايمانهم الكاذبة سترة يدفعون عن أنفسهم ما يخافون من القتل والأسر وسائر المكاره { فصدوا عن سبيل الله } أي أعرضوا بذلك عن دين الإسلام { إنهم ساء ما كانوا يعملون } من نفاقهم وصدهم الناس عن سبيل الله { ذلك بأنهم آمنوا } ظاهرا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { ثم كفروا } إذا خلوا بالمشركين، وقيل: المراد بالإيمان التصديق، أي صدقوا النبي ظاهرا ثم جحدوه باطنا { فطبع على قلوبهم } وسم عليها بسمة الكفر بأنهم لا يؤمنون لتعرف الملائكة بحالهم { فهم لا يفقهون } أي لا يعلمونه الحق من حيث لا يتفكرون حتى يعلموا الحق والباطل { وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة } وكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعجبون منهم شبه المنافقين بالخشب المسندة، ووجه الشبه أن أجسامهم لحسن صورتها واستواء خلقها وقامتها تعجب الناظر، ولكن لخلوها من الخير { كأنهم خشب مسندة } أشباح بلا أرواح، وقيل: الشبه وقع في الخشب المتكلة يحسبها من رآها سليمة من حيث أن ظاهرها يروق الخير وباطنها لا يفيد، كذلك المنافق، وكان عبد الله ظاهره يعجب وباطنه خال من الخير { وإن يقولوا تسمع لقولهم } من حسن كلامهم وقولهم للمؤمنين إنا منكم { يحسبون } يظنون { كل صيحة عليهم } وذلك لخبثهم وما في قلوبهم من الرعب إذا نادى منادي من العسكر أو فلتت دابة أو انشدت ضالة ظنوا إيقاعا بهم، وقيل: كانوا على وجل أن ينزل الله بهم ما يهتك أستارهم هم أي لفرط خبثهم وشدة ضررهم على المسلمين { فاحذرهم } أي احذر مخالطتهم، ولا تأمنهم لأنهم كانوا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفار، ويفسدون من قدروا عليه من المؤمنين { قاتلهم الله أنى يؤفكون } ، قيل: هذا دعاء عليهم بالهلاك، وقيل: لعنهم الله أنى يؤفكون أي أنى يصرفون عن الحق مع كثرة الدلالات، وقيل: كيف يعدلون عن الحق تعجبا من جهلهم وضلالتهم.
[63.5-8]
{ وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رؤوسهم } ، قيل: أمالوها، وقيل: حركوها استهزاء حيث دعوهم إلى الحق { ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون } { سواء عليهم استغفرت لهم } ، قيل: نزلت الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه وذلك أنه بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن بني المصطلق يجتمعون لحربه، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لحربهم ولقيهم على مائهم واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق وغنموا أموالهم ونساءهم وذراريهم، والناس على اذ وقع بين أجير لعمر بن الخطاب وبين حليف للخزرج مشاجرة بسبب الماء، فصرخ جار عمر بالمهاجرين وصرخ حليف الأنصار بالأنصار، وأعان هذا وهذا بعضهم، فقال عبد الله بن أبي وعنده قومه وفيهم زيد بن أرقم غلام حدث السن: والله ما مثلنا ومثلهم إلا كقول القائل سمن كلبك يأكلك، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، عزا بالأعز نفسه، وبالأذل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم قال لقومه: هذا فعالكم بأنفسكم فلا تنفقوا عليهم { حتى ينفضوا } من حول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال زيد بن أرقم: أنت والله الذليل ومحمد في عزة من الرحمان، فأخبر محمدا بذلك، فأرسل إلى عبد الله: " ما هذا الذي بلغنا منك " فحلف أنه لم يقل، فجاء عبد الله بن عبد الله فاستأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قتل أبيه فأبى، فلما قدموا المدينة أنزل الله هذه السورة في تكذيب عبد الله وتصديق زيد، وكان عبد الله خارج المدينة، فلما أراد دخولها منعه ابنه وجاء وسيفه مسلول وقال: لا أدعك تدخل حتى يأذن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتقول رسول الله الأعز وأنت الأذل وابن الأذل، ففعل، وأذن له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدخول وقال لابنه: " دعه فإنا نحسن معاشرته لمكانك " { ولله خزائن السماوات والأرض } مقدوراته يخلق ما يشاء ويرزقهم من وجه آخر { ولله العزة } لأنه القادر على ما يشاء وللرسول بإظهاره وإعلاء كلمته وللمؤمنين بالنصرة لهم في الدنيا.
[63.9-11]
{ يأيها الذين آمنوا لا تلهكم } الآية، قيل: نزلت في المنافقين الذين آمنوا ظاهرا، وقوله: { من الصالحين } المؤمنين المخلصين، وقيل: نزلت في المؤمنين وأراد بالصالحين أي بالأعمال الصالحة { عن ذكر الله } ، قيل: أراد جميع طاعاته، وقيل: أراد الصلوات الخمس { ومن يفعل ذلك } أي يلهو عن ذكر الله { فأولئك هم الخاسرون } خسروا ثواب الله { وانفقوا مما رزقناكم } ، قيل: في الجهاد، وقيل: في سبيل البر وتدخل فيه الزكاة { من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب } أي أمهلتني، وذلك إذا عاين عذاب الآخرة سأل الرجعة { فأصدق } أي أتصدق { وأكن من الصالحين } ، قيل: من المؤمنين المخلصين، والآية في المنافقين، وقيل: من المطيعين لله والآية في المؤمنين، وروي: لا ينزل بأحد الموت ولم يحج ولا أدى الزكاة الا تمنى الرجعة ويقول: { لولا أخرتني إلى أجل قريب } زمان قليل ولن يجاب، ولو رأى خيرا ما سأل الرجعة { ولن يؤخر الله } نفي التأخير على وجه التأكيد { والله خبير بما تعملون } أي عليم بأعمالكم فيجازيكم عليها وقرئ تعملون بالياء والتاء.
[64 - سورة التغابن]
[64.1-6]
{ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض } قد قدمنا ما قيل فيه، وقيل: ينزهه المكلفون بالقول والجمادات بالدلالة { له الملك } منفرد دون غيره { وهو على كل شيء قدير } يوجد المعدوم ويعدم هذا الموجود { هو الذي خلقكم } قيل: الخطاب للمكلفين، وقيل: هو عام، أي أحدثكم من عدم كما أراد، وقد تم الكلام هاهنا ثم ابتدأ سبحانه فقال: { فمنكم كافر ومنكم مؤمن } قيل: منكم من لم يقر بخلقه كالدهرية ومنكم من يقر بأنه خلقه كالموحدة وهذا نحو قوله: { والله خلق كل دابة من ماء } الآية، كذلك هاهنا الله تعالى خلقهم ثم الإيمان والكفر منهم، وقيل: فمنكم كافر بالله ومنكم مؤمن به، وقيل: فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافقين، وقيل: فمنكم كافر بالله مؤمن بالكوكب ومنكم مؤمن بالله كافر بالكوكب، ولا يجوز حمله على أنه خلقهم مؤمنين كافرين لأن الكفر والإيمان فعل العبد { خلق السماوات والأرض بالحق } أي للحق والطاعة، وقيل: قصد به الحق، وقيل: الثواب { وصوركم فأحسن صوركم } ، قيل: حسنها من حيث الحكمة ومن حيث قبول الحق { وإليه المصير } أي إلى حكمه المرجع { يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون ما تعلنون والله عليم بذات الصدور } يعني بما في القلوب { ألم يأتكم نبأ الذين كفروا } خبر الأمم الذين كفروا { فذاقوا وبال أمرهم } من العذاب، والوبال يقال للشيء المكروه، وبال الأمر وحامه { ولهم عذاب أليم } موجع { ذلك بأنه كانت تأتيهم }..... أي ذلك العذاب نزل بهم لأجل أن الرسل أتتهم { بالبينات } بالحجج والمعجزات فأنكروا { فقالوا أبشر يهدوننا } مثلنا نتبعه { فكفروا وتولوا واستغنى الله } أي هو غني عنهم وعن عبادتهم وإنما كلفهم لنفعهم { والله غني } لا يجوز عليه الحاجة { حميد } محمود.
[64.7-13]
{ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا } بعد الموت أحياء { قل } يا محمد { بلى وربي لتبعثن } وذكر القسم تأكيدا للبعث { ثم لتنبؤن بما عملتم } لتخبرن بما يعرض عليهم مكتوبا في الكتب، وقيل: تجازون بذلك { وذلك على الله يسير } أي هو سهل عليه يبعث جميع الخلق في طرفة عين { فآمنوا } أيها المكذبون بالبعث { بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا } قيل: هو القرآن { والله بما تعملون خبير } عالم بأعمالكم فيجازيكم { يوم يجمعكم ليوم الجمع } قيل: يجمعكم من القبور ليوم القيامة لاجتماع الخلائق فيه { ذلك يوم التغابن } قيل: غبن أهل الجنة أهل النار لما نالهم من العذاب بإيثارهم الدنيا الفانية، وروى أبو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تفسير:
" ما من عبد يدخل الجنة إلا رأى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا رأى مقعده في الجنة لو أحسن ليزداد حسرة "
{ ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته } أي معاصيه { ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا } أي يدوم لبثهم ونعيمهم { ذلك الفوز العظيم } أي الظفر بالمطلوب { والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار } هم { خالدين فيها وبئس المصير } { ما أصاب من مصيبة } في الأرض ولا في السماء، قيل: الآلام والأمراض والقحط والجدب والموت ونحوها يجب على العبد الرضى بقضائه { إلا بإذن الله } أي بأمره وهذا توسع، والمراد أنه يفعله ويخلقه، وقيل: المراد جميع ما يناله من الضرر وإن كان ظلما قبيحا { إلا بإذن الله } بعلمه { ومن يؤمن بالله } قيل: يصدق ويرضى بقضائه { يهد قلبه } إلى نيل ثوابه، وقيل: يهد قلبه ليعلم أن المصيبة بإذن الله، وقيل: هو الذي إذا أعطى شكر، وإذا ابتلى صبر، وإذا ظلم غفر، وإذا أصابته مصيبة استرجع { والله بكل شيء عليم } فيجازي كل إنسان بعمله { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم } أعرضتم فاعلموا { إنما على رسولنا البلاغ المبين } أي ليس عليه إلا تبليغ الرسالة وقد فعل { الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون } والتوكل تفويض الأمر.
[64.14-18]
{ يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم } الآية نزلت في قوم أرادوا الهجرة فثبطهم أزواجهم وأولادهم، وقيل: كانوا كفارا وأظهروا العداوة، وقيل: كان الرجل إذا أسلم يريد أن يهاجر مع أهله وولده فمنهم من يحب ومنهم لا يحب ففي ذلك نزلت، وقيل: من للتبعيض لأن بعضهم بهذه الصفة { فاحذروهم } الضمير للعدو والأزواج والأولاد جميعا، أي لما علمتم أن هؤلاء لا يخلون من عذر فتكونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم { وإن تعفوا } عنهم إذا اطلعتم منهم على عداوة أولم تقابلوهم بمثلها فإن الله يغفر لكم ذنوبكم، وروي أن أزواجهم وأولادهم قالوا لهم: أين تذهبون وتدعون بلدكم وعشيرتكم وأموالكم؟ فغضبوا عليهم وقالوا: لئن جمعنا الله في دار الهجرة لن نصيبكم بخير، فلما هاجروا منعوهم الخير، فحبوا أن يعفوا عنهم ويردوا البر والصلة، وقيل: كان عوف بن مالك الأشجعي ذا أهل وولد فإذا أراد أن يغزو تعلقوا به وبكوا إليه فكأنه هم باذائهم فنزلت الآية { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } بلاء ومحنة لأنهم توقعون في الإثم والعقوبة ولا بلاء أعظم منها ألا ترى إلى قوله: { والله عنده أجر عظيم } ولأن المرء يبتلى بحبهم، وقيل: عداوتهم أنهم يتمنون موتهم فيرثون ماله وذلك أنهم يحملوهم على كسب الحرام ومن كثر عياله قل نظره في أمر عاقبته، وفي الحديث:
" يؤتى بالرجل يوم القيامة فيقال:أكل عياله حسناته "
وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات،
" وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخطب، فجاء الحسن والحسين (عليهما السلام) وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل اليهما فأخذهما ووضعهما في حجره فقال: " صدق الله { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } "
{ فاتقوا الله ما استطعتم } جهدكم ووسعكم { واسمعوا } ما توعظون { وانفقوا } في الوجوه التي وجبت عليكم { ومن يوق شح نفسه } أي من يصرف عن نفسه البخل { فأولئك هم المفلحون } الظافرون { إن تقرضوا الله قرضا حسنا } وهذا توسع من حيث جعل الصدقة بأمر الله وضمانه الجزاء عليها، والحسن أن يعطيها مخلصا لله تعالى { يضاعفه لكم } أي يعطيكم بدله أضعاف ذلك من واحد إلى عشرة إلى سبع مائة إلى ما يشاء { والله شكور } يوسع، وقيل: يقبل القليل ويثيب عليه بالكثير { حليم } لا يعجل على من عصاه { عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم }.
[65 - سورة الطلاق]
[65.1]
قال ابن مسعود في حديث العدة من شاء أهلته أن سورة النساء القصرى نزلت بعد قوله:
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا
[البقرة: 234] فأراد قوله:
وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن
[الطلاق: 4] فعدة المتوفى منها زوجها أربعة أشهر وعشرا فإذا كانت حاملة فعدتها وضع الحمل { يأيها النبي إذا طلقتم النساء } قيل: نزلت في قصة حفصة بنت عمر وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طلقها فرجعت إلى أهلها فنزلت هذه الآية فراجعها، وقيل:
" نزلت في عبد الله بن عمر بن الخطاب طلق امرأته في حال الحيض فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لعمر مرة: " فليراجعها وليمسكها حتى تطهر ثم تحيض بحيضة أخرى فإذا طهرت طلقها إن شاء قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء "
، وقيل: نزلت في عبد الله بن عمر وعمرو بن العاص وسعيد وعقبة بن عروان ولا خلاف أن الطلاق قبل الحيض بدعة وأن السنة أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه فأما إذا جمع بين الثلاث فعند ح وأصحابه هو بدعة، وقال ش لا سنة ولا بدعة في الجمع، ثم اختلفوا فالأكثر إلى أنه يقع، وعن بعضهم إلى أنه لا يقع أصلا، وعند القاسم والهادي (عليهما السلام) يقع واحدة، وقوله: { فطلقوهن } ، قيل: طاهرة من غير جماع عن ابن عباس وابن مسعود، ومعنى: { لعدتهن } ، قيل: قبل عدتهن يعني في طهر لم يجامعها فيه، والعدة الحيض، وكان ابن عباس وابن مسعود يقرون فطلقوهن قبل عدتهن وهذا يحتمل على التفسير وبه قال أبو حنيفة، وقيل: في عدتهن، والعدة الأطهار وهو مذهب س فأما غير المدخول بها فلا عدة عليها، وقد ورد القرآن بذلك في سورة الأحزاب:
فما لكم عليهن من عدة تعتدونها
[الأحزاب: 49] { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن } يعني ليس للروح إخراجها ما دامت معتدة ولا لها أن تخرج إلا عن ضرورة { إلا أن يأتين بفاحشة } ظاهرة، قيل: الفاحشة الزنا فتخرج لاقامة الحد عليها، وقيل: النشوز، وقيل: كل معصية لله ظاهرة { وتلك حدود الله } أوامره ونواهيه { ومن يتعد حدود الله } محارمه أي يجاوزها فيما أمر ونهى، وقيل: في المطلقات، وقيل: هو عام { فقد ظلم نفسه } باستحقاق الثواب { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } لزوجها فيراجعها والعدة الأولى والثانية فأضاف إلى الله المراجعة، قيل: ندمه، وقيل: أن يحدث شدة شهوة إليها ورغبة فيها فيدعوه إلى المراجعة.
[65.2-3]
{ فإذا بلغن أجلهن } أي أشرفن على انقضاء عدتهن ولم يرد انقضائها { فأمسكوهن بمعروف } أي راجعوهن بمعروف، قيل: النفقة والسكنى وحسن الصحبة { أو فارقوهن بمعروف } أي أتركوهن حتى تنقضي عدتهن { واشهدوا ذوي عدل منكم } على الرجعة، وقيل: على الطلاق وليس لشيء لأن الاجماع يقع من غير اشهاد، وأما الرجعة فقيل الاشهاد مستحب وليس بواجب وهو قول أهل السنة (عليهم السلام) وأبي حنيفة، وقيل: هو واجب وهو قول ش: { ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله } أي اتقاء معاصيه { يجعل له مخرجا } ، قيل: فرجا { ويرزقه من حيث لا يحتسب } ، قيل: هو عام من يتق الله يلطف به ويوسع عليه ويرزقه ويخلصه من محن الدنيا، وقيل: { من يتق الله يجعل له مخرجا } من عذاب الآخرة وهموم الدنيا { ويرزقه } الجنة { من حيث لا يحتسب } وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قرأها فقال:
" مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة "
، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم { ومن يتق الله } فما زال يقرؤها ويعيدها "
، وقيل:
" نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابنا له يسمى مالكا فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: أسر ابني وشكا إليه الفاقة فقال: " ما عند آل محمد إلا مدا فاتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " ففعل فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الابل تغفل عنها العدو فساقها "
فنزلت، روي ذلك في الحاكم والكشاف، وروي في السيرة أيضا، ونزول الآي مثل ذلك، وروي أيضا في النزول وفي بعض السير أنها نزلت في الكلبي
" وذلك أن أهل المدينة أصابتهم أزمة شديدة فأرسله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليمتار للمسلمين طعاما فقصد مدينة من مدن النصارى وكان دحية من أصبح الناس وهو شبيه برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان في تلك المدينة بنت لملك النصارى فأخبرت عنه فاشتقات إليه وأرسلت إليه من أحضره، فلما دخلت عليه وقد تهيأت له وتزينت راودته عن نفسه وبذلت له أن يوقر إبله فاستعصم، فلم تعذره من ذلك وإلا أهلكته فاستدعى حديدة واستدل موضعا ليتنضف نفسه فأخذ الحديدة يجب نفسه فارتد الحرق موضع في جدار ذلك البيت وأحماله موقرات برا فحمد الله تعالى وصلى على نبيه وركب بعيره، ووصل المدينة لثلاثة أيام طوى الله له المراحل، وكان مسيره إليها اثني عشر يوما، فدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: " يا دحية أخبر بقصتك أو نخبرك " فقال: بل من لسانك أحلى يا رسول الله، فأخبره رسول الله بما كان فيه وكان ذلك معجزة لنبيه (عليه السلام) على يد دحية فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " الحمد لله الذي جعل من أمتي نظيرا ليوسف " ، ثم قال دحية: مر يا رسول الله من يفرق هذا الطعام فأمر رسول الله من فرقه على المسلمين وأخذ دحية مثل نصيب واحد منهم "
، وقيل: إن الآية نزلت في رجل من الأنصار { إن الله بالغ أمره } أي بلغ ما يريد من قضائه وتدابيره فيهم على ما أراد { قد جعل الله لكل شيء قدرا } أي أجلا وحدا ينتهي إليه.
[65.4-10]
{ واللائي يئسن من المحيض } ، قيل: لما نزلت في سورة البقرة عدة النساء في ذات الاقراء والمتوفى عنها زوجها قال أبي بن كعب: يا رسول الله إن ناسا يقولون: ما لم يذكر الصغار والكبار فنزلت، وقيل: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما عدة الآيسة من الحيض والحبلى فنزلت { إن ارتبتم } أي شككتم ولم تدروا أدمها دم حيض أو دم استحاضة { فعدتهن ثلاثة أشهر } ، وقيل: ارتبتم انها تحيض أم لا لصغرها فعدتها الشهور فإذا حاضت فعدتها الحيض، وقيل: ارتبتم في حكمهن فلم تدروا ما عدتهن فعدتهن ثلاثة أشهر، وقيل: ارتبتم تبينتم وهو من الأضداد { واللائي لم يحضن } لصغر فعدتهن ثلاثة أشهر { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وقال الهادي (عليه السلام): يعتدنا بعد الأجلين { اسكنوهن } أي اسكني المطلقة بعد الطلاق وما دامت في تسمية العدة { من حيث سكنتم } من المساكن { من وجدكم } أي في سكن تجدونه، وقيل: من سعيكم { ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن } قيل: في السكن والنفقة { وإن كن أولات حمل فانفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم فأتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف } خطاب للرجل والمرأة معناه : ليقبل بعضكم من بعض { لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه } أي ضيق { فلينفق مما آتاه الله } أي مما أعطاه { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا } قيل: يجعل غنى بعد فقر وسعة بعد ضيق، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ينادي كل يوم منادي صباحا ومساء اللهم أعط كل منفق خلفا وكل ممسك تلفا "
{ وكأين من قرية } أي كم من أهل قرية وكأين للتنكير { عتت عن أمر ربها } أي جاوزت الحد بالعصيان { فحاسبناها حسابا شديدا } بالمناقشة والاستقصاء، قيل: هو في الدنيا بالنكاية، وقيل: هو في الآخرة بالمجازاة { وعذبناها عذابا نكرا } ، قيل: هو عذاب الاستئصال، وقيل: عذاب الآخرة { فذاقت وبال أمرها } أي جزاء معاصيه { وكان عاقبة أمرها خسرا } أي الخاسر بالهلاك { أعد الله لهم عذابا شديدا } وهو عذاب النار { فاتقوا الله يا أولي الألباب } أي أصحاب العقول، قيل: خصهم لأنهم ينتفعون به { الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا }.
[65.11-12]
{ رسولا } قيل: عظة يذكرونه، وقيل: هو القرآن، وقيل: الذكر هو الرسول، أي زمن لا يذكر قيل: هو محمد، وقيل: هو جبريل، وقيل: هو قد تم الكلام على قوله: { ذكرا } ، وقيل: أنزل ذكرا وأرسل رسولا، وقيل: شرفا وإنه لذكر لك ولقومك وقوله: { يتلو عليكم آيات الله مبينات } وهو القرآن { ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور } قيل: من ظلمة الكفر إلى نور الايمان { ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا ندخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا } يعني ما يعطيهم أحسن ما أعطى أحد { الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن } قيل: سبع أرضين، وقيل: هي طباق قيل: أن ما في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه الآية، وقيل: أن بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وغلظ كل سماء كذلك والأرضين مثل السماوات { يتنزل الأمر بينهن } أي يجري أمر الله وحكمه بينهن وملكه يندق بينهن، وعن قتادة: في كل سماء وفي كل أرض خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه وقرأ ينزل الأمر بينهن، وعن ابن عباس: أن نافع بن الأزرق سأله: هل تحت الأرضين خلق؟ قال: نعم، قال: فما هم الخلق؟ قال: إما ملائكة أو جن { لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما }.
[66 - سورة التحريم]
[66.1-2]
وقوله: { يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } اختلفوا في نزول الآية وفي المحرم ما هو فقيل: هو العسل، فروت جماعة منهم عائشة
" أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا صلى الغداة يدخل على نسائه وكان إذا دخل على حفصة سقته العسل فغارت عائشة وأرسلت إلى النساء إذا دخل عليكن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلن انا نجد ريح المعافير وهو شمع العرفط كريه الرائحة وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكره الروائح الكريهة لمكان الملك، فدخل عليهن وهن يقلن ذلك حتى دخل على عائشة فقالت: إني أجد منك ريح المعافير أكلتها، قال: " لا سقتني حفصة عسلا وحرمه على نفسه "
وقيل: الذي سقته العسل أم سلمة، وقيل: زينب بنت جحش كان يشرب عندها العسل فتواطت عائشة على أن يقولا نجد منك ريح المعافير، فلما قالتا ذلك حرم العسل على نفسه، وقيل: التحريم في شراب كان يعجبه، وقيل:
" التحريم سارية القبطية أم ابراهيم وكان أهداها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المقوقس خلا في حجرة حفصة في يومها فعاتبته حفصة فحرمها على نفسه طلبا لمرضاة حفصة لأنها غارت عليها وقال لحفصة: " لا تخبري بذلك أحدا " فأخبرت عائشة وكانتا متظاهرين على سائر أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: أن حفصة زارت عائشة، وقيل: بل خرجت إلى أمها وخلا بينها فوجه إلى مارية، فكانت معه في بيت حفصة، وجاءت حفصة فأسر إليها التحريم فأخبرت بذلك عائشة "
، وقيل: طلق حفصة تطليقة فأمر بالمراجعة، وروي أن عمرا قال لها: لو كان في الخطاب خير ما طلقك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجاء جبريل فأمره بالمراجعة، قال الحاكم: والأصح أن التحريم تحريم مارية والذي حمل ذلك عائشة وحفصة واختلفوا في التحريم قيل: حلف يمين الا يقربها، وقيل: لم يحلف ولكن قال: هي حرام علي فجعل فيه كفارة يمين { قد فرض الله لكم } أي قدر وأمر { تحلة أيمانكم } بالكفارة والكفارة ما ذكره في سورة المائدة، وقيل: لم يكفر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقيل: كفر { والله مولاكم } أي وليكم وناصركم { وهو العليم } بمصالحكم { الحكيم } في أوامره ونواهيه.
[66.3-7]
{ وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه } حفصة بالإجماع { حديثا } قال لها وأمرها بإخفائه وذلك الحديث حديث مارية وتحريمها، وقيل: تحريم العسل { فلما نبأت به } أخبرت حفصة بالحديث عائشة { وأظهره الله عليه } أي أطلع الله عليه رسوله، وما جرى من إفشاء سره { عرف بعضه } قرأ الكسائي بالتخفيف وهي قراءة علي بن أبي طالب (عليه السلام) أي غضب عليها وجازاها بما فعلت، وقراءة الباقين بالتشديد معناه عرف غيره، يعني عرف النبي حفصة ببعض الحديث وأخبرها به { وأعرض عن بعض } ولم يخبرها به، قال الحسن: ما استقصي كريم قط { فلما نبأها به } أي أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حفصة بما أظهر الله عليه { قالت } حفصة { من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير } بالسر، وإنما قالت من أنبأك هذا لأنها وثقت بعائشة أنها لا تخبر { إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما } أي مالت وزاغت إلى الإثم واستوجبتهما التوبة { وإن تظاهرا عليه } تعاونا يعني حفصة وعائشة تظاهرا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في إذائه { فإن الله هو مولاه } ناصره { وجبريل } ناصره { وصالح المؤمنين } أي خيار المؤمنين وهو علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وقيل: الأنبياء، وقيل: هو الصالحون { والملائكة بعد ذلك ظهير } أي معين { عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن } قيل: بحسن العشرة والخدمة وطاعة الرسول، وقيل: في الفضل والدين { مسلمات } أي مطيعات منقادات { مؤمنات } قيل: مصدقات لله ورسوله { قانتات } قيل: خاضعات لله تعالى { تائبات } قيل: راجعات إلى الله تعالى في أمورهن { عابدات } لله بالفرائض والسنن بالإخلاص { سائحات } قيل: ماضيات في طاعة الله وقيل: صائمات { وأبكارا } أي لم يكن لهن أزواج وهذا اخبار عن القدرة لا عن الكون لأنه علم أنه لا يطلقهن { يأيها الذين آمنوا قوا } أي احفظوا { أنفسكم وأهليكم نارا } أي افعلوا ما أمر الله به وأمروا أهليكم بذلك وانهوهم عن معصية الله تعالى تمنعوهم بذلك من النار { وقودها الناس والحجارة } ، قيل: حطبا، وقيل: يوقد عليهم تعذيبا، وقيل: هي حجارة الأصنام التي عبدوها يعذبون بها، وعن ابن عباس: هي حجارة الكبريت وهي أشد الأشياء حرا { عليها ملائكة } يعني الزبانية التسعة عشر وأعوانهم { غلاظ } يعني غلاظ القلوب لا يرحمون أحدا من أهل النار { شداد } أي أقوياء { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } { يأيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم } لما عذبوا أخذوا في الاعتذار فقال لهم: لا تعتذروا هذا جزاء فعلكم.
[66.8-12]
{ يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا } قيل: توبة تنصح لكم بالإخلاص، واختلف المفسرون بالنصح، قيل: أن يتوب ولا يعود. وقيل: أن يكون نادما على مضى، وقيل: هو أربعة أشياء الاستغفار والاقلاع، وإضمار ترك العود، وقيل: قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام، وقيل: أن لا يعود إلى الذنب ولو جرى بالسيف وأحرق بالنار، وعن علي (عليه السلام) أنه سمع أعرابيا يقول: اللهم إني استغفرك وأتوب إليك، فقال: " يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة سرعة الكاذبين " { عسى ربكم } عسى من الله وأحب أن يغفر لكم و { يكفر عنكم سيئاتكم } ، وقيل: توبوا متعرضين إلى المغفرة { يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه } أي لا يفعل بهم ما فعل بأهل النار من الخزي فتبيض وجوههم وتحسن صلاتهم ولا يلحقهم خوف ولا حزن { نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم } قيل: هو نور يتلألأ بين أيديهم في القيامة وعلى الصراط، وقيل: كتبهم { يقولون ربنا أتمم لنا نورنا } قيل: يقول المؤمنون حتى يطفئ نور المنافقين في القيامة، وقيل: أتمم لنا نورنا، أي وفقنا للطاعة، التي هي سبب النور، ومتى قيل: لم خص النور بأنه بين أيديهم وبأيمانهم؟ قلنا: على يسارهم أهل النفاق وخلفهم الكفار، وقيل: هو مسكوت عنه فيجوز أن يكون النور محيط بهم، ومتى قيل: أليس يعلمون أن نورهم يتم فكيف يسألون والدار ليست بدار تكليف؟ قلنا: هو على سبيل التلذذ لاستدامة النور وسؤال المغفرة يقع تلذذا { يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين } قيل: جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة، وقيل: جاهدهما إذا أظهروا النفاق { واغلظ عليهم } قيل: في الجهاد بإقامة الحد عليهم { ومأواهم جهنم وبئس المصير } { ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط } مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم من غير إبقاء ولا محاباة تنفعهم مع عداوتهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب أو صلة صهر، لأن عداوتهم لهم وكفرهم بالله ورسوله قطع العلائق وبت الوصل وجعلهم أبعد من الآمال، وإن كان المؤمن الذي يفصل به الكافر سائر أنبياء الله بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما خانتا ونافقتا الرسولين عنهما بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الأزواج أغنى من عذاب الله، وقيل لهما عند موتهما أي يوم القيامة ادخلا النار مع سائر الداخلين الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء ومع داخلها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط، ومثل حال المؤمنين في أن وصلة الكافرين لا تضرهم ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله بحال امرأة فرعون ومنزلتها عند الله مع كون زوجة أعدى عدو الله الناطق بالكلمة العظمى عند الله تعالى { فخانتاهما } أي في الدين، وقيل: كانتا منافقتين، وقيل: ما زنت امرأة نبي قط، وامرأة نوح نسبته إلى الجنون، وامرأة لوط كانت تدل الجيران على أضياف لوط، وقيل: كانت امرأة نوح إذا آمن به أحد أخبرت الجبابرة { وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون } وهي آسية بنت مزاحم، أسلمت لما عاينت المعجزة من عصا موسى وغلبته للسحرة، فلما ظهر إسلامها نهاها فأبت إلا الإسلام، فأوتد يديها ورجلها بأربعة وألقاها في الشمس وأمر بأن يلقى عليها صخرة عظيمة فلما قرب أجلها { قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة } وقيل: أبصرت بيتها، وقيل: رفعها إلى الله إلى الجنة، وقيل: توفت عند إلقاء الصخرة عليها { ونجني من فرعون وعمله } ، قيل: من دينه وكانت تكره المقام معه لكفره { ونجني من القوم الظالمين } مع أن قومها كانوا كفارا فقطع الله بهذه الآية طمع العصاة أن ينفعهم صلاح غيرهم { ومريم ابنة عمران } وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين مع أن أهلها كانوا كفارا قيل: ضرب المثل للمؤمن والكافر، وقيل: لأزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { التي أحصنت فرجها } من دنس الذنب، وقيل: بعدما أثنى الله عليها الإحصان لم يضرها قول من رماها { فنفخنا فيه من روحنا } نفخ جبريل بأمر الله في جيبها من روحنا، وقيل: نفخ جبريل في قميصها، وقيل: خلق الله المسيح، وقيل: فيه كناية عن المسيح أن خلق المسيح في بطنها ونفخ فيه الروح فصار حيا { وصدقت بكلمات ربها } بوعده ووعيده { وكانت من القانتين } من المطيعات قال جار الله: فإن قلت: فما كلمات الله وكتبه؟ قلت: يجوز أن يراد بكلماته صحفه التي أنزلها على إدريس وغيرها سماها كلمات لقصرها، وبكتبه الكتب الأربعة، وقرئ بكلمة الله وكتابه، أي بعيسى والكتاب المنزل عليه.
[67 - سورة الملك]
[67.1-5]
{ تبارك } قيل: تعالى وجل عما لا يجوز عليه { الذي بيده الملك } يعني الذي هو المالك للملك، وله الملك يؤتيه من يشاء، وذكر اليد للتأكيد، قيل: لأن التصرف والعطاء باليد { وهو على كل شيء قدير } هو عام في كل مقدور { الذي خلق الموت والحياة } يعني خلق الموت في الحي فأماته، وخلق الحياة في الجماد فأحياه، وقيل: الموت في الدنيا والحياة عند البعث والجزاء { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } أي ليعاملكم معاملة المختبر وإلا فهو عليم بأحوالكم وأعمالكم، وقيل: أيكم أكثر ذكرا للموت وأشد استعدادا، وإنما قدم الموت لأن الأشياء كانت في الأصل جمادا ثم خلق فيها الحياة، وقيل: لأنه أقرب إلى القهر { وهو العزيز الغفور } لمن تاب اليه وأطاعه { الذي خلق سبع سماوات طباقا } قيل: بعضها فوق بعض { ما ترى في خلق الرحمان من تفاوت } قيل: أراد جميع المخلوقات لا تفاوت فيها من طريق الحكمة بل كلها في الحكمة سواء وإن كانت متفاوتة في الصور والهيئات { فارجع البصر هل ترى من فطور } أي من صدوع وشقوق وهو جمع فطر { ثم ارجع البصر } أي ردد النظر وانظر هل ترى من فطور { ينقلب إليك البصر خاسئا } أي ذليلا { وهو حسير } أي كليل منقطع { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح } وهو الكواكب، قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاثة أشياء زينة للسماء { ورجوما للشياطين } وعلامات يهتدى بها { وأعتدنا لهم عذاب السعير } وهي النار المسعور.
[67.6-18]
{ وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير } يعني بئس المرجع { إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا } ، قيل: صوت فظيع نحو صوت الحمار يسمع عند غليانها، وقيل: أنه تعالى يخلق فيها صوتا يشبه صوت المغتاظ { وهي تفور } أي تغلي بهم غليان القدر { تكاد تميز } تفرق أي تكاد تنشق وتتفرق بعضها من بعض، وقيل: تميز على أهلها { من الغيظ كلما ألقي فيها فوج } أي جماعة { سألهم خزنتها } وهم الملائكة { ألم يأتكم نذير } استفهام، والمراد التقرير، قيل: رسول، وقيل: جميع ما يقع به الانذار من الكتاب والمواعظ، وقيل: الشيب { قالوا بلى قد جاءنا نذير } { فكذبنا } يعني لما جاءنا الرسول كذبنا { وقلنا ما أنزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير } أي في.... عن الحق عظيم { وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير } أي لو سمعنا من الرسل ما أدوا إلينا ما كنا في أصحاب السعير { فاعترفوا بذنبهم } أي أقروا { فسحقا لأصحاب السعير } أي أبعدهم الله من النجاة بعدا، وقيل: هو واد في جهنم، والسعير النار { إن الذين يخشون ربهم } أي يخافونه فلا يعصونه { بالغيب } أي في سرهم، وقيل: في حال غيبتهم عن المؤمنين، وقيل: عن الآخرة لأنها غائبة { لهم مغفرة } لذنوبهم { وأجر كبير } أي ثواب عظيم { وأسروا قولكم } الآية نزلت في المشركين كانوا يقولون أسروا قولكم كيلا يسمع إله محمد { إنه عليم بذات الصدور } وعيد لهم أي سواء أسررتم أو أعلنتم فإنه عليم بضمائركم لا يخفى عليه خافية { ألا يعلم من خلق } قيل: ألا يعلم الله الخالق، وقيل: ألا يعلم المخلوقات { وهو اللطيف } العالم بما لطف ودق، وقيل: الرفيق بعباده { الخبير } العالم { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا } أي سهلها ساكنة { فامشوا } أي إلى ما رغبكم الله فيه وإلى ما أباحه لكم فهذه إباحة وإرشاد وليس بإيجاب { في مناكبها } قيل: جبالها، وقيل: طرقها، وقيل: نواحيها وجوانبها { وكلوا من رزقه } يحتمل الايجاب والإباحة والرزق هو النعم التي أعطاها تعالى عباده { وإليه النشور } أي حكمه والموضع الذي يحكم فيه بعد الموت والبعث { أأمنتم من في السماء } عذابه، وقيل: أمنتم من في السماء سلطانه وتدبيره، وقيل: أأمنتم من في السماء يعني الملائكة الموكلين بعذاب العصاة { أن يخسف بكم الأرض } أي يغيبكم في الأرض إذا عصيتموه { فإذا هي تمور } قيل: تحرك بأهلها { أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا } قيل: ريح، وقيل: مطر فيه حجارة، وقيل: سحاب فيه حجارة { فستعلمون } حينئذ { كيف نذير } أي كيف إنذاري بالعذاب.
[67.19-30]
{ أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات } بأجنحتها وهي تطير { ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمان } أي ما يحبسهن في الهواء في حال القبض والبسط إلا الرحمان { إنه بكل شيء بصير } أي عالم { أمن هذا الذي هو جند لكم } هذا عطف على قوله أمنتم من في السماء من جند الله أن ينزل عليكم عذابا أم لكم جند { ينصركم من دون الرحمان } أي ليس لكم مانع من العذاب { إن الكافرون إلا في غرور } { أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه } الذي هو رزقكم أسباب الرزق نحو المطر والنبات { بل لجوا } أي تمادوا واستمروا في اللجاج { في عتو } أي بعد عن الحق { ونفور } عن الحق { أفمن يمشي مكبا على وجهه } ، قيل: ضرب مثلا للمؤمن والكافر، وقيل: هو على الحقيقة فإن الكافر يحشر يوم القيامة يمشي على وجهه، ومعناه أفمن يمشي مكبا على وجهه قيل: ساقطا فلا يرى الطريق ولا يقدر على المشي، وقيل: أفمن يمشي راكبا رأسه في الضلالة كالأعمى لا يبصر حقا من باطل { أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم } واضح قيم { قل } يا محمد { هو الذي أنشأكم } أي أوجدكم من عدم { وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة } وإنما خص هذه الأعضاء لأنها طرق العلم ومحله القلب، أي أعطاكم آلات العلم ولم تتفكروا { قليلا ما تشكرون } قيل: قليلا شكرهم على هذه النعم، وقيل: قليلا من يشكر منهم { قل هو الذي ذرأكم } أي خلقكم صغارا ثم نقلكم إلى حال التكليف، وقيل: أراد آدم لأنه خلق من الأرض { وإليه تحشرون } أي إلى حكمه وجزائه تجمعون { ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } يعني وعد البعثة والجزاء إن كنتم صادقين إن ذلك كائن { قل } يا محمد { إنما العلم عند الله } يعني علم الساعة متى تكون تختص به القديم سبحانه { وإنما أنا نذير مبين } { فلما رأوه } هذا إخبار عمن تقدم من الكفار حين رأوا نزول العذاب بهم، وقيل: رأوا العذاب يوم بدر، وقيل: معاينة { سيئت وجوه الذين كفروا } أي يظهر على وجوههم آثار الغم والحسرة، وقيل: اسودت وجوههم { وقيل } ساءهم رؤية القيامة، وقيل: لهؤلاء الكفار { هذا الذي كنتم به تدعون } واختلفوا من القائل قيل: قاله الملائكة، وقيل: قاله بعضهم لبعض تندما، ويحتمل أنه تعالى يقول ذلك زيادة لهم في عقابهم، قيل: كان المشركون يتمنون موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه فنزل قوله: { قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا } يعني إن أصابنا أو أبقانا وأخر أجلنا فمن يجيركم من العذاب فإنه واقع بكم لا محالة وتلخيصه لا مجير للكافرين أهلكنا أو رحمنا وإنما النجاة بالإيمان { قل هو الرحمان آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين } فستعلمون إذا جمعنا في القيامة عن قريب من الضلال، ومعنى مبين ظاهرا { قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا } أي غائرا ذاهبا في الأرض { فمن يأتيكم بماء معين } قيل: ظاهر العيون، وقيل: جاري.
[68 - سورة القلم]
[68.1-9]
{ ن } ، قيل: هو الحوت الذي عليه الأرضون، وقيل: هو حرف من حروف الرحمان، وقيل: النون: الدواة، وقيل: ن لوح من نور، وقيل: السورة، وقيل: قسم أقسم الله به { والقلم } الواو واو القسم قيل: أقسم بالقلم تنبيها على عظم شأنه لأنه أحد لساني الإنسان يؤدي عنه، وقيل: أول ما خلق الله القلم يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقيل: هو قلم من نور طوله ما بين السماء والأرض، وقيل: أراد بالقلم الخط والكتابة من قوله: { علم بالقلم } ، وقيل: أقسم برب القلم ورب نون { وما يسطرون } قيل: ما سطر في اللوح، وقيل: ما سطره الحفظة من أعمال العباد، وقيل: ما يكتبوا بنو آدم وغيرهم { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } هذا جواب القسم، يعني لا يكون مجنونا من أنعمنا عليه بالنبوة والحكمة، ومتى قيل: كيف نسبوه إلى الجنون مع علمهم بكمال عقله؟ قلنا: إيهاما على العوام، وقيل: للنظر في حاله { وإن لك لأجرا غير ممنون } أي جزاء غير مقطوع وهو ثواب الجنة { وإنك } يا محمد { لعلى خلق عظيم } ، قيل: على دين عظيم وهو دين الاسلام، وسئلت عائشة عن خلق محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: كان خلقه القرآن
خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين
[الأعراف: 199] { فستبصر ويبصرون } وهذا وعيد، والمراد من رماه بالجنون { بأيكم المفتون } قيل: أيكم المجنون، وقيل: أولى بالشيطان { إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } فيجازي كلا بما يستحقه { فلا تطع المكذبين } يعني الكفار، نزل قوله: { ودوا لو تدهن } الآية في مشركي قريش حين دعوا إلى دين الآباء، قيل: ودوا لو تكفر فيكفرون، وقيل: تلين في دينك فيلينون.
[68.10-32]
{ ولا تطع كل حلاف مهين } نزلت في الوليد بن المغيرة، وقيل: في الأخنس، ومعناه مهين كثير الحلف بالباطل، وقيل: الكذاب، وقيل: الحقير الضعيف { هماز } مغتاب { مشاء بنميم } يسعى بالنميمة يفسد بين الناس { مناع للخير } للإسلام يمنع عشيرته، وقيل: يمنع الواجبات { معتد } مجاوز للحد غشوم ظلوم { عتل } فاجر لئيم، وقيل: منافق، وقيل: الأكول الذي همته بطنه { بعد ذلك زنيم } ، قيل: الزنيم الذي لا أصل له عن علي (عليه السلام)، وقيل: قال للوليد زنمة في عنقه كزنمة الشاة، قال: زنيم ليس يعرف من أبوه الأم ذو حسب لائم { ان كان ذا مال وبنين } { إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين } كتب الأولين واخبارهم، وكان أن يجعل الأموال والأولاد داعية للشكر فجعلوا جزاءها الكفر، وقالوا: أساطير الأولين { سنسمه على الخرطوم } ، قيل: في الدنيا أي ينال ما يبقى أثره عليهم، وقيل: أنه ناله ذلك يوم بدر حطم بالسيف فبقيت سمة على خرطومه، وقيل: أراد يوم القيامة، وقيل: يسم الله وجه الكافر بعلامة { إنابلوناهم } يعني أهل مكة بالقحط والجوع بدعوة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين قال:
" اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف "
فقحطوا، وقيل: بلوناهم أي تعبدناهم بالشكر على نعمنا عليهم ونهيناهم عن الكفر فوضع الابتلاء موضع الأمر والنهي، وقيل: جميع الكفار أمرناهم بالتعبد { كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين } البستان قيل: كان على فرسخين من صنعاء وكان غرسه أهل الصلاة وكان صاحب البستان يصرف حقوق الفقراء اليهم وقت الصرام فمات، فورثه ثلاثة بنين فقالوا: المال قليل والعيال كثير فلا نستطيع أن ندفع إلى الفقراء شيئا، فتواعدوا يوما للصرام ولم يستثنوا فلما أتوها رأوها مسودة، وقيل: كانت لشيخ يطعم منها المساكين فلما مات قال بنوه: لا يدخلها اليوم عليكم مسكين شحا على الثمرة، وقوله: { إذ أقسموا } أي تحالفوا بينهم { ليصرمنها } أي يقطعون ثمرها { مصبحين } أي وقت الصباح، قبل علم الناس { ولا يستثنون } ولم يقولوا إن شاء الله، وقيل: لم يستثنوا نصيب الفقراء { فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون } { فأصبحت كالصريم } وقوله: { فتنادوا مصبحين } أي نادى وقت الصباح { أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين } أي قاطعين، والحرث اسم الزرع { فانطلقوا وهم يتخافتون } يتشاورون { أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين } فقير هذا الذي يتخافتون به { وغدوا على حرد قادرين } على حرد جهد من أمرهم، وقيل: على قوة وقدر قادرين عند أنفسهم { فلما رأوها } على تلك الصفة { قالوا إنا لضالون } عن الحق، وقيل: لضالون عن الطريق، وليس هذا بستاننا، وقيل: في منع حق الفقراء فقال بعضهم: { بل نحن محرومون } يعني هذه جنتنا ولكن حرمنا نفقاتها وخيرها لمنع المساكين حقهم { قال أوسطهم } قيل: أعدلهم، وقيل: أفضلهم وأصلحهم { ألم أقل لكم لولا تسبحون } معناه تستثنون لأن الاستثناء التوكل على الله، وقيل: هلا تسبحون الله { قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين } في عزمنا حرمان المساكين { فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون } على ما فرط منهم { قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين } أي مجاوزين للحد بمنع الفقراء { عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون } وقيل: لما أخلصوا أبدلهم الله بها جنة يقال لها الحيوان، فيها عنب يحمل البغل منها عنقودا.
[68.33-47]
{ كذلك العذاب } عذاب الدنيا ينزل الله على العصاة، وقيل: كما فعلنا بأولئك بكل ظالم كذلك العذاب { ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } ذلك ثم ذكر الوعد للمؤمنين فقال: { إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم } يعني في الآخرة { أفنجعل المسلمين كالمجرمين } { ما لكم كيف تحكمون } يعني ما استوى هذا الحكم { أم لكم كتاب فيه تدرسون } أي كتاب تدرسون ذلك وقد قامت الحجة بذلك { إن لكم فيه لما تخيرون } { أم لكم أيمان } عهود ومواثيق { علينا بالغة } عاهدناكم فلا ينقطع ذلك العهد إلى يوم القيامة، وقيل: البالغة اليمين بالله { إن لكم لما تحكمون } في ذلك العهد يعني: يكون لكم حكمكم { سلهم } يا محمد { أيهم بذلك زعيم } قيل: كفيل، وقيل: قائم بالحجة، وقيل: من يكفل لهم أنه لا يعاقب العاصي، وقيل: أن الرؤساء قالوا نحن كفولكم { أم لهم شركاء } قيل: أرباب، وقيل: شهداء يشهدون لهم بالصدق { فليأتوا بشركائهم } يوم القيامة { إن كانوا صادقين } فيما يدعونه { يوم يكشف عن ساق } أي فليأتوا بشركائهم عن شدة من الأمر وذلك يوم القيامة، وقيل: هو آخر أيام الدنيا وأول أيام الآخرة لم يلق العبد يوما أشد منه، ومعنى أشد الأمر كما قال قد شمرت عن ساقها فشدوا، وجدت الحرب بكم فجدوا { ويدعون إلى السجود } قيل: هذا في الآخرة يؤمرون بالسجود فلا يمكنهم، وقيل: يحدث في أصلابهم صلاتهم تمنع من السجود { خاشعة أبصارهم } أي خائفة متوقعة للعذاب { ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود } في الدنيا { وهم سالمون } أصحاء، قيل: أراد إلى الصلاة المكتوبة، وقيل: الذين تخلفوا عن الجماعات { فذرني ومن يكذب بهذا الحديث } هذا وعيد، وقيل: جميع ما أداه اليهم { سنستدرجهم من حيث لا يعلمون } قيل: نأخذهم من أي طريق سلك وأين دبوا ودرجوا، وقيل: سآخذهم إلى العقاب حالا بعد حال ودرجة بعد درجة { وأملي لهم إن كيدي متين } أي تدبيري فيهم وإرادتي قوي لا يفوتون، وقيل: كيدي عذابي فسماه كيدا لأنه جزاء كيدهم { أم تسألهم أجرا } هذا عطف على قوله أم لكم كتاب فيه تدرسون، يعني أم تسألهم يا محمد هؤلاء الكفار أجرا على تبليغ الرسالة وتطمع في أموالهم طمعا يلزمهم لزوم الدين المثقل { أم عندهم الغيب فهم يكتبون } ، قيل: أم يعلمون الغيب فيعلمون أنك غير محق فيما آتيتهم، وقيل: أراد اللوح المحفوظ لأن فيه ما كان وما يكون إلى يوم القيامة فهم يكتبون منه، وقيل: الغيب ما في القرآن من أخبار الغيب وهي أحد أعجازه، أي هل لكم كتاب مثل هذا القرآن حتى يكتبوا منه ما حكموا.
[68.48-52]
{ فاصبر لحكم ربك } أي دع كلامهم فإنه لا حجة فاصبر لما حكم الله عليك من آداء الرسالة { ولا تكن كصاحب الحوت } يعني يونس (عليه السلام) لأنه صار في بطن الحوت، وقيل: في خروجه من بين قومه بغير إذن حتى التقمه الحوت { إذ نادى } دعى ربه في جوف الحوت، وقيل: الذي نادى به { لا إله إلا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين } { وهو مكظوم } مغموم، وقيل: محبوس والكظم الحبس { لولا أن تداركه } ربه لحقه { نعمة من ربه } فبقاه في بطن الحوت وأخرجه حيا { لنبذ } طرح { بالعراء } والعراء الأرض الخالية من النبات { وهو مذموم } أي معه ما يلام به ولكن الله تعالى تداركه برحمته وأجاب دعاءه وخلصه من بطن الحوت، وقيل: تبقيته في بطنه حيا وأخرجه حيا { فاجتباه ربه } أي اختاره واصطفاه لنبوته { فجعله من الصالحين } قيل: أخبر بأنه منهم، وقيل: جعله فيهم يوم القيامة { وإن يكاد الذين كفروا } الآية نزلت في المشركين، أرادوا أن يبينوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصيبوه في العين، فنظر اليه قوم من قريش وقالوا: ما رأينا مثله، وقيل: كانت العين في بني أسد { ليزلقونك بأبصارهم } ، قيل: يرمونك، وقيل: يزيلونك، وقيل: يقتلونك يعني من شدة العداوة وقد عصمه الله تعالى { لما سمعوا الذكر } القرآن { ويقولون إنه لمجنون } { وما هو إلا ذكر للعالمين } قيل: القرآن، وقيل: محمد.
[69 - سورة الحاقة]
[69.1-8]
{ الحاقة } القيامة أي ما القيامة تفخيما لشأنها { وما أدراك ما الحاقة } وما يدريك بما ليس بمعلوم في جميع القرآن { كذبت ثمود } وهم قوم صالح { وعاد } قوم هود { بالقارعة } قيل: بالقيامة لأنها تقرع القلوب بأهوالها { فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية } قيل: بالصيحة التي نزلت بهم والطاغية المتجاوزة في الفعل كل صيحة، وتسمى الصيحة طاغية لتجاوزها الحد، والمراد العذاب النازل بهم { وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر } قيل: باردة وهي الريح الشديدة الصوت، ومنه صرصر الباب، وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" ما أرسل الله سفينة ريح إلا بمكيال، ولا قطرة مطر إلا بمكيال، إلا يوم عاد ويوم نوح، فإن الماء يوم نوح طغى على الخزان فلم يكن لهم عليه سبيل " ثم قرأ: { إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية } " وأما يوم عاد فعتت على الخوان فلم يكن لهم عليها سبيل " ثم قرأ: { بريح صرصر عاتية } "
ولعلها عبارة عن الشدة والإفراط، وقيل: عاتية مهلكة، وقيل: عتت على خزانها فجرت بلا كيل ولا وزن { سخرها } سلطها { عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما } قال وهب: هي التي تسمى للعرب أيام العجوز ذات برد ورياح شديدة، ونسبت إلى العجوز لأن عجوزا دخلت سربا فتبعتها فقتلتها اليوم الثامن وانقطع العذاب، وهي آخر الشتاء، والحسوم القاطعة كأنه يتابع عليهم الشر حتى استأصلهم، وقيل: { فترى القوم فيها صرعى } مصروعين هلكى { كأنهم أعجاز } قيل: أصول النخل { خاوية } خالية إلا خراب، وشبهوا قيل: شبهوا بذلك لعظم أجسامهم، وقيل: لما أرسل عليهم الريح قاموا واعتمدوا على أجلهم ليدفعوا الريح فزمعتهم بين السماء والأرض وأهلكتهم { فهل ترى لهم من باقية } أي ليس لهم باقية.
[69.9-24]
{ وجاء فرعون ومن قبله } قرئ بفتح القاف وسكون الباء نافع، أي من يقدمه من الأمم، وقرأ الكسائي وأبو عمرو بكسر القاف وفتح الباء، يعني ومن معه من أتباعه { والمؤتفكات } قرى قوم لوط انقلبت بهم { بالخاطئة } أي بالخطيئة والمعاصي فأخطأوا طريق الحق { فعصوا رسول ربهم } فيما أمرهم به { فأخذهم } الله { أخذة رابية } قيل: شديدة، وقيل: زائدة { إنا لما طغى الماء } أي جاوز الحد في المقدار طغى فوق كل شيء خمسة عشر ذراعا، وقيل: أكثر { حملناكم } أي حملنا آباءكم لأن الابن يخاطب بالشكر { في الجارية } أي السفينة، وقيل: السفينة ألف وثلاثمائة ذراع وعرضها ستمائة ذراع { لنجعلها لكم تذكرة } أي عظة تذكرونها، وقيل: تذكرون بها عظم نعم الله في انتقامه وإنجائه وبيان قدرته وحكمته { وتعيها أذن واعية } قيل: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي فما نسيت شيئا بعد وما كان لي أن أنساه " أي يعني كل شيء ويعلم، وقيل: حافظ { فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة } قيل: أراد النفخة الأولى { وحملت الأرض والجبال } أي كسرتا قيل: صارا ترابا، وقيل: بسطتا بسطة واحدة، وقيل: ضرب بعضها ببعض حتى تفتت الجبال وسقتها الرياح وبقيت الأرض شيئا واحدا { فيومئذ وقعت الواقعة } أي قامت القيامة { وانشقت السماء فهي يومئذ واهية } أي ضعيفة { والملك على أرجائها } نواحيها وأقطارها { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } ثمانية منهم وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" هم اليوم أربعة فإذا كان يوم القيامة أيدهم الله بأربعة آخرين "
وروي ثمانية أملاك أرجلهم في تخوم الأرض السابعة والعرش فوق رؤوسهم مطرقون مسبحون، وقيل: بعضهم على صور الانسان، وبعضهم على صور الأسد، وبعضهم على صور الثور، وبعضهم على صور النسر، وروي: ثمانية أملاك على خلق الأوعال ما بين أظلافها إلى ركبها مسيرة سبعين سنة، وعن الحسن: الله أعلم كم هم أثمانية أم ثمانية آلاف، وعن الضحاك: ثمانية صفوف لا يعلم عددهم إلا الله { يومئذ تعرضون } على ثلاث عرضات ثنتان فيهما جدال ومعاذير والثالث نشر الكتب فأخذ بيمينه وأخذ بشماله، والعرض للجزاء والمحاسبة { لا تخفى منكم خافية } لأنه تعالى يعلم سرهم وجهرهم { فأما من أوتي كتابه بيمينه } وهم المؤمنون { فيقول هاؤم اقرأوا كتابيه } قيل: تعالى اقرأوا كتابيه وهذا كلام من بلغ الغاية في السرور قيل: يدعو أهله وقراباته { إني ظننت } عاينت وأيقنت في الدنيا { اني ملاق حسابيه } ، قيل: انها لنظم رؤوس الآي، وقيل: للاستراحة { فهو في عيشة راضية } قيل: مرضية، وقيل: ذات رضا { في جنة عالية } رفيعة المكان { قطوفها دانية } ثمارها قريبة { كلوا واشربوا هنيئا } قيل: الهنيء المريء الذي ليس فيه ما يؤذي ولا يعقب إذا كالغائط والبول { بما أسلفتم } قدمتم { في الأيام الخالية } الماضية، يعني في الدنيا، وقيل: أيام الصوم، وقيل: أيام الخلوة، قال قتادة: أيامكم هذه أيام خالية تؤديكم إلى أيام باقية اعملوا فيها وقدموا خيرا، وقيل: كتاب المؤمن من نور وعليه خط من نور.
[69.25-52]
{ وأما من أوتي كتابه بشماله } وهم العصاة { فيقول } هي علامة أهل النار تلوى يده اليسرى خلف ظهره ثم يعطى كتابه، وقيل: تنزع من صدره إلى خلف ظهره فإذا قرأ كتابه مشحونا بكل قبيح وفاحشة قال تحسرا: { يا ليتني لم أوت كتابيه } كلام من ضاق صدره وقلت حيلته فيقول: يا ليتني لم أعط هذا الكتاب ليتني لم أره { ولم أدر ما حسابيه } هذا كلام تحسرا وندما { يا ليتها كانت القاضية } يعني الموتة الأولى في الدنيا ولم يكن لي حياة، وقيل: معناه ليتني مت فلم يكن لي حياة واسترحت { ما أغنى عني ماليه } أي ما كفى عني شيئا من عذاب الله وما ينفعني اليوم { هلك عني سلطانيه } قيل: حجتي { خذوه } أي يقال للملائكة الذين هم خزنة جهنم { خذوه فغلوه } أي اجعلوا الأغلال في أعناقهم { ثم الجحيم صلوه } أي أدخلوه النار وألزموه اياها { ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا } بذراع الملك أي اسلكوه في السلسلة قيل: تدخل من دبره وتخرج من منخرته، وقيل: تدخل من فيه وتخرج من دبره، وقيل: تدخل من دبره وتخرج من حلقه وتكون محماة بنار جهنم، واختلفوا بالذراع، قيل: سبعون ذراعا، وروي: لو جمع حديد الدنيا ما وزن حلقة منها { إنه كان لا يؤمن بالله العظيم } شأنه وصفاته { ولا يحض على طعام المسكين } وهو المحتاج الفقير وهو منع الزكاة { فليس له اليوم هاهنا حميم } يعني يوم القيامة حميم صديق، وقيل: أحد يحميه، وقيل: قريب يعينه { ولا طعام إلا من غسلين } وهو غسالة أهل النار وما يسيل من أبدانهم من الصديد { لا يأكله إلا الخاطئون } الآثمون { فلا أقسم بما تبصرون } { وما لا تبصرون } وما لا ترون وأراد جميع المكونات، وقيل: ما تبصرون الشمس والقمر وما لا تبصرون العرش والكرسي، وقيل: الجنة والنار، وقيل: ما على وجه الأرض وما في بطنها، وقيل: بالنعم الظاهرة والباطنة، وقيل: بالأجسام والأرواح، وقيل: الجن والإنس { إنه } جواب القسم { لقول رسول } قيل: جبريل، وقيل: محمد { كريم } على ربه أي بقوله ويكلم به على وجه الرسالة عند الله { وما هو بقول شاعر } ولا كاهن كما تدعون { قليلا ما تؤمنون } والقلة في معنى العدم، أي لا تؤمنون ولا تذكرون البتة { تنزيل } بيانا لأنه قوله: { رسول كريم } نزل عليه { من رب العالمين } { ولو تقول علينا بعض الأقاويل } قيل: ادعى الوحي فيما لم يوح إليه، وقيل: بزيادة أو نقصان أو بغير لو فعل ذلك { لأخذنا منه باليمين } أي لو فعل ذلك لانتقم الله منه فنفى ذلك منه وبين عصمته، وقيل: باليمين بالقوة، وقيل: لقطعنا يده اليمنى { ثم لقطعنا منه الوتين } قيل: نياط القلب، وقيل: عروق في القلب تتصل بالظهر { فما منكم من أحد عنه حاجزين } أي مانعين من العقاب { وإنه } يعني القرآن { لتذكرة } أي عظة لمن تدبر وتفكر وخص { للمتقين } لأنهم الذين ينتفعون به ليفكروا فيه { وإنا لنعلم أن منكم مكذبين } إشارة إلى أن منهم مصدق ومكذب { وإنه لحسرة على الكافرين } قيل: القرآن حسرة عليهم حيث لم يعملوا به، وقيل: البعث والحساب حيث لم يعدوا لهما، وقيل: أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حسرة عليهم حيث كذبوا به { وإنه لحق اليقين } ، قيل: معناه أنه صدق ويقين { فسبح باسم ربك العظيم } أي نزهه عما لا يجوز عليه من الصفات.
[70 - سورة المعارج]
[70.1-4]
قرأ نافع وابن عامر { سأل سائل } ساكنة الألف غير مهموزة والباقون مهموزة مفتوحة الألف، واتفقوا في سأل أنه مهموز، فمن قرأ بالهمز عنى السؤال لا غير، ومن قرأ بغير همز فقيل: هي لغة في السؤال، وقيل: هو من السيل، وقيل: هو واد في جهنم، قيل: لما بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خوف أهل مكة بالعذاب قال المشركون بعضهم لبعض: سلوا محمدا عن العذاب لمن هو؟ وعلى من ينزل؟ فنزلت الآية، وقيل: أن النضر بن الحرث دعا وقال:
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السمآء أو ائتنا بعذاب أليم
[الأنفال: 32] فنزل به ما سأل يوم بدر وقتل صبرا، ولم يقتل من الأسرى غير رجلين النضر بن الحارث وبلتعة بن أبي معيط، وسئل سفيان بن عيينة فيمن نزل قوله: { سأل سائل } ، فقال: لقد سألتني مسألة ما سألني أحد قبلك، حدثني أبي عن أبي جعفر بن محمد عن آبائه قال: " لما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بغدير خم نادى الناس فلما اجتمعوا أخذ بيد علي (عليه السلام) وقال: من كنت مولاه فهذا مولاه، فشاع ذلك في البلاد فبلغ ذلك الحارث بن النعمان فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على ناقة حمراء حتى أتى الأبطح وأتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: يا محمد أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله وانك رسول الله فقبلنا منك وأمرتنا بالصلاة والصوم والحج فقبلنا منك ثم لم نرض بهذا حتى رفعت لصنعى ابن عمك فضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فهذا مولاه هذا شيء منك أو من الله؟! فقال: والله الذي لا إله إلا هو أنه من الله، فولى الحارث بن النعمان وقال: اللهم إن كان ما يقوله محمد حق فامطر علينا حجارة من السماء فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجر سقط على هامته وخرج من دبره فقتله وأنزل الله فيه: { سأل سائل } " ذكره الحاكم والنزول والثعلبي { من الله ذي المعارج } أي رب المعارج وخالقها ومالكها، قيل: السماوات لأنها موضع عروج الملائكة { تعرج الملائكة } أي تصعد، { والروح } جبريل { إليه } أي إلى عرشه وحيث يهبط فيه إذا أمره { في يوم كان مقداره } كمدة مقدار { خمسين ألف سنة } مما يعد الناس والروح (عليه السلام) وقيل: الروح خلق هم حفظة على الملائكة كما أن الملائكة حفظة على الناس أراد يوم القيامة أما أن يكون استطالته لشدته على الكفار وأما أنه على الحقيقة كذلك، وقيل: فيه خمسون موطنا كل موطن ألف سنة، وما قدر ذلك على المؤمن إلا كما بين الظهر والعصر، وقيل: لو ولى المحاسبة غيره تعالى في ذلك اليوم لم يفرغ إلا بعد خمسين ألف سنة وهو يفرغ في ساعة.
[70.5-31]
{ فاصبر صبرا جميلا } بحسن عشرتهم ودعوتهم إلى الله ودينه والتأني وترك العجلة والمداراة { إنهم يرونه بعيدا } الضمير في يرونه للعذاب الواقع لا ليوم القيامة لأن كل آت قريب، يعني يوم القيامة، وقيل: يرون العذاب بعيدا ونحن { نراه قريبا } عنهم لاستحقاقهم، ثم وصف اليوم الموعود فقال: { يوم تكون السماء كالمهل } ، قيل: عكر الزيت، وقيل: كالصفر المذاب { ولا يسأل حميم حميما } أي قريب قريبا لشغل كل إنسان بنفسه، وقيل: لا يسأل حميم حميما ليعرف حاله لأن كل أحد يعرف بسيماه { يبصرونهم } أي يبين لهم الحميم بأبصارهم فلا مخلوق إلا وهو نصب عين صاحبه يبصر قرينه وحميمه وعشيرته ولا يكلمه شغلا بنفسه { يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه } { وصاحبته } امرأته { وأخيه } { وفصيلته } عشيرته الأقربون { التي تؤويه } يأوي إليها { ومن في الأرض جميعا ثم ينجيه } { كلا } أي ليس ذلك لا ينجيه أحد من عذاب الله ثم ابتدأ { إنها لظى } ، قيل: الدركة الثانية، وقيل : اسم لجهنم سميت بذلك لأنها تلتهب { نزاعة للشوى } ، قيل: الأطراف كاليد والرجل والهام، وقيل: أم الرأس، وقيل: اللحم دون العظم { تدعو } يعني النار تدعو إلى نفسها { من أدبر } عن الإيمان وأعرض، قيل: الله ينطقها حتى تدعوهم، وقيل: خزنة النار { وجمع فأوعى } يعني جمع المال وكسبه فلم يؤد حقه { إن الإنسان خلق هلوعا } ، قيل: الهلوع الحريص الضجور، وقيل: هو الذي { إذا مسه الشر جزوعا } { وإذا مسه الخير منوعا } ، وقيل: شحيحا، وقيل: إذا مسه الخير لم يشكر، وإذا مسه الشر لم يصبر، وإذا مسه الخير منع حق الله { إلا المصلين } أراد جميع المؤمنين { الذين هم على صلاتهم دائمون } يعني يديمون إقامة الفرائض { والذين في أموالهم حق معلوم } وهو ما يخرج من صدقة أو صلة رحم، وقيل: الزكاة المفروضة { للسائل } الذي يسأل { والمحروم } الذي حرم الرزق لقلة السؤال، وقيل: الذي لا شيء له، وقيل: المحروم الزمن، وقيل: الذي لا حظ له بالعطاء، وقيل: الكلب والسنور ونحوهما مما يطوف على الإنسان { والذين يصدقون بيوم الدين } أي يوم القيامة { والذين هم من عذاب ربهم مشفقون } أي خائفون { إن عذاب ربهم غير مأمون } أي لا يأمن حلوله إلا العصاة، وقيل: يخافون ألا تقبل حسناتهم ويؤاخذون بسيئاتهم { والذين هم لفروجهم حافظون } { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين } { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون } المجاوزون الحد.
[70.32-44]
{ والذين هم لأماناتهم } ، قيل: ما يؤتمن المرء عليه كالوصايا والودائع والحكومات والعبادات ونحو ذلك لأن جميع ذلك اؤتمنوا عليها { وعهدهم } ما فرض عليهم { راعون } حافظون { والذين هم بشهادتهم قائمون } قيل: يقيمونها ولا يكتمونها ولا يعيرون لقرابة لحر يقع، قيل: أراد الشهادة بين الناس، وقيل: قائمون لحفظ ما شهدوا به من شهادة أن لا إله إلا الله { والذين هم على صلاتهم يحافظون } أي يحفظون أوقاتها وأركانها وسننها ولا يضيعون شيئا منها { أولئك } من تقدم صفتهم { في جنات مكرمون } معظمون بالثواب { فمال الذين كفروا قبلك مهطعين } الآية نزلت في المشركين كانوا يجتمعون حول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حلقا حلقا وفرقا فرقا يستمعون ويستهزئون بكلامك ويقولون إذا دخل هؤلاء الجنة كما زعم محمد فلندخلنها قبلهم فنزلت: { مهطعين } مسرعين نحوك مادي أعناقهم إليك مقبلين بأبصارهم عليك { عزين } فرقا شتى جمع عزة والأقرب أنهم كانوا أهل مكة، وقيل: مسرعين إليك كانوا يأخذون الحديث منه ثم يتفرقون عزين بالتكذيب، وقيل: أسرعوا متعجبين منه، وقيل: أسرعوا إليه لطلب عيب له، وقيل: فما للذين كفروا مسرعين إلى نيل الجنة وطمع الثواب مع الإقامة على الكفر وليس معهم ما يوجب ذلك { عن اليمين وعن الشمال عزين } أي فرقا وعصبة عصبة وجماعة جماعة متفرقين { أيطمع كل امرء منهم أن يدخل جنة نعيم } مع ما هم عليه من الكفر { كلا } أي لا يكون ذلك { إنا خلقناهم مما يعلمون } قيل: من النطفة، وقيل: من قدر { فلا أقسم } قيل: لا صلة مؤكدة، وقيل: هو كقوله لا والله، وقيل: هو رد الكلام وإثبات للآخر { برب المشارق والمغارب } قيل: مشارق الشمس ومغاربها، قال ابن عباس: للشمس ثلاثمائة وستون مطلعا تطلع كل يوم من مطلع، وقيل: مشارق الشمس والقمر والنجوم { إنا لقادرون على أن نبدل خيرا منهم } أي من قدر على خلقهم قدر على غيرهم، وقيل: يكون ذلك الغير خيرا منهم، ومتى قيل: فهلا يدلهم بمن هو خير منهم؟ قلنا: قد جعل فبدلهم بالمهاجرين والأنصار خير منهم: { وما نحن بمسبوقين } يعني يفوق عقابنا إياهم، وقيل: وما نحن بعاجزين عن ذلك، وقيل: وما نحن بمعلومين { فذرهم } دعهم، وهذا تهديد ووعيد { يخوضوا } في باطلهم { ويلعبوا } بأمر دنياهم { حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون } يعني { يوم يخرجون من الأجداث } من القبور { سراعا } قيل: لشدة السوق فيسرعون { كأنهم إلى نصب يوفضون } كأنهم إلى أوثانهم يسعون لتقرب اليهم في الدنيا { خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة ذلك اليوم الذي كانوا يوعدون } فلا يصدقون به.
[71 - سورة نوح]
[71.1-9]
{ إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك } أي أرسلناه لينذر قومه { من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } موجع قيل: عذاب الدنيا بالاستئصال، وقيل: عذاب الآخرة { قال يا قوم إني لكم نذير مبين } أي مبين وجوه الأدلة في الوعيد وبيان العذاب وآداء الرسالة وبيان الأحكام ومعالم الدر { أن اعبدوا الله واتقوه وأطيعون } أي اتقوا معاصيه وأطيعون فيما أؤدي إليكم فانكم إذا فعلتم ذلك { يغفر لكم ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى } أي وقت الموت والمدة المضروبة فلا يهلككم بالعذاب والطوفان، وقيل: إن آمنتم زاد في أجلكم وإن لم تؤمنوا أهلككم { إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون } أي لو علمتم أن في عبادتكم تأخير الأجل، وقيل: لو علمتم ما في التوبة من عظم النجاة لبادرتم إليها، ثم بين تعالى قول نوح لما لم يجيبوه إلى دعوته ولم يقبلوا مقالته فقال سبحانه: { قال } نوح { رب إني دعوت قومي } إلى الإيمان بك وإلى عبادتك { ليلا ونهارا } يعني دائما متصلا، وقيل: دعوت بعضهم ليلا وبعضهم نهارا، وقيل: دعوت مرة ليلا ومرة نهارا والأول الوجه { فلم يزدهم دعائي إلا فرارا } انكارا وادبارا { واني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم } كراهة السماع { واستغشوا ثيابهم } أي غطوا وجوههم بثيابهم لئلا يروا نوحا ولا يسمعوا صوته { وأصروا } أي داموا على كفرهم { واستكبروا } اي تكبروا وانفوا عن قبول الحق { استكبارا } قيل: كان الرجل يذهب بابنه إلى نوح ويقول: يا بني احذر هذا ألا يغويك فإن أبي ذهب بي إليه فحذرني كما حذرتك { ثم إني دعوتهم جهارا } أي إعلانا، أي: { أعلنت لهم } الدعوة { وأسررت } قيل: دعاهم بكل وجه، وقيل: دعوتهم مرة بالإعلان ومرة بالإخفاء ودعوت طائفة سرا وطائفة جهرا، ومتى قيل: ما معنى قول نوح وفعلت والله أعلم به قيل: إظهار للعبودية وبذل للجهد في الطاعة له والدعاء اليه مع تمردهم، وقيل: شكا منهم ومن سوء صنعهم وما قابلوه.
[71.10-22]
{ فقلت استغفروا ربكم } أي اطلبوا منه المغفرة بالإيمان { إنه كان غفارا } لمن تاب وآمن { يرسل السماء عليكم مدرارا } متتابعا حالا بعد حال { ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات } بساتين { ويجعل لكم أنهارا } جارية، وقيل: كان الله ابتلى قوم نوح بالقحط وأعقم أرحام النساء أربعين عاما فضمن نوح لهم أنهم إن آمنوا أصلح الله أحوالهم، وروي أن عمرا (رضي الله عنه) خرج للاستسقاء فما زاد على الاستغفار وتلا هذه الآية، وروي أن رجلا أتى الحسن فشكا إليه الجدوبة فقال: استغفروا الله، وأتاه آخر فشكا اليه الفقر فقال: استغفر الله، وأتاه آخر فقال: ادعوا الله أن يرزقني ولدا فقال: استغفر الله، فقيل له في ذلك فتلا الآية، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) استسقى ودعا ولم يصل { ما لكم لا ترجون لله وقارا } ، قيل: ما لكم لا تعتقدون باثبات الله إلها لكم، والوقار الثبات، وقيل: ما لكم لا تعظمون الله حق عظمته، وقيل: ما لكم لا تعرفون الله حقا { وقد خلقكم أطوارا } تارات حالا بعد حال، قيل: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم خلقا سويا، وقيل: صبيا ثم شابا ثم شيخا وضعيفا وقويا، وقيل: غنيا وفقيرا وصحيحا ومريضا { ألم تروا } يحتمل الرؤية بالنظر، ألم تنظروا السماوات كيف خلقناها ويحتمل العلم أي { كيف خلق الله سبع سماوات طباقا } أي بعضها فوق بعض { وجعل القمر فيهن نورا } قيل: في السماوات السبع، وقيل: أن الشمس والقمر وجوههما مما يلي السماء وظهورهما مما يلي الأرض، وقيل: في ناحيتين، وقيل: في سماء الدنيا، وهذا كما يقال: أتت بنو تميم وإنما أتى بعضهم، وقيل: الشمس في السماء الرابعة، وروي في الغرائب والعجائب أنه إجماع أن الشمس في السماء الرابعة { والله أنبتكم من الأرض نباتا } قيل: الكبر بعد الصغر والإطالة بعد القصر وذلك هو الإخراج من حال الطفولية إلى الشباب، وقيل: أراد الخلق الأول وهو خلق آدم من الأرض، وقيل: رباكم بالأغذية التي من الأرض { ثم يعيدكم فيها } أي في الأرض أمواتا { ويخرجكم } منها عند البعث { إخراجا } { والله جعل لكم الأرض بساطا } أي مهادا مستوية { لتسلكوا منها } من الأرض { سبلا فجاجا } طرقا مختلفة، وقيل: سبلا في الصحارى وفجاجا في الجبال { قال نوح رب إنهم عصوني } فيما دعوتهم إليه { واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا } أي هلاكا وهم القادة والأشراف تقليدا { ومكروا مكرا } أي دبروا في أمر نوح تدبيرا { كبارا } عظيما، قيل: بقي فيهم ثلاثة قرون كل قرن ثلاثمائة سنة كل قرن يوصي الآخر ألا يقبل منه.
[71.23-28]
{ وقالوا } يعني الرؤساء للاتباع { لا تذرن ودا ولا سواعا } وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح (عليه السلام) إلى العرب، وكان ود لكلب وسواع لهمدان ويغوث لمدحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير، ولذلك سميت العرب تعبد ود، وقيل: أسماء رجال صالحين، وقيل: من أولاد آدم (عليه السلام) ماتوا فقال ابليس لمن بعدهم: لو صورتم صورهم فكنتم تنظرون إليهم ففعلوا، فلمن مات أولئك قال لمن بعدهم: أنهم كانوا يعبدونهم فعبدوهم، وقيل: كان ودا على صورة رجل، وسواع على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسر على صورة نسر { وقد أضلوا كثيرا } يعني قد ضل بسبب هذه الأصنام كثيرا من الناس فأضاف الضلال إليها لما وقع بسببها، وقيل: أن أكابرهم أضلوا اتباعهم { ولا تزد الظالمين إلا ضلالا } قيل: هلاكا، وقيل: إهانا { مما خطيئاتهم أغرقوا } في الدنيا ثم نقلوا إلى النار { فادخلوا نارا } ، قيل: في قبورهم لأن الفاء للتعقيب، وقيل: نار الآخرة أي سيدخلون { فلم يجدوا لهم من دون الله أنصارا } ينصرونهم فيدفع عنهم العذاب { وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا } أي لا تدع قيل: أنه دعا بإذن الله لما أيس من إيمانهم، وقيل: ما دعى عليهم حتى نزل:
لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن
[هود: 36] وقوله: { على الأرض من الكافرين ديارا } أي أحدا يدور { إنك ان تذرهم يضلوا عبادك } يعني يتواصون بمخالفة نوح وتكذيبه { ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا } أي لا يلدوا إلا من يكفر عند بلوغه حد التكليف لأن الطفل لا يكون كافرا، وقيل: إنما قال نوح هذا حين أخرج الله كل مؤمن من أصلاب رجالهم وأرحام نسائهم وأعقم أرحام نسائهم وأيبس أصلاب رجالهم أربعين سنة قبل العذاب، وقيل: سبعين سنة، وأخبر الله نوحا أنهم لا يؤمنون ولا يلدوا مؤمنا، فحينئذ دعا عليهم فأجاب الله دعاءه وأهلكهم بالطوفان ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب، وقيل: يجوز أن يكون فيهم أطفال فيكون ذلك محنة يجب عليها العوض كالأمراض والأوجاع التي تصيب الأطفال، ثم دعا لنفسه فقال: { رب اغفر لي ولوالدي } وكانا مؤمنين، وقيل: آدم وحواء وقرأ الحسن بن علي (صلى الله عليه وآله وسلم): ولولدي يريد ساما وحاما { ولمن دخل بيتي } قيل: داري، وقيل: مسجدي، وقيل: سفينتي { مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات } عامة، قيل: من أمة محمد { ولا تزد الظالمين إلا تبارا } هلاكا.
[72 - سورة الجن]
[72.1-6]
{ قل } يا محمد { أوحي } ذكر على ما لم يسم فاعله تفخيما وتعظيما والله تعالى الذي أوحى إليه { أنه استمع نفر من الجن } قيل: كانوا سبعة من جن نصيبين سمعوا قراءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ورجعوا إلى قومهم { فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا } لأن كلام العباد لا تعجب منه، وقيل: أرادوا كلاما خارجا عن كلام العباد نظما وفصاحة ومعنى { يهدي إلى الرشد } أي يدل إلى الهدى ويدعو إليه { فآمنا به } أي صدقنا { ولن نشرك بربنا أحدا } قيل: إنما بدأوا بأنفسهم في الحكاية لأنهم كانوا رأوا العوام وتبعوهم في مذاهبهم، وقيل: قالوا لهم نصيحة، واختلفوا قيل: لم يراهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك قال أوحي إلي، وقيل: بل رآهم وكانوا سبعة فأرسلهم إلى سائر الجن { وأنه تعالى جد ربنا } كما قيل: تعالت صفات الله وعظم جلالة ربنا وعظمته، يقال: جد فلان في بني فلان أي عظم، والمعنى جل في صفاته فلا تجوز عليه صفات الأجسام والأعراض { ما اتخذ صاحبة } أي زوجة { ولا ولدا } { وإنه كان يقول سفيهنا } قيل: جاهلنا، وقيل: هو ابليس { على الله شططا } يعني قولا عظيما وافترى على الله بوصفه بما لا يليق به، شططا أي بعيدا من الصواب وهو الكذب في توحيد الله وعدله { وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا } الكذب في وصفه بالولد والشريك حتى سمعنا القرآن وتبنا إلى الله { وأنه كان رجال من الإنس } أي من بني آدم، وقيل: أن أول من تعوذ بهم رجال من اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا في العرب، وكان الرجل إذا نزل واديا في سفره قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه { فزادوهم رهقا } يعني زاد الجن الإنس رهقا استعاذتهم، واختلفوا في قوله: { رهقا } قيل: إثما، وقيل: طغيانا، وقيل: جهلا، وقيل: هلاكا.
[72.7-17]
{ وأنهم ظنوا } يعني مشركي الجن { كما ظننتم } إن ظن مشركو الإنس { أن لن يبعث الله أحدا } وكانوا ينكرون البعث، وقيل: لن يبعث الله أحدا رسولا، قيل: هذا وما قبله حكاية عن الجن، وقيل: بل هو ابتداء كلام من الله تعالى { وأنا لمسنا السماء } طلبنا المصير اليها { فوجدناها ملئت حرسا شديدا } أي حفظة من الملائكة شديدة { وشهبا } من النجوم وذلك أن الملائكة يرجمونهم بالشهب ويمنعوهم من الاستماع { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع } أي من السماء مواضع للسمع، أي للاستراق أي لاستراق السمع أي كان يتهيأ لنا قبل هذا القعود في مواضع الاستماع كلام الملائكة فنعرف ما يسمع من الغيب { فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا } قيل: حافظا، وقيل: أن الشهب كثرت في هذه الأيام وانتقضت العادة فكان معجزة له (صلى الله عليه وآله وسلم) ومنعت الجن عن الاستماع من الملائكة ليسمعوا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه كان مبعوثا اليهم { وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا } قيل: هذا المنع لا ندري العذاب منزل بأهل الأرض أم لنبي يبعث يهدي إلى الرشد، ومتى قيل: كانوا يصعدون إلى السماء أم يقفون في الهوى قال الحاكم: قلنا: كل الوجهين جائز وقد منعوا من الجميع { وأنا منا الصالحون } قيل: دينهم { ومنا دون ذلك } دون الصالح { كنا طرائق قددا } أي فرقا شتى وأهواء مختلفة ومذاهب متفرقة كافر ودونه، وقيل: ألوانا شتى، وقيل: أجناسا، وقيل: يهودا ونصارى ومسلمين، وقيل: الجن مثل الإنس منهم قدرية ومرحية ورافضية { وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض } إذا أراد بنا أمرا لا نفوته { ولن نعجزه هربا } { وإنا لما سمعنا الهدى } أي القرآن الهادي إلى الحق ، وقيل: التوحيد والعدل والنبوات والشرائع { آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا } أي نقصا من ثوابه { ولا رهقا } قيل: ظلما، وقيل: لا يخاف بخسا في حسناته ولا زيادة في سيئاته، وقيل: لا يخاف أن يؤاخذ بغير ذنب ولا يؤاخذ بذنب غيره { وأنا منا المسلمون } أي المستسلمون لأمر الله المنقادون له { ومنا القاسطون } الجائرون العادلون عن الحق { فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا } أي طلبوا الرشد واهتدوا إلى الحق { وأما القاسطون } الجائرون العادلون عن الحق { فكانوا لجهنم حطبا } توقد بهم النار كما يوقد الحطب { وألو استقاموا على الطريقة } يعني لو استقاموا على الدين علما وعملا، وقيل: لو استقاموا على طريقة الحق بأن كانوا مطيعين { لأسقيناهم ماءا غدقا } أي وسعنا عليهم الرزق والنعم لنختبرهم كيف شكرهم للنعم، قال الحسن: كان والله أصحاب محمد مستقيمين ففتح الله عليهم كنوز كسرى وقيصر ونظيره
ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض
[الأعراف: 96] وفي قصة نوح:
واسغفروا ربكم إنه كان غفارا
[نوح: 10] الآية يعني لو استقاموا على طريقة الدين لجعل الله لهم سقيا، وذلك يحتمل سعة الرزق في الدنيا ويحتمل نعيم الآخرة في الجنة ويحتمل الأمرين جميعا، ويكون معنى { لنفتنهم فيه } اختبارا وتأكيدا للحجة، قيل: أنه خطاب للجن، وقيل: للإنس، وقيل: لهما وهو الوجه { ومن يعرض عن ذكر ربه } قيل: عن شكر النعمة، وقيل: عن طاعته { يسلكه } أي يدخله { عذابا صعدا } قيل: شاقا، وقيل: هو جبل في النار، وقيل: صخرة صماء محماة يكلف الوليد بن المغيرة أن يصعدها وهو في السلاسل ويضرب بالمقامع فإذا بلغ أعلاها انحدر إلى أسفلها ثم يكلف صعودها وهبوطها فذلك دأبه.
[72.18-24]
{ وأن المساجد لله } قيل: هي المواضع المهيأة للصلاة، وقيل: البقاع كلها فكل موضع يسجد فيه فهو مسجد، وقيل: هي الأعضاء التي يسجد عليها وهي سبعة أعضاء وهي لله تعالى لأنه خلقها ورباها وأنعم لها { فلا تدعوا مع الله أحدا } يعني أخلص العبادة له، وقيل: تدعو غير الله كما يفعله اليهود والنصارى والمشركون، قال الحسن: من السنة إذا دخل الرجل المسجد أن يقول: لا إله إلا الله لا أدعو مع الله أحدا { وأنه لما قام عبد الله } يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعوه يقول: لا إله إلا الله { كادوا } يعني الجن { يكونون عليه لبدا } حرصا على استماع القرآن، واللبد المتراكب بعضه فوق بعض، ولبد رأسه إذا لزق بعض شعره ببعض، وقيل: لما قام عبد الله يدعوه تلبدت الجن والإنس على هذا الأمر ليطفئوا نور الله والله متم نوره ومظهره، وقيل: لما دعا قريشا إلى التوحيد اجتمعوا وازدحموا عليه حنقا وغيظا وكادوا يعني المشركين يتلبدوا عليه لابطال أمره { قل إنما أدعو ربي } أي ليس هذا ببديع أني أدعو ربي وأدعو إلى توحيده وعدله وتنزيهه عما لا يليق به { ولا أشرك به أحدا } { قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا } قيل: خطاب للمشركين الذين تجمعوا لابطال أمره إني لا أملك عذابكم ولا نجاتكم بل الأمر فيه إلى الله تعالى وهذا اعتراف بالعبودية، وقيل: لا أستطيع أقسركم على الغي والرشد إنما القادر على ذلك الله عز وجل { إلا بلاغا } استثناء منه أي لا أملك { إلا بلاغا من الله } { قل إني لن يجيرني من الله أحد } قيل: ان المشركين قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك أتيت بأمر عظيم لم يسمع مثله وإنك قد عاديت الناس فارجع عن هذا ونحن نجيرك فأنزل الله: { لن يجيرني من الله أحد } أي لن يمنعني من أمر يريده بي { ولن أجد من دونه ملتحدا } قيل: ملجأ أنزل إليه، وقيل: نصيرا، وقيل: مدخلا في الأرض { إلا بلاغا من الله } يعني تبليغا لرسالاته فإنه ملجأي وملتحدي ومنه لي الأمر والنجاة وأراد بالرسالة ما أرسل لأجله من بيان الشرائع التي لا تتم إلا به ويحتمل أن يكون للتأكيد جمع بينهما { ومن يعص الله ورسوله } أي خالف أمره وارتكب معاصيه، وقيل: هو عام يدخل فيه البلاغ وغيره { فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا } { حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا }.
[72.25-28]
{ قل } يا محمد { إن أدري أقريب ما توعدون } قيل: القيامة، وقيل: اراد القيامة، وقيل: أراد العذاب أي لا أعلم ذلك قريب يعجل { أم يجعل له ربي أمدا } أي أجلا وغاية تطول مدتها { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا } أي لا يطلع على غيبه أحدا { إلا من ارتضى من رسول } أي من يصطفيه ويختاره فيعطيه ما يشاء من الغيب على ما يرى من المصلحة { فإنه يسلك من بين يديه } من ارتضى للرسالة { ومن خلفه رصدا } حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين يطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم حتى يبلغ ما أوحي به اليه، وعن الضحاك: ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين إن يتشبهوا بصور الملائكة { ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم } كما هي محروسة من الزيادة والنقصان { وأحصى كل شيء عددا } من القطر والرمل وورق الأشجار وزبد البحار، فكيف يحيط بما عند الرسول من وعيد وكلامه؟ وقيل: كان إذا نزل الوحي بعث الله جبريل ومعه ملائكة يحرسون الوحي فيحرسون النبي من كفار الإنس والجن إلا أن يؤدي ويبلغ إلى الخلق، وقيل: رصدا حفظة من الملائكة ليعلم، قيل: ليعلم محمد أن الرسل قبله أتوا رسالات ربهم وبلغوا، وقيل: الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم، وقيل: ليعلم الله ومعناه ليظهر من المعلوم ما كان الله عالم به.
[73 - سورة المزمل]
[73.1-9]
{ يأيها المزمل } المتلحف قال امرئ القيس:
كأن شرا في عرانين وبله
كبير أناس في بجاد مزمل
وهو الذي يزمل في ثيابه أي يلفف بها بادغام التاء في الزاي ونحوه المدثر وقرئ المتزمل على الأصل { قم الليل إلا قليلا } فاشتد عليهم محافظة الوقت نصف الليل أو أقل أو أكثر وكانوا يقومون حتى يصبح فشق ذلك عليهم وورمت أقدامهم فخفف الله عنهم ونسخت هذه الآية، وقيل: بين أن فرضت هذه الصلاة حتى نسخت سنة عن الحسن وابن عباس، وقيل: ثمانية أشهر عن عائشة، وقيل: هذا بمكة قبل فرض الصلاة الخمس ثم نسخ بالخمس، وقيل: كان بينهما عشرين سنة ولما سماه الكفار بأسماء شقت عليه قالوا: ساحر شاعر كاهن مجنون تزمل بثيابه ونام فأتاه جبريل ثم قال: يأيها المزمل يأيها المتدثر أي: قم في الليل للصلاة عن أكثر المفسرين، وقال أبو مسلم: قم لقراءة القرآن، وقيل: كان هذا في ابتداء الوحي ولم يكن أدى شيئا من الوحي { إلا قليلا } استثناء { نصفه } بدل من الليل { أو أنقص منه قليلا } من النصف فترده إلى الثلث { أو زد عليه } على النصف إلى الثلثين فخيره بين هذه المنازل وصار ذلك موكولا إلى اجتهاده { ورتل القرآن ترتيلا } ، قيل: ترسل فيه ترسيلا، وقيل: بينه بيانا شافيا، وقيل: فسره تفسيرا وأصل الترتيل أن يأتي بالحرف تاما بعضه على أثر بعض { إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا } قيل: ثقل العمل به للمشقة فيه، وقيل: ثقيلا في الميزان، وقيل: ثقيلا في الوعيد والحرام والحلال { إن ناشئة الليل } موافقة ساعاته كلها وكل ساعة ناشئة لإنشائها وجمعها ناشئات، وقيل: ساعات التهجد، وقيل: ناشئة الليل بين المغرب والعشاء عن علي بن الحسين وكان يصلي بينهما ويقول هذه ناشئة الليل، وقيل: القيام آخر الليل { أشد وطأ } يعني يواطئ قلبه وسمعه وبصره ولسانه، فأما وطأ قيل: أثبت { وأقوم قيلا } قيل: أقوم قراءة وأصوب لفراغ قلبه من شغل الدنيا { إن لك في النهار سبحا طويلا } قيل: سبحا متفرقا ومتقلبا في حوائج المعاش { واذكر اسم ربك } داوم على ذكره في ليلك ونهارك { وتبتل إليه تبتيلا } قيل: أخلص إليه إخلاصا، وقيل: انقطع إليه انقطاعا، وقيل: توكل عليه توكلا { رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا } قيل: حافظا، وقيل: فوض أمرك إليه واعتمد عليه.
[73.10-20]
{ واصبر على ما يقولون } هم الكفار، قيل: اصبر على أذائهم فيما يقولون { واهجرهم هجرا جميلا } أي اعرض عنهم اعراضا جميلا، وقيل: اصبر على ما نالك من جهتهم مع الإبلاغ، وقيل: نسخت هذه الآية بآية القتال { وذرني والمكذبين أولي النعمة } الآية نزلت في صناديد قريش، وقيل: نزلت في المطعمين يوم بدر { ومهلهم } مدة قليلة، وقيل: إلى يوم بدر، وقيل: إلى عذاب الآخرة { إن لدينا } إن عندنا { أنكالا } قيل: قيودا، وقيل: أغلالا { وجحيما } { وطعاما ذا غصة } أي ذا شوك يأخذ في الحلق فلا يدخل ولا يخرج وقيل: هو الغسلين { وعذابا أليما } وهو سائر أنواع العذاب { يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبا مهيلا } أي رملا سهلا سائلا { إنا أرسلنا اليكم رسولا } يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) { شاهدا عليكم } قيل: يشهد عليكم في الآخرة بما يكون منكم في الدنيا { كما أرسلنا إلى فرعون رسولا } يعني موسى (عليه السلام) { فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا } قيل. شديدا ثقيلا { فكيف تتقون إن كفرتم } قيل: كيف تتقون ذلك العذاب يوم القيامة إن كفرتم بالدنيا، ثم وصف ذلك اليوم فقال سبحانه: { يوما يجعل الولدان شيبا } مثل في الشدة، يقال في اليوم الشديد يوم تشيب له نواصي الأطفال، وقد روي أن رجلا أمسى فاحم الشعر كالغراب فاصبح وهو أبيض الرأس قال: رأيت القيامة والجنة والنار، ورأيت الناس يقادون في السلاسل إلى النار فمن هول ذلك اليوم أصبحت ويجوز أن يوصف اليوم بالطول وان الأطفال يبلغون فيه أوان السحر { السماء منفطر به } وصف اليوم بالشدة وأن السماء على عظمها تنفطر فيه فما ظنك بغيرها من الخلائق { كان وعده مفعولا } أي كائن لا خلف فيه ولا تبديل { إن هذه } الآيات الناطقة بالوعيد الشديد { تذكرة } موعظة { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } أي التقرب والتوسل إليه بالطاعة { إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل } أقرب وأقل من ثلثي الليل { ونصفه وثلثه } وهذه المقادير لا بد أن تكون في ليالي مختلفة لاستحالة اجتماعها في ليلة واحدة { وطائفة } أي جماعة { من الذين معك والله يقدر الليل والنهار } قيل: يعرف حقيقة أوقاتها ومقاديرها على التفصيل فأما غيره فيعرف الجملة وربما يظن { علم أن لن تحصوه } أي لا تطيقون أحصاءه على الحقيقة ولا تعلمون إذا قمتم كم مضى وكم بقي حتى تحصوا ثلثه ونصفه { فتاب عليكم } قيل: جعله تطوعا ولم يجعله فرضا، وقيل: نسخ عنكم { فأقرأوا ما تيسر من القرآن } قيل: في الصلاة عند أكثر المفسرين، وهذا ناسخ للأول ثم نسخا جميعا بالصلاة الخمس، وقيل: هي قراءة القرآن بعينها، وقيل: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن، وقيل: من قرأ مائة آية كتب من القانتين { علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } والآية تدل على إباحة التجارة والتكسب، وقيل: سوى الله عز وجل بين المجاهدين والمسافرين لكسب الحلال، وعن عبد الله بن مسعود: أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند الله من الشهداء، وعن عبد الله بن عمر: ما خلق الله مزية أمر بها بعد القتل في سبيل الله أحب إلي من أن أموت بين شعبتي رجل أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله { وآخرون يقاتلون في سبيل الله } يعني المجاهدين { فاقرأوا ما تيسر منه } في الصلاة { وأقيموا الصلاة } المكتوبات { وآتوا الزكاة } { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا } أي جزاء { واستغفروا الله } أي اطلبوا مغفرته بالتوبة { إن الله } من عادته يستر الذنوب { رحيم } يرحم عباده، ويدل قوله: { فاقرأوا ما تيسر من القرآن } على أشياء منها أنه يجوز الصلاة بما شاء من القرآن بغير الفاتحة على ما يقوله أهل العراق خلاف ما يقوله العترة (عليهم السلام).
[74 - سورة المدثر]
[74.1-7]
{ المدثر } لابس الدثار وهو ما فوق الشعار وهو الثواب الذي يلي الجسد، وقيل: هي أول سورة نزلت، روى جابر بن عبد الله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" كنت على جبل حراء فنوديت: يا محمد إنك رسول الله، فنظرت عن يميني ويساري فلم أر شيئا، فنظرت فوقي فرأيت شيئا "
، وفي رواية عائشة:
" فنظرت فوقي فإذا به قاعد على عرش بين السماء والأرض - يعني الملك الذين ناداه - فرعبت ورجعت إلى خديجة فقلت: دثروني، فنزل جبريل وقال: { يأيها المدثر } "
، وعن الزهري: " أول سورة نزلت
اقرأ باسم ربك
[العلق: 1] إلى قوله:
ما لم يعلم
[العلق: 5] فحزن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلو شواهق الجبال، فأتاه جبريل (عليه السلام) وقال: إنك نبي الله، فرجع إلى خديجة (رضي الله عنها) وقال:
" دثروني وصبوا علي ماء بارد "
، فنزل { يأيها المدثر } { قم } من مضجعك أو قم قيام عزم { فانذر } فحذر قومك من عذاب الله إن لم يؤمنوا، والصحيح أن المعنى فافعل الإنذرا من غير تخصيص له بأحد { وربك فكبر } واختص ربك بالتكبير وأن تقول الله أكبر، وروي أنه لما نزل قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " الله أكبر " فكبرت خديجة وفرحت وعلمت أنه الوحي، وقد يحمل على تكبير الصلاة { وثيابك فطهر } أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن تكون ثيابه طاهرة من النجاسات لأن طهارة الثياب شرط في الصلاة لا تصح إلا بها، وقيل: أمر بتقصيرها ومخالفة العرب، وقيل: هو أمر بتطهير النفس، وقيل: لا تلبسها على غدر فإن الغادر يدنس الثياب، وقيل: عملك فاخلصه { والرجز فاهجر } قيل: اترك المآثم والذنوب، وقيل: هي الأوثان، وقيل: كل معصية رجز، وقيل: اجتنب النجاسات، وقيل: العذاب أي اهجر كل ما يوجب العذاب من الأعمال { ولا تمنن تستكثر } قيل: لا تعطي شيئا طمعا في أن تعطى أكثر منه فتكون طالبا للمكافأة وهذا جائز إلا أن الله تعالى اختار له أشرف الآداب وأحسن الأخلاق، وقيل: لا تستكثر عملك، وقيل: لا تمنن على الناس بما تمنن به عليهم، وقيل: لا تمنن بالنبوة، وقيل: لا تمنن بما تأتيه من الابلاغ على أمتك { ولربك فاصبر } على أذى المشركين، وقيل: اصبر على ما أمر الله تعالى.
[74.8-31]
{ فإذا نقر في الناقور } أي نفخ في الصور، وقيل: هي النفخة الثانية { فذلك يومئذ يوم عسير } { على الكافرين غير يسير } أي غير هين { ذرني ومن خلقت وحيدا } الآية نزلت في الوليد بن المغيرة أي أكيف بي له مكافيا فدعني ومن خلقت، وهذا وعيد، ويحتمل أن يكون من صفة المخلوق، أي خلقته في بطن أمه وحيدا لا شيء له ولا معه مال ولا ولد { وجعلت له مالا ممدودا } قيل: كثيرا، وقيل: مد بالنماء كالزرع والضرع والتجارة، وقيل: كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره شتاء ولا صيفا، وقيل: كان له ألف مثقال، وقيل: أربعة، وقيل: تسعة، وقيل: ألف ألف { وبنين شهودا } حضورا بمكة لا يفارق قومه كانوا عشرة بنين، وقيل: ثلاثة عشر، وقيل: سبعة وكلهم رجال { ومهدت له تمهيدا } أي بسط له أحوال الدنيا { ثم يطمع أن أزيد } { كلا } أي لا يكون كما ظن، وقيل: كان الوليد بعد نزول هذه الآيات في نقصان من ماله وولده { إنه كان لآياتنا عنيدا } جحودا { سأرهقه صعودا } قيل: سأكلفه من العذاب، وقيل: صعودا جبل من نار يكلف الوليد صعوده ونزوله { إنه فكر } ماذا يقول في القرآن { وقدر } في نفسه، وروي أن الوليد قال لبني مخزوم: والله لقد سمعت من محمد كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وأن له لحلاوة وأن عليه لطلاوة، وأن أعلاه لمثمر، وأن أسفله لمغدق، وأنه يعلو ولا يعلى، فقالت قريش: صبأ والله الوليد، والله لتصبأن قريش كلهم، فأتاه أبو جهل وقعد بجنبه حزينا فقال له الوليد: ما لي أراك حزينا؟ فقال: أن قريشا يجمعون له نفقة ويزعمون أنك تدخل على ابن أبي كبشة لتنال من فضله وأتى قومه وقال: أتزعمون أن محمدا مجنون؟ قالوا: لا، فقال: فكاهن؟ قالوا: لا، فقال: فكذاب؟ قالوا: لا، قال: فشاعر؟ قالوا: لا، قال: ففكر في نفسه ساعة وقال: هو ساحر يفرق بين الرجل وأهله وما يقوله سحر، فنزلت الآيات { فقتل } لعن، وقيل: استحق العذاب { ثم قتل كيف قدر } لعن وعوقب كيف قدر في إبطال الحق { ثم نظر } إلى النبي منكر النبوة، وقيل: إلى أي شيء يجيب قومه { ثم عبس وبسر } أي كلح وقطب فقال: { إن هذا إلا سحر يؤثر } يروى ويحكى ويرويه محمد { إن هذا إلا قول البشر } ولم يعلموا أنه لو كان قول البشر لقدر هو وغيره مع فصاحتهم على أمثاله { سأصليه سقر } أي سأدخله النار { وما أدراك } أيها السامع { ما سقر } { لا تبقي ولا تذر } قيل: هو نهاية الوصف بالإحراق { لواحة للبشر } مغير للجلود وقال مجاهد: تلفح الجلد لفحة فتدعه أشد سوادا من الليل، وقيل: محرقة للجلود قيل: لما نزل قوله تعالى: { عليها تسعة عشر } قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم ان ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم؟ أيعجز عشرة منكم أن يبطش بواحد من خزنة جهنم؟ فقال أبو الأسود: أنا أكفيكم سبعة عشر وأكفوا في اثنين، فأنزل الله تعالى: { وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة } ، وقوله: { عليها تسعة عشر } صنفا، وقيل: نقباء ولهم أعوان، وقيل: تسعة عشر جنسا ولهم أعوان { وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا } ليعلموا أنه قادر على تقويتهم وأنهم يقومون مقام العدد الكثير { ليستيقن الذين أوتوا الكتاب } من اليهود والنصارى أنه الحق لموافقة خبرهم لما في كتبهم، وقيل: في التوراة والإنجيل تسعة عشر { ويزداد الذين آمنوا إيمانا } قيل: ليظهروا إيمانهم بهذا أيضا، وقيل: أنه يخبرهم بما لا يعلمه إلا الله فيعلموا أنه معجز وأنه كلام الله سبحانه { ولا يرتاب } لا يشك { الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون } في أنه الحق { وليقول الذين في قلوبهم مرض } نفاق { والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا } يعني هذا العدد وما يعني يزدادوا شكا كما يزداد الذين آمنوا إيمانا { كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء } قيل: يضل عن طريق الجنة والثواب من يشاء ويهدي اليه من يشاء، وقيل: يحكم بضلال من يشاء على حسب ما يوجد منهم { وما يعلم جنود ربك إلا هو } أي لا يعلم جنسهم وعددهم إلا هو، قيل: هو من كثرهم { وما هي } قيل: الموصوفة بهذه الصفات، وقيل: هي سقر وقد تقدم ذكرها، وقيل: الآيات والمواعظ { إلا ذكرى للبشر } أي عظة يذكرون.
[74.32-56]
{ كلا } قيل: ردع وزجر لهم عما يقولون كأنه قيل: احذروا العقوبة، وقيل: معناه حقا فيبطل بما بعده { والقمر } قيل: ورب القمر وإنما أقسم به لما فيه من عظم آياته في طلوعه ومسيره { والليل إذ أدبر } ولى وذهب، وقيل: جاء دبر النهار أي أقبل، وأدبر تولى عن أكثر المفسرين { والصبح إذا أسفر } أضاء { إنها لإحدى الكبر } قيل: النار الكبرى، وقد تقدم ذكرها في قوله: { سقر } وهو جواب القسم، وقيل: هذه الآية الذي بينها إحدى الكبر، وقيل: آيات القرآن والوعيد، وقيل: النار في الدنيا تذكر في الآخرة { نذيرا للبشر } أي مخوفا للخلق قيل: تقديره أنا لكم منها نذير { لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر } عنها { كل نفس بما كسبت رهينة } يعني أن كل واحد مأخوذ بعمله فيجازى عليه { إلا أصحاب اليمين } قيل: هم المؤمنون، وقيل: يعطون كتبهم بأيمانهم، وعن علي (عليه السلام) أنه فسر أصحاب اليمين بالأطفال لأنه لا أعمال لهم يرتهنون بها، وعن ابن عباس: هم الملائكة { في جنات يتساءلون } { عن المجرمين } يسأل بعضهم بعضا عنهم أو يسألون عن المجرمين الذين دخلوا النار { ما سلككم في سقر } أي ما أدخلكم النار؟ وبأي سبب؟ { قالوا لم نك من المصلين } { ولم نك نطعم المسكين } اي لم نؤد الزكاة المفروضة { وكنا نخوض مع الخائضين } أي كنا نسرع في الباطل مع المبطلين، وقيل: كنا نخوض في تكذيب النبي وآياته { وكنا نكذب بيوم الدين } أي يوم الجزاء وهو يوم القيامة { حتى أتانا اليقين } قيل: هو الموت { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } أي لا يشفع لهم أحد والشفعاء الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء { فما لهم عن التذكرة معرضين } أي ما الذي منعهم عن التذكر لما يتلى عليهم { كأنهم حمر مستنفرة } { فرت من قسورة } قيل: هم الرماة، وقيل: جماعات الرجال، وقيل: الأسد سمي بذلك لأنه يقهر السباع كلها، يعني أعرضوا عن القرآن نفورا كإعراض الحمر من الأسد { بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة } الآية نزلت في المشركين قالوا: يا محمد إن شئت أن نتبعك فأتنا بكتاب خاصة إلى فلان وإلى فلان من رب العالمين، وقيل: قالوا: إن كان محمدا صادقا فليصبح عند رأس كل واحد منا صحيفة فيها براءة من النار، فنزلت الآية { كلا } يعني ليس كما يقولون ويريدون ولا يكون كذلك، وقيل: زجر لهم أي لا يطلبوا ذلك { بل لا يخافون الآخرة } قيل: لا يخافون عذابها ولو خافوا لما كذبوا الرسل { كلا إنه تذكرة } أي عظة يتعظ بها المكلف قيل: القرآن، وقيل: ما تقدم ذكره { فمن شاء } اتعظ به { وما يذكرون إلا أن يشاء الله } مشيئة إكراه إلا أن يجبرهم على ذلك { هو أهل التقوى } أي أهل أن يتقى معاصيه ومحارمه، وقيل: هو أهل أن يتقى عقابه، وأهل من يغفر ذنوب من أناب اليه، يعني هو حقيق بأن يتقيه عباده ويخافون عقابه، وحقيق أن يغفر لهم إذا آمنوا وأطاعوا.
[75 - سورة القيامة]
[75.1-9]
قوله: { لا أقسم } قسم جوابه محذوف وتقديره أقسم بيوم القيامة أنه كائن، وقيل: جوابه ليجمعنها، وقيل: لا صلة والمراد أقسم، وقيل: لا تأكيد كقوله: { لا } والله ما كان كذا، كأنه قيل: { أقسم بيوم القيامة } ما الأمر على ما يظنون، وقيل: لا رد لكلام المشركين، ثم ابتدأ القسم فقال: أقسم { ولا أقسم بالنفس اللوامة } قيل: هي النفس المؤمنة يلوم نفسه بالدنيا ويحاسبها ويقول: ماذا فعلت؟ ولم قصرت؟ وقيل: البرة والفاجرة، فالبرة على التقصير، والفاجرة على الفجور { أيحسب الإنسان } أيظن الإنسان يعني المنكر للبعث { أن لن نجمع عظامه } بعد تفرقها { بلى قادرين } قيل: تقديره بلى ونحن قادرون على جمعها وبعثها، وقيل: تقديره بلى نقدر على تسوية { بنانه } وهو أطراف الأصابع، وقيل: بلى من قدر على تأليف البنان مع صغرها وكثرة المفاصل قدر على إعادتها { بل يريد الإنسان ليفجر أمامه } قيل: معناه يمضي أمامه قداما في معاصي الله راكبا رأسه وهواه ولا يتوب، وقيل: يقدم الذنب ويؤخر التوبة حتى يأتيه الموت على أشر أحواله { يسأل أيان يوم القيامة } متى يكون تقدير يوم القيامة { فإذا برق البصر } قيل: شخص ناظره فلا يطرف من هول ما يرى، وقيل: حار ودهش { وخسف القمر } ظلم وذهب ضوؤه، وقيل: غاب { وجمع الشمس والقمر } قيل: جمع بينهما أسودين مكورين، وقيل: جمع بينهما في ذهاب الضياء، وقيل: في طلوعهما من المغرب.
[75.10-23]
{ يقول الإنسان } من نظر من أهل النار { أين المفر } المهرب، وقيل: يجوز أن يسأل بعض المؤمنين والملائكة أين المهرب فيجيبون: { كلا لا وزر } ، وقيل: هو من كلامه تعالى قيل: لا ملجأ، وقيل: لا حصن ولا جبل { الى ربك } الى حكمه { يومئذ المستقر } أي مستقر الأمر، وقيل: قرار الخلق إما الجنة أو النار { ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر } بما قدم قبل موته من عمل صالح أو سيئة وما أخر من حسنة أو سيئة يعمل بها بعد موته، وقيل: جميع أفعاله { بل الإنسان على نفسه بصيرة } أي من نفسه شاهد يشهد عليه من عمله وهو جوارحه أقام جوارحه مقام نفسه، وقيل: يشهد عليه الشاهدون { ولو ألقى معاذيره } ولو اعتذر، وقيل: لو أقام الاعتذار عند الناس قيل: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكثر تحريك لسانه بالقرآن مخافة النسيان فنزل: { لا تحرك به لسانك } ، وقيل: كان إذا نزل القرآن عجل بتحريك لسانه { إن علينا جمعه } في صدرك حتى تحفظه { وقرآنه } عليك { فإذا قرأناه } قيل: قرأه الملك عليك بأمرنا { فاتبع قرآنه } أي اتبع قرآنه بقرآنك { ثم إن علينا بيانه } قيل: تذكر أحكامه وحلاله وحرامه، وقيل: تبين ذلك معناه إذا حظفته { كلا } ردع وزجر عن حب الدنيا واتباع الهوى { بل تحبون العاجلة } يعني تختارون الدنيا على العقبى { وجوه يومئذ ناضرة } الوجه عضو معروف وأصله من المواجهة، قيل: معناه ذات وجوه، وقيل: أراد أرباب الطاعات يومئذ أي يوم القيامة ناضرة، قيل: بهجة حسنة، وقيل: مسرورة، وقيل: ناعمة، وقيل: مضيئة { إلى ربها ناظرة } فيه وجهان: أحدهما أن المراد نظر العين، وثانيها أن المراد الانتظار، فمن حمله على الانتظار قيل: تنتظر الثواب من ربها، روي ذلك عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والحسن، وقيل: إلى بمعنى النعمة أي نعم ربها منتظرة، أي قطعوا أطماعهم عن كل شيء سوى الله، قال الشاعر:
وجوه ناظرات يوم بدر
إلى الرحمان يأتي بالخلاص
فأما من قال يحمل على نظر العين قيل: إلى ثواب ربها ناظرة أي منتظرة إلى ما أعطاها الله في الجنة من النعم حالا بعد حال، وروي ذلك عن جماعة من المفسرين فذكر نفسه وأراد ثوابه، قال القاضي: والأول أولى.
[75.24-40]
{ ووجوه يومئذ باسرة } كالحة، وقيل: مسودة { تظن } تعلم لأنهم يعلمونه ضرورة { أن يفعل بها فاقرة } داهية { كلا } قيل: حقا، وقيل: ليس الأمر كما تظنون ولكن ستعلمون { إذا بلغت التراقي } وهو عظم العنق المكتنفة بالحلق { وقيل من راق } يعني قال من حضره هل من راق أي من طبيب يرقيه، وقيل: قالت الملائكة من الراقي بروحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب { وظن أنه الفراق } فراق الدنيا والأهل والمال { والتفت الساق بالساق } قيل: شدة أمر الدنيا بأمر الآخرة، وقيل: التفتا الساقين بالكفين، وقيل: يلتف عليه غم فراق الدنيا والأهل والمال والولد وغم القدوم على الله { إلى ربك يومئذ المساق } يعني إلى حكمه { فلا صدق ولا صلى } أي لم يصدق بكتاب الله ولا صلى لله { ولكن كذب وتولى } عن طاعة الله { ثم ذهب إلى أهله يتمطى } يتبختر، وقيل: الآية نزلت في أبي جهل،
" وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج من المسجد فاستقبله أبو جهل فقال له (صلى الله عليه وآله وسلم): " { أولى لك فأولى } " ، فقال: تهددني؟ لا تستطيع أنت وربك أن تفعل بي شيئا وإني لاعن من في هذا الوادي "
، قيل: المراد إعراضه عن الحق { ثم أولى لك فأولى } قيل: هو وعيد، وقيل: معناه الذم { أيحسب الإنسان } قيل: أراد الجنس، وقيل: أبا جهل { أن يترك سدى } مهملا لا يؤمر ولا ينهى { ألم يك نطفة من مني يمنى } تخرج من ذكره { ثم كان علقة فخلق فسوى } وصوره وأعطى نعمه الباطنة والظاهرة في بطن أمه، وقيل: سواه إنسانا على ما يشاء { فجعل منه } أي خلق منه قيل: من الإنسان { الذكر والأنثى } ، وقيل: من المني، ولا بد من عرض وذلك هو التعريض للثواب { أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى } للبعث والجزاء، وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا قرأها قال سبحانك بلى.
[76 - سورة الانسان]
[76.1-6]
{ هل } بمعنى بل، وقيل: هو استفهام والمراد التقرير { لم يكن شيئا مذكورا } وكل أحد يعلم ضرورة أنه لم يكن موجودا ثم صار موجودا، فإذا تفكر فيه علم أن له صانعا صنعه ومحدثا أوجده { الانسان } قيل : هو آدم أول من سمي به، وقيل: هو كل إنسان، والمراد به الجنس، وقوله: { حين من الدهر } قيل: أتى عليه أوقات وهو مصور إنسانا قيل: هو آدم أتى عليه أربعون سنة ملقى بين مكة والطائف قبل أن ينفخ فيه الروح، وقيل: هو عام في جميع الخلق فإنه قبل الولادة لا يكون مذكورا إلى وقت الولادة { لم يكن شيئا مذكورا } أي لم يذكر ولا يعرف، وقيل: أراد به العلماء والأئمة لأنهم كانوا لا يذكرون فبلغهم الله تعالى وصيرهم بألطافه حيث يذكروا، وعن ابن مسعود: عندما قرأها قال: ألا يا ليت ذلك لم يكن { أمشاج نبتليه } قيل: ماء الرجل وماء المرأة، وقيل: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة يختلطان في الرحم فيكون منهما الولد، وماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق، وقيل: أمشاج أطوارا ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة قال:
يا خالق الخلق طورا بعد أطواري
{ نبتليه } أي نتعبده بالأمر والنهي { فجعلناه سميعا بصيرا } يعني خلقناه { إنا هديناه السبيل } بينا له الطريق بنصب الأدلة { إما شاكرا وإما كفورا } إشارة إلى أن العبد مخير بين الإيمان والكفر { إنا اعتدنا للكافرين سلاسلا } قيل: كل سلسلة سبعون ذراعا { وأغلالا } في أعناقهم { وسعيرا } نارا { إن الأبرار } يعني المطيعين لله { يشربون من كأس } فيه شراب { كان مزاجها كافورا } قيل: تمزج بالكافور وتختم بالمسك { عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا } يقودونها حيث شاؤوا.
[76.7-18]
{ يوفون بالنذر } نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) وجارية لهم تسمى فضة في قصة طويلة جملتها:
" قالوا مرض الحسن والحسين فعادهما جدهما وقال: " يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا " فنذر صوم ثلاثة أيام إن شفاهما الله ونذرت فاطمة كذلك وفضة فبرئا، فصاموا وليس عندهم شيء فاستقرض علي من شمعون اليهودي ثلاثة أصواع شعير، وروي أنه أخذها لتغزل فاطمة صوفا فجاء به إلى فاطمة، فأخذت فاطمة فطحنته واختبزت خمسة أقراص على عددهم، وصلى علي (عليه السلام) المغرب، وقربته إليهم ليفطروا فوقف سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه ولم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياما، فلما أمسوا وضعوا بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك، فلما أصبحوا أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما أشد ما يسوءني ما أرى بكم " وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد لصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك، فنزل جبريل (عليه السلام) وقال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك "
، فأقرأه السورة ذكر ذلك في الحاكم والكشاف، وعن ابن عباس: بينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا ضوء كضوء الشمس فسألوا رضوان عنه فقال: علي وفاطمة ضحكا فأشرقت الجنة { إنما نطعمكم لوجه الله } أي لله وأمره { لا نريد منكم جزاء ولا شكورا } { إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا } أي قالوا وأضمروا { إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا } أي تعبس فيه الوجوه، وقيل: وصف اليوم بالعبوس لما فيه من الشدة { قمطريرا } قيل: العبوس: الضيق، والقمطريرا: الطويل، وقيل: الشديد، وقيل: هو أشد ما يكون من الأيام، وقوله: { على الأرائك } قيل: ما يتكأ عليه قيل: الفرش فوق الأسرة { لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا } لا حرا ولا بردا { ودانية عليهم ظلالها } أي قريبة عليهم ظلالها يعني ظلال الأشجار، وقيل: ظلال الجنة { وذللت } سخرت وسهلت { قطوفها } أخذ ثمارها { تذليلا } قيل: إن قام ارتفعت بقدره وإن قعد نزلت { ويطاف عليهم } أي يدار { بآنية من فضة وأكواب } قيل: إناء فيه شراب من غير عروة، وقيل: الأقداح قوارير زجاج { قواريرا من فضة قدروها تقديرا } قيل: إنه تعالى جعل قوارير كل قوم من ترابهم وتراب الجنة من فضة فجعل منها قواريرا، وقوله: { قدروها } يعني أن الخدام يعرفون قدر حاجتهم وقدر شهواتهم فيقدرون ذلك مما لا يزيد ولا ينقص، وقيل: قدروا الأواني على شكل في نهاية الحسن { ويسقون فيها كأسا } اسم القدح مملوءا { كان مزاجها زنجبيلا } إنما ذكر الزنجبيل على عادة العرب إذا استطابوا شيئا وصفوه بالزنجبيل { عينا فيها تسمى سلسبيلا } منقادة لهم يصرفونها حيث شاؤوا، وقيل: طيبة الطعم والمذاق، وقيل: يسقون أشربة مختلفة منها ما يمزج بالكافور ومنها ما يمزج بالزنجبيل، وهو إذا مزج بالشراب فاق، ولهم أشربة سوى ذلك الله أعلم بحسنها وطيبها.
[76.19-31]
{ ويطوف عليهم ولدان مخلدون } أي يدورون عليهم بالخدمة، وقيل: لما يحتاجون إليه من الطعام والشراب { مخلدون } أي باقون دائمون لا يموتون، وقيل: مقرطون { إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا } قيل: كاللؤلؤ المنثور في حسنه، وقيل: اللؤلؤ في الصفاء وحسن المنظر، ومعنى منثورا أي متفرقون في الخدمة ليتم لهم النعمة { وإذا رأيت } ثم قيل: الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: لكل مكلف تقديره إذا رأيت أيها الانسان أو أيها السامع، وروي أن أسودا قال: يا رسول الله إذا دخلت الجنة أترى عيني ما ترى عينك؟ قال: " نعم " فما زال يبكي حتى مات، يعني إذا رأيت الجنة { رأيت نعيما وملكا كبيرا } قيل: هو الملك الدائم الأبدي، وقيل: الكثير، ان أدناهم منزلة من ينظر في ملكه من مسيرة ألف سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه { عاليهم ثياب سندس } أي على أهل الجنة ثياب فاخرة سندس { خضر واستبرق } قيل: ديباج من ألوان مختلفة رقيق وغليظ { وحلوا أساور من فضة } قيل: يحلون تارة بالذهب وتارة بالفضة لجمع المحاسن، وقيل: يجمعهما الله { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } يعني طاهرا لا يخالطه النحس، يعني خلق لهم ذلك وأعطاهم، وقيل: سقاهم الملائكة { إن هذا كان لكم جزاء } على أعمالهم { وكان سعيكم مشكورا } أي مقبولا مرضيا { إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا } آية بعد آية، وقيل: تنزيلا مصدر ذكره تأكيدا { فاصبر لحكم ربك } بمعنى انتظر حكم الله فيك وفيهم، وقيل: أن تبلغ الكتاب { ولا تطع منهم آثما أو كفورا } قيل: آثما ولا كفورا، وقيل: الاثم أبو جهل والكفور الوليد بن المغيرة، وقيل: هو عام { واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا } قيل: صباحا ومساءا، وقيل: دائما، وقيل: أراد به الصلاة بكرة أول النهار وأصيلا آخره { ومن الليل فاسجد له } العشي والمغرب، وقيل: أراد التطوع { وسبحه ليلا طويلا } من الليل ثلثه أو نصفه، قال الهادي في تفسيره: والطويل الذي أمر الله به فهو من حين يدخل في الصلاة إلى أن يفرغ منها { إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم } قيل: خلف ظهورهم العمل للآخرة، وقيل: وراءهم أمامهم والأول أظهر، وقوله: { يوما } يوم القيامة { ثقيلا } على أهل العذاب { نحن خلقناهم وشددنا أسرهم } قيل: خلقهم، وقيل: الأسر المفاصل، وقيل: أوصالهم بعضها إلى بعض { وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلا } لو أردنا ذلك فعلنا { إن هذه } قيل: الرسالة، وقيل: السورة، وقيل: الجنة وما وصف من أحوالها { تذكرة } أي عظة تذكرونها { فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا } أي أزحنا العلة بالقدرة والأدلة، وقيل: طريقا إلى رضائه { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } قيل: لا تسألون الطاعة والانقياد إلى مرضاة الله إلا وقد شاء الله من قبل حين أمر به فأوعد عليه ونهى عن تركه، وقيل: لا تشاؤون ذلك اختياري إلا أن يشاء الله أن يخبركم عليه ويضطركم إليه فحينئذ تشاؤون ولكن لا ينفعكم ذلك { إن الله كان عليما حكيما } يعني عليما بالمصالح حكيما فيما كلفه { يدخل من يشاء في رحمته } وهم المؤمنون { والظالمين أعد لهم عذابا أليما } أي وجيعا.
[77 - سورة المرسلات]
[77.1-19]
{ والمرسلات } الرياح { عرفا } متابعة الهبوب يتبع بعضها بعضا، وقيل: المرسلات الملائكة أرسلت بالعرف من أمر الله ونهيه، وقيل: الأنبياء جاءت بالعرف { فالعاصفات عصفا } يعني الرياح { والناشرات نشرا } قيل: الرياح لأنها تنشر السحاب للغيث، وقيل: الملائكة تنشر الكتب { فالفارقات فرقا } قيل: الملائكة تفرق بين الحق والباطل، وقيل: آيات القرآن فرقت بين الحلال والحرام والهدى والضلال { فالملقيات ذكرا } قيل: الملائكة تلقي الذكر إلى الأنبياء والأنبياء تلقيه إلى الأمم، والعلماء تلقيه إلى الناس { عذرا أو نذرا } قيل: أعذارا أو إنذارا { إنما توعدون لواقع } يعني ما توعدون من أمر القيامة والبعث والحساب لواقع كائن لا محالة، وذلك جواب القسم في أول السورة { فإذا النجوم طمست } أي ضوؤها { وإذا السماء فرجت } أي شقت وصدعت فصارت فيها فجوج { وإذا الجبال نسفت } قيل: قلعت من أماكنها، وقيل: دكها { وإذا الرسل أقتت } أي جمعت وأحضرت للموقف الذي كان الله وعد إحضارهم وجمعهم فيها شهداء على الناس { لأي يوم أجلت } قيل: إنما قال لأي تعظيما لذلك، أجلت: أخرت { ليوم الفصل } بين العباد { وما أدراك } أيها الانسان { ما يوم الفصل } أي يوم القضاء مجازاة المحسن والمسيء وانتصاف المظلوم من الظالم { ويل يومئذ للمكذبين } العذاب يومئذ لمن كذب بالرسل وبذلك اليوم { ألم نهلك الأولين } قيل: الأمم المكذبة قوم نوح وعاد وثمود { ثم نتبعهم الآخرين } قيل: قوم ابراهيم وقوم لوط وقوم فرعون، وقيل: الآخرين هم الذين تقوم عليهم القيامة.
[77.20-50]
{ ألم نخلقكم من ماء مهين } كما فعلنا بأولئك نفعل بالعصاة { ويل يومئذ للمكذبين } السالكين سبيلهم في التكذيب، وقيل: { كذلك نفعل } بهؤلاء يوم بدر { فجعلناه في قرار مكين } أي مكان يقر فيه ويثبت { إلى قدر معلوم } قيل: إلى وقت معلوم وهو وقت الولادة، والقرار المكين أرحام الأمهات { فقدرنا } التقدير معناه قدرنا خلقه ذكرا أو أنثى طويلا أو قصيرا، وقيل: قدرنا أحوال النطفة من تقلبة من حال إلى حال حتى يصير حيا { فنعم القادرون } لذلك، ومن قرأ بالتخفيف قدرنا على جميع ذلك وهي رواية عاصم { ويل يومئذ للمكذبين } { ألم نجعل الأرض كفاتا } قيل: ذات كفت أي ضم وجمع والأرض كافتة، وقيل: كافتة للخلق { أحياء وأمواتا } { وجعلنا فيها رواسي } في الأرض رواسي جبال ثوابت { شامخات } عاليات { وأسقيناكم ماء فراتا } عذبا { ويل يومئذ للمكذبين } وعن ابن عباس: أموال الأنهار أربعة: جيحان وفيه دجلة، وسيحان نهر بلخ، وفرات الكوفة، ونيل مصر { ويل يومئذ للمكذبين } هذه النعم { انطلقوا } أي يقال لهم انطلقوا اذهبوا قبل هذه { انطلقوا إلى ظل } دخان جهنم ينقسم { ثلاث شعب } شعبة عن يمينه وشعبة عن يساره وشعبة أمامه، وقيل: هو الترادف { لا ظليل } يرد { ولا يغني من اللهب } ولا ينفع منه { إنها } يعني جهنم { ترمي بشرر } أي من شدة غليانها وهو ما يطاير من النار { كالقصر } جمع القصور التي هي البنيان { كأنه جمالات صفر } شبهت بالقصور ثم بالجمال جمع جمالات ما جمع من الجمال، والصفر جمع أصفر، وقد يسمى الأسود من الابل أصفر لأنه يشرب بسواده بشيء من صفرته { ويل يومئذ للمكذبين } { هذا يوم لا ينطقون } بشيء ينفعهم، وقيل: يختم على أفواههم { ولا يؤذن لهم فيعتذرون } قيل: لا يسمع لهم عذر حتى يعتذروا، وقيل: أي عذر لمن أعرض من خالقه { ويل يومئذ للمكذبين } بهذا الخبر { هذا يوم الفصل } أي الحكم والقضاء بين الخلق { جمعناكم والأولين } يعني كفار هذه الأمة تحشر مع كفار الأمم قبلهم { فإن كان لكم كيد فكيدون } أي ان كان لكم حيلة فتخلصون بها من العقاب فاحتالوا { ويل يومئذ للمكذبين } بيوم الفصل { إن المتقين } الذين يجتنبون الكبائر { في ظلال } الجنة، وقيل: ظلال الأشجار والقصور { وعيون } أنهار جارية { وفواكه مما يشتهون } ويقال لهم على وجه الإكرام: { كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون } القائلون ذلك الملائكة { إنا كذلك نجزي المحسنين } { ويل يومئذ للمكذبين } بهذا الوعد، ثم عاد إلى المكذبين فقال سبحانه: { كلوا } أي يقال لهم { كلوا وتمتعوا } في الدنيا فإنه لا ينفعكم ولا يغني عنكم من العذاب شيء، وهذا وعيد لهم { قليلا } قيل: مدة قليلة فإن المؤمن كائن لا محالة { إنكم مجرمون } قيل: مشركون، وقيل: مذنبون، وقيل: من كانت همته بطنه وفرجه فهو خاسر محروم { ويل يومئذ للمكذبين } بهذا الوعيد { وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون } قيل: يقال لهم اركعوا في الدنيا إذا أمروا بالصلاة، وقيل: في الآخرة { ويل يومئذ للمكذبين } { فبأي حديث بعده يؤمنون } أي بأي حديث بعد القرآن يؤمنون.
[78 - سورة النبإ]
[78.1-20]
{ عم يتساءلون } يعني عن أي شيء يتساءلون؟ قيل: ان المشركين سأل بعضهم بعضا على طريق الانكار والتعجب { عن النبأ العظيم } أي الخبر العظيم قيل: القرآن، وقيل: محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: البعث بعد الموت { الذي هم فيه مختلفون } مصدق به ومكذب { كلا سيعلمون } قيل: سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم، وقيل: كلا سيعلمون ما ينالهم يوم القيامة من العذاب، وقيل: كلا ردع وزجر أي ليس الأمر كما يقولون { ألم نجعل الأرض مهادا } بساطا، وقيل: مستوية ليتمكنوا من التصرف عليها { والجبال أوتادا } الأرض لتسكن ولا تضطرب { وخلقناكم أزواجا } قيل: ذكرا وأنثى، وقيل: أصنافا أسود وأبيض والكبير والصغير وما أشبه ذلك { وجعلنا نومكم سباتا } قطع العمل للراحة وأصل السبت: القطع، وقيل: راحة لأبدانكم { وجعلنا الليل لباسا } يستر كل شيء بظلمته { وجعلنا النهار معاشا } أي سببا ومتصرفا في طلب معاشكم { وبنينا فوقكم سبعا شدادا } أي سبع سماوات محكمات { وجعلنا سراجا وهاجا } يعني الشمس سراج العالم الذي يستضيء به الخلق، وهاجا منيرا { وأنزلنا من المعصرات } قيل: السحاب، وقيل: السماوات { ماء ثجاجا } يعني صبابا، وقيل: مدرارا، وقيل: متتابعا { لنخرج به حبا ونباتا } بالمطر فالحب كلما تضمنه أكمام الزرع الذي يحصد، والنبات الكلأ من الحشيش وغيره { وجنات } بساتين { ألفافا } ملتفة بعضها ببعض { إن يوم الفصل } أي يوم القضاء والحكم وهو يوم القيامة { ميقاتا } وقتا موعود لا بد منه { يوم ينفخ في الصور } قيل: الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل يحيي الله الخلق عنده، وقيل: الصور جمع صورة أي ينفخ الروح في الصور { فتأتون أفواجا } أي جماعة جماعة { وفتحت السماء فكانت أبوابا } قيل: شقت لنزول الملائكة { وسيرت الجبال } من أماكنها { فكانت سرابا } يعني كالسراب في خفة زوالها.
[78.21-40]
{ إن جهنم كانت مرصادا } أي طريقا منصوبة للعالمين فهي موردهم { للطاغين مآبا } لمن جاوز حد الله مصيرا ومرجعا { لابثين فيها أحقابا } أي مقيمين فيها أزمانا ودهورا لا نقضي لها، وقيل: لابثين فيها أحقابا { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا } فكأنهم يعذبون مرة بالنار فلا يذوقون شيئا ومرة بالحميم والغساق ومرة بالزمهرير، واختلفوا في معنى الحقب قال بعضهم: ليس له حد معلوم وإنما هو اسم للزمان والدهر، وعن ابن مسعود: لا يعلم الأحقاب إلا الله، وعن الحسن: والله ما هو إلا إذا مضى حقب دخل أحقب آخر كذلك أبد الآبدين فليس للأحقاب مدة إلا الخلود في النار، وقد روي أن الحقب سبعون ألف سنة كل يوم كألف سنة مما تعدون، وقيل: أربعون سنة كل يوم منها ألف سنة، وقيل: ثمانون سنة كل سنة اثني عشر شهرا كل شهر ثلاثون يوما، كل يوم ألف سنة، وقيل: بضع وثمانون سنة، السنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة مما تعدون، وقيل: الحقب ثلاثمائة سنة، كل سنة ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم ألف سنة { لا يذوقون فيها } أي في جهنم { بردا ولا شرابا } يعني برد يدفع عن النار ولا شرابا يدفع العطش { إلا حميما } وهو الماء الحار { وغساقا } قيل: صديد أهل النار، وقيل: دموع أهل النار، وقيل: الزمهرير قيل: استثناء من.... والغساق، وقيل: الغساق واد في جهنم { جزاء } بحسب أعمالهم { وفاقا } أي وفق أعمالهم { إنهم كانوا لا يرجون حسابا } بل لا يرجون لتكذيبهم جزاء وحسابا، وقيل: لا يخافون الحساب { وكذبوا بآياتنا كذابا } أي بأدلتنا { وكل شيء أحصيناه كتابا } يعني لم نعاقبهم حتى أحصى عليهم أفعالهم القليل والكثير، وقيل: كتاب الحفظة ثم يقال لهم: { فذوقوا } العذاب، قيل: هذا نداء من الله لهم، وقيل: بل يقوله الخزنة { فلن نزيدكم إلا عذابا } قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" هذه أشد آية على أهل النار "
{ إن للمتقين } الذين يجتنبون الكبائر { مفازا } منجى { حدائق } جنات وبساتين { وكواعب } أي جواري نواهد { أترابا } متساوية في سن واحد { لا يسمعون فيها لغوا } أي كلاما يكرهونه، وقيل: لا يسمعون ما يؤذيهم { ولا كذابا } قيل: لا يسمعون من أحد تكذيبه { جزاء من ربك } أي مكافأة على عملهم { عطاء } أي أعطاهم الله ذلك { حسابا } أي كافيا يكفيهم، وقيل: حسابا على قدر الاستحقاق { رب السماوات والأرض } فهو رب كل شيء { وما بينهما الرحمان لا يملكون منه خطابا } كلاما لأنه يفعل بحسب الاستحقاق والعدل والحكمة لا يكون لأحد فيه كلام { يوم يقوم الروح } قيل: جبريل، وقيل: ملك من أعظم الملائكة، وقيل: القرآن، وقيل: خلقا على صور الآدميين يأكلون ويشربون، وقيل: أرواح بني آدم، وقيل: رد الأجساد الروح { والملائكة صفا } أي واقفة { صفا لا يتكلمون } أحد منهم { إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا } قيل: الذي يؤذن لهم فيه لا إله إلا الله، وقيل: يؤذن لمحمد في الشفاعة { ذلك اليوم الحق } قيل: ذلك اليوم الذي وعد الله به حق، وقيل: ذلك اليوم الذي يكون الحق لا الباطل { فمن شاء اتخذ } بالطاعة { إلى ربه } أي إلى رضائه والموضع الذي يحكم فيه { مآبا } قيل: مرجعا، وقيل: سبيلا { إنا أنذرناكم } خوفناكم { عذابا قريبا } قيل: يوم القيامة، وقيل: يوم بدر { يوم ينظر المرء ما قدمت يداه } أي يجازى به، وقيل: يرى جميع ما قدم من أعماله الخير والشر والصغير والكبير مكتوبا فيجازى عليه فعند ذلك { يقول الكافر } عند يرى أعماله القبيحة { يا ليتني كنت ترابا } فيقول التراب لا وكرامة لك لئن جعلك مثلي.
[79 - سورة النازعات]
[79.1-7]
أقسم الله تعالى بهذه الخمسة الأشياء منها على قدرته، وقيل: برب هذه الأشياء، واختلفوا في جواب القسم، فقيل: هو محذوف كأنه قيل:.... للجزاء يوم ترجف هذا قول أكثر النحويين وهو الوجه، وقيل: جوابه أن في ذلك لعبرة، وقيل: هل أتاك بمعنى قد أتاك، وقوله: { والنازعات غرقا } أقسم تعالى بطوائف الملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد، وبالطوائف التي تنشطها أي تخرجها من نشط الدلو من البئر إذا أخرجها، وللمفسرين فيها خمسة أقوال فالذي ذكره علي (عليه السلام) وابن عباس وابن مسعود (رضي الله عنهم) أنها الملائكة، غرقا يعني إغراقا أي أبعادا في النزع { والناشطات نشطا } قيل: الملائكة تنشط بأمر الله إلى حيث كان، وقيل: تقبض روحه المؤمن برفق والكافر ما بين الجلد والأظفار تخرجها من أجوافهم بالكرب والغم { والسابحات سبحا } قيل: الملائكة يسعون إلى الأنبياء بالوحي، وقيل: بروح المؤمن إلى الجنة { فالمدبرات أمرا } الملائكة يدبرون الأشياء بأمر الله تعالى، وقيل: المراد بالأربعة الأولى النجوم والمدبرات الملائكة، وقيل: المراد الغزاة والرماة في سبيل الله، فعلى هذا النازعات أيدي الرماة إذا مدت القوس، وكذلك الناشطات السهام وهي خروجها من أيدي الرماة { والسابحات سبحا } قيل: الخيل والإبل وأراد خيل الغزاة، وقيل: السفن { والسابقات سبقا } قيل: هي الخيل { فالمدبرات } الملائكة، قيل: هم أربعة جبريل واليه تدبير الرياح والجنود، وميكائيل وإليه تدبير المطر والنبات، وملك الموت واليه قبض الأرواح، وإسرافيل ينزل بالأمر عليهم { يوم ترجف الراجفة } أي تضطرب { تتبعها الرادفة } النفخة الآخرة، وقيل: ترجف الراجفة تزلزلت الأرض والجبال، تتبعها الرادفة تشقق السماء وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة، وقيل: رجفت الأرض تضطرب وتزلزل، والرادفة زلزلة تتبع هذه الأولى.
[79.8-29]
{ قلوب يومئذ واجفة } قيل: خائفة، إنه يوم القيامة، وقيل: يوم أحد والخندق، يعني قلوب المنافقين مضطربة من الخوف { أبصارها خاشعة } ذليلة بالية { قالوا تلك إذا كرة خاسرة } على ما يعدنا، وقيل: خاسرة كاذبة { فإنما هي زجرة واحدة } أي صيحة ونفخة واحدة يريد النفخة الثانية { فإذا هم بالساهرة } قيل: على وجه الأرض أحياء بعدما كانوا أمواتا في جوفها، وقيل: في الأرض الآخرة، سميت الأرض ساهرة لأنه يسهر فيها وينام وهي في اللغة الفلاة، وقيل: هي جهنم { هل أتاك } يا محمد { حديث موسى إذ ناداه ربه } أي دعاه وقال: يا موسى { بالواد المقدس } المطهر { طوى } قيل: وادي، وقيل: طوى بالبركة، وقيل: واد في الشام عند الطور، وقيل: هو الموضع الذي كلم فيه موسى { إذهب إلى فرعون إنه طغى } أي جاوز الحد في العصيان { فقل هل لك إلى أن تزكى } أي تفعل يا فرعون ما تصير به زاكيا أي طاهرا { وأهديك إلى ربك فتخشى } عقابه { فأراه الآية الكبرى } في الآية محذوف وهو أنه جاء فرعون وأدى رسالة ربه وأراه الحجة الكبرى وهي العصا تصير حية تسعى واليد البيضاء تلألأ من غير سوء { فكذب } فرعون { وعصى } قيل: عصى موسى، وقيل: عصى الله { ثم أدبر } أي تولى وأعرض عن الايمان { يسعى } يعمل بالفساد، وقيل: لما رأى الحية هرب { فحشر } أي جمع السحرة، وقيل: جمع الناس { فنادى } فيهم { أنا ربكم الأعلى } قيل: ريس قومي، وقيل: أراد أن يلبس عليهم، وقيل: قال: إنما أنا ربكم فامنعوني من هذا الساحر ومن هذه الحية، فلما لم يؤمن { أخذه الله } أي عاقبه { نكال الآخرة والأولى } يعني في الدنيا بالغرق وفي الآخرة بالنار { إن في ذلك لعبرة } لعظة { لمن يخشى } عقاب الله تعالى { أأنتم } أيها المنكرون للبعث، وقيل : أأنتم أيها الناس { أشد خلقا أم السماء بناها } يعني من قدر على خلق السماء ورفعها من غير عمد قدر على إحيائكم بعد الموت { رفع سمكها } أي سقفها { فسواها } أي أحكمها { وأغطش ليلها } أي أظلم ليلها { وأخرج ضحاها } فأبرز ضوء شمسها، يدل عليه قوله:
والشمس وضحاها
[الشمس: 1] وأضاف الليل والنهار إلى السماء لأنهما يكونان بظهور الشمس فيها وغيبتها منها.
[79.30-46]
{ والأرض بعد ذلك دحاها } قيل: خلق الأولى من غير دحو قبل السماء، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وقيل: دحيت الأرض من تحت البيت يعني الكعبة وكان خلق قبل الدنيا بألفي عام، وقيل: بعد بمعنى قبل كقوله:
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر
[الأنبياء: 105] أي من قبل الذكر وهو القرآن { أخرج منها } من الأرض { ماءها } الذي به حياة كل شيء من الحيوانات والأشجار والنبات { ومرعاها } المرعى العشب ونحوه { والجبال أرساها } أثبتها { متاعا لكم } أي تنتفعون بها وبما يخرج مأكولا ومشروبا وملبوسا وزينة، وكذلك المنفعة بالجبال لما فيها من المعادن، وما يفجر فيها من العيون يعني منفعة { لأنعامكم } وهو الغيث { فإذا جاءت الطامة الكبرى } وهو القيامة لأنها تطم على كل شيء، أي تغلو وتغلب، وقيل: الطامة النفخة الثانية، وقيل: حين يساق أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار { يوم يتذكر الإنسان ما سعى } يعني يتذكر عند قراءة الكتب ما عمل من خير وشر { وبرزت الجحيم } أي أظهرت النار لمن رآها { فأما من طغى } جاوز الحد في الطغيان { وآثر الحياة الدنيا } أي اختارها وعمل بها وتمتع بملاذها { فإن الجحيم هي المأوى } أي المرجع { وأما من خاف مقام ربه } قيل: مقامه للعرض والحساب للجزاء والانتصاف من الظالم للمظلوم { ونهى النفس عن الهوى } أي امتنع عن المعاصي { فإن الجنة هي المأوى } أي مصيره { يسألونك عن الساعة } القيامة { أيان مرساها } أي متى أرساها، أي إقامتها وإنما يسألوك تكذيبا، وقيل: إيهاما على العوام { فيم أنت من ذكراها } قيل: ليس عندك علم لوقتها ومتى تكون؟ وإنما عليك انها تكون لا محالة ، وقيل: فيم تم الكلام أي في ماذا سؤالهم عما لا يعنيهم ثم ابتدأ فقال أنت من ذكراها أي من أعلامها فإنك خاتم الأنبياء { إلى ربك منتهاها } يعني منتهى علمها، أي لا يعلم وقتها إلا هو { إنما أنت منذر من يخشاها } يعني من يخاف القيامة { كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها } قيل: إذا رأوا أهوال يوم القيامة وما دفعوا اليه من العذاب كأن لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة، وقيل: حيث الآخرة يرون الدنيا ساعة، وقيل: أراد لبثهم في القبور، وقوله تعالى: { عشية أو ضحاها } أي آخر ساعتي النهار أما ضحوة أو عشية.
[80 - سورة عبس]
[80.1-16]
{ عبس } أي بسر { وتولى } أعرض { أن جاءه الأعمى } { وما يدريك لعله يزكى } يتطهر بالأعمال الصالحة { أو يذكر } آيات الله { فتنفعه } ذلك { الذكرى } ، وقيل: يتعظ فتنفعه الموعظة { أما من استغنى } هذا عتاب حين اشتغل بالأغنياء عن الفقراء { فأنت له تصدى } تتعرض وتصغي إلى كلامه وتقبل عليه { وما عليك ألا يزكى } أي شيء يلزمك إن لم يسلم إنما عليك البلاغ { وأما من جاءك يسعى } يمشي يعني الأعمى { وهو يخشى } أي يخاف الله { فأنت عنه تلهى } تتغافل وتعرض وتتشاغل بغيره { كلا } ردع وزجر أي لا تفعل ذلك بعدها فليس لك بمرضي ولا يليق بأخلاقك، وقيل: معناه حقا { إنها } قيل: السورة، وقيل: الموعظة، وقيل: آيات القرآن، وقيل: هذه الآيات في هذه السورة { تذكرة } أي تبصرة وعظة واعتبار { فمن شاء ذكره } القرآن والمواعظ { في صحف } جمع صحيفة والعرب تسمي كل مكتوب فيه صحيفة { مكرمة } أي كتب معظمة عند الله، قيل: تعظمها الملائكة لما فيها من العلم والحكمة، وقيل: معظمة عند المؤمنين، واختلفوا في تلك الصحف قيل: اللوح المحفوظ، وقيل: الصحف التي في السماء، وقيل: كتب الأنبياء المنزلة عليهم كقوله:
إن هذا لفي الصحف الأولى
[الأعلى: 18] { مرفوعة } رفيعة القدر عند الله تعالى { مطهرة } عن أن ينالها، أي الطغاة والكفار لأنها في أيدي الملائكة، وقيل: مطهرة من كل دنس، وقيل: مطهرة من الشك والشبهة { بأيدي سفرة } كتبة ينسخون الكتب من اللوح { بررة } أتقياء، وقيل: السفرة، وقيل: أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: هم الأنبياء والمؤمنون.
[80.17-42]
{ قتل الإنسان ما أكفره } الآية نزلت في عتبة بن أبي لهب، وقيل: في القوم الذين تقدم ذكرهم في أول السورة، وقيل: معناه لعن الإنسان وهو الكافر، وقيل: دعا عليه، أي قاتله الله تعالى يعني أي شيء أوجب أن يكفرهم بين { من أي شيء خلقه } ، فقال: { من نطفة خلقه } وهو ماء الرجل والمرأة { فقدره } أي أحسن التقدير، وقيل: نقله من حال الرحال إلى حال الكمال { ثم السبيل يسره } أي سهل له الطريق، وقيل: طريق خروجه من بطن أمه، وقيل: طريق الخير والشر بين له ذلك { ثم أماته } قيل: خلق الموت فيه { فأقبره } قيل: صيره بحيث يقبر، وقيل: أمر بأن يقبر ولم يجعله فيمن يلقى إلى السباع والطير، وقيل: أضاف الاقبار إلى نفسه لأنه خلق الأرض الذي يقبر فيها وأمر بأن يقبر { ثم إذا شاء أنشره } أحياه بعد موته للجزاء { كلا } ردع على الكفار أي ليس الأمر كما ظن، وقيل: حقا { لما يقض ما أمره } الله به { فلينظر الإنسان إلى طعامه } أي ما يطعمه من الأطعمة اللذيذة كيف خلقها تعالى، وقيل: فلينظر إلى مدخله ومخرجه { أنا صببنا الماء صبا } أنزلنا الغيث من السحاب { ثم شققنا الأرض شقا } لنخرج النبات مع ضعفه { فأنبتنا فيها } في الأرض { حبا } أراد جنس الحبوب وما فيها من العنب { وقضبا } قيل: الرطبة عن ابن عباس، وقيل: العلف يعني أقوات الأنعام { وزيتونا } الذي منه الزيت { ونخلا } { وحدائق غلبا } أي بساتين تشتمل على أشجار عظام غلاظ مختلفة، وقيل: غلبا مكثفة، وقيل: طولا، وقيل: النخل الكرام { وفاكهة } سائر أنواع ما يتفكه { وأبا } قيل: هو التين { متاعا لكم ولأنعامكم } { فإذا جاءت الصاخة } أي القيامة، وقيل: هي النفخة الثانية { يوم يفر المرء من أخيه } { وأمه وأبيه } { وصاحبته وبنيه } أي من زوجته { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } أي أمر عظيم يكفيه لا يفرع إلى غيره، وقيل: أول من يفر عن أخيه هابيل، ومن أبويه إبراهيم ، وصاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح (عليه السلام) { وجوه يومئذ مسفرة } مضيئة متهللة من أسفر الصبح إذا أضاء { ضاحكة مستبشرة } من قيام، وقيل: من آثار الوضوء { ووجوه يومئذ عليها غبرة } غبار يعلوها فيه سواد كالدخان وكان الله عز وجل يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة كما جمع الفجور إلى الكفرة { ترهقها قترة } قيل: ظلمة وسواد وقيل: هو الدخان، وقيل: هو الغبار { أولئك هم الكفرة الفجرة } من تقدم ذكرهم الخارجون عن أمر الله.
[81 - سورة التكوير]
[81.1-14]
وقوله: { إذا } شرط والجواب قوله: { علمت } { الشمس كورت } قيل: ذهب ضوؤها ونورها، والكور: اللف والطي والتكوير نظائر، كور العمامة تكويرا، وقيل: التفت { وإذا النجوم انكدرت } قيل: تناثرت، وقيل: ذهب ضوؤها { وإذا الجبال سيرت } على وجه الأرض فصارت هباء منبثا { وإذا العشار عطلت } يعني النوق الحوامل التي قرب نتاجها، عطلت أهملت يدكها أربابها لما دهمهم من عظيم ذلك اليوم { وإذا الوحوش حشرت } جمعت يوم القيامة من كل ناحية، قال قتادة: يحشر كل شيء حتى الذباب للقصاص، وقيل: إذا قضي بينها ردت ترابا فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم، وعن ابن عباس: حشرها موتها { وإذا البحار سجرت } قرئ بالتخفيف والتشديد من سجر التنور إذا ملأه بالحطب، وفجر بعضها إلى بعض حتى يعود بحرا واحدا، عن الحسن: يذهب ماؤها فلا يبقى فيها قطرة، وقيل: يجعل ماؤها نيرانا يعذب به أهل النار، وقيل: بحار في جهنم من الحميم يعذبون بها { وإذا النفوس زوجت } قرن كل إنسان بشكله من أهل الجنة وأهل النار، وقيل: زوجت ردت الأرواح إلى الأجساد، وقيل: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين والكفار بالشياطين، وقيل: زوجت النفوس بأعمالها { وإذا الموؤدة سئلت } يعني الجارية المدفونة حية، قيل: كانوا إذا ولدت بنتا فأرادوا قتلها حفروا لها قبرا ثم يقول لأمها: زينيها لأذهب بها إلى إحمائها، فيذهب بها فيضعها في الحفرة ويهيل التراب عليها، وقيل: كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة، وإذا ولدت ابنا حبسته، وكانوا يقولون: ان الملائكة بنات الله فألحقوا البنات به وإنما فعلوا ذلك خوف العار لهم من أجلهن أو الخوف من إملاق، وسئلت: يعني سئل الموؤدة لماذا قتلت؟ وبأي ذنب؟ وهذا سؤال للقاتل، وقيل: سئلت طلبت القاتل الحجة في قتلها { وإذا الصحف نشرت } كيف أعمالهم { وإذا السماء كشطت } قلعت من مكانها ونزعت { وإذا الجحيم سعرت } أوقدت حتى ازدادت شدة، وقيل: سعرها غضب الله وخطايا بني آدم { وإذا الجنة أزلفت } أي قرنت بما فيها من النعم ليزداد المؤمن سرورا وأهل النار حسرة { علمت نفس ما أحضرت } من خير وشر، ومعناه علمت كل نفس ما عملت ووجب جزاؤه لأن الأعمال لا يصح عليها الإحضار، وقيل: تحضر الصحائف.
[81.15-29]
{ فلا أقسم بالخنس } قيل: معناه أقسم ولا صلة وزيادة، وقيل: هو كقولهم لا والله لا أفعل، وقيل: أقسم برب الخنس، وقيل: معناه أقسم بهذه الأشياء لما فيها من الدلائل في التوحيد، وقيل: الخنس: النجوم، عن أمير المؤمنين: " لأنها تبدو بالليل وتخنس بالنهار " وقيل: هي بقرة الوحش، وقيل: هي الظباء { الكنس } الغيب من كنس الوحش إذا أدخله كناسة، وقيل: هي الدراري الخمسة: بهرام وزحل وعطارد والزهرة والمشتري، تجري مع الشمس والقمر وترجع حتى تختفي تحت ضوء الشمس، فخنوسها رجوعها وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس، وقيل: هي جميع الكواكب، تخنس بالنهار فتغيب من العيون وتكنس الليل أي تنقطع في أماكنها كالوحوش في كناسها { والليل إذا عسعس } أدبر ظلامه، وقيل: أقبل بظلامه، وقيل: أظلم { والصبح إذا تنفس } أسفر وأضاء { إنه لقول رسول كريم } قيل: جبريل، وقيل: محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { ذي قوة } في العلم والعمل من قوته أنه قلع مدائن قوم لوط بريشة من جناحه { عند ذي العرش مكين } أي عند رب العرش وخالقه رفيع المنزلة { مطاع ثم } قيل: في السماوات وهو جبريل تطيعه الملائكة، وقيل: محمد مطاع في الأرض { وما صاحبكم } يعني محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) { بمجنون } كما كانوا يزعمون { ولقد رآه } يعني أن محمدا رأى جبريل على صورته التي خلقه الله عليها { بالأفق المبين } مطلع الشمس الأعلى، وعن ابن عباس:
" أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لجبريل: " إني أحب أن أراك في صورتك التي تكون عليها في السماء " ، فواعده عرفات، فخرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا هو جبريل أقبل من جبال عرفات ملأ ما بين المشرق والمغرب فرأسه في السماء ورجلاه في الأرض فخر مغشيا فتحول إلى صورته وضمه إلى صدره "
، المبين: الواضح، كأنه رآه عيانا نهارا { وما هو على الغيب بضنين } بالظاء بمتهم فيما يقول وبالضاد ببخيل فيما يؤدي { وما هو بقول شيطان رجيم } أي ليس بكذب تأتي به الشياطين { فأين تذهبون } أي إلى أين تهربون عن الحق الذي ظهر، وقيل: إلى أين تعدلون عن هذا القرآن وهو الشفاء والهدى { إن هو إلا ذكر للعالمين } للخلق بما يحتاجون { لمن شاء منكم أن يستقيم } على أمر الله، والآية تدل على أن العبد مخير يقدر على الخير والشر { وما تشاؤون } الاستقامة { إلا أن يشاء الله } أن يخبركم { رب العالمين }.
[82 - سورة الإنفطار]
[82.1-8]
{ إذا السماء انفطرت } انشقت لنزول الملائكة { وإذا الكواكب انتثرت } تساقطت { وإذا البحار فجرت } فجر بعضها في بعض عذبها في مالحها ومالحها في عذبها فصارت بحرا واحدا، وقيل: ذهب ماؤها، وقيل: ملئت { وإذا القبور بعثرت } كشفت عما فيها وأخرجوا منها { علمت } جواب إذا، وقوله: { نفس ما قدمت وأخرت } قيل: ما قدمت من عمل وأخرت من سيئة لسها يعمل بها، وقيل: ما قدمت من طاعة أو تركت، وقيل: ما قدمت من فريضة وأخرت أو ما قدمت من الأعمال وما أخرت من المظالم يجدوا ذلك مكتوبا في الصحائف { يأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم } ما الذي جرأك عليه بغروره حتى عصيته، وقيل: ما الذي خدعك، أو ما الذي أداك إلى الاغترار بالله حتى آثرت شهوات الدنيا وعصيت وتبعت الشياطين الإنس والجن، وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تلا هذه الآية فقال:
" غره والله جهله، غره عدوه الشيطان "
، ومنها علماء السوء يزينون له المعاصي بأن الله قدره عليه، أو يغفر له، أو أن النبي يشفع له، وأن مع الإسلام لا يضر معصية وتقليد الرؤساء والنظر إلى أهل الدنيا { الذي خلقك فسواك } أي كيف تركت طاعته وهو المنعم عليكم بأن خلقك حيا وسوى جميع أعضائك { فعدلك } بالتشديد وبالتخفيف عدل بك عن صورة البهائم وغيرها إلى أحسن الصور، وقيل: من شبه أم أو أب أو خال أو عم، وقيل: من ذكر أو أنثى يعني قدر على خلقك كيف شاء { ركبك } في الجنس والطول والقصر ذكر أو أنثى.
[82.9-19]
{ كلا } قيل: لا تظنون ذلك، وقيل: حقا إنكم غررتم أنفسكم وتركتم أمر خالقكم لأنكم { تكذبون بالدين } الجزاء والحساب { وإن عليكم لحافظين } حفظاء رقباء يحفظون أعمالهم وهم الملائكة على الله { كاتبين } في الدنيا والآخرة أما في الدنيا ففي رضى الله والقناعة وفي الآخرة في الجنة { وإن الفجار } العصاة المرتكبين الكبائر { لفي جحيم } في النار، والفجور اسم العصيان، يقال للزاني: فاجر { يصلونها } أي يحملونها للتعذيب { يوم الدين } يوم الجزاء { وما هم عنها بغائبين } بموت ولا خروج { وما أدراك ما يوم الدين } { ثم ما أدراك ما يوم الدين } كرر تأكيدا وتفخيما لشأنه، وقيل: ما أدراك ما في يوم الدين من النعم لأهل الجنة وما أدراك ما في يوم الدين من العذاب لأهل النار وليس فيه تكرار { يوم لا تملك نفس لنفس شيئا } أي لا يملك أحد لغيره نفعا ولا ضرا { والأمر يومئذ لله } لا ينفذ لأحد أمر غيره.
[83 - سورة المطففين]
[83.1-17]
{ ويل للمطففين } التطفيف البخس في الكيل والوزن، وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قدم المدينة وكانوا من أخبث الناس كيلا فنزلت فأحسنوا الكيل، وروي أنه قدمها وفيها رجل يعرف بابن جهينة ومعه صاعان يكيل بأحدهما ويكتال بالآخر، وقيل: كان أهل المدينة تجار يطففون، وقوله: { ويل } كلمة وعيد، وقيل: شدة العذاب، وقيل: جب في جهنم للمطففين الذين يبخسون الناس حقوقهم في الكيل والوزن { الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون } أي ما على الناس ليأخذوه لأنفسهم، يستوفون يكتالون تاما ويأخذون تاما { وإذا كالوهم } أي كالوا لهم ليوفر عليهم حقهم { أو وزنوهم يخسرون } ينقصون { ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون } ومحاسبون على مقدار الذرة والخردلة { ليوم عظيم } يوم القيامة { يوم يقوم الناس لرب العالمين } أي لحكمه بينهم { كلا } قيل: لا تفعلوا ذلك، وقيل: حقا { إن كتاب الفجار لفي سجين } قيل: في الأرض السابعة السفلى، وقيل: جب في جهنم، وقيل: هي الصخرة التي عليها الأرضون وفيها أفعالهم { وما أدراك ما سجين } قيل: ذكر ذلك تفخيما لشأنه { كتاب مرقوم } قيل: مكتوب فيه، وقيل: مختوم { ويل يومئذ للمكذبين } بالجزاء أو البعث { الذين يكذبون بيوم الدين } بالجزاء والبعث { وما يكذب به إلا كل معتد أثيم } مجاوز للحد بمعصية الله، أثيم كثير المأثم { إذا تتلى عليه آياتنا } يعني القرآن { قال أساطير الأولين } الآية نزلت في النضر بن الحارث { كلا } ردع وزجر، أي ليس كما ظنوا، وقيل: حقا قسما منه بأن الذنوب أحاطت بقلبه { بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون } قيل: هو الذنب على الذنب حتى يموت القلب ويسود، وقيل: إذا أذنب العبد كانت نكتة سوداء في قلبه { كلا } ردع وزجر، وقيل: حقا { إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } عن رحمته وإحسانه وكرامته { ثم إنهم لصالو الجحيم } أي يصيرون إلى النار { ثم يقال } توبيخا { هذا الذي كنتم به تكذبون }.
[83.18-36]
{ كلا } ردع وزجر أي لا تكذبون فاتصل بقوله هذه النار، وقيل: معناه حقا { إن كتاب الأبرار } أي المخلصين { لفي عليين } في السماء السابعة وفيها أزواج المؤمنين، وقيل: تحمل كتبهم وتدفع إلى حملة العرش فيحفظونه، وقيل: في السماء السابعة تحت العرش، وقيل: لوح من زبرجدة خضراء مخلوق تحت العرش أعمالهم مكتوبة فيها، وقيل: ساق العرش، وقيل: هو الجنة، وقيل: تقدير الكلام أن كتاب الأبرار كتاب مرقوم في عليين أي مقبولا عند الله { وما أدراك ما عليون } { كتاب مرقوم } فيه تقر أعينهم { يشهده } يحضره { المقربون } يعني الملائكة { إن الأبرار لفي نعيم } في الجنة { على الأرائك } قيل: السرائر { ينظرون } إلى أعدائهم كيف يعذبون، وقيل: ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة والملك { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } يعني يتبين في وجوههم أثر النعمة { يسقون من رحيق } قيل: خمر طيبة صافية { مختوم } { ختامه مسك } قيل: آخره ومقطعه مسك بأن يوجد ريح المسك عند خاتمة شربه، وقيل: ختم انائه بالمسك لا من الطين الذي يختم في الدنيا { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } فليرغب الراغبون { ومزاجه } أي خلطه ذلك الشراب { من تسنيم } قيل: اسم لعين في الجنة، أي ذلك التسنيم { عينا يشرب بها المقربون } قيل: تجري من تحت العرش { إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون } الآية إلى آخر السورة نزلت في أبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص وأصحابهم كانوا يضحكون من عمار وخباب وصهيب وبلال وغيرهم من فقراء المسلمين، وقيل: نزلت في شأن علي (عليه السلام) وكان إذا مر بهم ضحكوا منه، وقوله: { يتغامزون } يشير بعضهم إلى بعض بالأعين استهزاء بهم { وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين } يعني إذا رجعوا إلى أهليهم رجعوا فاكهين، وفكهين قيل: مسرورين، وقيل: أشرين بطرين، يعني من قرأ فكهين فمعناه ذلك، وقيل: مجتمعين بأنفسهم { وإذا رأوهم } يعني رأوا المؤمنين { قالوا إن هؤلاء لضالون } عن الحق { وما أرسلوا عليهم حافظين } يعني ما كلفوا حفظهم وحفظ أعمالهم { فاليوم } يعني يوم القيامة { الذين آمنوا من الكفار يضحكون } لأنهم كانوا أعداء للمؤمنين فكان سرور المؤمنين في تعذيب أولئك { على الأرائك } الأماكن الرفيعة والأسرة المفروشة { ينظرون } قيل: إلى النعم التي أعطاهم الله تعالى، وقيل: كيف يعذبون أعداؤهم { هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون } يعني هل جوزوا لفعلهم، وقيل: هل بمعنى قد، وقيل: يقول المؤمنون بعضهم لبعض: هل ثوب الكفار بأعمالهم سرورا ما نزل بهم، وقيل: يقوله الله تعالى للمؤمنين: ألم أجازيهم؟ ومتى قيل: متى استعمل لفظ الثواب في العقوبة؟ قلنا: الثواب حقيقته ما يرجع على صاحبه من عاقبة عمله إلا أنه عليه الإثابة بالنعم فاستعمل هاهنا، وقيل: إنما قيل ذلك لمقابلة ما فعل بالمؤمنين، أي هل ثوب الكفار كما يثوب المؤمن؟ فذكر الثواب للمقابلة.
[84 - سورة الإنشقاق]
[84.1-15]
{ إذا السماء } شرط جوابه محذوف تقديره رأى الانسان ما قدم من خير وشر، وقيل: جوابه، إنك كادح، وقوله: { انشقت } لنزول الملائكة وقيل: تنشق وتبقى وهو علم من أعلام الساعة { وأذنت لربها وحقت } قيل: سمعت وأطاعت وحقت حقا لها بأن تأذن بالانقياد لأمر ربها { وإذا الأرض مدت } بسطت باندكاك جبالها، قيل: تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم في حديث مرفوع { وألقت ما فيها وتخلت } قيل: أخرجت الأرض أثقالها وما فيها من الموتى والكنوز توسعا كما قال: { وأذنت لربها وحقت } { يأيها الإنسان } الآية نزلت في الحارث، وقيل: هو عام { إنك كادح إلى ربك كدحا } عامل فيه عملا من خير وشر، وقيل: صائر بكسبك إلى ربك { فملاقيه } قيل: ملاقي ربك والمعنى صائر إلى حكمه حيث لا حكم إلا حكمه، وقيل: ملاقي كدحك { فأما من أوتي كتابه بيمينه } قيل: كتاب أعمالهم التي كتبتها الحفظة وفائدة إعطائه باليمين كونه علامة لكونه من أهل الجنة وتعظيما له { فسوف يحاسب حسابا يسيرا } أي سهلا وهو التجاوز ومن نوقش للحساب عذب في خبر مرفوع { وينقلب إلى أهله مسرورا } قيل: أهله من الحور العين، وقيل: أولاده وأزواجه وعشائره وقد سبقوه إلى الجنة، وقيل: إلى إخوانه من المؤمنين { وأما من أوتي كتابه وراء ظهره } ، قيل: يخلع يده وراء ظهره ويعطى كتابه { فسوف يدعو ثبورا } يقول: واهلاكاه واثبوراه { ويصلى سعيرا } يدخل النار ويعذب بها { إنه كان في أهله مسرورا } في الدنيا وأهلها، وقيل: كان مسرورا بمعاصي الله لا يغتم ولا يندم { إنه ظن أن لن يحور } أي لن يرجع حال الحياة في الآخرة للجزاء ثم رد عليه فقال سبحانه: { بلى } أي ليس الأمر كما ظن بل يرجع إلى الآخرة والجزاء ويبعث { إن ربه كان به بصيرا } أي عالم بأحواله.
[84.16-25]
{ فلا أقسم } قيل: معناه أقسم ولا زائدة عن أبي علي، وقيل: هو قولهم والله لا أفعل كذا قيل: القسم بهذه الأشياء لما يظهر من دلائل التوحيد، وقيل: برب هذه الأشياء { بالشفق } حمرة في الأفق ما بين المغرب والعشاء، وقيل: البياض { والليل وما وسق } قيل: ما جمع في مساكنه مما كان منشرا بالنهار نحو الدواب والحشرات، وقيل: ما ساق من ظلمته { والقمر إذا اتسق } إذا اجتمع واستوى وتم نوره { لتركبن طبقا عن طبق } ، قيل: من شدة إلى شدة من موت إلى الحشر وحساب { فما لهم لا يؤمنون } أي ما الذي يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله مع ظهور الحجة { وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون } قيل: لا يخضعون، وقيل: ما لهم لا يصلون { بل الذين كفروا يكذبون } { والله أعلم بما يوعون } يكتمون في صدورهم { فبشرهم بعذاب أليم } { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون } قيل: غير منقوص، وقيل: هو الجنة، ومعنى أجر جزاء.
[85 - سورة البروج]
[85.1-9]
{ والسماء ذات البروج } قيل: أقسم بالسماء، وقيل: برب السماء، قيل: هي منازل الكواكب والشمس والقمر وهي اثنى عشر برجا { واليوم الموعود } قيل: يوم القيامة الذي وعد الله به الجزاء { وشاهد ومشهود } قيل: الشاهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والمشهود يوم القيامة، وقيل: الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، وقيل: الشاهد يوم عرفة والمشهود يوم الجمعة، وقيل: الشاهد هو آدم والمشهود القيامة، وقيل: الشاهد عيسى والمشهود أمته، وقيل: محمد وأمته، وقيل: الشاهد الملائكة وأعضاء بني آدم والمشهود بنو آدم، وقيل: الشاهد الحفظة والمشهود بنو آدم { قتل أصحاب الأخدود } قيل: لعن أصحاب البئر وهم الكفار، وقيل: بل هو كفاية عن المؤمنين الذين ألقوا في الأخدود، أي قتلوا ظلما وأخبر الله أنهم قتلوا بالإحراق، وقيل: قاتلهم وعذبهم، وأصحاب الأخدود قوم من الكفار حفروا حفرا وأوقدوا فيها نارا، وذكر أن طول الأخدود أربعون ذراعا وعرضه اثنى عشر ذراعا، وعرضوا عليه المؤمنين وقالوا: لتتركن دينكم أو لنحرقنكم، فأبوا فألقوا فيها وأحرقوهم، قيل: لما ألقوا في النار نجى الله المؤمنين بأن أخذ أرواحهم فلم تمسهم النار فخرجت من الحفرة نار فأحرقت الكفار الذين كانوا { قعود } على النار فقيل: كانوا من المجوس، وعن علي (عليه السلام): " أن نبيا من الحبشة بعث إلى قومه فدعاهم فتابعه قوم وخالفه قوم، فخد بعض الملوك أخدودا وأجج فيها نارا عظيمة وامتحنوا، فأحرق من آمن بالنبي " ، وقيل: وقع إلى نجران رجل ممن كان على دين عيسى (عليه السلام) فدعاهم فأجابوه، فسار إليهم ذو نواس اليهودي بجنود من حمير فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا، فأحرق منهم اثنى عشر ألفا في الأخاديد، وقيل: سبعون ألفا، وقيل: كانوا من المجوس وكان لهم ملك وقع على أخته فأنكروا عليه، فدعا الناس إلى جواز نكاح الأخوات فأبوا فضربهم، فخد الأخدود وأضرم فيها النار وعرض ذلك على أهل مملكته فمن امتثل خلا سبيله ومن أبى أحرقه، وقيل: امرأة معها صبي فأبت فقال الطفل: امضي ولا تنافقي، فاقتحمت النار { وما نقموا منهم } ما فعلوا بهم ذلك العذاب { إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } المستحق للحمد { والله على كل شهيد } أي شاهد.
[85.10-22]
{ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات } أي أحرقوهم وعذبوهم { ثم لم يتوبوا } من ذلك { فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق } قيل: هما واحد، وقيل: لهم عذاب جهنم في الآخرة وعذاب الحريق في الدنيا لأنه تعالى أحرقهم بتلك النار، وقيل: الحريق بالكبد { إن بطش ربك } ان أخذه بالعقاب { لشديد } { إنه هو يبدئ ويعيد } قيل: يبدئ العذاب في.... ويعيده في الآخرة، وقيل: يبدئ الخلق في الدنيا ويعيده في الآخرة، وقيل: يبدئ النعم في الدنيا ثم يعيدها في الآخرة { وهو الغفور } لمن أناب إليه { الودود } قيل: يوده كل أحد لاحسانه، وقيل: يود أولياءه ويحبهم، وقيل: الرحيم { ذو العرش } أي ربه وخالقه { المجيد } الكريم الكثير الاحسان، وإذا جعل صفة العرش فمعناه الرفيع لأنه فوق السماء، وقيل: هو الملك { فعال لما يريد } لأنه لا يريد إلا الخير والصلاح { هل أتاك } قد أتاك { حديث الجنود } { فرعون وثمود } وما نزل بهم { بل الذين كفروا في تكذيب } { والله من ورائهم محيط } أي عالم بأفعالهم لا يخفى عليه شيء { بل هو قرآن مجيد } كريم شريف { في لوح محفوظ } من التغيير والتبديل، وقيل: محفوظ أن يطلع عليه غير الملائكة، وقيل: فوق السماء السابعة، وقيل: لوح في السماء مكتوب فيه القرآن وسائر ما يكون إلى يوم القيامة وفي أوله لا إله إلا الله وحده ودينه الإسلام ومحمد عبده ورسوله فمن آمن به أدخله الجنة، واللوح من درة بيضاء.
[86 - سورة الطارق]
[86.1-17]
قال: " نجم رمى به وهو من آيات الله " ، فعجب أبو طالب فأنزل الله: { والسماء والطارق } قسم برب السماء وقيل: بالسماء { وما أدراك ما الطارق } ففسر ذلك فقال سبحانه: { النجم الثاقب } أي هو النجم الثاقب مثل المضيء كأنه يثقب الظلام بضوئه، وقيل: الثاقب الذي يرمي الشيطان، وقيل: العالي على النجوم وهو زحل، وطروق النجوم ظهورها بالليل وخفاؤها بالنهار { إن كل نفس لما عليها حافظ } هذا جواب القسم حافظ من الملائكة يحفظون عمله ورزقه وأجله، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب ولو وكل العبد الى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين "
{ فلينظر الإنسان مم خلق } أي الذين ينكرون البعث لينظروا في أنفسهم كيف خلقهم وماذا خلقهم { خلق من ماء دافق } أي مدفوق مصبوب بالرحم { يخرج من بين الصلب والترائب } قيل: يخرج من الرجل من الصلب ومن المرأة من الترائب والله يخلق الولد منهما، وقيل: الترائب موضع القلادة، وقيل: بين ثدي المرأة، وقيل: عنى به اليدين والرجلين والعينين { إنه على رجعه لقادر } يعني هذا الذي خلقه ابتداء من هذا الماء يقدر على رجعه حيا بعد الموت، وقيل: رد الماء في الصلب { يوم تبلى السرائر } يعني يوم القيامة تبلى تكشف الأسرار فيظهر ما كان يخفيه { فما له من قوة ولا ناصر } ينصره فيدفع عنه العذاب { والسماء } قيل: قسم بنفس السماء، وقيل: برب السماء { ذات الرجع } قيل: ذات المطر والذي يرجع به حالا بعد حال، وقيل: شمسها وقمرها ونجومها تغيب ثم تطلع { والأرض ذات الصدع } أي تصدع بالنبات { إنه لقول فصل } هذا جواب القسم ومعناه أن الاحياء بعد الموت والوعد بالبعث قول فصل، وقيل: أنه يعني القرآن وما فيه من الوعد والوعيد والأحكام قول حق وهو الوحي { وما هو بالهزل } أي أنه جد ليس بلعب، والهزل نقيض الجد ويصيره اللهو واللعب هزل يهزل هزلا { إنهم } يعني الكفار { يكيدون كيدا } أي يحتالون في الايقاع بك وبمن معك ويريدون إطفاء نورك { وأكيد كيدا } أي أريد أمرا آخر على ضد ما يريدون أو أريد ما ينقص تدابيرهم وهو الدفع عنك وإتمام أمرك وإظهار دينك { فمهل الكافرين أملهم رويدا } فمهل الكفارين أي انظرهم ولا تعاجلهم وارض بتدبير الله فيهم رويدا، أي امهالا قليلا لأن ما هو كائن قريب، قيل: أراد يوم بدر، وقيل: يوم القيامة.
[87 - سورة الأعلى]
[87.1-8]
وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من قرأ سورة الأعلى أعطاه الله من الأجر عشر حسنات بعدد كل حرف أنزله الله على إبراهيم وموسى ومحمد (عليهم السلام) "
، وعن علي (عليه السلام): " كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحب هذه السورة، وأول من قال: سبحان ربي الأعلى ميكائيل " ، وقال رسول الله:
" يا جبريل أخبرني عن ثواب من قالها في صلاته أو غير صلاته "
قال: من قالها فإنه يكون ميزانه أثقل من العرش والكرسي وجبال الدنيا ويقول الله: صدق عبدي اشهدوا يا ملائكتي إني قد غفرت له وأدخلته الجنة، وعن علي (عليه السلام): " لما نزل قوله:
فسبح باسم ربك العظيم
[الواقعة: 74] قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" اجعلوها في ركوعكم ولما نزل قوله: { سبح اسم ربك الأعلى } قال: اجعلوها في سجودكم ".
والمعنى قل سبحان ربي الأعلى، وقيل: نزه ربك عما يصفه به المشركون { الذي خلق فسوى } أي سوى خلقه وأعضاءه وحواسه { والذي قدر الخلق } على ما خلقهم من الصور والهيئات وأجرى لهم من أسباب المعائش، وهذا يدلك على معرفة توحيده، وقيل: قدر الأرزاق والآجال وهدى إلى التوحيد { والذي أخرج المرعى } الحشيش والنبات وما هو قوت البهائم والوحوش { فجعله غثاء } أي ضروبا وأجناسا من المرعى، وقيل: غثاء هشيما يابسا { أحوى } قيل: أسود من شدة خضرته { سنقرئك } قيل: سنعلمك القرآن ويقرأه عليك جبريل وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا نزل عليه القرآن لم يفرغ من آخر الآية حتى يقرأ أولها مخافة أن ينساه { إلا ما شاء الله } يرفع حكمه وتلاوته، وقيل: إلا ما شاء الله أن يؤخر إنزاله، وقيل: إلا ما شاء الله أن ينسى وقد شاء الاستثناء { إنه يعلم الجهر } من القول { وما يخفى } فأراد سائر الأشياء { ونيسرك لليسرى } قيل: نيسر لك دخول الجنة، وقيل: نعينك على ما أمرناك حتى يسهل عليك الخطاب، وقيل: بالألطاف.
[87.9-19]
{ فذكر } أي أد إليهم القرآن وعظهم وذكرهم ما فيه من الوعد والوعيد، وقيل: أد على الانتفاع لمواعظه { سيذكر } أي يتعظ ويقبل الذكرى { من يخشى } الله { ويتجنبها } أي يتجنب التذكرة { الأشقى } ، وقيل: الشقي العاصي { الذي يصلى النار الكبرى } نار جهنم والنار الصغرى نار الدنيا { ثم لا يموت فيها } فيستريح { ولا يحيى } حياة ينتفع بها { قد أفلح } أي ظفر بالبغية { من تزكى } قيل: صار زكيا بالأعمال الصالحة، وقيل: أراد زكاة ماله، وقيل: زكاة الفطر وصلاة العيد، وقيل: الصلاة المكتوبة { بل تؤثرون الحياة الدنيا } تختارونها ولا تتفكرون في أمر الآخرة { والآخرة خير وأبقى } لأن الدنيا تنقطع { إن هذا } قيل: أراد جميع السورة وما يتضمن فيها، وقيل: قوله: { قد أفلح من تزكى } إلى آخر السورة، وقيل: ما وعدتكم به،
" وعن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله ما كان { في الصحف الأولى }؟ قال: " { قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى } "
، وقيل: في { صحف ابراهيم } ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه، عارفا بزمانه، مقبلا على شأنه، وقيل: إنه تعالى أنزل مائة وأربعة كتب على آدم وشيث وادريس وابراهيم وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وعلى داوود وغيرهم من الأنبياء.
[88 - سورة الغاشية]
[88.1-16]
{ هل أتاك } يعني قد أتاك { حديث الغاشية } وهي القيامة تغشى الناس بالأهوال، وقيل: الغاشية النار تغشى وجوه الكفار { وجوه } قيل: أراد أرباب وجوه كقوله: جاء في وجوه أي ساداتهم، وقيل: أراد الجارحة بعينها { يومئذ } يعني يوم القيامة، وقيل: أراد في النار { خاشعة } ذليلة خاضعة { عاملة } قيل: عاملة في النار { ناصبة } فيها لم تعمل لله في الدنيا ونصبهم في النار بمعاجلة السلاسل والأغلال عن الحسن وقتادة وسعيد بن جبير، وروي نحوه عن ابن عباس، وقيل: يجرون على وجوههم في النار، وقيل: خاشعة عاملة ناصبة في الدنيا يعملون وينصبون ويتعبون رجاء أن ينالوا خيرا فلما كان تعبهم في غير ما أمر الله كانوا من أهل العذاب في النار فاتصل نصبهم في الدنيا بنصبهم في الآخرة، وعن أبي علي: وقيل: هم الرهبان وأصحاب الصوامع وأهل البدع { تصلى نارا حامية } قيل: يلزمون النار { تسقى من عين آنية } بلغت الغاية في شدة الحر قيل: لما نزل قوله: { ليس لهم طعام إلا من ضريع } قالت قريش: إن إبلنا تسمن من الضريع فنزل: { لا يسمن ولا يغني من جوع } والضريع نبت تأكله الإبل يضر ولا ينفع وإنما تشتبه عليها مرة فتظنها كغيره من النبت وأصله من المضارعة والمشابهة، وقيل: الضريع السبرق وهو سم، وقيل: هو شجر من نار، وقيل: في الدنيا الشوك اليابس وفي الآخرة شوك من نار { لا يسمن ولا يغني من جوع } أي لا يدفع جوعا ولا يسمن أحدا، ثم وصف أهل الجنة فقال: { وجوه يومئذ ناعمة } أي يظهر عليها أثر النعمة والسرور { لسعيها راضية } أي رضيت بما عملت في الدنيا من الطاعات { لا يسمع فيها } بياء مضمومة { لاغية } رفع ابن كثير وأبو عمرو وتسمع بتاء مضمومة أيضا نافع، وقرأ حمزة والكسائي تسمع بتاء مفتوحة لاغية بالنصب، ومعنى لاغية كلاما لا فائدة فيه، وقيل: كلاما يؤذيهم، ثم وصف حال الجنة فقال سبحانه: { فيها عين جارية } ، قيل: تجري كما يريد صاحبها، وقيل: جارية من كل الشراب { فيها سرر مرفوعة } أي رفيع القدر لأهلها حتى لا يحتاج إلى الصعود { وأكواب موضوعة } قيل: على حافات الأعين الجارية كلما أرادوا شربها وجدوها مملوءة، والأكواب جمع كوب وهي الأباريق ليس لها خرطوم وهي آنية فاخرة حسنة الصور ولا خراطيم لها { ونمارق } قيل: وسائد { مصفوفة } بعضها إلى بعض { وزرابي مبثوثة } قيل: البسط الفاخرة، وقيل: الطنافس، وقوله: { مبثوثة } مبسوطة، وقيل: مفروقة في المجالس.
[88.17-26]
{ أفلا ينظرون } يتفكرون { إلى الإبل كيف خلقت } وكيف قدرها الله وما فيها من المنافع { وإلى السماء كيف رفعت } { وإلى الجبال كيف نصبت } { وإلى الأرض كيف سطحت } { فذكر } قيل: ذكرهم هذه الأدلة ومرهم بالاستدلال، وقيل: ذكرهم الوعد والوعيد إنما بعثت للتذكر { لست عليهم بمصيطر } قيل: بجبار، وقيل: بمتسلط، قال بعضهم: كان هذا قبل نزول آية الجهاد ثم نسخ بآية القتال، وقيل: لا نسخ فيه لأن الجهاد ليس بإكراه ولمكان الاستثناء، وقيل: للتذكر والقبول عليهم { إلا من تولى } استثناء منقطع ومعناه لكن من تولى، وقيل: استثناء صحيح راجع إلى قوله: { مصيطر } يعني { إلا من تولى وكفر } فإنك مصيطر عليهم بالجهاد، وقيل: بل هو راجع إلى قوله: { فذكر } قومك { إلا من تولى } وأعرض فلا تنفعه الذكرى { فيعذبه الله العذاب الأكبر } وهو عذاب النار { إن إلينا إيابهم } يعني رجوعهم لا يفوتون { ثم إن علينا حسابهم } فنجازيهم بما عملوا.
[89 - سورة الفجر]
[89.1-9]
قوله: { والفجر } أقسم الله تعالى بالفجر كما أقسم بالصبح في قوله:
والصبح إذا أسفر
[المدثر: 34] وقيل: بصلاة الفجر { وليال عشر } ذي الحجة وعليه الأكثر، وقيل: الأول من رمضان، وقيل: الأول من المحرم { والشفع والوتر } قيل: الشفع الزوج والوتر الفرد من العدد، وقيل: أراد كل ما خلق الله تعالى لأن جميع الأشياء إما فرد وإما زوج، وقيل: الوتر الله تعالى، وقيل: الوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر، وقيل: أراد الصلاة المكتوبة منها شفع ومنها وتر، وقيل: الشفع آدم وحواء والوتر الله تعالى، وقيل: الشفع علي وفاطمة والوتر محمد، قال الحاكم: والوجه أن يحمل على جميع ما خلق الله { والليل إذا يسر } أي يذهب، وأقسم بهذه لما فيها من العبر، وقيل: أقسم بربها { هل في ذلك قسم لذي حجر } مقنع لذي عقل { ألم تر كيف فعل ربك بعاد } وهم قوم هود { إرم } اختلفوا فيه قيل: هو دمشق، وقيل: هو جد عاد، وقيل: ارم بناها شداد بن عاد وأراد أن يدخلها فأهلكه الله بصيحة من السماء، وقيل: أنه لما سمع بذكر الجنة فقال: أنا أبني مثلها فبنى ارم في بعض صحاري عدن في ثلاثمائة سنة وكان عمره تسعمائة سنة وهي مدينة عظيمة قصورها من الذهب والفضة، وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار، ولما تم بناؤها سار بأهل مملكته، فلما كانوا منها مسيرة يوم وليلة بعث عليهم صيحة فهلكوا، وقيل: ارم بلدهم وأرضهم { التي لم يخلق مثلها في البلاد } قيل: كان طول الرجل منهم أربعمائة ذراع، قال جار الله: وكان يأتي بالصخرة العظيمة فيحملها، أولم يخلق مثل مدينة شداد { وثمود } هم قوم صالح { الذين جابوا الصخر بالواد } قطعوا صخر الجبال واتخذوا فيها بيوتا، وقيل: أول من نحت الجبال والصخر والرخام وبنوا فيها ألفا وسبع مائة مدينة كلها من الحجارة.
[89.10-20]
{ وفرعون } هو فرعون موسى { ذي الأوتاد } ، قيل: ذي الجنود الذين كانوا يشددون أمره، وقيل: يوتد الأوتاد في أيدي الناس وذلك أنه قتل امرأته آسية وماشطة امرأته بالأوتاد { فصب عليهم ربك سوط عذاب } السوط معروف، وقيل: أنه اسم للعذاب الذي نزل لأن عندهم السوط غاية العذاب فهذا مثل { إن ربك لبالمرصاد } يسمع أقوالهم ويرى أفعالهم وأشخاصهم، والمرصاد مفعال من رصده يرصده رصدا فهو راصد، وعن بعض العرب أنه قيل له: أين ربك؟ فقال بالمرصاد { فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه } الآية نزلت في أمية بن خلف امتحنه الله بالنعمة فظن ذلك إكراما وتعظيما ولم يشكر وضاق عليه رزقه فقال: أهانن ربي واستخف بي، يعني أهانه الله، أي عامله معاملة المختبر ليظهر المعلوم منه فأكرمه بالإنعام عليه فيفرح ويسر فيقول: { ربي أكرمن } وأعطاني هذا لمنزلتي عنده فطوربي فجازاه له على عمله { وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه } أي ضيق عليه معيشته { فيقول ربي أهانن } يضيق ذلك عقوبة { كلا } ردع وزجر، أي ليس الأمر كما ظن لأنه تعالى قد يوسع على العصاة ويضيق على المؤمنين بحسب ما يرى من المصلحة، وقيل: كلا تكذيب من الله تعالى لهذا القائل: { بل لا تكرمون } لا تكرمونه بحفظ ماله وابقاء حقه { ولا تحاضون } أي تحثون { على طعام المسكين } أي التصدق عليهم والمسكين الفقير الذي لا شيء له، يعني أعطيناكم المال وأمرنا بأن تعطوا اليتيم والمسكين { وتأكلون التراث } أي الميراث، وقيل: مال اليتامى، وقيل: الذي يأكل ما يجد ولا يميزون الحلال والحرام وألم الجمع { وتحبون المال حبا جما } أي كثيرا شديدا وتجمعونه من غير وجهه.
[89.21-30]
{ كلا } أي لا تفعلوا من أكل الحرام ومنع الحقوق، وقيل: معناه حقا { إذا دكت الأرض دكا دكا } فتصير مستوية وينكسر كل شيء على ظهرها { وجاء ربك } قيل: أمره وقضاؤه ومحاسبته { والملك صفا صفا } أي يصطفون في القيامة للحساب محدقين بالجن والإنس { وجيء يومئذ بجهنم } ، كقوله: { وبرزت الجحيم }
" وروي أنها لما نزلت تغير وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأتى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: " ما الذي غير وجهك؟ " فتلى عليه الآية، فقال له (عليه السلام): " كيف يجاء بها؟ " قال: " يجيء بها سبعون ألف ملك يقودونها بسبعين ألف زمام فتشرد شردة لو تركت أحرقت أهل الجمع "
{ يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى } ومن أين له منفعة الذكرى { يقول يا ليتني قدمت لحياتي } الباقية عملا صالحا ينفعني اليوم { فيومئذ لا يعذب عذابه أحد } الآية نزلت في أمية بن خلف الجمحي { ولا يوثق وثاقه أحد } وهو الوثاق الشديد في السلاسل والأغلال { يأيتها النفس المطمئنة } الآية نزلت في حمزة بن عبد المطلب يوم استشهد في أحد، ومعنى المطمئنة بالمعرفة بالله والإيمان به وبدينه، وقيل: المطمئنة البشارة بالجنة { ارجعي إلى ربك } قيل: يقال لهم بهذا عند البعث، وقيل: عند الموت ارجعي إلى ثوابه وما أعد من النعم { راضية } عن الله بما أعد لها { مرضية } رضي الله عنها ربها { فادخلي في عبادي } قيل: في زمرة عبادي المؤمنين وهذا تشبيه وتعظيم، وقيل: الخطاب للمكلفين أي أدخل في جملة المؤمنين في الدنيا واعمل بعملهم تكن منهم في الآخرة.
[90 - سورة البلد]
[90.1-7]
{ لا أقسم } الله سبحانه بالبلد الحرام وما بعده على أن الإنسان خلق معمورا في مكابدة المشاق والشدائد، وقيل: برب مكة، وبالاتفاق أن البلد مكة { وأنت حل بهذا البلد } حلال لك حين أمر بالقتال يوم الفتح وأحل له فدخلها كرها ولم يحل لأحد بعده، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه خطب وقال:
" إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض إلى أن تقوم القيامة لم تحل لأحد قبلي ولا لأحد بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار "
، وقيل: أقسم بهذا البلد { وأنت حل } أي حال { ووالد وما ولد } قيل: كل والد وما ولد، وقيل: ابراهيم وولده { لقد خلقنا الانسان في كبد } هو جواب القسم في كبد في نصب وشدة، وقيل: مكابدة أمر الدنيا والآخرة، وقيل: يحتاج إلى أن يكابد العيش وأمر الدنيا ويكابد ما أمر به من أمر الطاعة واجتناب المعصية ويكابد الشكر على النعم والصبر على المحن، وروي عن ابن عباس: ليس شيء من خلق الله يكابد الانسان في أموره وحياته ومعيشته ما يكابد مع ما يصير إليه من أمور الآخرة { أيحسب أن لن يقدر عليه أحد } على إعادته بعد موته ومجازاته على أعماله { يقول أهلكت مالا لبدا } يعني مالا جما في معصية الله ندما وتحسرا، وقيل: يقول ذلك على سبيل الافتخار { أيحسب أن لم يره أحد } يطالبه.
[90.8-20]
{ ألم نجعل له عينين } يبصر بهما { ولسانا وشفتين } بهما يتكلم { وهديناه النجدين } الطريقين قيل: طريق الخير والشر، وقيل: أرشدناه الثديين { فلا اقتحم العقبة } يعني فلم تشكر تلك الأيدي والنعم بالأعمال الصالحة من فك الرقاب واطعام اليتامى والمساكين ثم بالايمان الذي هو أصل كل طاعة وأساس كل خير، والاقتحام الدخول، وعن الحسن: عقبة شديدة مجاهدة الانسان نفسه وهواه وعداوة الشيطان، وفك الرقبة تخليصها من رق أو غيره، يعني هلا عرف الانسان ما أنعم الله عليه وآمن به وعمل الصالحات وفك الرقبة إلى غير ذلك ليحصل الثواب، والعقبة هذه الأشياء، واقتحامها مجاوزته فعلها { أو إطعام في يوم ذي مسغبة } أي مجاعة { يتيما } الذي مات أبواه { ذا مقربة } أي ذا قرابة { أو مسكينا ذا متربة } أي مطروح في التراب لا يواريه شيء عن الأرض، يعني لا شيء له، وقيل: المتربة شدة الحاجة، وقيل: ذا متربة قد لصق بالتراب من الفقر فليس له ما يقي نفسه من التراب { ثم كان } مع ذلك { من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر } وصى بعضهم بعضا بالصبر على الطاعة وعن المعصية { وتواصوا بالمرحمة } أي بالرحمة على المؤمنين من أهل الحاجة والقرابة والمظلومين { أولئك أصحاب الميمنة } الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، وقيل: يؤخذ بهم ناحية اليمين { والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة } قيل: يأخذون كتبهم بشمائلهم ويؤخذ بهم ذات الشمال، وقيل: أهل الشؤم { عليهم نار مؤصدة } مطبقة، وقيل: مغلق أبوابها.
[91 - سورة الشمس]
[91.1-15]
أقسم بالشمس لما فيها من الدلائل والنعمة، وقيل: فيه إضمار أي برب { الشمس وضحاها } قيل: ضحوها، وقيل: هو النهار { والليل إذا يغشاها } أي يغطي الشمس حين الغروب فيسترها عن أعين الناظرين وتظلم الأفاق ولا يجوز أن يرجع إلى النهار لأنه لا يؤنث { والسماء وما بناها } أي وبانيها يعني خلقها ورفعها وأمسكها، وقيل: زين بناءها { والأرض وما طحاها } أي ومن سطحها وبسطها { ونفس وما سواها } تسويتها بأن عدل خلقها وأعضاءها، وقيل: { ونفس وما سواها } الله { والسماء وما بناها } الله، قيل: أقسم الله بالسماء ومن بناها والأرض ومن دحاها والنفس وما سواها { فألهمها فجورها وتقواها } أي بين لها الخير والشر وعرفها الفجور والتقوى { قد أفلح } هذا جواب القسم وتقديره { لقد أفلح من زكاها } قيل: طهرها بأعمال الطاعة وتجنب المعاصي، وقيل: زكى نفسه بعمل صالح { وقد خاب } خسر { من دساها } أو دسى نفسه بالمعاصي، وقيل: قد أفلح من زكاها برفع الهمة وقد خاب من دساها بوضع الهمة، روي ذلك عن زيد بن علي (عليهما السلام) { كذبت ثمود بطغواها } مجاوزتها للحد في العصيان { إذ انبعث } قام أشدها شقاوة قدار بن سالف عاقر الناقة وكان رجلا أشعر أزرق قصيرا، ومعنى { أشقاها } أي أشقى تلك القبيلة لأنه لولا عقرها فا هلك نفسه وقبيله { فقال لهم رسول الله } صالح حين بلغه أنهم قصدوا عقرها: لا تفعلوا { ناقة الله } وإنما أضاف الناقة إلى الله لأنه خلقها من غير واسطة دلالة على توحيده ومعجزة لنبيه { وسقياها } أي احذروا أن تمنعوا سقياها، أي نصيبها من الماء، وكان لها شرب ولهم شرب { فكذبوه } أي كذبوا صالحا فيما أوعدهم به { فعقروها } { فدمدم عليهم ربهم } ، قيل: دمهم وأهلكهم وأنزل بهم العذاب، وقيل: الدمدمة هي الصيحة الشديدة، وقيل: صاح بهم جبريل { بذنبهم } أي فعل بهم ذلك لأجل ذنبهم وهو تكذيب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) { فسواها } قيل: سوى الدمدمة عليهم وعمهم بها، ف { لا يخاف عقباها } قيل: لا يخاف الله تبعة الدمدمة أي بما فعل بهم ذلك ولم يخف جزاء وعاقبة أو في الهلاك ولا يخاف عقبى هلاكها.
[92 - سورة الليل]
[92.1-7]
{ والليل إذا يغشى } قيل: قسم، ومعنى يغشى يغطي كل شيء بظلمته ويزيل الضياء، وقيل: يغشى النهار فيذهب ضوؤه { والنهار إذا تجلى } قيل: جلى الليل فأذهب ظلمته، وقيل: أنار وأضاء وتجلى للخلق بنوره { وما خلق الذكر والأنثى } قيل: والذي خلق الذكر والأنثى، والمراد كل ذكر وأنثى خلقها الله تعالى أراد آدم وحواء { إن سعيكم } هذا جواب القسم أي عملكم أيها المكلفون متفرق فساع في فكاك رقبته وساع في هلاكه، وقيل: منهم من سعى للدنيا ومنهم سعى للعقبى، وقيل: مذاهبكم متفرقة { فأما من أعطى واتقى } قيل: أعطي حق الله واتقى معاصي الله، وقيل: من أعطى ماله في سبيل الله واتقى ربه { وصدق بالحسنى } بالخلق، وقيل: بالخير { فسنيسره لليسرى } قيل: نسهل عليه دخول اليسرى وهي الجنة، وقد اختلفوا في سبب نزول الآية قيل: نزلت في أبي بكر، وقيل: نزلت في رجل من الأنصار، وقيل: هو عام في جميع من كان بهذه الصفة فمن قال: أنها نزلت في رجل من الأنصار يقال له: أبو الدحداح كان لجار له نخلة وكان يساقط منها في دار أبي الدحداح فشكا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" بعنيها بنخلة في الجنة "
فقال: لا، فلما خرج لقيه الأنصاري أعني أبا الدحداح بنخلة له، ثم باعها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنخل في الجنة، فانطلق أبو الدحداح حتى أتى أم الدحداح وهي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل فأنشأ يقول:
هداك ربي سبيل الرشاد
إلى سبيل الخير والسداد
بيني من الحائط بالأولاد
فقد مضى قرصا إلى التناد
اقرضه الله على اعتماد
بالطوع لا من ولا أنكاد
إلا رجاء الضعف في المعاد
فارتحلي بالنفس والأولاد
قالت أم الدحداح: ربحت بيعتك بارك الله لك وفيك، وأجابته وأنشدت تقول:
بشرك الله بخير وفرح
مثلك أدى ما لديه ونصح
ان لك الحظ إذا الحق وضح
والعبد يسعى وله ما قد كدح
طول الليالي وعليه ما اجترح
ثم أقبلت على الصبيان تخرج ما في أفواههم وتنفض ما في أكمامهم، فذكر ان هذا الرجل طلع إلى أعلى الحائط ليطلع على نخله فتردى منها فذلك قوله تعالى:
وما يغني عنه ماله إذا تردى
[الليل: 11].
[92.8-21]
{ وأما من بخل } قيل: بخل بالحقوق { واستغنى } بشهوات الدنيا وجمعها، وقيل: بخل وطاب الغنى بالبخل { وكذب بالحسنى } قيل: بالجنة والثواب، وقيل: بالخلف { فسنيسره للعسرى } أي نسهل لثاني حال العسر وهو العذاب، وقيل: ندخله جهنم { وما يغني عنه ماله إذا تردى } لا ينفعه ماله إذا هلك يريد الموت، أو تردى في الحفرة إذا قبر، أو تردى في قعر جهنم { إن علينا للهدى } أي الإرشاد إلى الحق واجب علينا بنصب الدلائل وبيان الشرائع { وإن لنا للآخرة والأولى } أي ثواب الدارين للهدى كقوله:
وآتيناه أجره في الدنيا وأنه في الآخرة لمن الصالحين
[العنكبوت: 27] { فأنذرتكم نارا تلظى } { لا يصلاها } لا يدخلها { إلا الأشقى } أي هي موضوعة، وقيل: هم العصاة الذين كذبوا الله ورسوله { وسيجنبها } أي يبعد منها { الأتقى } التقي { الذي يؤتى ماله } أي يتصدق ويؤدي الواجب { وما لأحد عنده من نعمة تجزى } يعني لا يتصدق وفعل ما فعل للجزاء ولا لعوض { إلا ابتغاء } أي طلب { وجه ربه } أي رضى ربه { الأعلى } أي بالاصرار الذي يقهر كل شيء { ولسوف يرضى } أي سوف يعطيه الله من الآخرة حتى يرضى.
[93 - سورة الضحى]
[93.1-5]
{ والضحى } ، قيل: هو صدر النهار عند ارتفاع الشمس، وقيل: النهار كله، وقيل: إنما خص الضحى بالقسم لأنها الساعة التي كلم الله فيها موسى وألقي فيها السحرة سجدا لقوله:
وأن يحشر الناس ضحى
[طه: 59] { والليل إذا سجى } أقبل بظلامه حتى غشى كل شيء { ما ودعك } هذا جواب القسم قيل: ما قطع الوحي عنك، وعن أبي علي: { وما قلا } أي ما قلاك، وقيل: ما وقع شيء يوجب البغض ولا يجوز على الله أن يبغض أحدا من أنبيائه (عليهم السلام) { وللآخرة خير لك من الأولى } أي ما أعد لك من الثواب الدائم والرفعة في دار الآخرة خير لك من الدنيا لأنها تنقطع، وقيل: منزلة الشفاعة، وقيل: له في الجنة ألف ألف قصر من اللؤلؤ ترابه المسك { ولسوف يعطيك ربك فترضى } قيل: هذا في الدنيا أي يعطيك من النصر على أعدائك التمكين في البلاد وتتابع الفتوح وإظهار الدين ما ترضى، وقيل: هو في الآخرة، قيل: هو مقام الشفاعة يعطيه فيرضى بذلك، وعن الصادق (رضي الله عنه): " انه لا يدخل النار موحد " وعن ابن عباس (رضي الله عنه): إنه لا يدخل أحد من أهل بيته النار، وعن علي (عليه السلام): " أرجى آية في كتاب الله هذه الآية وهي آية الشفاعة ".
[93.6-11]
{ ألم يجدك يتيما فآوى } أي مات أبواه وهو صبي ولم يخلفا مالا ولا مأوى فأواه الله حتى جيء به إلى أبي طالب كان أحب اليه من أولاده ورباه، وقيل: مات أبوه وهو في بطن أمه، وقيل: بعد الولادة بمدة، وقيل: ماتت وهو صغير، ومات عبد المطلب وكان يتولى تربيته وهو ابن ثمان سنين فسلمه إلى أبي طالب، فمتى قيل: ما السبب بيتمه؟ قيل: لئلا يكون عليه حق للمخلوق عن جعفر بن محمد { ووجدك ضالا فهدى } قيل: ضالا عما أنت عليه من الوحي والنبوة ومعالم الشريعة والأحكام فهداك إلى ذلك، وهذا لا يكن معصية لأن الله تعالى لم يكن أتاه ذلك، ونظيره:
ما كنت تدري ما الكتاب
[الشورى: 52] وقيل: ضالا في شعاب مكة فرده أبو جهل إلى جده فمن الله عليه حتى رده إلى جده على يد عدوه، وقيل: بعث به جده عبد المطلب في طلب إبل فاحتبس عنه وهو صبي فدعا الله وطاف بالبيت فجاء مع الابل وقال: يا بني حزنت عليك حزنا لا تفارقني أبدا، وقيل: لما أرضعته حليمة بنت أبي ذؤيب وأرادت رده على جده جاءت به حتى قربت من مكة فضل في الطريق فطلبته وجزعت عليه وقالت: إن لم أره لأرمين بنفسي من شاهق، وجعلت تصيح وصاح الناس بصيحتها، قالت: فدخلت مكة على تلك الحال فأتيت شيخا متكئا على عصاه فسألني حالي فأخبرته، قال: لا تبكي أدلك على من يرده عليك هبل الصنم الأعظم، ودخل البيت وطاف بهبل وقبل رأسه وقال: يا سيداه رد محمدا على هذه السعدية، قالت: فتساقطت الأصنام لما تفوه بإسم محمد وسمع صوتا يقول إنما هلاكنا على يدي محمد، فخرج وأسنانه تصطك، وخرجت إلى عبد المطلب وأخبرته فطاف بالبيت ودعا فهدي بمكانه، فذهب عبد المطلب وجاء به.... في حديث طويل { ووجدك عائلا فأغنى } أي فقيرا فأغناك قيل: بمال خديجة، وقيل: بالغنائم، وقيل: بالقناعة، وبالعلم، وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" من لم يغنه القرآن فلا أغناه الله ومن لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله "
{ فأما اليتيم فلا تقهر } حتى تذهب ماله، يعني لا تغلبه على ماله وحقه لضعفه، وعن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:
" كافل اليتيم له أو لغيره أنا وهو كهاتين في الجنة "
وأشار إلى السبابة والوسطى، وعنه:
" إذا بكى اليتيم اهتز العرش "
{ وأما السائل فلا تنهر } أي من سألك شيئا من مالك أعطه الشيء أو رده بالجميل، وقال: أراد بالسائل طالب العلم وأمره بالاحسان { وأما بنعمة ربك فحدث } قيل: بنعمة ربك في الدين والدنيا فاشكره وحدث به، وقيل: حدث نفسك في كل وقت فاشكره شكرا متجددا.
[94 - سورة الشرح]
[94.1-8]
{ ألم نشرح لك صدرك } فتحه باذهاب الشواغل، وأصل الشرح الوسعة، يعني ألم نفتح ونوسع قلبك بالنبوة والعمل، وقيل: هو الألطاف التي ترد عليه من الله { ووضعنا عنك وزرك } { الذي أنقض ظهرك } قيل: دينك، وقيل: أزلنا عنك همومك التي تقلب عليك من أذى الكفار بأن نصرناك عليهم { الذي أنقض ظهرك } قيل: أثقل { ورفعنا لك ذكرك } فإني لا أذكر إلا وذكرت كقوله: لا إله إلا الله محمد رسول الله { إن مع العسر يسرا } قيل: كان المشركون يعيرون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمؤمنين بالفقر والضيقة فنزل: { إن مع العسر يسرا } فلا تيأس من فضل الله عز وجل، ويحتمل أن تكون الجملة تكرارا للأولى كما كرر قوله:
ويل يومئذ للمكذبين
[المرسلات: 15] قيل: مع عسر الدنيا يسر الآخرة وهو الجنة والجزاء { فإذا فرغت } من صلاتك فاجتهد بالدعاء، وعن الحسن: إذا فرغت من الغزو فاجتهد في العبادة، وعن مجاهد: فإذا فرغت من دنياك { فانصب } في صلاتك { وإلى ربك فارغب } واجعل رغبتك إليه خصوصا ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه، وقرأ فرغب الناس في طلب ما عنده.
[95 - سورة التين]
[95.1-8]
وقوله: { والتين والزيتون } أقسم بهما لأنهما عجيبان من بين الأصناف المثمرة،
" روي أنه أهدي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) طبق من تين فأكل منه وقال لأصحابه: " كلوا فلو قلت أن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذا لأن فاكهة الجنة بلا حجم فكلوها فإنها تقطع البواسير "
وعن ابن عباس: هو تينكم وزيتونكم هذا، وقيل: جبلان من الأرض المقدسة، وقيل: هما مسجدان بالشام، وقيل: التين المسجد الحرام والزيتون المسجد الأقصى، والظاهر ما قدمنا أولا { وطور سينين } والطور الجبل الذي كلم الله عليه موسى { سينين } اسم لذلك الجبل، وقيل: سينين اسم لجنس لأنه كثير النبات والشجر، وقيل: سينين مبارك { لقد خلقنا الانسان } هذا جواب القسم أنه خلق الانسان { في أحسن تقويم } ، قيل: في أحسن صورة { ثم رددناه أسفل سافلين } إلى الهرم وأراد العمر، وقيل: إلى النار { إلا الذين آمنوا } استثناء متصل إذا حمل ما قبله على النار، فإن حملته على الهرم فالاستثناء منقطع، وقيل: متصل والمعنى يكتب لهم رواتبهم وان انقطعت أعمالهم { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } فتكتب لهم في حال هرمهم مثل ما كانوا يعملون، وقيل: إلى بمعنى لكن قال الحاكم: وهو الوجه، فإنهم يبقون أقوياء شبابا في الجنة { فما يكذبك بعد } أي شيء، وقيل: ما بمعنى من والمخاطب هو الإنسان، وقيل: هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) { بالدين } قيل: بالجزاء والحساب { أليس الله بأحكم الحاكمين } صنعا وتدبيرا.
[96 - سورة العلق]
[96.1-8]
{ إقرأ باسم ربك } أي اقرأ مفتتحا باسم ربك قل: بسم الله ثم اقرأ، فأمره بالابتداء بذكره ثم بالقرآن { الذي خلق } { خلق الانسان } ويتناول كل مخلوق لأنه مطلق، وقوله: { خلق الانسان } تخصيص للانسان بالذكر مرتين ما يتناوله الخلق لأن التنزيل اليه وهو أشرف ما على الأرض { من علق } وهو الدم الجامد الذي تستحيل النطفة اليه في الرحم وقوله: { اقرأ } كرر للتأكيد، وقيل: في الأول اسمه وفي الثاني القرآن، وقيل: الأول بالقراءة نفسها وفي الثانية بالقراءة للتبليغ { وربك الأكرم } لا أحد أكرم منه لأن فعله إكرام وإحسان { الذي علم بالقلم } أي علم الخط والكتابة الذي فيه النفع العظيم فيما يتعلق بالدين والدنيا { علم الإنسان ما لم يعلم } قدر على أن كرمه أنه علم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ونبه على فضل الكتابة لما فيها من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ولا ضبطت أخبار الأول ومقالاتهم ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي لما استقامت أمور الدين ولا الدنيا، وقيل: علم آدم الأسماء ثم صار ذلك في أولاده، والإنسان آدم، وقيل: هو عام { كلا } ، قيل: ردع وزجر لا يعص مع هذه النعم، وقيل: حقا { إن الانسان ليطغى } ليتجاوز إلى منزله في طعامه ولباسه، وقيل: لحرصه على المال والدنيا وجمعها { أن رآه استغنى } يعني إن رأى لنفسه غناء ومالا ودينا، وقيل: الرؤيا بمعنى الظن أي يظن نفسه غنيا { إن إلى ربك } أي الموضع الذي يحكم فيه بين العباد { الرجعى }.
[96.9-19]
{ أرأيت الذي ينهى } الآية نزلت في أبي جهل لما نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الصلاة وقال أبو جهل لقومه: يعفر محمد وجهه بين أظهركم، قالوا: نعم، قال لئن فعل ذلك لأطأن عنقه، قالوا: هو ذلك يصلي، فانطلق ثم ارتد هاربا قالوا له: ما لك؟ قال: ان بيني وبينه خندقا من نار فنزلت: { أرأيت الذي ينهى } { أرأيت إن كان على الهدى } { أو أمر بالتقوى } يريد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن كونه على الهدى والدعاء إلى التقوى يليق، وقيل: بل هو عام في كل مصلي { أرأيت } يا محمد { إن كذب } الله ورسوله { وتولى } أعرض عن القبول ما يكون حاله في تكذيب المحق أليس قد أهلك نفسه { ألم يعلم بأن الله يرى } ما يأتي هذا المكذب { كلا } ردع وزجر لهذا المكذب { لئن لم ينته } أي يمتنع عن هذا الفعل { لنسفعا بالناصية } لنجذبنه بناصيته إلى النار { كاذبة خاطئة } وصفها بالكذب والخطأ { فليدع ناديه } والنادي المجلس الذي يجتمعون فيه القوم والمراد أهل النادي، وروي أن أبا جهل مر برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ألم أنهك؟ فأغلظ له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: أتهددني وأنا أكبر أهل الوادي ناديا؟ فنزلت: { فليدع ناديه سندع الزبانية } وهم ملائكة العذاب، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
" لو دعا ناديه لأخذته الزبانية عنا "
{ كلا } ردع لأبي جهل { لا تطعه واسجد } أي أثبت على ما أنت عليه من عصيانه كقوله:
فلا تطع المكذبين
[القلم: 8] لا تطعه دم على السجود يريد الصلاة { واقترب } وتقرب إلى ربك، وفي الحديث:
" أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد ".
[97 - سورة القدر]
[97.1-5]
{ إنا أنزلناه } السورة يعني القرآن { في ليلة القدر } فيه أقوال: أولها أنزلنا القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نجوما، وقيل: كان أنزل في كل سنة في ليلة القدر إلى سماء الدنيا ما يريد إنزاله في كل سنة ثم كذلك في كل سنة عن أبي علي { وما أدراك ما ليلة القدر } تفخيما وتعظيما، والكلام فيه يقع من وجوه: أولها لم سميت ليلة القدر؟ قيل: هي ليلة الحكم وتقدير الاستثناء في كل سنة { من كل أمر } من قولهم: قدر الله الشيء قدرا وقدره تقديرا، يعني قالوا: وهي الليلة المباركة
فيها يفرق كل أمر حكيم
[الدخان: 4] وسميت مباركة لانه تعالى ينزل فيها الخير والبركة، وقيل: ليلة القدر ليلة الشرف وعظم الشأن من قولهم : رجل له قدر عند الناس أي منزلة، وقيل: لأن أعمال المؤمنين فيها يكون ذا قدر، وقيل: لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر الى رسول ذا قدر، وثانيها أي وقت يكون؟ ذهب جمهور العلماء أنها ثابتة إلى يوم القيامة،
" وعن ابي ذر قال: قلت: يا رسول الله ليلة القدر تكون على عهد الأنبياء؟ قال: " لا بل هي الى يوم القيامة "
وقال بعضهم: بل هي في السنة كلها، وقيل: هي في شهر رمضان وعليه الأكثر والمروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو قول جماعة العلماء، ثم في أي ليلة؟ قيل: أول ليلة، وقيل: ليلة تسع عشرة وهي التي كانت وقعة بدر صبحها، وقيل: هي في العشر الأواخر، والمروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):
" التمسوها في العشر الأواخر "
ثم اختلفوا قيل: ليلة الحادي والعشرين، وقيل: ليلة الثالث أو ليلة الرابع، وقيل: ليلة الخامس أو التاسعة أو السابعة، وقيل: هي ليلة السابع والعشرون، وعن علي (عليه السلام) وأبي بن كعب وابن عباس (عليهما السلام) وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:
" ليلة القدر ليلة سبع وعشرين "
وعنه انه قال:
" من كان متحريا فليتحراها ليلة سبع وعشرين "
وقيل: كان ملك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فمن أحيى ليلة القدر فهو خير من ملك سليمان وملك ذي القرنين، وقيل: { ليلة القدر خير من ألف شهر } ملك بني أمية وكان ملكهم ألف شهر، وعن الحسن بن علي (عليهما السلام) وقيل: ليلة لهذه الأمة خير من ألف شهر للأمم الماضية { تنزل الملائكة } الى السماء، وقيل: الى الأرض باذن الله في تلك الليلة لفضلها، وقيل: يسمعون النبأ على الله وقراءة القرآن، وقيل: ينزلون الى سماء الدنيا بما قدر الله لأهل الأرض لتقف عليه ملائكة السماء { والروح } وعليه أكثر المفسرين، وقيل: خلق لا تراهم الملائكة إلا تلك الليلة، وقيل: ملك عظيم، وقيل: القرآن { فيها } أي في ليلة القدر { بإذن ربهم } ينزلون من السماء { من كل أمر } سلام قدره الله وقضاه الى تلك الليلة الى قابل، وقوله: { سلام هي } ما هي إلا سلامة، أي لا يقدر الله فيها إلا السلامة والخير ويقضي في غيرها بلاء وسلام، وقيل: ينزل الملائكة بكل أمر قدره الله تعالى من السلامة والخير، وقيل: جرت العادة بانزال الملائكة باهلاك القرى فقال تعالى: " ينزلون بكل أمر سلام " أي سلامة الناس فيها، وقيل: هي تسليم الملائكة على أهل المساجد في هذه الليلة من حين تغيب الشمس الى ان { مطلع الفجر } وقد تم الكلام عند قوله: { من كل أمر } ثم ابتدأ فقال: { سلام } أي ليلة القدر سلامة وخير كلها، وقيل: هي سلامة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها شيئا، وقيل: هي اشارة إلى السلامة والرحمة.
[98 - سورة البينة]
[98.1-8]
" ومن قرأ سورة { لم يكن } كان يوم القيامة مع خير البرية مساء ومقيلا " عن أبي الدرداء عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال:
" لو يعلم الناس ما في هذه السورة { لم يكن الذين كفروا } لعطلوا الأهل والمال وتعلموها ".
كان الكفار من الفريقين أهل الكتاب وعبدة الأوثان يقولون قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تنفك عما نحن عليه من ديننا ولا نتركه حتى يبعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الموعود الذي هو مكتوب في التوراة والانجيل وهو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فحكى الله تعالى ما كانوا يقولون ثم قال: { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } يعني أنهم كانوا يعدون اجتماع الكلمة والاتفاق على الحق إذ جاءهم الرسول طوبى مما فرقهم عن الحق ولا أقرهم على الكفر الا في الرسول، وهو محمد سماه نبيا لما معه من البينات نحو القرآن وسائر المعجزات، ثم فسر البينة فقال: { رسول من الله } متعلقا { يتلو } عليهم { صحفا } جمع صحيفة، وقيل: الصحف المطهرة في السماء، وقيل: هو القرآن لأنه مثبت في اللوح المحفوظ { فيها كتب قيمة } أي عادلة، وقيل: مستقيمة { وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } ثم تفرقوا في الدين، ولم يختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم الحجة، وقيل : كانوا مجتمعين على نبوة محمد فلما بعث محمدا تفرقوا من بعضهم وكفر بعضهم { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء } مايلين عن جميع الأديان إلى دين الإسلام، وقيل: مستقيمين { ويقيموا الصلاة } ويديمونها بأركانها { ويؤتوا الزكاة } المفروضة { وذلك } يعني ما ذكر { دين القيمة } ذلك الدين المستقيم { إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين } عطف المشركين على الذين كفروا { في نار جهنم خالدين فيها } أي دائمين { أولئك هم شر البرية } أي شر الخلق { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } أي خير الخليقة { جزآؤهم عند ربهم جنات عدن } اقامة { تجري من تحتها الأنهار } أي من تحت أبنيتها وأشجارها { خالدين فيها أبدا } أي دائمين لا ينقطع { رضي الله عنهم } بما قدموا من الطاعات وقيل: رضي أعمالهم ورضوا بما جازاهم من النعم والثواب، وقيل: رضي الله عنهم حيث وحدوه ونزهوه عن القبائح وأطاعوه { ورضوا عنه } حيث فعل لهم ما رجوا من فضله وخيره { ذلك لمن خشي ربه } عقابه فأطاعه.
[99 - سورة الزلزلة]
[99.1-5]
وقوله: { إذا زلزلت الأرض } حركت حركة شديدة واضطربت، وقيل: تزلزلت ووجفت، والزلزلة شدة الاضطراب، وكانوا يسألون عن القيامة فذكر الله أشراطها وأعلامها، وقيل: { زلزالها } انما يكون عند تفرطها { وأخرجت الأرض أثقالها } قيل: الموتى المدفونون فيها يخرجون أحياء للجزاء والثقل الحمل، وقيل: كنوزها ومعادنها فتلقيها على ظهرها لأهل الموقف، والفائدة فيه وجوه: منها أن العاصي والظالم يتحسر بالنظر اليها إذا عصى الله فيها ثم رآها لا يغني عنه شيئا، ومنها أنه تكوى بها جباههم وظهورهم ومنها أن الله يعيرهم بها فيقول لهم: بهذا عصيتموني ولي ميراثها { وقال الانسان مالها } { يومئذ تحدث أخبارها } قيل: فيه تقديم وتأخير أي تحدث أخبارها فيقول الانسان: مالها؟ وقيل: يقول الانسان: ما لها حين تخبر بأحوالها، وقوله: { مالها } أي ما للأرض تزلزلت متعجبا، أي ما لها حدثت فيها ما لم يعرف، وقيل: ما لها تشهد قالها كناية عن الأرض { يومئذ تحدث أخبارها } أي أخبار الأرض وما كان عليها ومن عصى، وقيل: بما عملوا الناس عليها من خير وشر فتقول: المؤمن وحد وصام، وتقول: الكافر أشر وعصى، وتشهد كما شهد الملائكة والجوارح، ومتى قيل: وما الفائدة في ذلك؟ قلنا: وجوه: خزي الكافر وسرور المؤمن، ومنها إيلاء العذر ككلام الجوارح ليعلم أنه أتى من قبل نفسه وان الله ليس بظلام للعبيد، ومنها أنه لطف للمكلف اذا تصور تلك الحالة صرفه عن العصيان، ومتى قيل: تكلم الأرض؟ قلنا: فيه وجهان: اما أن يخلق فيها الكلام فكيون الله مجوبه واضافة الى الأرض مجاز وهو في باب القرآن واسع، والثاني أن يصورها حيوانا تكلم وتكون حجة على الخلق، ذكر الوجهين أبو علي، ورواه الحاكم، وعن ابن مسعود: انما تكلم يومئذ فتقول: الله أمرني بهذا، وهذا أقرب الى الظاهر.
[99.6-8]
{ يومئذ يصدر الناس أشتاتا } يتفرقون عن قبورهم الى الحساب قيل: أشتاتا كل قوم على دين ومذهب، فيردون زمرة زمرة كل زمرة يقدمها امامها، وقيل: يتفرقون عن موضع الحساب الى موضع الجزاء، أشتاتا متفرقين فأخذ ذات اليمين الى الجنة وأخذ ذات اليسار الى النار { ليروا أعمالهم } قيل: يروا جزاء أعمالهم، وقيل: يروا صحائف أعمالهم، قال ابن عباس: ليس مؤمن ولا كافر إلا أراه الله عمله، فأما المؤمن فيريه حسناته وسيئاته فيغفر له سيئاته، والثاني تحبط حسناته { فمن يعمل مثقال ذرة } قيل: النملة الصغيرة، وروي عن ابن عباس انه قال: مائة نملة وزن حسنة { خيرا يره } أي يجد جزاء ما عمل من الخير وإن قل { ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } واختلفوا في هذه الآية قال ابو علي (رحمه الله): حمله على الرؤية على الجزاء لأن المؤمن والتائب يرى السيئات مكفرة ويثاب على الحسنات من غير تخسير، والكافر يرى حسناته محبطة، وقال أبو هاشم: يجازى على جميع أفعاله لا يضع شيئا فان كان مؤمنا يجازى على حسناته وان كان كافرا يعاقب على ذنوبه.
[100 - سورة العاديات]
[100.1-5]
{ والعاديات ضبحا } العاديات خيل الغزاة، وقيل: الخيل تعدو في سبيل الله عن ابن عباس وأبي علي، وعن أمير المؤمنين علي (عليه السلام): " هي الابل تعدو في سبيل الله " وقيل: هي ابل الحاج تعدو من عرفة الى مزدلفة الى منى، والخيل أظهر بظاهر التلاوة، وقال ابن عباس: ليس شيء من الدواب تضبح غير الفرس، وقيل: هو صوت أحرف الخيل، من شدة العدو، وقيل: الحمحمة { فالموريات قدحا } يعني الخيل يخرج من سنابكها النار، وقال:
نكحت سنابكها الصفا فتولدت
بين السنابك والصفا النار
وقيل: أمكار الرجال رواه الحاكم ورواه صاحب الغرائب والعجائب { فالمغيرات صبحا } والغارة سرعة السير قيل: هي الخيل، وانما قال صبحا لأنهم كانوا يسرون الى العدو ليلا ويأتونهم صبحا { فأثرن به نقعا } أي هيجن الغبار الحوافر من الأرض أو النقع العياط { فوسطن به جمعا } أي تخللن في وسطهم، والجمع جمع العدو، وقيل: جمع الفريقين، وقيل: جمع المزدلفة ومنى.
[100.6-11]
{ إن الإنسان لربه } هذا جواب القسم { لكنود } قيل: لكفور أي جحود لنعم الله، وقيل: هو الذي يأكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده، وبلسان بني مالك البخيل { وإنه على ذلك لشهيد } قيل: الله شاهد عليه بأنه كنود، والهاء كناية عن اسم الله تعالى، وقيل: الهاء راجعة الى الانسان أي هو شاهد على نفسه بما صنع، وقيل: أفعاله شاهدة على ما في قلبه من الرضى والسخط، وقيل: تنطق جوارحه { وإنه لحب الخير لشديد } الخير المال وتقديره لشديد لحب الخير { أفلا يعلم } يعني الانسان { إذا بعثر ما في القبور } أي أخرج ما فيها من الأموات { وحصل ما في الصدور } أي جمع وأبرز ما فيها من خير أو شر، وقيل: أظهر ما فيها { إن ربهم بهم يومئذ لخبير } لعالم بهم فيجازيهم على أعمالهم.
[101 - سورة القارعة]
[101.1-11]
{ القارعة ما القارعة } قيل: في الكلام حذف وتقديره ستأتيكم القارعة فاحذروها، وقيل: القارعة والواقعة والحاقة والقيامة أسماء من أسماء القيامة، وقيل: القارعة أهوال القيامة لأنها تقرع القلوب { وما أدراك ما القارعة } يعني أي شيء هي؟ تفخيما لشأنها { يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } قيل: كالجراد الذي يتفرش ويركب بعضه بعضا، وقيل: هو الطير الذي يتساقط في النار، والسراح المبثوث المتفرق، يعني إذا خرجوا من قبورهم انتشروا متحيرين لما نالهم من الأهوال، والتشبيه بالجراد قيل: لضعفهم، وقيل: لتفرقهم، وقيل: لكثرتهم { وتكون الجبال كالعهن المنفوش } كالصوف المصبوغ المندوف لأنها تزول عن أماكنها وتصير كلا شيء { فأما من ثقلت موازينه } في الميزان قولان: قيل: هي على جهة المثل، وقيل: هو العدم، وقيل: له كفتان كموازين الدنيا عن الحسن واكثر العلم، واختلفوا هؤلاء ما الذي يوزن قيل: الصحف، وقيل: يظهر نور وظلمة علامة الخير والشر { فهو في عيشة راضية } أي مرضية في الجنة { وأما من خفت } من الخيرات { موازينه } { فأمه هاوية } قيل: أمه جهنم لأنه يأوي اليها كما يأوي الولد الى أمه، وقيل: يهوى على أم رأسه في النار أي يطرح فيها، وقيل: النار أولى به من أمه { وما أدراك ماهيه } يعني ما الهاوية؟ ثم فسر فقال: { نار حامية } شديدة الحر.
[102 - سورة التكاثر]
[102.1-8]
النزول: وروي ان سورة { الهاكم } نزلت في حيين من قريش بني عبد مناف، وبني سهم، تفاخروا أيهم أكثر عددا، فكثرهم بنو عبد مناف فقالت بنو سهم: ان البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالاحياء والأموات فكثرهم بنو سهم، والمعنى أنكم تكاثرتم بالاحياء حتى اذا استوعبتم عددهم صرتم الى المقابر فتكاثرتم بالأموات، وقيل: كانوا يزورون المقابر فيقولون: هذا قبر فلان وهذا قبر فلان عند تفاخرهم.
والمعنى: { ألهاكم } ذلك وهو مما لا يعنيكم في دنياكم وآخرتكم، أو أراد { ألهاكم التكاثر } بالأموات والأولاد أنى متم وقبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا والاشتياق اليها والتهالك عليها، أي الى أن أتاكم الموت لا هم لكم غيرها، وقيل: نزلت في فخذ من الانصار، وقيل: نزلت في اليهود، ومعنى ألهاكم: شغلكم التكاثر في الدنيا والحرص على جمعكم عما أمركم ربكم حتى متم وصرتم من أهل المقابر، وقيل: حتى متم على ذلك ولم تتوبوا، وقيل: { حتى زرتم المقابر } فقد زرتم المقابر والأموات { كلا } ردع وزجر، أي تقولوا ذلك، وأراد ازدجروا واشتغلوا بما أمركم الله وقيل: معناه حقا أنكم ستعلمون أن الأمر بخلاف ما ظننتم { سوف تعلمون } وعيد لهم أي عن قريب تعلمون ما وعدتم، وقيل: تعلمون بطلان ما قلتم وما أنتم عليه { ثم كلا سوف تعلمون } قيل: ستعلمون في القبر ثم ستعلمون في الحشر بعد البعث، وعن علي: " ما زلنا نسأل عن عذاب القبر حتى نزلت الهاكم " قيل: { كلا سوف تعلمون } إذا رأيتم منازل الأبرار { ثم كلا سوف تعلمون } إذا رأيتم دار الفجار، وقيل: كرر تأكيدا ووعيدا، وقيل: تعلمون عند الناس ثم تعلمون في المحشر { كلا } ردع وزجر، وقيل: هو تأكيد في الوعيد، والعرب تؤكد بكلا وحقا، وقيل: هو قسم { لو تعلمون علم اليقين } أي علما يقينا { لترون الجحيم } يعني القيامة { ثم لترونها عين اليقين } بالمشاهدة إذا دخلوها وعذبوا بها { ثم لتسألن يومئذ } أي يوم القيامة { عن النعيم } يعني عن النعم التي كنتم فيها في الدنيا، قيل: عن جميع أجناس النعم دينا ودنيا كيف صنعتم فيها؟ وقيل: عن الحواس السليمة والماء البارد، وقيل: عن القرآن وشرائع الاسلام كيف عملتم؟ وقيل: عما أنعم عليكم بمحمد، وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن ذلك فقال:
" بيت يكفيك وخرقة تواري عورتك وكسرة تسد بها حلتك ما سوى ذلك عن النعيم "
وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
" قرأ ألهاكم فقال: تكاثر الأموال جمعها ومنعها عن حقها { حتى زرتم المقابر } دخلتم قبوركم { كلا سوف تعلمون } حين تخرجون الى المحشر { كلا لو تعلمون علم اليقين } عند نشر الصحائف وشقي وسعيد { لترون الجحيم } { ثم لترونها عين اليقين } وذلك حين ينصب الصراط بين جسر جهنم { ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } عن خمس: شبع البطون وبارد الشراب ولذة النوم وظلال المساكن واعتدال الخلق "
وقيل: المآكل والمشارب وسائر الملاذ، وقيل: العافية عن علي (عليه السلام)، وقيل: عن الاسلام، وجميع ذلك داخل فيما ذكرنا انه يسأل عن نعم الدنيا والدين، واختلفوا أي سؤال هو فقيل: سؤال توبيخ وتقريع، وقيل: سؤال ليظهروا أعمالهم للخلق، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قرأ ألهاكم التكاثر ثم قال:
" يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت ".
[103 - سورة العصر]
[103.1-3]
قال جار الله أقسم الله بصلاة العصر لفضلها بدليل قوله: { والصلاة الوسطى } صلاة العصر في مصحف حفصة، والانسان للجنس، والذي ذكره في الحاكم قيل: أقسم بالعصر، وقيل: برب العصر، والعصر الدهر لما فيه من مرور الليل والنهار { إن الإنسان لفي خسر } جواب القسم أي في هلاك أما لا خسران أعظم من استحقاق العذاب الدائم، وقيل: خسروا أهليهم ومنازلهم في الجنة، والانسان عام { إلا الذين آمنوا } بالله ورسوله { وعملوا الصالحات } فانهم ليسوا في خسران { وتواصوا بالحق } عن المعاصي وعلى الطاعات وصى بعضهم بعضا.
[104 - سورة الهمزة]
[104.1-9]
{ ويل } وعيد، وقيل: واد في جهنم { لكل همزة لمزة } قيل: هما واحد ومعناهما الغيبة، وقيل: هو الطعن بالغيب من غير ايضاح، وقيل: الهمزة الذين يطعن في الوجه واللمزة الذي يغتاب، وقيل: الهمزة الذي يهمز الناس بيده ويضرهم واللمزة الذي يلمزهم بلسانه، وقيل: الهمز باللسان واللمز بالعين { الذي جمع مالا وعدده } ، قيل: أعده ذخرا للنوائب ولكثرته استخف بالمسلمين، وقيل: عدد كثرة، وروي انه كان للأخنس أربعة آلاف دينار، وقيل: عشرة آلف { يحسب } يظن { أن ماله أخلده } ، قيل: يبقيه فلا يموت ولا يفنى، وقيل: يعمل عمل من يحسب أن ماله أخلده { كلا } ردع وزجر أي ليس الأمر كما ظن أي { لينبذن في الحطمة } أي ليطرحن في جهنم بعد الموت { وما أدراك ما الحطمة } يعني لا يمكنك معرفة عظمها، وسميت حطمة لأنها تحطم كل شيء أي تكسره { نار الله الموقدة } قيل: هي نار الله توقد، منذ خلق الله السموات والأرض، فان صح ذلك على بعده فهو لطف للملائكة (عليهم السلام) والخبر عنه لطف لنا { التي تطلع على الأفئدة } قيل: تدخل على أجوافهم حتى تصل الى صدورهم وتطلع على أفئدتهم، وهي أوساط القلوب ولا شيء في بدن الانسان ألطف من الفؤاد ولا أشد تألما منه يتأذى بأدنى ألم يمسه، فكيف إذا اطلعت عليهم نار جهنم - أعوذ بالله منها - واستولت عليه، ويجوز أن تخص الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الفاسدة والنيات الخبيثة، ومعنى اطلاع النار عليها أنها تعلوها وتغليها وتشتمل، وقيل: يعمل لشدتها تنفذ كل شيء حتى يصل الى القلب { انها عليهم مؤصدة } أي مطبقة، وقيل: تطبق وتغلق أبوابها لينقاد أهلها آمنين من الخروج { في عمد ممددة } قيل: هو العمود الطويل، وقيل: عمد من نار، وقيل: تطرح الأبواب إذا غلقت وعد عليهم، وقيل: العمد السرادق ممدود وهي من نفس العمد، وقيل: يكونون فيها مومس مسددين في السلاسل والقيود.
[105 - سورة الفيل]
[105.1-5]
{ ألم تر } ألم تعلم يا محمد { كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } من الاهلاك { ألم يجعل كيدهم في تضليل } في هلاك { وأرسل عليهم طيرا أبابيل } يتبع بعضها بعضا، وقيل: كثير، وقيل: كان لها خراطيم، قيل: خلقها الله في ذلك الوقت في الهواء، وقيل: جاءت من البحر { ترميهم بحجارة } أي الطير في تلك الجنود مع كل طير ثلاثة أحجار: واحدة في منقاره، وثنتان في رجليه، وقيل: في أجنحتها ومناقيرها، وقيل: كان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وقيل: كانت تصيب المغفر فتجاوزه حتى تصير الى الأرض { من سجيل } من طين مطبوخ كما يطبخ الآجر، وقيل: حجارة تذوب كالحديد، وقيل: حجارة صليبة شديدة ليست من جنس الحجارة وسماها سجيلا لصلابتها، وقيل: انها سجيل عليهم لعذابهم، وقيل: حجارة من الحميم { فجعلهم كعصف مأكول } قيل: كورق الزرع أكل بعضه وتكسر، وقيل: العصف ورق الحنطة، وقيل: كالحب المأكول، وقيل: كالطعام.
[106 - سورة قريش]
[106.1-4]
ومعنى { لإيلاف قريش } أي لتألف مكة وقريش ولد النضر بن كنانة، وقيل: من لم يلده النضر فليس بقرشي، واختلفوا لم سموا قريشا فقيل: القرش الجمع يقال تقرشوا أي تجمعوا، وقيل: لكسبهم الأموال وجمعها وتجارتها سموا بذلك، وقيل: بل قريش دابة في البحر تغلب سائر ما في البحر من الدواب { إيلافهم رحلة الشتاء والصيف } قيل: كان لهم رحلتان رحلة الصيف الى الشام ورحلة الشتاء الى اليمن في التجارة، وقيل: كانوا يشتون بمكة ويصيفون بالطائف فأمرهم الله أن يقيموا بالحرم ويعبدوا رب هذا البيت، وقيل: انه أنعم عليهم بالمقام بمكة وأغناهم، وقيل: بل أمنهم في أسفارهم في الرحلتين، وقيل: ليألفوا عبادة الله كما ألفوا الرحلتين { الذي أطعمهم من جوع } قيل: ما أعطاهم من الأموال وسبب لهم من الأرزاق، وقيل: ما وقع في قلوب الحاج وغيرهم حتى جلبوا اليهم كل نعمة { وآمنهم من خوف } ، قيل: أمنهم من خوف الغارة بالحرم، وقيل: كانوا إذا قالوا في سفرهم نحن أهل الحرم وأهل بيت الله لا يتعرض لهم أحد، وقيل: بكثرة العدد والأموال، وقيل: أمنهم من الجذام، وقيل: أمنهم الحبشة، وقيل: أمنهم من أن تكون الخلافة إلا فيهم عن علي (عليه السلام)، وقيل: أمنهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
[107 - سورة الماعون]
[107.1-7]
{ أرأيت } يا محمد هذا { الذي يكذب بالدين } قيل: بالجزاء والبعث والحساب، وفي بعض الأخبار: " الديان لا يفنى والذنب لا ينسى فاصنع ما شئت كما تدين تدان " { الذي يدع اليتيم } أي مع تكذيبه يدع اليتيم أي يدفع اليتيم، وهو الذي لا أب له ولا أم له، وقيل: يقهره ويدفعه عن حقه ويظلمه { ولا يحض على طعام المسكين } قيل: لا يحض على مواساة الفقراء بخلا منه وجهلا بمواضع الجزاء { فويل للمصلين } { الذين هم عن صلاتهم ساهون } { الذين هم يراؤون } قيل: المراد بالآية المنافقين وعندهم المراؤون، قيل: غافلون عنها لا يبالي صلى أم لم يصل، وقيل: يتركون الصلاة في السر ويصلون في العلانية، وقيل: ساهون يؤخرونها عن وقتها، وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه قال:
" هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها "
، وقيل: هو الذي ان صلاها صلاها رياء وان فاتته لم يندم { ويمنعون الماعون } ما يتداوله الناس بينهم من الفأس والقدر والدلو والابرة، وقيل: ما يتداوله الجيران بعضهم من بعض، وقيل: الماء والملح، وقيل: الماعون الزكاة قال الحاكم: وهو الصحيح.
[108 - سورة الكوثر]
[108.1-3]
{ إنا أعطيناك الكوثر } نزلت السورة في العاص، وروي أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج من المسجد وهو يريد يدخله فتحدثا فسأله ناس من قريش: من الذي كنت تحدث؟ قال: ذلك الأبتر، يعني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت السورة، وقيل: نزلت في عقبة بن أبي معيط قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأبتر، وقيل: نزلت في كعب بن الأشرف وجماعة من قريش، وقيل: توفي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولد يسمى عبد الله فسمته قريش أبتر، وقيل: نزل قوله: { فصل لربك وانحر } يوم الحديبية حين أحصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدوه عن البيت، وقيل: غير ذلك لأن السورة مكية، الكوثر هو في الجنة، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قرأها حين أنزلت فقال:
" أتدرون ما الكوثر؟ انه نهر في الجنة وعدنيه ربي "
وروي في صفته:
" أحلى من العسل، وأشد بياضا من اللبن، حافتاه الزبرجد، وآنيته من فضة، أكوابه عدد نجوم السماء "
وروي:
" لا يظمأ من شرب منه أبدا أول وارديه فقراء المهاجرين "
، وقيل: هو حوض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقيل: هو الخير الكثير، وقيل: هو القرآن العظيم، وقيل: النبوة، وقيل: كثرة الأشياع والأصحاب، وقيل: الشفاعة، وقيل: المعجزات، وقيل: النسل الكثير كما ظهر في ذريته { فصل لربك وانحر } نحر البدن، وعن عطاء: صلاة الفجر بجمع والنحر بمنى، وقيل: هي صلاة العيد والتضحية، وقيل: جنس صلاة النحر وضع اليمين على الشمال، وقيل: انحر ارفع يدك الى نحرك عند افتتاح الصلاة، وقيل: استقبال القبلة بنحرك، وقيل: ارفع يدك الى نحرك { إن شانئك } أي عدوك { هو الأبتر } أي منقطع عن كل خير، وقيل: الذي لا عقب له، وقيل: الأذل الاقل لانقطاعه عن الخير، وانما الابتر هو شانئك المشنئ في الدنيا والآخرة، وكانوا يقولون ان محمدا إذا مات مات ذكره، والشانئ البغيض، الأبتر المقطوع عن الخير وأصل البتر: القطع، وبترت الشيء: قطعته، وسيف باتر: قاطع، ورجل أبتر: لا عقب له كأنه قطع نسله، والأبتر من الدواب مقطوع الذنب.
[109 - سورة الكافرون]
[109.1-6]
{ قل يأيها الكافرون } { لا أعبد ما تعبدون } السورة نزلت في رهط من قريش الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، وأمية بن خلف، والحارث بن قيس، والأسود بن عبد يغوث، دعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الى أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
" معاذ الله أن أشرك بالله شيئا "
وفيهم نزل قوله:
أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون
[الزمر: 64] وقد أكثر المفسرون في تكرير هذه الآيات فقيل: التكرير تأكيدا لحسم أطماعهم من عبادة الهتهم، وقيل: القرآن نزل بلغة العرب وهم قد يكررون للتأكيد والافهام وذلك مذهب لهم معلوم، وقيل: لأن القوم كرروا فيه مقالتهم كرة بعد كرة، وقيل: الأول للحال والثاني للاستقبال، وتدل السورة على معجزة لنبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا خبر عن حالهم وكان كما أخبره، وقول من يقول هو تأكيد احتج بقول الشاعر:
كم نعمة كانت لكم كم كم وكم
وقد قيل: ان قريشا سألوا أن يعبد آلهتهم سنة وان يعبدوا إلهه سنة فأمره أن يجيب بقوله: { لا أعبد ما تعبدون } { ولا أنتم عابدون ما أعبد } ثم سألوه ذلك مرة اخرى بأن يستلم بعض الهتهم ليسلموا فأمره بأن يجيب { لا أعبد } فإنما كرر لاختلاف الوقتين والقرآن نزل شيئا بعد شيء، ومتى قيل: الخطاب لجميع الكفار، قلنا: لا بل لقوم خاص علم انهم لا يؤمنون { لكم دينكم ولي دين } لكم شرككم ولي توحيدي، والمعنى اني نبي مبعوث اليكم لأدعوكم الحق والنجاة فإذا لم تقبلوا مني ولم تتبعوني فدعوني كفافا ولا تدعونني الى الشرك، وقيل: لكم جزاء أعمالكم ولي جزاء عملي، وهذا لا نسخ فيه، وقيل: ان السورة لا تكون منسوخة، كما روي عن بعض المفسرين انها منسوخة، ومنهم من لا يجوز نسخها لأنها خبر، والنسخ يدل على الأمر والنهي، وذهب جماعة الى انها منسوخة بآية السيف والله أعلم.
[110 - سورة النصر]
[110.1-3]
{ والفتح } قال جار الله: المعنى نصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على العرب أو على قريش وكان فتح مكة لعشر مضين من رمضان سنة ثمان، ومعه عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب، وأقام بها خمسة عشر ليلة ثم خرج الى هوازن وغطفان، روي ذلك في الكشاف، وقال الحاكم: السبب في فتح مكة لما صالح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشا بالحديبية وكان رئيس القوم أبو سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو، ودخلت خزاعة في حلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودخلت بنو بكر في حلف قريش، وكان بينهما شر في الجاهلية حجر عنه الاسلام، ثم وقعت بين بني بكر وخزاعة فقال: فأعان قريش بنو بكر سرا وأصابوا منهم، ونقضوا عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فخرج عمرو بن سالم الى المدينة ودخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في المسجد فأخبره بخبرهم وأنشد الأبيات التي منها:
لا هم اني ناشد محمدا
حلف أبينا وأبيه الأتلدا
ان قريشا اخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا
وفيها وقتلونا ركعا وسجدا
وخرج بديل بن ورقاء فأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أصيب منهم، فوعده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) النصر، وعلمت قريش بالنقض وندموا وبعثوا أبا سفيان الى المدينة ليؤكدوا العهد، فدخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والتمس منه ذلك فلم يجبه، فجاء الى أبي بكر وعمر ليسألان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلم يجيباه وأتى عليا وسأله أن يكلم رسول الله فأبى، فقال: يا ابا الحسن فأشر علي فقال: ما أعلم شيئا ولكنك سيد بني كنانة فقم فأخبر بين الناس أن العهد ثابت، ففعل ورجع الى مكة فأخبرهم بالقصة، فقالوا له لعب بك علي ابن أبي طالب، وأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجهاد لحرب مكة وجهز الناس ودعا الله تعالى فعميت عليهم الأنباء وكتب حاطب ابن ابي بلتعة اليهم بالانذار وجاء الوحي الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبعث عليا والزبير وردوا الكتاب، وخرج في شهر رمضان قاصدا مكة في سنة ثمان في عشرة آلاف، وخرج في تلك الليلة أبو سفيان وبديل ابن ورقاء والحكم بن حزام يتجسسون الأخبار، وخرج العباس على بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلقيهم بالادراك فجاء بأبي سفيان في قصة طويلة، وأسلم بعد ما خوف بالقتل، ودخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة وكان الفتح وأجمع أهل البيت والفقهاء أن مكة فتحت عنوة إلا الشافعي فانه قال فتحت صلحا، ففي فتح مكة نزل { إذا جاء نصر الله والفتح } ولما ظفر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهم قالت العرب: اذا ظفر محمد بأهل الحرم وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل فليست لكم منه يد فكانوا يدخلون في دين الله أفواجا،
" وحين دخلها وقف على باب الكعبة وقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده " ثم قال: يا أهل مكة ما ترون اني فاعل بكم؟ " قالوا: خيرا أخ كريم وابن أخ كريم، قال: " فاذهبوا فأنتم الطلقاء "
فأعتقهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوة فيئا، فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء، ثم بايعوه على الاسلام { في دين الله } في ملة الإسلام { أفواجا } جماعات { فسبح بحمد ربك } فكبر سبحان الله حامدا، وروي أنه كان يكبر قبل موته:
" سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب اليك "
{ واستغفره } الأمر بالاستغفار تبع التسبيح، قال في الحاكم: استغفر من صغائر ذنوبك وقل: استغفره على جهة التسبيح وان لم يكن ثم ذنب قال الحاكم هذا الوجه { انه كان توابا } أي كان في الأزمنة الماضية مثل خلق المكلفين توابا عليهم إذا استغفروه، فعلى كل مستغفر أن يتوقع مثل ذلك.
[111 - سورة المسد]
[111.1-4]
قلت: التب: الخسران المؤدي الى الهلاك، تب يتب تبا والتباب الهلاك ومعنى { تبت } خسرت وهلكت، وفي هذا اخبار وذم له، وقيل: فيه بمعنى الدعاء نحو قاتلهم الله { يدا أبي لهب } فأخبر عن يده والمراد نفسه، وقيل: المراد اليد بعينها حين أراد أن يرمي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمنعه الله منه، فقال: خسرت يدا أبي لهب، قيل: هي كناية واسمه عبد العزى، وقيل: كنايته، وقيل: سمي بذلك لحسنه واشراق وجهه وكان وجنتاه يلتهبان، وقيل: كني بذلك لأنه يصير الى النار ويعذب باللهب، وقيل: كان مشهورا بالكنية فأراد أن يشتهر بالفضيحة { وتب } قيل: الواو للعطف، وقيل: للحال، قيل: وقد تب أي خسر وهلك، وقيل: الأول هلاك ماله، والثاني هلاك نفسه، والمعنى هلاك ماله ونفسه { ما أغنى عنه } أي ما كفا عنه ماله من عذاب الله شيئا، وعن ابن مسعود: ان أبا لهب لما دعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الى الاسلام وأخبره بالجنة والنار قال: ان ما يقول ابن اخي حقا فاني أفتدي نفسي بمالي، فبين أنه لا يغني عنه ماله شيئا، وقيل: معناه أي شيء يغني عنه ماله إذا نزل به عذاب الله { وما كسب } قيل: ولده، وقيل: كسبه أمواله، وقيل: أفعاله، ومتى قيل: من أي شيء لا يغني عنه ماله، قيل: فيه وجهان أحدهما من عذاب الله في الآخرة والثاني ما حل به في الدنيا { سيصلى نارا } يعني سيفعل به ذلك { ذات لهب } يتوقد { وامرأته } أي ستصلى امرأته بتلك النار وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان عمة معاوية وكانت عوراء { حمالة الحطب } قيل: كانت تمشي بالنميمة فوصفت بحمالة الحطب كأنها نقالة الحديث والكذب، وانما شبهت النميمة بالحطب لأن الحطب يوقد به الثأر والنميمة يوقد بها نار العداوة، وقيل: كانت تأتي بالشوك فتطرحه على طريق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا خرج الى الصلاة، وروي أنها كانت تأتي بالحسك فتطرحه في طريق المسلمين، فبينما هي حاملة ذات يوم حزمة حطب فأعيت فقعدت على حجرة لتستريح فأتاها ملك فحزفها من خلفها فأهلكها، وقيل: حمالة الخطايا ونظيره يحملون أوزارهم { في جيدها } في عنقها { حبل من مسد } قيل: تحمل الحطب بحبل من ليف، وأصل المسد الفتل وجمعه أمساد، ومنه الليف لأن من شأنه أن يفتل الحبل وكانت تحمل به حتى تلقي الشوك على ما تقدم، وقيل: سلسلة من حديد سبعون ذراعا تدخل من فيها وتخرج من دبرها في النار، وعن ابن عباس: وقيل: ذلك الحبل الذي تحمل به يكون في عنقها في النار ويحتمل أن يكون حالها في النار على الصورة التي كانت عليها حين كانت تحمل الشوك فلا تزال على ظهرها حزمة من حطب النار من شجر الزقوم أو من الضريع.
[112 - سورة الإخلاص]
[112.1-4]
السبب في نزول السورة قيل: ان المشركين قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنسب لنا ربك فنزلت هذه السورة، وعن سعيد بن جبير ان رهطا من اليهود قالوا: يا محمد هذا الله خلق المخلوقين فمن خلقه؟ فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى تغير خلقه فجاءه جبريل فسكته وجاءه بالجواب: قل هو الله أحد، وذكر القاضي:
" روي أن عبد الله بن سلام انطلق الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بمكة فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما تجدني في التوراة رسول الله؟ فقال انعت لنا ربك، فجاءه جبريل بهذه السورة فقرأها عليه فكان سبب اسلامه لكنه كتمه فلما هاجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أظهر اسلامه ".
يعني { قل } يا محمد { هو الله احد } قيل: واحد في الالهية والقدم، وقيل: واحد لا نظير له، وقيل: واحد في صفاته، قديم، باقي، قادر، عالم، حي، لم يزل، ولا يزول، وقيل: واحد في استحقاق العبادة لا تحق لأحد سواه { الله الصمد } السيد المعظم قال الأكثر: الباقي، وقال أسد بن عمرو وابن مسعود بالسيد الصمد وأصله المقصود صمدت اليه أصمد أي قصدت، وقيل: الذي يقصد اليه في الحوائج والمستغاث به عند المصائب، وقيل: الذي لا ينام، وقيل: الذي لا يكافيه أحد من خلقه، وقيل: الذي لا يوصف بصفته أحد، وقيل: المستغني عن كل أحد والمحتاج اليه كل أحد، وقيل: الغالب الذي لا يغلب، وقيل: الذي لا تدركه الأبصار، وقيل: الذي يقضي الحوائج سئل أم لم يسأل { لم يلد ولم يولد } أي ليس بصفة الجسمية حتى يلد ويولد رد على النصارى واليهود وغيرهم، قيل: لم يلد فيكون بصفة الوالدات ولم يولد فيكون بصفة الأولاد { ولم يكن له كفوا أحد } أي لا مثل له، وقيل: لا صاحبة له، ويدل قوله: { لم يلد ولم يولد } أي ليس بجسم ولا يشبه الأجسام، ويدل قوله: { لم يكن له كفوا أحد } أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض وانه ليس بمتحيز ولا في مكان ولا في جهة.
[113 - سورة الفلق]
[113.1-5]
{ قل أعوذ برب الفلق } قيل: كل موضع من القرآن فيه قل فإنه يقدمه سؤال كقوله: يسألونك عن الأنفال ونظائرها والخطاب لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، أي قل يا محمد، والمراد جميع أمته { أعوذ } أمتنع وأعتصم { برب الفلق } الصبح، ومنه فالق الاصباح، وقيل: الفجر، وقيل: شجر في جهنم، وقيل: الفلق بيت في النار إذا فتح صاح جميع من في النار من شدة حرته، وقيل: الفلق جميع الخلق، وقيل: جب في جهنم، وقيل: وادي في جهنم، وقيل: الحب والنوى يتعلق بالنبات { من شر ما خلق } أي من شر جميع الخلق، وقيل: ما بمعنى المصدر أي من شر خلقه، وقيل: من شر ذي شر مما خلق والجن والانس والسباع والطيور والهوام، وقيل: هو استعاذة من كل مكروه فانه ينزل كل شر في الدين والدنيا من علماء السوء وأهل البدع، فأمر بالاستعاذة من الجميع { ومن شر غاسق إذا وقب } أي من شر الليل إذا دخل بظلامه، سمي بذلك لظلمته، والمراد ما يحدث في الليل من الشر والمكروه، وخص الليل بالذكر لأن الغالب من الشر يقع فيه، والغساق يقدمون على الجنايات فيه ليلا وكذلك السباع والهوام، أما الناس والسباع وكثير من الانس والجن فشرهم في الليل والظلمة، وقيل: الغاسق القمر، وقيل: الثريا إذا سقطت وكانت الاشعاع تكثر في ذلك الوقت وترتفع إذا طلعت { ومن شر النفاثات في العقد } قيل: السحر، وذكر ابو مسلم أن النفاثات في العقد هي النساء { ومن شر حاسد إذا حسد } قيل: لأنه عند الحسد يبتغ الغوائل ويتمنى زوال النعمة فأمر بالتعويذ منه.
[114 - سورة الناس]
[114.1-6]
{ قل } يا محمد امتنع واعتصم { برب الناس } خالقهم ومدبرهم { ملك الناس اله الناس } ، قيل: الذي تحق له العبادة، وقيل المدبر للخلق على وجه الحكمة { من شر الوسواس } وهو الشيطان كما جاء في الخبر أنه يوسوس فإذا ذكر العبد ربه خنس، وقيل: الوسواس بكثرة الوسوسة عن أبي علي وهو من الجنة، والناس الذي يوسوس فاذا ذكر الله خنس أي هرب واختفى، وقيل: الشيطان صياد حاذق والدنيا له والمكلف صيد عاقل، فمن اجتهد نجا من الهلكة والاسقام والا وقع في الشبكة فهذا وصفه بالخناس مبالغة في الزجر والتحذير، وقوله: { الذي يوسوس في صدور الناس } أي يدعوهم الى المعاصي { من الجنة والناس } يعني الوسواس يكون من الجنة والناس قال جار الله: في قوله تعالى: { من الجنة والناس } بيان الذي يوسوس على أن الشيطان ضربان جني وانسي كما قال تعالى:
الانس والجن يوحي بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا
[الأنعام: 112] وتدل الآية على ان التحذير من شياطين الجن والانس واجب لكن من الجن يجب أن يكون أشد لأنه لا يرى، وكذلك اليهود في أمر الدين والدنيا، ومن الفريقين الجن والانس، قيل: حد فيه رؤساء الضلال وعلماء السوء وأهل البدع إذ لا ضرر أعظم من ضررهم، ومتى قيل: كيف يوسوس الجن في الصدر؟ قلنا: يكلمه بكلام خفي حتى يصل الى قلبه، وقيل: له إله وطريق الى توصل الكلام الى قلبه، فأما من يقول يدخل القلب إذ له خرطوم فبعيد، وروي من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من سورة الحشر وكل الله به سبعون ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيدا، ومن قالها حين يمسي فذلك، وفيه من نزل منزلا فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل منه.
Shafi da ba'a sani ba