502

ثم أخذ سبحانه بتعداد أرباب الطبقات والكرامة حثا لحبيبه صلى الله عليه وسلم بالتوجه نحوه والتحنن إليه، والمواظبة على شكر نعمه، فبدأ بموسى - صلوات الرحمن عليه وسلامه - فقال مخاطبا لحبيبه صلى الله عليه وسلم: اذكر يا أكمل الرسل وقت { إذ قال } أخوك { موسى } الكليم - صلوات الرحمن عليه - { لأهله } وزوجته ابنة شعيب عليه السلام حين سار معها من مدين إلى مصر، وهي حاملة، والليلة شاتية مظلمة، وهم ضالون عن الطريق فجاءها الطلق، واضطر موسى في أمرها، فرأى شعلة نار من بعيد، فقال لأهله: اثبتوا مكانكم.

{ إني آنست نارا سآتيكم } ذا الساعة { منها بخبر } من الطريق، يخبر به من عندها؛ إذ النار قلما تخلو عن موقدين لها { أو آتيكم } إن لم أجد عندها أحدا { بشهاب } أي: جمر ذي { قبس } أي: مقبوسة مشتعلة منها { لعلكم تصطلون } [النمل: 7] وتستدفئون من البرد، وتستضيئون منها للطريق.

فاستقروا في مكانهم، فذهب موسى { فلما جآءها } أي: النار، ووصل عندها { نودي } من وراء سرادقات العز والجلال تكريما لموسى، وتعظيما له، وتنبيها عليه من أن مرجع جميع مقاصدك وحوائجك هو الحق، فاطلبه حتى تجد عنده جميع مقاصدك { أن بورك } أي: الشأن، إنه أكثر عليك خيرك وبركاتك يا موسى { من في النار ومن } ظهر { حولها } إذ هو محيط بجميع الأماكن، ظاهر منها، غير متمكن فيها؛ أي: من ظهر فيها ولاح عليها.

{ و } بعدما تحققت بشهود الحق مع جميع الأماكن والأشياء، نزهه عن الحلول فيها والإتحاد بها، فقل: { سبحان الله } المنزه عن الأماكن كلها، المتجلي في جميعها؛ لكونه { رب العالمين } [النمل: 8] يربيها بدوام التجلي، وامتداد الأظلال والعكوس الفائضة منه سبحانه عليها.

ثم لما قلق موسى واستوحش عن هذا النداء، وقرب إلى أن صار مغشيا عليه من شدة هوله ودهشته، وكمال ولهه وحيرته، نودي ثانيا باسمه استئناسا له، وإزالة لاستيحاشه: { يموسى إنه } أي: إن من ناداك في النار، وظهر على صورتها { أنا الله } المحيط بجميع المظاهر والأكوان إحاطة البحر للأمواج والأزباد، والشمس للأضواء والأظلال { العزيز } الغاللب القادر، المقتدر لقهر السوى والأغيار { الحكيم } [النمل: 9] المتقن في الأفعال والآثار الصادرة الظاهرة مني على أبدع ارتباط وأبلغ انتظام.

{ و } بعدما أزال وحشته، وأذهب ولهه ودهشته بالمؤانسة والمواساة، قال له آمرا: { ألق عصاك } التي أخذتها بيدك على الأرض؛ لترى من عجائب صنعتنا وغرائب حكمتنا ما ترى؛ حتى تتنبه من تبدل صورتها وسيرتها إلى سر سريان وحدتنا الذاتية في المظاهر كلها، فألقاها على الفور فإذا هي حي تسعى { فلما رآها } موسى؛ أي: العصا { تهتز } وتتحرك { كأنها جآن } أي: حية صغيرة سريعة السير { ولى } وانصرف منها موسى { مدبرا } خائفا هائبا، قلقا حائرا من أمرها.

{ ولم يعقب } أي: لم يرجع إليها ليأخذها؛ هيبة وخوفا قلنا منادين؛ ليقبل: { يموسى لا تخف } من عصاك، وستعود إلى سيرتها الأصلية { إني } من كمال مرحتمي وإشفاقي على خل عبادي { لا يخاف لدي } أحد من أوليائي سيما { المرسلون } [النمل: 10] منهم، المختارون للرسالة والتشريع العام.

{ إلا من ظلم } من المرسلين بارتكاب ذنب صدر منه، لا عن عمد { ثم بدل } وتدارك ذنبه { حسنا } بالتوبة والندامة { بعد سوء } صدر منه { فإني غفور } لهم أغفر لهم، وأعفو عن زلتهم { رحيم } [النمل: 11] أرحمهم وأقبل توبتهم بعدما صدرت عن خلوص طويتهم.

{ و } بعدما رأى موسى من عجائب العصا ما رأى قال له سبحانه ثانيا آمرا: { أدخل يدك في جيبك } يا موسى { تخرج } في الفور منه، فأدخلها فيه فأخرجها، ترها { بيضآء } محيرة للعقول والأبصار، مع أن بياضها { من غير سوء } مرض عرض لها من برص وغيرها، ثم قيل له من قبل الحق: هي؛ أي: اليد البيضاء آية ومعجزة جديدة دالة نبوتك ورسالتك، موهوبة لك من عندنا، معدودة { في تسع آيات } عظام لك، وهي: العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمسة والجذب.

ثم بعدما شهدت من يدك وعصاك ما شهدت يكفيك شهادتهما على صدقك في دعواك الرسالة، مع أن لك معجزات كثيرة سواهما، اذهب مرسلا من عندي { إلى فرعون وقومه } وبلغهم إنذاري وتخويفي، ونزول عذابي عليهم؛ من سوء صنيعهم { إنهم كانوا قوما فاسقين } [النمل: 12] خارجين عن مقتضى الحدود الموضوعة فيهم من عندنا وبوضعنا.

Shafi da ba'a sani ba