ومن كمال اللطافة والصفاء، هذه { الزجاجة كأنها كوكب دري } في غاية الإضاءة والإنارة، يتلألأ ويتشعشع بصفاته الذاتية ولطافته الجبلية؛ لأنه { يوقد } ويسرج بدهن إليهي متخذ { من شجرة مباركة } كثيرة الخير والبركة لمن استظل تحتها، وهي شجرة الوجود الممتدة أظلالها على صفائح عموم ما ظهر وبطن من المظاهر والموجودات الغير المحصورة { زيتونة } كثيرة النفع والخير؛ إذ الوجود خير محض ونفع صرف لا شر يه ولا ضرر أصلا { لا شرقية ولا غربية } أي: معتدلة في نفسها، خارجة عن الجهات كلها غير محاطة بها.
ومن كمال صفائها ولطافتها { يكاد زيتها } بإضاءتها الذاتية، وإشراقها العينية { يضيء ولو لم تمسسه نار } هي التجلي الحبي الشوقي، والمحبة الخالصة والعشق الإلهي.
وبالجملة: نور الوجود الإلهي { نور على نور } لا يدركه، ولا يتميز، ولا يطلع عليه أحد من مظاهره ومصنوعاته، بلا توفيق منه سبحانه وجذب من جانبه، بل { يهدي الله } الهادي لعباده إلى صفاء توحيده { لنوره } أي: ضياء وجوده وسعة رحمته وجوده { من يشآء } من عباده من جذبه الحق نحو جنابه، ووفقه الوصول إلى فناء بابه.
{ و } للتنبيه إلى هذا المقام والإشارة إلى هذا المرام، و { يضرب الله } المطلع لاستعدادات عباده { الأمثال } المنبهة والأشياء المثيرة { للناس } المجبولين على فطرة التوحيد لهم؛ لعلهم يتفطنون على ما جبلوا لأجله ويتنبهوا على مبدئهم ومعادهم { والله } المحيط بالآفاق والأنفس إحاطة حضور وشهود { بكل شيء } مما جرى في مملكة عموم المظاهر والمصنوعات { عليم } [النور: 35] لا يغيب عن عمله شيء.
ولهذا التفطن والتذكر يتوجه المخلصون المنجذبون نحو الحق { في بيوت } معدة للتوجه مع أنه { أذن الله } الهادي لعباده إلى توحيده { أن ترفع } بناؤها وتعظم غاية التعظيم، { ويذكر فيها } أي: في تلك البيوت والمساجد { اسمه } الذي هو كلمة توحيده وتقدسيه، ولهذا { يسبح له } أي: الله طلبا لمرضاته لا لغرض دنيوي أو أخروي { فيها } أي: في تلك البيوت المذكورة دائما { بالغدو والآصال } [النور: 36] أي: في جميع آناء الأيام والليالي.
{ رجال } كمل مخلصون منجذبون نحو الحق، مشمرون ذيل هممهم لسلوك طريق الفناء، منقطعون عن الدنيا وما فيها؛ بحيث { لا تلهيهم } وتشغلهم { تجارة } وأرباح متعلقة بالأمور الدنيوية أو الأخروية { ولا بيع } أيضا كذلك { عن ذكر الله } والتوجه نحو جنابه، والعكوف على بابه { وإقام الصلاة } ودوام الميل والمناجاة معه { وإيتآء الزكاة } إي: إنفاق ما في أيديهم خالصا لطلب المرضاة، ومع ذلك { يخافون يوما } أي: عذاب يوم القيامة، وما لحق فيها من النكال؛ إذ من شدة هولها { تتقلب } أي: تتلقلق وتضطرب { فيه القلوب } تدهش فيه { والأبصار } [النور: 37].
كذل ذلك { ليجزيهم الله } المجازي لما صرد عنهم { أحسن ما عملوا } بأحسن الجزاء { ويزيدهم من فضله } امتنانا عليهم { والله } المتفضل لخواص عباده { يرزق من يشآء } منهم من الرزق المعنوي الحقيقي { بغير حساب } [النور: 38] أي: بلا مقابلة عمل منهم، ومعاضوة إحسان من جانبهم، بل من محض الفضل والجود.
ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة: { والذين كفروا } ستروا الحق، وأنكروا عليه، وأظهروا الباطل ظلما وزورا، ووجوه عنادا ومكابرة لذلك صارت { أعمالهم } التي خيلوها صالحة مستجلبة لأنواع النفع في يوم الجزاء على عكس أعمال المؤمنين { كسراب } أي: كمثل سراب يلمع ويبرق { بقيعة } أي: بادية وصحراء { يحسبه } ويظنه { الظمآن } من بعيد { مآء } مسكنا للعطش، مبردا للأكباد.
فلما رآه سارع إليه، وسعى نحوه سريعا { حتى إذا جآءه } بعد تعب كثير وعناس مفرط مؤملا الوصول إلى الماء { لم يجده } ماء بل لم يجد { شيئا } آخر متأصلا في الوجود سوى العكوس التي تتراءى كالماء في البريق واللمعان من تقلب الحدقة، وتشتت البال واضطراب الحواس باستيلاء العطش المفرط وحرارة الأكباد، { و } بعدما آيس من نفع أعماله { وجد الله } الرقيب عليه في جميع أحواله، محاسبا إياه عما صدر عنه { عنده فوفه حسابه } على الوجه الأقسط الأعدل بلا زيادة ولا نقصا { والله } المطلع على جميع ما جرى على عباه في جميع شئوهم وتطوراتهم { سريع الحساب } [النور: 39] يحاسبهم، ويجازيهم على مقتضى علمه وخبرته، بلا فوت شيء مما صدر عنهم عدلا منه سبحانه.
{ أو } مثل أعمال الكفرة في عدم النفع والخير { كظلمات } أي: كمثل أصحاب ظلمات الليل الواقعة لهم { في بحر لجي } أي: عميق غائر منسوب إلى اللج، وهو معظم الماء { يغشاه } أي: يغطي البحر ويعلو عليه { موج } هائل { من فوقه } أي: فوق الموج الأول { موج } آخر أهول منه هكذا؛ أي: أمواج متراكمة مترادفة بعضها فوق بعض على التوالي والتتالي مع أنه { من فوقه } أي: فوق الموج المظلم { سحاب } كثيف أظلم منه.
Shafi da ba'a sani ba