446

وكيف لا ترجون إلى ربكم أيها المجرمون، وكيف عن أعمالكم لا تسألون أيها المسرفون ولا تحاسبون؟! { فتعالى الله } المحيط للكل حضورا وشهودا أن يتصف ذاته بالغفلة والذهول، وأوصافه بعدم الحيطة والشمول، وأفعاله بالعبث والفضول؛ إذ هو { الملك } المستحضر لجميع مماليكه، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وكيف يعزم ويغيب عنه شيء من الأشياء؛ إذ هو { الحق } الثابت المحقق والقيوم المطلق المثبت، لا يشغله شأ عن شأن، وهو في شأن لا يعرضه شأن، ولا يعتريه زمان ومكان بل الشئون كلها مندرجة في علو شأنه؛ إذ { لا إله } في الوجود { إلا هو } لأنه { رب العرش الكريم } [المؤمنون: 116] المحيط لذرائر الكائنات، وهو الوجود العيني الظلي الكامن الفائض من حضرة القدوس على هياكل العكوس.

{ و } بعدما تحقق أن الكل في حيطة أوصافه وأسمائه، ومن أضلاله، وتحت لوائه { من يدع مع الله } المحيط للكل { إلها آخر } من الأضلال المحاطة والعكوس الساقطة مع أنه { لا برهان له } يثبت به وجود إله آخر سواه، بعدما شمل سواه سبحانه الكل وأحاط { به فإنما حسابه } أي: حساب المدعي، وجزاء ما ادعى من الشرك { عند ربه } يجازيه على مقتضى علمه { إنه } أي: إن الشأن والأمر عنده سبحانه إنه { لا يفلح } ولا يفوز { الكافرون } [المؤمنون: 117] بكفرهم وشركهم إلى ما هو موجب للفلاح والنجاح؟

{ و } بعدما أثبت سبحانه الفلاح للمؤمنين الموحدين في أول السورة، ونفاه عن الكافرين المشركين في أخرها { قل } يا أكمل الرسل تعليما لكل من يقتدي بك ويقتفي أثرك، وتنبيها عليه وتذكيرا لهم: { رب } يا من رباني بكنفك وجوارك { اغفر } واستر أنانيتي عن عين بصيرتي { وارحم } علي بنفي هويتي وإفنائها في هويتك { وأنت } بذاتك وأسمائك وصفاتك { خير الراحمين } [المؤمنين: 118] الذين هم أيضا من مقتضيات أوصافك وعكوس أسمائك، والكل بك منك، ولا راحم سواك، ولا مربي غيرك.

خاتمة السورة

عليك أيها المحمدي، المتحقق بمقام العبودية أن تلازم على هذه الكلمة التي أسمعك الحق على لسان نبيك وتداوم عليها، سيما في خلواتك وأعقاب صلواتك، عازما عليها، سامعا لها سمع قبول ورضا، حتى يترسخ في قلبك، وتتمرن فيه إلى حيث نطقت حالك بها بلا ترجمان من لسانك.

ومتى تحققت وتمكنت في هذه المرتبة أتممت مرتبة العبودية، فلك بعدما كملت عبوديتك الترقي منها بتوفيق الله، وجذب من جانبه إلى مرتبة الفناء في الله والبقاء ببقائه.

وذلك لا يتم إلا باضمحلال هويتك، وتلاشي بشريتك وماهيتك إلى حيث سقطت عنك تعيناتك رأسا، وفنيت تشخصاتك جملة ، وحينئذ فزت بما فزت، ووصلت بما وصلت، وليس وراء الله مرمى ولا منتهى.

[24 - سورة النور]

[24.1-5]

هذه { سورة } عظيمة، وسفر جليل، وآيات كريمة { أنزلناها } من مقام جودنا، وفضلنا عليك يا أكمل الرسل تأييدا لنبوتك ورسالتك، وترويجا لدينك وملكتك { وفرضناها } أي: أوجبنا الأحكام التي ذكرت فيها، وقدرنا الحدود المقررة في ضمنها، ألزمناها على من تبعك من المؤمنين تهذيبا لظوهرهم وبواطنهم { و } مع ذلك { أنزلنا فيهآ آيات } عظام دالة على وحدى ذاتنا، وكمال قدرتنا على الإنعام والانتقام مع كونها { بينات } واضحات الدلالات { لعلكم تذكرون } [النور: 1] وتتعظون، فتتركون ما يوجب مقتكم وهلاككم، وتتوجهون إلى ما جبلتم لأجله.

Shafi da ba'a sani ba