435

بل { إن هو إلا رجل به جنة } أي: ما هذا المدعي للرسالة من عند الله إلا رجل عرض له جنون فاختل دماغه وذهب عقله؛ فيتخبطه الشيطان ويتفوه بأمثال هذه الهذيانات المستبعدة المستحيلة { فتربصوا به } وأهملوه وانتظروا في أمره، ولا تميلوا إليه ولا تلتفتوا نحوه { حتى حين } [المؤمنون: 25] ليظهر لكم خبطه واختلاله، أو يفيق عما هو عليه ويعود على ما كان.

ثم لما سمع منهم نوح عليه السلام ما سمع من التجهيل والتسفيه أيس منهم وقنط عن إيمانهم ف { قال } مشتكيا إلى الله مستعينا منه: { رب } يا من رباني بأنواع الكرم وأرسلني إلى هؤلاء الضالين عن سواء سبيلك لأرشدهم وأهديهم إلى توحيدك، فبلغت ما أرسلت به إياهم، فلم يقبلوا مني فكذبوني وسفهوني { انصرني } بإهلاكهم وتعذيبهم { بما كذبون } [المؤمنون: 26] أي: بدل تكذيبهم إياي وسببه.

{ فأوحينآ إليه } أنجازا لما أوعدنا إياهم من العذاب والهلاك بعد تكذيبهم رسلونا وما جاء به من عندنا من الإيمان والتوحيد { أن اصنع الفلك } أي: أعمال السفينة، ولا تخف عن فساها بعدم تعلمك من أحد بل اصنعها { بأعيننا } أي: يحفظنا إياك نحفظك عن عروض الخطأ والفساد في صنعها { ووحينا } أي: بأمرنا وتعليمنا لك كيفية صنعها، ولا تبال بتسفيههم واستهزائهم معك ونسيتك إلى الخبط والجنون وأنواع الأذيات { فإذا جآء أمرنا } الوجوبي المتعلق بإغراقهم واستئصالهم { وفار التنور } المعين المعهود، فدلق ونبع الماء منه نبعة { فاسلك } وأدخل على الفور فيها { فيها } أي: في السفينة { من كل زوجين اثنين } أي: من نوع الحيوانات اثنين ذكرا وانثى؛ إبقاء لجميع الأنواع في العالم { و } اسلك أيضا { أهلك } ومن ينتمي إليك قرابة ودينا { إلا من سبق عليه القول } والحكم منا في لوح قضائنا بأنه من الهالكين { منهم } أي: من أهلك، أي: أدخل جميع أهلك سوى من مضى قضاؤنا بغرقه وإهلاكه وهو ابنه كنعان { و } بعدما سبق قضاؤنا لإهلاك من كفر من أهلك { لا تخاطبني } يا نوح، ولا تدع إلي في حق من سبق الحكم مني بغرقه ولا تسع { في } خلاص القوم { الذين ظلموا } على أنفسهم بالعرض على عذابنا { إنهم مغرقون } [المؤمنون: 27] معدودون من عدد الغرقى الهلكى، ولا أثر لدعائك لهم بعدما صار الأمر منا مقضيا والحكم مبرما.

[23.28-35]

{ فإذا استويت أنت } يا نوح، وتمكنت { ومن معك } من المؤمنين { على الفلك } وصرتم متمكنين متعززين عليها { فقل } شكرا لما أنعمنا عليك من إنجاز النصرة المعهودة الموعودة وإهلاك الله وغير ذلك من النعم العظام: { الحمد لله الذي نجانا } من كمال جوده وسعة رحمته { من القوم الظالمين } [المؤمنون: 28] الخارجين عن مقتضى العقل والشرع عتوا وعنادا.

{ وقل } أيضا بعدما مكنت على سفينة النجاة: { رب أنزلني } بفضلظ ولطفك { منزلا مباركا } كثير الخير والبركة { وأنت } من كمال جودك { خير المنزلين } [المؤمنون: 29] لو فرض منزل غيرك مع أنه لا منزل سواك، ولا وجود لغيرك؛ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

{ إن في ذلك } المذكور من قصة نوح مع قومه ونجاته وإهلاكهم، و تعليم صنع السفينة عليه، وإخراج الماء من التنور المعهود، وإحاطته على وجه الأرض كلها، ونجاة من كان في سفينته وغير ذلك من الأمور البديعة { لآيات } دلائل واضحات على كمال قدرتنا وإرادتنا واختبارنا في عموم أفعالنا على المعتبرين المتأملين في بدائع الأمور وغرائبه، الناظرين بعيون العبرة والاستبصار في حدوث هذه الوقائع الهائلة { وإن كنا لمبتلين } [المؤمنون: 30] أي: أن الشأن والأمر أنا بإحداث هذه الحوادث مع قوم نوح لمختبرون مجربون عموم عبادنا؛ لننظر من يعتبر ويتعظ بها منهم، وما هي إلا تذكرة وتذكير منا إياهم.

{ ثم } بعد إهلاك قوم نوح وإغراقهم { أنشأنا } وأظهرنا من ذرية من في سفينة نوح عليه السلام { من بعدهم } من بعد نوح، ومن معه في السفينة { قرنا آخرين } [المؤمنون: 31] هم عاد وثمود فانحرفوا أيضا عن جادة التوحيد.

{ فأرسلنا فيهم رسولا } ناشئا { منهم } ابتلاء لهم واختبارا لمن اعتبر منهم، فقال على مقتضى وحينا وإلهامنا إياه: { أن اعبدوا الله } الواحد الأحد، المستقل بالألوهية والوجود، واعلموا أنه { ما لكم من إله } يعبد له ويرجع إليه { غيره أ } تتخذون إلها غيره وتعبدون له ظلما وزورا، وتتضرعون نحوه في الوقائع والخطوب { فلا تتقون } [المؤمنون: 32] عن غضبه، ولا تخافون عن قهره وانتقامه.

{ و } بعدما بلغهم الرسول الموحي به { قال الملأ } أي: الأشراف { من } قومه عتوا واستكبارا لضعفاء العوام، وهم { قومه الذين كفروا } بالله باتخاذ الأصنام آلهة وأنكروا وحدة الإله { وكذبوا بلقآء الآخرة } ويوم الجزاء وجميع المواعيد الموعودة فيها { و } مع كفرهم وشركهم، وإنكارهم بالنشأة الأخرى { أترفناهم } بوفور نعمنا إياهم { في الحياة الدنيا } إمهالا لهم: { ما هذا } المدعي الكاذب { إلا بشر مثلكم } لا مزية له عليكم { يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون } [المؤمنون: 33].

Shafi da ba'a sani ba