362

{ و } بعدما جمعوا واجتمعوا في المحشر جميعا { عرضوا على ربك } يا أكمل الرسل عرض العسكر على السلطان الصوري { صفا } صافين مصففين على الاستواء؛ بحيث لا يحجب أحد أحدا، بل كل واحد في مرأى منه سبحانه بلا سترة وحجاب، ثم يقال لهم من قبل الحق على سبيل الاستيلاء والسطوة، وإظهار الهيبة والسلطنة القاهرة الغالبة: { لقد جئتمونا } اليوم حفاة عراة { كما خلقناكم أول مرة } كذلك؛ أي: في بدء وجودكم وظهوركم { بل } كنتم { زعمتم } وظننتم فيما مضى من شدة بطركم وغفلتكم { ألن نجعل لكم موعدا } [الكهف: 48] أي: لن نقدر على أنجاز ما وعدناكم بألسنة رسلنا من البعث والحشر والعرض والجزاء، بل كذبتم الرسل وأنكرتم الوعد والموعود جميعا، فالآن ظهر الحق الذي كنتم تمترون فيه.

{ و } بعدما عرضوا صافين على الوجه المذكور { وضع الكتاب } المشتمل على تفاصيل أعمالهم وجميع أحوالهم وأطوارهم، من بدء فطرتهم إلى انقراضهم من النشأة الاولى والمعدة لكسب الزاد للنشأة الأخرى بين يدي الله على رءوس الملأ { فترى } أيها الرائي { المجرمين } حينئذ { مشفقين } خائفين مرعوبين { مما فيه } أي: في الكتاب قبل القراءة عليهم { و } بعدما قرئ عليهم، وسمعوا جميع ما صدر عنهم كائنة مكتوبة فيه على التفصيل بلا فوت شيء { ويقولون } متحسرين متمنين الموت، مناجين في نفوسهم، منادين: { يويلتنا } وهلكتنا أدركينا فهذا وقت حلولك ونزولك { مال هذا الكتاب } العجيب الشأن الجامع لجميع فضائحنا وقبائحنا؛ بحيث { لا يغادر } ولا يترك فضيحة { صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها } فصلها وعددها بلا فوت خصلة منها.

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: الصغيرة: التبسم، والكبيرة: القهقهة.

{ و } بالجملة: { وجدوا ما عملوا } من الخير والشر والذميمة والحميدة { حاضرا } ثابتا مكتوبا بلا نقصان منها ولا زيادة عليها، وكيف لا يكون كذلك؛ إذ { ولا يظلم ربك } يا أكمل الرسل { أحدا } [الكهف: 49] من عباده لا بالزيادة ولا بالنقصان ولو قدر نقير.

ثم لما كان منشأ جميع الشرور والغرور، وأنواع الفتن والغفلات، وأصناف الشكوك والكفر والضلالات إبليس. عليه اللعنة. كرر سبحانه قصة استكباره واستنكاره مرارا تذكيرا للمتعظين وتنبيها على الغافلين المغرورين؛ ليكونوا على ذكر منه. بضم فسكون، أي: تذكر وتفكر. من غوائله وتسويلاته؛ ليتمكن لهم الحذر عن وساوس أعوانه وأنصاره التي هي جنود الأوهام والخيالات الباطلة والأماني الكاذبة الناشئة من صولة الأمارة المستولية على القوى الروحانية.

فقال: { وإذ قلنا للملائكة } أي: اذكر لهم وقت قولنا للملائكة المعترضين لنا على اصطفائنا آدم للخلافة والنيابة بعد إفحامنا، والزامنا إياهم بما ألزمناهم { اسجدوا } أي: تواضعوا وتذللوا على وجه الخضوع والانكسار { لأدم } النائب المستخلف عنا بعدما ظهر عنكم، وعليكم فضله وشرفه واستحقاقه لأمر الخلافة { فسجدوا } بعدما سمعوا متذليين امتثالا للأمر الوجوبي { إلا إبليس } منهم أبى، ولم يسجد له معللا بأنواع العلل والجدالات الباطلة الناشئة من خباثة فطرته على ماسمعت غير مرة.

وإنما امتننع؛ لأنه { كان من الجن } في أصل خلقته، فلحق بالملائكة لحكمة ومصلحة { ففسق عن أمر ربه } على مقتضى خلقته الأصلية { أفتتخذونه } أيها المغرورون بتغريره، والمأملون إلى تلبيسه وتزويره بعدما صدرت عنه هذه العداوة الظاهرة { وذريته } المختلطة معكم المرتكزة في نفوسكم، وقواكم اللاتي هي أعدى أعدائكم { أوليآء من دوني } بحيث نفوضون أموركم إليها؛ ليوالوها لكم { وهم } أصلهم وفرعهم { لكم عدو } قديم مستمر { بئس } الشيطان وذريته، وولايتهما { للظالمين } الخارجين عن مقتضى أوامرنا ونواهينا { بدلا } [الكهف: 50] عنا وعن ولايتنا إياهم.

وعن يحيى بن معاذ رضي الله عنه: لا يكون من أولياء الله، ولا يبلغ مقام الولاية من نظر إلى شيء دونه واعتمد على سواه، ولم يميز بين معاديه ومواليه، ولم يعلم حال إقباله من حال إدباره. انتهى.

فكيف تتخذون أيها الحمقى المسرفون إبليس وذريته أولياء من دوني مع أني { مآ أشهدتهم } وأحضرتهم إبليس وجنوده { خلق السموت والأرض } أي: وقت خلقهما وإيجادهام؛ ليعاونوا ويظاهروا علي حتى تتخذونهمه أولياء غيري، شركاء معي في استحقاق العبادة { ولا خلق أنفسهم } أيضا؛ أي: لا أحضر بعضهم عند خلق بعض منهم.

{ و } بالجملة: أنا أستقل بالخلق والإيجاد بل في الوجود أيضا؛ لذلك { ما كنت } في خلق الأشياء وإيجادها محتاجا إلى المعين والظهير أصلا، فيكف { متخذ المضلين } الضالين عن ساحة عز الحضور { عضدا } [الكهف: 51] أعوانا وأنصارا أعتضد وأنتصر بهم حتى تشاركونهم بي في استحقاق العبادة والإطاعة والانقياد بل ترجحونهم علي بالولاية والمحبة.

Shafi da ba'a sani ba