وهم { الذين تتوفاهم الملائكة } الموكلون عليهم حين معارضتهم بالقرآن وتكذيبهم إياه وبمن أنزل إليه، مع كونهم { ظالمي أنفسهم } ومعارضيها على العذاب الأبدي، ثم لما عيانوا في النشأة الآخرة بحقيته وصدقه، ومطابقته للواقع { فألقوا السلم } أي: الانقياد والتسليم، مبرئين نفوسهم عن التكمذيب والإساءة مع القرآن، قائلين: { ما كنا } في النشأة الأولى { نعمل من سوء } أي: ما نريد ونعتقد الإساءة في حقه، فيقول الملائكة لهم على سبيل التهكم: { بلى } أنتم لا تسيئون الأدب مع الرسول والقرآن { إن الله } المطلع بجميع ما كان ويكون { عليم بما كنتم تعملون } [النحل: 28] من الرد والإكار والتكذيب، فيجازيكم على مقتضى علمهز
ثم قيل لهم زجرا وقهرا: { فادخلوا } أيها المشركون المستكبرون، المعاندون مع الله ورسوله { أبواب جهنم } كل فرقة منكم من باب منها، على تفاوت طبقاتكم في موجباتها، وادخلوا أنواع عذابها ونكالها، حال كونكم { خالدين فيها } مخلدين مؤيدين { فلبئس مثوى المتكبرين } [النحل: 29] جنهم البعد والخذلان التي هي منزل الطرد والحرمان.
{ وقيل للذين اتقوا } عن محارم الله، وحفظوا نفوسهم عن العرض على المهالك الموجبة لسخط الله وعضبه: { ماذا أنزل ربكم } على نبيكم لتربية دينكم، وتصفية مشربكم عن أكدار التقليدات والتخمينات { قالوا } أنزل { خيرا } محضا في النشأة الأولى والأخرى، أما في الأولى: { للذين أحسنوا في هذه الدنيا } وعملوا الصالحات المقربة إلى الله { حسنة } كاملة من العلوم والمعارف المثمرة للمكاشفات والمشاهدات { و } أما في الآخرة: فا { لدار الآخرة } المعدة للفوز بشرف اللقاء، والوصول إلى سدرة المنتهى { خير } من جميع الكاملات الأقصى، والدرجات العليا { ولنعم دار المتقين } [النحل: 30] المتحفظين نفوسهم عن الالتفات إلى ما سوى الحق.
دار الآخرة التي هي { جنات عدن } مصونة عن أمارات الكثرة المشعرة للاثنينية { يدخلونها } مجردة عن جلباب التعينات العدمية { تجري من تحتها الأنهار } المنتشئة عن التجليات المترتبة على الأوصاف الذاتية الإلهية { لهم فيها ما يشآؤون } من مقتضيات الأوصاف اللطفية الحبية الجمالية { كذلك يجزي الله المتقين } [النحل: 31] المائلين عن غير الله مطلقا، الباذلين مهجهم في سبيله طوعا المنخلعين عن مقتضيات أوصاف بشريتهم إرادة واختيارا، الصابرين على ما جرى عليهم من القضاء تسليما ورضا.
وهم { الذين تتوفاهم الملائكة } الموكلون عليهم في نشأتهم، حال كونهم { طيبين } طاهرين عن خبائث الإمكان، ورذائل الخذلان والخسران، الناشئة من ظلمات الطبائع والأركان { يقولون } أي: الملائكة المأمورين لقبض أرواحهم عند قبضها: { سلام عليكم } أيها الصابرون في البلوى، السائرون إلى المولى { ادخلوا الجنة } التي هي خير المنقلب والمثوى، وفوزوا بشرف اللقيا { بما كنتم تعملون } [النحل: 32] في النشأة الأولى من الإعراض عن مقتضيات الهوى، ومن الرضا بالقضاء، ومن الصبر على العناء، والشوق إلى الفناء.
ثم قال سبحانه توبيخا وتقريعا على المشركين: { هل ينظرون } أي: ما ينتظرون أولئك التائهون في تيه الغفلة والغرور { إلا أن تأتيهم الملائكة } المأمورون لقبض أرواحهم الخبيثة { أو يأتي أمر ربك } يا أكمل الرسل؛ أي: يوم القيامة المعدة لتعذيبهم وانتقامهم { كذلك } أي: مثل إمهال هؤلاء الهالكين وإهمالهم في أمر الإيمان { فعل الذين } مضوا { من قبلهم } في زمن الأنبياء الماضين { و } بالجملة: { ما ظلمهم الله } المجازي لهم على مقتضى إساءتهم { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } [النحل: 33] أي: يظلمون هم أنفسهم بعرضها على المهالك الموجبة أنواع العذاب والعقاب من تذكيب الرسل، وإنكار الكتب، وترك المأمورات، وإرتكاب المنهيات.
[16.34-39]
{ فأصابهم سيئات ما عملوا } عتوا وعنادا { وحاق } وأحاط { بهم } جزاء { ما كانوا به يستهزئون } [النحل: 34] استكبارا واستنكارا.
{ وقال الذين أشركوا } من غاية انهماكهم في الغي والضلال، وشدة إنكارهم وشكيمتهم، متهكمين على وجه الاحتجاج: { لو شآء الله } الواحد الأحد، المستقل في الأفعال بالإرادة والاختيار، على زعمكم عدم عبادتنا لآلهتنا وأصنامنا { ما عبدنا } ألبتة { من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا } إذ مراده مقضي حتما { و } أيضا { لا حرمنا } نحن ولا آباؤنا من البحائر وغيرها { من دونه } أي: بدون إذنه وإرادته ومشيئته { من شيء } إذ لا يعارض فعله هذا صورة احتجاجهم واستدلالهم.
{ كذلك } أي: مثل استدلال هؤلاء الطغاة الغواة، الهالكين في تيه الغفلة والعناد { فعل الذين } خلوا { من قبلهم } فأرسل عليهم رسلا، فكذبوهم وأنكروا عليهم، فأخذهم الله بذنوبهم، فأهكلهم بأنواع العذاب والعقاب؛ لأن إرادة الله لم تتعلق بإيمانهم وهدايتهم { فهل على الرسل } أي: ما على الرسل { إلا البلاغ } أي: تبليغ ما أرسلوا به { المبين } [النحل: 35] أي: على وجه التوضيح والتبيين؛ لئلا يبقى لهم شك وتردد في سماعه، وأما قبولهم وانصافهم بها وهدايتهم، فأمر استأثروا الله به، ليس لهم أن يخوضوا فيه؛ لأنه خارج عن وسعهم وطاقتهم.
Shafi da ba'a sani ba