306

ثم قال سبحانه امتنانا لعباده بتهيئة أسباب معاشهم: { ولقد جعلنا } وقدرنا { في السماء بروجا } اثني عشر تدور وتتبدل فيها الشمس في كل سنة شتاء وصيفا، ربيعا وخريفا، والقمر في كل شهر تتميما لأسباب معاشكم، وتنضيجا لأقواتكم وأثماركم { وزيناها } أي: حسنا نظمها وترتيبها، وهيئاتها وأشكالها { للناظرين } [الحجر: 16] المتأملين في كيفية حركاها ودوراتها وانقلاباتها؛ ليستدلوا بها على قدرة مبدعهخا، ومتانة أمر صانعها ومخترعها إلى أن ينكشفوا بوحدة المظهر ورجوع الكل إليه.

{ و } مع ذلك { حفظناها من } اطلاع { كل شيطان رجيم } [الحجر: 17] على ما فيها من السرائر والحكم المودعة.

{ إلا من استرق } واختلس من الشياطين { السمع } والاستطلاع من سكان السماوات، وتكلف في الصعود والرقي نحوها { فأتبعه } من كمال قهر الله إياه { شهاب } جذوة نار على مثال كوكب { مبين } [الحجر: 18] ظاهر عند أولي الأبصار زجرا له، ومنعا عن الاستطلاع بالسرائر.

{ والأرض } أيضا { مددناها } أي: مهدناها وبسطناها { وألقينا فيها رواسي } شامخات لتقررها وتثبيتها؛ ولتكون مقرا للمياه والعيون، ومعدنا للجواهر { وأنبتنا فيها من كل شيء موزون } [الحجر: 19] مطبوع ملائم، تستحسنها الطباع وتستلذ به.

{ و } إنما { جعلنا } وخلقنا كل ذلك؛ أي: العلويات والسلفليات؛ ليحصل { لكم فيها معايش } تعيشون بها، وتقومون مزاجكم منها؛ لتتمكنوا وتقدروا على سلوك طريق التوحيد والعرفان الذي هو سبب إيجادكم، والباعث على إظهاركم؛ إذ ما خلقتم وجبلتم إلا لأجله { و } كذا معايش { من لستم له برازقين } [الحجر: 20] من أخلاقكم وأولادكم، وإن كنتم تظنون أنكم رازقون لهم ظنا كاذبا، بل رزقكم وزقهم ورزق جميع من في حيطة الوجود علينا.

{ و } كيف لا يكون رزق الكل علينا { إن من شيء } أي: ما من رطب ولا يابس مما يطلق عليه اسم الشيء { إلا عندنا } أي: في حيطة قدرتنا ومشيئتنا { خزائنه } أي: مخزننات كل شيء عندنا لا ينتهي قدرتنا دون مقدور، بل لنا القدرة الكاملة بإيجاد الخزائن من كل شيء { و } لكن اقتضت حكتمنا أنا { ما ننزله } ونظهره { إلا بقدر معلوم } [الحجر: 21] عندنا، وفي حيطة علمنا، وأجل مقدر لدينا لا اطلاع لأحد عليه؟!.

{ و } من بدائع حكمتنا، وعجائب صنعتنا { أرسلنا } من مقام فضلنا وجودنا { الرياح } الهابة ي فصل الربيع { لواقح } أي: ملقحات تجعل الأشجار حوامل بالأثمار { فأنزلنا } بعد صيرورتها حوامل { من } جانب { السمآء ماء } لتربيتها وتنميتها { فأسقيناكموه } أي: وقت الصلاح والحصاد { ومآ أنتم له } أي: للماء { بخازنين } [الحجر: 22] حافظين؛ أي: ليس في وسعكم وطاقتكم حفظه في الحياض والغدائر، كذا إلقاح الأشجار وإنباتها وسقيها وإصلاحها، وجميع ما يحتاج إليها؛ إذ ليس عندكم خزائن كل شيء.

{ و } أيضا من غرائب مبدعاتنا { إنا لنحن نحيي } ونظهر على مقتضى أوصافنا اللطيفة البسيطة { ونميت } ونعدم على مقتضى أوصافنا القهرية القبضية { ونحن الوارثون } [الحجر: 23] الباقون بعد انتهاء المظاهر وفنائها بعد الطامة الكبرى.

{ و } من كمال علمنا وخبرتنا أنا { لقد علمنا المستقدمين } المتقدمين في الوجود { منكم } أي: من أسلافكم، بل من شئونكم ونشأتكم التي في أصلابل آباءكم وأرحام أمهاتكم، بل استعداداتكم في ذرائر العناصر، بل حصصكم من الروح الأعظم { ولقد علمنا المستأخرين } [الحجر: 24] المتأخيرين منكم في الوجود على الوجه المذكور.

{ و } بالجملة: { إن ربك } يا أكمل الرسل { هو } المطلع بسرائر الماضي والحال المستقبل { يحشرهم } في المحشر وموعد القيامة، والحساب والجزاء، وكيف لا { إنه } في اذته وأوصافه وأفعاله { حكيم } متقن الفعل، متين الصنع { عليم } [الحجر: 25] لا يعزب عن حيطة حضرة علمه شيء؟!.

Shafi da ba'a sani ba