294

{ الذين آمنوا } في أوائل سلوكهم وطلبهم { وعملوا الصالحات } المقربة لهم إلى مطلوبهم { طوبى لهم } الفوز بالفلاح والنجاح { وحسن مآب } [الرعد: 29] وهو التحقق بمقام الكشف والشهود.

{ كذلك } أي: مثل إرسالنا الرسل على الأمم الماضية على مقتضى سنتنا القديمة { أرسلناك } يا أكمل الرسل { في أمة } منحرفة عن طريق الحق، وليس إرسالك عليهم ببدع { قد خلت } ومضت { من قبلهآ أمم } أمثالهم مائلون عن طريق الحق وسواء السبيل، وإنما أرسلناك { لتتلوا عليهم } وتبلغهم { الذي أوحينآ إليك } من المعارف والحقائق والآداب والأخلاق المرضية المقبولة في جنابنا، المودعة في استعدادات عبادنا؛ ليفوزوا بها سعة رحمتنا وجودنا { وهم } لانهماكهم في الغفلات والشهوات { يكفرون } وينكرون { بالرحمن } الذي وسع كل شيء رحمة وعلما { قل } يا أكمل الرسل للمنكرين الغافلين تنبيها عليهم وتبليغا، وإن كانوا من الحمقى الهالكين في تيه الغفلة والنسيان { هو ربي } وربكم ومولى أمري وأموركم { لا إله } في الوجود يعبد له ويرجع إليه في الوقائع { إلا هو } الواحد الأحد، الصمد الفرد، الذي لا شريك له { عليه } لا على غيره من الأظلال { توكلت } في جميع أموري { وإليه } لا إلى غيره من الأسباب والوسائق { متاب } [الرعد: 30] أي: مرجعي ومعادي.

{ و } بالجملة: { لو أن قرآنا } بمثابة لو قرأت { سيرت } وتحركت { به الجبال } عن مكانها الأصلي وأندكت { أو قطعت } أي: انصدعت وانشقت { به الأرض أو كلم به الموتى } عند قراءته عليهم واستماعهم له { بل لله الأمر } أي: القدرة الكاملة والحول التام والقوة الغالبة في الأمور المذكورة { جميعا } له سبحانه، إن تعلق إرادته ومشيئته لكان ألبتة مع ذكر ما ذكر من الأمور، لم يؤمنوا به ولم يقلبوه منك؛ لشدة شكيمتهم وكمال قسوتههم { أفلم ييأس } ولم يقنط { الذين آمنوا } عن إيمان أولئك المدبرين المعاندين، مع ظهور أمارات الكفر عليهم وعلامات الإكار عنهم، سيما بعدما سمعوا في حقهم من الله ما سمعوا، ولم يعلم هؤلاء المؤمنون { أن لو يشآء الله } وتعلق إرادته بهداية الكل { لهدى الناس جميعا } فلم يهدهم لعدم تعلق إرادته بهدايته البعض { و } لا تقنطوا أيها المؤمنون عن نصر الله إياكم على أعدائكم ولا تيأسوا عن روحه؛ إذ { لا يزال الذين كفروا } وأصروا على الكفر عنادا واستكبارا { تصيبهم } وتدور عليهم { بما صنعوا } أي: بصنيهم هذا وإصرارهم عليه { قارعة } داهية هائلة تقرع أسماعهم، وتضطربهم اضطرابا شديدا { أو تحل } وتنزل الداهية العظيمة في أحوالهم { قريبا من دارهم } ومساكنهم لتدور عليهم { حتى يأتي وعد الله } الذي وعده لنبيه بأن ينتقم عنهم ويعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالفتح والظفر عليهم، وفي الآخرة بأنواع العقاب والنكال { إن الله } المؤيد لأنبيائه، المنجز لما وعدهم من إهلاك أعدائهم { لا يخلف الميعاد } [الرعد: 31].

[13.32-35]

ثم لا تحزن يا أكمل الرسل من استهزائهم وسخريتهم معك، ولا تبال بعمههم وسكرتهم وبطرهم واستهتارهم بمالهم وجاههم { و } الله { لقد استهزئ برسل من قبلك } أشد من اسهتزاء هؤلاء معك { فأمليت } وأملهت { للذين كفروا } أي: المستهزئين الذين كفروا حتى انهمكوا في الغفلة وتوغلوا فيها بطرين فرحين { ثم أخذتهم } فجأة واستأصلتهم بغتة { فكيف كان عقاب } [الرعد: 32] مع أولئك؟ ومع هؤلاء أشد من ذلك.

ثم قال سبحانه: { أ } ينسى الحساب وتيرك العقاب { فمن هو قآئم } أي: مطلع محاسب ورقيب حافظ { على كل نفس } من النفوس الخيرة والشريرة ليحيط { بما كسبت } إن خيرا فخير وإن شرا فشر { و } لا سيما الشر الذب { جعلوا لله } الأحد المنزه عن الشريك والولد { شركآء } فوق واحدة من أظلاله ومصنوعاته، مع أنه سبحانه تعالى عن ذلك علوا كبيرا { قل } لهم تبكيتا عليهم وإلزاما لهم: { سموهم } أي: تلك الشركاء باسماء، وصفوهم بصفات يستحقون بها الألوهية والربوبية { أم تنبئونه } وتخبرونه { بما لا يعلم في الأرض } أي: بأسماء وصفات لا يعلمها في الأرض، بل لا يعلمها في السماء { أم } سموهم { بظاهر من القول } مجازا بلا اعتبار المعنى الحقيقي فيهم، وبالجملة: هم عاجزون عن الكل ساكتون عنها { بل } إنما { زين } وحسن { للذين كفروا } وأشركوا { مكرهم } أي: تمويههم وتلبيسهم مع علمهم ببطلانها { و } مع ذلك { صدوا عن السبيل } أي: قصدوا إعراض ضعفاء المؤمنين عن طريق الحق، ما هو إلا من غيهم وضلالهم في أصل فطرتهم { ومن يضلل الله } وأراد إضلاله { فما له من هاد } [الرعد: 33] يهديهم ويوفقهم إلى سبيل الرشاد.

بل { لهم عذاب في الحياة الدنيا } بغفلتهم عن معرفة الله واللذات الروحانية مع عدم شعورهم بها { و } الله { لعذاب الآخرة } حين انكشف الحال وارتفع الحجب { أشق } وأصعب { و } كيف لا يكون عذاب الآخرة أشق؛ إذ { ما لهم } فيها { من الله } أي: عذابه وانتقامه { من واق } [الرعد: 34] أي: حافظ شفيع يشفعهم ليخفف عنهم ويحفظهم من عذابه.

ثم قال سبحانه على مقتضى سنته من تعقيب الوعيد بالوعد: { مثل الجنة التي وعد المتقون } المتحفظون نفوسهم عن ارتكاب المعاصي والآثام، المتمثلون بما أمروا من العقائد والأحكام { تجري من تحتها الأنهار } لإجرائهم أ،هار المعارف والحقائق على أراضي استعداداتهم؛ لإنبات ثمرات الكشوف والشهود { أكلها } من الرزق المعنوي والأغذية الروحانية { دآئم } غير منقطع { و } كذا { ظلها } الذي تستريحون فيه دائم غير زائل، لا انقطاع لها أصلا كأظلال الدنيا { تلك } الجنة التي وصفت بما وصفت { عقبى الذين اتقوا } أي: عاقبة أمر المؤمنين الذين اتقوا عن محارم الله { وعقبى الكافرين } المصرين على ارتكاب الم عاصي والشهوات البهيمية { النار } [الرعد: 35] المعدة لهم بدل لذاتهم وشهواتهم السيئة.

[13.36-39]

ثم قال سبحانه: { والذين آتيناهم الكتاب } وابتعناهم النبي، المبين لهم ما فيه من الأوامر والنواهي { يفرحون بمآ أنزل إليك } أي: في كتابهم الجامع لما في كتبهم؛ لأنهم يجدونه موافقا مطابقا لكتبهم { ومن الأحزاب } من هؤلاء المتحزبين في أمر القرآن { من ينكر بعضه } أ ي: الآيات الناسخة لبعضها أحكام كتبهم، قل لهم: إنما نسخ ما نسخ من الأحكام الجزئية على مقتضى سنة الله في نسخ بعض الأحكام الجزئية الثابتة في الكتب السابقة بأحكام الكتب اللاحقة، وليس هذا ببدع، وأما العقائد الكلية المصونة عن طريان النسخ والتبديل، فيهي المتفق عليها بين جماهير الأنبياء؛ لذلك { قل إنمآ أمرت أن أعبد الله } الواحد الأحد، الصمد، الحقيق بالحقية، المستقل في الألوهية والربوبية { ولا أشرك به } من أظلاله ومصنوعاته وبمقتضى أمره { إليه } لا إ لى غيره من الأظلال الهالكة في إشراق شمس ذاته { أدعو } دعاء مؤمل متضرع خاشع خاضع { و } كيف لا أدعو؛ إذ { إليه مآب } [الرعد: 36] أ ي: منقلبي ومرجعي، رجوع الظل إلى ذي الظل.

Shafi da ba'a sani ba